ﰡ
التحقيق إنه من جملة الحروف المقطعة في أوائل السور، والياء المذكورة فيه ذكرت في فاتحة سورة «مريم »، في قوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾، والسين المذكورة فيه ذكرت في أول «الشعراء » و«القصص »، في قوله :﴿ طسم ﴾ وفي أوّل «النمل »، في قوله :﴿ طس ﴾، وفي أوّل «الشورى »، في قوله تعالى :﴿ حم ﴾ [ عسق : ١ ].
وقد قدّمنا الكلام مستوفى على الحروف المقطّعة في أوائل السورة في أوّل سورة «هود ».
قد بيَّنا أن موجب التوكيد لكونه من المرسلين، هو إنكار الكفار لذلك في قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ [ الرعد : ٤٣ ]، في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ].
لفظة ﴿ مَا ﴾ في قوله تعالى :﴿ مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ﴾، قيل : نافية، وهو الصحيح. وقيل : موصولة، وعليه فهو المفعول الثاني ﴿ لّتُنذِرَ ﴾، وقيل : مصدرية.
وقد قدّمنا دلالة الآيات على أنها نافية، وأن مما يدلّ على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله عبده :﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ ؛ لأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار لا الإنذار، وهذا هو الظاهر مع آيات أُخر دالَّة على ذلك كما أوضحنا ذلك كلّه في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
الظاهر أن القول في قوله :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ﴾، وفي قوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] الآية، وفي قوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ [ القصص : ٦٣ ] الآية.
وفي قوله تعالى :﴿ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ يس : ٧٠ ]، وقوله تعالى :﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴾ [ الصافات : ٣١ ]، والكلمة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ]، وفي قوله تعالى :﴿ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾[ الزمر : ٧١ ]، أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة :﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبَّكَ ﴾ بصيغة الجمع، هو قوله تعالى :﴿ لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[ هود : ١١٩ ]و[ السجدة : ١٣ ]، كما دلّت على ذلك آيات من كتاب اللَّه تعالى ؛ كقوله تعالى في آخر سورة «هود » :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٨-١١٩ ]، وقوله تعالى في «السجدة » :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِني لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
وقوله تعالى في أُخريات «ص » :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٤-٨٥ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ﴾، يدلّ على أن أكثر الناس من أهل جهنّم، كما دلّت على ذلك آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[ هود : ١٧ ]و[ الرعد : ١ ]و[ غافر : ٥٩ ]، ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، ﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الصافات : ٧١ ]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨-٦٧-١٠٣-١٢١-١٧٤-١٩٠ ].
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] الآية.
وبيَّنا بالسنّة الصحيحة في أوّل سورة «الحجّ » : أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وأن نصيب الجنّة منها واحد.
هويتك إذ عيني عليها غشاوة | فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها |
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ [ الكهف : ٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاء ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ [ المائدة : ٤١ ].
وقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [ النحل : ١٠٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هود : ٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾ [ الكهف : ١٠١ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدّمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب، وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن اللَّه إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم اللَّه على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار ؛ لأن من شؤم السيئات أن اللَّه جلَّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه اللَّه بذلك على كفره جزاء وفّاقًا.
والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ]، فالباء سببيّة. وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ؛ وكقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [ المنافقون : ٣ ]، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل، أي : فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه.
وقد دلَّت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيّئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك، أن فعل الخير يؤدّي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ﴾[ محمد : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾[ العنكبوت : ٦٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [ التغابن : ١١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قول من قال من أهل العلم : إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ﴾، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذّبون بها في الآخرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِذِ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * في الْحَمِيمِ ثُمَّ في النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧١-٧٢ ]، خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا ؛ كما أوضحنا. وقرأ هذا الحرف : حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم :﴿ سَدّا ﴾، بالفتح في الموضعين، وقرأه الباقون بضمّ السين، ومعناهما واحد على الصواب، والعلم عند اللَّه تعالى.
تقدّم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة «فاطر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ﴾ [ فاطر : ١٨ ].
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء :
الأول : أنه يحيي الموتى، مؤكّدًا ذلك متكلّمًا عن نفسه بصيغة التعظيم.
الثاني : أنه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا.
الثالث : أنه يكتب آثارهم.
الرابع : أنه أحصى كل شيء ﴿ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾، أي : في كتاب بيّن واضح، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أمّا الأوّل منها وهو كونه يحيي الموتى بالبعث، فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب اللَّه تعالى.
كقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [ يونس : ٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا ﴾ [ النحل : ٣٨ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدّمناها بكثرة في سورة «البقرة »، و سورة «النحل »، في الكلام على براهين البعث، وقدّمنا الإحالة على ذلك مرارًا.
وأمّا الثاني منها وهو كونه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا، فقد جاء في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ]، وقوله تعالى :﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [ الإسراء : ١٣-١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٨ ]. وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة «الكهف ».
وأمّا الثالث منها وهو كونهم تكتب آثارهم، فقد ذكر في بعض الآيات أيضًا.
واعلم أن قوله :﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء.
الأوّل منهما : أن معنى ﴿ مَاَ قَدَّمُواْ ﴾ : ما باشروا فعله في حياتهم، وأن معنى ﴿ آثَارِهِمْ ﴾ : هو ما سنّوه في الإسلام من سنّة حسنة أو سيّئة، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم.
الثاني : أن معنى ﴿ آثَارِهِمْ ﴾ : خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير، وكذلك خطاهم إلى الشر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال :«يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم »، يعني : خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم.
أمّا على القول الأوّل : فاللَّه جلَّ وعلا قد نصّ على أنهم يحملون أوزار من أضلّوهم وسنّوا لهم السنن السيّئة ؛ كما في قوله تعالى :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ النحل : ٢٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ].
وقد أوضحنا ذلك في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ النحل : ٢٥ ] الآية، وذكرنا حديث جرير وأبي هريرة، في صحيح مسلم في إيضاح ذلك.
ومن الآيات الدالَّة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنّه من هدى أو ضلالة، قوله تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ]، بناء على أن المعنى ﴿ بِمَا قَدَّمَ ﴾ : مباشرًا له، ﴿ وَأَخَّرَ ﴾ : مما عمل به بعده مما سنّه من هدى أو ضلال، وقوله تعالى :﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ [ الإنفطار : ٥ ]، على القول بذلك.
وأمّا على التفسير الثاني : وهو أن معنى ﴿ وآثَارِهِمْ ﴾ : خطاهم إلى المساجد ونحوها، فقد جاء بعض الآيات دالاًّ على ذلك المعنى ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢١ ]، لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.
وأمّا الرابع : وهو قوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شيء أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾، فقد تدلّ عليه الآيات الدالَّة على الأَمر الثاني، وهو كتابة جميع الأَعمال التي قدّموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال.
وأمّا على فرض كونه عامًّا، فقد دلَّت عليه آيات أُخر كقوله تعالى :﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَداً ﴾ [ الجن : ٢٨ ]، وقوله تعالى :﴿ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، بناء على أن المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ، وهو أصحّ القولين، والعلم عند اللَّه تعالى.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفّار :﴿ وَمَا أَنَزلَ الرَّحْمَانُ مِن شَيء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾، قد بيَّن أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيء ﴾ [ الملك : ٨-٩ ] الآية، وقد بيَّن تعالى أن الذين أنكروا إنزال اللَّه الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حقّ قدره، أي : لن يعظّموه حق عظمته، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَىْء ﴾ [ الأنعام : ٩١ ].
قد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ]، وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة «النمل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ] الآية.
قد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ]، وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة «النمل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ] الآية.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له، وما يتعلق بها من الأحكام في سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ].
قوله :﴿ فَطَرَنِي ﴾، معناه : خلقني وابتدعني، كما تقدّم إيضاحه في أوّل سورة «فاطر ».
والمعنى : أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني، وابتدعني، وأبرزني من العدم إلى الوجود، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده الذي يستحق أن يعبد وحده، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب اللَّه.
وقد قدّمنا إيضاح ذلك في سورة «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الفرقان : ٣ ]، وفي سورة «الرعد »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] الآية.
الاستفهام في قوله تعالى :﴿ أَأتَّخِذُ ﴾ للإنكار، وهو مضمن معنى النفي، أي : لا أعبد من دون اللَّه معبودات، إن أرادني اللَّه بضرّ لا تقدر على دفعه عني، ولا تقدر أن تنقذني من كرب.
وما تضمّنته هذه الآية الكريمة من عدم فائدة المعبودات من دون اللَّه جاء موضّحًا في آيات من كتاب اللَّه تعالى ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنّ ممسكاتُ رحمته قل حسبيَ الله عليه يتوكل المتوكلون ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض ﴾ [ سبأ : ٢٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ يونس : ١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ﴾، أي : لا شفاعة لهم أصلاً حتى تغني شيئًا، ونحو هذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول امرئ القيس :
على لا حبّ لا يهتدي بمناره | إذا سافه العود النباطي جرجرا |
وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها | ولا ترى الضبّ بها ينجحر |
وهذا المعنى هو المعروف عند المنطقيين، بقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ؛ كما تقدّم إيضاحه.
بيَّن جلَّ وعلا أن العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزءون غير مكتفين بتكذيبه، بل جامعين معه الاستهزاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ ﴾، نصّ صريح في تكذيب الأُمم لجميع الرسل لما تقرّر في الأصول، من أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها ﴿ مِنْ ﴾، فهي نص صريح في عموم النفي، كما هو معروف في محلّه.
وهذا العموم الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أُخر، وجاء في بعض الآيات إخراج أُمّة واحدة عن حكم هذا العموم بمخصّص متّصل، وهو الاستثناء.
فمن الآيات الموضحة لهذا العموم، قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارهم مقتدون ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ﴾، إلى قوله :﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٤-٩٥ ].
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «قد أفلح المؤمنون »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ] الآية.
وقدّمنا طرفًا من الكلام عليه في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ] الآية.
وأمّا الأُمَّة التي أُخرجت من هذا العموم فهي أُمة يونس، والآية التي بيّنت ذلك هي قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي في الحياة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حين ﴾ [ يونس : ٩٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ الصافات : ١٤٧-١٤٨ ]، والحسرة أشدّ الندامة، وهو منصوب على أنه منادى عامل في المجرور بعده، فأشبه المنادى المضاف.
والمعنى :﴿ يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ ! تعالي واحضري فإن الاستهزاء بالرسل هو أعظم الموجبات لحضورك.
قد قدّمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية، برهان قاطع على البعث في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]. وفي سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع. وأوضحنا في المواضع المذكورة، بقية براهين البعث بعد الموت.
قد قدّمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية، برهان قاطع على البعث في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]. وفي سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع. وأوضحنا في المواضع المذكورة، بقية براهين البعث بعد الموت.
قد قدّمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية، برهان قاطع على البعث في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]. وفي سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع. وأوضحنا في المواضع المذكورة، بقية براهين البعث بعد الموت.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ﴾.
وهذا المعنى الذي تضمّنته هذه الآية، جاء في آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في أوّل سورة «الأنعام » :﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ﴾ [ الأنعام : ٤-٥ ] الآية، وقوله تعالى في آخر «يوسف » :﴿ وَكَأَيّن مِن آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾[ يوسف : ١٠٥ ]، وقوله تعالى :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [ القمر : ١-٢ ]، وقوله تعالى :{ وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣-١٤ ]، وأصل الإعراض مشتقّ من العرض بالضم، وهو الجانب ؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه بجانب عنقه صادًّا عنه.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة النفخة الأخيرة، والصُّور قرن من نور ينفخ فيه الملك نفخة البعث، وهي النفخة الأخيرة، وإذا نفخها قام جميع أهل القبور من قبورهم، أحياء إلى الحساب والجزاء.
وقوله :﴿ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ ﴾، جمع جدث بفتحتين، وهو القبر، وقوله :﴿ يَنسِلُونَ ﴾، أي : يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر ؛ كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [ المعارج : ٤٣ ]، وقال تعالى :﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ﴾ [ ق : ٤٤ ] الآية، وكقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾ [ القمر : ٧-٨ ] الآية، وقوله :﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾، أي : مسرعين مادّي أعناقهم على أشهر التفسيرين، ومن إطلاق نسل بمعنى أسرع.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٦ ]، وقول لبيد :
عسلان الذئب أمسى قاربًا | برد الليل عليه فنسل |
يرتدن ساهرة كأن جميمها | وعميمها أسداف ليل مظلم |
وساهرة يضحي السراب مجلّلا | لأقطارها قد حببتها متلثّما |
قد قدّمنا الكلام عليه في سورة «الروم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ [ الروم : ٥٦ ] الآية.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٢٦ ]، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية، وفي سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِى لِلَّتِي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٢٦ ]، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية، وفي سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِى لِلَّتِي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قوله :﴿ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾، أي : خلقًا كثيرًا كقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨٤ ]، وما تضمّنته هذه الآية الكريمة، من كون الشيطان أضلّ خلقًا كثيرًا من بني آدم جاء مذكورًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ]، أي : قد استكثرتم أيها الشياطين، من إضلال الإنس، وقد قال إبليس :﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾، وقد بيَّن تعالى أن هذا الظن الذي ظنّه بهم من أنه يضلهم جميعًا إلا القليل صدّقه عليهم ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ]، كما تقدّم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم :﴿ جِبِلاًّ ﴾ بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي :﴿ جِبِلاًّ ﴾، بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وقرأه أبو عمرو وابن عامر :﴿ جِبِلاًّ ﴾، بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام، وجميع القراءات بمعنى واحد، أي : خلقًا كثيرًا.
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من شهادة بعض جوارح الكفّار عليهم يوم القيامة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في سورة «النور » :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ]، وقوله تعالى في «فصلت » :﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيء ﴾ [ فصلت : ٢٠-٢١ ] الآية. وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «النساء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ].
وبيَّنا هناك أن آية «يس » هذه توضح الجمع بين الآيات ؛ كقوله تعالى عنهم :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ] مع قوله عنهم :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ نُنَكّسْهُ في الْخَلْقِ ﴾، أي : نقلبه فيه، فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلوّ من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشدّه، ويستكمل قوّته ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم. وأصل معنى التنكيس : جعل أعلا الشيء أسفله.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ﴾ [ الروم : ٤٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [ التين : ٤-٥ ]، على أحد التفسيرين. وقوله تعالى في «الحجّ » :﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ [ الحج : ٥ ]، وقوله تعالى في «النحل » :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [ النحل : ٧ ]، وقوله تعالى في سورة «المؤمن » :﴿ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً ﴾ [ غافر : ٧٦ ].
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «النحل »، وقرأ هذا الحرف عاصم، وحمزة :﴿ نُنَكّسْهُ ﴾ بضمّ النون الأولى، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة، من التنكيس، وقرأه الباقون بفتح النون الأولى، وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد. وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ بتاء الخطاب. وقرأه الباقون :﴿ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾، بياء الغيبة.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الشعراء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٢٤ ]، وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النمل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء ﴾ [ النمل : ٨٠ ] الآية. وفي سورة «فاطر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاء وَلاَ الأمْوَاتُ ﴾ [ فاطر : ٢٢ ].
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة » و«النحل »، مع بيان براهين البعث.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة » و«النحل »، مع بيان براهين البعث.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة » و«النحل »، مع بيان براهين البعث.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة » و«النحل »، مع بيان براهين البعث.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ]، وبيَّنا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنّة في إطلاق اسم الشيء على الموجود دون المعدوم، وقد قدّمنا القراءتين وتوجيههما في قوله :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، هناك.