و هي مدنية كلها فقد روى البخاري عن عائشة أنها " ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد بني النبي بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى من الهجرة.
ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران :
أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة بذلك وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السور.
أن في السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه ذيل لها وهو قوله :﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾ ( النساء : ٨٨ ) فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
إنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد وهي ( غزوة حمراء الأسد ) بقوله :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ ( أل عمران : ١٧٢ ) وأشير إليها هنا في قوله :﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ﴾ ( النساء : ١٠٤ ) الآية.
ما حوته السور من الموضوعات :
الأمر بتقوى الله في السر والعلن.
تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.
أحكام القرابة والمصاهرة.
أحكام الأنكحة والمواريث.
أحكام القتال.
الحجَاج مع أهل الكتاب.
بعض أخبار المنافقين.
الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها.
ﰡ
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾( النساء : ١ ).
تفسير المفردات : الناس : اسم للجنس البشري وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه اسم ( إنسان ) تساءلون به : أي يسأل به بعضكم بعضا بأن يقول سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة والأرحام : أي حق إضاعة الأرحام والرقيب : المراقب وهو المشرف من مكان عال والمرقب : المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه والمراد هنا بالرقيب الحافظ لأن ذلك من لوازمه.
المعنى الجملي : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم من العدم ورباكم وشملكم بالجود والكرم واذكروا أنه خلقكم من نفس واحدة وجعلكم جنسا تقوم مصالحه على التعاون والتآزر وحفظ بعضكم حقوق بعض.
و اتقوا الله الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم وبحقه على العبادة وبماله من السلطان والجبروت وتذكروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرطوا فيها فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين رابطة الإيمان ورابطة الرحم الوشيجة والله رقيب عليكم يعلم ما تأتون وما تذرون ويحاسبكم على النقير والقطمير﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾( الكهف : ٤٩ )
الإيضاح :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ أي أيها الناس احذروا عصيان من رباكم بإحسانه وتفضل عليكم بجوده وإنعامه وجعلكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وأصل واحد.
و جمهرة العلماء على أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدام وهم لم يأخذوا هذا من نص الآية بل أخذوه تسليما وهو أن آدم أبو البشر.
و قال القفال : إن المراد أنه خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجا هو إنسان يساويه في الإنسانية أو أن الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم آل قصي وأن المراد بالنفس الواحدة قصي اه.
و قال بعض العلماء أبهم الله تعالى أمر النفس التي خلق الناس منها فلندعها على إبهامها فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير مخالف لكتابنا كما هو مخالف للتوراة التي نصت صراحة على أن آدم أبو البشر فحمل بعض الناس على الطعن في كونها من عند الله ووحيه.
قال الأستاذ الإمام : إن ظاهر الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم لوجهين :
البحث العلمي والتاريخي المعارض لذلك.
إنه قال رجالا كثيرا ونساء ولم يقل الرجال والنساء ولكن ليس في القرآن ما ينفي هذا الاعتقاد ولا ما يثبته إثباتا قاطعا لا يحتمل التأويل اه.
و ما جاء من مخاطبة الناس بقوله :﴿ يَا بَنِي آدَمَ ﴾( الأعراف : ٢٦ ) لا يعد نصا في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة هذا الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم.
بحث في حقيقة النفس أو الروح :
اختلف المسلمون في حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه وأشهر آرائهم في ذلك : الرأي القائل :
إنها جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف وجد الحس والحركة الإرادية والفكر وغيرها وإذا فسدت هذه الأعضاء وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح.
و مما يثبت ذلك أن العقل والحفظ والتذكر وهي أمور ثابتة قطعا – ليست من صفات هذا الجسد فلا بد لها من منشأ وجودي عبر عنه الأقدمون بالنفس أو الروح.
و ما مثلها إلا مثل الكهرباء فالماديون الذين يقولون لا روح إلا هذه الحياة يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائي فهو بوضعه الخاص وبما يودع فيه من المواد تتولد في الكهرباء فإذا زال شيء مما أودع فيه أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة وبزوالها تزول الحياة والذين يقولون إن للأرواح استقلالا عن الجسد يكون مثل الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتي إليها من المولد الكهربائي فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها وأدواتها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها حتى تؤدي وظيفتها وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء ومن ثم لا تؤدي وظيفتها الخاصة بها.
﴿ و خلق منها زوجها ﴾ أي وخلق لتلك النفس التي هي آدم زوجها منها وهي حواء قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم وقد صرح بهذا في الفصل الثاني من سفر التكوين وورد في بعض الأحاديث فقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
و خلاصة هذا : إنه شعبكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء :
و يرى أبو مسلم الأصفهاني أن معنى ( منها ) أي من جنسها كما جاء مثل هذا في قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ ( الروم : ٢١ ) وقوله :﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ ( التوبة : ١٢٨ )و قوله :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ( آل عمران : ١٦٤ ) فلا فرق بين أسلوب هذه الآية وأساليب الآيات الأخرى والمعنى في الجميع واحد.
و من ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فلا يكون مصدر الإثبات عنده هذه الآية وإالا كان إخراجا لها عما جاء في أمثالها اه
ثم فصل ما أجمله في قوله :﴿ خلقكم من نفس واحدة ﴾ فقال :
﴿ وبث منها رجالا كثيرا ونساء ﴾ أي ونشر من آدم وحواء نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث فجعل النسل من الزوجين كليهما فجميع سلائل البشر متوالدة من زوجين ذكر وأنثى.
﴿ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ﴾أي واتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضا بأن يقول سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة وهو يرجو بذلك إجابة سؤله والمراد من سؤاله بالله سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه أي أسالك بسبب ذلك أن تفعل كذا.
واتقوا إضاعة حق الأرحام فصلوها بالبر والإحسان ولا تقطعوها.
و كرر الأمر بالتقوى للحث عليها وعبر أولا بلفظ ( الرب ) الذي يدل على التربية والإحسان ثم بلفظ ( الله ) الذي يدل على الهيبة والقهر للترغيب أولا والترهيب ثانيا كما قال تعالى :﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾( الأنبياء : ٩٠ ) كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة.
﴿ إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم وتأثيرها في أحوالكم لا يخفى عليه شيء من ذلك فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلا حكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
و في ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص في أعمالنا إذ من كان متذكرا أن الله مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده.
تفسير المفردات : اليتيم لغة : من مات أبوه مطلقا لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ولا تتبدلوا : أي لا تستبدلوا والخبيث : هو الحرام والطيب : هو الحلال حوبا كبيرا : أي إثما عظيما
المعنى الجملي : بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف ليبتعد عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة – شرع يذكر أنواعها وأولها إيتاء اليتامى أموالهم وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى الاقتصار على واحدة ثم وجوب إيتاء الصداق لهن.
الإيضاح :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ المراد بإيتاء الأموال إياهم : جعلها لهم خاصة وعدم أكل شيء منها بالباطل أي أيها الأولياء والأوصياء أحفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه.
﴿ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل الله.
وخلاصة دلك : لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم فإذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم.
﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله و﴿ إلى ﴾ بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما لأن في ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال.
﴿ إنه كان حوبا كبيرا ﴾ أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.
المفردات : القسط : النصيب وقسط : جار قال تعالى :﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ ( الجن : ١٥ ) وأقسط : عدل قال تعالى :﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ( الحجرات : ٩ ) ما طاب لكم : أي ما مال إليه القلب منهن مثنى وثلاث ورباع : أي ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ذلك أدنى ألا تعولوا : أي ذلك أقرب إلى عدم العول والجور صدقاتهن : مهورهن نحلة : أي عطية وهبة هنيئا مريئا : الهنيء ما يستلزه الآكل والمريء : ما تجمل عاقبة كأن يسهل هضمه وتحسن تغذيته.
﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾ أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فإن الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوج بغيرهن واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا وتقول العرب في كلامها اقتسموا ألف درهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة أو أربعة لم يسغ استعمالا.
﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾ أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بيت الزوجتين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك في ذلك فالذي يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.
﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاؤون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن ولكن لهن حق الكفاية في نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس.
﴿ ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾ أي اختيار الواحد أو التسري أقرب كم عدم الجور والظلم.
و الخلاصة : إن البعد من الجور سبب في تشريع الحكم وفي هذا إيماء إلى أن اشتراط العدل ووجوب تحريه وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى :﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ ( النساء : ١٢٩ ).
و العدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية في المسكن والملبس ونحو ذلك أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه لكنه لا يخصها بشيء دونهن إلا برضاهن وإذنهن وكان يقول :" اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك " يريد ميل القلب وقد استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق فهي ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور.
و إن من يرى الفساد الذي يدب في الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا يستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام.
فإنك ترى إحدى الضرتين تغري ولدها بعداوة إخوته وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في الأسرة كلها.
إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنى والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها والعكس بالعكس كما دونت سجلات المحاكم.
فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع.
مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه
الأصل في السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة وذلك منتهى الكمال الذي ينبغي أن يربى عليه الناس ويقنعوا به لكن قد يعرض ما يدعوا إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه ومن ذلك :
أن يتزوج الرجل امرأة عاقر وهو يود أن يكون له ولد فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.
أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم.
أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء ومزاجها بعكس هذا أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين : إما التزوج بثانية وإما الزنى الذي يضيع الدين والمال والصحة ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام.
أن تكثر النساء في الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الر جال فلا وسيلة للمرأة في التكسب في هذه الحال إلا ببيع عفافها ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال في المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر كثير من هتك الأعراض والوقوع في الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات مع أن هذا ضد مصلحة المرأة وهي تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها وهذا ما قالته إحداهن في بعض جرائدهن بإيجار وتلخيص :
لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء وإني لأنظر إليهن وقلبي ينفطر أسى وحزنا عليهن وماذا يفيد بثي وحزني وإن شاركني فيه الناس جميعا لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال وهو كما رأى ( تومس ) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة فأي ظن وحدس يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهم وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن.
و نشرت كاتبة أخرى ( مس إنى رود ) في جريدة أخرى تقول :
لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن في المعامل حيث تلوث البنت بأدران الرذيلة التي تبقى لاصقة بها مدى حياتها.
ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال.
فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو كفيل بسعادتها اه.
و صفوة القول : إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهي أركان سعادة الحياة الزوجية فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجب الله من العدل وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته.
حكمة تعدد الزوجات النبي صلى الله عليه وسلم :
راعى النبي صلى الله عليه وسلم المصلحة في اختيار كل زوجة من زوجاته فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغي أن يعلمنه منهن لا من الرجال ولو كان قد ترك واحدة كان فيها الغناء كما لو ترك التسع.
و قصارى القول : إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما قال لمن اختار ثيبا :" هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك " رواه الشيخان.
﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتي تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغي أن تكون بينكما وآية من آيات المحبة ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك مما يعبر حسن التقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته في الحياة.
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ أي فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم في أخذه.
و من ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فإذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له ألا ترى أن الله تعالى نهى عن أخذ شيء من المرأة في طور المفارقة فقال :﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ ( النساء : ٢٠ ) فالتحذير من أخذه في طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعبء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد ولكن حب المال جعل الرجال يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.
تفسير المفردات : السفهاء واحدهم سفيه : وهو المبذر للمال المنفق له فيما لا ينبغي وأصل السفه الخفة والاضطراب ومنه قيل زمان سفيه : إذا كان كثير الاضطراب وثوب سفيه : رديء النسيج ثم استعمل في نقصان العقل في تدبير المال وهو المراد هنا قياما : أي تقوم بها أمور معايشكم وتمنع عنكم الفقر قال الراغب : القيام والقوام ما يقوم به الشيء ويثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به وارزقوهم : أي وأعطوهم والقول المعروف : ما تطيب به النفوس وتألفه كإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد عليه
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله تعالى في الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم وبإيتاء النساء مهورهن أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معا وهو ألا يكون كل منهما سفيها مع بيان أنهم يرزقون فيها ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تحسن أحوالهم وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد وأنه لا ينبغي الإسراف في أكل أموال اليتامى فمن كان من الأولياء غنيا فليعف عن الأكل من أموالهم ومن كان فقيرا فليأكل بما يبيحه الشرع ويستجيزه أرباب المروءة.
الإيضاح :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ هذا خطاب لمجموع الأمة والنهي شامل لكل مال يعطى لأي سفيه أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله فامنعوا منه لئلا يضيعه واحفظوه له حتى يرشد.
و إنما قال أموالكم ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال مال السفهاء الذين في ولايتهم لينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه فإضاعته مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي فكأن ماله عين ماله وإلى أن الأمة متكافلة في المصالح فمصلحة كل فرد فيها كأنها مصلحة للآخرين.
و معنى جعل الأموال قياما للناس أن بها تقوم وتثبت منافعهم ومرافقهم فمنافعهم الخاصة ومصالحهم العامة لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالهم في أيدي الراشدين المقتصدين منهم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ولا يتجاوزون حدود المصلحة في الإنفاق وفي هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته فإن الأموال إذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين فات ما كان من تلك المنافع قائما ومن ثم وصف الله المؤمنين بقوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ ( الفرقان : ٦٧ ) وقد ورد في السنة النبوية حث كثير على الاقتصاد من ذلك ما رواه أحمد عن ابن مسعود " ما عال من اقتصد " وما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر " الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن العقل نصف العلم ".
و إن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليوم ما نرى من الإسراف والتبذير وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد وما للتبذير من مضار إلى ما للمال في هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة على المال وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد وليس في أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد وجمع المال
ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدى القرآن وراء ظهورنا وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم وبالغوا في التزهيد والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدي مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظة على ما في أيديهم وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب في الآخرة والعمل لها لكنهم زهدوهم في الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروهما معا وما ذاك إلا لجهلهم بهدي الإسلام وهو السعي للدنيا والعمل للآخرة كما ورد في الأثر :" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ".
﴿ وارزقوهم فيها واكسوهم ﴾ الرزق يعم وجوه الإنفاق جميعها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة وإنما خص الكسوة بالذكر لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا وقال :﴿ فيها ﴾ ولم يقل منها إشارة إلى أن الأموال تتخذ مكانا للرزق بالتجارة فيها فتكون النفقات من الأرباح لا من صلب المال حتى لا يأكلها الإنفاق أي أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها أموالكم عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب ونحو ذلك.
﴿ وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ أي فليقل كل ولي للمولى عليه إذا كان صغيرا : المال مالك وما أنا إلا خازن له وإذا كبرت رد إليك وإذا كان سفيها وعظه ونصحه ورغبه في ترك التبذير والإسراف وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد وبذا قد تحسن حاله فربما كان السفه عارضا لا فطريا فبالنصح والإرشاد والتأديب يزول ذلك العارض ويصبح رشيدا
و أين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم في غيهم وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم.
المفردات :
آنستم منهم رشدا : أي أبصرتم منهم حسن التصرف في الأموال الإسراف/ مجاوزة الحد في التصرف في المال والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الشيء يقال بادرت إلى الشيء وبدرت إليه فليستعفف : أي فليعف والعفة : ترك ما لا ينبغي من الشهوات والحسيب : الرقيب.
الإيضاح :
و بعد أن أمر سبحانه بإيتاء اليتامى أموالهم وكان هذا مجملا ذكر كيفية ذلك الإيتاء ووقته فقال :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ابتلاء اليتيم واختباره يكون بإعطاءه شيئا من المال يتصرف فيه فإن أحسن كان راشدا إذ لا معنى للرشد هنا إلا حسن التصرف وإصابة الخير فيه وهو نتيجة صحة العقل وجودة الرأي.
و بلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يستعد فيها المرء للزواج وهو بلوغ الحلم وهو في هذه الحال تتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب أسرة ولا يتم له ذلك إلا بالمال ومن ثم وجب إيتاؤه إياه إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيعه.
و المعنى : أيها الأولياء ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم ويرى أبو حنيفة دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرون سنة وإن لم يرشد.
﴿ ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴾ أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين في الإنفاق منها ولو على اليتيم نفسه ولا مبادرين كبرهم إليها أي ولا مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذونها منكم فأنتم تطلبون أكل هذا المال كما يطلب كبر السن صاحبه فالسابق منكما هو الذي يظفر به فبعض الأولياء الخربى الذمة يستعجلون ببعض التصرفات التي لهم فيها منفعة وليس لليتيم فيها ذلك حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وأخذ ماله.
و لما كانت هاتان الحالان- الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف- من مواطن الضعف التي نعرض للإنسان نهى الله عنهما ونبه الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم فقد تخادع الإنسان نفسه في حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي في المسابقة إلى بعض الأعمال في مال اليتيم ويغشها إذا لم يمكن أن يمارى في ذلك مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته.
أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ فقد ذكر الله حكمه بقوله :
﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾ أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعف عن الأكل من ماله ومن كان فقيرا لا يستغني عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته في تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف وهو ما يبيحه الشرع ولا يستنكره أرباب المروءة ولا يعدونه خيانة وطمعا.
فال ابن جرير : إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولي فليس له أن يأكل منه شيئا ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر وهكذا الحكم في أموال المجانين والمعاتيه.
و قد روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال :" كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله ".
و الحكمة في هذا أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده والخير له في تربية أن يخالط الولي وأهله في المؤاكلة والمعاشرة فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له في ماله كانت المخالطة مصلحة لليتيم وإن كان ينفق فيها شيء من ماله فبقدر حاجته وإن كان فقيرا فهو لا يستغني عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغني الذي في حجرة فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا منفق ماله في مصالحة ومرافقه كان بعمله هذا آكلا بالمعروف.
﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم ﴾ أي فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم فأشهدوا عليهم بقبضها وبراءة ذممكم منها كي لا يكون بينكم نزاع.
وهذا الأشهاد واجب عند الشافعية والمالكية إذ إن تركه يؤدي إلى التخاصم والتقاضي كما هو مشاهد وجعله الحنيفة مندوبا لا واجبا.
﴿ وكفى بالله حسيبا ﴾ أي وكفى الله رقيبا عليكم يحاسبكم على ما تسرون وما تعلنون وقد جاء هذا بعد الأمر بالإشهاد ليرشدنا إلى أن الإشهاد وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله إذا كان الولي خائنا فإن الله لا يخفى على الشهود والحكام.
و على الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموال اليتامى بضروب من الصيانة والحفظ فأمر باختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه ونهى عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره وأمر بالإشهاد عليه عند الدفع ونبه إلى مراقبة الله تعالى في جميع التصرفات الخاصة به.
تفسير المفردات : مفروضا : أي محتوما لا بد لهم أن يأخذوه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ومنع أكل مهور النساء أو تزويجهن بغير مهر
ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى لأن اليتيم مرهف الحس يألم للكلمة تهينه ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة وبعدئذ شدد في الوعيد ونفر من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار وقد روى في سبب نزول الآية :" أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيح ( مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفة ) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه وقد ترك أبوهن مالا حسنا عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوا نكسب عليها ولا تكسب فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله :" ألا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين " فنزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ الخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبني العم.
الإيضاح :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدين والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ﴾ أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء لا فرق بين الرجال والنساء ولا فرق بين كونه كثيرا وقليلا وأتى بقوله نصيبا مفروضا لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابي فيه
ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى لأن اليتيم مرهف الحس يألم للكلمة تهينه ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة وبعدئذ شدد في الوعيد ونفر من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار وقد روى في سبب نزول الآية :" أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيح ( مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفة ) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه وقد ترك أبوهن مالا حسنا عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوا نكسب عليها ولا تكسب فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله :" ألا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين " فنزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ الخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبني العم.
﴿ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ﴾
المراد بذوي القربى من لا يرث منهم كالأخ لأب مع الشقيق والعم مع الأب
أي إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين فانفحوهم بشيء من الرزق الذي جاءكم من غير كد ولا نصب فلا ينبغي أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوي القربى واليتامى والمساكين وتتركوهم يذهبون منكسري القلب مضطربي النفس وقولوا لهم قولا تطيب به نفوسهم عندما يعطون حتى لا يثقل على أبي النفس منهم ما يأخذ ويرضي الطامع في أكثر مما أخذ بما أخذ بالتودد والتلطف في القول وعدم التغليظ فيه.
و السر في إعطائهم شيئا من التركة أنه ربما يسري الحسد إلى نفوسهم فينبغي التودد إليهم واستمالتهم بإعطائهم قدرا من هذا المال هبة أو هدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة ليكون في هذا صلة للرحم وشكرا للنعمة.
قال سعيد بن جبير : هذا الأمر ( أمر الإعطاء ) للوجوب وقد هجره الناس كما هجروا العمل بالاستئذان عند دخول البيوت.
و قال الحسن والنخعي : إن ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة وأما الأرضوان والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئا بل يكتفى حينئذ بقول المعروف أو بإطعام الطعام.
ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى لأن اليتيم مرهف الحس يألم للكلمة تهينه ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة وبعدئذ شدد في الوعيد ونفر من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار وقد روى في سبب نزول الآية :" أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيح ( مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفة ) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه وقد ترك أبوهن مالا حسنا عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوا نكسب عليها ولا تكسب فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله :" ألا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين " فنزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ الخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبني العم.
تفسير المفردات :
الخشية : الخوف في محل الأمن والسديد : العدل والصواب والسداد ( بالكسر ) ما يسد به الشيء كالثغر ( موضع الخوف من العدو ) والقارورة وورد قولهم : فيها سداد عن عوز بكسر السين : أي فيها الغناء والكفاية
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفكم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ﴾
لا يزال الكلام مع الأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى والقول السديد منهم أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي ونحو ذلك وقوله تركوا أي قاربوا أن يتركوا وقوله من خلفهم : أي من بعد موتهم وقوله خافوا عليهم أي الإهمال والضياع.
ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى لأن اليتيم مرهف الحس يألم للكلمة تهينه ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة وبعدئذ شدد في الوعيد ونفر من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار وقد روى في سبب نزول الآية :" أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيح ( مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفة ) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه وقد ترك أبوهن مالا حسنا عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوا نكسب عليها ولا تكسب فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله :" ألا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين " فنزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ الخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبني العم.
تفسير المفردات :
وصلى اللحم صليا شواه فإذا أراد إحراقه يقال أصلاه إصلاء وصلاه تصلية وصلى يده بالنار : أدفأها واصطلى : استدفأ والسعير : النار المستعرة المشتعلة يقال سعرت النار وسعرتها.
الإيضاح :
﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾ ظلما أي على سبيل الظلم وهضم الحقوق ولا أكلا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك أو تقديرا لأجرة العمل وقوله في بطونهم : أي ملء بطونهم وقوله نارا : أي ما هو سبب لعذاب النار.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم الميراث مجملا في قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ذكر هنا تفصيلا ذلك المجمل فبين أحكام المواريث وفرائضها لإبطال ما كان عليه العرب من نظام التوارث في الجاهلية من منع الأنثى وصغار الأولاد وتوريث بعض من حرمه الإسلام من الميراث.
و قد كانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثة :
( ١ ) النسب : وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شيء.
( ٢ ) التبني : فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد في الميراث وغيره.
( ٣ ) الحلف والعهد : فقد كان الرجل يقول لآخر دمي دمك وهدمي هدمك ( أي إذا أهدر دمي أهدر دمك ) وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت.
فلما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾ ( النساء : ٣٣ )و المراد به التوارث بالنسب وقال :
﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ ( النساء : ٣٣ ) والمراد به التوارث بالعهد. وقال :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ﴾ ( الأحزاب : ٤ ) والمراد به التوارث بالتبني.
وزاد شيئين آخرين :
الهجرة : فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وود ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.
المؤاخاة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين من الرجال وكان دلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله :﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ﴾( الأنفال : ٧٥ ).
ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة : النسب والنكاح والولاء.
و سبب نزول الآية ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ الآية فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال : أعط بنتي سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقي فهو لك " قالوا هذه أول تركة قسمت في الإسلام.
الإيضاح :﴿ يوصيكم الله ﴾ الوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل كما تقول أوصيت المعلم أن يراقب آداب الصبي ويؤدبه على ما يسيء فيه وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه به فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم.
﴿ في أولادكم ﴾ أي في شأن أولادكم من بعدكم أو في ميراثهم ما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء كانوا ذكورا أو إناثا كبارا أو صغارا ولا خلاف في أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده أو عدم إرثه لمانع كقتل مورثه قال :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا واختير هذا التعبير ولم يقل للأنثى نصف حظ الذكر إيماء إلى أن إرث الأنثى كأنه مقرر معروف وللذكر مثله مرتين وإشارة إلى إبطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من منع توريث النساء.
و الحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فجعل له سهمان وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها فحسب فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.
و يدخل في عموم الأولاد :
( ١ ) الكافر لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانع من الإرث قال عليه الصلاة والسلام/ " لا يتوارث أهل ملتين ".
( ٢ ) القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع.
( ٣ ) الرقيق وقد ثبت منعه بالإجماع لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال فهو ملك لسيده ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئا كنا معطين ذلك للسيد يكون هو الوارث بالفعل.
( ٤ ) الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم فقد استثنى بحديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ".
﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ أي فإن كانت المولودات نساء ليس معهن ذكر زائدات على اثنتين مهما بلغ عددهن فلهن ثلثا ما ترك والدهن المتوفى أو والدتهم.
﴿ وإن كانت واحدة فلها النصف ﴾ أي وإن كانت المولودة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف مما ترك والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث
و خلاصة ذلك : إنه إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا كان للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف وإن كن ثلاثا فصاعدا كان لهن الثلثان ولم يذكر حكم الثنتين ومن ثم اختلفوا فيهما فروي عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة والجمهور على أن لهما الثلثين كالعدد الكثير.
وقد علم من ذلك أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة والولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة وإذا كان معه أخ فأكثر قسمة التركة بينهما او بينهم بالمساواة.
﴿ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ﴾ أي ولكل من أبوي الميت السدس مما ترك الولد على السواء في هذه الفريضة أن كان لهذا الميت ولد فأكثر والباقي بعد هذا الثلث بقسمة الأولاد بحسب التفضيل المتقدم.
﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ﴾ أي فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما.
و السر في التساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء وفي أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد أنهما يكونان في الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد إما لكبرهما وإما لتمولهما وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء وأما الأولاد فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقات كثيرة في الحياة كالزواج وتربية الأطفال ونحو ذلك.
﴿ فإن كان له إخوة فلأمه السدس ﴾ أي فإن كان للميت مع أرث أبويه له إخوة فلأمه السدس مما ترك سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو أحدهما فكل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس وحكم الأخوين أو الأختين حكم الإخوة عند أكثر الصحابة وخالف في ذلك ابن عباس فقد أثر عنه أنه قال لعثمان : بم صار الأخوين يردان الأم من الثلث إلى السدس وإنما قال تعالى :﴿ فإن كان له إخوة ﴾ والأخوين في لسان قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا استطيع أن أرد قضاء قضي به من قبلي ومضى في الأمصار ( يريد عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أقاموا الاثنين مقام الجماعة في اعتبار الشرع لا في اعتبار اللغة ).
و الخلاصة : إن الآية ذكرت حكم الأبوين مع الولد وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر وحكمهما مع الإخوة ولم يبق إلا حكمهما مع أحد الزوجين وجمهور الصحابة على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا والربع إن كان أنثى والباقي للأبوين ثلثه للأم وباقية للأب وقال ابن عباس يأخذ الزوج نصيبه وتأخذ الأم ثلث التركة كلها ويأخذ الأب ما بقي وقال لا أجد في كتاب الله ثلث الباقي.
و من هذا تعلم أن حقوق الزوجية في الإرث مقدمة على حقوق الوالدين إذ إنهما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج خصته وسر هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة ذاك أنهما يعيشان مجتمعين وجود كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف شخصه وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأول فإذا لم يجد الرجل إلا رغيفين سد رمقه بأحدهما ووجب عليه أن يعطي الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه.
﴿ من بعد وصية يوصى بها أو دين ﴾ أي يوصيكم بأن لأولاد من يموت منكم كذا من التزكة ولأبويه كذا منها من بعد وصية يقع الإيصاء بها من الميت ويتحقق نسبتها إليه ومن قضاء دين يتركه عليه.
و قدمت الوصية على الدين في الذكر مع أن الدين مقدم عليها وفاء كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة لا تؤخذ كالميراث بلا عوض فتشق على الورثة.
وجاء عطف الدين على الوصية بأو دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان في الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين أو منفردين.
ثم أتى بجملة معترضة للتنبيه إلى جهل المرء بعواقب الأمور فقال :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ﴾ أي إنكم لا تدرون أي الفريقين أقرب لكم نفعا آباؤكم أو أبناؤكم فلا تتبعوا في قسمة التركات ما كان يتعارفه أهل الجاهلية في إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء بل اتبعوا ما أمركم الله به فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به في الدنيا مصالحكم وتعظم به في الآخرة أجوركم.
﴿ فريضة من الله ﴾ أي فرض الله ما ذكر من الأحكام فريضة لا هواده في وجوب العمل بها.
﴿ إن الله كان عليما حكيما ﴾ أي إنه تعالى لعلمه بشؤونكم ولحكمته العظيمة لا يشرع لكم إلا ما فيه المنفعة لكم إذ لا تخفى عليه خافية من وجوه المصالح والمنافع – إلى أنه منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما ان يمنعا من وضع الشيء في غير موضعه ومن إعطاء الحق لمن يستحقه.
و قد كانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثة :
( ١ ) النسب : وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شيء.
( ٢ ) التبني : فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد في الميراث وغيره.
( ٣ ) الحلف والعهد : فقد كان الرجل يقول لآخر دمي دمك وهدمي هدمك ( أي إذا أهدر دمي أهدر دمك ) وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت.
فلما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾ ( النساء : ٣٣ )و المراد به التوارث بالنسب وقال :
﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ ( النساء : ٣٣ ) والمراد به التوارث بالعهد. وقال :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ﴾ ( الأحزاب : ٤ ) والمراد به التوارث بالتبني.
وزاد شيئين آخرين :
الهجرة : فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وود ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.
المؤاخاة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين من الرجال وكان دلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله :﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ﴾( الأنفال : ٧٥ ).
ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة : النسب والنكاح والولاء.
و سبب نزول الآية ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ الآية فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال : أعط بنتي سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقي فهو لك " قالوا هذه أول تركة قسمت في الإسلام.
بعد أن بين سبحانه فرائض الأولاد والوالدين وقدم الأهم منهما من حيث حاجته إلى المال المتروك وهم الأولاد- ذكر هنا فرائض الزوجين فقال :
﴿ و لكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يمن لهن ولد ﴾ أي ولكم نصف ما تركته الزوجات من المال إن لم يكن لهن ولد سواء أكان منكم أم من غيركم وسواء أكان ذكرا أو أنثى وسواء أكان واحدا أم أكثر وسواء أكان من بطنها مباشرة أو صلب بنيها أو بني بنيها وباقي التركة لأولادها ووالديها على ما بينه الله في الآية السالفة : ولا يشترط في الزوجة أن يكون مدخولا بها بل يكفي مجرد العقد.
﴿ فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ﴾ والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوي الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.
﴿ من بعد وصية يوصين بها أو دين ﴾أي لكم ذلك في تركتهن في الحالين السابقين بعد نفاذ الوصية ووفاء الديون إذ لا يأخذ الوارث شيئا إلا ما يفضل عنهما إذا وجدا أو وجد أحدهما.
﴿ ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ﴾ بحسب التفضيل السابق في أولادهن فإن كانت واحدة فلها هذا الربع وحدها وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه على طريق التساوي والباقي يكون لمن يستحقه من ذوي القربى وأولى الأرحام.
﴿ فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ﴾ والباقي لأولادكم ووالديكم كما تقدم.
﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ بالطريق التي علمتها فيما سلف وبهذا تعلم أن فرض الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما في النسب ولم يعط الله تعالى للزوجات في الميراث إلا مثل ما أعطى للزوج الواحدة لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغي أن نسير عليه في الزوجية أن تكون للرجل امرأة واحدة وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة فلم يراعها الشارع في الأحكام إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل والنادر لا حكم له.
و بعد أن بين سبحانه حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يتصل به بالواسطة وهو الكلالة فقال :
﴿ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت ﴾ الكلالة لغة : الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس وسمي من عدا الوالد والولد بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه أما قرابة الولادة ففيها يتفرع بعض من بعض كالشيء الذي يتزايد على نسق واحد.
أي إن كان الميت رجلا أو امرأة موروثا كلالة أي ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت من أم لأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمها في آخر السورة :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ﴾ ( النساء : ١٧٦ ) إلخ.
﴿ فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾ أي إن الأخ لأم يأخذ في الكلالة السدس وكذلك الأخت لا فارق بين الذكر والأنثى لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها فإذا تعددوا أخذوا الثلث وكانوا أيضا سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.
﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار ﴾ أي من بعد وصية يوصي بها أو دين يقربه وهو غير مضار للورثة.
قال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص وقبض أبو بكر وقد وصى فإن وصى الإنسان فحسن وإن لم يوص فحسن أيضا ومن الحسن أن ينظر الإنسان في قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصية بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب ماله وبحسب حاجتهم بعده كثرة وقلة وقد روي عن علي أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع ولأن أوصى بالربع أحب إلى من ان أوصي بالثلث والضرر في الوصية والدين يقع على وجوه :
أن يوصي بأكثر من الثلث وهو لا يصح لا ينفذ وعن ابن عباس أن الضرار فيها من الكبائر.
أن يوصي بالثلث فما دونه لا لغرض من القربة والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة.
أن يقر بدين لأجنبي يستغرق المال كله أو بعضه ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة وكثيرا ما يفعله المبغضون للوارثين ولاسيما إذا كانوا كلالة ومن ثم جاء ذكر هذا القيد ( غير مضار )في وصية ميراث الكلالة لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر.
أن يقر بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه.
﴿ وصية من الله ﴾ أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل فهي جديرة أن يعتني بها ويذعن للعمل بموجبها.
﴿ والله عليم حليم ﴾ أي والله عليم بما ينفعكم وبنيات الموصين منكم حليم لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتربوا كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه فتضاروه في الوصية كما لا يرضى لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث.
و في هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا قمن الواجب أن نذعن لوصاياه وفرائضه ونعمل بما ينزل علينا من هدايته كما لا ينبغي أن يغر الطامع في الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل فيظن أنهم بمنجاة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه الاعتداء فإنه إمهال يقتضيه الحلم لا إهمال من العجز وعدم العلم.
الإيضاح :﴿ تلك حدود الله ﴾ حدود الشيء : أطرافه التي يمتاز بها من غيره ومنه حدود الدار سميت بها الشرائع التي أمر الله بإتباعها ونهى عن تركها فمدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود ومدار العصيان على اعتدائها والمشار إليه كل ما ذكر من أول السورة إلى هنا من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث.
﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ﴾
طاعة الله : هي ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة الرسول : هي إتباع ما جاء به من الدين عن ربه فطاعته هي بعينها طاعة الله كما قال في هذه السورة ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله بما فيه منافع لنا في الدنيا والآخرة وإنما ذكرها مع طاعة الله للإشارة إلى أن الإنسان لا يستغني بعقله وعلمه عن الوحي وإنه لا بد من له من هداية الدين إذ لم يكن العقل وحده في عصر من العصور كافيا لهداية أمة ولا مرقيا لها بدون معونة الدين فاتباع الرسل والعمل بهديهم هو أساس كل مدينة والارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي فالآداب والفضائل التي هي أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين ولا يكفي فيها بناؤها على العلم والعقل والجنات التي تجري من تحتها الأنهار تقدم تفسيرها ونحن نؤمن ونعتقد أنها أرفع مما نرى في هذه الدنيا وليس لنا ان نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب والفوز العظيم : الظفر والفلاح الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة والمنغصة بالأكدار.
غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي فهو يقع في الذنب وقلبه غائب عن الوعيد لا يتذكره أو يتذكره ضعيفا كأنه نور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب ثم لا يلبث أن يزول أو يختفي حتى إذا سكنت الشهوة أو سكت الغضب وتذكر النهي والوعيد ندم وتاب ولام نفسه أشد اللوم ومثل هذا جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى في أوصافهم ﴿ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ( آل عمران : ١٣٥ ).
أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا فعله عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه ومثل هذا قد أحاطت به خطيئته فآثر شهوته على طاعة الله ورسوله فدخل في عموم قوله تعالى :﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ( البقرة : ٨١ ).
إذ من يصر على المعصية عامدا عالما بالنهي والوعيد لا يكون مؤمنا بصدق الرسول ولا مذعنا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه والعذاب والنكال بتعدي حدوده فالإصرار على العصيان وعدم استشعار الخوف والندم لا يجتمعان في قلب المؤمن الإيمان الصحيح المصدق بوعد الله ووعيده.
﴿ وله عذاب مهين ﴾ المهين المذل له وهو عذاب الروح فللعصاة عذابان : عذاب جسماني للبدن العاصي باعتباره حيوانا يتألم وعذاب روحاني باعتباره إنسانا يشعر بالكرامة والشرف ويتألم بالإهانة والخزي.
المعنى الجملي : بعد أن أوصى سبحانه بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالمعروف والمحافظة على أموالهم وعدم أخذ شيء منها إلا إذا طابت نفسهن بذلك – ذكر هنا التشديد عليهن فيما يأتينه من الفاحشة وهو في الحقيقة إحسان إليهن إذ الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب وأخرى بالزجر والعقاب لكف العاصي عن العصيان الذي يوقعه في الدمار والبوار ومبنى الشرائع على العدل والإنصاف والابتعاد عن طرفي الإفراط والتفريط.
ومن أقبح العصيان الزنى ولاسيما من النساء لأن الفتنة بهن أكثر والضرر منهن أخطر لما يفضي إليه من توريث أولاد الزنى وانتسابهم إلى غير آبائهم.
الإيضاح :﴿ اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها إذا فعلها قال تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ ( مريم : ٢٧ ) وفي التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيق وهو أن الفاعل لها ذهب إليها بنفسه واختارها بطبعه والفاحشة الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنى لزيادتها في القبح على كثير من القبائح وقوله من من نسائكم أي من المؤمنات.
﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ أي اطلبوا شهادة أربعة رجال أحرار منكم قال الزهري :" مضت السنة من رسول الله والخليفتين بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود " والحكمة قي هذا : إبعاد النساء عن مواقع الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة في أن يكن دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن فيها ولا يخضن مع أربابها.
و الخطاب للمسلمين جميعا لأنهم متكافلون في أمورهم العامة كما تقدم مرارا فهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود.
﴿ فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾ التوفي الاستيفاء وهو القبض تقول توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته والسبيل الطريق للخروج من الحبس بما يشرعه الله من العقوبة لهن.
و المعنى فإن شهد الأربعة بفعلها فاحبسوهن في بيوتهم وامنعوهن الخروج منها عقوبة لهن حتى لا يعدن إلى ارتكابها مرة أخرى إلى أن يمتن ويقبض أرواحهن الموت أو يجعل الله لهن طريقا بما يشرعه من حد الزنى.
و في الآية إشارة إلى أن منع النساء عن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو لمجرد الهوى والتحكم من الرجال لا يجوز وكذلك فيها إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ومن هذا تعلم أن السبيل كان مجملا فبينه الحديث وخصص عموم آية الجلد في سورة النور ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ ( النور : ٢ ).
ومن أقبح العصيان الزنى ولاسيما من النساء لأن الفتنة بهن أكثر والضرر منهن أخطر لما يفضي إليه من توريث أولاد الزنى وانتسابهم إلى غير آبائهم.
ثم بين عقاب كل من الزانيين فقال :
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾ أي والزاني والزانية اللذان يرتكبان جريمة الزنى آذوهما بالتأنيب والتوبيخ بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال.
و هذا العقاب كان أول الإسلام من قبيل التعزير وأمره مفوض إلى الآمة في كيفيته ومقداره فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها وجاء الحديث الشريف السابق بينا مقدار هذا الإيذاء وحدداه وبهما استبيان أن عقاب الثيب والرجل المتزوج الرجم بالحجارة حتى يموتا وعقاب البكر والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة ونفيه سنة.
ثم بين لأن هدا العقاب غنما يكون إذا لم يتوبا وأصلحا رفع عنهما ذلك فقال :
﴿ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ﴾أي فإن رجعا عن الفاحشة وندما على ما فات وأصلحا عملهما وغيرا أحوالهما كما هو شأن المؤمن يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة ويزكيها من أردان المعاصي التي فرطت منه ويقوي داعية الخير حتى تغلب داعية الشر فكفروا عن أذاهما بالقول والفعل ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله :
﴿ إن الله كان توابا رحيما ﴾ التواب الذي يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه والرحيم واسع الرحمة والجملة جاءت تعليلا للأمر بالإعراض والخطاب هنا لأولي الأمر والحكام.
م١٥
المعنى الجملي : لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده –ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته في تعجيلها حتى لا يأتي الموت وهو مصر على الذنب فلا تنفعه التوبة وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم فأمر هنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبي الفواحش في الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح في العمل.
الإيضاح :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ السوء : هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان سليم الفطرة وهذا شامل للصغائر والكبائر والجهالة : الجهل وتغلب السفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب حتى يذهب عنها الحلم وتنسى الحق وكل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ( يوسف : ٣٣ ) وقال تعالى لنوح :﴿ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ( هود : ٤٦ ).
و سر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد ومنتظرا لاحتمال العفو والمغفرة أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقاب.
و الزمن القريب : هو الوقت الذي تسكن به ثورة الشهوة أو تنكسر به حدة الغضب ويثوب فاعل السيئة إلى حلمه ويرجع إليه دينه وعقله إذ من كان قوي الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضب أو شهوة هفوة بعد هفوة ثم لا يلبث أن يبادر إلى التوبة ومن ثم ذكر الله السوء بلفظ الإفراد هنا وقال فيمن لا تقبل توبتهم ﴿ يعملون السيئات ﴾ إشعارا بأن التوبة إنما تقبل ممن تقع منهم الذنوب آحادا ويلمون بها إلماما ولكنهم لا يصرون عليها بل يبادرون إلى التوبة منها فلا تتمكن من أنفسهم ظلمة المعصية ولا تحيط بهم الخطيئة.
وما رواه أحمد عن ابن عمر في قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " فالمراد منه أنه لا ينبغي لأحد أن يقنط من رحمة الله وييأس من قبول التوبة ما دام حيا وليس معناه أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة فإن هذا مخالف لهدي الدين في مثل قوله :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ ( طه : ٨٢ ) ولمثل قوله :﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ﴾ ( غافر : ٧ ).
و قد قسموا التوابين طبقات :
( ١ ) من هو سليم الفطرة عظيم الاستعداد للخير فهو إذا وقع في خطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة فيندم بعدها ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة.
( ٢ ) من تكون داعية الشهوة أقوى في نفسه وأرسخ في قلبه فإذا أطاع نفسه وارتكب معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربه وتوبخه حتى تنتصر عليه وتقهره قهرا تاما فلا يعود بعدها إلى اجتراح إثم ولا وقوع في ذنب.
( ٣ ) من تقوى نفسه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم والفواحش لا على صغار الذنوب والآثام وهناك تكون الحرب في نفوسهم سجالا بين ما يلمون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هي جند الإيمان.
( ٤ ) من يقع في الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا وهؤلاء أدنى طبقات التوابين والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية وهم في ذلك محل للرجاء لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله عقب كل خطيئة وهكذا تكون الحرب سجالا بينهم وبين أنفسهم فإما أن تنتصر دواعي الخير فتصح توبتهم وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة فتحيط بهم خطيئتهم ويكونوا من المصرين الهالكين.
و خلاصة المعنى : إن التوبة التي أوجب الله على نفسه قبولها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ليست إلا لمن يجترح السيئة بجهالة تلابس نفسه من سورة الغضب أو تغلب شهوة ثم لا يلبت أن يندم على ما فرط منه وينيب إلى ربه ويتوب ويقلع عن ذنبه.
﴿ فأولئك يتوب الله عليهم ﴾ أي فأولئك الذين فعلوا الذنوب بجهالة وتابوا بعد قريب من الزمن يتوب الله عليهم لان الذنوب لم ترسخ في نفوسهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ وبهذا العلم بشؤون عباده ومعرفة مصالحهم جعل التوبة مقبولة حتما لأنه يعلم ضعف عباده وأنهم لا يسلمون عن عمل السوء فلو لم يشرع لهم التوبة لهلكوا باسترسالهم في المعاصي والسيئات وتعمد إتباع الهوى وخطوات الشيطان لعلمهم أنهم هالكون لا محالة فلا فائدة من جهاد النفس وتزكيتها.
أما وقد شرع الله بحكمته قبول التوبة فقد فتح لهم باب الفضيلة وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة لمنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركات اللسان بالاستغفار والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار مع الإصرار على الذنوب والأوزار ومن ثم جمع الله في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.
وقد فعلت الأمم السالفة مثل هذا فاستثقلت التكاليف وفسقت عن أمر ربها واتبعت هواها وجعلت حظها من الدين مجموع حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا ولا تمنع النفس من التمتع بشهواتها وقد اتبع كثير من المسلمين سنن من قبلهم وحذوا حذوهم شبرا بشبرو ذراعا بذراع.
المعنى الجملي : لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده –ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته في تعجيلها حتى لا يأتي الموت وهو مصر على الذنب فلا تنفعه التوبة وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم فأمر هنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبي الفواحش في الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح في العمل.
و بعد أن بين حال من تقبل توبتهم ذكر حال أضدادهم الذين لا تقبل منهم التوبة فقال :
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ أي أن سنة الله قد مضت بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور الموت وصدور ذلك القول منهم لأن هؤلاء قد أحاطت بهم خطيئاتهم ولم تدع للأعمال الصالحة مكانا في نفوسهم فهم أصروا عليها إلى أن حضرهم الموت ويئسوا من الحياة التي يتمتعون بها وحينئذ يقول أحدهم : إني تبت الآن وما هو من التائبين بل من المدعين الكاذبين.
و الخلاصة : إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما فأمرهم مفوض إلى الله تعالى وهو العليم بحالهم وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم – المراد منه حصول التوبة النصوح بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت.
﴿ ولا الذين يموتون وهم كفار ﴾ أي لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء وقد سوى الله بين الذين سوفوا توبتهم إلى ان حضر الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أن توبتهم لا تقبل فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين كذلك المسوف إلى حضرة الموت فكل منهما جاوز الحد المضروب للتوبة إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختبار.
﴿ أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ أعتدنا هيأنا وأعددنا والأليم المؤلم الموجع : أي هذان الفريقان اللذان استعبدهما سلطان الشهوة وخرجا على سنة الفطرة وهداية الشريعة أعددنا لهم العذاب الموجع في الدار الآخرة وجزاء وفاقا لما اكتسبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى الممات إذ إنهم أفسدوا قلوبهم ودسوا نفوسهم فصارت تهبط بهم خطاياهم إلى الدرك الأسفل من الهوان وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامة والرضوان.
تفسير المفردات : العضل : التضييق والشدة ومنه الداء العضال الشديد الذي لا نجاة منه والفاحشة : الفعلة الشنيعة الشديدة القبح والمبينة : الظاهرة الفاضحة والمعروف : ما تألفه الطباع ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامى وأموالهم أعقبه بالنهي عن الاستنان بسنتهم في النساء وأموالهن وقد كانوا يحتقرون النساء ويعدونهن من قيبل المتاع حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله فحرم الله عليهم هذا العمل روى البخاري وأبو داود أنه كان إذا مات الرحل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : جاءت كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تحت إبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ( ضيق ) ابنه وقالت له : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ﴾ أي لا يحل لكم أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أن تسيروا على سنة الجاهلية في هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعبيد وتتصرفوا فيهن كما تشاؤون وهن كارهات لذلك فان شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه وإن شاء زوجها غيره وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج.
﴿ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن ﴾ أي لا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهم ومضارتهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم بالمال من ميراث وصداق ونحو ذلك فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنا ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدي بما كانت ورثت من قريب الوارث أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو كل هذا وربما كلفوها الزيادة إم علموا أنها تستطيعها.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.
﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ أي لا تعضلوهن في أي حال إلا في حال التي يأتين فيها بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة، فإذا نشزن عن طاعتكم وساءت عشرتهم ولم ينفع معهن التأديب أو تبين ارتكابهن للزنى أو السرقة أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال، لأن الفحش قد أتى من جانبها، وإنما اشترط في الفاحشة أن تكون مبينة : أي ظاهرة فاضحة لصاحبها لأنه ربما ظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة الصغيرة أو بمجرد سوء الظن والتهمة، فمن الرجال الغيور السيء الظن الذي يؤاخذ بأتفه الأمور ويعده عظيما، وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة، لأنها ربما كرهته ومالت إلى غيره فتؤذيه بفاحش القول أو الفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان أعطاها وتتزوج غيره وتتمتع بمال الأول وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول فإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هن أهنهم فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل أنواع الكسب.
﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾ أي وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهن بما تألفه طباعهن ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا تضيقوا عليهن في النفقة ولا تؤذوهن بقول ولا فعل ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين.
و في كلمة ( المعاشرة ) معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك فيجب أن يكون كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وسبب هناءته وسعادته في معيشته ومنزله :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً { ( الروم : ٢١ ).
﴿ فأن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ أي فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو دمامة في خلقهن مما ليس لهن فيه كسب أو لتقصير في العمل الواجب عليهن كخدمة البيت والقيام بشؤونه مما لا يخلو عن مثله النساء في أعمالهن أو لميل منكم إلى غيرهن فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأوفى إلى الخير ومن ذلك :
الأولاد النجباء فرب امرأة يملها زوجها ويود فراقها ثم يجيئه منها من تقر به عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك.
أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون من أعظم أسباب سعادته وسروره في انتظام معيشته وحسن خدمته ولاسيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز فتكون خير سلوى وعون في هذه الأحوال فيجب على الرجل أن يتذكر أنه قلما يخلو عيب تصبر عليه امرأته في الحال والاستقبال.
وقد جاء قوله :﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾( البقرة : ٢١٦ ) في سياق حديث النساء دستورا إذا نحن اتبعناه كان له الأثر الصالح في جميع أعمالنا وهدانا إلى الرشد في جميع شؤوننا فكثير مما يكرهه الإنسان يكون له في الخير ومتى جاء ذلك الخير ظهرت فائدة ذلك الشيء المكروه والتجارب أصدق شاهد على ذلك فالقتال لأجل حماية الحق والدفاع عنه يكرهه الطبع لما فيه من المشقة لكن فيه إظهار الحق ونصره ورفعة أهله وخذلان الباطل وحزبه إلى أن الصبر على احتمال المكروه يمرن النفس على احتمال الأذى ويعودها تحمل المشاق في جسيم الأمور.
و الخلاصة : إن الإسلام وصى أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج رجاء ان يكون فيهن خير ولا يبيح عضلهن وافتداءهن أنفسهن بالمال إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا في مهانة الرجل واحتقاره أو إذا خافا ألا يقيما حدود الله وفيما عدا ذلك يجب عليه إذا أراد فراقها أن يعطيها جميع حقوقها وهذا ما أشار إليه بقوله :
تفسير المفردات :
و البهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا والإثم : الحرام
الإيضاح :
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ﴾ أي وإذا رغبتم أيها الأزواج في استبدال زوج جديدة مكان زوج سابقة كرهتموها لعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها وهي لم تأت بفاحشة مبينة وقد كنتم أتيتموها المال الكثير مقبوضا أو ملتزما دفعه إليها فصار دينا في ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا بل عليكم أن تدفعوه لها لأنكم إنما استبدلتم غيرها بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذنب ولا جريرة تبيح أخذ شيء منها فبأي حق تستحلون ذلك وهي لم تطلب فراقكم ولم يسئ إليكم لتحملكم على طلاقها ؟ وإرادة الاستبدال ليست شرطا في عدم حل أخذ شيء من مالها إذا هو كره عشرتها وأراد الطلاق لكنه ذكر لأنه هو الغالب في مثل هذا الحال ألا ترى انه لو طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها لأنه اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء وحاجتهم الكثيرة فإنه لا يحل له أخذ شيء من مالها.
ثم أنكر عليهم هذا الفعل ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال :
﴿ أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ﴾ أي أتأخذونه باهتين آثمين وقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها.
تفسير المفردات :
أفضى : أي وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما شيء واحد والميثاق الغليظ : العهد المؤكد الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه.
الإيضاح :
و زاده إنكارا آخر مبالغة في التنفير من ذلك فقال :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ أي إن حال هؤلاء الذين يستحلون أخذ مهور النساء إذا أرادوا مفارقتهن بالطلاق لا لذنب جنينه ولا لإثم اجترحنه من الإتيان بفاحشة مبينة أو عدم إقامة حدود الله وإنما هو الرأي والهوى وكراهة معاشرتهن – عجيب أيما عجب فكيف يستسيغون أخذ ذلك منهن بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوي بين البسر ولابس كل منهما إلى الآخر حتى صار احدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع في مالها وهي المظلومة الضعيفة وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى الله إليها البشر.
﴿ وأخذن منكم ميثاقا غليظا ﴾ قال قتادة : هذا الميثاق هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ ( البقرة : ٢٢٩ )و قال الأستاذ الأمام : إن هذا الميثاق لا بد أن يكون مناسبا للإفضاء في أن كلا منهما شأن من شؤون الفطرة السليمة وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة :{ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً { ( الروم : ٢١ ) فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليها المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء وتسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة أقوى مما يكون بين ذوي القربى ثقة منها بأن صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة.
هذه الثقة وذلك الشعور الفطري الذي أودع في المرأة وجعلها تحس بصلة لم تعهد من قبل لا تجد مثلها لدى أحد من الأهل وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءها سعادة في الحياة هذا هو المركوز في أعماق النفوس وهذا هو الميثاق الغليظ فما قيمة من لا يفي بهذا الميثاق وما مكانته من الإنسانية ؟ اه بتصرف.
و قد استدلوا بذكر القنطار على جواز التغالي في المهور وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت أما سمعت الله يقول :﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا ﴾ ( النساء : ٢٠ ) فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله فله ما أحب.
هذا وإن الشريعة لم تحدد مقدر الصداق بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فكل يعطي بحسب حاله ولكن جاء في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعدم التغالي فيه فمن ذلك ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة :" إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها ".
و إن التغالي في المهور الآن قد صار من أسباب قلة الزواج وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنى والفساد والغبن أخيرا على النساء أكثر وإنك لترى هذه العادة متمكنة لدى بعض الناس حتى إن ولي المرأة ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خير منه إذا كان لا يعطيه ما يراه محققا لأغراضه وهكذا تتحكم التقاليد والعادات حتى تفسد على الناي سعادتهم وتفوض نظم بيوتهم وهم لها منقادون بلا تفكير في العواقب.
تفسير المفردات : سلف : أي مضى فاحشة : أي شديد القبح مقتا : أي ممقوتا مبغوضا عند دوي الطباع السليمة ومن ثم كانوا يسمونه نكاح المقت ويسمى الولد منه مقيتا : أي مبغوضا محتقرا وساء سبيلا : أي بئس طريقا ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه في الجاهلية ويئس من يسلكه لم يزده السير فيه إلا قبحا والجناح الإثم والتضييق.
المعنى الجملي : بعد أن بين في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط في ذلك وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف في معاشرتهن – وصل هذا البيان ما يحرم نكاحه منهن.
الإيضاح :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾ ذكر الله هذا النكاح أولا ولم يذكره مع سائر المحرمات في الآية التالية لأنه كان فاشيا في الجاهلية وقد ذمه الله أقبح ذم فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من يشاء فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا ﴿ ولا تنكحوا ﴾ الآية ونزلت أيضا ﴿ لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ﴾ إلخ والمراد بالنكاح العقد كما قال ابن عباس فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي حرام والمراد من الآباء ما يشمل الأجداد إجماعا.
﴿ إلا ما قد سلف ﴾ أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه.
و الخلاصة : أنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه.
﴿ إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾ أي أن نكاح أزواج الآباء تمجه الأذواق السليمة وتؤيد ذلك الشريعة التي هذى الله الناس بها فهو قبيح محتقر والسالك في طريقه مزدري عند ذوي العقول الراحجة.
قال الأمام الرازي : القبح ثلاثة أصناف : عقلي وشرعي وعادي وقد وصف الله النكاح بكل ذلك فقوله سبحانه ﴿ فاحشة ﴾ إشارة إلى الأول وقوله ﴿ مقتا ﴾ إشارة إلى الثاني وقوله ﴿ وساء سبيلا ﴾ إشارة إلى الثالث.
بعد هذا يبن الله أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافي ما في النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض وهي عدة أقسام :
القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب وهو أنواع :
نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ والمراد بالأم ما يشمل الجدات : أي إن الله قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع.
نكاح الفروع وذلك قوله :
﴿ وبناتكم ﴾ والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا وبنات أولادنا ممن كنا سببا في ولادتهن وأصولا لهن
نكاح الحواشي القريبة وذلك ما عناه سبحانه بقوله
﴿ و أخواتكم ﴾ سواء إن شقيقات لكم أم كن لأب أو لأم.
( ٤، ٥ ) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقول :
﴿ وعماتكم وخالتكم ﴾ والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخؤولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا وأولاد الجدات وإن علون.
( ٦ )نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأخوة وذلك قوله :
﴿ وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾ من جهة احد الأبوين أو كليهما.
القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة وغليه الإشارة بقوليه :
﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ﴾ وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمي المرضعة أما للرضيع وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب وقد وضحت السنة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة " إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا الرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذي منه الرضيع وقد روى البخاري عن ابن عباس انه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ﴿ قال لا اللقاح واحد ﴾
و قد غلب على الناس التساهل في أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما ترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدري.
و ظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروي ذلك عن علي وابن عباس والحسن والزهري وقتادة وبه أخذ أبو حنيفة ومالك وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ لا تحرم المصة والمصتان " وقد روى العمل به عن الأمام أحمد وذهب جماعة آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذت عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه.
و لا تحرم الرضاع إلا في سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ( البقرة : ٢٣٣ )و هو مذهب عمر وابن مسعود وابن عباس وبه أخذ الشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة : أبو يوسف ومحمد وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " وروي عن ابن عباس في رواية أخرى والزهري والحسن وقتادة أن الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه في التحريم وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطن كان رضاعه محرما
القسم الثالث محرمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع التالية :
﴿ وأمهات نسائكم ﴾ ويدخل في الأمهات الجدات ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بالبنت بل يكفي مجرد العقد وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم عليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة.
﴿ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ﴾ الربائب جمع ربيبة وربيب الرجل ولد امرأته من غيره سمي ربيبا لأن الرجل يربُّه ويسوسه ويؤدبه كما يؤدب ولده وقوله :﴿ اللاتي في حجوركم ﴾ وصف لبيان الحال الغالب في الربيبة وهي أن تكون في حجر زوج أمها وللإشعار بالمعنى الذي يوضح علة التحريم ويحرك عاطفة الأبوة في الرجل وهي كونها في حجرة يحنو عليها حنوة على بيته ويدخل في التحريم كل بنات امرأة الرجل إذا كان قد دخل بها وبنات بناتها وبنات أبنائها لأنهن من بناتها في عرف اللغة.
﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ﴾ أي إن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها وقال الحنفية : إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة وكذلك أيضا إذا لمس يد أم امرأته بشهوة فإن امراته تحرم عليه تحريما مؤبدا ولم يوافقهم على ذلك كثير من الأئمة لأنه لم يؤثر فيه خبر ولا أثر عن الصحابة فيه شيء وقد كانوا قريبي العهد بالجاهلية التي كان الزنى فاشيا فيها بينهم فلو كانوا فهموا لذلك مدركا من الشرع وعلله لسألوا عنه وتوافرت الدواعي على نقل ما أفتوا به.
﴿ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ﴾ الحلائل واحدها حليلة وهي الزوجة ويقال أيضا للرجل حليل إذ أن الزوجين يحلان معا في مكان واحد وفراش واحد.
و يدخل في الأبناء أبناء الصلب مباشرة او بواسطة كابن الابن وابن البنت فحلائلهما تحرم على الجد كما يدخل الابن من الرضاعة فتحرم حليلته لنا تقدم من قوله :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
القسم الرابع ما حرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم وهو ما ذكره سبحانه بقوله :
﴿ وأن تجمعوا بين الأختين ﴾ أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين في الاستماع الذي يراد به الولد والمذاهب الأربعة متفقة على التحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين أو النكاح أو بالنكاح أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا للأخرى فيحرم عليه أن يستمتع بهما ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له.
و مثل هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لان العلة موجودة فيه أيضا وهي إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه صلى الله عليه وسلم :" فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ".
و الضابط لذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى.
﴿ إلا ما قد سلف ﴾ أي لكن ما قد سلف قبل التحريم لا تؤاخذون عليه وقد كانوا يجمعون بين الأختين أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم طلق أيتهما شئت.
و عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين.
﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾ فلا يؤاخذكم بما سلف منكم في زمن الجاهلية إذ أنتم عملتم بشريعة الإسلام ومن مغفرته أن يمحو من نفوسكم آثار الأعمال السيئة ويغفر لكم ذنوبكم إذا أنبتم إليه ومن رحمته أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لمن وتوثيق الروابط بينكم لتتراحموا وتتعاونوا على البرّ والتقوى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
و كان الفراغ من مسودة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة وله الحمد أولا وآخرا.
تفسير المفردات : المحصنات : واحدتهن محصنة ( بفتح الصاد ) يقال حصنت المرأة ( بضم الصاد ) حصنا وحصانة : إذا كانت عفيفة فهي حاصن وحاصنة وحصان ( بفتح الصاد ) ويقال أحصنت المرأة : إذا تزوجت لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته وأحصنها أهلها زوجها ما ملكت أيمانكم : أي بالسبي في حروب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب فينفسخ عند ذلك نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد وضع الحامل حملها وحيض غيرها ثم طهرها والإحصان : العفة والمسافح : الزاني والاستمتاع بالشيء : هو التمتع به والأجور واحدها أجر : وهو في الأصل الجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل أو منفعة والمراد به هنا المهر فريضة : أي حصة مفروضة محدودة مقدرة ولا جناح : أي لا حرج ولا تضييق الاستطاعة : كون الشيء في طوعك لا يتعاصى عليك والطول الغنى والفضل من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب والمحصنات هنا الحرائر والفتيات الإماء
المعنى الجملي : هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من جهة المعنى فقد ذكر في أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحل سوى من تقدم ووجوب إعطاء المهور وذكر في الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة لكن من قسموا القرآن ثلاثين جزءا جعلوهما أول الجزء الخامس مراعاة للفظ دون المعنى إذ لو راعوه لجعلوا أول الخامس :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ ( النساء : ٢٩ ).
الإيضاح :﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ أي وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا ما ملكت الإيمان بالسبي في حروب دينية تدافعون بها عن دينكم وأزواجهم كفار في دار الكفر وقد رأيتم من المصلحة ألا تعاد السبايا إلى أزواجهن فحينئذ ينحل عقد زوجيتهن ويكن حلالا لكم بالشروط المعروفة في كتب الفقه.
و حكمة هذا انه لما كان الغالب في الحروب أن يقتل بعض أزواجه ويفر بعضهم الآخر ولا يعود إلا بلاد المسلمين وكان من الواجب كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق –كان من المصلحة لهن وللمجتمع أن يكون لكل واحد منهن أو أكثر كافل يكفيها البحث عن الرزق أو بذل العرض وفي هذا ما لا يخفى من الشقاء على النساء
و الإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسهن في بعض الأحوال كما إذا استأصلت الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد
فإن رأى المسلمون أن من الخير أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك عملا بقاعدة ﴿ ردء المفاسد مقدم على جلب المصالح ﴾ فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي.
و قوله :﴿ من النساء ﴾ قيد جيء به لإفادة التعميم وبيان أن المراد كل متزوجة لا العفيفات ولا المسلمات.
و قد جاء الإحصان في القرآن لأربعة معان :
( ١ ) التزوج كما في الآية.
( ٢ ) العفة كما في قوله ﴿ محصنين غير مسافحين ﴾
( ٣ ) الحرية كما في قوله ﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ﴾
( ٤ ) الإسلام كما في قوله ﴿ فإذا أحصن ﴾ أي أسلمن
اخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال أصبنا سبيا يوم اوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن
و قال الحنفية غنت من سبي معها زوجها لا تحل لغيره إذ لابد من اختلاف الدار بين الزوجين دار الإسلام ودار الحرب.
﴿ كتاب الله عليكم ﴾ أي كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا وفرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه لان مصلحتكم فيه ثابتة لا يدخلها شك ولا تغيير.
﴿ و احل لكم ما وراء ذلكم ﴾ أي وأحل الله لكم ما وراء ذلكم مما هو خارج من مدلول اللفظ وإفادته وألا يتناوله بنص أو دلالة فيدخل بطريق الدلالة في الأمهات الجدات وفي البنات بنات الأولاد وفي الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها كما يؤخذ بعض المحرمات من آيات أخرى كتحريم المشركات والمطلقة ثلاثا على مطلقها في سورة البقرة.
﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ أي أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعنها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة محصنين أنفسكم ومعانيين لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منكما بالآخر إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى والأنثى إلى الإتصال بالرجل ليزدوجا وينتجا.
فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أي مذهب فيتصل كل ذكر بأي امراة بأي رجل إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه إيثارا للذة على المصلحة إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنتى بذكر معين لتتكون بذلك الاسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما.
فإذا انتفى هذا المقصد انحصرت الداعية الفطرية في سفح الماء وصبه وذلك هو البلاء الذي تصطلي بناره الأمة كلها فإن بعض الدول الأوربية الني كثر فيها السفاح وقل النكاح بضعف الدين وقف نموها وقل نسلها وضعفت حتى اضطرت على الاعتزاز بمحالفة بعض الدول الأخرى.
و الاسترقاق المعروف في هذا العصر في بلاد السودان وبلاد الحجاز وبلاد الجراكسة غير شرعي وهو محرم لأن أولئك اللواتي تسترققن حرائر من بنات المسلمين الأحرار فلا يجزوز الاستمتاع بهن بغير النكاح والاسلام بريء من كل هذا.
﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ﴾ أي وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الاجر وهو المهر بعد أن تفرضوه في مقابلة ذلك الاستمتاع.
و سر هذا ان الله لما جعل للرجل على المرأة حق القيام وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه وحق الاستمتاع بها- فرض لها في مقابلة ذلك جزاء وأجرا تطيب به نفسها ويتم به العدل بينها وبين زوجها.
و الخلاصة : إن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد فريضة فرضها الله عليكم وذلك ان المهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء ويقال عقد فلان على فلانة وأمهرها ألفا كما يقال فرض لها ألفا ومن هذا قوله تعالى :﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ – ( البقرة : ٢٥٧ ). و قوله :﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ ( البقرة : ٢٣٦ ). فالمهر يتعين بفرضه في العقد ويصير في حكم المعطى وقد جرت العادة بان يعطي كله أو أكثره قبل الدخول ولكن لا يجب كله إلا بالدخول فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله ومن لم يعط شيئا قبل الدخول وجب عليه كله بعده.
﴿ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ﴾ أي ولا تضييق عليكم إذا تراضيتم على النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه إذ ليس الغرض من الزوجية إلا أن يكونا في عيشة راضية يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة والهدوء والطمأنينة والشارع الحكيم لم يضع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة ورقي الشؤون الخاصة والعامة.
﴿ إن الله كان عليما حكيما ﴾ وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحكم ما تمسكوا به ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب، وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهرا يكافئها به على قبولها قيامه ورياسته عليها ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما بالرضا فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه.
و نكاح المتعة ( وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر )كان مرخصا فيه في بدء الإسلام وأباحه النبي لأصحابه في الغزوات لبعدهم عن نسائهم فرخص فيه مرة أو مرتين خوفا من الزنى فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين ثم نهى عنه نهيا مؤبدا لأن المتمتع به لا يكون مقصده الإحصان وإنما مقصده المسافحة وللأحاديث المصرحة بتحريمه تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ولنهي عمر في خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك.
و منع نكاح المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق ولكن الفقهاء أجازوه إذا نواه الرجل ولم يشترطه في العقد وإن كان كتمانه يعد خداعا وغشا وعبثا وبهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية وإيثارا للتنقل في مراتع الشهوات إلى ما يترتب على ذلك من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة بين الزوجين حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج الإحصان والتعاون على تأسيس البيت الصالح والعيشة السعيدة.
تفسير المفردات :
محصنات : أي عفيفات مسافحات مستأجرات للبغاء والأخدان : واحدهم خدن وهو الصاحب ويطلق على الذكر والأنثى وهو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد والفاحشة : الفعلة القبيحة وهي الزنى والمحصنات : هنا الحرائر والعذاب : هو الحد الذي قدره الشارع وهو مائة جلدة فنصفها خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف العنت : الجهد والمشقة.
الإيضاح :
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ المحصنات : هنا الحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالإماء والحرية كانت عندهم داعية الإحصان كما كان البغاء من شأن البغاء ومن ثم قالت هند للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب : أو تزني الحرة ؟ وعبر عن الإماء بالفتيات تكريما لهن وإرشادا لنا إلى ألا ننادي بالعبد والأمة بل بلفظ الفتى والفتاة وقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم :" لا يقولن أحدكم عبدي أمتي ولا يقل المملوك ربي ليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب هو الله عز وجل ".
و المعنى : ومن يستطع منكم طولا في الحال أو المآل نكاح المحصنات اللواتي أحل لكم أن تبتغوا نكاحهن بأموالكم وتقصدوا بنكاحهن الإحصان لهن ولأنفسكم فلينكح امة من الإماء المؤمنات والطول ( هو السعة المعنوية أو المادية ) تختلف باختلاف الأشخاص فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال بقدرته على المهر لنفور النساء منه لعيب في خلقه او خلقه وقد يعجز عن القيام بغير المهر ومن حقوق المرأة الحرة فإن لها حقوقا كثيرة من النفقة والمساواة وغير ذلك وليس للأمة مثل هذه الحقوق.
و قد قدر الحنفية المهر بدراهم معدودة فقال بعضهم : ربع دينار وقال بعضهم : عشرة دراهم.
و ليس في كتاب ولا في سنة ما يؤيد هذا التحديد فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يريد الزواج :" التمس ولو خاتما من حديد " وروي أن بعض المسلمين تزوج امرأة وجعل المهر تعليمها شيئا من القرآن.
﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ أي فأنتم أيها المؤمنون إخوة في الإيمان بعضكم من بعض كما قال :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ ( التوبة : ٧١ ) فلا ينبغي أن تعدوا نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه.
وفي هذا إشارة إلى أن الله قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الحرائر وهو العليم بحقيقة الإيمان ودرجة قوته وكماله فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند الله ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ ( الحجرات : ١٣ ).
﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾ الأهل هنا الموالي المالكون لهن أي فإذا أحببتم نكاحهن ورغبتم فيه لأن الإيمان قد رفع من قدرهن فانكحوهن بإذن موالهن.
وقال بعض الفقهاء : المراد من الأهل من لهم عليهن ولاية التزويج ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ أي وأدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن إذ عن المهر هو حق المولى لأنه بدل عن حقه في إباحة الاستمتاع بها وقال مالك : المهر حق للزوجة على الزوج وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها وعن كان الرقيق لا يملك شيئا لنفسه لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها ويكون تطييبا لنفسها في مقابلة رياسة الزوج عليها وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك أو يتركه لها لتصلح به شأنها وهو الأفضل والأكمل.
و معنى قوله :﴿ بالمعروف ﴾ أي بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.
﴿ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان ﴾ أي أعطوهن أجورهن حال كونهن متزوجات منكم لا مستأجرات للبغاء جهرا وهن المسافحات ولا سرا وهن متخذات الأخذان والأصحاب.
و قد كان الزنى في الجاهلية قسمين : سري وعلني فالسري يكون خاصا فيكون للمرأة خدن يزني بها سرا ولا تبذل نفسها لكل أحد والعلني يكون عاما وهو المراد بالسفاح قاله ابن عباس.
و كان البغايا من الإماء ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن ولا تزال هذه العادة متبعة إلى الآن في بلاد السودان فتوجد بيوت خاصة لشراب الذرة ( المريسة ) وفيها البغاء العلني.
و روي عن ابن عباس أن اهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر من الزنى ويقولون إنه لؤم ويستحلون ما خفي ويقولون : إنه لا بأس به وقد نزل في تحريم هذين النوعين قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ ( الأنعام : ١٥١ ).
و هذان النوعان الآن فاشيان في بلاد الإفرنج والبلاد التي تقلدهم في شرورهم كمصر والآستانة وبعض بلاد الهند.
و قصارى القول : إن الله فرض في نكاح الإماء مثل ما فرص في نكاح الحرائر من الإحصان والعفة لكل من الزوجين لكن جعل الإحصان وعدم السفاح في نكاح الحرائر من قبل الرجال أولا وبالذات فقال :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ لان الحرائر ولاسيما الأبكار أبعد من الرجال عن الفاحشة وأقل انقيادا لطاعة الشهوة إلى أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوّامون عليهن.
و جعل قيد الإحصان في جانب الإماء فاشترط على من يريد ان يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة مصونة في السر والجهر فقال :﴿ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان ﴾ وذلك أن الزنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن حتى إن عبد الله بن أبي كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن فنزل في ذلك :﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ( النور : ٣٣ ).
إلى أنهن لذلهن وضعفن وكونهن مظنة للانتقال من يد إلى أخرى – لن تمرن نفوسهن على الاختصاص برجل واحد يرى لهن عليه من الحقوق ما تطمئن به نفوسهن في الحياة الزوجية التي هي كم شؤون الفطرة.
﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ أي إن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات وهن الحرائر إذا زنين وهذا العقاب ما بينه سبحانه بقوله :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ ( النور : ٢ ) فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة وتجلد الحرة مائة.
و السر في هذا ما قدمناه فيما سلف وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة والامة ضعيفة عن مقاومتها فرحم الله ضعفها وحفف العقاب عنها وقد قيدوا المحصنات هنا بكونهن أبكارا لان من تزوجت تسمى محصنة بالزواج وإن آمت بطلاق او بموت زوجها وحينئذ ترجم بالحجارة إذا زنت.
و في الصحيحين وغيرهما عن عمر رضى الله عنه : أن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل او اعتراف.
و أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز الأسلمي والغامدية لاعترافهما بالزنى لكنه أرجأ المرأة حتى وضعت وأرضعت وفطمت ولدها رواه مسلم وأبو داود.
﴿ ذلك لمن خشي العنت منكم ﴾ أي ذاك الذي ذكر لكم من إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز لمن خشي عليه الضرر من مقاومة دواعي الفطرة والتزام الإحصان والعفة ففي كثير من الاحيان تفضي هذه المقاومة إلى أعراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها كما أثبت ذلك الطب الحديث.
﴿ وأن تصبروا خير لكم ﴾ أي وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن لما في ذلك من تربية قوة الإرادة وتنمية ملكة العفة وتغليب العقل على عاطفة الهوى ومن عدم تعريض الولد للرق وخوف فساد أخلاقه بإرثه منها المهانة والذلة إذ هي بمنزلة المتاع والحيوان فربما ورث شيئا من إحساسها ووجدانها وعواطفها الخسيسة.
و روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه ورحم الله القائل :
إذا لم تكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
و سر هذا ما شرحناه من قبل من أن معنى الزوجية حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى كل منهما نصفها فهما شخصان صورة واحد اعتبارا بالإحساس والشعور والوجدان والمودة والرحمة ومن ثم ساغ أن يطلق على كل منهما لفظ ( زوج ) لاتحاده بالآخر وإن كان فردا في ذاته ومستقلا في شخصه.
﴿ والله غفور رحيم ﴾ فهو غفار لمن صدرت منه الهفوات كاحتقار الإماء المؤمنات والطعن فيهن عند الحديث في نكاحهن وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف وسوء الظن بهن رحيم بعباده إذ رخص لهم فيما رخص فيه ببيان أحكام شريعته فلا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب ذكر هنا عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل والأسباب ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب وسكون للنفوس لتعلم مغبة ما هي مقدمة عليه من الأعمال وعاقبة ما كلفت به من الأفعال حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة في دنياها وأخراها ولا تكون في عماية من أمرها فتتيه في أودية الضلالة وتسير قدما لا إلى غاية.
الإيضاح :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ جاءت هذه الآيات كأجوبة لأسئلة من شأنها أن تدور بخلد السامع لهذه الأحكام فيطوف بخاطرة أن يسأل – ما الحكمة في هذه الأحكام وما فائدتها للعباد وهل كان من قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة وهل كان ما أمرنا الله به أو نهانا عنه تشديدا علينا أو تخفيفا عنا ؟
و المعنى : يريد الله بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم ما فيه مصالحكم ومنافعكم وأن يهديكم مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا آثارهم وتسيروا سيرتهم فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( المائدة : ٤٨ ) فهي متفقة في مراعاة المصالح العامة للبشر فروح الديانات جميعا توحيد الله وعبادته والخضوع له على صور مختلفة ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها وتهذيب الأخلاق لتعبد عن سيء الأفعال والأقوال.
﴿ ويتوب عليكم ﴾ أي ويريد أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم وتقطعون أرحامكم ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي في الزوجية من تقوية روابط النسب وتجديد قرابة الصهر والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ فبعلمه المحيط بما في الأكوان شرع لكم من الدين ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم وبحكمته لم يكلفكم بما يشق عليكم وبما فيه الأذى والضرر لكم وبها يتقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ أي إنه تعالى بما كلفكم به من تلد الشرائع يريد أن يطهركم ويزكي نفوسكم فيتوب عليكم.
﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ﴾ متبعو الشهوات هم الفسقة الذين يدورون مع شهوات أنفسهم وينهمكون فيها فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها فلا يبالون بما قطعوا من وشائج الأرحام ولا بما أزالوا من أواصر القرابة فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة أما الذين يفعلون ما يأمر به الدين فليس غرضهم إلا امتثال أوامره لا اتباع شهواتهم ولا الجري وراء لذاتهم.
﴿ يريد الله ان يخفف عنكم ﴾ فأباح لكم عند الضرورة نكاح الإماء قاله مجاهد وطاوس وقيل بل خفف عنهم التكاليف كلها ولم يجعل عليكم في الدين من حرج فشريعتكم هي الحنيفية السمحة كما ورد في الحديث.
﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ يستميله الهوى والشهوات ويستشيطه الخوف والحزن ولا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء ولا يقوى على الضيق عليه في الاستمتاع بهن.
و قد رحم الله عباده فلم يحرم عليهم منهن إلا ما في إباحته مفسدة عظيمة وضرر كبير ولا يزال الزنى ينتشر حيث يضعف وازع الدين ولا يزال الرجال هم المعتدين فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال ويحجر الرجال على امرأته ويحجبها بينما يحتال على امرأة غير ويخرجها من خدرها وإنه لغِرّ جاهل أفيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه ؟ فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوة لأهل بيته في الفسق والفجور وفي الحديث :" عفوا تعف نساؤكم وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم " رواه الطبراني من حديث جابر.
وقد بلغ الفسق في هذا الزمن حدا صار الناس يظنونه من الكياسة وزالت غيرتهم وأسلسوا القيادة لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن فوهب الروابط الزوجية ونخر السوس في سعادة البيوت ووجدت الزيلة لها مرتعا خصيبا في أجواء الأسر حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله وكثرت الامراض والعلل بشتى مظاهرها.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت وعد هذه الآيات الثلاث :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ إلى قوله﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ والرابعة ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ والخامسة :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ والسادسة ﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ والسابعة :﴿ إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ والثامنة :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجرهم ﴾. الآية.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء، ثم بين وجوب دفع المهور للنساء وأنكر عليهم أخذها بوجه من الوجوه ثم ذكر وجوب إعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل في الأموال تطهيرا للأنفس في جمع المال المحبوب لها فقال :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾
الإيضاح :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ الباطل من البطل والبطلان وهو الضياع والخسار وفي الشرع أخذ المال بدون عوض حقيقي يعتد به ولا رضا ممن يؤخذ منه أو إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع فيدخل في ذلك النصب والغش والخداع والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضي به العقلاء.
قوله " بينكم " رمز إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل فالمأكول منه كل منهما يريد جذبه إليه والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه وعبر عنه الأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها وأضاف الأموال إلى الجميع ولم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض تنبيها إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعا فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله فالحياة قصاص وإرشادا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شيء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به إذ هو كأنما أعطاه شيئا من ماله.
و بهذا قد وضع الإسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه وهي :
( ١ ) أن مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها فهو يوجب على ذي المال الكثير حقوقا معينة للمصالح العامة وعلى ذي المال القليل حقوقا أخرى للبائسين وذوي الحاجات من سائر أصناف البشر ويحث على البر والإحسان والصدقات في جميع الأوقات.
و بهذا لا يوجد في بلاد الإسلام مضطر إلى القوت أو عريان سواء أكان مسلما أم غير مسلم لأن الإسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر كما فرض في أموالهم حقوقا للفقراء والمساكين.
و كل فرد يقيم في بلادهم يرى أن مال الأمة هو ماله فإذا اضطر إليه يجده مذخورا له كما جعل المال المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة حتى لا يمنعه من في قلبه مرض وحثهم على البذل ورغبهم فيه وذمهم على البخل ووكل ذلك إلى أنفسهم لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة.
( ٢ ) أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدي أربابه إلا بإذنهم حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة وتوجد الفوضى في الاموال والضعف والتواني في الاعمال ويدب الفساد في الأخلاق والآداب.
و لو أقام المسلمون معالم دينهم وعملوا بشرائعه لضربوا للناس الأمثال واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس ولأقاموا مدنية صحيحة في هذا العصر يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات ولا يجعلها تئن تحت أثقال العوز والحاجة كما هو حادث الآن من التنافر العام والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رؤوس الأموال.
﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ أي لا تكونوا من ذوي الأطماع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي وذلك هو اللائق بأهل المروءة والذين إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء.
و في الآية إيماء إلى وجوه شتى من الفوائد :
( ١ ) أن مدار حل التجارة على تراضي المتبايعين فالغش والكذب والتدليس فيها من المحرمات.
( ٢ ) أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولا ثبات فلا ينبغي ان يشغل العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هي خير وأبقى.
( ٣ ) الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل فإن تحديد قيمة الشيء وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلا ومن ثم يجري التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخزف القول من غير غش ولا خداع فكثيرا ما يشتري الإنسان الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه من موضع آخر بثمن أقل وما نشأ هذا إلا من خلابة التاجر وكياسته في تجارته فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي فيكون حلالا.
و الحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة لشدة حاجة الناس إليها والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختيار الأشياء والتدقيق في المعاملة حفظا للأموال حتى لا يذهب شيء منها بالباطل أي بدون منفعة تقابلها.
فإذا ما وجد في التجارة الربح الكثير بلا غش ولا تغرير بل بتراض من الطرفين لم يكن في هذا حرج ولولا ذلك ما رغب احد في التجارة ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين على شدة حاجة العمران إليها وعدم الاستغناء عنها.
و لما كان المال عديل الروح وقد نهينا عن إتلافه بالباطل – كنهينا عن إتلاف النفس لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات لنهب الأموال وما كان متصلا بها وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل قال :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ أي لا يقتل بعضكم بعضا وعبر بذلك للمبالغة في الزجر وللإشعار بتعاون الآمة وتكافلها ووحدتها وقد جاء في الحديث " المؤمنون كالنفس الواحدة " ولأن قتل الإنسان لغيره يفضي إلى قتله قصاصا او ثأرا فكأنه قتل نفسه.
و بهذا علمنا القرآن ان جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه وجناية على البشر جميعا لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة كما قال تعالى :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ ( المائدة : ٣٢ ) كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدها كنفوسنا – إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه ليستريح من الغم وشقاء الحياة فمهما اشتدت المصايب بالمؤمن فعليه أن يصبر ويحتسب ولا ييأس من الفرج الإلهي ومن ثم يكثر بخع النفس ( الانتحار ) إلا حيث يقل الإيمان ويفشو الكفر والإلحاد.
﴿ إن الله كان بكم رحيما ﴾ أي إنه بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل وعن قتلكم أنفسكم كان رحيما بكم إذ حفظ دماءكم كما حفظ أموالكم التي عليها قوام المصالح واستمرار المنافع وعلمكم أن تتراحموا وتتوادوا ويكون كل منكم عونا للآخر ويحافظ على ما له ويدافع عن نفسه إذا جد الجد ودعت الحاجة إلى الدفاع عنه.
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ العدوان هو التعدي على الحق وهو يتعلق بالقصد بأن يتعمد الفاعل الفعل وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل والظلم يتعلق بالفعل نفسه بألا يتحرى الفاعل عمل ما يحل فينفعل ما لا يحل والوعيد مقرون بالأمرين معا فلا بد من قصد الفاعل العدوان وأن يكون فعله ظلما حقا فإذا وجد أحدهما دون الآخر لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد فإذا قتل الإنسان رجلا كان قد قتل أباه أو ابنه فهنا قد وحد العدوان ولم يوجد الظلم وإذا سلب امرؤ مال آخر ظانا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه ثم تبين له ان المال ليس ماله وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله فها هنا وجد الظلم دون العدوان.
﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾أي وكان ذلك الإصلاء في النار يسيرا على الله هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع فلا يغترن الظالمون المعتدون بحلمه عليهم في الدنيا وعدم معالجتهم بالعقوبة فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه في الآخرة ولا يكونن كأولئك المشركين الذين قالوا :﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ ( سبأ : ٣٥ ).
تفسير المفردات : الاجتناب : ترك الشيء جانبا والكبائر واحدتها كبيرة وهي المعصية العظيمة والسيئات واحدتها سيئة وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا والمراد بها هنا الصغيرة ونكفر : نغفر ونمح ومدخلا كريما : أي مكانا كريما وهو الجنة.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات – نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها ووعد من تركها بالمدخل الكريم.
الإيضاح :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي إن تتركوا جانبا كبائر ما ينهاكم الله عن ارتكابه به من الذنوب والآثام نمح عنكم صغائرها فلا نؤاخذكم بها.
و قد اختلف في عدد الكبائر فقيل هي سبع لما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال :" الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وفي رواية لهما عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قلنا بلى يا رسول الله قال :" الإشراك بالله وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس وقال- ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " و فيهما أيضا من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ".
و الأحاديث الصحيحة مختلفة في عددها ومجموعها يزيد على سبع ومن ثم قال ابن عباس لما قال له رجل : الكبائر السبع : قال : هي إلى سبعين أقرب إذ لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو ثورة شهوة وصاحبه متمكن من دينه يخاف الله ولا يستحل محارمه فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله فهو إذ ذاك أهل لأن يتوب الله عليه ويكفر عنه.
وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ورؤيته إياه حيث نهاه فهو مهما كان صغيرا في صورته أو في ضرره يعد كبيرا من حيث الإصرار والاستهتار فتطفيف الكيل والميزان ولو حبة لمن اعتاده والهمز واللمز ( عيب الناس والطعن في أعراضهم ) لمن تعوده – كل ذلك كبيرة ولا شك.
و كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة ولم يرد الحصر والتحديد.
و قال بعض العلماء : الكبيرة كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بوعيد.
﴿ وندخلكم مدخلا كريما ﴾ أي وندخلكم مكانا لكم فيه الكرامة عند ربكم وهي الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والعرب تقول : أرض كريمة وأرض مكرمة أي طيبة جيدة النبات قال تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ ( الشعراء : ٥٧-٥٨ ).
تفسير المفردات : التمني : تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون من فضله : أي إحسانه ونعمة المتكاثرة.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل وتوعد فاعلهما بالويل والثبور وهما من أفعال الجوارج لبصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة العاقبة – نهى عن التمني وهو التعرض لها بالقلب حسدا لتطهر أعمالهم الباطنة فيكون الباطن موافقا للظاهر ولأن التمني قد يجر إلى الأكل والأكل قد يقود إلى القتل فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
الإيضاح :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ أي إن الله كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر وقد أراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت والرجال بالأعمال الشاقة التي في خارجها ليتقن كل منهما عمله ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص.
و على كل منهما أن يسأل ربه الإعانة والقوة على ما نيط به من عمل ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر ويدخل في هذا التهي تمني كل ما هو من الامور الخلقية كالعقل والجمال إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الامور الكسبية إذ يحمد من الناس أن ينظر بعظهم إلى ما نال الآخرون ويتمنوا لأنفسهم مثله أو خيرا منه بالسعي والجد.
و الخلاصة : إنه تعالى طلب إلينا ان نوجه الأنظار إلى ما يقع تحت كسبنا ولا نوجهها إلى ما ليس في استطاعتنا فإنما الفضل بالأعمال الكسبية فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم قاله الأستاذ الإمام محمد عبده بتصرف.
فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه بالجد والاجتهاد مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه إما للجهل به وإما للعجز عنه فالزارع يجتهد في زراعته ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله لعمله ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه ويرفع أثمان غلاته إلى نحو أولئك مما هو بيد الله.
روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد قلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت.
﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ أي لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله من إحسانه وإنعامه فإن خزائنه مملوءة لا تنفد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال :" سلو الله من فضله فالله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج ".
﴿ إن الله كان بكل شيء عليما ﴾ وبذا فضل بعض الناس على بعض بحسب مراتب استعدادهم وتفاوت اجتهادهم في معترك الحياة ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى حتى بلغ التفاوت بين الناس في الفضل حدا بعيدا وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان.
تفسير المفردات : الموالي : من يحق لهم الاستلاء على التركة مما ترك أي وارثين مما ترك والذين عقدت أيمانكم هم الأزواج فإن كلا من الزوجين له حق الإرث بالعقد والمتعارف عند الناس في العقد ان يكون بالمصافحة باليدين قاله أبو مسام الأصفهاني.
المعنى الجملي :: بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن تمني أحد ما فضل الله به غيره من المال حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي وهو وإن كان نهيا عاما فالسياق يعين المراد منه وهو المال لأن أكثر التمني يتعلق به ثم ذكر القاعدة العامة في حيازة الثروة وهي الكسب – انتقل إلى نوع آخر تأتي به الحيازة وهو الإرث.
الإيضاح :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك ﴾ أي إن لكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا ومن النساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن موالي لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم.
ثم بين هؤلاء الموالي فقال :
﴿ الولدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم ﴾ أي إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج.
﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المقدر لهم ولا تنقصوهم منه شيئا.
﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ أي إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم في التركة وغيرها فلا يطمعن من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئا سواء أكان ذكرا أم أنثى كبيرا أم صغيرا.
و جاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين في بعض.
تفسير المفردات : يقال هذا قيم المرأة وقوامها إذا كان يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وما به الفضل قسمان : فطري وهو قوة مزاج الرجل وكماله في الخلقة ويتبع ذلك قوة العقل وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها وكسبي وهو قدرته على كسب والتصرف في الأمور ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل والقنوت : السكون والطاعة لله وللأزواج والحافظات للغيب : أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس ولا يقال إلا في الخلوة بالمرأة وتخافون : أي تظنون ونشزت الأرض : ارتفعت عما حواليها ويراد بها هنا معصية الزوج والترفع عليه والبغي : الظلم وتجاوز الحد
المعنى الجملي : لما نهى سبحانه كلا من الرجال والنساء عن تنمني ما فضل الله بع بعضهم على بعض وأرشدهم إلى الإعتماد في أمر الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبهم وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على – ذكر هنا أسباب التفضيل.
الإيضاح : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } أي إن من شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهن لأن ذلك من أخص شؤون الحماية وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن.
و سبب هذا أن الله فضل الرجال على النساء في الخلقة وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم فإن في المهور تعويضا للنساء ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال وقبول القيامة عليهن نظير عوض مالي يأخذونه كما قال تعالى :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ).
و المراد بالقيام الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادة الرئيس واختياره إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة في تنفيذ ما يرشد إليه وملاحظة أعماله ومن ذلك حفظ المنزل وعدم مفارقته إلا بإذنه ولو لزيارة القربى وما تقدير النفقة فيه فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته والمرأة هي التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه ويناسب حاله سعة وضيقا.
و لقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها مختلف شؤونها يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وهي آمنة في سربها مكيفة ما يهمها من أمور أرزاقها.
ثم فصل حال النساء في الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل فذكر أنها قسمان وأشار إلى معاملتها في كل حال منهما فقال :
﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ﴾ أي فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج حافظات لما يجري بينهن وبينهم في الخلوة من الرفث والشؤون الخاصة بالزوجية لا يطلعن أحدا عليها ولو قريبا وبالأولى يحفظن العرض من يد تلمس أو عين تبصر أو أذن تسمع.
و قوله :﴿ بما حفظ الله ﴾ أي بسبب أمر الله بحفظه فهن يطعنه ويعصين الهوى.
و في الآية أكبر عظة وزجر لمن تتفكه من النساء بإفشاء الأسرار الزوجية ولا تحفظ الغيب فيها.
و كذلك عليهن أن يحفظن أموال الرجال وما يتصل بها من الضياع روى ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة قال :" خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وقرأ الآية " وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب إذ لا يوجد ما يدعو إليه وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي ذكره الله وذكر حكمه بقوله :
﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ﴾ أي واللاتي تأنسون منهن الترفع وتخافون ألا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي :
( ١ ) أن تبدؤوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر في نفوسهن فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب الله وغضبه ومنهن من يؤثر في أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا كشماتة الأعداء ومنها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك وعلى الجملة فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع في قلب امرأته.
فإن لم يجد ذلك فله أن يجرب :
الهجر والإعراض في المضجع ويتحقق ذلك بهجرها في الفراش مع الإعراض والصد ( وقد جرت العادة بأن الاجتماع في المضجع يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول ما كان في نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك ).
فإذا هو فعل ذلك دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى المرافقة فإن لم يفد ذلك فله أن يجرب :
الضرب غير مبرح : أي غير مؤذي إيذاء شديدا كالضرب باليد أو بعصا صغيرة.
و قد روى عن مقاتل في سبب نزول الآية أن سعد بن الربيع – وكان من النقباء – نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا هذا جبرائيل أتاني " وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم وقال :" أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراده الله خبر ".
و قد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز ولا يستعظمونه أن تنشز وتترفع هي عليه فتجعله وهو الرئيس مرؤوسا محتقرا وتصر على نشوزها فلا تلين لوعظه ونصحه ولا تبالي بإعراضه وهجره فإن كان قد ثقل ذلك عليهم فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نساءهم العالمات المهذبات بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وملوكهم وأمراؤهم فهو ضرورة لا يستغني عنها ولاسيما في دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر وكيف يستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه إذا فسدت البيئة وغلبت الأخلاق الفاسدة ولم ير الرجل مناصبا منه ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به.
لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة أو يزدجرن بالهجر وجب الاستغناء عنه إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وإمساكهن بمعروف او تسريحهن بمعروف.
و الأخبار التي وردت في الوصية بالنساء كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم :" أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم " يعني أنه إذا لم يكن بد للرجل من هذا الإتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر وقد قضت به الفطرة فكيف يليق به بعدئد أن يجعل امرأته وهي كنفسه مهينة كمهانة عبده يضربها بسوطه أو بيده فالرجل الكريم يأبى عليه طبعه مثل الجفاء.
و الخلاصة : إن الضرب علاج مر قد يستغني عنه الخير الكريم ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء وعرف كل ماله من الحقوق وكان للدين سلطان على النفوس يجعلها تراقب الله في السر والعلن وتخشى أمره ونهيه.
ثم رغب في حسن المعاملة الزوجية فقال :
﴿ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ﴾ أي فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا ولا تتجاوزا ذلك إلى غيرها فابدؤوا بما بدأ الله من الوعظ فإن لم يجد فبالهجر فإن لم يفد فبالضرب فإذا لم يغن فليلجأ إلى التحكيم ومتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عما في السرائر.
ثم هدد وتوعد من يظلم النساء ويبغي عليهن فقال :
﴿ إن الله كان عليا كبيرا ﴾ يذكر سبحانه عباده بقدرته وكبريائه عليهم ليتعظوا ويخشوه في معاملتهن فكأنه يقول لهم : إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم فإذا بغيتم عليهن عاقبكم وإن تجاوزتم عن هفواتهن كرما تجاوز عنكم وكفر عنكم سيئاتكم :
و ليس بخاف أن الرجال الذين يستذلون نساءهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه ولا يكون في نفوسهم شيء من الكرامة ولا من الشمم والإباء وأمة تخرج أبناء كهؤلاء إنما تربي عبيدا أذلاء لا يقومون بنصرتها ولا يغارون لكرامتها فما أحراهم بأن يكونوا قطعانا من الغنم تزدحر مع كل راع وتستجيب لكل ناعق.
تفسير المفردات :
و الشقاق : الخلاف الذي يجعل كلا من المختلفين في شق : أي جانب وخوفه توقع حصوله بظهور أسبابه والحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين وبعث الحكمين : إرسالهما إلى الزوجين لينظرا في شكوى كل منهما ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما
الإيضاح :
ثم بين الطريق السوي الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق فقال :
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ هدا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما فإن قاموا بذلك فذاك وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى في إصلاح ذات بينهما والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة وقد يكون بظلم الرجل فإن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب انواع التأديب التي ذكرت في الآية التي سلفت وإن كان بالثاني وخيف من تمادي الرجل في ظلمه أو عجز عن إنزالها عن نشوزها وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون إقامتها لأركان الزوجية الثلاث : من السكون والمودة والرحمة وجب على الزوجين وذوي القربى أن يبعثوا الحكمين وعليهم أن يوجهوا إرادتهم إلى إصلاح ذات البين ومتى صدقت الإرادة وصحت العزيمة فالله كفيل بالتوفيق بفضله وجوده.
و بهذا تعلم شدة عناية الله بأحكام نظام الأسر والبيوت وكيف لم يذكر مقابل التوفيق وهو التفريق لأنه يبغضه ولأنه يود أن يشعر المسلمين بأنه لا ينبغي أن يقع.
و لكن وأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلا حتى دب الفساد في البيوت ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء ففتك بالأخلاق والآداب وسرى من الوالدين إلى الاولاد.
ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده فقال :
﴿ { ن الله كان عليما خبيرا ﴾ أي إن هذه الاحكان التي شرعت لكم من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم خبير بما يقع بينهم وبأسبابه ما ظهر منها وما بطن ولا يخفى عليه شيء من وسائل الإصلاح بينهما.
و في الآية إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف وإن ظن انه مستعص يتعذر علاجه فقد يكون في الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما أن يمحصا ما علق من أسبابه بقلوبهما فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة ولتعلم أيها المؤمن أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادية ومعنوية بها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها فيحاسبه على فلتات اللسان وبالظنة والوهم وخفايا خلجات القلب فيغريهما ذلك بالتنازع في كل ما يقصر فيه أحدهما من الامور المشتركة بينهما وما أكثر وأعسر التوقي منها وكثيرا ما يفضي التنازع إلى التقاطع والعتاب إلى الكره والبغضاء فعليك أن تكون حكيما في معاملة الزوجة خبيرا بطباعها وبذا تحسن العشرة بينكما.
و قد صرح علماء الاجتماع بان السعادة الزوجية قلما تمتع بها زوجان وإن كانت أمنية كل الأزواج ومن ثم اكتفوا بالمودة العملية واجتهدوا في تربية رجالهم ونسائهم على الاحترام المتبادل جهد المستطاع.
تفسير المفردات : عبادة الله : الخضوع له والاستشعار بتعظيمه في السر والعلن بالقلب والجوارح والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته إذ لا يقبل عملا بدونها والاحسان إلى الوالدين : قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما والسعي في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما قدر الاستطاعة وعدم الخشونة في الكلام معهما وذي القربى : صاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد هؤلاء والجار ذي القربى هو الجار القريب الجوار والجار الجنب : هو البعيد القرابة والصاحب بالجنب : الرفيق في السفر أو المنقطع إليك الراجي نفعك ورفدك وابن السبل هو المسافر أو الضيف ما ملكت أيمانكم : عبيدكم وإماؤكم والمختال : ذو الخيلاء والكبر والفخور : الذي يعدد محاسنه تعاظما وتكبرا
المعنى الجملي : كان الكلام من اول السورة في وصايا ونصائح كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء وعن قتل النفس والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله ولا يخشى عقابه.
الإيضاخ :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ عبادة الله هي الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس والخشوع لسلطانه في السر والجهر وأمارة ذلك العمل بما به أمر وترك ما عنه نهى وبذا تصليح جميع الأعمال من أقوال وأفعال.
و العبادة هي الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها وهذه السلطة لا تكون لغير الله فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى.
و الإشراك ضروب مختلفة :
منها ما ذكره سبحانه عن مشركي العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده وقد جاء ذكر هذا في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ( يونس : ١٨ ).
ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام قال تعالى :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ( التوبة : ٣١ )
و أقوى أنواعه ما سماه الله دعاء واستشفاعا وهو التوسل بغيره له وتوسيطه بينه وبين الله ولا ينفع مع هذا صلاة ولا صوم ولا إي عبادة أخرى وقد فشا هذا النوع بين المسلمين فتراهم يستشفعون ويقولون ( يا شيخ العرب – يا سيد يا بدوي يا سيدي إبراهيم الدسوقي ) إلى غير ذلك.
و يعتذر بعض الناس لمثل هؤلاء وغاية ما تصل إليه المعذرة أن يحولوهم من شرك جلي واضح إلى شرك أقل منه وضوحا ولكنه شرك على كل حال.
وبعد ان أمر الله بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال :
﴿ بالوالدين إحسانا ﴾ أي أحسنوا بهما ولا تقصروا في سيء مما يطلبانه لأنهما السبب الظاهرة في وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص وقد فضلت هذه الوصية في سورة الإسراء بقوله تعالى :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ ( الإسراء : ٢٣-٢٥ ).
و الخلاصة : إن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه بشرط ألا يحد الوالدان من حرية الولد واستقلاله في شؤونه الشخصية او المنزلية ولا في الأعمال الخاصة بدينه ووطنه فإذا أراد أحدهما الاستبداد في شيء من ذلك فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما
﴿ وبذي القربى ﴾ أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين وإذا أدى المرء حقوق الله فصحت عقيدته وصلحت أعماله وقام بحقوق الوالدين صلح البيت وحسن حال الأسرة وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة فإذا عاون أهله ذوي القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الاسرة وبذا تتعاون الأمة جمعاء وتمد يد المعونة لمن هو في حاجة إليها ممن ذكروا بعد في قوله :
﴿ واليتامى والمساكين ﴾ لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب وقلما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة فعلى القادرين أن يعاونوا في تربيته وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفسادا أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم وإلا كانوا وبالا عليه.
و هم ضربان : مسكين معذور تجب مواساته وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسد عوزه ويستعين به على الكسب.
و مسكين غير معذور في تقصيره وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب فإن اتعظ وقبل النصح فبها وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر فهم أولى بتقيم معوجه وإصلاح ما فسد من أخلاقه.
﴿ والجار ذي القربى والجار الجنب ﴾ الجوار ضرب من ضروب القرآبة فهو قرب بالمكان والسكن وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب فيحسن أن يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والإحسان فإذا بم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس وقد حث الدين على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم لبن جاره اليهودي وذبح ابن عمر شاة فجعل لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ".
و حدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك إلى دارك.
و إكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء في الكتاب والسنة ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ودعوته إلى الطعام وتعاهد بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك.
﴿ والصاحب بالجنب ﴾ روى عن ابن عباس أنه الرفيق في السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشي بجانبك يستشيرك أو يستعين بك
﴿ وابن السبيل ﴾ هو السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من اليتيم وأحق بالإحسان إليه وقد عنى الأوربيون بجمع اللقطاء وتربيتهم ولولا ذلك لاستطار شرهم وعم ضرهم وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم لأن الله قد جعل في أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم.
﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ أي وأحسنوا إلى ما ملكت إيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا وحسن معاملتهم في الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل وقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم :" هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه ".
و قد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بهم في مرض موته وكان ذلك من آخر ووصاياه فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت " الصلاة وما ملكت أيمانكم ".
و قد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.
ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال/
﴿ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ﴾ المختال : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأعماله والفخور : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه واحتقارا لغيره.
و المختال الفخور مبغوض عند الله لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها.
فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب ومن خشع قلبه خشعت جوارحه ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوي القربى لأنه لا يشعر بحق غيره عليه وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد فهو لا يرجى منه بر ولا إحسان وإنما يتوقع منه إساءة وكفران ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذل بطرا ومرحا قال تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ ( الإسراء/ ٣٧ ).
و ليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا في غير غلظة عزيز النفس مع الأدب والرقة روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال صلى الله عليه وسلم :" إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس " بطر الحق : رده استخفافا وترفعا وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله ولا يخشى عقابه.
تفسير المفردات :
اعتدنا : هيأنا وأعددنا والمهين : ذو الإهانة والذلة الإيضاح :
ثم بين المختال الفخور فقال :
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " روى ابن إسحاق وابن جرير عم ابن عباس – كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر فيهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى :{ الذين يبخلون – إلى قوله- وكان الله بهم عليما ﴾.
و المراد بالبخل في الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم.
ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال :
﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾ أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهيبهم ويذلهم فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا وسماهم الله كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور لا من المؤمن الشكور.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله ولا يخشى عقابه.
تفسير المفردات :
و رئاء الناس : أي للمراءاة والفخر بما فعل والقرين : الصاحب والخليل
الإيضاح :
﴿ و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ﴾ الرئاء والرياء والمراءاة سواء أي إن ما نعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان : فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وفريق يبذل المال لا شكرا لله على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق بل ينفقونها مرائين الناس : أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم.
و الكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب والمرائي أقل شرا من البخيل إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله في مقابلة ما يبذله لهم من مال فكانه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق فهو يكلفهم تعظيمه وأمواله مدخرة في الصناديق.
و المرائي بخيل في الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين ولا يتحرى في إنفاقه النفع العام ولا الخاص وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق ضار كالمساعدة على فسق او فتنة فهو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته.
﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ أي إن المؤمنين المرائين في إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه فالله في نظرهم أهون من الناس فمثل هؤلاء لا يعدون مؤمنين إيمانا حقيقيا بالله ولا باليوم الآخر بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر في القلب ولا إذعان للنفس فهم لا يعرفون الله وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما في الأرض والسماوات ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وإن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.
و من أمارات التفرقة بين المخلص والمرائي أن الأول قلنا يتذكر علمه أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في بذل كأن يقول إني على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما في مصلحة كذا فاللائق بمثلك ان يبذل كذا وكذا درهما.
أما الثاني فهو يلمس الفرص والناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل كما لا يبذل المال ولا العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.
﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾ أي هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل – والمقصد من هذا أن حالهم في الشر كحال الشيطان.
و في الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء في سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء وتعر يض بتنفير الانصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله وبيان أنهم شياطين يعِدون الفقر وينهون عن العرف.
أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغب فيه منفر بسيرته ونصحه عن الشر معبد عنه مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب وكم أصلح القرين الصالح فاسدا وكم أفسد قرين السوء صالحا.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله ولا يخشى عقابه.
تفسير المفردات :
و ماذا عليهم : أي أي ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا ؟.
الإيضاح :
﴿ وما عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ﴾ أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل ؟ وفي هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.
فكثيرا ما يفوت المرائي ما يرمي إليه من التقرب إلى الناس وامتلاك قلوبهم ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل فيكون الأول قد رجع بخفي حنين وبينما الثاني فاز بسعادة الدارين.
فجهله جدير بأن يتعجب منه لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان في هذا سعادته فالإيمان سلوى من كل فائت وفقده عرضة لليأس من كل خير ومن ثم يكثر الانتحار من فاقدي الإيمان وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه في المصايب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.
و قد يبتلى الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها وقد يأنس أحيانا بها لعظم رجائه وصبره وهذا وإن كان نادرا فهو واقع حاصل.
﴿ وكان الله بهم عليما ﴾ فينبغي للمؤمن أن يكتفي بعلم الله في إنفاقه ولا يبالي بعلم الناس فهو الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا.
و في هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية في معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضا ولكن المسلمين قصروا في إتباع هذه الأوامر وأعرضوا عن مساعدة ذوي القربى والجيران واليتامى والمساكين والشواهد على هذا كثيرة.
تفسير المفردات : المثقال : أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام ومن ثم قالوا إنها النملة أو رأسها أو الخردلة أو الهباء ( ما يظهر في نور الشمس الداخل من الكوة ) ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة والظلم : النقص كما قال تعالى :﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ ( الكهف : ٣٣ ) ومن لدنه : من عنده والحديث الكلام.
المعنى الجملي : بعد أن بين عزّ اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم توعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد – زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر والإحسان وحفز لهممهم على العمل وفي معنى الآية قوله :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ ( الزلزلة : ٧ ).
الإيضاح :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ أي إنه تعالى لا ينقص أحدا عمله والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة إذ إن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال في النفس بتزكيتها أو تدسيتها فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط إلى أسفل سافلين ولذلك درجات ومثاقيل مقدرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما.
و الخلاصة : إن الظلم لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحسّ وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم وهي تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.
﴿ وإن تك حسنة يضاعفها ﴾ أي أنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن في حسناته فالسيئات بقدرها والحسنات يضاعف الله تعالى جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال في آية أخرى :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ( الأنعام : ١٦٠ ) وقال :﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ ( البقرة : ٢٤٥ ).
﴿ ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ أي إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفي بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الإعمال لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمي باسمه لمجاورته له وفي ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين إذ هو علاوة على أجور أعمالهم فلا مطمع للمسيئين فيه.
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ أي إذا كان الله لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة فكيف يكون الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم أنبياؤهم فما من أمة إلا لها بشير ونذير.
و هذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم ( لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين ) ومقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم فمن شهد لهم نبيهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به فهم ناجون ومن تبرأ منهن أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاؤوا به فأولئك هم الخاسرون وإن ادعوا إتباعهم والانتماء إليهم.
و قوله :﴿ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ يراد به شهادة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين على أمته كما قال تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ ( البقرة : ١٤٣ )أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها تكون شهيدة على الأمم السالفة وحجة عليها في انحرافها عن هدى المرسلين والرسول صلى الله عليه وسلم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية يكون حجة على من تركها وتساهل في اتباعها وعلى من تغالى فيها وابتدع البدع المحدثة من بعده.
روى البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اقرأ علي قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال نعم أحب أن أسعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ الخ فقال ( حسبك الآن ) فإذا عيناه تذرفان ".
فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلى الله عليه وسلم فبكى لتذكر هذا اليوم وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم باتباع سننه ونجتهد في اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن في عهده وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في الشؤون الروحية أو نظل في غوايتنا تقليدا للآباء فنكون كما قال الكافرون :﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ ( الزخرف : ٢٣ ).
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ أي إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتي فيه بشهيد على كل أمة يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء أن يصيروا ترابا تسوى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال في سورة النبأ :﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾ ( النبأ : ٤٠ ).
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ أي إنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ولا يكونون فد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٢٢ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ ( الأنعام : ٢٢-٢٤ ) أي فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أن ما كانوا عليه ليس بشرك وإنما هم استشفاع وتوسل وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سويت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.
تفسير المفردات : الغائط : المنخفض من الأرض كالوادي وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة للستر والاستخفاء عن الناس وملامسة النساء : الإفضاء إليهن تيمموا : اقصدوا والصعيد : وجه الأرض والطيب : الطاهر العفو : ذو العفو والعفو عن الذنب : محوه وجعله كأن لم يكن والغفور ؟ : ذو المغفرة والمغفرة : ستر الذنوب بعدم الحساب عليها.
المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدي إلى تمني الكافر العدم فيقول : يا ليتني كنت ترابا والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم الله حديثا وذكر أنه لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله – وصف في هذه الآية الوقوف بين يديه في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلي الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غيره طاهرة من الأنجاس والأخباث لتكون على أتم العدة للوقوف في ذلك الموقف الرهيب مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ أي لا تصلوا حال السكر حتى تعلموا قبل الشروع فيها ما ستقرؤونه وما ستعملونه ذاك أن حال السكر لا يتأتى معها الخشوع والخضوع والحضور مع الله بمناجاته بكتابة وذكره ودعائه.
و هذا الخطاب موجه إلى المسلمين قبل السكر بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلون ليحتاطوا فيجتنبوه في أكثر الأوقات وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا لا هوادة فيه إذ من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لتفرق الصلوات الخمس في هذه المدة فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقل الشراب لمزاحمة النوم له وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل.
و قد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.
روى أبو داود والترمذي عن علي كرم الله وجهه قال :" صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وشقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقررت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت الآية.
وروى ابن جرير عن علي أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن وأن الصلاة صلاة المغرب – وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر.
و يفترق المعنى بين الأسلوبين ﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ولا تقربوا الصلاة سكارى إذ الأول يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضي إلى أدائها في أثنائه وخلاصة المعنى عليه احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة وفيما يقرب منها والثاني يتضمن النهي عن الصلاة حال السكر فحسب
وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة، من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا ولهذا قال جنبا ولم يقل وأنتم جنب.
﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ أي ولا تقربوا الصلاة جنبا من أي حال إلا حال كونكم عابري سبيل : أي مجتازين الطريق، وقد روى أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يحدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسد تلك الأبواب والكوى إلا في آخر عمره الشريف ولم يستثن إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه ( الخوخة الكوة والباب الصغير ).
﴿ حتى تغتسلوا ﴾ أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل في المسجد.
و حكمة الاغتسال من الجنابة أن الجنابة تحدث تهيجا في الأعصاب فيتأثر البدن كله ويحدث فتور وضعف فيه يزيله الاغتسال بالماء ومن ثم ورد في حديث :" إنما الماء من الماء " رواه مسلم.
و الخلاصة : إن الدين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر كما طلب أن يكون الجسم نظيفا نشيطا وذلك لا يكون إلا بإزالة الجنابة.
و لما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها لأنها تذكر المرء ربه وتعده للتقوى وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الحالات ويتعذر في بعضها الآخر رخص سبحانه لنا في ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم فقال :
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ المراد بالمرض المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء كبعض الأمراض الجلدية والقروح كالحصبة والجدري أو نحو ذلك والسفر يشمل الطويل والقصير والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر بخروج شيء من أحد السبيلين ( القبل والدبر ) وملامسة النساء : غشيانهن.
ففي هذه الحالات ( المرض. السفر. فقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل ) اقصدوا صعيدا طيبا : أي وجها طاهرا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا.
و الخلاصة : إن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط قاله الأستاذ الإمام.
لكن المعروف في المذاهب الأربعة أن شرط التيمم في السفر فقد الماء فلا يجوز مع وجوده وهذا بخلاف ظاهر الآية.
و من تأمل في رخص السفر التي منها قصر الصلاة وإباحة الفطر في رمضان لا يستنكر أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء مع وجود الماء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين فالمشاهد أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه الوسائل السفر في السكك الحديدية والبواخر فكيف تكون المشقة للمسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها فأشق ما يشق في السفر الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه ففي البواخر يوجد الماء وتوجد الحمامات للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يركبون في الدرجة الأولى والثانية ة هؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر معه الاغتسال أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها الماء على هذه الحال يتعسر فيها الاغتسال أو يتعذر فكيف يكون الاغتسال في قطر السكك الحديدية أو في قوافل الحمال والبغال ؟.
روى أن هذه الآية نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطع عقد لعائشة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسه والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فلما نزلت وصلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فحعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر وفي رواية : يرحمك الله يا عائشة ما نزل أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا.
ثم ذكر منشأ السهولة واليسر فقال :
﴿ إن الله كان عفوا غفورا ﴾ العفو هنا التيسير والسهولة ومنه قوله تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ ( الأعراف : ١٩٩ ) وقوله صلى الله عليه وسلم :" قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق " أي أسقطتها تيسيرا عليكم ومن عفوه وتسهيله أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل.
و في ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ في صلاة السكارى كقولهم : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون – مغفور لهم لا يؤاخذون عليه.
قال السيد الحسن صديق خان في شرحه ( لروضة الندية ) : قد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلخ والحق أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوبه﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ﴾ فتكون الأعذار ثلاثة : السفر والمرض وعدم وجود الماء في الحضر وهذا ظاهر على قول من يقول : إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لآخرها وأما على قول من يقول إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع هنا من تقييد السفر والمرض بعدم وجود الماء –و هو أن كل واحد منهما عذر مستقل طفي غير هذا الباب كالصوم ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة وغير مقيدة بالحضر أه.
و منه تعلم أن رأيه كرأي الأستاذ الأمام من أن السفر وحده عذر كاف في التيمم وجد الماء أو لم يوجد.
تفسير المفردات : ألم تر : أي ألم تنظر نصيبا :: حظا السبيل : الطريق القويم
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في سابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية ووعد فاعلها بجزيل الثواب وأوعد تاركها بشديد العقاب وانتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم الذين تركوا أحكام دينهم وحرفوا كتابهم واشتروا الضلالة بالهدى لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصّروا أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصل إلى إصلاح الأنفس وذلك هو الأثر المطلوب منها ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب.
و قد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومة الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين امنوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة وهذا لا يكفى في إتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله.
فأرشدنا سبحانه إلى عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغني عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي ألم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا طائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها فهم يختارون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أيها المؤمنون طريق الحق القويم كما ضلوا هم فهم دائبون على الكيد لكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
و التعبير بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه بعض آخر بل كان عند اليهود نسخة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه السلام ففقدت ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ ( المائدة : ١٤ ).
و الخلاصة : إنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعلموا بها وزادوا عليها والزيادة فيه كالنقص منه فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا وكانوا يفعلون ذلك وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم الدينية فتمسكوا بها وهي ليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام.
فالذي لم يعملوا به من التوراة قسمان : أحدهما ما أضاعوه ونسوه وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به وهو كثير أيضا.
و قد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومة الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين امنوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة وهذا لا يكفى في إتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله.
فأرشدنا سبحانه إلى عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغني عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
تفسير المفردات :
وليا : أي يتولى شؤونكم نصيرا : معينا يدفع شرهم عنكم
الإيضاح :
﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾ أي والله أعلم منكم بمن هم أعداؤكم فأنتم تظنون في المنافقين أنهم منكم وما هم منكم فهم يكيدون لكم في الخفاء ويغشونكم في الجهر فيبرزون الخديعة في معرض النصيحة ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة والله أعلم بما في قلوبهم من العداوة والبغضاء.
﴿ وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾ فهو الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل التي تؤدي إلى القوة فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصرة من سواه وعليكم باتباع السنن التي وضعها في هذه الحياة، ومنها عدم الأستعانة بالأعداء الذين لا يعمارن إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم.
و قد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومة الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين امنوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة وهذا لا يكفى في إتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله.
فأرشدنا سبحانه إلى عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغني عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
تفسير المفردات :
من الذين هادوا : هم اليهود غير مسمع : يحتمل أن يكون المعنى غير مسمع مكروها وأن يكون غير مقتول منك ولا مجاب إلى ما تدعو إليه وراعنا : إما بمعنى ارقبنا وانظرنا نكلمك وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي ( راعينا ). ليا بألسنتهم : أي فتلا بهم وتحريفا طعنا في الدين : قدحا فيه أقوم : اعدل وأسد إلا قليلا : أي إلا قليلا من الإيمان لا يعبأ به.
الإيضاح :
﴿ من الذين هادوا ﴾ هذا بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى وقوله :﴿ والله أعلم ﴾ وقوله :﴿ وكفى بالله ﴾ جملتان معترضتان بين البيان والمبين.
ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى فقال :
﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ التحريف يطلق على معنيين : أحدهما تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له كما يؤولون البشارات التي وردت في النبي صلى الله عليه وسلم ويؤولون ما ورد في المسيح ويحملونه على الشخص آخر ولا يزالون ينتظرونه إلى اليوم وثانيهما أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر وقد حصل هذا في كتب اليهود خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل وكذلك ما وقع في كلام غيره من أنبيائهم واعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينهما فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه ( إظهار الحق ) وأوراد له من الشواهد ما لا يحصى.
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ﴾ أي ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : سمعنا قولك وعصينا أمرك وقد روي عن مجاهد أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم سمعنا قولك ولكن لا نطيعك وكذلك كانوا يقولون له ( اسمع غر مسمع ) يدعون عليه على معنى لا أسمعك الله في الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين " لا سمعت أذى أو لا سمعت مكروها ".
و كذلك كانوا يقولون له : راعنا وقد روي أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة ( راعينا ) العبرانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا من المراعاة فافترصوها وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.
﴿ ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ أي هم يلوون ألسنتهم فيحعلونها في الظاهر راعنا وبلي اللسان وإمالته ( راعينا ) قصدا منهم للسباب والشتم والسخرية أو جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة ومن تحريف اللسان وليه خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتحيته بقولهم :( السام- الموت- عليكم ) يوهمون بفتل اللسان وجمجته أنهم يقولون له ( السلام عليكم ) وقد ثبت هذا في صحيح الأحاديث كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان علم عنهم ذلك كان يحييهم بقوله ( وعليكم ) أي كل أحد يموت.
﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكتن خيرا لهم وأقوم ﴾ أي ولو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك لعلمهم بصدقك ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك وكذلك لو قالوا : اسمع منا ما نقول وانظرنا : أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا حتى نتفهم عنك ما تقول لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.
ثم بين عاقبة أمرهم فقال :
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الطاعة بسبب كفرهم إذا مضت سنة الله في البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكير والتروي والأدب في الخطاب ويجعله بعيدا من الخير والرحمة فلا يمت إليهما بسبب ولا يصل إليهما برحم ولا نسب.
﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ أي فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يعتد به فهو لا يصلح عملا ولا يطهر نفسا ولا يرقى عقلا ولو كان إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانا كاملا لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب وبين لهم ما نسوا منه وما حرفوا فيه كما جاءهم بمكارم الأخلاق والنظم الكاملة في الاجتماع والتشريع وبما إن اتبعوه كانوا على الهدى والرشاد وعلى الحق والسداد.
تفسير المفردات : الكتاب : التوراة الطمس : إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق أما بأن تنقل حجارتها وإما بأن تسفوها الرياح ومنه الطمس على الأموال قوله :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ ( يونس : ٨٨ ) أي أزلها وأهلكها والطمس على الأعين في قوله :﴿ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾ ( يس : ٦٦ ) إما إزالة نورها وإما محو حدقتها والوجه تارة يراد به الوجه المعروف وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى :﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ﴾ ( آل عمران : ٢٠ )و قال :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ( لقمان : ٢٢ )و قال :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾ ( الروم : ٣٠ ) والأدبار واحدها دبر وهو الخلف والقفا والارتداد : هو الرجوع إلى الوراء إما في الحسيات وإما في المعاني ومن الأول الارتداد والفرار في القتال ومن الثاني قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ ( محمد : ٢٥ ) ونلعنهم : نهلكهم كما لعنا أصحاب السبت أي كما أهلكنا أصحاب السبت وقيل مسحهم الله وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن جرير عن الحسن.
المعنى الجملي : بعد أن نعى على أهل الكتاب في الآية السالفة اشتراءهم الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعض وإضاعة بعضه الآخر – ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يؤمنوا بالقرآن ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعي الإيمان بما يصدقها وحذرهم من مخالفة ذلك وتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾ أي أيها اليهود والنصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم من تقرير التوحيد والابتعاد عن الشرك وما يقوى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتلك هي أصول الدين وأركانه والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل ولا خلاف بينهم في ذلك وإنما الخلاف في التفاصيل وطرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها وترقيتهم في معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها الله في ارتقاء البشر بتعاقب الأجيال واختلاف الأزمان
انظر إلى الحكومات المختلفة المتعاقبة تجد أن رائدها العدل ولكن الوسائل الموصلة إليه تختلف باختلاف الأمم والبيئة والزمان والمكان فتغيير الحاكم الجديد لبعض ما كان عليه من قبله ليس ببدع ولا مستنكرا إذا كان مقصده إقامة ميزان العدل فيما بين الناس وحينئذ يسمى مصدقا لما قبله ولا مكذبا ولا مخالفا.
و القرآن قرر نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيما جاؤوا به ووبخ المدعين أتباعهم على إضاعتهم بعض ما جاؤوا به وتحريف بعضه الآخر وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم حتى إن أكثرهم هدموا الأسس التي جاء به الأنبياء ومن أعظمها التوحيد فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.
﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار : أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة.
و جعل بعضهم الرد على الأدبار حسيا فقال : نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام وهي بلادهم التي جاؤوا منها.
و خلاصة المعنى : آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل بما نبصر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم فتردوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير الخير لكم.
﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾أي آمنوا قبل أن تقعوا في الخيبة والخذلان وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم من دياركم كما حدث لطائفة منكم أو بالهلاك كما بقتل طائفة أخرى وهلاكها.
ثم هددهم وتوعدهم فقال :
﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾ المراد من الأمر الأمر تكويني المعبر عنه بقوله عز من قائل :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( يس : ٨٢ ) أي إنما أمره بإيقاع ما نافذ لا محالة ومن هذا ما أوعدتهم به قال ابن عباس يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره فلا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد
و الخلاصة : إنه يقول لهم انتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم.
تفسير المفردات : يقال : افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلفه وأصله من الفري بمعنى القطع
المعنى الجملي : بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه والرد على الأدبار ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله : وكان أمر الله مفعولا.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبي محلز قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله فسكت ثم قال إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية.
الإيضاح :{ إن الله لا يغفر أن يشرك به { الشرك بالله ضربان :
شرك في الألوهية وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى.
شرك في الربوبية وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحي وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾( التوبة : ٣١ ) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام.
و قد سرى الشرك في الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة.
و في الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين وكأنه يقول لهم : لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله بحال.
و الحكمة في عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول والشرك ينافي كل هذا لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء لله وطاعة له.
و بالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشيء من الأشياء السماوية أو الأرضية وتكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات.
والخلاصة : إن أرواح الموحدين تكون راقية لا تهبط بها الذنوب إلى الحضيض الذي تهوي إليه أرواح المشركين إذ مهما عمل المشرك من الطيبات فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم إذ خيرهم يغلب شرهم ولا يبعد بهم الأمد وهم في غفلة عن ربهم كما قال تعالى :﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ ( الأعراف : ٢٠١ ) فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس وذلك هو غفرانها.
﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا ومشيئة الله تعالى تكون وفق حكمته وعلى مقتضى سنته في خليقته وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.
وقصارى ذلك : إن الشرك لأفسادة للنفوس يترتب عليه العقاب حتما في الدنيا والآخرة وما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفوس فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفوس قويا ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير بصالح العمل.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ أي ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيوم السماوات والأرض – سواء أكانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم – فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام فهو جدير بألا يغفر وما دونه قد يمحي بالغفران.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبي محلز قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله فسكت ثم قال إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية.
تفسير المفردات :
و تزكية النفس مدحها قال تعالى :﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ ( النجم : ٣٢ ) والظلم : النقص والفتيل : ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط وبه يضرب المثل في الشيء الحقير كما يضرب بمثقال الذرة
الإيضاح :
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ أي انظر واعجب من الذين يدعون أنهم أزكياء بررة عند الله مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب زعما منهم أن الله يكفر لهم ذنوبهم التي عملوها والله لا يغفر لكافر شيئا من كفره ومعاصيه.
و تزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة وهي التي عناها الله سبحانه بقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾ ( الشمس : ٩ ).
و تارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق والانتفاع بالنصح.
روى ابن جرير عن الحسن أن الآية نزلت في اليهود والنصارى حيت قالوا :﴿ نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ ( المائدة : ١٨ ) وقالوا :﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ( البقرة : ١١١ ) وقالت اليهود :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ ( البقرة : ٨٠ ) وروي عن السدي أنه قال : نزلت في اليهود حيث قالوا : إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل.
و قد رد الله عليهم دعواهم الزكاة والطهارة فقال :
﴿ بل الله يزكي من يشاء ﴾ أي لا عبرة بتزكيتكم أنفسكم بأن تقولوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وبأنكم لا تعذبون في النار لأنكم شعب الله المختار وتتفاخروا بنسبكم ودينكم بل الله يزكي من يشاء من عباده ومن أي شعب كان ومن أي قبيلة كانت فيهديهم إلى صحيح العقائد وفاضل الآداب وصالح الأعمال.
﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾ أي ولا ينقص الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم شيئا من الجزاء على أعمالهم.
فخذلانهم في الدنيا بالعبودية لغيرهم وفي الآخرة بالعذاب والحرمان من النعيم والثواب ما كان بظلم من الله عز اسمه بل كان بنقصان درجات أعمالهم وعجزها عن الصعود بأرواهم إلى مستوى الرفعة والكرامة لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح.
وفي الآية موضعان من العبرة :
( ١ ) أن الله يجزي عامل الخير بعمله ولو كان مشركا لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد في الأحاديث إذ بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم فحاتم الطائي بكرمه وأبو طالب بكفالته النبي صلى الله عليه وسلم ونصره إياه وأبو لهب لعته جاريته ثوبة حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.
( ٢ ) أن يحذر المسلمون الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما له وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين وأن يعلموا أن الله لا يحابي في نظم الخليقة أحدا لا مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا ألا ترى أن خاتم النبيين قد شج رأسه وكسرت سنه وردي في حفرة من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد وعدم مخالفته وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته في الأمم وأن يتركوا وساوس الدجالين الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدي كتابهم ويشغلونهم بما لم لم ينزل الله به عليهم سلطانا فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم إلا بتركهم لهدي دينهم واتباعهم لأولئك الدجالين والمشعوذين.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبي محلز قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله فسكت ثم قال إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية.
تفسير المفردات :
قال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب : أي عن الخيرات التي يثاب المرء عليها وقد يطلق الإثم على ما كان ضارا.
الإيضاح :
ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة فقال :
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب ﴾ أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أن الله يعاملهم معالملة خاصة بهم لا كما يعامل سائر عباده
﴿ وكفى به إثما مبينا ﴾ أي إن تزكية النفس والغرور بالدين والجنس مما يبطئ عن نافع العمل الذي يثاب عليه الناس وكفى بهذا إثما ظاهرا لأنه لا أثر له من حق ولا سمة عليه من صواب فالله لا يعامل شعبا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها في الخليقة وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل وكفى بذلك شرا مستطيرا.
تفسير المفردات : الجبت : أصله الجبس وهو الرديء الذي لا خير فيه ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدجل والطاغوت : ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج من الحق من مخلوق يعبد ورئيس يقلد وهوى يتبع وروي عن عمر ومجاهد أنه الشيطان
المعنى الجملي : أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان ونبي قريظة هم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو عغمارة وهوذة بن قيس وباقيهم من نبي النضير فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ ملكا عظيما ﴾ قاله السيوطي في لباب النقول.
و قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ومن ثم فضلوهم على المؤمنين كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ أي ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف حرموا هدايته وهداية العقل والفطرة وآمنوا بالدجل والخرافات وصدقوا بالأصنام والأوثان ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم والمعترفين بحقية كتبهم ؟
﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ﴾ أي ويقولون إن المشركين أرشد طريقة في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير : إن الله وصف الذين أتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به وأن دين أهل التكذيب لله ورسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ورسوله اه.
وروي عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يغزوه وقال إنا معكم نقاتله فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء ( الناقة الضخمة السنام ) ونسقي اللبن على الماء ونصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بهذا البيت ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده فقال : بل أنتم خير وأهدى.
و قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ومن ثم فضلوهم على المؤمنين كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم فقال :
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ أي أولئك الذين اقتضت سنن الله في خلقه أن يكونوا بعدين عن رحمته مطرودين من فضله وجوده.
﴿ ومن يلعن الله فلن نجد له نصيرا ﴾ أي ومن يبعده الله من رحمته فلن ينصره أحد من دونه إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى في خليقته وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت إذ هم قد تجاوزوا سنن الفطرة واتبعوا الخرافات والأوهام لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( الروم : ٤٧ ).
و قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ومن ثم فضلوهم على المؤمنين كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
تفسير المفردات :
و النقير : النقرة التي في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة يضرب بها المثل في الشيء الحقير التافه كما يضرب المثل بالقِطمير وهو القشرة الرقيقة التي على ظهر النواة بينها وبين التمرة والحسد : تمنى زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها والناس هنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه
الإيضاح :
ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيلهم المشركين على المؤمنين إلى توبيخهم على البخل والأثرة وطمعهم في أن يعود إليهم الملك في آخر الزمن وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فقال :
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾ أي إنهم لا حظ لهم من الملك إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم وإيمانهم بالجبت والطاغوت.
﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ أي إنه لو كان لهم نصيب من الملك لا تبعوا طريق البخل والأثرة وحصروا منافعه في أنفسهم فلا يعطون الناس منه نقيرا.
و الخلاصة : إن اليهود ذوو أثره وشح يشق عليهم أن ينتفع منهم غير اليهودي فإذا صار لهم ملك حرصوا علة منع الناس أدنى النفع وأحقره ومن كانت هذه حاله حرص أشد الحرص على ألا يظهر نبي من العرب يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا.
و لكن هل يعود الملك كما يريدون ؟ ليس في الآية ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل.
و قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ومن ثم فضلوهم على المؤمنين كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
تفسير المفردات :
و الفضل : النبوة والكرامة في الدين والدنيا والكتاب : العلم بظاهر الشريعة والحكمة : العلم بالأسرار المودعة فيها والملك العظيم : ما كان لأنبياء نبي إسرائيل كداود وسليمان عليهما السلام وصد عن الشيء : أعرض عنه ونار مسعرة : موقدة ويقال أوقدت النار وأسعرتها.
الإيضاح :
ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد فقال :
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ﴾ أي إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ولا يحبون أن يكون لأمة فضل أكثر مما لهم أو مثله لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم.
و هم قد رأوا أن محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطي النبوة جعله الله كل يوم أقوى دوله وأعظم شوكة وأكثر أعوانا وأنصارا من أجل هذا حسدوه حسدا عظيما.
و بعد أن ذكر أن كثرة نعمه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك الحسد فقال :
﴿ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ أي إن يحسدوا محمدا على ما أوتي فقد أخطؤوا إذ ليس هذا ببدع منا لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل فلم لم تعجبوا مما آتى آل إبراهيم وتعجبون مما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ و لم لا يكون مستبعدا في حق هؤلاء ومستبعدا في حق محمد صلى الله عليه وسلم ؟
و في الآية رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآيات بالمدينة فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم بعظم رويدا رويدا.
و الخلاصة : إن اليهود إما مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله لا يعدوهم ورحمته تضيق بغيرهم وإما حاسبون أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يعطون أحدا منه ولو حقيرا كالنقير وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئه ومقدماته.
و قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ومن ثم فضلوهم على المؤمنين كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
﴿ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ﴾قوله به أي بمن تقدم من الأنبياء كإبراهيم وآله أب إن أولئك الأنبياء مع ما اختصوا به من النبوة والملك لم تؤمن أممهم جميعا بهم بل منهم من آمن بهم ومنهم من بقي على كفره فلا تعجب أيها الرسول مما عليه قومك فإن هذه حال جميع الأمم مع أنبيائهم.
و في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ( الكهف : ٦ ).
﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فكفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزينه لهم على اتباع الحق ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم في دار الشقاء والنكال وهي جهنم وبئس القرار.
تفسير المفردات : نصليهم : نشويهم بالنار يقال شاة مصلية أي مشوية ونضجت : احترقت وتهرأت وتلاشت من قولهم نضج الثمر واللحم نضجا : إذا أدركا ليذوقوا العذاب : أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كما تقول للعزيز : أعزك الله : أي أدام لك العز وزادك فيه والعزيز هو القادر الغالب على أمره والحكيم : هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه في الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن اتباع الحق ثم توعد من أعرض بسعير جهنم.
فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.
الإيضاح :﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ﴾ أي إن الله تعالى قد اعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك.
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ أي كلما فقدت التماسك الحيوي وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب.
قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة في كتابه ( الإسلام والطب الحديث ) والحكمة في تبديل جلود الكفار أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كي يستمر الألم بلا انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم وهنا تظهر حكمة الله قبل ان يعرفها الإنسان وكان الله عزيزا حكيما أه.
ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال :
﴿ ليذوقوا العذاب ﴾ ليدوم لهم ذوق العذاب لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد وفي هذا إزالة لوهم ربما يعرض لبعض الناس قياسا على ما يعهدون في أنفسهم في الدنيا من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عاديا عنده كما يشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمدها.
وفي التعبير بيذوقوا إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.
ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال :
﴿ إن الله كان عزيزا حكيما ﴾ أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما توعد به أو وعد حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره فيبطل اطرادها فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب كما تقدم في الآية جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم وذلك ما بينه بقوله :
فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.
تفسير المفردات :
و مطهرة : أي من العيوب والأدناس الحسية والمعنوية وقوله : ظلا ظليلا كقوله ليل أليل وصف للمبالغة والتأكيد في المعنى : أي ظل وارف لا يصيب صاحبه حر ولا سموم ودائم لا تنسخه الشمس وقد يعبر بالظل عن العزة والمتعة والرفاهية فيقال :" السلطان ظل الله في أرضه " ولما كانت بلاد العرب غاية في الحرارة كان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة وكان ذلك عندهم رمزا للنعيم المقيم والآيات : الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق ومن أجلها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا والخلود : الدوام وقد أكده بقوله أبدا ومطهرة : أي بريئات من المعايب الجسمانية والطباع الردية.
الإيضاح :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم وقدموا من عمل صالح لأن الإيمان وحده لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه والشعور بهيبته وجلال سلطانه.
﴿ لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ أي لهم أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية والعيوب الخلقية فليس فيهن ما يوحشهم منهن ولا ما يكدر صفوهم وبذا تكمل سعادتهم ويتم سرورهم في تلك الحياة التي لا نعرف كنهها وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد.
﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾ أي ونجعلهم في مكان لا حر فيه ولا قر.
و في ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع برغد العيش وكمال الرفاهية.
تفسير المفردات : الأمانة : الشيء الذي يحفظ ليؤدى إلى صاحبه ويسمى من يحفظها ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيا ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنا والعدل : إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه والتأويل بيان المآل والعاقبة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجل تلك الأعمال أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس – لا جرم أمر بهما في هذه الآية.
روي عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال أرني المفتاح ( مفتاح الكعبة ) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان فقال هاك أمانة الله فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ حتى فرغ من الآية.
الإيضاح :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ الأمانة على أنواع :
أمانة العبد مع ربه وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه وقد ورد في الأثر : إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل.
أمانة العبد مع الناس ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام.
و يدخل في ذلك عدل الأمراء مع الرعية وعدل العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال ومن المواعظ والأحكام التي تقوى إيمانهم وتنقذهم من الشرور والآثام وترغبهم في الخير والإحسان وعدل الرجل مع زوجه بألا يفشي أحد الزوجين سرا للآخر ولاسيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادة سواهما.
( ٣ ) أمانة الإنسان مع نفسه بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا وألا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته وما يعرف من الأطباء وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولاسيما في أوقات انتشار الأمراض والأوبئة
﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ أمر الله بالعدل في آيات كثيرة : منها هذه الآية ومنها :﴿ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ( المائدة : ٨ ) وقوله :﴿ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ ( النساء : ١٣٥ ) وقوله :﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ( الحجرات : ٩ ) والحكم بين الناس له طرق : منها الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة.
و الحكم بالعدل يحتاج إلى أمور :
( ١ ) فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضوع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين.
( ٢ ) خلو الحاكم من التحيز إلى أحد الخصمين.
( ٣ ) معرفة الحاكم والحكم الذي شرعه الله ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.
( ٤ ) تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.
و قد أمر المسلمون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق قال تعالى :﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ ( الأنعام : ١٥٢ ).
ثم بين حسن العدل وأداء الأمانة فقال :
﴿ إن الله نعما يعظكم به ﴾ أي نعم الشيء الذي يعظكم به أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم في الدارين.
﴿ إن الله كان سميعا بصيرا ﴾ أي عليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات فإذا حكمتم بالعدل فهو سميع لذلك الحكم وإن أديتم الأمانة فهو بصير بذلك.
و في هذا وعد عظيم للمطيع ووعيد شديد للعاصي وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه السلام :" اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وفيه أيضا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة لأنه قد فوض إليهم النظر في مصالح العباد.
روي عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال أرني المفتاح ( مفتاح الكعبة ) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان فقال هاك أمانة الله فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ حتى فرغ من الآية.
و بعد أن أمر سبحانه برد الأمانات إلى أهلها وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة أمر بطاعة الله والرّسول وطاعة أولي الأمر إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم { أي أطيعوا الله واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول لأنه يبين للناس ما نزل إليهم فقد جرت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه رسل منهم تكفل بعصمتهم وأوجب علينا طاعتهم.
و أطيعوا أولي الأمر وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله التي عرفت بالتواتر وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه.
و أما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد بل إنما يؤخذ عن الله ورسوله فحسب وليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه.
فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع وكانوا مختارين في ذلك غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة كما فعل عمر حين استشار أهل الرأي من الصحابة في الديوان الذي أنشأه وفي غيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الأمر من الصحابة ولم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد من علمائهم في ذلك.
﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ أي فإذا لم يوجد نص على الحكم في الكتاب ولا في السنة ينظر أولو الأمر فيه لأنهم هم الذين يوثق بهم فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه وإن اختلفوا وتنازعوا وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به وما كان مخالفا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه وبذا يزول التنازع وتجتمع الكلمة وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس والأول هو الإجماع الذي يعتد به.
و مما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين في الحكومة الإسلامية وهي :
( ١ ) الأصل الأول القرآن الكريم والعمل به هو طاعة الله تعالى.
( ٢ ) الأصل الثاني سنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
( ٣ ) الأصل الثالث إجماع أولي الامر وهم أهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع والزراع ورؤساء العمال والأحزاب ومديري الصحف ورؤساء تحريرها – وطاعتهم حينئذ هي طاعة أولي الأمر.
( ٤ ) الأصل الرابع عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة وذلك قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.
فهذه الأربعة الأصول هي مصادر الشريعة ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن.
و يجب على الحكام الحكم بما يقرونه وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين : الأولى الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن ( الهيئة التشريعية ) والجماعة الثانية جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون ( الهيئة التنفيذية ).
و على الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرا وجهرا وهي بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر لأنها لم تعمل إلا بحكم الله أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم بإذنه أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها
﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ أي ردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا.
وفي هذا دليل على أن من لا يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه فإنه لا يكون مؤمنا حقا.
﴿ ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾ أي ذلك الرد للشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله خير لكم لأنه أقوى الأسس في حكومتكم والله أعلم منكم بما هو الخير لكم ومن ثم لم يشرع لكم في كتابه وعلى لسان رسوله إلا ما فيه مصالحكم ومنافعكم وما هو أحسن عاقبة لما فيه من قطع عرق التنازع وسد ذرائع الفتن.
تفسير المفردات : الزعم في أصل اللغة : القول حقا كان أو باطلا ثم كثر استعماله في الكذب قال الراغب : الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب وقد جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به كقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ ( التغابن : ٧ ) وقوله :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ ( الإسراء : ٥٦ ). والطاغوت : بمعنى الطغيان الكثير ضلالا بعيدا : أي بعيدا صاحبه عن الحق إذ هو لا يهتدي إلى الطريق الموصلة إليه
المعنى الجملي : بعد أن أوجب سبحانه في الآية السالفة على جميع المؤمنين طاعة الله وطاعة الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه بل يريدون حكم غيره أخرج الطبراني عن ابن عباس قال :" كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا – إلى قوله –إلا إحسانا وتوفيقا ﴾.
و أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يؤخذ الرشوة في الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ أي انظر إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بك وآمنوا بمن قبلك من الأنبياء ويأتون بما ينافي الإيمان إذ الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضي العمل بما شرعه الله على ألسنة أولئك الرسل وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ في نفس مدعيه فكيف إذا عمل بضد ما شرعه الله ؟ فهؤلاء المنافقون إذ هربوا من التحاكم إليك وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال من أولئك الكهنة والمشعوذين – سواء أكان أبا برزة الأسلمي أم كعب بن الأشرف – دليل على أن الإيمان ليس له أثر في نفوسهم بل هي كلمات يقولونها بأفواههم لا تعبر عما تلجلج في صدورهم وكيف يزعمون الإيمان بك وكتابك المنزل عليك يأمرهم بالكفر بالجبت والطاغوت في نحو قوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾ ( النحل : ٣٦ )و قوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ﴾ ( البقرة : ٢٥٦ ) وهم يتحاكمون إليه ؟ فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسله وأفعالهم تدل على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه.
و يدخل في هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدجالين كالعرافين وأصحاب المندل والرمل ومدعي الكشف والولاية.
و في الآية إيماء إلى أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ومن أجل هذا حكم الصحابة بردة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم.
﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ أي ويريد الشيطان أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه.
و الخلاصة : إن الواجب على المسلمين ألا يقبلوا قول أحد ولا يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأي أولي الأمر لأنه أقرب إلى المصلحة.
و أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يؤخذ الرشوة في الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت.
تفسير المفردات :
صدودا : أي إعرضا متعمدا عن قبول حكمك
الإيضاح :
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ أي وإذا قيل لأولئك الزاعمين للإيمان الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت : تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن لنعمل به ونحكمه فيما بيننا وإلى الرسول ليحكم بيننا بما راه الله رأيتهم يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم وهذه الآية مؤكدة لما دلت عليه الآية التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم الله وحكم الرسول إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء لأن حكم الرسول لا يكون إلا حقا متى بينت الدعوى على وجهها وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم أو بجهل تطبيقه على الدعوى
و هي أيضا دالة على أن من أعرض عن حكم الله متعمدا ولاسيما بعد دعوته إليه وتذكيره به فإنه يكون منافقا لا يعتقد ما يزعمه من الإيمان ولا ما يدعيه من الإسلام.
و أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يؤخذ الرشوة في الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت.
تفسير المفردات :
إحسانا : أي في المعاملة بين الخصوم وتوفيقا : أي بينهم وبين خصومهم بالصلح
الإيضاح :
﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ﴾ أي فكيف يفعلون إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك وتبين أن عملهم يكذب دعواهم وأن تلك الحال التي اختاروا فيها التحاكم إلى غير الرسول لا تدوم لهم وأنه يوشك أن يقعوا في مصاب بسبب ما قدمت أيديهم منة هذه الأعمال وأمثالها ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشفه عنهم واعتذروا عن صدودهم بأنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح أو بالجمع بين منفعة الخصمين ويحلفون بالله على ذلك وهم مخادعون.
و في الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار.
و أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يؤخذ الرشوة في الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت.
تفسير المفردات :
فأعرض عنهم : أي اصرف وجهك عنهم وعظهم : أي ذكرهم بالخير على الوجه الذي ترق له قلوبهم قولا بليغا : أي يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها.
الإيضاح :
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ هذا أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر مسرة أو حزن فيقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده : الله يعلم ما في نفسي لك أي إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى ويقول في العدو الماكر المخادع : الله يعلم ما في قلبه أي إن ما في قلبه من الخبث والخديعة باغ حدا كبيرا لا يعلمه إلا علام الغيوب.
فالمعنى هنا أن ما في قلوبهم من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين بلغ من الفظاعة مقدارا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
﴿ فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ طلب إليه سبحانه أن يعاملهم بثلاثة أشياء :
الإعراض عنهم وعدم الإقبال عليهم بالبشاشة والتكريم إذ هذا يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سوره تنبئهم بما في قلوبهم وإذا استمر هذا الإعراض عنهم ظنوا الظنون وقالوا لعله عرف ما في نفوسنا لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا.
النصح والتذكير بالخير على وجه ترق له قلوبهم ويبعثهم على التأمل فيما يلقى إليهم من العظات والزواجر.
القول البليغ المؤثر في النفس الذي يغتمون به ويستشعرون منه الخوف بأن يتوعدهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق ويخبرهم بأن ما في نفوسهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على العليم بالسر والنجوى وإنه لا فرق بينهم وبين الكفار وإنما رفع الله عنهم السيف لأنهم اظهروا الإيمان وأسروا الكفر وأضمروه فإن فعلوا ما ينكشف به غطاؤهم لم يبق إلا السيف وفي الآية شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على بليغ الكلام وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه لأن لكل مقام مقالا والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في مواضعه وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾( ص : ٢٠ ).
قال القاضي عياض في كتابه ( الشفاء ) في وصف بلاغته صلى الله عليه وسلم :
أما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأرفع والموضع الذي لا يجهل قد أوتي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب يخاطب كل أمة بلسانها ويحاورها بلغتها... حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله... وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمداني وطهفة النهدي والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن اه
تفسير المفردات : إذن الله : إعلامه الذي نطق به وطرق آذانكم – كقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول -
استغفروا الله : أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا واستغفر لهم الرسول : أي دعا الله أن يغفر لهم
المعنى الجملي : بعد أن أوجب سبحانه فيما سلف طاعة الله وطاعة الرسول وشنع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت – ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ أي إن سنتنا في هذا الرسول كسنتنا في الرسل قبله فما نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن الله فمن خرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم خرج عن حكمنا وسنتنا وارتكب أكبر الآثام.
و جيء بقوله : بإذن الله لبيان أن الطاعة الذاتية لا تكون إلا لله رب العالمين لكنه قد أمر أن تطاع رسله فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه
﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ أي ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم ورغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت – جاؤوك فاستغفروا الله من ذنبهم وندموا على ما فرط منهم وتابوا توبة نصوحا ودعا لهم الرسول بالمغفرة لتقبل الله توبتهم وغمرهم بإحسانه فرحمته وسعت كل.
و إنما قرن استغفار الرسول باستغفار الله لأن ذنبهم لم يكن ظلما لأنفسهم فحسب بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنهم أعرضوا عن حكمه وهو صاحب الحق في الحكم وحده فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم لأنهم اعتدوا على حقه وليدعو لهم بالمغفرة إذ أعرضوا عن حكمه.
و في الآية إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتما إذا استكملت شرائطها ومنها أن تكون عقب الذنب مباشرة وقد سمى الله ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس أي إفسادا لها لأن الرسول هو الهادي إلى مصالح الناس في الدنيا والأخرى وهذا الظلم شامل للاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك.
و الاستغفار لا يكون مقبولا إلا إذا ناجي العبد ربه عازما على اجتناب الذنب وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك – أما الاستغفار باللسان عقب الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارا معتدا به عند الله إذ لا بد أن يشعر القلب أولا بألم المعصية وسوء مغبتها وبالحاجة إلى التزكي من دنسها مع العزم القوي على اجتناب هذا الدنس ومتى أخلص الداعي أ أجاب الله دعاءه بإعطائه ما طلب أو بغيره من الأجر والثواب.
و هي مدنية كلها فقد روى البخاري عن عائشة أنها " ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد بني النبي بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى من الهجرة.
ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران :
أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة بذلك وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السور.
أن في السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه ذيل لها وهو قوله :﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾ ( النساء : ٨٨ ) فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
إنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد وهي ( غزوة حمراء الأسد ) بقوله :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ ( أل عمران : ١٧٢ ) وأشير إليها هنا في قوله :﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ﴾ ( النساء : ١٠٤ ) الآية.
ما حوته السور من الموضوعات :
الأمر بتقوى الله في السر والعلن.
تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.
أحكام القرابة والمصاهرة.
أحكام الأنكحة والمواريث.
أحكام القتال.
الحجَاج مع أهل الكتاب.
بعض أخبار المنافقين.
الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها.
تفسير المفردات :
ويحكموك : يجعلوك حكما ويفوضوا الامر إليك وشجر : اختلف واختلط الامر فيه مأخوذ من التفاف الشجر فإن الشجر تتداخل بعض أغصانه في بعض حرجا : ضيقا : قضيت حكمت التسليم : الانقياد والإذعان.
الإيضاح :
﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ أقسم سبحانه بربوبيته لرسوله بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليك هم ومن ماثلهم من المنافقين لا يؤمنون إيمانا حقا وهو إيمان الإذعان والانقياد إلا إذا كلمت لهم ثلاث خصال :
( ١ )أن يحكموا الرسول في القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون ولا يتبين لهم وجه الحق فيها.
( ٢ ) ألا يجدوا حرجا وضيقا فيما يحكم به : أي أن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه فيما شجر بينهم بلا امتعاض من قبوله والعمل به إذ المؤمن الكامل ينشرح صدره لحكم الرسول لأول وهلة لأنه الحق وأن الخير والسعادة في الإذعان له.
( ٣ ) الانقياد والتسليم لذلك الحكم فكثيرا ما يعرف الشخص أن الحكم حق لكنه يتمرد عن قبوله عنادا أو يتردد في ذلك.
و في هذه الآية إشارة إلى شيئين :
( ١ ) عصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها لا بحسب الواقع في نفسه إذ الحكم في شريعته على الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجة من بعض فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأي أعن وحي هو أم عن رأي ؟ فإن كان عن وحي أطاعوا وسلموا وإن كان عن رأي ذكروا ما عندهم وربما يرجع إليهم كما حدث يوم بدر.
( ٢ ) أنهم لا يكونون مؤمنين إيمانا صحيحا مستحقا للفوز بالثواب والنجاة من العقاب إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم مذعنين في بواطنهم بصدق الرسول في كل ما جاء به الدين.
و من أمارة ذلك أن يحكموه فيما شجر بينهم من خلاف وألا يجدوا ضيفا وحرجا في حكمه إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع وأن ينقادوا انقيادا كاملا بلا تمرد ولا عناد في قبوله.
تفسير المفردات : كتبنا : أي فرضنا ما يوعظون به : أي من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها وأحكامها والوعد لمن عمل بها الوعيد لمن صدّ عنها والتثبت : التقوية وجعل الشيء ثابتا راسخا.
المعنى الجملي : بعد أن بين عز اسمه فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه –ذكر هنا قصور كثير من الناس في ذلك لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم.
الإيضاح :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾ أن اقتلوا أنفسكم : أي اقتلوها ببخع النفس ( الانتحار )- كما أمر بنو إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل وقوله أو اخرجوا من دياركم بالهجرة إلى بلاد أخرى وقوله ما فعلوه : أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن
بين الله لنا في الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع الله في كل ما يأمر به في السهل والصعب والمحبوب والمكروه ولو كان ذلك بقتل النفس والخروج من الديار ( الجسم دار الروح والوطن دار الجسم ) أما المنافق فيعبد الله على ما يوافق هواه وشهواته فإن أصابه خير اطمأن به ورضي وإن ناله أذى انقلب على وجهه وارتد على عقبه وباء بالخسران في الدنيا والآخرة.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾ أي ولو أنهم فعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه لكان ذلك خيرا لهم في مصالحهم وأشد تثبيتا لهم في إيمانهم إذ الأعمال هي التي تطبع الأخلاق والفضائل في نفس العامل وتبدد الأوهام والمخاوف من نفسه فبذل المال مثلا آية من آيات الإيمان وقربة من أعظم القرب فمن فعله كان مؤمنا إيمانا صادقا ومن آمن بذلك ولم يفعله كان علمه بمنافعه ومزاياه له وللأمة والدين علما ناقصا فكلما دعا الداعي إلى البذل طاف به طائف البخل والإمساك وعرض له شبح الفقر والإملاق أو نقصان المال عن مال بعض الأقران لكنه إذا اعتدل البذل صار السخاء خلقا له وسجية وقلما امتنع عن فعله حين تدعو الحاجة إليه إذ الطاعة تدعو إلى مثلها فالمرء يطلب الخير أولا حتى إذا حصله طلب أن يكون الحاصل ثابتا قويا.
﴿ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ أي ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به وأخلصوا العمل لأعطيناهم الثواب العظيم من عندنا وكيف لا يكون عظيما وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :" فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
ولهديناهم إلى طريق العمل الصالح على الوجه المرضي الموصل إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين كما ذكر ذلك سبحانه بقوله :﴿ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ... ﴾
تفسير المفردات : الصديق : من غلب عليه الصدق وقيل من صدق في قوله واعتقاده كما قال ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ﴾ ( مريم : ٥٦ ) والشهيد : هو الذي يشهد بصحة الدين تارة بالحجة والبرهان وأخرى بالسيف والسنان والصالح : من صلحت نفسه وصلح عمله وغلبت حسناته سيئاته.
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بطاعته وطاعة الرسول ثم شنع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ثم رغب في تلك الطاعة بقوله : لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا حث على الطاعة وشوق إليها بذكر مزاياها وبيان حسن عواقبها وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم وأرفع ما تشرئب إليه الأعناق.
الإيضاح :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ أي إن كل من يطيع الله ورسوله على الوجه المبين في الآيات السالفة ويفعل الأوامر ويترك النواهي يكون يوم القيامة مرافقا لأقرب عباد الله وأرفعهم درجات عنه وهم الأصناف الأربعة الذين ذكروا في الآية وعم صفوة الله من عباده وقد وجدوا في كل أمة ومن أطاع الله ورسوله من هذه الأمة كان منهم وحشر يوم القيامة معهم.
﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾ أي إن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته.
روى الطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت :" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلام فقال يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي وإنك لأحب إلى من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فانظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل بهذه الآية ﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾الآية.
و أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة : يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ولم نرك وقال الكلبي : إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه وقد نحل جسمه وتغيير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
و يؤيد هذه الروايات ما رواه الطبراني مرفوعا " من أحب قوما حشره الله معهم " وما أخرجه الشيخان عن أنس " المرء مع من أحب " وآية المحبة الطاعة كما قال تعالى :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ﴾ ( آل عمران : ٣١ ).
﴿ ذلك الفضل من الله ﴾ أي إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل فإن السمو إلى إحدى تلك المنازل في الدنيا ومرافقة أهلها في الآخرة هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة وبه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا.
﴿ وكفى بالله عليما ﴾ أي كفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
و ليحذر المنافقون المراؤون لعلهم يتذكرون فيتوبوا وليطمئن المؤمنون الصادقون لعلهم ينشطون ويزدادون في الطاعة ويبتعدون عن التقصير.
تفسير المفردات : حذركم : الحذر والحذر كالمثل والمثل : الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو النفر : الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالنزوع عن الشيء إلى الشيء ومن الأول :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴾ ( الإسراء : ٤١ ) ومن الثاني النفر إلى الحرب والثبات : واحدها ثبة : وهي الجماعة المنفردة
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه في هذه السورة كثيرا من الأمور الدينية من عبادته تعالى وعدم الشرك به والمدينة كمعاملة ذوي القربى والجيران واليتامى والمساكين والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث بين في هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية ورسم لنا الطريق التي نسير عليها في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ﴾ أي احترسوا واستعدوا لاتقاء شر العدو بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته وإذا كان لكم أعداء كثيرون فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا واعملوا بتلك الوسائل ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك حتى لا يهاجمكم على غرة أو يهددكم في دياركم وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
و قد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على علم بأرض عدوهم كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار ( قلم مخابرات ) ولما أخبروه بنقض قريش للعهد ( إخلالهم بشروط المعاهدة في صلح الحديبية ) استعد لفتح مكة ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له.
و قد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة : حاربهم بمثل ما يحاربونك به السيف بالسيف والرمح بالرمح.
و ما رواه الحاكم عن عائشة " لا يغني حذر من قدر " لا يناقض أخذ الحذر لأن الأمر بالحذر داخل في القدر فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء لا لندفع القدر ونبطله إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر بما يضاده.
﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾ أي فانفروا جماعة إثر جماعة بأن تكونوا فضائل وفرقا - إذا كان الجيش كبيرا أو موقع يستدعي ذلك – أو تنفر الأمة كلها جميعا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو.
و الخلاصة : إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو.
و امتثال هذا الأمر يقتضى أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرن عليها وأن تقتني السلاح الذي تحتاج إليه في هذا النضال وتعلم كيفية استعماله في كل زمان بما يناسبه.
و من هذا تعلم أن الحكومة الإسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى عالة على غيرها وعلى الأمة أن تساعدها عليه بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه بعكس ما نراه الآن من تراخي الأمم الإسلامية وضعفها وتوانيها في ذلك حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها واجتاحتها من أطراها واجتثت كثيرا من كورها وأقاليمها.
و قد شدد الدين أيما تشديد في هذا الأمر فجاء مثل هذا في قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ) وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
تفسير المفردات :
و التبطؤ : يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء والبطء : التأخر عن الانبعاث في السير مصيبة كقتل وهزيمة شهيدا : أي حاضرا معهم
الإيضاح :
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن ﴾ أي ليتثاقلن ويتأخرن عن الجهاد والخطاب لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر ومنهم المنافقون وضعفة الإيمان والجبناء فالمنافقون يرغبون عن الحرب لأنهم لا يحبون أن يبقى الإسلام وأهله ولا أن يدافعوا عنه ويحموا بيضته فهم يبطئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورا وخوفا من صليل السيوف ومن الكر والفر ومقابلة العدو هو شاكي السلاح.
ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال :
﴿ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذا لم لأكن معهم شهيدا ﴾ أي قال ذلك المبطئ فرحا بما فعل حامدا رأيه شاكرا ربه إذا أصابتكم المصيبة من قتل أو هزيمة – إن الله قد أنعم علي بالقعود فلم أكن حاضرا معهم فيصيبني مثل ما أصابهم من البلاء والشدة.
تفسير المفردات :
فضل : كفتح وغنيمة.
الإيضاح :
﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ﴾ أي ولئن من الله عليكم بالظفر وفتح البلاد فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى ليقولن قول من ليس منكم ومن لم تجمعه مودة بكم – ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا فهو قد نسي ما يجب عليه من مد يد المعونة إليكم وبذل كل ما يمكنه من نفس أو مال ليتم ذلك الظفر.
و لكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا إذ هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل وكونه ممن يشتري الحياة الدنيا بالآخرة وفي قوله : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة تقريع وتوبيخ بألطف القول وأرق العبارة إذ أن قليلا من المودة كان ينبغي أن يمنع مثل هذا التمني وأن يعد هذا الإحجام نعمة فهذا يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة والحديث يدل على أنهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا.
و من فوائد هذا الأسلوب أنه يؤثر في نفس سامعه تأثيرا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر في حقيقة حاله ومعاتبة نفسه والتوبة إلى ربه والرجوع إلى أوامر دينه.
تفسير المفردات : سبيل الله : هي تأييد الحق والانتصار له بإعلاء كلمة الدين ونشر دعوته ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا او أغاروا على أرضنا أو نهبوا أموالنا أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس ويشرون : يبيعون كما جاء في قوله :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ ( يوسف : ٢٠ )و قوله :﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ﴾ ( البقرة : ١٠٢ )و قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾ ( البقرة : ٢٠٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين عز اسمه حال ضعفاء الإيمان الذين يبطئون عن القتال في سبيله دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم ذنب القعود عن القتال وأمر به إيثارا لما عند الله من الأجر والثواب على ما في الدنيا من نعيم زائل وعرضي يفنى.
الإيضاح :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ أي فليقاتل في سبيل الله من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وعوضا منها لأنه يكون قد أعز دين الله وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى والله عزيز ذو انتقام.
ثم رغب في القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال :
﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ أي ومن يقاتل في سبيله فيظفر به عدوه أو يظفر هو بعدوه فإن الله سيؤتيه أجرا عظيما من عنده خالدا أبدا في دار الجزاء.
و في الآية إيماء إلى شرف الجهاد لأنه إنما كان في سبيل الحق والعدل والخير لا في سبيل الهوى والطمع كما أن فيها إيماء إلى أنه ينبغي للمقاتل أن يوطن نفسه على أحد الأمرين : إما أن يقتله العدو ويكرم نفسه بالشهادة وإما أن يظفر به فيعز كلمة الحق والدين ولا يحدث نفسه بالهرب بحال لأنه إن فعل ذلك فما أسرع ما يقع في ذلك الفخ الذب نصبه لنفسه.
ثم زاد ترغيبا فيه فقال :
﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾أي وأي عذر لكم يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله لتقيموا التوحيد مقام الشرك وتحلوا الخير محل الشر وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة.
﴿ والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان ﴾ أي وفي سبيل المستضعفين إخوانكم في الدين الذين استذلهم أهل مكة الأقوياء الجبابرة وآذوهم أشد الإيذاء ليمنعوهم من الهجرة ويفتنوهم عن دينهم ويردوهم في ملتهم.
و قد جعل الله هؤلاء سبيلا لإثارة النخوة وهز الأريحية وإيقاظ شعور الرحمة والأنفة فوصفهم بما يجعل نفس الحر تتشعل حماسة وغيرة على إنقاذهم والسعي في رفع الظلم عنهم فقال :
﴿ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ أي إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين وتقطعت بهم أسباب الرجاء فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرج كربهم ويخرجهم من تلك القرية ( مكة ) لظلم أهلها لهم ويسخر لهم بعنايته من يتولى أمرهم وينصرهم على من ظلمهم فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط وهي رابطة الإيمان فهي أقوى من رابطة الأنساب والأوطان وما كل أحد من المسلمين قدر على الهجرة فقد كانوا يصدونهم عنها ويعذبون مريديها عذابا شديدا. وما شرع القتال إلا لعدم حرية الدين وظلم المشركين للمسلمين فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررا والأمور بمقاصدها وغاياتها كما قال :﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون قي سبيل الطاغوت ﴾
تفسير : المفردات :
الطاغوت : من الطغيان وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر والكيد : السعي في الفساد على وجه الحيلة.
الإيضاح :
﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون قي سبيل الطاغوت ﴾ أي إن المؤمنين إنما يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الحق والكافرين إنما يقاتلون اتباعا لوسوسة الشيطان وتزيينا للكفر فلو ترك المؤمنون القتال لغلب الطغيان وعم الفساد ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ).
ثم حث مرة أخرى على القتال وبين لهم ضعف عدوهم فقال :
﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾أي فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الرحمن – أولياء الشيطان الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه أن في الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفا لهم أيما شرف.
و قد جرت سنة الله أن الحق يعلو والباطل يسفل وأن الذي يبقى هو الأصلح والامثل فالذين يقاتلون في سبيل الله يطلبون ما تقتضيه سنة العمران والذين يقاتلون في سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء في الأرض بغير الحق وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم وسنن العمران تأبى ذلك فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء إلا لنومة أهل الحق عن حقهم فإذا هم أفاقوا من غفوتهم تغلب الحق على الباطل ورده خاسئا محسورا.
إلى أن الذين يقاتلون في تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد ويكونون أجدر بالثبات والصبر وفي ذلك من القوة ما ليس في كثرة العدد والعدد.
و هذا في الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد العدة للحرب لا تخذها أهل المدينة قدوة لهم وإماما في أعمالهم.
تفسير المفردات : كفوا أيديكم : أي عن القتال كتب عليهم : أي أمروا به ويخشون الناس : أي يخافون أن يقتلهم المشركون كخشية الله : أي كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه وعذابه لولا أخرتنا إلى أجل قريب : أي هلا تركتنا حتى نموت حتف أنوفنا بآجالنا القريبة متاع الدنيا : ما يستمعون به من لذاتها قليل : أي سريع الزوال
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له وذكر حال الميطئين الذين ضعفت قلوبهم وأمرهم بالقتال في سبيله وفي سبيل إنقاذ المستضعفين.
ذكر هنا أن الإسلام كفلهم ترك ما كانوا عليه في الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولاسيما بين قبيلتي الأوس والخزرج فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجيء الإسلام وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية إلى إن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم في دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفروا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ الخطاب لجماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء أي ألم تر إلى أولئك الذين أمرهم الله بحقن الدماء وكف الأيدي من الاعتداء وإقامة الصلاة والخشوع لله وإيتاء الزكاة التي تمكن الإيمان في القلوب وتشد أواصر التراحم بين الخلق وقد كانوا من قبل ذوي إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعوده ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال كما خافوا أن ينزل الله بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من الله.
ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم :
﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾أي وقالوا ربنا لماذا كتبت علينا القتال في هذا الوقت ؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهروب والتفصي عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا في أمره : أمهلني قليلا أنظرني إلى أجل.
و قد أمر الله رسوله أن يرد عليهم شبهتهم فقال :
﴿ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ﴾ أي إن طلبكم للأنظار إنما هو خشية الموت والرغبة في متاع الدنيا ولذاتها مع أن كل ما يمتع به في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة لأنه محدود فان ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى الله وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
﴿ ولا تظلمون فتيلا ﴾ أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل – والفتيل ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط وبه يضرب المثال في القلة والحقارة.
ذكر هنا أن الإسلام كفلهم ترك ما كانوا عليه في الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولاسيما بين قبيلتي الأوس والخزرج فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجيء الإسلام وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية إلى إن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم في دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.
تفسير المفردات :
أينما تكونوا يدرككم الموت : أي في أي مكان كنتم يلحقكم الموت البروج المشيدة : القصور العالية المطلية بالشيد وهو الجص أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند
الإيضاح :
ثم رغبهم في القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شيء فقال :
﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾ أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان ولو تحصنتم في شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو في القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند وإذا كان الموت لا مفر منه وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى ولا يصاب بالأذى وقد يموت المعتصم في البروج والحصون وهو في غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون والمبطئون ولماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم ؟ ولماذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة ولماذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء أليس هذا بضعف في الدين وركة في العقل وخور في العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة.
ثم ذكر سبحانه شأنا أخر من شؤونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال :﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سئية يقولون هذه من عندك قل كل من عند الله ﴾ أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن الله أكرمكم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر في ذلك وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب وهذا زعم باطل منهم فكل من النعمة والبلية من عند الله خلقا وإيجادا يقع في ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها.
﴿ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾ أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم في عقولهم ؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادئ الرأي دون تمحيص ولا تحقيق وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه في الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الاناة والتدبير ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد بل ينسب كل شيء إلى سببه.
و في الآية إيماء إلى أن حصيف الرأي يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر إذ من قنع بذلك بقي في عماية ويظل طوال دهره غرا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.
ذكر هنا أن الإسلام كفلهم ترك ما كانوا عليه في الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولاسيما بين قبيلتي الأوس والخزرج فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجيء الإسلام وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية إلى إن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم في دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.
تفسير المفردات :
حسنة : أي شيء يحسن عند صاحبة كالرضاء والخصب والظفر بالغنيمة سيئة : هي ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل يفقهون حديثا : يفهمون كلاما يوعظون به.
الإيضاح :
﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود منه من أرسل إليهم.
أي إن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهي من فضل الله وجوده فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة والماء العذب الذي يمد كل الأحياء وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من مواد الغذاء وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء وكل سيئة تصيبك فهي من نفسك فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل واختيار في درء المفاسد وجلب المنافع وترجيح لبعض المقاصد على بعض قد تخطئ في معرفة ما يسوء وما ينفع لأنك لا تضبط إرادتك وهواك ولا تحيط علما بالسنن والأسباب فأنت ترجح بعضا على بضع إما بالهوى أو قبل أن تحيط خبرا بمعرفة النافع والضار فتقع فيما يسوء.
و الخلاصة : إن ها هنا شيئين لا بد من معرفتهما :
( ١ ) إن كل شيء من عند الله على معنى أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسنن للوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان وكسبه وكل شيء حسن بهذا الاعتبار لأنه مظهر الإبداع والنظام.
( ٢ ) إن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه في معرفة السنن والأسباب فالسوء إنما ينسب إلى الأشياء بتصرف الإنسان باعتبار أنها تسوءه وليس بذاتي لها ومن تم ينسب ذلك إلى الإنسان فالمرض مثلا يسوءه وهو إنما يكون بتقصيره في السير على نهج الفطرة في التغذية فقد يكون من تخمة قادته إليها شهوته أو من إفراط في تعب أو راحة أو من تعرض للبرد القارس أو للحر الشديد أو نحو أولئك من الأسباب التي ترجع كلها إلى سوء الاختيار كما أن الأمراض الموروثة هي من جنيات الإنسان على الإنسان فهي من نفسه أيضا لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هي محض خلق الله دون اختيار إنسان لنفسه فالوالدان قد يجنيان على المرء بتعريض أنفسهما للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة كما يجنيان عليه في صغره بعدم وقايته من أسبابه حين يكون اختيارهما له تاما قائما مقام اختياره لنفسه
و أحيانا تسند الأشياء جميهعا إلى الله ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها.
و يسند إلى الإنسان منها كل ما له فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات والسيئات وقد مضى بهذا كلام الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ( الأنعام : ١٦٠ ).
و بهذا الاعتبار يقال إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا ولكل من الإطلاقين مقام يقال فيه والمقام الذي سيقت له الآية في بيان نفي الشؤم والتطير وإبطالهما ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا تكون بشؤم أحد وكانوا يتشاءمون ويتطيرون في الجاهلية وقد أبطل ذلك الإسلام لكنه لا يزال فاشيا إلى الآن.
و ينبغي للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه لأنها إنما تصيبه لجهله بالسنن التي وضعها الله من التماس المنافع من أسبابها واتقاء المضار بالبعد عن أسبابها بترجيحه فعل ما ينفع على فعل ما يضر.
و قد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم وأن عصيانه مما يجلب النقم وطاعته إنما تكون باتباع سننه وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية.
﴿ وأرسلناك للناس رسولا ﴾ والرسول ليس عليه إلا البلاغ وليس له دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات لأنه لم يرسل إلا للتبليغ والهداية لا للتصرف في نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة تصيبهم بشؤمه محض خرافة لا مستند لها من عقل أو نقل أو مخالف لما بينه الله تعالى من وظيفة الرسل.
﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ أنك أرسلت للناس كافة بشيرا ونذيرا لا مسيطرا ولا جبارا ولا مغيرا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ فاطر : ٤٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه فيما تقدم بطاعة الله وطاعة الرسول وبين جزاء المطيع وأحوال الناس في هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه ثم أمر بالقتال وبين مراتب الناس في الامتثال له أعاد هنا أمر بالطاعة وبين أنها أولا وبالذات لله ولغيره بالتبع وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين.
الإيضاح :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ أي إن من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي في الحقيقة والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات وإنما هي لمن بلغ عنه إذ قد جرت سنته سبحانه ألا يأمر الناس ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم يفهمون عنهم ما يوحيه إليهم ليبلغوه عنه.
أما ما يقوله الرسول من تلقاء نفسه وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل ( تلقيحه بطلع الذكر ) ونحوه مما يسميه العلماء أمر إرشاد فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله لأنه ليس دينا ولا شرعا عنه تعالى فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكيل الطعام كالقمح وغيره من الحبوب عند طحنه وعند عجنه وهو من التدبير والاقتصاد في البيوت وأكثر المسلمين أهملوه إلا من تعود منهم التدبير وحسن التقدير في المنازل وكذلك أمر بأكل الزيت والادهان به.
و قد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا شكوا في الأمر أمن عند الله هو أم من رأي الرسول واجتهاده ؟ وكان لهم في ذلك رأي آخر سألوه فإن أجابهم بأنه من الله أطاعوه بلا تردد وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم وربما رجع النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأيهم كما فعل في بدر وأحد.
روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل ؟ لقد قارف الشرك قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية ".
فالمؤمن حقا لا يكون خاضعا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه والخروج عن ذلك شرك وهو نوعان :
أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية ومن ثم ترجو نفعها وتخاف ضرها وتدعوها وتذل لها وذلك هو الشرك الألوهية..
أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم كما فسر النبي صلى الله علية وسلم قوله تعالى :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ ( التوبة : ٣١ ) بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون وذلك هو الشرك في الربوبية.
ذاك المؤمن يحب أن يكون أعز الناس نفسا وأعظمهم كرامة فلا يرضي أن يستعبده سلطان ظالم ولا حاكم مستعبد إذ هو يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون لله تعالى يخضعون لأمره وأن ذلك منتهى سعادتهم في الدارين.
﴿ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ أي ومن أعرض عن طاعتك التي هي طاعة الله فليس لك أن تكرهه عليها لأنك ما أرسلت إلا مبشرا ونذيرا ولم ترسل مسيطرا أو رقيبا تحفظ على الناس أفعالهم وأقوالهم فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار.
﴿ ويقولون طاعة ﴾ أي ويقول ذلك الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر : أمرك طاعة – أي أمرك مطاع إظهارا لكمال الانقياد والخضوع.
﴿ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾ البراز- بفتح الباء –الأرض الفضاء والتبييت ما يدبر في الليل من رأي ونية وعزم على عمل ومنه تبييت العدو للإيقاع به ليلا أي إذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه إلى البراز وهم منصرفون إلى بيوتهم دبر جماعة منهم ليلا غير الذي قالوا لك وأظهروه من الطاعة نهارا.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : هم ناس يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمنا يالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم وإذا برزوا من عند رسول الله خالفوا على غير ما قالوا عنده فعاتبهم الله على ذلك.
﴿ والله يكتب ما يبيتون ﴾ أي يبينه لك في كتابه ويفضحهم بمثل هذه الآيات وفي هذا من التهديد الشيء الكثير.
﴿ فأعرض عنهم ﴾ ولا تهتم بما يبيتون ولا تؤاخذهم يما أسروا ولم يعلنوا. ﴿ وتوكل على الله ﴾ أي فوض الأمر إليه وثق به في جميع أمورك فإن الله يكفيك شرهم وينتقم لك منهم.
﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ لمن توكل عليه فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم وعليهم بمقدار ما يستحقون منه لا يعجزه منه شيء.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ أصل التدبير التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه وأسبابه أو لواحقه وأعقابه وتدبر الكلام هو النظر والتفكير في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه.
أي أجهل هؤلاء القوم حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها. ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة فهو إذ صدق في الإخبار عما يبيتون في أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال في عاقبتهم.
﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ أي ولو كان من عندك لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأسباب كثيرة :
أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت في شيء منها.
أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقف على تاريخه وعن الآتي فوقع كما أنبأ به وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول أو ما يقوله لها فتقبله في حضرته وترفضه في غيبته.
أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد وقواعد ااشرائع وسياسة الشعوب والقبائل مع عدم الاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك
أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله في سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات لبليغة تنويعا للعبرة وتلوينا للموعظة واتفاق كل ذلك وتواطئه على الصدق وبراءته من الاختلاف والتناقض
أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات في الأرض أو في السماوات فقد تكلم على الخلق والتكوين ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات وكان في كل ذلك يؤيد بعضه بعضا لا تفاوت فيه ولا اختلاف بين معانيه.
أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الاعمال والجزاء العادل وكان في كل ذلك جاريا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح مع الالتئام بين الآيات الكثيرة وهو غاية الغايات في ذلك عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
هذا إلى أنه نزل منجما بحسب الوقائع والأحوال وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع في محلها من سورة كذا وهو يحفظه حفظا وقد جرت العادة بأن من يأتي بكلام من عنده في مناسبات مختلفة لا يتذكر جميع ما سبق له في السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقا للأول مع أن بعض الآيات كان ينزل في أيام المحن والكروب وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام.
إلى أن كر الغداة ومر العشي لا يزيده إلا جدة ولا يزيد أحكامه إلا ثباتا ورسوخا وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف ونمت أحوال العمران زاد إيمان الناس به إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشؤون الكون.
و الخلاصة : إن تدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم وصراط الحق المستقيم فإنه يرشد إلى كونه من عند الله وإلى وجوب الاهتداء به وإلى أنه معقول في نفسه موافق للفطرة ملائم للمصلحة وفيه سعادة الخلق في الدنيا والآخرة.
و لو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به في كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم ولما ظلم واستبد حكامهم ولما زال ملكهم وسلطانهم ولما صاروا عالة في معايشهم على سواهم.
و هذا التدبر لا يمنع أن يستنبط أولو الأمر الأحكام العامة في السياسة والقضاء والإدارة وتتبعهم فيها سائر الأمة.
تفسير المفردات : أذاع الشيء وأذاع به : نشره وأشاعه بين الناس ورد الشيء : أرجعه وأعاده والاستنباط : استخرج ما كان مستترا عن الأبصار فضل الله : هو هدايتكم بطاعة الرسول إلا قليلا : أي قليلا منكم ممن أتوا صفاء الفطرة وسلامتها.
المعنى الجملي : قال ابن جرير : إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له اه ولا يبعد أن تكون في جمهور المسلمين بلا تعيين لأن المشاهد في أحوال الناس أن الإذاغة بمثل أخبار الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة بل هي مما يلهج به الناس في مختلف البيئات بحسب المناسبات وإن كانت تختلف نياتهم فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر وضعيف الإيمان قد يذيع استشفاء مما في صدره من الإحن والبغضاء وغيرهما قد يذيع رغبة في كشف الأسرار وابتلاء الأخبار وهذا أمر معتاد بين الناس وهو كثير الضرر إذا شغلوا به عن أعمالهم وضرره أكثر إذا أذاعوه وعلمه جواسيس العدو لما يكون لذلك من العواقب الوخيمة على الأمة ومثل ذلك سائر السياسة والشؤون العامة التي لا ينبغي أن تعدو الخاصة وتصل إلى العامة.
الإيضاح :﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ﴾ أي إن هؤلاء الضعفة من المسلمين الذين لا خبرة لهم بالشؤون العامة قد بلغ في طيشهم وخفة أحلامهم أن كل خير يصل إليهم يستفزهم وسيطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس سواء أكان من ناحية الجيش الذي يغزو ويقاتل العدو أو من ناحية المركز العام للسلطة ولا ينبغي أن تشيع العامة أخبار الحرب وأسرارها ولا أن تخوض في السياسة العامة للدولة لأن ذلك مضرة لها ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة وعلاقاتها مع غيرها من الأمم إلى أن في ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بها يفسدهم ويفيد الأمة.
و هذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين.
ثم بين ما ينبغي أن يفعل في مثل هذه الحال فقال :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ أي ولو أن أولئك المذيعين فوضوا الكلام في الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام في الحرب وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لوجدوا علم ذلك عندهم لأنهم هم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض فهذا أخصائي في المسائل المالية وذاك في الأمور القضائية وذاك في بناء القناطر والجسور ورابع في شؤون الحرب وكل هذه المسائل يدرسها رجال الشورى ( مجلس الوزراء بالاصطلاح العصري ) ويستنبطون منها ما يكون فيه المصلحة للدولة وينفذونه ولا ينبغي أن تذيعه العامة لما في ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات.
ثم امتن سبحانه على صادقي الإيمان من عبادة فقال :
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله ظاهرا وباطنا ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لا تبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول : طاعة لك وتبيت غير ذلك والتي تذيع أمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها ولأخذتهم بآراء المنافقين فيما يأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى الصواب إلا قليلا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهي كقوله تعالى :﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ﴾( النور : ٢١ ).
تفسير المفردات : التحريض : الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الأمر فيه والبأس القوة وكان بأس الكافرين متجها إلى إذلال المؤمنين لأيمانهم والتنكيل : معاقبة المجرم بما يكون فيه عبرة ونكال لغيره بحيث يمنعه أن يفعل مثل فعله.
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب وذكر قلة رغبة المنافقين فيه وسعيهم في تثبيط المسلمين عنه عاد هنا إلى الأمر به مرة أخرى
الإيضاح :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ﴾ أي وإذا أردت الفوز والظفر على الأعداء فقاتل في سبيل الله امتثالا لأمره وأنت لا تكلف إلا أفعال نفسك دون أفعال الذين قالوا لم كتبت علينا القتال ؟ والذين يقولون : لك طاعة ويبيتون غير ذلك فمن أطاع الله لا يضيره عصيان من عصاه وعليك أن تحث غيرك على القتال وتحرضه عليه لا أن تلزمه ذلك بالقهر والجبروت.
و في الآية إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده كما إنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الشجاعة ما لم يعط أحد من العالمين وفي سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك فقد تصدى لمقاومة الناس جميعا بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال وحين قاتلوه قاتلهم وقد انهزم عنه أصحابه في أحد فبقي ثابتا كالجبل لا يتزلزل.
﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ عسى هنا للتهيئة والإعداد فهي بمعنى الخبر والوعد وخبره تعالى حق فإنه لا يخلف الميعاد.
و المعنى : إن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي على الاستعداد له وتوطين النفس عليه بينما هو يعد الكافرين لترك الاعتداء على المؤمنين وكف بأسهم عنهم إذ لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال كما قال أبو تمام :
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم إن الدم المغبر يحرسه الدم
و على هذا النحو جرى عمل الممالك الكبيرة في هذا العصر فكل دولة منها تبذل منتهى ما في وسعها من اتخاذ العدة والعتاد في البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى بينها متوازنة ولا تطمع القوية في الضعيفة إذ يغريها ضعفها بالإقدام على حربها.
﴿ والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ﴾ أي لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه فإن الله الذي وعد الرسول بالنصر أشد منهم بأسا وأشد منهم تنكيلا وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه وأعدوا العدة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل.
تفسير المفردات : قال الراغب : الشفع ضم الشيء إلى مثله والشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه نصيب : حظ كفل : نصيب مقيت : أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا قال الراغب : وحقيقته قائما عليه يحفظه ويعينه فهو مأخوذ من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته
المعنى الجملي بعد أن أمر الله تعالى نبيه أن يحرض المؤمنين على الجهاد وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى – بين في هذه الآية أنهم حين أطاعوك ولبوا دعوتك أصابهم من هذه الطاعة خير كثير وأن لك من هذا الخير نصيبا تستحقه عليه الأجر لأنك قد بذلت الجهد في ترغيبهم فيه بجعل نفسك شفيعا ونصيرا لهم في الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة.
الإيضاح :﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ﴾ أي من يجعل نفسه شفيعا لك ويناصرك في القتال – وقد أمرت به وحدك – يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا عندما ينتصر الحق على الباطل وبما يناله من الثواب في الآخرة في جميع الحالات سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدركه.
ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده.
﴿ ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ﴾ أي ومن ينظم إلى عدوك فيقاتل معه أو يخذل المؤمنين عن قتاله يمن له نصيب من سوء العاقبة بما يناله من الخذلان في الدنيا والعقاب في الآخرة وهذه هي الشفاعة السيئة لأنها إعانة على السيئات وسمي هذا النصيب كفلا لأنه نصيب مكفول للشافع إذ هو أثر عمله أو محدود لأنه على قدره.
و الخلاصة : إن من ينظم إلى غيره معينا له في فعل حسن يكن له منه نصيب ومن ينظم إلى غيره معينا له في فعل سيء ينله منه سوء وشدة.
و يدخل في الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض وهي قسمان : حسنة وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم أو جر منفعة إلى مستحق ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار والسيئة أن يشفع في إسقاط حد أو هضم حق أو إعطائه لغير مستحق أو محاباة في عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل ولأجل هذا قال العلماء : الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع والسيئة : فيما كرهه أو حرمه.
و في الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة.
أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداده ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم به والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية في كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق ويحل الظلم محل العدل ويسري من الدولة إلى الأمة فيعم فيها الفساد ويختل نظام الأعمال.
﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ أي وكان الله مقتدرا على كل شيء فلا يعجزه أن يعطي الشافع نصيبا وكفلا من شفاعته على قدرها في النفع والضر ويجازي كلا بما يستحق لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالعمل.
تفسير المفردات :
والتحية : مصدر حياه إذا قال له حياك الله وهي في الأصل الدعاء بالحياة ثم صار اسما لكل دعاء وثناء كقولهم : أنعم صباحا وأنعم مساء وعم صباحا وعم مساء وجعل الشارع تحية المسلمين ( السلام عليكم ) إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان الحسيب : المحاسب على العمل كالجليس بمعنى المجالس وقد يراد به المكافئ والكافي من قولهم : حسبك كذا إذا كان يكفيك.
و بعد أن علم سبحانه المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس علمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم ليؤدبهم بأدب دينه ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد فقال :
﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها أو بتحية أحسن منها فقولوا لمن قال : السلام عليكم – عليكم السلام أو وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال هذا في تحيته فالأحسن أن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.
و قد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه في الألفاظ أو أخصر منه فمن قال لك : السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية فقل له : وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها وإن كانت مثلها في لفظها.
و الخلاصة : إن الجواب عن التحية له مرتبان : أدناهما ردها بعينها وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها والمجيب مخير بينهما وقد روى ابن جرير عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من سلم عليك من خلق الله فأردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول ﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من شيمتها وبعض المسلمين الآن يكره أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام كما يكرهون رد السلام على غير المسلم وكأنهم غفلوا عن أن الآداب الإسلامية إذا ألفت عرفوا فضل الإسلام وجذبهم ذلك إليه.
و السنة أن يسلم القادم على من يقدم عليه وإذا تلاقى الرجلان يبدأ الكبير في السن أو القدر بالسلام وقد جاء في الصحيحين أنه " يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير " وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بصبيان فسلم عليهم " وروى الترمذي " أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم " وقد ورد في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم :" إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " وروى الحاكم قوله صلى الله عليه وسلم " أفشوا السلام تسلموا " :
{ إن الله كان على كل شيء حسيبا " أي إنه تعالى رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك.
و في هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس ووجوب رد التحية على من يسلم علينا ويحيينا.
و بعد أن حث رسوله صلى الله عليه وسلم على الجهاد وأمر المسلمين بمشاركته فيه وأمرهم بإظهار المودة وقت السلم بين أنهم مجزيون على كل هذا في يوم لا ريب فيه فقال :﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾ جمعت هذه الآية التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وهما الركنان الأساسيان للدين وقد أرسل الرسل جميعا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما وتأييدهما بصالح الأعمال والقرآن قد يصرح بهما تارة معا وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها ولاسيما أحكام القتال الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله.
و المعنى : الله لا إله إلا هو فلا تقصروا في عبادته والخضوع لأمره ونهيه فإن في ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر بل من دونهم من المعبودات التي ذل لها المشركون وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة وهو يوم لا ريب فيه ولا فيما يكون فيه من الجزاء على الأعمال.
﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾ أي لا أحد لأصدق منه عز وجل إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات كما قال تعالى :﴿ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾ ( طه : ٥٢ ) فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص في العلم أو الغرض أو الحاجة لأنه تعالى غني عن العالمين.
أما الكلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل وقد دل الدليل على أن القرآن كلام الله فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين.
تفسير المفردات : الفئة : الجماعة والركس بوزن النصر : إرجاع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس أو متحولا عن حال إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين والسبيل : الطريق
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله –ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد في أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
الإيضاح :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ أي فما لكم صرتم في المنافقين فئتين واختلفتم في كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم بل عليكم أن تقطعوا بثبوته.
و هؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم مع أمثالهم من المشركين لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة.
و كان المؤمنون في أمرهم فريقين فرقة ترى أنهم يعدون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين بهم بالعداوة وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة.
﴿ والله أركسهم بما كسبوا ﴾ أي كيف تفترقون في شأنهم والله قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء بل نظرة العداوة والبغضاء ويتربصون بكم الدوائر.
و قد جعلهم الله مركسين كأنهم قد نسكوا على رؤوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ( الملك : ٢٢ ) لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق حتى لم يعد يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه.
و قد نسبه الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العالمين.
﴿ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ﴾ أي إنه ليس في استطاعتكم أن تبدلوا سنن الله في نفوس الناس فتريدون أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال.
﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ أي ومن تقضي سننه في خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه فإن للحق سبيلا واحدة هي صراط الفطرة المستقيم وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها كما قال تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ ( الأنعام : ١٥٣ ) وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقي مع الخط الأول بحال.
و سبيل الفطرة تقتضي أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا وفيه كماله الإنساني.
و أكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر في النفع والضر والحق والباطل.
و شبهته في ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
تفسير المفردات :
والولي : النصير والمعين
ثم ذكر سبحانه ما يجول في صدور أولئك المنافقين من أماني فقال :
﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾ أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه، وهذا منتهى ما يكون من الغلو والتمادي في الكفر حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم.
ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال :
﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم في سائر شؤونكم فإن الصادقين في إيمانهم لا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه للخطر ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها وإذ ن فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه.
﴿ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيت وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾ أي فإن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله ولزموا مواضعهم في خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل أو في الحرم ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا مكن مهام أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
تفسير المفردات :
يصلون : أي يتصلون بهم الميثاق : العهد حضرت : ضاقت السلم : الاستسلام والانقياد
الإيضاح :
و قد استثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين :
( ١ ) ﴿ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون في عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم.
( ٢ ) ﴿ أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ﴾ أي أو جاؤوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين.
و خلاصة ذلك : أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم بل يكونون على الحياد فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم لأنهم قومهم وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ ( البقرة : ١٩٠ ).
﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ﴾ أي إن الله تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب في قلوبهم ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات وسننه في الأفراد والجماعات جعل الناس في ذلك العصر أصنافا ثلاثة :
سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام.
المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين.
الموغلون في الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون.
﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها فما جعل الله لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها إذ من قواعد ديننا ألا نعتدي إلا على من يعتدي علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال :" لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة فقالوا مه فقال دعوه ما تريد ؟ قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم فأخذ رسول صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال :( اذهب معه فافعل ما يريد ) فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم فأنزل الله تعالى ﴿ ودوا لو تكفون – حتى بلغ – إلا الذين يصلون ﴾ فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم ".
وقال الرازي : إن النبي صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال ابن عويمر الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
تفسير المفردات :
الفتنة : الشرك تقفتموهم : وجدتموهم السلطات المبين : الحجة الواضحة.
الإيضاح :
ثم بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ في ذمهم فقال :
﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ﴾ هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم، وقد روي عن مجهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا وها هنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
﴿ كل ما ردوا إلى الفتنة أكسروا فيها ﴾ أي كلما دعوا إلى الشرك ( كما روى عن السدي ) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين. إما بإظهار الإسلام وإما بالعهد على السلم وتر ك القتال ثم يفتنهم المشركون أي : يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة فهم قد مردوا على النفاق.
و قد بين الله حكمهم بقوله :
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكلفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم : أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم ويكفلوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس – فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار.
﴿ وأولئكم جعلنا عليهم سلطان مبينا ﴾ أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة وبرهانا على قتالهم
قال الرازي : قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم
و نظيره قوله :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ ( البقرة : ١٩٠ ) إذ خص فيها الأمر بقتال من يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أحكام قتال المنافقين الذين يظهرون الإسلام خداعا ويسرون الكفر ويسارعون أهله على قتال المؤمنين والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم – ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين وما يقع منهم من ذلك عمدا أو خطأ.
روى ابن جرير في سبب نزول الآية عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة من أرباض المدينة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قم فحرر.
الإيضاح :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ﴾ أي ليس من شأن المؤمن ولا من خلقه أن يقتل أحدا من المؤمنين إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدا لكنه قد يفعل ذلك خطأ ( الخطأ ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ).
ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه وهي حقوق الله وحقوق العباد ومن الثانية القصاص لما في ذلك من البزجر عن القتل ولما في تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء ومن استهزأ بها كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة وهد ركنا من أركان الإيمان يرشد إلى ذلك قوله :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾( المائدة : ٣٢ ).
و سبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان إذ من شأنهما أن يعاقب الله عليهما ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعو ألا يؤاخذنا عليهما بقوله ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ ( البقرة : ٢٨٦ ). كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسي وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها لكن في السنة قوله صلى الله عليه وسلم :" وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه " رواه ابن ماجه.
﴿ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ تحرير الرقبة عتقها من الرق : أي ومن قتل مؤمنا خطأ بأن أراد رمي صيد أو غرض فأصاب مؤمنا أو ضربه بما لا يقتل عادة كأن صفعه باليد أو ضربة بعصا فمات وهو لم يكن يقصد قتله فعليه عتق رقبة من أهل الإيمان لأنه لما أعدم نفسا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسا ( والعتق كالإيجاد من العدم ).
﴿ ودية مسلمة إلى أهله ﴾الدية : هي المال الواجب بالجناية على الحر في النفس أو فيما دونها ويعطي إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه : أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول وقد بينتها السنة وحددتها على الوجه الذي كان مقبولا عند العرب وهي مائة بعير مختلفة في السن أو قيمتها إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق ودية المرأة نصف دية الرجل لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها.
و قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه ' إن من اعتبط ( قتل بغير سبب شرعي ) مؤمنا قتلا عن بينه فإنه قود ( أي قصاص يقتل به ) إلا أن يرضى أولياء المقتول – وإن في النفس الدية مائة من الإبل – ثم قال وعلى أهل الذهب ألف دينار " وفي هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها إذا كانت هي رأس أموالهم وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل.
﴿ إلا أن يصدقوا ﴾ أي إن الدية تجب على القاتل قتلا خطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم لأنها إنما وجدت تطييبا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل وتعويضا عما يفوتهم من المنفعة بقتله فإذا هم عفوا فقد طابت نفوسهم وانتفى المحذور وكانوا هم ذوي الفضل على القاتل وقد سمى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.
﴿ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي فإن كان المقتول من أعدائكم وهو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في حرب معهم ولم يعلم المسلمون إيمانهم لأنه لم يهاجر وقد قتله عياش حين خروجه مهاجرا وهو لم يعلم بذلك ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله – فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء يحاربون المسلمين فلا يعطون من أموالهم ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم.
﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ وهم الذين عاهدوكم على السلم ولا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما هو حال الدول في العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر إلا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا.
﴿ فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي فالواجب في قتل المعاهد كالواجب في قتل المؤمن دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم وعتق رقبة مؤمنة تكون كفارة عن حق الله الذي حرم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن ولم يعين هذه الدية للإشارة إلى أن للعرف العام والخاص حكمه ولاسيما إذا ذكر ذلك في عقد الميثاق الذي بينهما لأن هذا النص يكون أقطع لعرق النزاع وأجدر بالتراضي.
و قد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية في ذلك روى أحم$ والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" عقل ( دية ) الكافر نصف دية المسلم " وروي عن أحمد " أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته " وذهب الزهري وأبو حنيفة إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية في أهل الميثاق وهم العاهدون وأهل الذمة وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف فيها الفقهاء.
و ظاهر الآية يدل على أن الدية على القاتل ولكن السنة بينت أن العاقلة ( العائلة ) وهم عصبتة الأقربون هم الذين يدفعون الدية.
و حكمة هذا تقرير التضامن بين الأقربين وإذا عجزت العاقلة عن دفعها جعلت في بيت المال ( وزارة المالية ).
﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ﴾ أي فمن لم يجد رقبة يعتقها بأن لم يجد مالا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق أو لم يجد رقيقا ( وهذا مقصد من مقاصد الإسلام ) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين لا يفصل بين يومين منهما إفطار في النهار فإن أفطر يوما بغير عذر شرعي استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن.
﴿ توبة من الله ﴾ أي قد شرعها لكم ليتوب عليكم ويطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضي إلى القتل الخطأ.
﴿ كان الله عليما حكيما ﴾ أي وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها حكيما فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.
روى ابن جرير في سبب نزول الآية عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة من أرباض المدينة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قم فحرر.
الإيضاح :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ﴾ خالدا فيها أي ماكثا إلى الأبد أو ماكثا مكثا طويلا غضب الله عليه أي انتقم منه لعنه : أبعده عن رحمته أعد له : أي هيأ له.
و للعلماء في توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة :
( ١ ) يرى ابن عباس وفريق من السلف أن قاتل المؤمن عمدا لا تقبل له توبة وهو خالد في النار أبدا ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا }و أخرج البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى " وروي عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من قتل مؤمن ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار " عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال :" لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به.
و هؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلا زانيا تقبل توبته ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور فله شبه عذر إذا هو كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحا كان جديرا بالعفو.
و أما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل فلا عذر له إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون ويكون بأسهم بينهم شديدا.
و إنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين وانفصمت عروة الوفاق بينهم إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة إذ هؤلاء قد تجرؤوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة في قلوبهم.
قال في الكشاف : هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب جليل ومن ثم روي عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة... والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث ( الأحاديث التي تقدم ذكرها ) وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارعة وأتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ ( محمد : ٢٤ ) اه.
( ٢ ) يرى فريق آخر أن المراد بالخلود المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم وما في الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه ذلك كما جاء في قوله عز اسمه ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ ( الشورى : ٤٠ ) فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه ﴿ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ ( المائدة : ١٥ ) ومن ثم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أنه قال هو جزاؤه إن جازاه وبهذا قال جمع من العلماء وقالوا هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب وهو إن لم يجازه لم يكن كذابا وقد روي عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضا وقال في الآية هي جزاؤه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
( ٣ ) ويرى فريق ثالث أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وحكمه مما لا شك فيه وعكرمة وابن جريجن فسرا متعمدا مستحلا في الآية.
أي : ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له فجزاؤه جهنم خالد فيها أبدا.
تفسير المفردات : الضرب في الأرض : السير فيها بالسفر والتجارة أو الجهاد لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته في سبيل الله : أي لجهاد أعدائكم فتبينوا أي تثبتوا وتأنوا ألقى إليكم السلام : أي انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم عرض الحياة الدنيا : أي متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر مغانم كثيرة : أي رزق وفضل كثير.
المعنى الجملي : بعد أن بين عز اسمه في الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ وأن من قتل مؤمنا متعمدا فلا جزاء له إلا جهنم خالدا فيها أبدا.
أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين حين انتشر الإسلام ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميل إلى الإسلام ويتحينون الفرص للاتصال بأهله فأعلمهم ألا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين وألا يحملوا مثل هذا على الخداع إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألم بها إن لم يكن قد تمكن فيها ومن ثم أمر بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإسلام ولو بإلقاء تحيته فما بالك بمن ينطق بالشهادتين وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا ؟ وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبني الظن على ميله وهواه بل عليه أن يتقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه.
و في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة : منها ما أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال :" مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ".
و أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ﴾ الآية. وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كيف لك بلا إله إلا الله غدا " وأنزل الله هذه الآية.
و لا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ﴾ أي يأيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي إذا سرتم للغزو وجهاد الأعداء رفعة لدينه وإعلاء لكلمته تأنوا في قتل من اشتبه عليكم أمره فلم يعلموا أمسلم هو أم كافر ؟ ولا تعجلوا في قتل أحد إلا إذا علمتم يقينا أنه حرب لكم ولله والرسول.
﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ أي ولا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم – إنك لست بمؤمن حقا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا وحطامها الزائل السريع التحول والانتقال فعند الله أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد يغنمكموها فيغنيكم إذا شاء.
﴿ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ﴾ أي إنكم أول ما دخلتم في الإسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة من غير انتظار لمعرفة أن ما في القلب موافق لما في اللسان ومن الله عليكم بذلك فعليكم أن تعملوا مع الداخلين في الإسلام كما عمل معكم وان تعتبروا بظاهر القول ولا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف.
﴿ فتبينوا ﴾ أي فكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن بل تدبروا ليظهر لكم أن الإيمان العاصم من حقن الدماء يكفي فيه ظاهر الحال كما كفى معكم من قبل.
في إعادة التبيين مرة أخرى المبالغة في التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه.
﴿ إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ أي إنه تعالى خبيرا بأعمالكم لا يخفى عليه شيء من البواعث التي حفزتكم على الفعل فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو مثيبكم على ذلك.
و في هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع في مثل هذا الخطأ.
و كذلك فيه إرشاد إلى ألا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة والعلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله بمجرد المخالفة لنا في رأي أو عقيدة فإن مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافا.
و علينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإسلام منع قتل من يلقى السلم ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على النصر وإما على ترك القتال ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال ليكون لمحض رفع العدوان والبغي وتقرير الحق والإصلاح.
و أين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء ؟.
تفسير المفردات : الضرر : المرض والعلل التي يعجز صاحبها معها عن الجهاد كالعمى والعرج المثوبة الحسنى : هي الجنة.
المعنى الجملي : بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة – ذكر فضيلة الجهاد وأن من نصب نفسه له فقد فاز فوزا عظيما فعليه أن يحترز من الوقوع في الهفوات التي تخل بهذا المنصب العظيم.
روي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف حين تخلفوا عن رسول الله في غزوة بدر.
الإيضاح :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار –مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤونة ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق ومنع تعدي حزب الطاغوت لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد والقاعدين لا يأخذون حذرهم ولا يعدون عدتهم للدفاع ويكونون عرضة لتعدي غيرهم عليهم كما قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) أي بغلبة أهل الطاغوت عليها ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلا إلا مع القدرة أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه حينئذ.
ثم بين ما أجمله أولا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال :
﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ﴾ أي إن الله تعالى رفع المجاهدين على القاعدين درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها وهي ما خولهم الله عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد.
﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزا منه مع تمني القدرة عليه المثوبة الحسنى وهي الجنة فكل منهما كامل الإيمان مخلص لله في العمل.
﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ﴾ أي وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما.
روي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف حين تخلفوا عن رسول الله في غزوة بدر.
ثم بين هذا الأجر العظيم فقال :
﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة ﴾ هذه الدرجات هي ما ادخره الله تعالى لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها كما قال تعالى :﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ ( الإسراء : ٢١ ) ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة.
و المغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون.
و الرحمة هي ما يخصم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه وقد صح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال :" إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه } قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر ".
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي وكان شأن الله وصفته الغفران لمن يستحق المغفرة والرحمة لمن يؤتيه ذلك تفضلا منه وإحسانا.
تفسير المفردات : توفي الشيء : أخذه وافيا تاما وتوفي الملائكة للناس : قبض أرواحهم حين الموت والمأوى : المسكن
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عجز- ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصرة الدين وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم ولكنهم في الحقيقة غير معذورين لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء في الحق لا مستضعفون وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين.
و ظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين.
وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين وذلك عذر لا يعتد به إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال :" إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم ورجعوا فنزلت :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ ( العنكبوت : ١٠ ) فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾ ( النحل : ١١٠ ) الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل "
الإيضاح :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ أي إن الذين تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم برضاهم بالإقامة في دار الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده.
﴿ قالوا فيم كنتم ﴾ أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا.
﴿ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾ هذا اعتذار عن تقصيرهم الذي وبخوا عليه : أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فقالوا لهم :
﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة الدين وتحرروا أنفسكم من الرق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من خصاله.
﴿ فأولئك مأواهم جهنم ﴾ أي إن أولئك الذين فصلت حالهم الفظيعة نسكنهم في الآخرة جهنم لتركهم ما كان مفروضا عليهم إذ كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام.
﴿ وساءت مصيرا ﴾ أي وقبحت جهنم مصيرا لهم لأن كل ما فيها يسوءهم وفي هذا إيماء إلى أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب، لبعض الأسباب، أو يعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، وجبت عليه الهجرة أما المقيم في دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذاهو عمل بدينه وأقام أحكامه بلا نكير، فلا يجب عليه ان يهاجر كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز الآن إلا أن الإقامة فيها ربما كانت سببا من أسباب ظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه.
و ظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين.
وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين وذلك عذر لا يعتد به إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال :" إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم ورجعوا فنزلت :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ ( العنكبوت : ١٠ ) فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾ ( النحل : ١١٠ ) الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل "
﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان ﴾ أي أن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين في اعتذارهم أما الاستضعاف الحقيقي فهو عذر مقبول كأولئك الشيوخ الضعفاء والعجزة كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والنساء كأم الفضل أم عبد الله بن عباس والولدان كعبد الله المذكور وغيره.
﴿ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ﴾ أي إنهم قد ضاقت بهم الحيل فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها وعميت عليهم الطرق فلم يهتدوا طريقا منها إما للعجز كمرض وزمانة وإما للفقر وإما للجهل بمسالك الأرض ومضايقها بحيث لو خرجوا لهلكوا كما قالوا في أمثالهم " قتلت أرض جاهلها " و قد أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا والمراد بالولدان هنا المراهقون الذين قربوا من البلوغ وعقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقون بهم في التكليف بوجوب الهجرة معهم أو أن تكليفهم هو تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر.
و ظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين.
وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين وذلك عذر لا يعتد به إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال :" إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم ورجعوا فنزلت :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ ( العنكبوت : ١٠ ) فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾ ( النحل : ١١٠ ) الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل "
﴿ فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم ﴾ أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطيع الأسباب يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الكفر.
و في هذا إيماء إلى أن العفو مطموع فيه غير مجزوم به وإلى أن أمر الهجرة مشدد فيه ولو باستعمال الحيل والبحث عن مضايق السبل وبذا لا يخدع أحد ممن يحب وطنه نفسه فيعد ما ليس بمانع مانعا.
و هذا الرجاء الذي تفيده ( عسى ) بالنسبة إلى المخاطب أو إنها هنا للتهيئة والإعداد : أي إنه تعالى يعدهم ويهيئهم لعفوه وفي هذا رمز إلى تعظيم أمر الهجرة وإلى أن تركها جرم عظيم وإلى أنه ينبغي أن يترصد لها الفرصة السانحة ويعلق قلبه بها.
﴿ وكان الله عفوا غفورا ﴾ أي وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها ومغفرتها بسترها وعدم فضيحة صاحبها في الآخرة.
و ظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين.
وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين وذلك عذر لا يعتد به إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال :" إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم ورجعوا فنزلت :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ ( العنكبوت : ١٠ ) فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾ ( النحل : ١١٠ ) الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل "
تفسير المفردات :
مراغما : مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فيرغم بذلك أنوف من كانوا مستضعفين له وقع أجره على الله : أي وجب والوقوع والوجوب يتواردان على معنى واحد.
الإيضاح :
ثم رغب سبحانه في أمر الهجرة ونشط المستضعفين لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا في خياله وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له وأن عسرها إلى يسر فقال :
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ﴾ أي إن من يهاجر في سبيل الله : أي لقصد رضاه وإقامة دينه كما يجب وكما يحب الله تعالى يجد في الأرض سبيلا يرغم به أنوف من كانوا مستضعفين له ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل.
و في هذا وعد للمهاجرين في سبيله بتسهيل سبل العيش لهم وإرغامهم أعداءهم والظفر بهم.
و بعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب ومن وجدان السبل ميسورة أمامه ومن سعة العيش – وعد من يموت في الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله ونصرة رسوله في حياته وإقامة سننه بعد وفاته وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما في الحديث :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " فقال :
﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ﴾ وفي إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدرة وتأكيد ثبوته ووجوبه ولله تعالى إن يوجب على نفسه ما يشاء وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا إذ لا سلطان فوق سلطانه.
و ما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند الله.
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي وكان شأن الله الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه.
روى ا بن جرير عن ابن جبير : أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ( موضع قرب المدينة ) ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا لبنيه مات بالمدينة فنزلت " وروي غير ذلك.
و قد ذكر غير واحد من العلماء أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال ومات قبل الوصول إلى المقصد فله هذا الحكم.
أخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة ".
السبب في شرع الهجرة في صدر الإسلام :
شرعت الهجرة في صدر الإسلام لأسباب ثلاثة تتعلق بحال الفرد وحال الجماعة :
البعد عن الاضطهاد في أمور الدين بإقامة شعائره بحيث يكون المسلم حرا في تصرفه كما يعتقد فكل شخص يظن أنه ربما يفتن عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان لا خطر فيه على نفسه ولا على دينه فإن لم يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا وحمل وزرا عظيما.
تلقي الدين والنفقة فيه وقد كان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين كان إرسال الدعاة والمرشدين من قبله متعذرا لتصدي المشركين لهم وحرمانهم من أداء وظائفهم لما لهم من القوة والبطش وهذا الحكم في كل من يقيم ببلد ليس فيه علماء يقيمون أحكام الدين عليه أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه أمور دينه وأحكام شريعته.
أنه يجب على جماعة المسلمين أن تكون لهم دولة قوية تنشر دعوة الإسلام وتقيم أحكامه وحدوده وتحمي دعاته وأهله من عدوان العادين فإذا خيف على هذه الدولة من غارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها مهما بعدت دراهم وشط مزارهم وإلا كانوا راضين بضعفها ومعينين لأعداء الإسلام على إبطال الدعوة وتشريد الدعاة.
و قد كانت هذه الأسباب موفورة قبل فتح مكة فلما يسر الله فتحها وقوي الإسلام على الشرك في جزيرة العرب كلها ودخل الناس في دين الله أفواجا وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أطراف الجزيرة وغيرها من يعلم الناس شرائع الإسلام زالت هذه الأسباب وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " رواه أحمد والشيخان وإذا وجد أحد الأسباب الثلاثة المتقدمة في أي عصر وجبت الهجرة وأهمها اعتداء الكفار على بلاد المسلمين وخوف استيلائهم عليها.
تفسير المفردات : ضربتم في الأرض : أي سافرتم فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته والقصر – بالفتح – من القصر ( كعنب ) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا والجناح : التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه ( أضلاعه ) لثقل حمله يفتنكم يؤذوكم بقتل أو غيره
المعنى الجملي : كان الكلام في سابق الآيات في الجهاد والحث عليه لإقامة الدين وحفظه وإيجاب الهجرة لأجل ذلك وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر على إقامة دينه فيها والجهاد يستلزم السفر وذكر هنا أحكام من سافر للجهاد أو هاجر في سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها فبين أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلي جماعتها بالطريقة التي ذكرت في الآية الثانية من هذه الآيات.
الإيضاح :﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ أي وإذا سافرتم أي سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة الدين إذا قصرتم الصلاة : أي تركتم شيئا منها فتكون قصيرة بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلي قطاع الطريق كان له لأن يقصر هذا القصر وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين في كتب الفقه إذ هذا مأخوذ من السنة المتواترة بل المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى والمبين في الآية التي بعدها وفي سورة البقرة بقوله تعالى :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ﴾ ( البقرة : ٢٣٩ ).
فالآية التي هنا بصدد القصر من عدد الركعات بأن تصلى طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها تأتي الطائفة الأخرى وهي التي كانت تحرس الأولى فتصلي معه الركعة الثانية وآية البقرة في القصر من هيئة الصلاة بالترخيص في عدم إقامة صورتها بأن يكتفي المشاة والركبان بالإيمان عن الركوع والسجود.
صلاة القصر في السفر وشرطها :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر والعصر والعشاء في السفر ركعتين ركعتين وكذلك فعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان - يعني في صدر خلافته وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات اه.
قال ابن القيم : وأحسن ما أعتذر به عن عثمان أنه قد تزوج بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه وهو قول الحنيفة والمالكية.
و قد روى الشيخان عن عائشة قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر.
و قال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى وكان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
و قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن – يعني صلاة الرباعية ركعتين –فقال له ابن عمر : يا أخي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمد صلى اله عليه وسلام يفعل.
فالحق ما عليه الحنيفة وغيرهم من وجوب القصر في السفر خلافا للشافعية الذين أجازوا الإتمام.
و شرط القصر في صلاة والإفطار في رمضان أن يكون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر وجري السفينة والريح معتدلة في البحر لحديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين رواه أحمد ومسلم وأبو داود وقدره الشافعي بمسيرة يومين وحقق المرحوم أحمد الحسيني بك في كتابه ( دليل المسافر ) أن هذه المسافة تقدر بنحو ٨١ ك م عند الحنيفة وبنحو ٨٩ ك م لدى الشافعية والمالكية والحنابلة وعلى هذا فالمسافر من القاهرة إلى طنطا فما فوقها يقصر الصلاة عند الحنفية لأن المسافة بينهما ٨٧ ك م وإلى المحطة التي تليها ( شبر لنملة ) لدى المذاهب الثلاثة لأن المسافة بينهما ٩٣ ك م
تفسير المفردات :
إقامة الصلاة : الذكر الذي يدعي به للدخول فيها والأسلحة : واحدها سلاح وهو كل ما يقاتل به كالسيف والخنجر والمسدس والبندقية من أسلحة العصر الحاضر
كيفية صلاة الخوف :
ثم بين سبحانه ما قبله من النص المجمل الوارد في مشروعية القصر وبيان كيفيته عند الضرورة وذكر هذا البيان في القرآن واكتفي فيما عداه بالبيان بطريق السنة لمزيد الحاجة إليه لما فيه من كثرة التعيير عن الهيئة الأصلية فقال :
﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ﴾ أي وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين وأردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن تجعلهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى إزاء العدو يحرسون المصلين خوفا من الاعتداء وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها.
﴿ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾ أي فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة فليكن الذين يحرسونكم من خلفكم إذ أحوج ما يكون المصلي للحراسة حين السجود لأنه لا يرى من يهم به.
و يجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم كما صلوا وهو قوله :
﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحهم ﴾ أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم.
و حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدو قلما يتنبه أول الصلاة لبدء المسلمين فيها إذ هو إذا رآهم صفا ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا للحرب والنزال فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.
و قد بين الله تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة بقوله :
﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾ أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ويحملون حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله وينتهبون ما استطاعوا نهبه فلا تغفلوا عنهم.
و قد يعرض لبعض المحاربين أعذار يشق فيها حمل السلاح ومن ثم رخص في تركه لصاحب العذر فقال :
﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ﴾ أي ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم وربما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل ولكن يجب عليكم في جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم والضرورات تقدر بقدرها.
﴿ إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾ بما هداكم إليه من أسباب النصر بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة رجاء ما عند الله من المثوبة والأجر.
فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين وانتصارهم عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به ويؤيده قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ ( النساء : ١٠٤ ) وقوله :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ ( التوبة : ١٤ ).
روى البخاري أن هذا الرخصة التي في الآية نزلت في عبد الرحمان بن عوف وكان جريحا، وروى أحمد والحاكم والبيهقي عن ابن عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾ الحديث، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو ( اتجاهه مراقبة له ) فصلى بالتي معه ركعة ثم تبث قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته فأتموا فسلم بهم " وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع والخرق.
و قد قال بهذه الصلاة أفقه الصحابة عليهم الرضوان على وابن عباس وابن مسعود وابن عمرو وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو موسى ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وغيرهما.
تفسير المفردات :
قضيتم الصلاة : أي أديتموها فأقيموا الصلاة : أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والشروط كتابا موقوتا : فرضا منجما في أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها.
الإيضاح :
﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ أي فإذا أديتم الصلاة على هذه الصورة فاذكروا الله تعالى في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء وعلى كل حال تكونون عليها من قيام في المسابقة والمقارعة وقعود للرمي أو المصارعة واضطجاع من الجراح أو المخادعة فذكر الله مما يقوى القلوب ويعلي الهمم ويجعل متاعب الدنيا حقيرة ومشاقها سهلة والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر كما قال تعالى في سورة الأنفال :﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ).
و الخلاصة : إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يدل على ذلك السياق فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم إلى أن المؤالمين في حال جهاد مستمر وحروب دائمة فهم تارة يجاهدون الأعداء وأخرى يجاهدون الأهواء ومن ثم امرهم الله بذكر في كثير من الآي كقوله :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ( آل عمران : ١٩١ ) لما في ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال الله وعظمته وأن كل شيء هين في سبيله وابتغاء مرضاته.
و قد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله فقال :﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ : أي بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال اه.
﴿ فإذا أطمأنتم فأقيم الصلاة ﴾ الاطمئنان : السكون بعد اضطراب وانزعاج : أي فإذا سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزرها فأدوا الصلاة بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها ولا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم حال الخوف.
ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها فقال :
﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ يقال وقت العمل يقته ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدي فيه : أي إن الصلاة كانت في حكم الله فرضا مؤكدا في أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان فأداؤها في أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة.
و الحكمة في توقيتها في تلك الأوقات المعلومة أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس.
إلى ما في هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العلمية للأمة الإسلامية بأن تلتزم أداء أعمالها في أوقات معينة مع عدم الهوادة فيها ومن قصر فيها في تلك الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق في بحار الغفلة.
و من قوي إيمانه وزكت نفسه لا يكتفي بهذا القدر القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد.
والخلاصة : إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوته لتكون مذكرة للمؤمن بربه في الأوقات المختلفة لئلا تحمله الغفلة على الشر أو التقصير في الخير، ولمن يريد الكمال في النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله.
تفسير المفردات : الوهن : الضعف، والابتغاء : الطلب.
المعنى الجملي : كان الكلام فيما سلف في شأن الحرب وما يقع فيها، وبيان كيفية الصلاة في أثنائها، وما يلاحظ فيها إذ كان العدو متأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل السلاح في أثنائها، وبين في أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم.
وهنا نهى عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم، لأن ما في القتال من الألم والمشقة يستوي فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن له الرجاء في ربه ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر والمعونة، ويعقد أنه قادر على إنجاز وعده كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه في سبيله وقوة الرجاء تخفف الآلام، وتنسيه التعب والنصب.
الإيضاح ﴿ ولاتهنوا في ابتغاء القوم ﴾ أي ولا تضعفوا في طلب القوم الذين ناصبوكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وذلك في معنى الأمر بالهجوم.
وسر هذا أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته وتعلوا همته أما الذي يلتزم الدفاع فحسب فإنه يكون خائر العزيمة ضعيف القوة.
﴿ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ﴾ أي إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله فهم بشر مثلكم وهم مع هذا يصبرون فمالكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر ؟ وبين سبب هذا في قوله :
{ ولا ترجون من الله ما لا يرجون من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل النعيم المقيم في الآخرة.
إلى أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين : النصر أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه ودافعتم عن حماه وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرجاء والأمل ويضاعفان العزيمة ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات.
أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة يغلب عليه الجزع والفتور فإن تساويتم في الآلام فقد فضلتموهم في الثقة بحسن العاقبة فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة.
﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ وقد ثبت في واسع علمه ومضت به سننه أن العاقبة للمتقين والنصرة لهم على الكافرين ما داموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل من الأخذ بالأسباب وكثرة العدد والعدد فإذا هم فعلوا ذلك كانوا أشد منهم قتالا وأحسن منهم نظاما وبذا يفوزون بالمطلوب وبحسن العاقبة.
تفسير المفردات : بما أراك الله : أي بما عرفك وأوحى به إليك خصيما : أي تخاصم وتناضل عنهم
المعنى الجملي : بعد أن حذر الله المؤمنين من المنافقين أعداء الحق وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الحق ويهلكوا أهله – أمرهم هنا أن يقوموا بحفظ الحق وألا يحابوا فيه أحدا.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
الإيضاح :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ أي إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام.
﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ أي ولا تكن لمن خان خصيما : أي مخاصما ومدافعا تدافع عنه من طالبه بحقه الذي خان فيه.
و خلاصة ذلك : إن عليك ألا تتهاون في تحري الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة جدلهم في الخصومة لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم ويؤيد هذا حديث أم سلمة :" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
﴿ واستغفر الله ﴾ مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم بالميل إلى من تراه ألحن بحجته أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبا يوجب الاستغفار وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل والتحيز للخصم.
و في هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى حتى كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه.
كما أن فيه إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغي أن يظهر لهما أثر في مجلس القضاء وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق بل عليه أن يساوي بين المتخاصمين في كل شيء
و النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق لكنه أحسن الظن في أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له أن يعامل به ذويه.
ثم رغبهم في المغفرة فقال :
﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾ أي إنه تعالى مبالغ في المغفرة والرحمة لمن استغفره.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
تفسير المفردات :
يختانون أنفسهم : يخونونها ويتكلفون ما يخالف الفطرة مما يعود عليهم الضرر
الإيضاح :
﴿ و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ هذا الخطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة في كثير من الحكام وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم لأن ضررها عائد إليهم والذين يختانون هم هذا السارق ومن عاونه لأنه شريك له في الإثم والخيانة ولهم نظراء في كل زمان ومكان.
و خلاصة المعنى : لا تدافع عن هؤلاء الخونة ولا تساعدهم عند التخاصم.
﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ﴾ المراد بعدم الحب البغض والسخط : أي إن الله يبغض من اعتاد الخيانة وألفت نفسه اجتراح السيئات وضريت عليها ولم يعد للعقاب الإلهي الرهبة والخشية التي ينبغي أن يفكر مثله فيها وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
ثم بين أحوال الخائنين ونعى عليهم أفعالهم فقال :
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ﴾ أي إن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام إما حياء وإما خوفا من ضررهم ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم فمن يعلم أن الله يراه في حنادس الظلمات لا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى وخوفا من عقابه وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلا ما لا يرضى من القول تبرئة لأنفسهم ورمي غيرهم بجريمتهم.
ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال أي حافظا لأعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
تفسير المفردات :
والمجادلة أشد المخاصمة والوكيل : هو الذي يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية الإيضاح :
ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال :
﴿ هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ﴾ أي يا هؤلاء أنتم جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة يوم يكون الخصم والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة ؟ أي فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق يمكنه أن يظفر به في الآخرة :﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ ( الانفطار : ١٩ ).
و في الآية إيماء إلى أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه كما أن فيها توبيخا وتقريعا لأولئك الذين أرادوا مساعدة بني أبيرق على اليهودي.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
تفسير المفردات :
والمراد بالسوء هنا : ما يسوء الإنسان به غيره بالظلم : ما كان ضرره خاصا بالعامل كالحلف الكاذب والاستغفار : طلب المغفرة من الله مع الشعور بقبح الذنب والتوبة منه
الإيضاح :
ثم رغب في التوبة من الذنوب وحث عليها فقال :
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ أي ومن يعمل قبيحا يسوء به غيره أو يظلم نفسه بفعل معصية تختص به كالحلف الكاذب يجد الله غفارا لذنوبه رحيما متفضلا عليه بالعفو والمغفرة.
و في ذلك حث وترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار كما أن فيها بيانا للمخرج من الذنب بعد وقوعه وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمها وهما أسس الشرائع.
و المراد بوجدان الله غفورا رحيما : هو أن التأئب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدرن منها.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
تفسير المفردات :
والكسب : ما يجر منفعة أو يدفع مضرة والإثم : الذنب
الإيضاح :
ثم حذر من فعل الذنوب والآثام وذكر عظيم ضرها فقال :
﴿ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ﴾ أي ومن يعمل الإثم ويرى انه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه وبال على نفسه وضرر لا نفع له فيه كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام في الدنيا والآخرة من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم العادل كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات ومن خزي في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ أي إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
تفسير المفردات :
والخطيئة : الذنب غير المتعمد والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب يرم به أي يقذفه به ويسنده إليه احتمل : كلف نفسه أن تحمل والبهتان : الكذب على غيرك بما يبهت منه ويتحير عند سماعه.
الإيضاح :
﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ﴾ أي ومن يكسب ذنبا خطأ بلا تعمد أو إثما يصدر عنه مع الملاحظة أنه ذنب ثم يبرئ نفسه وينسبه إلى برئ ويزعم أنه الذي كسبه فقد كلف نفسه وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه.
و قد فشا هذا بين المسلمين في هذا الرمان ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على اليهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي عليه الصلاة والسلام قد هم بقبول عذره حتى أنزل الله في شأنه ( ولا تجادل إلخ ) وكان طعمة قذف بها بريئا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه ( ومن يشاقق الرسول ) الآية.
و بعد أن ذكر المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله عليه عن الحق بين فضله ونعمته عليه فقال :
﴿ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ﴾أي إنه تعالى بفضله ورحمته عليكم صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلالك والهم بذلك لأنه إذا توجهت همتهم إلى التلبيس على شخص ومحاولة صرفه عن الحق احتاج إلى طائفة من الوقت لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم حتى تمحص الحقائق وينجلي الرشد من الغي فيضيع وقت هو أشد الحاجة إليه لصرفه في عمل نافع ومن ثم تفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه.
و الخلاصة : إنه لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ورحمته لك ببيان حقيقة الواقع لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق.
﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ بانحرافهم عن الصراط السوي الذي هداهم الإسلام إليه.
﴿ وما يضرونك من شيء ﴾ وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم.
﴿ وأنزل الله عليكم الكتاب والحكمة ﴾علمت مما سلف أن الكتاب هو القرآن والحكمة : فقه مقاصد الدين وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على سنن الاجتماع البشري ومصالح الناس في كل زمان ومكان.
﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ من الكتاب والشريعة وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.
﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ إذ أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم النبيين واختصك بنعم كثيرة ومزايا لا تدخل تحت حصر فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له كما يجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا خيرا أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم في جميع الخيرات.
تفسير المفردات : النجوى : المسارة بالحديث أو هو جمع واحده نجي بمعنى المتناجين : أين المتسارين المعروف : ما تعرفه النفوس وتقره وتتلقاه بالقبول وبغى الشيء : طلبه
المعنى الجملي : لا يزال الحديث في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من نبي جلدته.
الإيضاح :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ أي لا خير في كثر من تناجي أولئك الذين يسرون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس ولكن الخير كل الخير في نجواي من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس وإنما قال في كثير لأن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هي مقصودة من الخير وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هي النجوى في شؤون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هي جماع الخير للناس.
﴿ و الكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومعصية الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ( المجادلة : ٩ ).
و السر في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحديث به في الملأ وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر والنجوى وفي الأثر :" الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ".
و قد استثنى الله من النجوى التي لا خير في أكثرها أمورا ثلاثة لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى.
فالصدقة وهي من الخير قد يؤذي إظهارها المتصدق عليه ويضع من كرامته ومن ثم قال عز من قائل :﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ﴾ ( البقرة : ٢٧١ ).
و قد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولو مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله.
و كذلك الامر بالمعروف على مسمع من الناس فكثرا ما يستاء منه المأمور به ولاسيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل واتهاما له بالتقصير أو الجهل فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء ومثله الإصلاح بين الناس فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر ألا ترى أن بعض الناس إذا علم ان ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعي وتواطؤ.
أخرج البيهقي عن أب أيوب الأنصاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " يا أيوب ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم ؟ " فقال بلى يا رسول الله قال :" تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا " وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل الصدقة إصلاح ذات البين ".
﴿ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل وإنما تنال مرضاة الله بالشيء إذا فعل الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجاه وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من الله وتصير أهلا للجزاء الأوفى في حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.
و الخلاصة : إن ابتغاء مرضاته وإنما تطلب بالإخلاص وعدم السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء ( تصدقنا. أعطينا. منحنا. عملنا وعملنا ) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة الله تعالى ولذلك يشق عليهم أن يكون خفيا وأن يخلصوا في الحديث عنه نجيا لأن الاستفادة منه بجدب القلوب إليهم وتسخير الناس لخدمتهم ورفعهم لمكانتهم وغنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم.
تفسير المفردات :
والمشاقة : المعاداة والمخالفة مأخوذة من الشق كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر.
الإيضاح :
و بعد أن وعد الله بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة الله عز وجل – أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيتون ما يكيدون به للناس فقال :
﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصليه جهنم وساءت مصيرا ﴾ أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى – نوله ما تولى : أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه.
و في هذا بيان لسنة الله في عمل الإنسان وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها : أي يجعله واليا لها وسائر على طريقها فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله وآجله أو فيهما معا ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر وقد اشترط في هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه.
و هم أصناف : فمنهم من نظر في الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبة بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا في العصر الحاضر وحال هؤلاء كحال من سبقهم ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله وهذا لم يتبين له الهدى ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه ورؤساؤه من البدع والضلالات.
المعنى الجملي : علمت فيما سلف ان قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك ﴾ الخ نزلت في شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع ورميه اليهودي بسرقته وأن قوله : ومن يشاقق الرسول الخ نزلت في ارتداده عن الدين ولحوقه بالمشركين وهنا ذكر أنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب فإن كل ذنب يجوز أن يغفره الله للناس إلا ذنب الشرك فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته.
الإيضاح :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ تقدم هذا النص بعينة في غرض آخر من هذه السورة وأعاد هنا مرة أخرى لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها في نفوس السامعين في كل سياق يقصد فيه توجيها إليها وإعدادها لقبولها ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني حتى تتمكن في النفوس بذلك التكرار ومن ثم نرى رجال الدين والسياسة الذين عرفوا سنن الاجتماع وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم يكررون في خطبهم ومقالاتهم أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها في الصحف والكتب فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه أثر فيه.
المعنى : أكد الله لعباده أنه لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه.
ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح وضلال العقول فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وآثامه والعروج بها إلى جوار ربها وإذ إنها تكون موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له.
و بعض الناس ممن يسمون أنفسهم بالموحدين يفعلون كما يفعل سائر المشركين فيدعون حين يشتد الكرب ويعظم الخطب غير الله وحده أو مع الله ولا يسمون عملهم دعاء بل يسمونه توسلا واستشفاعا ويسمون من يدعونهم أولياء وشفعاء ولو لم يكن منهم إلا هذا الدعاء لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة وشركا بالله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الدعاء هو العبادة " رواه أبو داود : أي إن العبادة جد العبادة إنما تكون في الدعاء الذي يفيض على اللسان من قرارة النفس حين وقوع الخطب واشتداد الكرب وهذا ما تسمعه من أصحاب الحاجات عند حدوث الملمات وفي هياكل العبادات ولدى قبور الأموات فكل ذلك يمثل الخشوع والخضوع ويذرف من العين الدموع ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ﴾ ( البقرة : ١٦٥ ).
و ما عدا هذا الدعاء من العبادات جله يفعل بالتعليم ويكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو الفعل عبادة إذ هو خال من معنى العبادة وروحها وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية ولاسيما الأدعية التي تكون في الصلوات أو في غير الصلوات إذ نرى الحافظ لها يحرك بها لسانه وقلبه مشغول بشواغل أخرى فمثل هذا لا يمثل العبادة الحقة التي تملأ القلب نورا والنفس استسلاما وخضوعا والروح طهارة وزكاء.
﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ أي ومن يشرك بالله شيئا فيدعوه معه ويذكر اسمه مع اسمه أو يدعوه وحده ملاحظا أنه يقربه إليه زلفى –فقد ضل عن القصد وبعد عن سبيل الرشد ضلالا بعيدا في سبيل الغواية لأنه ضلال يفسد العقل ويكدر صفاء الروح ويجعله يخضع لعبد مثله ويخضع أمام مخلوق يحاكيه ويكون عبدا للخرافات والأوهام.
و خلاصة ما تقدم :
( ١ ) إن الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقوى أنواع الشرك لأنه يكون باعتقاد ناشيء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها.
( ٢ ) إن دون هذا – الشرك المبني على الفكر والنظر الذي يحاجك فيه صاحبه بالشبهات المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوق وقياسه على ظلمة الملوك كقولهم : إن الإنسان الخاطئ لا يليق أن يخاطب الإله العظيم مباشرة بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم.
و مثله من يشرك في ربوبية الله باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلون له ما يرون تحليله ويحرمون عليه ما يرون تحريمه فيتبعهم في ذلك.
( ١ ) إن الجزاء في الآخرة يكون تابعا لما تكون عليه النفس في الدنيا من سلامة العقيدة ومقدار درجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة والتدنس بالرذيلة التي يلازمها فعل السيئات.
( ٢ ) إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات أخسها الشرك وأعلاها التوحيد ولكل منهم صفات تماسبهم فلو جاز أن يغفر الشرك ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين لكان ذلك نقضا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير.
تفسير المفردات : يدعون : أي يتوجهون ويطلبون منها المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها إلا إناثا : أي أمواتا والعرب تطلق على الميت أنثى لضعفه وعجزه والشيطان : هو الخبيث المؤذي من الجن والإنس والمريد والمارد من المراد من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بلا تكلف والمراد أنه مرد على الإغواء والإضلال أو تمرد واستكبر عن الطاعة
الإيضاح :
﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا ﴾ أي هؤلاء المشركين لا يدعون لقضاء حاجاتهم وتفريج كربهم إلا أمواتا فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمي هذه القرون أو إلا إناثا كاللاتي والعزى وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان.
﴿ وإن يدعون غلى شيطان مريدا ﴾ أي وما يعبدون بعبادتها إلا شيطان مريدا إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم بها فكانت طاعتهم له عبادة.
تفسير المفردات :
واللعن : هو الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة والنصيب : الحصة والسهم من الشيء والمفروض : المعين
الإيضاح :
﴿ لعنه الله ﴾ أي أبعده الله عن رحمته وفضله فإنه داعية الشر والباطل في نفس الإنسان بما يوسوس في صدره ويعده ويمنيه.
﴿ وقال لتأخذن من عبادك نصيبا مفروضا ﴾ النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر غذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار أو الرياء في العبادة لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين وقد جاء في القرآن والحديث ما يدل على هذا.
و الخلاصة إن الشيطان خلق متمردا على الحق بعيدا من الخير مغرى بإغواء البشر وإضلالهم.
تفسير المفردات :
والأماني : جمع أمنية يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه والتمني : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها سواء أكان عن تخمين وظن أم كان عن رؤية وبناء على أصل ولكنه يغلب فيما يبني على الحدس والتخمين مالا حقيقة له والبتك : القطع وسيف باتك : أي قاطع والتبتيك : التقطيع
الإيضاح :
﴿ ولأضلنهم ولأمنيهم ﴾ إضلال الشيطان لمن يضلهم هو من صرفهم عن العقائد الصحيحة وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى وتمنيته لهم تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة والعمل الصالح.
و الخلاصة إن من شأن الشيطان ومقتضي طبعه إضلال العباد وشغلهم بالأماني الباطلة كرحمة الله المجرمين بغير توبة والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة وتزيين لذات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها.
﴿ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ﴾ أي ولآمرنهم بالضلال فليقطعن آذان الأنعام بموجب أمري والمراد به كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم.
﴿ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ﴾ تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه شامل للتغيير الحسي كالخصاء وروي ذلك عن ابن عباس وانس ابن مالك وللتغيير المعنوي وروي أيضا عن ابن عباس وغيره وعلى هذا فالمراد بخلق الله دينه لأنه دين الفطرة وهي الخلقة قال تعالى ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ﴾ ( الروم : ٣٠ ) أي أنه المراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات فالله قد احسن كل شيء خلقه وهؤلاء يفسدون ما خلق الله تعالى ويطمسون عقول الناس.
و الخلاصة إن الدين الفطري الذي هو من خلق الله تعالى وآثار قدرته ليس هي مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس بل هو ما أودعه الله في فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله وهو ما أشار إليه في الحديث " كل مولود يولد على الفطرة ".
و من أهم أسس هذا الدين الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول.
﴿ ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ﴾ أي ومن يتبع الشيطان ووسوسته وإغواءه وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة إذ إنه يكون أسير الأوهان والخرافات يتخبط في عمله على غير هدى ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميز بها من بين أصناف الحيوان
تفسير المفردات :
والغرور : الباطل
الإيضاح :
﴿ يعدهم ويمنيهم ﴾ فيعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفذ أو تقل ويصبحون فقراء أذلاء ويعدهم الغنى والثورة حين الإغراء بالقمار ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت.
و يؤد هذه الوعود بالأماني الباطلة يلقيها إليهم.
و يدخل في وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويمدونهم في الطغيان وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآرائهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال وهؤلاء يوجدون في كل وزمان ومكان.
{ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي وما يعدهم الشيطان إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون فيزين لهم النفع في بعض الأشياء و هي مشتملة على كثير من الآلام والمضار فالزاني أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات بينما هو في الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى وخيمة العواقب إلى عذاب أخروي لا يعلم كنهه إلا من أحاط بكل شيء علما
تفسير المفردات :
والمحيص المهرب والمخلص يقال : وقعوا في حيص بيص وفي حاص باص : أي في أمر يعسر التخلص منه
الإيضاح :
و بعد أن بين حال أولياء الشيطان وما يعدهم به الشيطان –ذكر عاقبتهم فقال
﴿ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ﴾ أي وأولئك الذين يبعث بهم الشيطان بوسوسته أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه مأواهم جهنم لا يجدون عنها مهربا يفرون إليه إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم
و هي مدنية كلها فقد روى البخاري عن عائشة أنها " ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد بني النبي بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى من الهجرة.
ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران :
أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة بذلك وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السور.
أن في السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه ذيل لها وهو قوله :﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾ ( النساء : ٨٨ ) فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
إنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد وهي ( غزوة حمراء الأسد ) بقوله :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ ( أل عمران : ١٧٢ ) وأشير إليها هنا في قوله :﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ﴾ ( النساء : ١٠٤ ) الآية.
ما حوته السور من الموضوعات :
الأمر بتقوى الله في السر والعلن.
تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.
أحكام القرابة والمصاهرة.
أحكام الأنكحة والمواريث.
أحكام القتال.
الحجَاج مع أهل الكتاب.
بعض أخبار المنافقين.
الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها.
ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ أي إنهم سيتمتعون بالنعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وذلك هو الفوز العظيم لمن سميت نفسه عن دنس الشرك فلم تجعل لله أنداد ولم تحط بها الخطيئة في صباحها ومسائلها في غدوها ورواحها.
ثم ذكر أن م وعدهم به هو الوعد الحق الذي لا شك فيه فقال :
﴿ وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ﴾ أي ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق فهو القادر على أن يعطي ما وعد بفضله وجوده وواسع كرمة ورحمته وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور إذ هو عاجز عن الوفاء فهو يدلي إلى أوليائه بباطله فحقه ألا يستجاب له أمر ولا نهي ولا تتبع له نصيحة فوساوسه أباطيل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
تفسير المفردات : الأماني : واحدها أمنية : وهي الصورة التي تحصل على النفس من تمنى الشيء وتقديره وكثيرا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له ومن ثم يعبرون به عن الكذب كما قال عثمان رضي الله عنه : ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت وليا : أي يلي أمره ويدفع العقاب عنه ولا نصيرا : أي ينصره وينقذه مما يحل به
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه في الآيات السابقة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم ويدخل في تلك الأماني ما كلن يمنيه أهل الكتاب من الغرور بدينهم إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ويقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم.
حذرنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ﴾( الحديد : ١٦ ) الآية فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمان أنزلت هذه الموعظة ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا :" ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " وقال الحسن : إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
و أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال :" التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى مثل ذلك فقل المسلون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله ليس بأمانيكم الخ الآية " فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.
الإيضاح : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } أي ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم : إن ديني أفضل وأكمل بل عليه يعمل بما يهديه إليه فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور : فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بالأماني في الدين فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دوت العمل بها.
ثم أكد ذلك وبينه بقوله :
﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه لان الجزاء بحسب سننه تعالى أثر طبيعي للعمل ولا يتخلف في إتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون فعلى الصادق في دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ويجعل ذلك المعيار في سعادته لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل ولا ذلك الرسول أفضل.
روي أنه لما نزل قوله﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ راع ذلك أبا بكر وأخافه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ينج مع هذا يا رسول الله ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" أما تحزن أما تمرض أما يصيبك البلاء ؟ " قال بلى يا رسول الله قال " هو ذاك ".
و أخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ومن ثم يرى عامة العلماء أن الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا ويرى بعضهم أن المصائب لا تكفر إلا إذا أثرت في النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا في قوة الإيمان وترك السوء والتوبة منه والرغبة في صالح العمل بما تحدثه من العبرة فتكون مربية لعقله ونفسه أما إذا ضاعفت الذنوب كالمصايب التي تحمل صاحبها على الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان إلى ذنوب أخرى لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة فلا تكفر شيئا من الخطايا بل تزيدها.
﴿ ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ أي من يعمل السوء ويستحق العقاب عليه لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحل به لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأرباب فكل تلد الأماني تكون أضغاث أحلام وإنما يكون المدار في ذلك على الإيمان والأعمال كما قال :﴿ و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾
حذرنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ﴾( الحديد : ١٦ ) الآية فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمان أنزلت هذه الموعظة ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا :" ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " وقال الحسن : إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
و أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال :" التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى مثل ذلك فقل المسلون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله ليس بأمانيكم الخ الآية " فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.
تفسير المفردات :
والنقير والنقرة : النكتة التي تكون في ظهر النواة وبها يضرب المثل في القلة
الإيضاح :
﴿ و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس في أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب بالإيمان – فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ولا حقيرا كالنقير
و في هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأماني التي يأوي إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين الذين يظنون أن الله يحابي من يسمي نفسه مسلما ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم وحرموا الاهتداء بهديه هم في ضلال مبين.
حذرنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ﴾( الحديد : ١٦ ) الآية فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمان أنزلت هذه الموعظة ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا :" ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " وقال الحسن : إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
و أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال :" التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى مثل ذلك فقل المسلون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله ليس بأمانيكم الخ الآية " فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.
تفسير المفردات :
الحنيف : المائل عن الزيغ والضلال والخليل المحب لمن يحبه من الخلة ( بالضم ) وهي المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها قال شاعرهم :
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا
الإيضاح :
و بعد أن بين سبحانه أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان أردف ذلك ذكر درجات الكمال فقال :
﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا لله وحده فلا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والشفعاء ولا يرى في الوجود إلا هو ويعتقد أنه سبحانه ربط الأسباب بالمسببات فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها وهي السنن والأسباب التي سنها في الخليقة.
و هو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص محسن للعمل متحل بأحسن الأخلاق والفضائل.
و قد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من إقبال وإعراض وسرور وكآبة وما فيه هو الذي يدل على ما في السريرة.
﴿ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي واتبع إبراهيم في حنيفيته التي كان عليها بميله عن الوثنية وأهلها وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها قال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ ( الزخرف : ٢٦-٢٨ ).
﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ أي اصطفاه الله لإقامة دينه في بلاد غلبت عليه الوثنية وأفسد الشرك عقول أهلها وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتبع ملته وتؤتسى طريقته.
و الخلاصة : أنه من عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه في التوحيد.
حذرنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ﴾( الحديد : ١٦ ) الآية فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمان أنزلت هذه الموعظة ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا :" ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " وقال الحسن : إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
و أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال :" التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى مثل ذلك فقل المسلون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله ليس بأمانيكم الخ الآية " فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.
تفسير المفردات :
محيطا : أي عالما بالأشياء قادرا عليها.
الإيضاح :
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي إن كل ما في السماوات والأرض ملك له ومن خلقه مهما اختلفت صفات المخلوقات فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة لأمره.
﴿ وكان الله بكل شيء محيطا ﴾ إحاطة قهر وتسخير وإحاطة علم وتدبير وإحاطة وجود لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها ولا هي ابتدعت نفسها بل وجودها مستمد من ذلك الوجود الأعلى فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود فوجب أن يخلص له الخلق ويتوجه إليه العباد وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد :
بيان الدليل على انه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه في كل حال لأنه هو المالك لكل شيء وغيره لا يملك لنفسه شيئا.
نفى ما يتوهم في اتخاذ الله إبراهيم خليلا من أن هناك شيئا من المقاربة في حقيقة الذات والصفات.
التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها إذ من له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد.
تفسير المفردات : يستفتونك : أي يطلبون منك الفتيا يفتيكم : يبين لكم ما أشكل عليكم يقال : أفتاه إفتاء وفتيا وفتوى وأفتيت فلانا رؤياه عبرته له ما كتب لهن : أي ما فرض لهن من الميراث وأن تقوموا : أي تعنوا عناية خاصة بالقسط : أي بالعدل
المعنى الجملي : كان الكلام أول السورة في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة ومن قوله : واعبدوا الله إلى هنا في أحكام عامة في أسس الدين وأصوله وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال - ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين : المرأة واليتيم وجعلت للنساء حقوقا مؤكدة في المهر والإرث وحرمت ظلمهن وأباحت تعدد الزوجات وحددت العدد الذي يحل منهن حين الخوف من عدم الظلم ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها كأن يقع الاشتباه في حقيقة العدل الواجب بين النساء هل يدخل العدل في الحب أو في لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أو لا وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب في نكاحها ؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أردت أن تفتدي منه ؟- كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل يتلك الأحكام فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.
أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آيات المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء قانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد ثم قالوا سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الأيضاح :﴿ ويستفتونك في النساء ﴾ أي يطلبون منك الفتيا في شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن من جهة حقوقهن المالية والزوجية كالعدل في المعاملة حين العشرة وحين الفرقة والنشوز.
﴿ قل الله يفتيكم فيهن ﴾بما يوحيه إليك من الأحكام في كتابه.
﴿ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان ﴾ أي ويفتيكم في شأنهن ما يتلى عليكم في الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء في أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم لولايتكم عليهن وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن في أيديكم وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة وما لها إلى نفسه فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها وما يتلى عليكم أيضا في شأن المستضعفين من الوالدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث وقد كانوا إنما يورثون الرجال دون الأطفال والنساء.
ة الخلاصة : إن الذي يتلى عليهم في الضعيفين : المرأة واليتيم هو ما تقدم في أول السورة وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبرها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.
﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء والولدان المستضعفين بالقسط بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل في معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه ولا خيرة في شأنه.
ثم رغبهم في العمل بما فيه فائدة لليتامى وحبب إليهم النصفة فقال :
﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ﴾ أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شيء منه.
أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آيات المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء قانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد ثم قالوا سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تفسير المفردات :
خافت : أي توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه أو ظهور بعض أماراته نشوزا : ترفعا وتكبرا إعراضا : ميلا وانحرافا فلا جناح : أي لا إثم ولا حرج أحضرت الأنفس الشح : أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها
﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ﴾ أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة أو آذاها بسب أو ضرب أو نحو ذلك أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن في سن أو دمامة أو شيء في الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك.
و الواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة في مباعلتها مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية وهي أسباب خارجية لا دخل فيها ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها وحينئذ عليها أن تعذره وتصبر على ما لا تحي من ذلك أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.
﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ﴾ أي فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة أو المبيت معها أو بحقها كله فيهما أو في أحدهما لتبقى في عصمته مكرمة أو تسمح له ببعض المهر ومتعة اطلاق أو بكل ذلك ليطلقها كما جاء في قوله تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ ( البقرة : ٢٢٩ ) وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها ولاعتقادها أن في ذلك الخير لها يبل ظلم لها ولا إهانة.
و قد روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له : لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وتقسم لي في كل شهرين فقال إن كان هذا يصلح فهو أحب إلي فأقرها على ما طلبت.
﴿ والصلح خير ﴾ من التسريح والفراق لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ وميثاقها من أغلظ المواثيق.
و عروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر.
و أجمل ما جاء في الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما في كل شيء إلا القيام برياسة الأسرة لأنه أقولا من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء في قوله :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ).
فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع.
﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ أي إن النفوس عرضة له فإذا عرض لها داع من الدواعي البذل ألم بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة والرجال حريصون على اموالهم أيضا فينبغي أن يكون التسامح بينهما كاملا إذ هما قد ارتبطا ارتبطاطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض
ثم رغب في بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال :
﴿ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق فإن الله كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شيء منه فهو يجازي من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك.
أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آيات المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء قانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد ثم قالوا سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تفسير المفردات :
المعلقة التي ليست مطلقة ولا ذات بعل من سعته : من غناه واسعا : غنيا.
الإيضاح :
ثم بين أن العدل بين النساء في حكم المستحيل فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع قال :
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾ أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به ومن ثم رفع الله ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية ولهذا خفف الله ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف.
﴿ فلا تميلوا كل الميل ﴾ أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى.
﴿ فتذروها كالمعلقة ﴾ أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل في اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به إذ لا هوادة فيه.
﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ أي وإن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل في اختياركم كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم مادون ذلك مما لا يدخل في اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك.
و في الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عباد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله في قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ الروم : ٢١ ) ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية هؤلاء السفهاء الذواقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة ولا يحظر لهم أمر العدل في بال- عليهم أن يتقوا الله ويفكروا في ميثاق الزوجية وفي حقوقها المؤكدة وفي عاقبة نسلهم وشؤون ذريتهم وفي حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبينة على أسس الشهوات والأهواء وفي حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.
أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آيات المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء قانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد ثم قالوا سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم بين أن الفرق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق فقال :
﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان ألا يقيما حدود الله بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها وأراد أن يتزوج غيرها أو كان عنده زوجان ولم يقدر على العدل بينهما- يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله ووافر إحسانه وجوده فقد يسخر للمرأة رجلا خيرا منه كما يهيئ له امرأة أخرى تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده ولن يكون كل منهما جديرا بعناية الله وإغناءه عن الآخر إلا إذا التزما حدود الله بأن اجتهدا في الوفاق والصلح وظهر لهما بعد التفكير والتروي في الأسباب أنه غير مستطاع فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجي واختلاق الأكاذيب فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها أو يترفع عليها يل أحبت أن تعيش معه بطريقة عادلة – رأى فيها أفضل صفات الزوجية.
و كذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله.
﴿ وكان الله واسعا حكيما ﴾ أي وكان الله ولا يزال واسع الفضل والرحمة حكيما فيما شرعه من الأحكام التي جعلها وفق ومصالح العباد.
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد لأن كل ما في السماوات والأرض ملكه فهو مستغن عنهم وقادر على إثابتهم على طاعته فيها شرعه لخيرهم ومصلحتهم بل ليزدادوا بتدبرها إيمانا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها.
الإيضاح :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا فهو وحده مدبر الأكوان فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفقر ولا الإيناس بعد الوحشة إلى نحو هذا مما ينبئ بعظيم القدرة وكمال الجود والإحسان.
﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾ أي ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم من سالف الأمم كما أمرناكم بتقوى الله في إقامة سننه وإقامة شريعته فبالأولى ترقى معارفكم وبالثانية تزكو نفوسكم وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية.
﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي وإن تكفروا أنعم لله وتجحدوا فضله وإحسانه فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم كما لا ينفعه شكركم وتقواكم وقد وصاكم وإياهم بهما لرحمته لا لحاجته.
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :
﴿ وكان الله غنيا حميدا ﴾ أي وكان الله غنيا عن كل شيء بذاته محمودا بذاته وكمال صفاته فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ ( الإسراء : ٤٤ ). وفي الحديث القدسي :" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي قتنفعوني لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أم أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " رواه مسلم.
ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ﴾ أي له سبحانه ما فيهما خلقا وملكا يتصرف فيهما كيفما شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وكفى به قيما وكفيلا يوكل به أمر العباد في أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم.
﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ﴾ أي إن يرد إفناءكم واستئصالكم من الوجود وإيجاد قوم آخرين من البشر يحلون محلكم في الحكم والتصرف فهو قادر على ذلك لأن كل ما في السماوات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه.
و الخلاصة : إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه لا لعجز عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا
و مثل هذه الآية قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ ( فاطر : ١٦-١٧ )و قوله :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ ( محمد : ٣٨ ).
و في هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاومون دعوته وتنبيه الناس إلى التأمل في سنن الله التي جرت في حياة الأمم وموتها وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة وقعت لا محالة.
﴿ وكان الله على ذلك قديرا ﴾ أي وكان الله قديرا على ذلك الإفناء وإيجاد خلق آخر إذ بيده ملكوت كل شيء لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك.
﴿ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ﴾ أي من يرد منكم بسعيه وجهاده في حياته نعيم الدنيا بالمال والجاه ونحوهما فعند الله ثواب الدارين معا بنا أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس فعليكم أن تطلبوهما مها ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما ينفى وتتركوا أغلاهما وهو ما يبقى مع أن الجمع بينهما هين ميسور لكم وهو تحت قدرتكم وسلطانكم فمن خطل الرأي أن تتركوا ذلك وترغبوا عنه بل عليكم أن تقولوا- ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ ( البقرة : ٢٠١ ).
و في الآية إيماء إلى أن الدين يهدي أهله إلى السعادتين وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته.
﴿ وكان الله سميعا بصيرا ﴾ أي وكان الله سميعا لأقوال عباده حين مخاطبيهم ومناجاتهم بصيرا بجميع أمورهم في سائر حالاتهم فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال وبذا تزكوا نفوسهم وتقف عند حدود الفضيلة التي بها تستقيم أمورهم في دنياهم ويستعدون لحياة أبدية في آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم.
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بالقسط في اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن لأن حقهن آكد وضعفهن معهود- عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل وحفظ النظام لا يتم إلا به وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس والوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوي القربى لأنه يعتز بهم كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفهن وعدم الاعتزاز بهن.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾القوام : هو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مستوفيا تاما لا نقص فيه وقد أمر الله بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط تأكيدا للعناية بهذه الأشياء أي فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم راسخة في نفوسكم والعدل كما يكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكمه الناس فيما بينهم يكون في العمل كالقيام بما يجب بين الزوجات والأولاد من النصفة والمساواة بينهم ولو سار المسلمون على هدى القرآن لكانوا أعدل الأمم وأقومهم بالقسط وقد كانوا كذلك ردحا على الدهر حين كانوا مهتدين بهديه ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم فصارت تضرب بهم الأمثال في ظلم حكامهم وسوء أحوالهم.
﴿ شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾ أي كونوا شهداء لله بأن تتحروا الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة أحد ولا محاباته ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن يثبت بها الحق عليكم ( ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق ) أو على والديكم واقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوي الرحم أن يعانوا على ما ليس لهم بحق الإعراض عن الشهادة عليهم أو ليها والتحريف فيها بل البر والصلة في الحق والمعروف.
و ليس من شك في أن الحياة قصاص فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم فتكون المحاباة من أسباب فشو الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها.
﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ أي إن يكن المشهود عليه من الأقارب أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وشرعه أحق أن يتبع فيهما فحذار أن تحابوا غنيا طمعا في بره ولا خوفا من أذاه وشره ولا فقيرا عطفا عليه وشفقة به فمرضاة كل منهما ليست خيرا لكم ولا لهما من مرضاة الله ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما ولولا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه لما شرع ذلك ولا أوجبه.
و وروى ابن جرير عن السدى في سبب نزول الآية : أن رجلين فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان حلفه ( ميله القلبي ) مع الفقير يرى الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
و قال قتادة في هذه الآية : هذا في الشهادة فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو على ذوي قرابتك وأشرف قومك فإنما الشهادة لله وليست للناس والعدل ميزان الله في الأرض به يرد الله من الشديد على الضعيف ومن الصادق على الكاذب ومن المبطل على المحق اه.
﴿ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ﴾ أي فلا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل إذ في الهوى الزلل.
﴿ وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها فالله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه قصدكم فهو مجازيكم بما تعملون.
و عبر بالخبير ولم يعبر بالعليم لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه ويلتمس المعاذير في كتمان الشهادة أو تحريفها.
فليتدبر المسلمون ذلك وليعلموا بهدي كتابهم ويقيموا الشهادة بالحق ففي ذلك فلاحهم في دينهم ودنياهم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ هذا خطاب لمؤمني اليهود فقد روي عن ابن عباس " أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين إذ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ".
فقالوا لا نفعل فنزلت قال فآمنوا كلهم ".
و قيل : إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة والمعنى ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزله عليه وبالكتب التي نزلها على رسله من قبله فإنه لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى.
و بعد أن أمر بالإيمان بما ذكر توعد من كفر بذلك فقال :
﴿ ومن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ أي ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر ( وهي أسس الدين وأركانه ) فقد ضل عن صراط الحق الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم ويمتعه بالنعيم المقيم.
و من فرق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه لأنه إما يتبع الهوى أو يقلد عن جهل وعمى ذاك أن سر الرسالة هي الهداية ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية.
المعنى الجملي : ذكر الله تعالى في هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد – آمنوا في الظاهر نفاقا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم ولم يجعل فيها مكانا للاستعداد للفهم ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى إذ هم لم يفقهوا حقيقة الإيمان ولا ذاقوا حلاوته ولا أشربت قلوبهم حبة ولا عرفوا فضائله ومناقبه ثم أوعد بعدئذ المنافقين بالعذاب الأليم وذكر أنهم أنصار الكافرين على المؤمنين فلا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء ولا أن يبتغوا عندهم جاها ولا منزلة.
الإيضاح :﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ﴾ أي إن هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر ثم من كفر إلى إيمان وهكذا دواليك – إنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وفقه مزاياه وفضائله ومثلهم لا يرجى لهم – بحسب سنن الله في خليقته – أن يهتدوا إلى الخير ولا أن يسترشدوا إلى نافع ولا أن يسلكوا سبيل الله فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته ورضوانه ومغفرته وإحسانه لان أرواحهم قد دنست وقلوبهم قد عميت فلم تكن محلا للمغفرة ولا للرجاء في ثواب.
و الله أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة وإنما مشيئته مقترنة بحكمته وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا في نفوسهم فمن طال عليه أمد التقليد حجب عن عقله نور الدليل ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان حرم من أسباب الغفران التي ذكرها سبحانه في قوله :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ ( طه : ٨٢ ).
و لا شك أن المغفرة وهي محو أثر الذنب من النفس إنما يكون بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يزيل ما علق في لنفس من تلك الآثام كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ ( هود : ١١٤ ).
﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾ البشارة لا تستعمل غالبا إلا في سار الأخبار إذ هي مأخوذة من انبساط بشرة الوجه فاستعمالها في الأخبار السيئة يكون من باب التهكم والتوبيخ أي بشر المنافقين بالعذاب المؤلم الذي لا يقدر قدره ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب.
ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب الذم فقال :
﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ أي هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها ويمالئون الكافرين عليهم اعتقادا منهم أن الدولة ستكون لهم فيجعلون لهم يدا عندهم.
ثم وبخهم علة ما فعلوا فقال :
﴿ أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ﴾ العزة : القوة والمنعة : أي إن كانوا هم بذلك يطلبون عندهم الغلبة والمنعة فإن العزة لله يؤتيها من يشاء فعليهم أن يطلبوها منه تعالى بصادق إيمانهم وإتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه وبينوا لهم أسبابها وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه وساروا على سننه ونهجوا نهجه فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم ذلوا وخنعوا لعدوهم وصار منهم منافقون يوالون الكافرين يبتغون عندهم عزة وشرفا وما هم لها بمدركين.
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ الخطاب موجه إلى كل من يظهر الإيمان سواء أكان مؤمنا حقا أم منافقا وما نزله في الكتاب هو قوله في سورة الأنعام المكية :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ ( الأنعام : ٦٨ ) وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين وهم يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين فأمروا بالإعراض عنهم وهدم الجلوس معهم في هذه الحال.
ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمتعون إليهم فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
و الخلاصة : إنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات في موضع السخرية والاحتقار فابتعدوا عنهم ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إليهم إلى حديث آخر.
و في الآية دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يدل على التنقص والاستهزاء بالأدلة الشرعية والأحكام الدينية كما يقع من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم إلا قال إمام مذهبنا كذا قال فلان من أتباعه كذا وإذا استدل أحد بآياته قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه وظنوا أنه قد جاء بخطب شنيع وجعلوا رأي إمامهم مقدما علة ما نطق به الكتاب وأرشدت إليه السنة.
﴿ إنكم إذا مثلهم ﴾ أي إنكم إن قعدتم معهم تكونوا شركاء لهم في الكفر لأنكم رضيتم به ووافقتموهم عليه.
و في الآية إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع في الإثم وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس.
و قد وقه في هذا المنكر كثير من المسلمين فإنهم يرون الملحدين في البلاد يخوضون في آيات الله ويستهزئون بالدين وهم يسكتون عن ذلك ولا يبدون إنكارا ولا اشمئزازا ولا صدا ولا إعراضا.
﴿ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾ أي إنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا سيجتمعون في العقاب يوم القيامة.
و لا يخفى ما في هذا النص من الوعيد للكفار والمنافقين ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال :
﴿ الذين يتربصون بكم ﴾ يتربصون ينتظرون ما يحدث من خير أو شر : أي إن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحدث لكم من كسر أو نصر أو شر أو خير.
﴿ فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ﴾ أي فإن نصركم الله وفتح عليكم ادعوا أنهم كانوا معكم فيستحقون مشاركتكم في النعمة وإعطاءهم من الغنيمة.
﴿ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ﴾ الاستحواذ : الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه : أي وإن كان للكافرين نصيب من الظفر منوا عليهم بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين بتخذيلهم والتواني في الحرب معهم وإلقاء الكلام الذي تخور به عزائمهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبا مما أصبتم.
و السر في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله وعن ظفر الكافرين بالنصيب – الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائما وأن الباطل ينهزم أمامه مهما كان له أول أمره من صولة ودولة وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل ولكن تنتهي بغلبة الحق عليه كما قال :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( الروم : ٤٨ ) ما دام أهله متبعين لسنة الله بأخذ الأهبة وإعداد العدة كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ).
و إنما غلب المسلمون في هذه العصور على أمرهم وفتح الكافرين بلادهم التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة فأنشؤوا البوارج والمدافع والدبابات المدرعة والغواصات المهلكة والطائرات المنقضة إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك في البر والبحر والجو ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية ( ميكانيكية ) أو رياضية.
﴿ فالله يحكم بينكم يوم القيامة ﴾ أي فالله يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر حكما يليق بشأن كل من الثواب والعقاب فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه أما في الدنيا فأنتم وهم سواء في عصمة الأنفس والأموال كما جاء في الحديث :" فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ".
﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ أي إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين من أخذ الأهبة وإعداد العدة لن يغلبهم الكافرون ولن يكون لهم عليهم سلطان وما غلب المسلمون على أمرهم إلا بتركهم هدى كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراء ظهريا فذلوا بعد عزة وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم ودخلوا عليهم في عقر دارهم وامتلكوا بلادهم ولله الأمر من قبل من قبل ومن بعد.
تفسير المفردات : الخداع : إيهام غيرك أن الشيء على ما يحب ويريد بتزيينك له وهو على غير ذلك كسالى : واحدهم كسلان وهو المتثاقل المتباطئ المراءاة : من الرؤية وهي أن يكون من يرائيك بحيث تراه كما يراك فالمرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل
المعنى الجملي : لا يزال الحديث في المنافقين وبيان أحوالهم بعد أن ذكر طرفا منها قبل ذلك.
الإيضاح :﴿ إن المنافقين يخادعون الله : أي يخادعون رسول الله فيظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر ونسب ذلك إلى الله من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة الله به كما قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ ( الفتح : ١٠ ).
و في جعل ذلك خداعا لله تنبيه إلى شيئين فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون الله وعظم شأن المقصود بالخداع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وأن معاملته بذلك كمعاملة الله به.
﴿ وهو خادعهم ﴾ أي مجازيهم على خداعهم وسمى ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول ونظيره﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ﴾ ( آل عمران : ٥٤ ) وإنما جعل كذلك لأنه قد استعمل في المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبا.
وخلاصة المعنى : إنه عبر عن سنة الله في عاقبة أمرهم في العجل والآجل من حيث أنها جاءت على غير ما يحبون بلفظ مأخوذ من المخادعة إذ إنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين ويسيرون في طريق يظلون فيه وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة الله لهم إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقي الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة وهكذا حال المنافقين في كل أمة وملة يخادعون ويكذبون ويكيدون ويغشون ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم يمتون بها إليهم إذا دالت دولتهم وكتب تاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار ويكثر عددهم في الأمم في أطوار الضعف وقوة الأعداء إذ هم طلاب منافع يلتمسونه من كل فج ويسلكون لها كل الطريق ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين وقد روى عن ابن عباس أنه قال خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في ظلمة ودليله قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ ( البقرة : ١٧ ).
﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ﴾ أي متباطئين ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل ولا نشاط يدفعهم على فعل لانهم لا يرجون ثوابا في الآخرة ولا يخشون عقابا إذ لا إيمان لهم وإنما يخشون الناس فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين تركوها وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام بها ومن كانت هذه حاله وقع عمله على وجه الكسل والفتور.
﴿ يراؤون الناس ﴾ بها أي يبتغون بذلك أي يراهم المؤمنون فيعدوهم منهم.
﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ أي لا يصلون إلا قليلا فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس راءوهم وصلوا معهم.
تفسير المفردات :
الذبذبة : حكاية صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعملت في كل اضطراب وحركة.
الإيضاح :
﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾ أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين لا يخلصون إلى أحد الفريقين لأنهم طلاب منافع ولا يدرون لمن تكون العاقبة فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه كما بين الله ذلك فيما سلف.
﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ أي ومن قضت سنته أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل بما قدم من عمل وتخلق به من خلق فلن تجد له سبيلا للهداية باجتهادك والمبالغة في إقناعه بالحجة والدليل فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول.
المعنى الجملي : بعد أن ذم سبحانه المنافقين بأنهم مذبذبون لا يستقر لهم قرار فهم تارة مع المؤمنين وأخرى مع الكافرين حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم وأن يوالي بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين يبتغون عندهم العزة ويرجون منهم المنفعة كما فعل حاطب بن أبي بلتعة إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم لأنه كان له عندهم أهل ومال.
الإيضاح :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ المراد بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل بما يكون فيه ضرر للمسلمين وهذا كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ ( المائدة : ٥١ ).
أما استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية فليس بمحظور والصحابة رضوان الله عليهم استخدموهم في الدواوين الأميرية وأبو إسحاق الصابي جعل وزيرا في الدولة العباسية.
﴿ أتريدون أن يجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ﴾ السلطان : الحجة والبرهان والمبين هنا بمعنى البين في نفسه.
و المعنى : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة في استحقاقكم للعقاب إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين ؟ فإن عملا كهذا لا يصدر إلا من منافق.
﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ الدرك والدرك بالسكون والتحريك : الطبقة أسفل من الأخرى فإذا كانت أعلى منها كانت درجة النار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة وفي الآية إشارة إلى أن دار العذاب في الآخرة دركات بعضها أسفل من بعض كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض.
و إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار لأنهم شر أهلها إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم فأرواحهم أسفل الأرواح ونفوسهم أحط النفوس ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها.
أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره من صنم أو وثن يتخذونه شفيعا عنده ووسيطا بينه وبينه وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبذين والأمراء الظالمين.
﴿ ولن تجد لهم نصير ا ﴾ ينتقذهم من ذلك العذاب أو يخففه عنهم فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.
﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ﴾ أي هذا الجزاء الشديد الذي أعده الله للمنافقين لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة :
اجتهادهم في صالح الأعمال التي تغسل أدران النفاق بأن يلتزموا الصدق في القول والعمل مع الأمانة والوفاء بالوعد ويخلصوا النصح لله ورسوله ويقيموا الصلاة مع الخشوع والخضوع ومراقبة الله في السر والعلن.
اعتصامهم بالله بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة الله مع التمسك بكتابه والتخلق بآدابه والاعتبار بمواعظه والرجاء في وعده والخوف من وعيده والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه كما قال تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴾ ( النساء : ١٧٥ ).
إخلاصهم لله بأن يدعوه وحده ولا يدعوا من دونه أحدا لكشف ضر ولا لجلب نفع بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصا له وحده كما قال :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ( الفاتحة : ٥ )و كما جاء في قوله :﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ ( الزمر : ٢-٣ ).
﴿ فأولئك مع المؤمنين ﴾ أي فأولئك التائبون يكونون مع المؤمنين لأنهم يؤمنون كإيمانهم ويعملون كعملهم فيجزون جزاءهم.
﴿ وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما ﴾ أي وسوف يعطيهم الله الأجر العظيم الذي لا يقدر قدره كما قال تعالى :﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ( السجدة : ١٧ ).
ثم بين أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم الله عليهم فقال :
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ﴾ الاستفهام للإنكار أي إنه تعالى لا يعذب أحدا من خلقه انتقاما منه ولا طلبا لنفع ولا دفعا لضر لأنه تعالى غني عن كل أحد منزه عن جلب منفعة له وعن دفع مضرة عنه بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان لكنهم استعملوها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف كما كفورا بخالق هذه القوى فاتخذوا له شركاء ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء حتى فسدت فطرتهم ودنست أرواحهم ولو آمنوا وشكروا لطهرت لأرواحهم وظهرت آثار ذلك في عقولهم وسائر أعمالهم التي تصلحهم في معاشهم ومعادهم او استحقوا بذلك رضوان الله ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ﴾ ( النساء : ٧٢ ).
﴿ و كان الله شاكرا عليما ﴾ أي يجعل ثواب المؤمنين الشاكرين بحسب علمه بأحوالهم ونيلهم من الدرجات أكثر مما يستحقون جزاء على شكرهم وإيمانهم كما قال :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ( إبراهيم : ٧ ) فهو يجزي بيسير الطاعات رفيع الدرجات ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدود.
وفقنا الله لصالح العمل وجعلنا من المؤمنين الشاكرين.
و صلى الله على محمد وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من كتابة مسودة هذا الجزء في اليوم الثاني من محرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بعد الألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.
الجزء السادس
بسم الله الرحمان الرحيم
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم وحذر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال :﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ( الحديد : ١٦ ).
بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك وفي هذا من الضرر ما سنذكره.
الإيضاح :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ﴾حب الله لشيء هو الرضا به والإثابة عليه والجهر يقابل السر والإخفاء والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه ومساويه التي تؤذي كرانته.
و المعنى : إنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها :
( ١ ) إنه مجبلة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.
( ٢ ) إنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم فقد جرت العادة بأن الناس يقتدي بعضهم ببعض فمن رأى إنسانا يسب آخر لضغائن بينه وبينه أو لكراهته إياه قلده في ذلك ولاسيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته إذ عامة الناس يقلدون خواصهم فإذا ظهرت المنكرات في الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر في نفس السامع وهذا يؤثر في نفس الرائي والناظر وأقل هذه الأضرار أنه يضعف في النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر.
و كثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام في القلوب فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.
و الخلاصة : إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق.
و الجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به لأن ضرره وفساده يفشو في جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات.
﴿ إلا من ظلم ﴾ أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه في ذلك فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم ولا أن يخضعوا للضيم بل يحب لهم العزة والإباء.
فها هنا تعارضت مفسدتان : مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوه والتمادي فيه وذاك مما يؤدي إلى هلاك الأمم وخراب العمران وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى في الجهر بالسوء بما لا دخل له في دفع الظلم وفي الحديث " إن لصاحب الحق مقالا " رواه الإمام أحمد.
﴿ وكان الله سميعا عليما ﴾ فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه إذ لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه الله لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فالله لا يؤاخذه بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا.
بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك وفي هذا من الضرر ما سنذكره.
﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ﴾ أي إن فاعلي الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسئ إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم والله من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.
المعنى الجملي : بين سبحانه في هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبني عليهما ما عداهما ولا يقبل الإيمان بدونهما وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ﴾ ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم وقوله : نؤمن ببعض ونكفر ببعض بيان لتفريقهم بين الله ورسله.
و الخلاصة : إن الكافرين بالرسل فريقان : فريق لا يؤمن بأحد منهم لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله وأكثر الملحدين في هذا العصر من ذلك الفريق وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين وقول النصارى نؤمن بموسى و ونكفر بمحمد والفريقان كافرون مستحقون للعذاب ولا عبرة بما يدعونه إيمانا.
﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾ أي وأعددنا لكل كافر سواء أكان منهم أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة.
ذاك أن من يؤمن بالله ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدي إلى ما يحب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لا تهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض كأهل الكتاب لا يعتد بقولهم لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسول ووظائفهم وتأثير هدايتهم.
و من فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسول قد ظهرت بأكملها في محمد صلى الله عليه وسلم فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.
و بعد أن ذكر حال الفريقين السالفي الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال :
﴿ والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ﴾ أي والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاؤوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها فكل وال منهم وإنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به وأولئك يؤتيهم الله أجورهم بحسب حالهم في العمل لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.
و لم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك هم الكافرون حقا لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين فلقد وصف الله المؤمنين حقا بقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٢-٤ ).
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي وكان الله غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا ولم يفرق بين أحد من رسله، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه في سابق الآيات حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب بين في الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.
الإيضاح :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إلينا.
أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عنه الله يكون فيه ( من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع ) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.
﴿ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ أي عيانا ننظر إليه ونشاهده : أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وكل من السؤالين يدل على جهل وعناد.
ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على جهل بالله إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيه من أنبياء إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة في سفر تثنية الاشتراع وغيره.
و أيا ما كان فلا فائدة في إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ( الأنعام : ٧ ).
و نسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم لان الخلف والسلف سواسية في الأخلاق والصفات فالأبناء يرثون الآباء ولاسيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد في اتباع خلفها لسلفها فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا في سورة البقرة في مخاطبة اليهود وغيرهم.
﴿ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ﴾ الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة وقوله بظلمهم : أي بسبب ظلمهم : أي إن الله تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ ( الأنعام : ٩١ ).
﴿ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ﴾تقدم هذا في سورة البقرة : أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها واتخذوا العجل إلها وعبدوه فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا فتوبوا انتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم.
﴿ وآتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ السلطان هنا بمعنى السلطة : أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى في قتل أنفسهم.
و في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم.
ثم حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها في سورة البقرة فقال :
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾ الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا في واديه وقوله :﴿ بميثاقهم ﴾ أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما انزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به.
﴿ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ﴾ الباب هو باب المدينة وهي بيت المقدس وقيل أريحا وقوله :﴿ سجدا ﴾ : أي خاضعي الرؤوس مائلي الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته : أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار.
﴿ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ﴾ والاعتداء تجاوز الحد والاعتداء في السبت هو اصطياد الحيتان فيه : أي وقلنا لهم على لسان داود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي وقد خالفوا في السبت وفي دخول الباب.
﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ الميثاق الغليظ العهد المؤكد : أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذن التوراة بقوة وليقيمن حدود الله ولا يتعدونها ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن في الفضل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم.
﴿ فبما نقصهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم الله به فأحلوا ما حرمه حرموا ما أحله وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكرياء ويحيي عليهما السلام.
﴿ وقولهم قلوبنا غلف ﴾ جمع أغلف وهو ما عليه غلاف : أي لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين :﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ ( فصلت : ٥ ) وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد – فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.
﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ طبع الله عليها جعلها كالسكة المطبوعة ( الدراهم مثلا ) في قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره : أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وماله من الأثر القبيح في أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرار على ذلك الكفر لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.
﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به، لأنه تفريق بين الله ورسله، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام.
﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾ المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله : وقالوا قلوبنا غلف، والبهتان : الكذب الذي يبهت من يقال فيه : أي يدهشه ويحيره لبعده وغرابته، والمراد به هنا رميها بالفاحشة.
والمعنى : إن الله طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا ؟.
والخلاصة : إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله.
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾ أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله.
وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى إذ جاء في إنجيل يوحنا ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ).
﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس، ولكن وقع الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وهم إنما صلبوا غيره، مثل هذا الشبه يحدث كثيرا في كل زمان وتحكي عنه نوادر وحوادث غاية في الغرابة لكنها قد وقعت فعلا.
فقد ذكر بعض المؤلفين في الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة ١٥٣٩ في فرنسا استحضر فيها ١٥٠ شخص لمعرفة شخص يدعى ( مارتين جير ) جزم أربعون منهم بأنه هو وقال خمسون أنه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحظر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون.
على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغير شكله فخرج من بينهم وهم لا يشعرون وفي أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل : وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب ؟ والجواب أن إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة وإذا قلنا إن الله توفاه في الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة في ذلك فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه في مكان لم يعرفه أحد منهم وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه فكيف يستغرب أن يفر عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له لا ولي له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضوا من حوله وقت الشدة وقد أنكره أمثلهم بطرس الحواري ثلاث مرات ؟.
﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ قال في لسان العرب : الشك ضد اليقين فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره ؟.
و المعنى : وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي تردد من حقيقة أمره إذ ليس لهم به من علم قطعي الثبوت وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بعض وقد جاء في بعض الأناجيل التي يعولون عليها أنه قال لتلاميذه ( ككلم تشكون في هذه الليلة ) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل ( إنجيل متى من ٢٦-٣١ ومرقس من ١٤-٢٧ ).
و إذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره ؟.
﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ أي وما قتلوا عيسى ابن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة والأناجيل التي يعول عليها صريحة في أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبله قبضوا عليه وإنجيل برنابا يصرح بان الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح لأنه ألقى عليه شبهه ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية.
و الخلاصة : إن روايات المسلمين جميعا متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدي قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو.
﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ هذه الآية كآية آل عمران :﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ( آل عمران : ٥٥ ). وقد روي عن ابن عباس أنه فسر التوفي بالأماتة وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله بعد أن اصطفاه إليه وقربه.
و قال ابن جرير نقلا عن ابن جريج : فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط وفي تفسير ابن عباس معنى الرفع رفع الروح ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية وأنت ترى أنه لا دليل لهم في ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء في سائر السماوات ولا قائل بذلك.
و قال الرازي : المعنى رافعك إلى محل كرامتي وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾ ( الصافات : ٩٩ ) وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا الله اه.
﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾ أي إن الله عزيز يغلب ولا يغلب وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين وبحكمته جازى كل عامل بعمله ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض وسيوفيهم جزءاهم يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ ( الانفطار : ١٩ ).
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته ﴾ أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عندما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال فاليهودي يعلم أنه رسول صادق في رسالته ليس بالكذاب والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن لله.
و فائدة إخبارهم بذلك : بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطروا إليه مع عدم الجدوى والفائدة.
﴿ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾ أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى الله عنه من قوله :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ ( المائدة : ١١٧ ) فهو يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر إذ هو مرسل إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ﴾ ( النساء : ٤١ ) وقد ورد في الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة فيبشرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن المؤمن إذا – حضره الموت – بشر برضوان الله وكرامته وإن الكافر إذا حضِر ( حضره الموت ) بشر بعذاب الله وعقوبته " وروى ابن مردوية عن ابن عباس " ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار ".
و هذا يؤيد ما روي عن ابن عباس في تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح مع الإنكار الشديد والتقبيح.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم ذكر هنا تشديده عليهم في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم وأما في الآخرة فبما بينه الله بقوله :
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة.
الإيضاح : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم لعلهم يرجعون عن ظلمهم وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم الله في مواضيع كثيرة كقوله :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ ( آل عمران : ٩٣ ).
أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي ما بين في قوله عز اسمه :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ ( الأنعام : ١٤٦ ) الآية. وقد أبهمها الله هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة لا بيانها في نفسها كما أبهم الظلم الذي كان سببا في العقوبة ليعلم أن أي نوع منه يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة.
و العقاب إما دنيوي كالتكاليف الشاقة زمن التشريع والجزاء الوارد في الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها الله في نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستلاء الأمم الأخرى عليها وإما أخروي وهو ما بينه في الكتاب الكريم من العذاب في النار. ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا ليكون أوقع في النفس وأبلغ في الموعظة.
﴿ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ﴾ الصد والصدود : المنع وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا وصدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة.
﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ﴾ أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب فقد جاء في سفر الخروج ( إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا ) وفي سفر تثنية الاشتراع ( لا تقرض أخاك بربا ربا فضة أو ربا شيء ما مما يقرض بربا للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا ) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى.
و بعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داود في المزمور الخامس عشر : فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة من البريء وقول سليمان في سفر الأمثال ( المكثر ماله بالربا والمرابحة فلن يرحم الفقراء بجمعه ).
﴿ وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾ أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتد به.
و نحو الآية قوله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ ( المائدة : ٤٢ ) والسحت : الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هي من عند الله.
و بعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها والجرائم التي ارتكبوها بين جزاءهم عليها في الآخرة فقال :
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل الله عذابا مؤلما في نار جهنم خالدين فيها أبدا.
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة.
و بعد أن بين في هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول في ذلك وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم جاء الاستدراك عقبة ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال :
﴿ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل ولا يفرقون بين الله ورسله بهوى ولا عصبية.
روى ابن إسحاق والبيهيقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.
﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به.
﴿ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون يالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع إذ إقامتها تستدعي إيتاء الزكاة فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة إذ هي مما تزكي النفس وتعلي الهمة وتهون على النفس المال قال تعالى :﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ ( المعارج : ١٩ -٢٢ ).
أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علام الغيوب.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع أهل الكتاب فإنه ذكر عنهم أولا أنهم يفرقون بين الله ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ثم انتقل إلى ذكر شيء من عنادهم وإعناتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء وبين أنه لا غرابة في ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمه ومحاولتهم قتله وصلبه وفي كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم ولولا ذلك لما شاغبوك فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك – وهنا ختم الكلام في محاجتهم ببيان أن الوحي جنس واحد ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ الإيضاح :{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ الوحي لغة : الإيماء والإشارة كما قال تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ ( مريم : ١١ ) والإلهام الذي يقع في النفس كما قال :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ ( القصص : ٧ ) وما يكون غريزة دائمة كما قال :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ ( النحل : ٦٨ ) والإعلام في خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال :﴿ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ الأنعام : ١١٢ ).
و وحي الله إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.
و المعنى : إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم والله لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد لان الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي وليس هو بالأمر المشاهد الحسي.
و قد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء وقصص بعثته في سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة.
﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ﴾ الأسباط واحدهم سبط وهو ولد الولد وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل.
﴿ آتينا داود زبورا ﴾ الزبور : الكتاب وكل كتاب زبور وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داود وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب.
﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ﴾ أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليكم من قبل تنزيل هذه السورة وهم الذين ذكرت أسماؤهم في السور المكية كقوله في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ والْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأنعام : ٨٤-٨٦ ).
و أجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.
﴿ ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوربا وأمريكا.
و إنما لم يقص الله علينا خبرهم لان القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ ( يوسف : ١١١ ) وقوله :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( هود : ١٢٠ ) وكل هذا يثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل وعلينا أن نعلم أن الله أرسل رسلا في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾ ( النحل : ٣٦ ) وقوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ ( فاطر : ٢٤ ) وهذه حقيقة دل عليها الدين السماوي ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم وكم فيه من حقائق جلاها للناظرين بجميل بيانه واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم.
﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين وليس لنا أن نخوض في معرفة حقيقته لأنا لم نكن من أهله على أنا لا نعرف حقيقة الكلام بعضنا بعضا وكيف تحمل ذرات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري.
و الوحي إلى الأنبياء يسمى تكليما والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ ( الشورى : ٥١ ) والحكمة في الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار في الشجرة.
و الرسول الذي يرسله الله فيوحي بإذنه ما يشاء هو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين.
والخلاصة : إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله ويقضي بعقابهم فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا في الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم.
و الدين وضع إلهي لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحي وهو موافق لسنن الفطرة في تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله في الدنيا والآخرة ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.
﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾ أي وكان الله عزيزا لا يغالب في أمر يريده ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه حكيما في جميع أفعاله وحكمته تقضي هذا الامتاع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصروا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا.
﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ﴾ هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم وعدم شهادتهم بها وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه ويكون شاهدا له فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك لكن الله يشهد به.
ثم أكد هذه الشهادة فقال :
﴿ أنزله بعلمه ﴾ أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسة والاجتماعية ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به وأنه وحي من عنده.
و الخلاصة : كأن الله تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشيء فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحي وانت على يقين منه وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.
﴿ والملائكة يشهدون ﴾ أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبتونك ويثبتون المؤمنين في القتال كما في غزوة بدر قال تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ ﴾ ( الأنفال : ١٢ ).
﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبل فشهادته أصدق وقوله الحق :﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ ( الأنعام : ١٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن أزال سبحانه في الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا – بمثله أنذر في هذه الآيات من يصر منهم على الكفر ويستمر على الإعراض والظلم وبين لهم سوء العاقبة.
الإيضاح :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾ أي إن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات في قلوبهم كقولهم : لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى وقولهم : إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ على يوم القيامة قد ضلوا ضلالا بعيدا لان أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال فهو قد سار في سبيل الشيطان وبعد عن سبيل الله فلم يعد يفقه أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة.
﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم وصدهم عن الصراط المستقيم – ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء لان الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا في نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرىء قبيح الأفعال وتهوى شر الخلال والأعمال – ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضاد ذلك من إيمان صحيح وعمل صالح يزكي النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب ومن ثم قال تعالى :
﴿ ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ﴾ أي وليس من شأنه أن يهدي أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم فهي الطريق التي ينتهي إليها من دسى نفسه بالكفر والظلم وأوغل في السير فيها طول عمره واستمرأ الشرور والمفاسد حتى هوت به إلى واد سحيق.
فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقض لسنن الله وحكمته في خلق الإنسان.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء والأبد : الزمن الممتد وتأبد الشيء : بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا : أقام به ولم يبرحه أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها.
﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره لأنه مقتضى حكمته وسننه وليس بالعزيز على قدرته.
و في هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن الله لا يعبأ بهم ولا يبالي بشأنهم.
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ﴾ بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ورد شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا عنادا – خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر للإيماء إلى أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم تبق معذرة في الإعراض والصد عن إتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم وقد كان اليهود ينتظرون من الله مسيحا ونبيا بشر بهما أنبياؤهم فقد جاء في الفصل الأول من الإنجيل يوحنا- أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ليسألوه من هو ؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة- فسألوه أأنت المسيح ؟ قال لا قالوا أأنت النبي ؟ قال لا - من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة في سفر تثنيه الاشتراع وعيسى في الإنجيل وغيرهما من الأنبياء.
﴿ فآمنوا خير لكم ﴾ أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية.
﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ﴾ أي وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم فإن له ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها فعباده الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه في الأكوان وهي عامة في جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار.
﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة في جميع أفعاله وأحكامه فهو لا يخفى عليه أمركم في إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى فطوبي لمن نهى النفس عن الهوى وآثر الآخرة على الدنيا وويل لمن أعرض عن ذكر ربه وأعرض عن أمره ونهيه وحالف الشيطان وحزبه.
تفسير المفردات : الغلو : مجاوزة الحد وكلمته : أي لأنه حدث بكلمة " كن " من غير مادة معتادة ألقاها على مريم : أي أوصلها وأبلغها إياها وروح منه : أي لأنه خلق بنفخ من روح الله وهو جبريل
المعنى الجملي : بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم وهم قد غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به- ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم وهم قد غلوا في تعظيم عيسى وتقديسه كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.
الإيضاح :﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾ أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها الله فإن الزيادة في الدين كالنقص فيه ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهانا عقلي قاطع وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شيء منها.
﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾ إلى بني إسرائيل وقد أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا وزهدهم في الدنيا وحثهم على التقوى وبشرهم بمحمد خاتم النبيين وأرشدهم إلى الاعتدال في كل شيء فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان.
﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾ وهو مكون بكلمته وأمره الذي هو " كن " من غير وساطة أب ولا نطفة فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا فاستنكرت ذلك إذ هي عذراء لم تتزوج فقال لها :﴿ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ ( آل عمران : ٤٧ ) فكلمة ( كن ) هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده.
و هو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى :﴿ وأيدناه بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ( البقرة : ٨٧ ) وكما قال في صفات المؤمنين :﴿ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ ( المجادلة : ٢٢ ).
وآية الله في خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روح كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، فخلقهما كان بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ ( آل عمران : ٥٩ ).
وزعم بعض النصارى أن كلمة ( منه ) تدل أن عيسى جزء من الله بمعنى أنه ابنه، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية، فقرأ له الواقدي قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ﴾ ( الجاثية : ١٣ ) فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدي بصلة عظيمة.
و قد جاء في الإنجيل متى ( أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت أمة مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ) وفي الإنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما في ذلك ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها ( الروح القدس يحل عليك ).
و في هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس وبذلك حملت بيحيى وكانت عاقرا وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس.
و من هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصى عددهم وأن عيسى خلق بوساطته وكذلك يحيى وكان خلقه من وجه آخر إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد وهو الملك المسمى بروح القدس أيدهم الله به رجالا ونساء فلا يستفاد إذا من قوله :﴿ وروح منه ﴾ أنه جزء من الله تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والتحاد بخلقه.
﴿ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ﴾ أي فآمنوا بالله إيمانا يليق به وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث وأن كل ما في الكون مخلوق له وهو الخالق له وأن الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحي ليعلموا الناس كيف يوحدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة : الأب والابن وروح القدس أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر وكل منها إله كامل ومجموعها إله واحد.
فإن في هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء وإتباعا لعقيدة الوثنيين والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول ولا يقبله أولو الألباب.
﴿ انتهوا خيرا لكم ﴾ أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاؤوا بتوحيد الله وتنزيهه فإن المسيح الذي سميتموه إلها كما في إنجيل يوحنا ( وهذه هي الحياة الأبدية إن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ).
﴿ إنما الله إله واحد ﴾ بالذات منزه عن التعدد فليس له أجزاء ولا أقانيم ولا هو مركب ولا متحد بشيء من المخلوقات.
﴿ سبحانه أن يكون له ولد ﴾ أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم في المسيح إنه ابنه أو إنه هو عينه فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا.
و التعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به في كلامهم لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه وهذا محال على الله تعالى وإن أرادوا الابن المجازي لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى في ذلك لأنه قد أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار.
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة بل له كل ما السماوات وما في الأرض خلقا وملكا والمسيح من جملتها كما قال تعالى :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ ( مريم : ٩٤ ).
و لا فرق في هذا بين الملائكة والنبيين ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أم كالملائكة وآدم ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده وهو يتصرف فيهم كما يشاء.
﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ أي وكفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه فهو غني عن الولد فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل ذلك.
عقيدة التثليت منشؤها.
أعلم أن عقيدة التثليت وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ في الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرفوا فيها وأولوا ما ادعوا وبذا هدموا آيات التوحيد وقد فصل ذلك علماء أوربا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ فقال البحاثة موريس في كتابه ( الآثار الهندية القديمة ) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثي.
و قال مستر فابر في كتابه ( أصل الوثنية ) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنوا وسيفا نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن ( بوذه ) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.
و قال مستر دوان في كتابه ( خرافات التوراة ) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس في تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث وبذلك تم الثالوث المقدس وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي _هل كان قبله أحد أعظم منه ؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه ؟ فأجابه الكاهن : نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة معهما رورح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصير ثم قال المؤلف : لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس ( كلمة ) هو من أصل وثتي مصري دخل في غيره من الديانات المسيحية و( أبولو ) المدفون في ( دهلي ) يدعى الكلمة وفي علم اللاغوت الاسكندري الذي كان يعلمه ( بلاتو )قبل المسيح بسنين عدة ( الكلمة هي الإله الثاني ) ويدعى ابن الله البكر وقال هيجي في كتابه ( الانكلوسكسون )كان الفرس يسمون ( متروسا ) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس وقال دوان : كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم ( أزمزرد مترات أهرمن ) فأزمورد الخلاق ومترات ابن الله المخلص الوسيط وأهرمن الملك والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر.
و قال صاحب كتاب ( ترقي الأفكار الدينية ) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلت الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات ( إشارة إلى الثالوث ) ويرشون المجتمعين حول المدبح ثلاثة مرات ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة ولهم الإعتناء بهذا العدد في جميع شعائرهم الدينية.
و قد إقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها ونسخت بها شريعة المسيح التي هي التوراة وظلموا المسيح بنسبتها إليه.
و الخلاصة : إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص فحولها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرمان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوها ونسخوا شريعة سماوية برمتها واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها فقد كانت ديانة زهد وتواضع فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر ديانة نسبها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث ولو لم يكن عندهم من النصوص في هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا في إنجيله لكفى من قوله عليه السلام ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) فهذا نص واضح في أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله.
وقال مرقص في الفصل الثاني عشر من إنجيله : إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه أول الوصايا : إسمع يا إسرائيل الر
تفسير المفردات :
الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه غرورا وإعجابا بها.
الإيضاح :
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ﴾أي لن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبدا لله لعلمه بعظمة الله وما يجب له من العبودية والشكر ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له.
و من هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا ومنهم روح القدوس الذي بنفخة منه خلق المسيح ومن ثم استدل بها الكثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء. إذ السياق في رد غلو النصارى في المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضي الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقي لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة بل يكون لغوا لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى.
و قال آخرون : إن الآية لا تدل على ذلك لأن في معرض تفضيل هؤلاء الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.
و أيا كان فالتفاضل في هذا من الرجم بالغيب إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة في إيمان ولا عمل.
﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ﴾ أي ومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى انه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء إذ يحشر الناس جميعا للجزاء المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم في صعيد واحد كما ورد في الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم.
﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾ أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه في ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمال الصالح في النفس وتزكيتها وطهارتها من أردان الشرور والآثام.
﴿ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ﴾ أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلفا يستحقونه بحسب سنته أيضا لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيء لأن رحمته سبقت غضبه فهو بجازي المحسن على إحسانه بالعدل والفضل ويجازي المسيء على إساءته بالعدل.
﴿ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب إذ لا عاصم اليوم من أمر الله ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ ( الانفطار : ١٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن حاج أهل الزيغ والضلال جميعا فحاج النصارى في الآية السابقة وحاج اليهود في الآية التي قبلها وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفي سور كثيرة غيرها وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ظهور الشمس في رائعة النهار – نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره.
الإيضاح :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلي يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم في حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية ودعوته التشريعية فإن أميا لم يتعلم في مدرسة ولم يعن في طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمار قومهم ولا معاهد لهوهم ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق – له وبرهان على عناية الله به وتأييده إياه بوحيه وهديه.
﴿ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور في الهداية للناس مبينا لكل ما أنزل لبيان من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته ثم لا يلبثون أن يشوهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض المخلوقات من جنسهم ومن أجناس أخرى.
و لما تغلغلت الوثنية في جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شيء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.
هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ ( الشعراء : ١٩٢-١٩٥ ).
و الخلاصة : إن محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كان برهانا على حقية دينه وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهي ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله وأنزل نورا مبينا لجميع الناس ما هم في حاجة إليه في معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به في حياتهم الدنيا وينالوا به الخير في العقبى.
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمته منه وفضل ﴾ الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما وقال ابن عباس : الرحمة الجنة والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
﴿ ويهديهم إليه صراطا مستقيما ﴾ أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلغهم السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة وفي الآخرة بالجنة والرضوان وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم وإتباع سنة سيد المرسلين والمراد أنه يوفقهم ويثبتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم.
وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغي أن يوجد وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتم بشأنه.
المعنى الجملي : بعد أن تكلم في أول السورة في أحكام الأموال ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال :( ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فعقلت، فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الميراث ( يرد هذه الآية ) ) ).
وروى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال نزلت :{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة والنبي صلى الله عليه وسلم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة، وبلغها حذيفة عمر ابن الخطاب وهو يسير خلفه، فلما استخلف عمر سال عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أنك إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله ) ) قال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخرها وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه.
الإيضاح :﴿ يستفتونك قل الله يفتيك في الكلالة ﴾ الكلالة : ما عدا الوالد والوالد من القرابة وقيل الإخوة من الأم، قال في لسان العرب _ وهو المستعمل والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شيء في التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه فقال لهم جوابا عما سألتم عنه.
﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ﴾ هلك مات _ أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك.
﴿ وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ﴾ أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى، ولا والد يحجبه عن إرثها، وإما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي.
﴿ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ﴾ فإن كان من يرث بالأخوة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة، وكذا إن كن أكثر من اثنتين كأخوات جابر فقد كن سبعا أو تسعا والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذي فرض فرضه أولا.
﴿ وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ أي وإن كان من يرثون بالأخوة كلالة ذكروا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هي القاعدة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء في سدس أمهم لحلولهم محلها، ولولا ذلك لم يرثوا، إذ هم ليسوا من عصبة الميت.
﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ أي يبين الله لكم أمور دينكم التي من أولها تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا : أي لتتقوا بمعرفتها الضلال في قسمة التركات وغيرها.
﴿ و الله بكل شيء عليم ﴾ فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم، وذلك شأنه في جميع أفعاله وأحكامه، فكلها موافقة للحكمة، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.
١ كل ما تقدم في هذا الفصل مقتبس من تفسير المنار.