ﰡ
[تفسير سورة فصلت]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فُصِّلَتْ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَهِيَ أربع وخمسون، وقيل: ثلاث وخمسون آية.[سورة فصلت (٤١): الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الزَّجَّاجُ:" تَنْزِيلٌ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ" وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:" كِتَابٌ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:" تَنْزِيلٌ". وَقِيلَ: نَعْتٌ لِقَوْلِهِ:" تَنْزِيلٌ". وَقِيلَ:" حم" أَيْ هَذِهِ" حم" كما تقول با ب كَذَا، أَيْ هُوَ بَابُ كَذَا فَ" حم" خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ أَيْ هُوَ" حم"، وَقَوْلُهُ:" تَنْزِيلٌ" مبتدأ آخر، وقوله:" كِتابٌ" خبر." فُصِّلَتْ آياتُهُ" أَيْ بُيِّنَتْ وَفُسِّرَتْ. قَالَ قَتَادَةُ: بِبَيَانِ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. الحسن: بالوعد والوعيد. سفيان: بالثواب والعقاب. وقرى" فُصِّلَتْ" أَيْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ فُصِلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا، مِنْ قَوْلِكَ فُصِلَ أَيْ تَبَاعَدَ مِنَ الْبَلَدِ." قُرْآناً عَرَبِيًّا" فِي نَصْبِهِ وُجُوهٌ، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ اذْكُرْ" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: عَلَى إِعَادَةِ الْفِعْلِ، أَيْ فَصَّلْنَا" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ أَيْ" فُصِّلَتْ آياتُهُ" فِي حَالِ كَوْنِهِ" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: لَمَّا شُغِلَ" فُصِّلَتْ" بِالْآيَاتِ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ انْتَصَبَ." قُرْآناً" لِوُقُوعِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ." لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ إِنَّ
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٦ الى ٨]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" أَيْ لَسْتُ بِمَلَكٍ بَلْ أَنَا مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَاضُعَ." يُوحى إِلَيَّ" أَيْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ" أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ"" فَ" آمِنُوا بِهِ وَ" فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ" أَيْ وَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالْمَسْأَلَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَقِمْ إِلَى مَنْزِلِكَ، أي لا تعرج على شي غَيْرَ الْقَصْدِ إِلَى مَنْزِلِكَ." وَاسْتَغْفِرُوهُ" أَيْ مِنْ شِرْكِكُمْ." وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ" قال ابن عباس: لَا يَشْهَدُونَ" أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" وَهِيَ زَكَاةُ الْأَنْفُسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِالزَّكَاةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ. قَرَّعَهُمْ بِالشُّحِّ الَّذِي يَأْنَفُ مِنْهُ الْفُضَلَاءُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أن الكافر يعذب بكفر مَعَ مَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ، وَيَسْقُونَ الْحَجِيجَ وَيُطْعِمُونَهُمْ، فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ." وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ" فَلِهَذَا لَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَلَا يَسْتَقِيمُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ.
إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ | - عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ «٣» |
فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْعِ وَالْوَقْ | - عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ |
فَضْلُ الْجِيَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا | - يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا «٤» |
غبس كواسب لا يمن طعامها «٥»
(٢). اللمظة في اللغة: النكتة من بياض أو سواد، والمراد بها هنا الشيء اليسير من حطام الدنيا.
(٣). ويروى: ولا زادي بممنون.
(٤). البيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان.
(٥). صدر البيت:
لمعفر قهد تنازع شلوه
وقد وقع هذا البيت غلطا في بعض نسخ الجوهري فراجع تحقيقه في اللسان مادة" من."
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" أَإِنَّكُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ الثَّانِيَةُ بين بين و" أَإِنَّكُمْ" بِأَلِفٍ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. أَمَرَهُ بِتَوْبِيخِهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ فِعْلِهِمْ، أَيْ لِمَ تكفرون بالله وهو خالق السموات وَالْأَرْضِ؟! " فِي يَوْمَيْنِ" الْأَحَدُ وَالِاثْنَيْنِ." وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً" أَيْ أَضْدَادًا وَشُرَكَاءَ" ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ."" وَجَعَلَ فِيها" أَيْ فِي الْأَرْضِ" رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها" يَعْنِي الْجِبَالَ. وَقَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ مَادَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَقَالَ لِجِبْرِيلَ ثَبِّتْهَا يَا جِبْرِيلُ. فَنَزَلَ فَأَمْسَكَهَا فَغَلَبَتْهُ الرِّيَاحُ، قَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعْلَمُ لَقَدْ غُلِبْتُ فِيهَا فَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ وَأَرْسَاهَا" وَبارَكَ فِيها" بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَنْبَتَ فِيهَا شَجَرَهَا." وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها" قَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ: أَرْزَاقُ أَهْلِهَا وَمَصَالِحُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: خَلَقَ فِيهَا أَنْهَارَهَا وَأَشْجَارَهَا وَدَوَابَّهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى" قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها" أَيْ أَرْزَاقُ أَهْلِهَا وَمَا يَصْلُحُ لِمَعَايِشِهِمْ مِنَ
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي | - مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتُ بَطْنِي |
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | - دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ |
(٢). راجع ج ٧ ص ٢١٩ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٨٤ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٣ الى ١٦]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ أَعْرَضُوا" يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْإِيمَانِ." فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ" أَيْ خَوَّفْتُكُمْ هَلَاكًا مِثْلَ هَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ." إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ" يَعْنِي مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" مَوْضِعُ" أَنْ" نُصِبَ بإسقاط الخافض أي ب" أَلَّا تَعْبُدُوا"" و" قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً" بَدَلَ الرُّسُلِ" فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. قِيلَ: هَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: اقرا بإرسالهم ثم بعده جحود وعناد.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٥٥ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
الْمُطْعِمُونَ إِذَا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ | - وَالْحَامِلُونَ إِذَا اسْتُودُوا عَلَى النَّاسِ |
كَمَا قال:
لها عذر كقرون النسا | - ء رُكِّبْنَ فِي يَوْمِ رِيحٍ وَصِرْ |
(٢). الزيادة من اللسان عن ابن السكيت لأن هذا الكلام له.
(٣). هو امرؤ القيس يصف فرسه.
قَدِ اغْتَدَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ | - لِلصَّيْدِ فِي يَوْمٍ قَلِيلِ النَّحْسِ |
أَبْلِغْ جُذَامًا وَلَخْمًا أَنَّ إِخْوَتَهُمْ | طَيًّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ |
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٧ الى ١٨]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ" أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا" وَأَمَّا ثَمُودَ" بِالنَّصْبِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي [الْأَعْرَافِ «١»]." فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى " أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى الْبَيَانِ. السُّدِّيُّ: اخْتَارُوا الْمَعْصِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ." فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ"" الْهُونِ" بِالضَّمِّ الْهَوَانُ. وَهَوْنُ بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مُضَرَ أَخُو كِنَانَةَ وَأَسَدٍ. وَأَهَانَهُ: اسْتَخَفَّ بِهِ. وَالِاسْمُ الْهَوَانُ وَالْمُهَانَةُ. وَأُضِيفَ الصَّاعِقَةُ إِلَى الْعَذَابِ، لِأَنَّ الصَّاعِقَةَ اسْمٌ لِلْمُبِيدِ الْمُهْلِكِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ مُهْلِكُ الْعَذَابِ، أَيِ الْعَذَابُ الْمُهْلِكُ. وَالْهُونُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَمَعْنَاهُ الْإِهَانَةُ وَالْإِهَانَةِ عَذَابٌ، فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا وَصْفًا لِلْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَاعِقَةُ الْهُونِ. وَهُوَ كَقَوْلِكَ: عِنْدِي عِلْمُ الْيَقِينِ، وَعِنْدِي الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْهُونُ اسْمًا مِثْلَ الدُّونِ، يُقَالُ: عَذَابٌ هُونٌ أَيْ مُهِينٌ كَمَا قَالَ:" مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ". [سبأ: ١٤]. وقيل: أي صاعقة العذاب الْهُونِ." بِما كانُوا يَكْسِبُونَ" مِنْ تَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا وَعَقْرِهِمُ النَّاقَةَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ." وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا" يَعْنِي صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ بِهِ، أَيْ مَيَّزْنَاهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ، وَهَكَذَا يَا مُحَمَّدُ نَفْعَلُ بِمُؤْمِنِي قَوْمكَ وكفارهم.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٩ الى ٢١]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
المرء يسعى للسلا... - مه والسلامة حسبه «٢»
أو سالم مَنْ قَدْ تَثَنَّى... - جِلْدُهُ وَابْيَضَّ رَأْسُهْ
وَقَالَ: جِلْدُهُ كِنَايَةً عَنْ فَرْجِهِ." وَقالُوا" يَعْنِي الْكُفَّارَ" لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا" وَإِنَّمَا كُنَّا نُجَادِلُ عَنْكُمْ" قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ" لَمَّا خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ." وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" أَيْ رَكَّبَ الْحَيَاةَ فِيكُمْ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ نُطَفًا، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُنْطِقَ الْجُلُودَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ:" وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله فَضَحِكَ فَقَالَ:" هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ ربه يقول يا رب ألم تجزني مِنَ الظُّلْمِ قَالَ: يَقُولُ بَلَى قَالَ فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي قَالَ يَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ قَالَ فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يُقَالُ:" الْآنَ نَبْعَثُ شاهدنا
(٢). كذا في الأصول ولم نعثر على هذين البيتين.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجَوَارِحِ لَهُمْ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ: فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ" الْآيَةَ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: اخْتَصَمَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٌ. ثُمَّ ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ حَرْفًا حَرْفًا وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عمارة ابن عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فجاء ثلاثة
(٢). ليعذر من نفسه: على بناء الفاعل من الاعذار والمعنى ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه، ولشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر. (هامش مسلم).
الْعُمْرُ ينقص والذنوب تزيد | - تقال عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ |
هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ | رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ |
وَالْمَرْءُ يَسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي | تَقْلِيلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيدُ |
مَضَى أَمْسُكَ الْأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلًا | - وَيَوْمُكَ هَذَا بِالْفِعَالِ شَهِيدُ |
فَإِنْ تَكُ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً | - فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ |
وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْكَ إِلَى غَدٍ | - لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ |
فَإِنْ أَكُ مظلوما فعبد ظلمته | - إن تَكُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكُ يُعْتِبُ |
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ | فوكا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا |
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا رَبَّنَا اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ بناته وهؤلاء شفعاؤنا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَاسْتَقَامَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" قَالَ:" قَدْ قَالَ النَّاسُ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ ٢ قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَعْنَى" اسْتَقامُوا"، فَفِي صَحِيحِ مسلم
" أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بالبشارة" نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ"
قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الَّذِينَ كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا لَا نُفَارِقُكُمْ حَتَّى نُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ نَحْنُ الْحَفَظَةُ لِأَعْمَالِكُمْ في الدنيا وأولياؤكم فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوْلَاهُمْ." وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
" أَيْ مِنَ الْمَلَاذِ." وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
" تَسْأَلُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ." نُزُلًا" أَيْ رِزْقًا وَضِيَافَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [آلِ عِمْرَانَ «١»] وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ نُزُلًا. وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ نَازِلٍ، أَيْ لَكُمْ مَا تَدَّعُونَ نَازِلِينَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي" تَدَّعُونَ" أو من المجرور في" لكم".
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ | - وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ |
الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ- وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ- فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ.
وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا | - أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يُشْتَمُ |
وما شي أَحَبُّ إِلَى سَفِيهٍ | - إِذَا سَبَّ الْكَرِيمَ مِنَ الجواب |
متاركة السفيه بلا جواب | وأشد عَلَى السَّفِيهِ مِنَ السِّبَابِ |
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب | - إن كَثُرَتْ مِنْهُ لَدَيَّ الْجَرَائِمُ |
فَمَا النَّاسُ إِلَّا واحد من ثلاثة | - شريف ومشرف ومثل مقاوم |
(٢). الأبيات التالية معزوة ب كتاب" أدب الدنيا والدين" ص ٢٥٢ منبع وزارة المعارف الى الخليل بن أحمد
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ | - وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ |
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ | - إِجَابَتِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لائم |
وأما مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا | - تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْفَضْلَ بِالْحِلْمِ حَاكِمُ |
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمِنْ آياتِهِ" عَلَامَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ" اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" وَقَدْ مَضَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٢». ثُمَّ نَهَى عَنِ السُّجُودِ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا خَلْقَيْنِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِفَضِيلَةٍ لَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا فَيَسْتَحِقَّانِ بِهَا الْعِبَادَةَ مع الله. لان خالقهما هو الله
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩٢ وما بعدها طبعه ثانيه.
سميت تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ | - ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أبالك يَسْأَمُ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ | - نوى كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ «١» |
تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى | - إِذَا لَمْ تَجِدْ عِنْدَ امْرِئِ السَّوْءِ مَطْمَعَا |
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٣ طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٤٥ طبعه أولى أو ثانيه.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" أَيْ يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي أَدِلَّتِنَا. وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ. وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِأَنَّهُ أُمِيلَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ. يُقَالُ: أَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ أَيْ حَادَ عَنْهُ وَعَدَلَ. وَلَحَدَ لُغَةٌ فِيهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ قَالُوا:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ" وَهُمُ الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي آيَاتِهِ وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ فَقَالُوا: لَيْسَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ هُوَ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ، فَالْآيَاتُ آيَاتُ الْقُرْآنِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:" يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" أَيْ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَاللَّغْوِ وَالْغِنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَبْدِيلُ الْكَلَامِ وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" يَكْذِبُونَ فِي آيَاتِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ وَيُشَاقُّونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُشْرِكُونَ وَيَكْذِبُونَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ." أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ" عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ." خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ" قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مقاتل. وقيل: عمار ابن يَاسِرٍ. وَقِيلَ: حَمْزَةُ. وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ، فَالَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ الْكَافِرُ، وَالَّذِي يَأْتِي آمِنًا يوم القيامة المؤمن، قال ابْنُ بَحْرٍ." اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" أَمْرُ تَهْدِيدٍ، أَيْ بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ." إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" وَعِيدٌ بِتَهْدِيدٍ وَتَوَعُّدٌ.
[سورة فصلت (٤١): آية ٤٤]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا" أَيْ بِلُغَةِ غَيْرِ العرب" لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ" أَيْ بُيِّنَتْ بِلُغَتِنَا فَإِنَّنَا عَرَبٌ لا نفهم الاعجمية. فبين أمخ أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ مَعْنَى الْإِعْجَازِ، إِذْ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْوَاعِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ كَانَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ كَانَ بِلِسَانِ الْعَجَمِ لَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهَذَا اللِّسَانِ. الثَّانِيَةُ- وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَعْجَمِيًّا، وَأَنَّهُ إِذَا نُقِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا. الثالثة- قوله تعالى:" ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" ااعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَالْعَجَمِيُّ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ فَصِيحًا أَوْ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَالْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، فَالْأَعْجَمُ ضِدُّ الْفَصِيحِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُبِينُ كَلَامَهُ. وَيُقَالُ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ أَعْجَمُ، وَمِنْهُ" صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ" أَيْ لَا يجهر فيها بالقراء فَكَانَتِ النِّسْبَةُ إِلَى الْأَعْجَمِ آكَدَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الْعَجَمِيَّ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ يَكُونُ
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ" فَاخْتُلِفَ فِيهِ" أَيْ آمَنَ بِهِ قَوْمٌ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمٌ. وَالْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى الكتاب، وتسلية لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ اخْتِلَافُ قَوْمِكَ فِي كِتَابِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ. وَقِيلَ الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إلى موسى." وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ" أَيْ فِي إِمْهَالِهِمْ." لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ" أَيْ بِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ." وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ" مِنَ الْقُرْآنِ" مُرِيبٍ" أَيْ شَدِيدِ الرِّيبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَقَالَ الْكَلْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ عَذَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ كَمَا فُعِلَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: تَأْخِيرُ الْعَذَابِ لما يخرج من أصلابهم من المؤمنين. قوله تعالى:" مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ" وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها". وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ طَاعَةِ الْعِبَادِ، فَمَنْ أَطَاعَ فَالثَّوَابُ لَهُ، وَمَنْ أَسَاءَ فَالْعِقَابُ عَلَيْهِ." وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" نَفَى الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَزَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمُبَالَغَةُ انْتَفَى غَيْرُهَا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً" [يونس: ٤٤] وروى العدول الثقات،
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ" أَيْ حِينُ وَقْتِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَخَبِّرْنَا مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ فَنَزَلَتْ:" وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ أَيْ وَمَا تَخْرُجُ ثَمَرَةٌ." مِنْ أَكْمامِها" أَيْ مِنْ أَوْعِيَتِهَا، فَالْأَكْمَامُ أَوْعِيَةُ الثَّمَرَةِ، وَاحِدُهَا كُمَّةٌ وَهِيَ كُلُّ ظَرْفٍ لِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قِشْرُ الطَّلْعِ أَعْنِي كُفُرَّاهُ الَّذِي يَنْشَقُّ عَنِ الثَّمَرَةِ كُمَّةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُمَّةُ الْكُفُرَّى قَبْلَ أَنْ تَنْشَقَّ، فَإِذَا انْشَقَّتْ فَلَيْسَتْ بِكُمَّةٍ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ [الرَّحْمَنِ «١»]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ" مِنْ ثَمَراتٍ" عَلَى الْجَمْعِ. الْبَاقُونَ" ثَمَرَةٍ" عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ، لِقَوْلِهِ:" وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى " وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ، يَقُولُ:" إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ" كَمَا يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ." وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ" أَيْ يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ" أَيْنَ شُرَكائِي" الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا آلِهَةٌ تَشْفَعُ." قالُوا" يَعْنِي الْأَصْنَامَ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَهُمْ جَمِيعًا الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ" آذَنَّاكَ" أَسْمَعْنَاكَ وَأَعْلَمْنَاكَ. يُقَالُ: آذَنَ يؤذن: إذا أعلم، قال «٢»:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ | - رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثواء |
(٢). هو الحرث بن حلزة، والبيت مطلع معلقته.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٩ الى ٥١]
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ" أَيْ لَا يَمَلُّ مِنْ دُعَائِهِ بِالْخَيْرِ. وَالْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ والصحة والسلطان والعز. قال السدى: والإنسان ها هنا يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْمَالِ"." وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ" لا لفقر والمرض" فَيَؤُسٌ" مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" قَنُوطٌ" مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ:" يَئُوسٌ" مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ" قُنُوطٌ" بِسُوءِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ. وَقِيلَ:" يَئُوسٌ" أَيْ يَئِسَ مِنْ زَوَالِ مَا بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ" قَنُوطٌ" أَيْ يَظُنُّ أنه يدوم، والمعنى متقارب.
" [النبأ: ٤ ٠ [." فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا" أَيْ لَنَجْزِيَنَّهُمْ. قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ." وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ" شَدِيدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ" يُرِيدُ الْكَافِرَ" أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَبَاعَدُوا عَنْهُ. وَمَعْنَى" نَأى بِجانِبِهِ" أَيْ تَرَفَّعَ عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ وَتَكَبَّرَ عَلَى أنبياء الله. وقيل:" نأى" تباعد. يقال: نائتة وَنَأَيْتُ عَنْهُ نَأْيًا بِمَعْنَى تَبَاعَدْتُ عَنْهُ، وَأَنْأَيْتُهُ فَانْتَأَى أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ، وَتَنَاءَوْا تَبَاعَدُوا، وَالْمُنْتَأَى الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ، قَالَ النَّابِغَةُ
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي | - إن خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ |
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ" أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ" أَرَأَيْتُمْ" يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ." إِنْ كانَ" هَذَا الْقُرْآنُ" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ" أَيْ فَأَيُّ النَّاسِ أَضَلُّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْكُمْ لِفَرْطِ شِقَاقِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ:" إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:" آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" [البقرة: ٥٣] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تعالى:" سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ" أَيْ عَلَامَاتِ وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا" فِي الْآفاقِ" يَعْنِي خَرَابَ مَنَازِلِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" بِالْبَلَايَا وَالْأَمْرَاضِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:" فِي الْآفاقِ" آيَاتُ السَّمَاءِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" حَوَادِثُ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" فِي الْآفاقِ" فَتْحُ الْقُرَى، فَيَسَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْصَارِ دِينِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عُمُومًا، وَفِي نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ خُصُوصًا مِنَ الْفُتُوحِ الَّتِي لَمْ يَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ قَبْلَهُمْ، وَمِنَ الْإِظْهَارِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ وَتَغْلِيبِ قَلِيلِهِمْ عَلَى كَثِيرِهِمْ، وَتَسْلِيطِ ضُعَفَائِهِمْ عَلَى أَقْوِيَائِهِمْ، وَإِجْرَائِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنِ الْمَعْهُودِ خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" فتح مكة. وهذا اختيار الطبري. وقال الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:" فِي الْآفاقِ" وَقَائِعُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ أيضا" فِي الْآفاقِ" يعني أقطار السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ وَالنَّبَاتِ
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ | لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ |