ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك لا أصل لملكه عند حدث ولا نسل له، فعنه يرث. ملك لا يستظهر بجيش وعدد، ولا يتعزّز بقوم وعدد. ملك للخلق «١» بأجمعهم- لكنه اختار قوما- لا لينتفع بهم- بل لنفعهم، وردّ آخرين وأذلّهم بمنعهم ووضعهم:
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)«٢» قال صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك «٣» وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: «عاد نفسك فليس لى في المملكة منازع غيرها». فمن عادى نفسه فقد قام بحقّ الله، ومن لم يعاد نفسه لحقته هذه الوصمة. وأصل الإيمان الموالاة والمعاداة في الله ومن جنح إلى الكفار أو إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.
(٢) نزلت الآية في حاطب بن أبى بلتعة الذي بعث في السّرّ بكتاب مع امرأة يقال لها سارة إلى أهل مكة يحذّرهم فيه من استعداد النبي لهم والتهيؤ لقتالهم، فوضعت الكتاب في عقاص شعرها. ونزل جبريل على الرسول ليخبره بالأمر، فأرسل في إثرها فرسانه، فانتزعوا الكتاب منها.
وحينما همّ عمر رضى الله عنه بضرب عنق حاطب قال الرسول: وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ ففاضت عينا عمر، ونزلت الآية.
(٣) ينظر الصوفية إلى النفس على أنها محلّ المعلولات (الرسالة ص ٤٨).
أنا أعلم «بِما أَخْفَيْتُمْ» من دقائق التصنّع وخفيّات الرياء.
«وَما أَعْلَنْتُمْ» من التزيّن للناس.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الاستسرار بالزّلة، «وَما أَعْلَنْتُمْ»، من الطاعة والبرّ.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الخيانة «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمانة.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الغلّ والغشّ للناس، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الفضيحة للناس.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من ارتكاب المحظورات، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمر بالمعروف.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من ترك الحشمة منى وقلة المبالاة باطّلاعى، وما أعلنتم من تعليم الناس ووعظهم.
«وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» فقد حاد عن طريق الدين، ووقع فى الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٢ الى ٣]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
إن يظفروا بكم وصادفوكم يكونوا لكم أعداء، ولن تسلموا من أيديهم بالسوء ولا من ألسنتهم بالذمّ وذكر القبيح.
«وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» : ولن ينفعكم تودّدكم وتقرّبكم إليهم، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام. ثم عقوبة الآخرة تدرككم «١».
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٤]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
أي لكم قدوة حسنة بإبراهيم ومن قبله من الأنبياء حيث تبرّءوا من الكفار من أقوامهم فاقتدوا بهم.. إلّا استغفار إبراهيم لأبيه- وهو كافر- فلا تقتدوا به.
ولا تستغفروا للكفار. وكان إبراهيم قد وعده أبوه أنه يؤمن فلذلك كان يستغفر له، فلمّا تبيّن له أنه لن يؤمن تبّرأ منه ويقال: كان منافقا.. ولم يعلم إبراهيم ذلك وقت استغفاره له.
ويقال: يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنّ الله لا يغفر للكفار.
والفائدة في هذه الآية تخفيف الأمر على قلب الرسول ﷺ والمؤمنين بتعريفهم أنّ من كانوا قبلهم حين كذّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغى لذلك أن يكون بالصبر أمرهم.
قوله جل ذكره: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».
أخبر أنهم قالوا ذلك.
ويصحّ أن يكون معناه: قولوا: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا».
وقد مضى القول في معنى التوكل والإنابة.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٥]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
ربّنا لا تظفرهم بنا، ولا تقوّهم علينا.
والإشارة في الآية: إلى الأمر بسنّة إبراهيم في السخاء وحسن الخلق والإخلاص والصدق والصبر وكلّ خصلة له ذكرها لنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٧]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
وقفهم في مقتضى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ» عند حدّ التجويز... لا حكما بالقطع، ولا دفع قلب باليأس.. ثم أمرهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم، وعرّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته، وجريان كلّ شىء على ما يريد لهم، وصدّق هذه الترجية بإيمان من آمن منهم عند فتح مكة، وكيف أسلم كثيرون، وحصل بينهم وبين المسلمين مودة أكيدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
أمرهم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خلق حسن،
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
كان النبيّ ﷺ يمتحنهن باليمين، فيحلفن إنّهن لم يخرجن إلّا لله، ولم يخرجن مغايظة لأزواجهن، ولم يخرجن طمعا في مال.
وفي الجملة: الامتحان طريق إلى المعرفة، وجواهر «٢» الناس تتبيّن بالتجربة «٣». ومن أقدم على شىء من غير تجربة تحسّى كأس الندم.
«وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» «٤».
لا توافقوا من خالف الحقّ في قليل أو كثير.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢).
(٢) هكذا في ص وهي في م (وجوابه) وهي خطأ في النسخ.
(٣) هكذا في ص وهي في م (المعرفة). [.....]
(٤) العصمة: ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية.
ترك الشّرك، وترك السرقة والزنا وقتل الأولاد والافتراء في إلحاق النّسب، وألا يعصينك في معروف فلا يخالفنك فيما تأمرهن به، ويدخل في ذلك ترك النياحة وشقّ الجيوب ونتف الشّعر عند المصيبة وتخميش «١» الوجوه والتبرّج وإظهار الزينة... وغير ذلك مما هو من شعائر الدّين في الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
الذين غضب الله عليهم هم الكفار. يئسوا من الآخرة كما يئس أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويبعثوا (بعد ما تبينوا سوء منقلبهم).
ويقال: كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخلق لا يبعثون في القيامة «٢».
(٢) هكذا في م وهي في ص (الآخرة) وكلاهما صحيح في السياق.