ﰡ
القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم وقومه
سورة يس مكية بالإجماع، وهي تتحدث عن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتذكّر الناس بالبعث والقدرة الإلهية ووحدانية الله تعالى، وتثير المشاعر والأفكار للتأمل بأحداث القيامة، وتتميز هذه السورة بأنها قلب القرآن، وتشفع لقارئها،
أخرج الدارمي والترمذي والبيهقي عن أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن يس».
وأخرج أبو النصر السجزي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في القرآن لسورة تدعى: العظيمة عند الله، يدعى صاحبها: الشريف عند الله، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر، وهي سورة يس».
وأخرج أبو داود وأحمد وابن ماجه وغيرهم عن معقل بن يسار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا يس على موتاكم»
وهو حديث حسن. قال الله تعالى في مطلعها مبينا موقف النبي من قومه:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
«١»
يس: إما اسم من أسماء محمد صلّى الله عليه وسلّم، لقوله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أو إنها حروف مقطعة للتنبيه على أهمية السورة وتحدي العرب بالقرآن بأن يأتوا بمثله، مع أنه متكوّن من الحروف الأبجدية أو الهجائية التي تتركب منها لغتهم. أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بنظمه ومعناه، ذي الحكمة البالغة، بأنك يا محمد لرسول من عند الله، على طريق قويم، ومنهج سليم. وهذا القرآن تنزيل من عند الله ذي العزة والقوة، الرحيم بعباده المؤمنين، ولقد أرسلناك أيها الرسول لتنذر قومك العرب الذين لم يأتهم رسول منذر من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والشرع.
نزلت هذه الآية فيما
أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة حين نزول هذه الآيات، وهو ما دوّن في شأنهم في اللوح المحفوظ، أنهم لا يؤمنون بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين علم الله
وتأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم: أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كالمضروب عليهم السدّ، المحيط بهم من الأمام والخلف، ومنعوا من النظر، فهم لا يبصرون شيئا، ولا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه.
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله: لا يُبْصِرُونَ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر. فالآية مستعارة المعنى من منع الله إياهم وحوله بينه وبينهم، وهذا أرجح الأقوال، لأنه لما ذكر الله أنهم لا يؤمنون في العلم الأزلي، جعلوا في حالة من المنع، وإحاطة الشقاوة كالمضروب عليهم السد، وتشبه حالهم حال المغلوبين.
ونتيجة لهذا التطويق، يستوي أيها النبي إنذارك لهؤلاء المصرّين على الكفر، وعدم الإنذار، فهم لا يؤمنون، ولا ينفعهم الإنذار.
إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم، واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه، وقبل رؤية الله، فهؤلاء بشرّهم بمغفرة لذنوبهم، وبأجر كريم وفير على أعمالهم وهو الجنة.
ثم أكد الله تعالى تحقيق الجزاء في عالم الآخرة بقوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي إننا قادرون على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين نكتب لهم كل ما قدّموه من عمل صالح أو سيّئ، وكل ما تركه من آثار طيبة أو خبيثة.
أصحاب القرية
يتكرر ضرب الأمثال في القرآن الكريم للعظة والاعتبار والتأثر بأحداث الآخرين، وفي سورة يس ضرب الله مثلا لحال قريش الذين أصروا على الكفر، بحال أهل قرية كذّبوا الرسل، فدمرّهم الله بصيحة واحدة. والقرية، على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والزهري: أنطاكية. والمرسلون: هم جماعة من الحواريين، بعثهم عيسى عليه السّلام قبل رفعه إلى السماء، وقبل صلب الذي ألقي عليه شبهه. وهم رسولان دعوا أهل القرية إلى عبادة الله وحده، وإلى الهدى والإيمان، فكذبوهما، فشدّد الله أمرهما بثالث، فصاروا ثلاثة، وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره وكفروا، فأصابتهم صيحة من السماء، فخمدوا وماتوا. فإذا استمر مشركو قريش على عنادهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، قال الله تعالى:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ٢٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
المعنى: اضرب يا محمد مثلا في الغلو والكفر لقومك بأهل قرية هي أنطاكية في رأي ابن عباس، حين أرسل الله إليهم ثلاثة رجال مرسلين من أصحاب عيسى عليه السّلام الحواريين، فكذبوهم. وعدد المرسلين اثنان أرسلهما عيسى بأمر الله تعالى، فكذب القوم رسالتهما، فأيدهما الله برسول ثالث، فقالوا لأهل القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده، وتتركوا عبادة الأصنام.
فقال أهل القرية للمرسلين الثلاثة: لستم أنتم إلا بشرا أمثالنا، تأكلون الطعام وتشربون، فمن أين لكم التميز علينا؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل، فما أنتم بادعائكم الرسالة إلا قوم كاذبون.
فأجابهم الرسل الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام. ومهمتنا أنه ليس علينا إلا إبلاغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح.
(٢) أي شؤمكم معكم وليس منا. [.....]
(٣) الآيتان الأخيرتان من الجزء (٢٣).
فأجابهم الرسل الثلاثة: شؤمكم مردود عليكم، وهو مصاحب لكم، وسببه تكذيبكم وكفركم بربكم، ولسنا نحن، بل أنتم قوم مسرفون في الضلال، متجاوزون الحد في مخالفة الحق.
ثم أيدّهم الله بنصير من القوم، فجاء رجل مؤمن بالله وبالرسل، من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار في رواية عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس، فقال ناصحا قومه: يا قوم، اتبعوا رسل الله فيما أتوكم به، لإنقاذكم من الضلال، اتبعوا هؤلاء الذين لا يطلبون منكم أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، فهم مخلصون في عملهم ودعوتهم، وهم جماعة مهتدون إلى الحق والإيمان الصحيح بعبادة الله وحده لا شريك له.
وإني أحب لكم ما أحب لنفسي، وأنا ما الذي يمنعني من عبادة الله الذي خلقني، وإليه رجوعي ومصيري يوم المعاد؟ وفي هذا ترغيب بعبادة الله تعالى وترهيب من عقابه، والدليل على سلامة منهجي في الاعتقاد والعبادة: كيف أتخذ من دون الله آلهة أخرى، لا تضر ولا تنفع، وهي عبادة الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، فلن أتخذ من دون الله آلهة، فإنه إن أرادني الله الرحمن بسوء أو ضرر، لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تنقذني من أي سوء. إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وانحراف بيّن عن الحق، إني صدّقت بربكم الذي أرسلكم أيها الرسل، فاشهدوا لي بذلك عنده. فلما قال ذلك، قتله قومه.
ثم خاطب الله نبيه متوعدا لقريش: لم نحتج في تعذيب القوم إلى جند من جنود الله كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك، بل كانت صيحة واحدة من أحد الملائكة، دمرتهم، لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك، فصاروا بهذه الصيحة موتى هامدين.
بعض أدلة القدرة الإلهية
عني القرآن الكريم عناية شديدة بإثبات البعث (اليوم الآخر) بإيراد مظاهر أو أدلة على القدرة الإلهية الفائقة، إما بإهلاك الظالمين هلاكا استئصاليا، من الأقوام الغابرين، ثم يحضرهم الله للحساب، وإما بإحياء الأرض الميتة بالمطر وإيجاد البساتين اليانعة وتفجير الأنهار فيها، وإما بسلخ النهار من الليل، أو بتسيير الشمس والقمر في مدارهما، أو بحمل الآباء والذرية في السفن، حفاظا على الوجود الإنساني، وغير ذلك، قال الله تعالى موضحا هذه الأدلة:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٠ الى ٤٤]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
يا حسرة: المنادي محذوف، أي يا جماعة تحسروا حسرة على هؤلاء، أو المنادي:
الحسرة نفسها، أي هذا أوانك فاحضري.
والمعنى: يا حسرة العباد على أنفسهم بسبب تكذيبهم الرسل، فلم يأتهم رسول من عند الله، لدعوتهم إلى التوحيد والحق والخير لأنفسهم، إلا استهزءوا به وكذّبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق. وقوله: يا حَسْرَةً نداء للحسرة بقصد الندبة والتحسر، بمعنى: هذا وقت حضورك وظهورك، والمراد التلهف على العباد والإشفاق عليهم، حين يزج بهم في العذاب. وهذا تمثيل لفعل قريش. ثم عناهم الله تعالى بقوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا.. أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لمزاعم الدهرية أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا قبلهم. ثم أعلمهم الله تعالى بوجود الحساب وعقاب الآخرة بعد عذاب الدنيا، فإن جميع الأمم الماضية والحاضرة والمستقبلية سيتم إحضارهم للحساب يوم القيامة، بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، وهذا يدل على أن من أهلكه الله في الدنيا له حساب وعقاب آخر في الآخرة.
ومن الآيات أو العلامات الدالة على قدرة الله تعالى على البعث وغيره:
- ومن الآيات: إيجاد البساتين المشجرة في الأرض، من نخيل وعنب وغيرها، وتفجير الأنهار فيها في مواضع مختلفة، والقصد من ذلك: أن يأكل الناس من ثمار النخيل والأعناب، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من نتاج الثمر والزرع أو الحب، كالعصير والدبس والمربيات ونحوها، فهلا يشكرونه على ما أنعم الله به عليهم من هذه النعم الكثيرة!! وهو أمر بالشكر من طريق إنكار تركه.
تنزيها لله تعالى عن الشريك الذي لا يخلق شيئا، والله وحده هو الذي خلق الأصناف كلها من مختلف الأنواع، من الزروع والثمار والنبات، وخلق من النفوس الذكور والإناث، وخلق أشياء لا يعرفونها، كما جاء في آية أخرى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ١٦/ ٨].
- ومن آيات قدرته تعالى وهي آية عظيمة لهم: خلق الليل والنهار، وتعاقبهما، وانسلاخ النهار من الليل، فيأتي بالضوء، وتتبدد الظلمة. ونسلخ: نكشط ونقشر، فهي استعارة، ومُظْلِمُونَ داخلون في الظلام فجأة.
ومن الآيات: دوران الشمس في فلكها حول نفسها في مدارها، ومستقرها: كناية عن غيوبها أو آخر مطالعها. ذلك تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء، المحيط علمه بكل شيء. وجعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر، وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل في كل ليلة في واحد منها بمعدل ١٣ درجة في اليوم، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين، فإذا انتهى الشهر يدق ويصغر حتى يصير كغصن النخلة الأصفر اليابس. ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر، ولا
وعلامة ودليل لهم على قدرة الله ورحمته: تسخير البحار لسير السفن المشحونة بالركاب والبضائع، وحمل ذرياتهم في الأصح: حمل ذريات جنسهم أو نوعهم، لتوفير القوت والمعاش. وخلق الله للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل ونحوها، التي يركبون عليها ويحملون أمتعتهم على ظهورها. والأظهر أنه تعالى يخلق لهم مثل الفلك الموجود في زمانهم- زمان بني آدم إلى يوم القيامة. وإن يشأ الله يغرق في الماء الناس الراكبين والسفن الموجودة، أي السفن وحمولاتهم، فلا يجدون مغيثا يغيثهم أو ينجيهم من الغرق، ولا هم ينقذون مما أصابهم، لكن برحمة من الله نسيّركم أيها الناس في البر والبحر، ونحفظكم من الغرق، وتمتيعا من الله لكم في الدنيا إلى وقت محدود عند الله تعالى، وهو الموت.
أحوال الكفار
في التقوى والإنفاق والإيمان بالبعث
للناس مواقف نابعة من الأهواء والشهوات حول تقوى الله، وآياته، والإنفاق في وجوه الخير، والإيمان بالبعث، فهم لا يخشون الله لانعدام الإيمان الصحيح به، ويعرضون عن آيات الله تهكما واستهزاء ومكابرة، ولا ينفقون من رزق الله شيئا في سبيل الله ودفع حاجة المحتاجين، وينكرون إمكان البعث، لأنهم جماعة ماديون لا يدركون آفاق المستقبل، ويستبعدون إمكان إعادة الأجساد التي صارت رميمة كالتراب إلى الحياة مرة أخرى، ولكنهم سيجدون كل ذلك حتما ويوقفون للحساب والجزاء القائم على الحق والعدل. وهذا ما أخبر به القرآن الكريم في الآيات الآتية:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٥٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [يس: ٣٦/ ٤٥- ٥٤].
المشركون في غي وضلال، لا يكترثون بالماضي وما جنوا فيه من آثام، ولا يقدّرون مخاطر المستقبل الحاصل بعد الدنيا وما فيه من المخاطر، فتراهم إذا قيل لهم:
اتقوا الله، أي احذروا عذاب الأمم التي سبقتكم في الزمن، وعذاب الآخرة التي تحدث بعدئذ، إذا صممتم على الكفر حتى الموت، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك، ويحميكم من العذاب.
وما يصل إلى علمهم من آية دالة على توحيد الله وتصديق الرسل إلا أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا لها، ولم يتأملوا بها، لتعطيل طاقة الفكر والوعي عندهم.
ولا يقتصر الأمر على سوء الاعتقاد، فإنهم قساة القلوب على مخلوقات الله، فإذا طلب من قريش الإنفاق أو التصدق بشيء من الأموال والأرزاق التي أنعم الله بها عليهم، أجابوا المؤمنين بطريق الاستهزاء واللامبالاة قائلين: هؤلاء المحتاجون لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فهم لا يستحقون النفقة، ونحن نوافق مشيئة الله فيهم، وقوله تعالى: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ترغيب في الإنفاق، وذم للبخل،
(٢) أي القبور.
(٣) يخرجون مسرعين.
(٤) مكان نومنا.
وسبب هذه الآية: أن كفار قريش لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين، قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم، فطلب منهم المؤمنون أيام الموادعة أن يصلوهم، وأن ينفقوا عليهم مما رزقهم الله، فقالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ونسوا واجب التعاطف وتألف الجنس.
وتراهم ينكرون البعث (القيامة) فيقولون للمؤمنين استعجالا له بطريق الهزء والسخرية: متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به، وتهددونا به، إن كنتم صادقين في ادعائكم ووعيدكم؟
فأجابهم الله تعالى، إنهم لا ينتظرون لإيجاد القيامة والعذاب إلا نفخة واحدة في الصور، هي النفخة الأولى: نفخة الفزع التي يموت بها جميع المخلوقات، وهم يختصمون فيما في شؤون المال، والاقتصاد، وعقود المعاملات. وفي تلك النفخة السريعة الأثر التي يعقبها الموت فورا، لا يستطيع بعضهم الوصية لبعض بأملاكه وديونه، بل يموتون في أماكنهم، ولا يتمكنون من الرجوع إلى ديارهم التي خرجوا منها.
ثم أخبر الله تعالى عن النفخة الثانية: وهي نفخة البعث والانتشار من القبور، فإذا نفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور، فإذا جميع المخلوقات يخرجون من القبور، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء.
وإذا وجدوا في ساحة البعث والحساب، قال هؤلاء المبعوثون: يا هلاكنا، من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وكانوا لا يعتقدون أنهم يبعثون من قبورهم، وقدّروا أنهم كانوا في قبورهم نياما، ولما جوبهوا بالحقيقة المرّة، والواقع المحفوف
ثم وصف الله سرعة البعث بأنها ما هي إلا صيحة واحدة: وهي صيحة القيامة والنفخة الثانية في الصور، فإذا هم أحياء مجموعون لدى الله بسرعة للحساب والجزاء، كما جاء في آية أخرى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) [النازعات: ٧٩/ ١٣- ١٤]. وقال الله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: ١٦/ ٧٧].
ثم يكون القضاء العدل الحاسم، ففي يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ، ولا توفوّن أيها الناس إلا ما عملتم من خير أو شر، كما قال الله سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) [الأنبياء: ٢١/ ٤٧].
أهل الجنة وأهل النار
كل عامل يلقى ثمرة عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فلا يستغربن أحد أن نتيجة عمله تلازم العمل، وتكون هي الغاية والهدف، فالمحسن الصالح يتلقى من ربه الكريم ثوابا صالحا بفضل الله وكرمه ورحمته، والمسيء المفسد يجازى بسوء فعله وقوله وفساده، حقا وعدلا، وهذا مثل الطالب الذي يعدّ نفسه للامتحان، إن اجتهد وأتقن دراسته، ووعى وفهم وتمثل ما قرأه، وصلح حاله واتقى ربه في كل شؤونه، نجح وتباهي أمام الناس، وإن تكاسل وفرط، ونام، وأضاع وقته في اللهو والفساد، ولم يدرس كتابه دراسة وافية، رسب وذلّ وتصاغر أمام الآخرين. وهذا هو قانون الله في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٦٨]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
«١» «٢» «٣» [يس: ٣٦/ ٥٥- ٦٨].
هذه أوصاف فيها موازنة دقيقة بين جزاءين: جزاء المحسنين وجزاء المسيئين. أما المحسنون: فهم المؤمنون الصالحون المنزلون في روضات الجنات يوم القيامة، المشغولون بما يتمتعون به من النعيم والتفكر عما فيه أهل النار من العذاب.
وفاكِهُونَ: فرحون طربون، وليس التمتع مقصورا عليهم، وإنما هم وأزواجهم في الجنة في ظلال وارفة، يتكئون على الأرائك، أي الوسائد والأسرّة والفرش الناعمة. والأرائك: السرر المفروشة، وتقدّم لهم أنواع الفاكهة، وغير ذلك مما يتمنون ويشتهون. ويحيّون من الله تعالى الرب الرحيم بعباده بالسلام، أي الأمان من كل مكروه، يقول لهم الله: سلام عليكم يا أهل الجنة.
وأما المسيئون: فهم الأشقياء أهل النار الكافرون، فيقال لهم: تميزوا في موقفكم وانفصلوا عن المؤمنين، أيها المجرمون. وهذه معادلة لقوله تعالى لأصحاب الجنة:
(٢) أي خلقا كثيرا.
(٣) نقلبه على رأسه ونغير خلقه من قوة إلى ضعف، ومن نضارة إلى ذبول.
وأمرتكم أن تعبدوني وتطيعوني وحدي، فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه، وهذا هو الطريق المعتدل القويم، وهو دين الإسلام.
ولقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا، وزين لهم فعل السيئات، وصدّهم عن طاعة الله وتوحيده، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم؟! ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا، وحذّرتكم منها على ألسنة الرسل، فكذبتموهم: ادخلوها وذوقوا حرها اليوم، بسبب كفركم بالله في الدنيا، وتكذيبكم بها. وهو أمر تنكيل وإهانة. ويواجهون بجرائمهم عيانا، ففي هذا اليوم الرهيب، يختم الله على أفواههم، بحيث لا يقدرون على الكلام، وتتكلم أيديهم وأرجلهم، شاهدة على أصحابها بما ارتكبت من آثام في الدنيا. والتكلم للأيدي والأرجل لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي، وسعي الأرجل.
وقدرة الله كبيرة، فلو شاء لأذهب أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى، ولا يعرفون طريق النجاة، فكيف يبصرون وقد ذهبت أبصارهم؟ أي لو شاء ربك لمسح أعين الكفار، حتى أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا، فكيف يبصرون حينئذ؟
ولو شاء الله لبدّل خلقهم، وحوّل صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير، وهم جاثمون في الأماكن التي ارتكبوا فيها السيئات، فلا يتمكنون من الذهاب أمامهم ولا الرجوع وراءهم، بل يلزمون حالا واحدة، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
صفة الرسالة النبوية
ركّز القرآن الكريم في التشريع المكي على إثبات أصول الدين الثلاثة: وهي الوحدانية، كما جاء في آية سابقة في سورة يس: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) والبعث أو اليوم الآخر كما في قوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) والرسالة النبوية في قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. وهذه الأصول الثلاثة تنقض عقائد المشركين، وتقيم بدلها ما ينبغي اعتقاده ومطابقته للواقع، فإن تركوا عقائدهم الموروثة، وبادروا إلى الإيمان بأصوله الثوابت، كان لهم عزّ الدنيا والآخرة. قال الله تعالى مبينا أوصاف الرسالة النبوية:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
[يس:
٣٦/ ٦٩- ٧٦].
أخبر الله تعالى عن حال نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأنه رسول من عند الله، وليس هو بشاعر، ولا
وإنما منع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الشعر ترفيعا له عما في قول الشعراء من التخيل وتزويق الكلام. أما القرآن الكريم فهو ذكر الحقائق والبراهين فما هو بقول شاعر ولا كاهن ولا ساحر.
وخصائص مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: هي إنذار كل من كان حي القلب والبصيرة، ولم يكن ميتا لكفره، وتثبيت الحقائق والتعريف بها، وليتحتم العذاب على الكافرين، ويجب الخلود لهم في النار، إذا ما أعرضوا عن الإنذار، ولم يذعنوا للحقيقة.
ثم نبّه الله قريشا حينما أعرضت عن الشرع وعبدت الأصنام، وذكّرهم بإنعامه عليهم، حيث خلق لهم الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) وسخّرها لهم، وملّكها إياهم، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم، نافرة منهم، ومنافع الأنعام كثيرة: أهمها أن الله تعالى جعلها مذللة منقادة لهم، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، ومنها ما يأكلون من لحمها.
ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وجعلها مصدرا للشرب من ألبانها، أفلا يشكرون خالقها ومسخّرها وموجدها، وميسر النعم الكثيرة لهم؟! والشكر يكون بعبادة الله وطاعته، وترك الإشراك به شريكا آخر. وهذا تحريض على شكر الخالق المنعم، والقيام بوفاء النعمة.
ولكنّ كفار قريش المشركين تنكروا لهذا الواجب، وكفروا بأنعم الله، واتخذوا
ولكن هذه المعبودات لا تحقق فائدة لأحد، فهم لا يقدرون على نصر عبّادها ولا نصر أنفسهم، على الرغم من أنهم جند طائعون لها، أي للأصنام، يخدمونهم ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم، أي هم حراس أمناء.
ثم آنس الله نبيه عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته وعما يلقاه منهم من ألوان الأذى، فلا تهتم أيها النبي بتكذيبهم لك وكفرهم بالله، وبأقوالهم الباطلة المفتراة حيث قالوا: هؤلاء آلهتنا، وهم شركاء لله في المعبودية، فإننا نحن (الله) نعلم جميع ما هم فيه، نعلم سرهم وجهرهم، ونعلم ما يسرّون لك من العداوة، ومعاقبوهم على ذلك.
إن كل زمرة أو مجموعة قليلة من الآيات تصلح ردا قاطعا على عقائد المشركين الوثنيين، ولكن الله جلّت حكمته، نوّع الخطاب، وكرّر المعنى، وأقام الأدلة الكثيرة في مناسبات متعددة، حتى لا يبقى لأحد عذر في البقاء على ضلاله وشركه، وهذه آيات كغيرها تثبت توحيد الله تعالى، وقدرته، وتبيّن مزيد نعمه على عباده، ليحملهم صنع المعروف على تذكر المنعم، والمبادرة إلى الإقرار بوجوده والإذعان لكلامه في قرآنه المجيد.
الرد على منكري البعث
استبد العناد والتحدي ببعض المشركين، فأعلنوا إنكار البعث واليوم الآخر، فجاء العاص بن وائل، أو أبي بن خلف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، مجاهرا في إنكاره الآخرة،
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعظم حائل، ففتّه فقال: يا محمد: أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟ قال: نعم، يبعث الله
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسدّي نحو الرواية المذكورة وقاله الحسن البصري، وسموا الإنسان أبي بن خلف، وقال أبو حيان: هذا هو الأصح، لما رواه ابن وهب عن مالك، وهو ما رواه ابن إسحاق وغيره.
وقال ابن جبير: هذه الآيات نزلت بسبب أن العاص بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم «١»، ففتّه، وقال: يا محمد: من يحيي هذا؟ قال الله تعالى واصفا هذا الحدث ورادا على قائليه:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
[يس: ٣٦/ ٧٧- ٨٣].
المعنى: ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من ماء مهين يحمل نطفة صغيرة، في غاية الضعف، ثم جعلناه إنسانا كاملا، ثم يتنكر للخالق، فتراه يجادل بالباطل، وهو ناطق فصيح، وذو عقل قوي. أفلم يستدل منكر البعث بهذا البدء في الخلق على إمكان الإعادة والإحياء؟! إن شأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة، فيتعرّف على خالقه القادر، لا أن يجادل بالباطل، ويتشكك في إمكان قدرة الله تعالى على بعثه مرة أخرى.
فأجابه الله تعالى بقوله: قل أيها النّبي لهذا المشرك المنكر للبعث: يحيي الله العظام البالية: الذي أنشأها وأبدع خلقها في المرة الأولى، من غير شيء، بل من العدم، ولم تكن شيئا مذكورا، والله لا تخفى عليه خافية من الأشياء، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الوجود، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان، في البر أو في البحر أو في جوف الحيوان أو مختلطا بالتراب.
ودليل آخر على إمكان البعث: وهو أن الله تعالى خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار أخضر نضرا، ثم صيّره حطبا يابسا، يجعله الناس وقودا لنيرانهم، فمن كان قادرا على هذا التحويل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة، فهو قادر على إعادة الرطب يابسا، والحي ميتا، والميت حيّا، لأن المعوّل في ذلك كله على القدرة الإلهية.
ودليل ثالث: وهو أن من خلق السماوات السبع وما فيها من الكواكب السّيّارة والثّوابت، والأرضين السّبع وما فيها من معادن وكنوز وجبال وأنهار، وسهول وهضاب، وهي أعظم من خلق الإنسان، من خلق ذلك، فهو قادر على خلق مثل البشر، وإعادة الأجسام إلى الحياة مرة أخرى، وهي أضعف وأصغر من خلق السماوات والأرض، والله هو الخلاق: أي كثير الخلق، العليم: الشامل العلم.
إن شأن القدرة الإلهية أو شأن الله في إيجاد الأشياء سهل يسير، فإنما هو إذا أراد شيئا قال له: كن، فإذا هو كائن على الفور، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.