وتذكّر السورة المشركين بقدرة الله في خلق السموات والأرض، ثم تخوّفهم مما وقع لأقرب الأمم إلى ديارهم عاد وثمود، وتذكّرهم بالآخرة، يومَ يشهد عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وما يكون بينهم وبين أعضائهم من المجادلة يومئذ.
وكما تحدثت السورة عن الكافرين وعنادهم تحدثت عن المؤمنين ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا... ﴾ كيف تتنزل عليهم الملائكة يبشّرونهم بالجنة وما أعدّ الله لهم فيها، ضيافة من الله الغفور الرحيم. ثم تبيّن أخلاق المسلمين، وتعطينا درسا رفيعا في الأخلاق والسيرة الحسنة، وكيف ندعو إلى الله :﴿ ومن أحسنُ قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادْفغ بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ﴾.
ما أحلى هذا الكلام العظيم، وما أرقى هذه الأخلاق لو تمشّينا على هداها !
﴿ وما يُلقّاها إلا الذين صبروا، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم ﴾. اللهم اجعلنا منهم وحسّن أخلاقنا يا رب العالمين.
وتنتقل السورة فتوجه الأنظار إلى آيات الله وقدرته في هذا الكون الفسيح من أمر البعث وإحياء الموتى، وتشدِّد النكير على المحرّفين لآيات الله، وأن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم تبين خُلُقا من أخلاق الإنسان : فهو إذا أنعم الله عليه أعرضَ عن الحق، وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض.
ثم تُختم السور بتقرير أمرين هما من أهم ما اشتملت عليه من الأغراض، أولهما : التنويه بالقرآن الكريم كما بدئت السورة به، وثانيهما : أن ما عليه الكافرون ما هو إلا شك في البعث حملهم على الكفر والضلال ﴿ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم، ألا إنه بكل شيء محيط ﴾.
وهكذا تعرض حقائق العقيدة بتفصيل في هذه السورة الكريمة في هذا الحشد من المؤثرات العميقة، فنجد أننا في مطلع السورة إلى ختامها نقف أمام مؤثرات تجول بنا في ملكوت السموات والأرض، وفي أغوار النفس، وفي مصارع البشر، وفي عالم القيامة، يتأثر بها المؤمنون، وينأى عنها المبطلون، ﴿ وما ربُّك بظلاّم للعبيد ﴾.
ﰡ
فصلت : بينت.
وهذا القرآن كتاب بُيّنت آياته وفصّل فيه الحرام والحلال والنصائح والمواعظ والأخلاق، بلغةٍ عربية فصيحة، ميسّراً فهمه لقوم يعلمون معانيه ومقاصده، ومراميه الإنسانية الخالدة.
ولقد أُنزل هذا الكتاب العظيم بشيراً لمن أطاع ونذيرا لمن عصى.
﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ فلم يطيعوه ولم يقبلوه كأنهم لا يسمعون.
وقْر : صمم.
ثم صرحوا بإعراضهم عنه فقالوا : إن قلوبنا مغلقة دونه عليها الأغطية،
فلا تقبله، وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تدعونا إليه، وبيننا وبينك يا محمد حجاب ساتر يمنعنا من قبول ما جئت به.
﴿ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾
فاعمل ما شئت، فإننا لا نَحيد عن موقفنا منك ومن دعوتك.
﴿ فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه... ﴾
فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، واطلبوا إليه المغفرة فإنه رحيم يحب التوابين، والويلُ والهلاك لمن أشرك به.
﴿ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾
وينكرون البعثَ والجزاء. ونرى أن منع الزكاة مقرونٌ بالكفر لأن أحبَّ شيء إلى الإنسان هو المال، وهو شقيق الروح، ولذلك شدّد الله تعالى في هذا الموضوع وأمَرَ بالبذل والعطاء.
والزكاة كانت معروفة قبل الهجرة، وهذه الآية مكية، ولم تكن محدَّدة، وإنما فُرضت وحُددت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
ثم بين الله ما للمؤمنين عنده تعالى حتى يظهر الفرقُ بين المحسن والمسيء فقال :
﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾
جزاؤهم دائم غير مقطوعٍ بلا منٍّ ولا أذى عند رب غفور رحيم.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وأنتم مع هذا تجعلون له شركاء أمثالاً له ! ﴿ ذَلِكَ رَبُّ العالمين ﴾.
أقواتها : أقواتَ أهلها.
سواء : كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة.
وجعل في الأرض جبالاً ثابتة من فوقها لئلا تَميدَ بكم، وجعلَها مباركة كثيرة الخيرات، وقدر فيها أرزاقَ أهلِها حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في أربعة أيام متكاملة.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم والأيام، ففي سورة الحج ﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [ الحج : ٤٧ ]. وفي سورة السجدة الآية ٥ ﴿ يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ وفي سورة المعارج الآية ٤ ﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. ﴾ إن هذا اليوم الذي نعيش فيه ونعرفه مرتبطٌ بالأرض ودورانها حول نفسها، فإذا خرجنا من منطقة الأرض إلى الفضاء الواسع الفسيح اختلفت المقاييس، ولم يعدْ للزمن حدود، وإن سَنَتَنا ٣٦٥ يوما، بينما سنة عطارد وهو أقرب الكواكب إلى الشمس ٨٨ يوما فقط حسب دورته حول الشمس، وإن أبعد الكواكب وهو بلوتو تقدّر سنته بنحو ٢٥٠ سنة، لأنه يتم دورة واحدة بهذا الزمن، وهكذا فان الزمن نسبي. إن أيام الله هو يعلم مداها، ولا شك بأنها أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة.
قراءات :
قرأ يعقوب : سواءٍ بالجر. والباقون سواءً بالنصب.
دخان : مادة غازية أشبه بالدخان.
ثم توجهتْ إرادته تعالى إلى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن، وخلقَ السموات والأرض على وفق إرادته، فقال للسماء والأرض، ائتيا طائعين
أو مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما، قالتا : أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم.
أمرها : شأنها.
بمصابيح : بكواكب ونجوم كما نراها.
وحفظا : حفظناها حفظا من الآفات
والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره. فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه، وأوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات إلينا التي نعيش على أطرافها، وهي المعروفة بدرْب التبّانة، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة ألف مليون سنة ضوئية. وجعل لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء.
﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ الذي يمسك هذا الكون، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته.
فإن أعرضَ المشركون عن الإيمان، فقل لهم أيها الرسول : إنني أنذركم بعذابٍ شديد مثل ما حلّ بعادٍ وثمود،
إذ جاءتهم الرسُل من جميع النواحي ونصحوهم أن لا يعبدوا إلا الله، فردّوا عليهم بقولهم : لو أراد الله إرسالَ رسولٍ لأنزل إلينا ملائكة. ﴿ فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾
نحسات : نكدات مشؤومات.
أخزى : أذل.
وبعد ذلك يبين الله مصيرهم المشئوم فيقول :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً.... ﴾
ريحاً باردة تهلك بشدّة بردها، ولها صوتٌ مخيف، أرسلناها في أيام مشؤومة لنذيقَهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ خِزيا، يوم لا يستطيع أحد أن ينصرهم منه.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : نحْسات بإسكان الحاء. والباقون : نحِسات بكسر الحاء.
وأما ثمود فإننا بينّا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاختاروا الضلالة على الهدى، فأصابتْهم صاعقة أحرقتْهم وتركتهم في ذلٍ وهوان ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ من الذنوب والجحود.
اذكر لهم أيها الرسول، يومَ يُحشَر أعداءُ الله إلى النار، وهم يساقون تزجُرهم الملائكة.
قراءات :
قرأ نافع ويعقوب : ويوم نحشر بالنون، والباقون : يحشر بالياء.
وهذا الظنّ الفاسد الذي كان منكم في الدنيا أوقعَكم الآن فأهلككم ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين ﴾.
وإن يَستعتبوا : يطلبوا العتبى والرضا.
فما هم من المعتَبين : من المجابين إلى ما يطلبون.
فإن يصبروا على ما هم عليه فالنارُ مأواهم، وإن يطلبوا رضا الله عليهم فما هم بِمُجابين إلى طلبهم، وهذا مثلُ قوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ].
قرناء : جمع قرين وهم الأصحاب والإخوان من غواة الجن والإنس.
لا يزال الحديث عن المشركين الجاحدين، ويبين هنا أن السبب في غوايتهم هم قرناءُ السوء الذين زيّنوا لهم الكفر والضلال، وأغروهم بأنه لا بعثٌ ولا حساب، وحقَّ عليهم العذاب مع أممٍ قد خلتْ من قبلهم من الجن والإنس ممن كانوا على شاكلتهم، وأن هؤلاء جميعاً، ﴿ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾.
ثم بين الله كيف كان مشركو قريش يكذّبون بالقرآن وكيف يستقبلونه باللغو والتشويش.
﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾
كانوا يوصون بعضهم بأن لا يصغوا إلى القرآن، وأن يشوّشوا بأصواتهم رجاءَ أن يكونوا هم الغالبين.
جزاء فعلِهم السيّء وإعراضِهم وشغبهم.
هذه الآية الكريمة والتي بعدها دستورٌ عظيم في الأخلاق، وحسن المعاشرة، وكيفية الدعوة إلى الله والتحلّي بالصبر والأناة، ولو أننا اتبعناها حقا، ولو أن وعّاظنا وأئمة مساجدنا تحلَّوا بها وساروا على هديها - لنفع الله بهم الناس، وهدى الكثيرَ الكثير منهم على أيديهم، ولاستقامت الأمور، وارتقت أحوالنا، هدانا الله إلى التحلّي بكل مكرمة.
إن الذين قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته، ثم استقاموا في أعمالهم - أولئك تحفّهم الملائكة، وتبشّرهم بالفلاح والفوز بالجنة التي وعدَهم بها الله،
ما تدعون : ما تطلبون.
وهو يقول لهم : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة والتكريم، ولكم في الجنة ما تشتهي أنفسكم وكلّ ﴿ مَا تَدَّعُونَ ﴾ أي ما تطلبون من الطيِّبات
ضيافةً لكم من الله الغفور الرحيم.
وليّ حميم : صديق عزيز.
وبعد ذلك أعقب بالدعوة إلى حسن المعاملة بين الناس فقال :
﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ﴾
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة، ادفعْ أيها المؤمن الإساءة إن جاءتك بالقول الحسن والّلِين، فإذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما، وناصرا مخلصا.
إلا ذو حظ عظيم : إلا ذو نصيب وافر من الخير.
وما يتحلى بهذه الأخلاق العالية إلا الصابرون ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ وما يُرزقها إلا ذو نصيب عظيم من خِصال الخير والكمال.
فاستعذ بالله : التجئ إليه.
وإن يصبْك من الشيطان وسوسةٌ فاستعذْ بالله، إن علمه محيطٌ بكل شيء.
فإن استكبر هؤلاء المشركون الذي يعبدون غير الله عن السجود، فإن الله لا يعبأ بهم، فعنده الملائكة يسبّحون له بالليل والنهار، لا يملّون من ذلك ولا يسأمون.
اهتزت : تحركت.
وربتْ : زادت.
ثم بين بعد ذلك بآية أرضية تراها العين في كل حين، وهي حال الأرض : هامدة يابسة لا نبات فيها، تنتعش وتهتزُّ بعد أن ينزل المطر.. والذي أحياها هذه الحياة قادر على أن يحيي الموتى، ﴿ إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
إن الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ :
﴿ أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة ؟ ﴾ إنهم لا يستوون. وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله ﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
حميد : محمود.
لا يأتيه الباطل أبداً من أي ناحية من نواحيه، فهو ﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، حكيمٍ بتدبير شئون عباده، محمود على ما أسدى إليهم من النعم التي لا تحصى.
ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي : هلا نزل القرآن بلغة العَجَم ؟ هذا مع أنه لو نزل بلغة أعجمية لأنكروا ذلك أيضا، وقالوا ما لنا ولهذا ؟
ثم قال لرسوله الكريم قل لهم : إن هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين، أما الذين كفروا ولم يؤمنوا به، فكأنهم صمّ، وهو عليهم عَمًى فلا يبصرون حُججه ومحاسنه.
ثم مثّل حالهم، باعتبار عدم فهمهم له، بحال من ينادَى من مكان بعيد فهو لا يسمع من يناديه :﴿ أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾.
قال أهل اللغة : تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك : أنت تنادَى من مكان بعيد، وللفهيم ثاقب الرأي : إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب.
قراءات :
قرأ قالون وأبو عمرو : آاعجمي بمد الهمزة الأولى وتسهيل الثانية. وقرأ حفص وابن كثير وابن ذكوان : أأعجمي بهمزتين بغير مد. وقرأ هشام : أعجمي على الإخبار.
﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾.
وهذا بيان واضح للناس، والله قد أعذر ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ].
اللهم وفقنا للعمل الصالح واختم لنا بخير، واسترنا يا رب العالمين.
أكمامها : جمع كِمّ بكسر الكاف، برعوم الثمرة ووعاؤها، وكذلك الكُم بضم الكاف : وعاء الثمر والزهر.
آذنّاك : أعلمناك.
ما منا من شهيد : ليس منا من يشهد لك شركاء.
بعد تلك الجولة مع المشركين، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم، يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل إلى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده، فذاك لا يعلمه إلا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله، فلا يعلم أحد متى تخرجُ الثمر من أكمامها، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر سبحانه أنه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِي ﴾ الذين كنتم تعبدونهم من دوني ؟ فيكون جوابهم :﴿ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴾ إننا نُعلمك يا الله أنه ليس منا الآن من يشهد أن لك شركاء.
قراءات :
قرأ نافع وحفص وابن عامر من ثمرات بالجمع. والباقون : من ثمرة بالإفراد.
وغاب الشركاء السابقون عنهم فلا يرجون منهم نفعا، وأيقنوا أنه لا مهرب لهم من العذاب.
من دعاء الخير : من طلب المال، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها.
الشر : الفقر والمرض وكل سوء.
والقنوط : بضم القاف، ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار.
ثم بين الله تعالى أن الإنسان متبدّل الأحوال، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة وأقبلت عليه الدنيا، تكبّر وصعَّر خدّه، وإن أصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج.
والضرّاء : ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما.
هذا لي : هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل.
الحسنى : الكرامة.
عذاب غليظ : كثير وكبير.
وإذا أنعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول :﴿ هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾.
كل هذا من الغرور والضلال. ولكن الله تعالى يبين لهم أن تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم إذ يقول :﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ وهو عذاب جهنم خالدين فيها أبدا.
عريض : كثير.
وإذا أنعمنا على الإنسان ورزقناه سعة العيش والصحة، أعرضَ عما دعوناه إليه وتكبّر واختال، وإذا مسّه الشّر وأصابته شدة من فقر أو مرض أطال الدعاء والتضرع إلى الله لعلّه يكشف عنه تلك الغُمة. وتقدم مثله في سورة يونس ١٢، وسورة هود ٩ و ١٠ وسورة الإسراء ٨٣.
في شقاق بعيد : في خلاف كبير.
قل لهم يا محمد : أخبِروني إن كان هذا القرآن الذي تكذّبون به من عند الله ثم كفرتم به، أفلا تكونون بعيدين عن الحق والصواب ؟.
سنري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء. فقد كشف العلم عن أمور كثيرة عن الأرض وما عليها، وعن النظام الشمسي وما فيه، وأن هذه الأرض وما حولها ما هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير، وأن كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي إلا ذرة من علم الله. ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ].
وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام ﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ﴾ وأن كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق.
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه.. ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانيته، وتنزيهه عن كل نقص ! !
﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ ﴾.
إنهم في شك عظيم من البعث والجزاء ولقاء ربهم، ولذلك كفروا، والله تعالى محيطٌ بكل صغير وكبير، لا يفوته شيء في هذا الكون الكبير، وإليه مردّ الجميع.