تفسير سورة فصّلت

مراح لبيد
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة السجدة
وتسمى سورة فصلت، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح. مكية، أربع وخمسون آية، سبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا
حم (١) أي هذا حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي جعلت آيات الكتاب تفاصيل في معادن مختلفة فبعضها: في ذات الله وصفاته، وفي عجائب أفعاله.
وبعضها: في أحوال التكاليف. وبعضها: في الوعد والوعيد، ودرجات أهل الجنة، ودركات أهل النار. وبعضها: في المواعظ والنصائح. وبعضها: في تهذيب الأخلاق. وبعضها: في قصص الأولين. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الاختصاص والمدح، أو على الحالية من «كتاب»، أو من «آياته». لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) أي كائنا لقوم عرب ف «اللام» متعلقة بمحذوف صفة ثانية ل «قرآنا» بَشِيراً للمطيعين بالثواب وَنَذِيراً للمجرمين بالعقاب.
وقرأ زيد بن علي برفع الاسمين فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبر هذا الكتاب مع كونهم بلغتهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) سماع طاعة ولا يلتفتون إليه، فكون الكتاب نازلا من عند الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع، وأجل المطالب، وكونه قرآنا عربيا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه بشيرا ونذيرا يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات وإعراضهم عنه يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من من أضله الله. وَقالُوا أي كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن-: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، أي ستر غليظ يمنعنا عن مواصلتنا إياك فَاعْمَلْ، أي استمر على دينك وهو التوحيد، إِنَّنا عامِلُونَ (٥) أي مستمرون على ديننا وهو الإشراك قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ، أي قل يا أشرف الخلق: إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلّا بمجرد أن الله تعالى أوحى إلي دونكم، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم، فإن شرفكم الله قبلتموه، وإن خذلكم رددتموه. وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي، وذلك الوحي يرجع
357
إلى أمرين: العلم والعمل. فالعلم رئيسه معرفة أن الله واحد، وهو المراد من قوله تعالى: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإذا كان الحق ذلك التوحيد وجب علينا أن نعترف به. وهو المراد من قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي استقيموا في أفعالكم متوجهين إلى الإله الواحد، ثم أمر الله تعالى بوظيفة العمل ورئيسه الاستغفار، فلهذا السبب قال: وَاسْتَغْفِرُوهُ لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل المأتي به، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) فالله تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة: الشرك، والامتناع من الزكاة، وإنكار القيامة. فإن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله، وأفضل أبوابه الإقرار بكون الله واحدا، وإذا كان التوحيد أعظم الطاعات كان الشرك أخسها، لأنه ضد التوحيد، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق الله. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله: أي لا يقولون لا إله إلّا الله فإنها زكاة الأنفس. والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم: لا إله إلا الله. وقال الحسن وقتادة: أي لا يعتقدون إعطاء الزكاة واجبا. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) أي غير مقطوع. قيل: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملونه.
ويقال يكتب ثواب أعمالهم بعد الهرم أو الموت إلى يوم القيامة غير منقوض. وقيل: لا يمنون بذلك الأجر. قُلْ يا أشرف الخلق: أَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي لتكفرون بالعظيم الشأن الذي حكم بأن الأرض ستوجد في مقدار يومين، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً. أي نظراء والحال أنه لا يمكن له نظير واحد، أي أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية! ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) أي ذلك العظيم الشأن الذي علمت من صفته أنه خالق جميع الموجودات فكيف أثبتم له أنداد من الخشب والحجر؟! وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وهو عطف على «خلق الأرض»، أي وخلق في الأرض جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها، أي كائنة من فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه وليتفكر أن الجبال أثقال، على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك، وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلّا الله تعالى، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، وَبارَكَ فِيها أي الأرض بشق الأنهار، وخلق الأشجار والثمار، وأصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بأن يوجد لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. وقرئ «وقسم فيها أقواتها». فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين الذين خلق فيهما الأرض سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠).
358
قرئ «سواء» بالحركات الثلاثة: النصب: على مصدر مؤكد لمضمر، هو صفة لأربعة:
أي استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص. والجر: على الوصف، أي مساويات غير مختلفة في المقادير. والرفع: على تقدير هي سواء، ولمن قرأه بالرفع أن يقف على أربعة أيام. وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ إما متعلق ب «سواء» أي مستويات لمن سأل الرزق، ولمن لم يسأل، أو متعلق بقدر- كما قاله الزجاج- أي وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام، لأجل الطالبين للأقوات المحتاجين إليها، أو متعلق بمحذوف والتقدير: هذا الحصر بيان للسائلين عن مدة خلق الأرض، وما فيها. في كم يوم خلقت الأرض وما فيها
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي ثم قصد إلى خلق السماء، أي ثم دعاه داعي الحكمة إلى خالق السماء بعد خلق الأرض، وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك، وَهِيَ دُخانٌ أي أمر ظلماني، أو دخان مرتفع من الماء. فَقالَ لَها- أي للسماء- وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلى الوجود والحصول أي كوننا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما. وهذا عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعتين أو كارهتين، أي شئتما ذلك أو أبيتما. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) أي أتينا أمرك منقادين لا على الكره. وهذا تمثيل لكمال تأثرهما بالذات العلية عن القدرة الربانية.
وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا قالتا آتينا». بالمد في الفعلين، أي وافقا على مرادي منكما. قالتا: توافقنا على ذلك أو أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما. قالتا: أعطينا الطاعة. ويقال: إن الله تعالى قال للسماء والأرض بعد ما فرغ منهما: أعطيا ما فيكما أو جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. أي قال لهما: افعلا ما أمرتكما طوعا وإلّا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، أي أتم السماء حال كونها سبع سموات في يومين. ذكر أهل الأثر أن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين. وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وأن الذي خلق أولا هو الدخان الذي هو أصل السماء، ثم بعده الأرض، غير مدحوة، ثم خلقت السماء مبسوطة متفاصلة طباقا بعضها فوق بعض، ثم دحيت الأرض، وخلق ما فيها من الأرزاق وغيرها. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها.
قال مقاتل: أمر في كل سماء بما أراد. وقال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: خلق في كل سماء ما فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ويقال: ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون، ومنهم سجود لا يرفعون، وذلك الأمر مختص بأهل السماء. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- وهي
359
النبرات التي خلقها في السموات وخصّ كل واحد بضوء معين، وطبيعة معينة، وسر معين، لا يعلمها إلّا الله تعالى- وَحِفْظاً أي وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع.
وقيل: إن «حفظا» مفعول له على المعنى كأنه قيل: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا، فبعض النجوم زينة السماء لا يتحرك وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وبعضها رجوم للشياطين.
ذلِكَ أي هذه التفاصيل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) لأنها لا تمكن إلّا بقدرة كاملة وعلم محيط، فَإِنْ أَعْرَضُوا عن قبول هذه الحجة القاهرة وأصروا على التقليد، فَقُلْ لهم:
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً
أي خوفتكم عذابا هائلا، كأنه نار معها رعد شديد مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣).
وقرأ ابن الزبير، والنخعي، والسلمي، وابن محيصن: «صعقة» مثل صعقة عاد وثمود، وهي المرة من صيحة العذاب.
روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة، وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي، فأتاه، فقال: يا محمد أنت خيرا أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا اللواء، فكنت رئيسنا وإن كنت أردت الباه زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ عتبة قال صلّى الله عليه وسلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلى قوله تعالى:
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ»
فأمسك عتبة على فيه صلّى الله عليه وسلّم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب عتبة، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر، ولا كهانة،
ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب، وإنما خص هاتين القبيلتين، لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من صاعقة عاد، أو ظرف منها منصوب بها، لأنها بمعنى عذاب، فالمعنى صعقة عاد وثمود وقت مجيء رسلهم إليهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي أتوهم من جميع جوانبهم، وأتوهم بجميع وجوه الحيل، فلم يروا منهم إلّا الأعراض، أي جاءتهم الرسل من قبلهم، ومن بعدهم، أي جاءهم هود وصالح داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» مفسرة بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا أي بأن الحديث قولهم لهم لا تعبدوا إلّا الله، «أو» مصدرية، والجملة بعدها صلتها وصلت بالنهي، كما توصل بالأمر، أي جاءوهم بكونهم نهوهم
360
عن الشرك، ويجوز «أن» تكون أن نافية على هذا الوجه أي جاءوهم بأمرهم بالتوحيد ونفي الشرك. قالُوا أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: لَوْ شاءَ رَبُّنا أي إرسال الرسل إلى البشر، لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم بطريق الإنزال فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) أي فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وقوله تعالى بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ حكاية لكلامهم على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فأما قوم هود فتعظموا في الأرض على أهلها بغير استحقاق للتعظيم. وَقالُوا لهود لما هددهم بالعذاب: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا ذلك لأن أطولهم كما قال ابن عباس كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي قدرة يقدر على إهلاكهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) أي إنهم كانوا يعرفون أن الآيات المنزلة على الرسل حق، ولكنهم أنكروها كما ينكر المودع الوديعة، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردا شديدا، يحرق ببرده كما تحرق النار بحرها، أو ريحا يصوت في هبوبه.
وعن ابن عباس: أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي والمراد. أنه مع قلته أهلك الكل وذلك دليل على كمال قدرته تعالى فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي مشؤومات. روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء. قال ابن عباس: وما عذب قوم إلّا في يوم الأربعاء.
وقرأ نافع ابن كثير وأبو عمرو «نحسات» بسكون الحاء. والباقون بكسرها لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل إليهم. وقرئ «لتذيقهم» بالتاء على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي أشد إهانة مما كان لهم في الدنيا وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) بدفع العذاب عنهم، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى، أي وأما قوم صالح فبيّنا لهم طريق الخير والشر، فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
وقرأ الجمهور برفع «ثمود» ممنوعا من الصرف. وقرئ بالنصب بفعل يفسره ما بعده، وقرأه الأعمش وابن وثاب منونا في الحالين والرفع أفصح لوقوع ثمود بعد حرف الابتداء. وقرئ «ثمود» بضم الثاء، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي داهية العذاب الذي يهينهم بشدته، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) من اختيار الضلالة، وهي شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا من الفريقين وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) الأعمال التي أتى بها قوم عاد وثمود، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، أي واذكر يا أشرف الخلق لقريش المعاندين لك حال الكفار في القيامة يوم يجمع بكره الكفار الأولون والآخرون إلى موقف الحساب والتعبير عنه بالنار الإعلام
361
بأنها آخر حشرهم، أو لأن حسابهم يكون على شفيرها ويحشر بالبناء للمفعول وأعداء بالرفع على قراءة الجمهور.
وقرأ نافع «نحشر» بنون العظمة وضم الشين ونصب أعداء. وقرئ «ويحشر» بالبناء للفاعل ونصب أعداء. وقرئ بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين، فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي حتى إذا حضروا موقف الحساب، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) في الدنيا من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وقال ابن عباس: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج.
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ أي لأعضائهم أو لفروجهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وكنا نحابس عنكم بالجدال.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول من يتكلم من الآدمي فخده وكفه»
. اه. وذلك لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر إنما تحصل بالفخذ قالُوا أي الجلود: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)، أي أنطقنا الله الذي أنطق كل ناطق، وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح، وما كتمناها، فإن القادر على إنشائكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال ما كنتم في الدنيا وعلى إعادتكم بعد الموت أحياء قادر على إنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة فكيف يستبعد منه إنطاق الأعضاء؟ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)، أي وما كنتم تستترون بنحو الحيطان في الدنيا عند الإقدام على الأفعال القبيحة مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنكم غير عالمين بشهادتهم عليكم، ولأنكم منكرون للبعث والجزاء، ولكن استتاركم لأجل أنكم ظننتم أن الله لا يعلم الأعمال التي أقدمتم عليها من القبائح المخيفة فلا يظهرها في الآخرة، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فاسم الإشارة مبتدأ «وظنكم» خبر، والموصول نعت أو بدل و «أرداكم» حال، أي ذلكم الظن المذكور ظنكم الذي ظننتم بربكم مهلكا إياكم، ويجوز أن يكون ظنكم والموصول وجملة «أرداكم» إخبارا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)، أي فصرتم بسبب ذلك الظن المردي من الهالكين بالعقوبة.
قال أهل التحقيق: الظن قسمان: حسن، وفاسد.
فالظن الحسن: أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان
قال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي»
. والظن الفاسد: أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة:
الظن نوعان: ظن منج، وظن مرد. فالمنجي: هو المحكي بقوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠] والمردي هو المحكي بقوله تعالى: ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لأجل فرج ينتظرونه لم
362
يجدوا ذلك الفرج وتكون النار محل إقامة أبدية لهم، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) أي وإن طلبوا الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه لم يعطوه ولم يجابوا إليه.
وقرئ و «إن يستعتبوا» بصيغة المفعول، «فما هم من المعتبين» بصيغة اسم الفاعل، أي وإن يطلبوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، إذ لا سبيل لهم إلى ذلك، وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي بعثنا لهم شركاء من الشياطين يلازمونهم، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي فزينوا لهم أمر الآخرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جنة، ولا نار، وأمر الدنيا بأنها قديمة باقية لا تفنى، ولا صانع إلّا الطبائع والأفلاك. ويقال: فزينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة، وما تبقى من أعمالهم الخسيسة، وهو ما يزعمون أنهم يعملونه. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) أي وثبت عليهم كلمة العذاب حال كونهم كائنين في جملة أم من المتقدمين من الجن والإنس، لأنهم كانوا هالكين بالعقوبة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفار مكة أبو جهل وأصحابه عند قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ لأنه مقلب القلوب، وكل من استمع له صبا إليه، وَالْغَوْا فِيهِ أي تشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة، والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارئ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) أي لكي تغلبوا محمدا على قراءته فيسكت، فهددهم الله بالعذاب الشديد بقوله: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالحرمان وفنون الهوان، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) أي سيئات أعمالهم بحسب تفاوت السيئات في الإثم، ولا يجازيهم على محاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقري الأضياف، لأنها محبطة بالكفر، وفي هذا تهديد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ، ويخلط عليه القراءة، وتعريض بمن لا يكون عند كلام الله خاضعا خاشعا. ذلِكَ أي جزاء أقبح أعمالهم جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ أي جزاء معد لهم النَّارُ عطف بيان لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي لهم في دركات النار دار معينة، وهي دار العذاب المخلد لهم، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) و «جزاء» منصوب ب «جزاء»، فإن المصدر ينصب بمثله أي بسبب ما كانوا يلغون في قراءة آياتنا وإنما سمي اللغو جحودا، لأنهم علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به.
فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون في عذاب النار: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا عن الحق مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي الشياطين ورؤساء الإنس. وقال علي بن أبي طالب: أي من إبليس وقابيل، لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل.
وقرأ ابن كثير والسوسي، وابن عامر، وشعبة بسكون الراء من «أرنا»، أي أعطناهما، واختلس الدوري كسر الراء، وشدد ابن كثير النون من الذين نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا، أي ندوسهما ليكونا وقاية بيننا وبين النار، فتخف عنا حرارتها نوع خفة، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) أي ليكونا ممن هو أذل منا مكانا، وأشد منا عذابا كما جعلانا في الدنيا تحت أمرهما، إِنَّ
363
الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ قولا مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية، ثُمَّ اسْتَقامُوا أي ثبتوا على الأعمال الصالحة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت في القبر وعند البعث بالبشرى: أَلَّا تَخافُوا و «أن» مفسرة، أو مخففة من الثقيلة، و «لا» ناهية، أي بأنه لا تخافوا على ما أمامكم، أو مصدرية و «لا» إما ناهية، أو نافية. وقرئ «لا تخافوا» على أنه حال من الملائكة، أي يقولون: لا تخافوا وَلا تَحْزَنُوا على ما تركتم من خلفكم، فالله تعالى أخبر أن الملائكة يخبرون في أول الأمر بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا فإن المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا، ولهذا قال الشاعر:
فلا زال ما نهواه أقرب من غد ولا زال ما نخشاه أبعد من أمس
وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ من ذلك الإخبار، يبشرون بحصول المنافع، لأن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة. وذلك قوله تعالى: وَأَبْشِرُوا أي املئوا صدوركم سرورا، بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) في الدنيا على ألسنة الرسل،
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أي نحن أقرباء الأقرباء إليكم فنوقظكم من المنام، ونحملكم على الصلاة والصيام، ونبعدكم عن الآثام في الحياة الدنيا، وندفع عنكم المضرات، ونجلب لكم المسرات في الآخرة بالشفاعة حيث يتعادى الكفرة وقرناؤهم، وَلَكُمْ فِيها
أي الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذائذ، لأنكم منعتموها في الدنيا من الشهوات، وَلَكُمْ فِيها
أي الآخرة ما تَدَّعُونَ
(٣١) أي تطلبون، نُزُلًا حال من «ما تدعون»، أي حال كون هذا رزقا مهيأ كما يهيأ للضيف مستقرا لكم مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢).
قال العارفون: هذه الآية تدل على أن هذه الأشياء جارية مجرى المهيأ للضيف، والكريم جل وعلا إذا أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها، وتلك الخلع ليست إلا السعادات الحاصلة عند رؤيته تعالى، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي لا أحد أحسن من جهة القول ممن دعا إلى الطاعة الله وَعَمِلَ صالِحاً، أي والحال أنه قد عمل صالحا في نفسه، وللدعوة إلى الله مراتب:
الأولى: دعوة الأنبياء بالمعجزات وبالحجج وبالسيف.
والثانية: دعوة العلماء إلى الله تعالى بالبراهين، فهم نواب الأنبياء في العلم، أما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة.
الثالثة: دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف.
الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم دعاة إلى طاعة الله تعالى. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) أي ابتهاجا بأنه منهم فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة:
364
الأولى: الإقرار باللسان، وهو الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية.
والثانية: الأعمال الصالحة بالجوارح.
والثالثة: الاعتقاد الحق بالقلب وهاتان داخلتان في قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً.
والرابعة: الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله تعالى والموصوف بهذه الخصال الأربعة أفضل الناس وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ ابن أبي عبلة «إني» بنون واحدة. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي لا تستوي الدعوة إلى دين الحق والصبر على جهالة الكفار، ولا قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، ولا تسمعوا لهذا القرآن. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع جهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤). و «إذا» التي هي للمفاجأة ظرف مكان لمعنى التشبيه والموصول مبتدأ، والجملة بعد خبره، و «إذا» معمولة لمعنى التشبيه، والظرف يتقدم على عامله المعنوي أي فالذي بينك وبينه عداوة مشبه في المحبة للصديق في الدين، القريب في النسب الذي لم تسبق منه عداوة إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، والمعنى: فإذا قابلت أفعال أعدائك القبيحة بالأفعال الحسنة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة. قيل:
نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وصار وليا مصافيا له صلّى الله عليه وسلّم: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي وما يعطى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلّا الذين شأنهم الصبر على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) أي وما يوفق على هذه الفعلة- أي التي هي دفع السيئة بالحسنة- إلّا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة أو من الخلق الحسن. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك ما أمرت به، بأن صرفك صارف عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستجر بالله من شره يدفعه عنك، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
لقولك وأفعالك. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وجود الله وقدرته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كل منها مخلوق له تعالى، مسخر لأمره تعالى، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي الأربعة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) أي إن كنتم تريدون بعبادة الشمس والقمر عبادة الله فلا تعبدوهما فإن عبادة الله في ترك عبادتهما فإن الذين يعبدونهما يقولون: نحن أذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى، ولكنا عبيد للشمس والقمر وهما عبدان لله. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر، فدعهم وشأنهم فإن لله عبادا يعبدونه من الملائكة، أي والله لا يعدم عابدا له أبدا بل يكون من خلقه من يعبده على
365
الدوام. وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) أي لا يملّون عن عبادة الله تعالى ولا يفترون وموضع السجود عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وهو قول ابن مسعود والحسن حكاه الرافعي عن أبي حنيفة، وأحمد لذكر السجود قبيله، وعند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة، لأن الكلام إنما يتم عنده، وعند الشافعي عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لكن قال الشربيني والصحيح عند الشافعي عند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ، وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته. أَنَّكَ أيها الإنسان تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي منكسرة ميتة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي انفتحت، ثم تصدعت عن النبات.
وقرئ «ربأت» أي ارتفعت، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى أي إن القادر على احياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) أي أنه تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والحياة والقدرة والعقل إلى تلك الأجزاء المتفرقة، إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الحق في أدلتنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا في وقت من الأوقات. وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي الذين يميلون عن الاستقامة في آياتنا بالطعن والتأويل الباطل، فيلقون في النار خير أم الذين يؤمنون بآيتنا فيأتون آمنين من العذاب يوم القيامة؟ اعْمَلُوا يا أهل مكة ما شِئْتُمْ من الأعمال المؤدية إلى الإلقاء في النار والإتيان آمنا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) فيجازيكم بحسب أعمالكم- وفي ذلك تهديد-
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ لهم في الآخرة نار جهنم أو يجازون بكفرهم، وَإِنَّهُ أي القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) أي غالب عديم النظير، لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، ولأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي لا تكذبه الكتب المتقدمة عليه كالتوراة والإنجيل والزبور، وسائر الكتب. ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أمره حَمِيدٍ (٤٢) في أفعاله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، أي ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين، وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) للمبطلين، ففوض هذا الأمر إلى الله تعالى، واشتغل بما أمرت به- وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى- وَلَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الذكر قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا أي كفار مكة: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي لولا بيّنت آياته بلسان نفهمه؟ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي. والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا: قلوبنا في أكنة تدعونا إليه، أي من هذا الكلام. وفي آذاننا وقر منه لا نفهمه، ولا نحيط
366
بمعناه، ولما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها. وقرئ «أعجمي» على الأخيار بأن القرآن أعجمي، والمتكلم والمخاطب عربي، ويجوز أن يراد: هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب. قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً، لأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وَشِفاءٌ لأنه إذا أمكنهم الاهتداء فقد حصل لهم الهدى، فذلك الهدى شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، أي والذين لا يؤمنون هو حال كونه كائنا في آذانهم صمم ف «وقر» خبر للضمير المقدر، والجملة خبر الموصول، وفي آذانهم متعلق بمحذوف، وقع حالا من «وقر»، وَهُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى.
قرأ الجمهور على صيغة المصدر. وقرأ ابن عباس «عم» على صيغة النعت. أُولئِكَ الموصوفون بالصمم عن الحق والعمى عن الآيات الظاهرة يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)، أي هم مثل البهيمة التي لا تفهم إلا نداء. وقيل: هم كمن ينادون من مكان بعيد لم يسمعوا، وإن سمعوا لم يفهموا. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم، وهم أصحابك، ورده آخرون، وهم الذين يقولون: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا عدة سبقت بتأخير العذاب في حق أمتك المكذبة إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أي بين المكذبين والمصدقين بالعذاب الواقع بالمكذبين في الدنيا، وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، أي من كتابك مُرِيبٍ (٤٥)، أي موقع في شك ظاهر فلا ينبغي أن يستعظم استيحاشك من قولهم: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، أي خفف يا أكرم الرسل على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) وهو يوصل إلى كل أحد ما يليق بعلمه من الجزاء في يوم القيامة، إِلَيْهِ أي إلى ربك يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلّا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلّا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله تعالى، ثم ذكر الله تعالى من أمثلة هذا الباب مثالين بقوله: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي أوعيتها، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إلا ملابسا بعلمه المحيط، أما أصحاب الكشف فهو من إلهام الله تعالى، وأما أصحاب علم الرمل وعلم التعبير فلا يمكنهم الجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف، وما نافية، ومن في ثمرات، وفي أنثى زائدة للاستغراق.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «من ثمرات» بالجمع. والباقون «من ثمرة» بالإفراد. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يوم ينادي الله المشركين أَيْنَ شُرَكائِي بحسب اعتقادكم؟
367
قالُوا أي يقولون متبرئين من إثبات الشريك لله تعالى: آذَنَّاكَ أي أخبرناك وأسمعناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) أي ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وظهر لهم عدم نفعها حالتئذ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)، أي أيقنوا أنه ليس لهم مهرب من النار لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، أي من طلب السعة في أسباب المعيشة، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) أي أصابته ضيقة فهو مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله، ومن رحمته حتى تظهر آثاره في الأحوال الظاهرة. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ أي الإنسان رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة أصابته، لَيَقُولَنَّ هذا لِي، أي هذه الخيرات إنما حصلت لي بسبب استحقاقي لما حصل عندي من الفضائل وأعمال القربة من الله، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي أن الإنسان يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: وما أظن الساعة تقوم.
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ أي في الآخرة لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة وقوله: إِنَّ لِي إلخ جواب القسم لسبقه الشرط، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي فلنظهرن لهم أن الأمر على عكس ما تصوروه، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) أي شديد
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَنَأى بِجانِبِهِ، أي تباعد عن الشكر بكليته تعظما، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه فقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)، أي أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في التضرع قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) أي قل لهم يا أشرف الخلق: أخبروني إن كان هذا القرآن من الله، ثم كفرتم به من أضل منكم، فإن حالكم في معاداة شديدة مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه، وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي سنرى أهل مكة علامات وحدانيتنا وقدرتنا في أطراف الأرض من خراب مساكن الأمم الماضية، كعاد وثمود، وسنريهم ذلك في أنفسهم من الأمراض والمصائب وغير ذلك. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُ
أي أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الله، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) و «بربك» فاعل، والباء مزيدة، و «أنه» بدل منه، أي أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، ولم يغنهم أخباره للأمم الماضية أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي إن أهل مكة في شك عظيم من البعث والقيامة، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤) أي إن الله عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
Icon