قوله:
﴿ياحسرة﴾ : العامَّةُ على نصبِها. وفيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والمنادى محذوفٌ تقديره: يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً. والثاني: أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله:
٣٧٨٢ - أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ | نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا |
ومعنى النداءِ هنا على المجازِ، كأنه قيل: هذا أوانُكِ فاحْضُرِي. وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه
«يا حَسْرَةٌ» بالضم، جعلها مُقْبِلاً عليها، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين
﴿ياحسرة العباد﴾ بالإِضافة. فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي: يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي: يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم. وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز. وابن جندب
«يا حَسْرَهْ» بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ. وقال صاحب «
259
اللوامح» :
«وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه، ثم وصلوا على تلك الحال». وقرأ ابن عباس أيضاً
«يا حَسْرَةَ» بفتح التاء من غير تنوين. ووجْهُها أنَّ الأصل: يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء. ومنه:
٣٧٨٣ - ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي | بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني |
أي: بلهفا بمعنى لَهْفي.
وقُرئ
«يا حَسْرتا» بالألف كالتي في الزمر، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس، وتكون التاءُ لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ. وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك.
قوله:
«ما يَأْتِيْهم» هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم.
قوله:
«إلاَّ كانوا» جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ
«يَأْتيهم».
260
قوله:
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ :
«كم» هنا خبرِيةٌ فهي مفعولٌ ب
«أَهْلكنا» تقديرُه: كثيراً من القرونِ أهلَكْنا. وهي معلِّقَةٌ ل
«يَرَوْا» ذهاباً بالخبريَّة مذهبَ الاستفهاميةِ. وقيل: بل
«يَرَوْا» عِلْمية، و
«كم» استفهاميةٌ كما سيأتي بيانُه.
و
﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ
«كم» قال
260
ابن عطية:
«وكم هنا خبريةٌ، و» أنهم
«بدلٌ منها، والرؤيةُ بَصَرية». قال الشيخ:
«وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب» أهلَكْنا
«. ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك. وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنَّهم
«بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ. ولو سُلِّطت أَهْلكنا على» أنهم
«لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون، لم يكن كلاماً. لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ» يَرَوْا
«مفعولُه» كم
«فتوَهَّم أنَّ قوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول: ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون. وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية». قلت: وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول:
«كم» قد جعلها خبريةً، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ، فيقولون:
«ملكتُ كم عبدٍ» فلم يَلْزَمْ الصدرَ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل
«كم» منصوبةً ب
«يَرَوْا» و
«أنهم» بدلٌ منها، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ.
الثاني: أنَّ
«أنَّهم» بدلٌ من الجملةِ قبلَه. قال الزجاج:
«هو بدلٌ من الجملة، والمعنى: ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى». قال الشيخ:
«وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو». قلت: بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ
«يَرَوْا» فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.
261
الثالث: قال الزمخشري:
«ألم يَرَوْا» ألم يعلموا، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في
«كم» لأنَّ
«كم» لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك:
«ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» وإنْ لم يعملْ في لفظِه، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون: بدلٌ مِنْ
«كم أهلَكْنا» على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه: ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم
«.
قال الشيخ: «قولُه لأنَّ» كم
«لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ» ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو:
«على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟». وقوله:
«أو للخبر» والخبرية فيها لغتان: الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون:
«ملكتُ كم غلامٍ» أي: ملكتُ كثيراً من الغِلْمان. فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على
«كم» لأنها بمعناها. وقوله:
«لأنها أصلها الاستفهامُ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ» بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر. وقوله:
«لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة» يعني معنى
«يَرَوا» نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ
«يَرَوْا» ب يعلموا.
وقوله:
«كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ
«إنَّ» فإنَّ
«إنَّ» التي في
262
خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ. وقوله:
«إنهم إليهم» إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى. أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ
«يَرَوْا» معلَّقَةٌ فتكون
«كم» استفهاميةً فهي معمولةٌ ل
«أهلكنا»، و
«أهلكنا» لا يَتَسَلَّط على
﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾. وقد تقدَّم لنا ذلك. وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال: تقديره: أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل. وهذا لا يَصِحُّ هنا. لا تقول: ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم، وفي بدلِ الاشتمال نحو:
«أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه» يصحُّ:
«أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ، وسُرِق ثوبُ زيد».
الرابع: أَنْ يكونَ
«أنهم» بدلاً مِنْ موضع
«كم أهلَكْنا»، والتقدير: ألم يَرَوْا أنهم إليهم. قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ
«كم أهلَكْنا»، ليس بمعمولٍ ل
«يَرَوْا».
قلت: قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها.
الخامس: - وهو قولُ الفراء - أن يكون
«يَرَوْا» عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ. وقوله
«الجملتين» تجوُّزٌ؛ لأنَّ
«أنهم» ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه.
السادس: أنَّ
«أنهم» معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى،
263
تقديره: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون. ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن
«إنهم» بكسر الهمزةِ على الاستئناف، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها. والضميرُ في
«أنهم» عائدٌ على معنى
«كم» وفي
«إليهم» عائدٌ على ما عاد عليه واو
«يَرَوْا». وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو
«يَرَوْا». والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.
264
قوله:
﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ : قد تقدم في هود تشديدُ
«لَمَّا» وتخفيفُها وما قيل في ذلك. وقال الفخر الرازي في مناسبة وقوعِ
«لَمَّا» المشدَّدةِ موقعَ إلاَّ:
«إنَّ» لَمَّا
«كأنها حرفا نفي، وهما لم وما، فتأكَّد النفيُ، و» إلاَّ
«كأنَّها حرفا نفي: إنْ ولا فاستعمل أحدُهما مكانَ الآخر». انتهى. وهذا يجوزُ أَنْ يكونَ أَخَذه من قول الفراءِ في
«إلاَّ» في الاستثناء: إنها مركبةٌ من إنْ ولا. إلاَّ أنَّ الفراءَ جَعَلَ
«إنْ» مخففةً من الثقيلة، وجعلها نافيةٌ، وهو قولٌ ركيكٌ رَدَّه عليه النحويون. وقال الفراء أيضاً: إن
«لَمَّا» هذه أصلُها: لَمِمَّا فخُفِّفَ بالحذفِ. وهذا كلُّه قد تقدَّم موضَّحاً. وقوله:
«كلٌّ» مبتدأ و
«جميعٌ» خبرُه. و
«مُحْضَرون» خبرٌ ثانٍ لا يختلف ذلك سواءً شَدَّدْتَ
«لَمَّا» أم خفَّفْتها. لا يُقال: إنَّ جميعاً تأكيد لا خبرٌ، لأنَّ جميعاً هنا فَعيل بمعنى/
264
مَفعول أي: مجموعون ف
«كل» تدلُّ على الإِحاطةِ والشمول، و
«جميع» تَدُلُّ على الاجتماع فمعناها حُمِل على لفظها في قوله:
﴿جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤] وقَدَّمَ
«جميع» في الموضعين لأجلِ الفواصلِ، و
«لَدَيْنا» متعلِّقٌ ب
«مُحْضَرون» فَمَنْ شَدَّدَ ف
«لَمَّا» بمعنَى
«إلاَّ» وَ
«إنْ» نافيةٌ كما تقدَّمَ، ومَنْ خَفَّفَ فإنْ مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ و
«ما» مزيدةٌ. هذا قولُ البصريين، والكوفيون يقولون:
«إنْ» نافيةٌ، واللامُ بعنى
«إلاَّ» كما تقدَّم غيرَ مرةٍ.
265
قوله:
﴿وَآيَةٌ﴾ : خبرٌ مقدمٌ و
«لهم» صفتُها أو متعلِّقَةٌ ب
«آية» لأنها بمعنى علامة. و
«الأرضُ» مبتدأ. وتقدَّم تخفيف الميتة وتشديدُها في أول آل عمران. ومنع الشيخُ أَنْ تكونَ
«لهم» صفةً ل
«آية» ولم يُبَيِّن وجهَه ولا وَجَّهَ له. وأعرب أبو البقاء
«آية» مبتدأً و
«لهم» الخبرُ و
«الأرضُ الميتةُ» مبتدأٌ وصفتُه، و
«أَحْييناها» خبرُه. والجملةُ مفسِّرَةٌ ل
«آية» وبهذا بدأ ثم قال: وقيل: فذكر الوجهَ الذي بدأْتُ به. وكذلك حكى مكي أعني أَنْ يكونَ
«آية» ابتداءً، و
«لهم» الخبر. وجَوَّز مكي أيضاً أن تكونَ
«آية» مبتدأً و
«الأرضُ» خبرُه. وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا تُعْزَلُ المعرفةُ من الابتداءِ بها، ويُبْتَدأ بالنكرة إلاَّ في مواضعَ للضرورةِ.
قوله:
«أَحْيَيْناها» قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ
«الأرض»، ويجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً من
«الأرض» إذا جَعَلْناها مبتدأً، و
«آية» خبرٌ مقدمٌ. وجَوَّزَ
265
الزمخشريُّ في
«أَحْيَيْناها» وفي
«نَسْلَخُ» أَنْ يكونا صفتين للأرض والليل، وإن كانا مُعَرَّفين بأل لأنه تعريفٌ بأل الجنسيةِ، فهما في قوةِ النكرة قال: كقوله:
٣٧٨٤ - ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني | ............................ |
لأنه لم يَقْصِدْ لئيماً بعينه.
وردَّه الشيخُ: بأنَّ فيه هَدْماً للقواعد: مِنْ أنه لا تُنْعَتُ المعرفةُ بنكرةٍ. قال: وقد تبعه على ذلك ابنُ مالك. ثم خَرَّج الشيخُ الجملَ على الحال أي: الأرضُ مُحْياةً والليلُ مُنْسَلِخاً منه النهارُ، واللئيمُ شاتماً لي. قلت: وقد اعتبر النحاةُ ذلك في مواضع، فاعتبروا معنى المعرَّفِ بأل الجنسيةِ دونَ لفظِه فوصفوه بالنكرة الصريحةِ نحو:
«بالرجلِ خيرٍ منك» على أحد الأوجه، وقوله:
﴿إِلاَّ الذين﴾ [العصر: ٣] بعد
﴿إِنَّ الإنسان﴾ [العصر: ٢] وقوله:
﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور: ٣١] و
«أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدرهمُ البيض». كلُ هذا رُوعي فيه المعنى دونَ اللفظ، وإن اختلف نوعُ المراعاةِ. ويجوز أن يكون
«أحييناها» استئنافاً بَيَّن به كونَها آية.
266
قوله:
﴿مِن ثَمَرِهِ﴾ : قيل: الضميرُ عائدٌ على النخيل؛ لأنه أقربُ مذكورٍ، وكان مِنْ حَقِّ الضميرِ أَنْ يُثَنَّى على هذا لتقدُّم شيئين: وهما الأعنابُ والنخيلُ، إلاَّ أنه اكتفى بذِكْرِ أحدِهما. وقيل: يعود على جنات، وعاد بلفظ المفرد ذَهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسم الإِشارةَ وهو كقولُ رُؤْبة:
٣٧٨٥ - فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ | كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ |
فقيل له. فقال: أَرَدْتُ: كأنَّ ذاك وَيْلَكَ. وقيل: عائد على الماءِ المدلول عليه ب عيون. وقيل: بل عاد عليه لأنه مقدَّرٌ أي: من العيون. ويجوزُ أَنْ يعودَ على العيون. ويُعتذر عن إفراده بما تَقَدَّم في عَوْده على جنات. ويجوزُ أَنْ يعودَ على الأعناب والنخيل معاً، ويُعتذر عنه بما تقدَّم أيضاً. وقال الزمخشري:
«وأصلُه: مِنْ ثمرنا، لقوله:» وفَجَّرْنا
«و» جَعَلْنا
«فنقل الكلامَ من التكلُّم إلى الغَيْبة على طريقة الالتفات، والمعنى: ليأكلوا مِمَّا خلقَه الَّلهُ مِن الثمر». قلت: فعلى هذا يكون الضميرُ عائداً على الله تعالى، ولذلك فَسَّر معناه
267
بما ذكر. وقد تقدَّم قراءاتٌ في هذه اللفظةِ في سورةِ الأنعام وما قيل فيها بحمد الله تعالى.
قوله:
﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ في
«ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ أي: ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تَجَوُّزٌ على هذا. والثاني: أنها نافيةٌ أي: لم يعملوه هم، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى.
وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون
«وما عَمِلَتْه» بإثباتِها. فإنْ كانَتْ
«ما» موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه:
﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] بالإِجماع. وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل. وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي: ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على
«ثَمَرِه» وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ، وبحذفِها فيما عداها. / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً، وجعفر خالَفَ مصحفَه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها.
الثالث: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة. والرابع:
268
أنها مصدريةٌ أي: ومِنْ عَمَلِ أيديهم. والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.
269
قوله:
﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ : قيل: في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديره: تجري لجَرْي مستقرٍ لها. وعلى هذا فاللامُ للعلةِ أي: لأجل جَرْيِ مستقرٍ لها. والصحيحُ أنَّه لا حَذْفَ، وأنَّ اللامَ بمعنى إلى. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ بعضهم
«إلى مُسْتقر». وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر
«لا مُستقرَّ» ب لا النافيةِ للجنسِ وبناءِ
«مستقرَّ» على الفتح، و
«لها» الخبر. وابن أبي عبلة
«لا مُسْتقرٌ» ب لا العاملةِ عملَ ليس، ف مُسْتَقرٌ اسمها، و
«لها» في محلِّ نصبٍ خبرُها كقولِه:
٣٧٨٦ - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا | ولا وَزَرٌ مِمَّا قضى اللَّهُ واقيا |
والمرادُ بذلك أنها لا تستقرُّ في الدنيا بل هي دائمةُ الجريانِ، وذلك إشارةً إلى جَرْيها المذكور.
قوله:
﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ﴾ : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله:
«والشمسُ تجري» فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ:
«زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره»، ولو لم يَقُلْ
«في داره» لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى:
﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: ٧] بعد قوله:
﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٥].
قوله:
«منازلَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ
«قَدَّرنا» بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل
«منازل» تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس.
قوله:
«كالعُرْجُون» العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ
270
الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه.
271
قوله:
﴿إِلاَّ رَحْمَةً﴾ : منصوبٌ على المفعولِ له وهو استثناءٌ مفرغٌ. وقيل: استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ وعلى إسقاط الخافضِ. أي: إلاَّ برحمةٍ. والفاءُ في قوله:
«فلا صريخَ» رابطةٌ لهذه
272
الجملةِ بما قبلها. فالضميرُ في
«لهم» عائدٌ على
«المُغرَقين». وجوَّز ابن عطية هذا ووجهاً آخرَ، وجعله أحسنَ منه: وهو أَنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مُغْرَقين، هم بهذه الحالةِ لا نجاةَ لهم إلاَّ برحمةِ اللَّهِ، وليس قولُه:
﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ مربوطاً بالمغرقين. انتهى. وليس جَعْلُه هذا الأحسنَ بالحسنِ لئلا تخرجَ الفاءُ عن موضوعِها والكلامُ عن التئامِه.
273
قوله:
﴿يَخِصِّمُونَ﴾ : قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ
273
وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور.
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ
«يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ
«يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ:
«ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم».
قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه:
﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ في البقرةِ [الآية: ٢٠]، و
﴿لاَّ يهدي﴾ في يونس [الآية: ٣٥].
274
قوله:
﴿ياويلنا﴾ : العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو
«وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ
«وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و
«لنا» جارٌّ ومجرور
«. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا
«بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا
«بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي.
والعامَّةُ على فتح ميم» مَنْ و
«بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل
«مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و
«بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف
«مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث.
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً.
قوله:
﴿هَذَا مَا وَعَدَ﴾ في
«هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله
«مِنْ مَرْقَدِنا». وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ
275
الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين:
«هذا» صفةٌ ل
«مَرْقَدِنا» و
«ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله.
ثم في
«ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على
«مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل
«مَرْقَدِنا». وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و
«ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو
«صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا
«صيحة واحدة» نصباً ورفعاً.
276
قوله:
﴿فِي شُغُلٍ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل
«إنَّ» و
«فاكهون» خبرٌ ثانٍ، وأنْ يكون
«فاكهون» هو الخبر، و
«في شُغُلٍ» متعلِّقٌ به
276
وأَنْ يكونَ حالاً. وقرأ الكوفيون وابنُ عامر بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ، وهما لغتان للحجازيين، قاله الفراء. ومجاهد وأبو السَّمَّال بفتحتين. ويزيد النحوي وابن هُبَيْرَة بفتحةٍ وسكونٍ وهما لغتان أيضاً.
والعامَّةُ على رفع
«فاكِهون» على ما تقدَّم. والأعمش وطلحة
«فاكهين» نصباً على الحالِ، والجارُّ الخبرُ. والعامَّةُ أيضاً على
«فاكهين» بالألف بمعنى: أصحاب فاكهة، ك لابنِ وتامرِ ولاحمِ، والحسَنُ وأبو جعفر وأبو حيوةَ وأبو رجاءٍ وشيبةُ وقتادةُ ومجاهدٌ
«فَكِهون» بغيرِ ألفٍ بمعنى: طَرِبُوْن فَرِحون، من الفُكاهةِ بالضمِ. وقيل: الفاكهُ والفَكِهُ بمعنى المتلذِّذُ المتنعِّمُ؛ لأنَّ كلاً من الفاكهةِ والفُكاهةِ مِمَّا يُتَلَذَّذُ به ويُتَنَعَّمُ. وقُرئ
«فَكِهيْن» بالقَصْرِ والياء على ما تَقَدَّمَ. و
«فَكُهُوْن» بالقصرِ وضمِّ الكافِ. يُقال: رجلٌ فَكِهٌ وفَكُهٌ كَرَجُلٍ نَدِس ونَدُسٍ، وحَذِر وحَذُر.
277
قوله:
﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾ : يجوزُ في
«هم» أَنْ يكونَ مؤكِّداً للضميرِ المستكِنِّ في
«فاكهون»، و
«أزواجُهم» عَطْفٌ على المستكنِّ. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للضميرِ المستكنِّ في
«شُغُل» إذا جَعَلْناه خبراً. و
«أزواجُهم» عَطْفٌ عليه أيضاً. كذا ذكره الشيخ. وفيه نظرٌ من حيث الفَصْلُ بين المُؤَكِّد والمؤكَّد بخبر
«إنَّ». ونظيرُه أن تقولَ: «إن زيداً في الدار قائمٌ هو
277
وعمروٌ» على أَنْ يُجْعَلَ
«هو» تأكيداً للضمير في قولك
«في الدار». وعلى هذين الوجهين يكون قولُه
«متكِئون» خبراً آخر ل
«إنَّ»، و
«في [ظلال] » متعلِّقٌ به أو حالٌ. و
«على الأرائِك» متعلقٌ به. ويجوزُ أَنْ يكون
«هم» مبتدأً و
«متكئون» خبرَه، والجارَّانِ على ما تقدَّمَ. وجَوَّزَ أبو البقاءِ أَنْ يكونَ
«في ظلالٍ» هو الخبرَ. قال:
«وعلى الأرائِكِ مستأنفٌ» وهي عبارةٌ مُوْهِمَةٌ غيرَ الصوابِ. ويريد بذلك: أنَّ
«متكئون» خبرُ مبتدأ مضمرٍ و
«متكئون» مبتدأٌ مؤخرٌ إذ لا معنى له. وقرأ عبد الله
«متكئين» نصباً على الحال.
وقرأ الأخَوان
«في ظُلَلٍ» بضم الظاءِ والقصرِ، وهو جمع ظُلَّة نحو: غُرْفَة وغُرَف، وحُلَّة وحُلَل. وهي عبارةٌ عن الفُرُشِ والسُّتُور. والباقون بكسرِ الظاءِ والألفِ، جمعَ ظُلَّة أيضاً، كحُلَّة وحِلال، وبُرْمة وبِرام، أو جمعَ فِعْلة بالكسر، إذ يُقال: ظُلَّة وظِلَّة بالضمِّ والكسرِ فهو كلِقْحة ولِقاح، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا ينقاس فيها، أو جمعَ فِعْل نحو: ذِئْب وذِئاب، وريْح ورِياح.
278
قوله:
﴿مَّا يَدَّعُونَ﴾ : في
«ما» هذه ثلاثةُ أوجه: موصولةٌ اسميةٌ، نكرةٌ موصوفةٌ، والعائد على هذين محذوفٌ، مصدريةٌ. /
278
ويَدَّعُون مضارعُ ادَّعَى افْتَعَلَ مِنْ دعا يَدْعو. وأُشْرِبَ معنى التمني. قال أبو عبيدة:
«العربُ تقول: ادَّعِ عَلَيَّ ما شِئْتَ أي تَمَنَّ»، وفلانٌ في خيرِ ما يَدَّعي، أي: ما يتمنى. وقال الزجاج:
«هو من الدعاء أي: ما يَدَّعُوْنه، أهلُ الجنة يأتيهم، مِنْ دَعَوْتُ غلامي». وقيل: افْتَعَل بمعنى تفاعَلَ. أي: ما يتداعَوْنه كقولهم: ارتَمَوْا وترامَوْا بمعنىً. و
«ما» مبتدأةٌ. وفي خبرها وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنَّه الجارُّ قبلَها. والثاني: أنه
«سلامٌ». أي: مُسَلَّمٌ خالِصٌ أو ذو سلامةٍ.
279
قوله:
﴿سَلاَمٌ﴾ : العامَّةُ على رفعِه. وفيه أوجهٌ، أحدها: ما تقدَّم مِنْ كونِه خبرَ
«ما يَدَّعون». الثاني: أنه بدلٌ منها، قاله الزمخشري. قال الشيخ:
«وإذا كان بدلاً كان» ما يَدَّعُون
«خصوصاً، والظاهر أنَّه عمومٌ في كلِّ ما يَدَّعُونه. وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه». الثالث: أنه صفةٌ ل
«ما»، وهذا إذا جَعَلْتَها نكرةً موصوفةً. أمَّا إذا جَعَلْتَها بمعنى الذي أو مصدريةً تَعَذَّر ذلك لتخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو سلامٌ. الخامس: أنه مبتدأٌ خبرُه الناصبُ ل
«قَوْلاً» أي: سلامٌ يُقال لهم قولاً. وقيل: تقديرُه: سلامٌ عليكم. السادس: أنه مبتدأٌ، وخبرُه
«مِنْ رَبٍ». و
«قولاً» مصدرٌ مؤكدٌ لمضمونِ الجملةِ، وهو مع عاملِه معترضٌ بين المبتدأ والخبر.
279
وأُبَيٌّ وعبد الله وعيسى
«سَلاماً» بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: أنه حالٌ. قال الزمخشري:
«أي: لهمْ مُرادُهُمْ خالصاً». والثاني: أنه مصدرُ يُسَلِّمون سلاماً: إمَّا من التحيةِ، وإمَّا من السَّلامة. و
«قَوْلاً» إمَّا: مصدرٌ مؤكِّدٌ، وإمَّا منصوبٌ على الاختصاصِ. قال الزمخشري:
«وهو الأَوْجَهُ». و
«مِنْ رَبٍّ» إمَّا صفةٌ ل
«قَوْلاً»، وإمَّا خبرُ
«سَلامٌ» كما تقدَّم. وقرأ القَرَظِيُّ
«سِلْمٌ» بالكسرِ والسكونِ. وتقدَّم الفرق بينهما في البقرة.
280
قوله:
﴿أَعْهَدْ﴾ : العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة. وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها. وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ. وقرأ ابنُ وثَّاب
«أَحَّدْ» بحاءٍ مشددةَ. قال الزمخشري:
«وهي لغةُ تميمٍ، ومنه» دَحَّا مَحَّا «أي: دَعْها معها، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً، حين أُريد الإِدغامُ. والأحسنُ أَنْ يُقال: إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً. وهي لغةُ هُذَيلٍ. فلمَّا
280
أُدْغِم قُلب الثاني للأول، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ. وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران. وقال ابن خالويه:» وابن وثاب والهذيل
«أَلَمْ إعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ. ورُوي عن ابنِ وثَّاب
«اعْهِد» بكسرِ الهاءِ. يُقال: عَهِد وعَهَد
«انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب. وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي» عَهَدَ
«بفتحها. وقولُه:» سوى الياء
«وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ. وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون: يِعْلَمُ.
وقال الزمخشري فيه:» وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعِمُ، وضَرَب يَضْرِب
«يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين: إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه. وحكى الزمخشري أنه قُرِئ» أَحْهَدْ
«بإبدالِ العينِ حاءً، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ» أَحَّد «: أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم.
281
قوله:
﴿رَكُوبُهُمْ﴾ : أي: مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ. وقرأ أُبيٌّ وعائشة
«رَكوبَتُهم» بالتاء. وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا، وجعلهما الزمخشري: في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة. وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة. والحسن وأبو البرهسم والأعمش
«رُكوبُهم» بضم الراء، ولا بدَّ من حذف مضاف: إمَّا من الأولِ، أي: فمِنْ منافعها رُكوبُهم، وإمَّا من الثاني، أي: ذو ركوبِهم. قال ابن خالويه:
«العربُ تقول: ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ، وحَلُوب وحَلُوْبَة، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت، ورَكَبى حَلَبى، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة] » وأنشد:
285
٣٧٨٨ - رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ | تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ |
والمَشارِبُ: جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً. والضمير في
«لا يَسْتَطيعون» إمَّا للآلهةِ، وإمَّا لعابديها. وكذلك/ الضمائرُ بعده. وتقدَّم قرءاةُ
«يَحْزُن» و
«يُحزن». وقرأ زيد بن علي
«ونسي خالقَه» بزنةِ اسمِ الفاعل.
286
قوله:
﴿بِقَادِرٍ﴾ : هذه قراءةُ العامَّةِ، دخلتِ الباءُ زائدةً على اسم الفاعلِ. والجحدريُّ وابن أبي إسحاق والأعرج
«يَقْدِرُ» فعلاً
286
مضارعاً. والضميرُ في
«مِثْلهم» قيل: عائدٌ على الناسِ؛ لأنهم هم المخاطبونَ. وقيل: على السماواتِ والأرض لتضمُّنِهم مَنْ يَعْقِلُ. و
«بَلَى» جوابٌ ل
«ليس» وإنْ دَخل عليها الاستفهامُ المصيِّرُ لها إيجاباً. والعامَّة على
«الخَلاَّق» صيغةَ مبالغةٍ. والجحدري والحسن ومالك بن دينار
«الخالق» اسمَ فاعِل. وتقدَّم الخلافُ في
«فيكون» نصباً ورفعاً وتوجيهُ ذلك في البقرة.
287