تفسير سورة الإسراء

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ﴾ يعني محمداً ﷺ، ﴿ لَيْلاً ﴾ : أي في جنح الليل، ﴿ مِّنَ المسجد الحرام ﴾ : وهو مسجد مكة ﴿ إلى المسجد الأقصى ﴾ وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى :﴿ الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ : أي في الزروع والثمار، ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ : أي محمداً ﴿ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾ : أي العظام، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ [ النجم : ١٨ ]، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير ﴾ أي السميع لأقوال عباده البصير بهم، فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
« ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء »
قال الإمام البخاري، عن أنس بن مالك، يقول :« ليلة أسري برسول الله ﷺ من مسجد الكعبة، إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم، فقال آخرهم : خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم، حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال : جبريل، قالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : فمرحباً به وأهلاً. يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه ورد عليه، آدم، فقال : مرحباً وأهلاً بابني، نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال :» ما هذان النهران يا جبريل؟ قال : هذان النيل والفرا عنصرهما، ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤل وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا؟ قال جبريل، قالوا : ومن معك؟ قال : محمد ﷺ، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم، قالوا : مرحباً به وأهلاً، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى، فقال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً.
ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هب به حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال : يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال :« عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة ». قال إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي ﷺ إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا ربه إلى الجبار تعالى وتقدس، فقال وهو في مكانه :« يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا »، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي ﷺ إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال :« يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنا، فقال البجار تبارك وتعالى : يا محمد! قال :» لبيك وسعديك «، قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال : كيف فعلت؟ فقال :» خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها «، قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً، قال رسول الله ﷺ :» يا موسى قد والله استحييت من ربي عزَّ وجلَّ مما اختلف إليه «. قال فاهبط باسم الله. قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام »
1407
، هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد.
وقال قال الحافظ البيهقي : في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه ﷺ رأى الله عزَّ وجلَّ، يعني قوله : ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. قال : وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل أصح. وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق، فإن أبا ذر قال :« يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال :» نور أنى أراه « وفي رواية :» رأيت نوراً « أخرجه مسلم، وقوله :﴿ ثُمَّ دَنَا فتدلى ﴾ [ النجم : ٨ ] إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في » الصحيحين « عن عائشة أم المؤمنين، وعن ابن مسعود، وكذلك هو في » صحيح مسلم « عن أبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا.
وقال الإمام أحمد، عن أنس بن مالك »
أن رسول الله ﷺ قال :« أتيت بالبراق وهو دابة، أبيض، فوق الحبمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل : أصبت الفطرة، قال : ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل له من أنت؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا بي ودعوا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل له : من أنت؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل، فقيل : ومن معك؟ قال : محد، فقيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم يقول تعالى ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٧ ]، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل، فقيل : ومن معك؟ قال : محمد، فقيل : قد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، فقيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى عليه السلام، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، فقيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها، قال : فأوحى الله إليّ ما أوحى، وقد فرض عليّ في كل يوم وليلة، خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، قال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، قال فرجعت إلى ربي فقلت : أي رب خفف عن أمتي، فحط عني خمساً، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال : ما فعلت، فقلت : قد حط عني خمساً، فقال : إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : فلم أزل أرجع إلى ربي وبين موسى، ويحط عني خمساً خمساً حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حنسة فإن عملها كتبت عشراً، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقال رسول الله ﷺ :»
لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت «.
1408
عن أنس بن مالك قال :« لما جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ بالبراق فكأنها حركت ذنبها، فقال لها جبريل : مه يا براق فوالله ما ركبك مثله، وسار رسول الله ﷺ فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال :» ما هذه يا جبريل؟ « سر يا محمد. قال : فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متخياً عن الطريق، فقال : هلم يا محمد، فقال له جبريل : سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، قال فلقيه خلق من خلق الله، فقالوا : السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل : اردد السلام يا محمد، فرد السلام، ثم لقيه الثانية، فقال له مثل مقالته الأولى، ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الخمر والماء واللبن، فتناول رسول الله ﷺ اللبن، فقال له جبريل : أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام، فأمهم رسول الله ﷺ تلك الليلة. ثم قال له جبريل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلاّ كما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ».
1409
( رواية عن أنس بن مالك بن صعصعة )
قال الإمام أحمد، عن أنَس بن مالك : إن مالك بن صعصعة حدثه، أن نبي الله ﷺ حدثهم عن ليلة أسري به قال :« » بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آت، فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة، قال : فأتاني فشقّ ما بين هذه إلى هذه «، أي من ثغرة نحره إلى شعرته، » فاستخرج قلبي، قال : فأتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً وحكمة، فغسل قلبي ثم حشا ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض «. قال، فقال الجارود : هو البراق يا أبا حمزة؟ قال : نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه، قال :» فحملت عليه فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل : ما هذا، قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم، فقيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء، قال : ففتح لنا، فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه السلام. قال : هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، فقيل : من هذا؟ فقال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء، قال : ففتح لنا، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال : هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، قال : فسلمت فردا السلام، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء، قال : ففتح لنا، فلما خلصت إذ يوسف عليه السلام، قال : هذا يوسف، قال : فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : قد أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء، قال : ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال : هذا إدريس، قال : فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال : ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم، قال : مرحباً بك ولنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت فإذا هارون عليه السلام، قال : هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال : ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل، فقيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه السلام، قال : هذا موسى عليه السلام فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال : فلما تجاوزته بكى، قيل : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، قال : ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل : من هذا؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء، جاء، قال : ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، فقال : هذا إبراهيم فسلم عليه، قال : فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، قال : ثم رفعت إلى سدرة انتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال : هذه سدرة المنتهى، قال : وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، قال : ثم رفع إليّ البيت المعمور «.
1410
قال قتادة : وحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، « عن النبي ﷺ أنه رأى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون فيه، ثم رجع إلى حديث أنس، قال :» ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل قال : فأخذت اللبن، قال : هذه الفطرة أنت عليها وأمتك، قال : ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم، قال : فنزلت حتى أتيت موسى، فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قال. قلت : خمسين صلاة كل يوم، قال : إن أمتك لا تستطيع يخمسين صلاة وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال : فرجعت فوضع عني عشراً، قال : فرجعت إلى موسى. فقال : بم أمرت؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم، قال : إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أُخر. فرجعت إلى موسى، فقال : بم أمرت، فقلت : أمرت بثلاثين صلاة. قال : إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة. فارجع لى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أُخر، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت، قلت : بعشرين صلاة كل يوم. فقال : إن أمتك لا تستعيط العشرين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أخر. فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت؟ فقلت : أمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال : إن أمتك لا تستطيع العشر صلوات كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم. فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت. فقلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم. فقال : إن أمتك لا تستطيع الخمس صلوات كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال : قلت : قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم. فنفذت، فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي « ».
1411
( رواية أنس عن أبي ذر )
قال البخاري، عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله ﷺ قال :« فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء قال جبريل لخازن السماء : افتح، قال : من هذا؟ قال : جبريل، قال : هل معك أحد؟ قال : نعم معي محمد ﷺ، فقال : أرسل إليه؟ قال : نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رحل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح. قال : قلت لجبريل : من هذا؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضك، وإذا نظر عن شماله بكى، ثم عرج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها : افتح، فقال له خازنها مثل ما قاله له لالأول ففتح »، قال أنس : فذكر أنه قد وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس : فلما مر جبريل والنبي ﷺ بإدريس، قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت من هذا؟ قال : إدريس، ثم مر بموسى فقال : مرحباً : بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت : من هذا، قال : هذا موسى، ثم مررت بعيسى، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت : من هذا؟ قال : هذا عيسى، ثم مررت بإبراهيم، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت : من هذا؟ قال : هذا إبراهيم، قال الزهري : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حية الأنصاري كانا يقولان، قال النبي ﷺ :« ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ». قال ابن حزم وأنس بن مالك، قال رسول الله ﷺ :« ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام، فقال : ما فرض الله على أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة، قال موسى : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت : وضع شطرها، فقال أرجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه، فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال : هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك، قلت قد استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ».
1412
عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى، وإنه أتي بقدحين من لبن وقدح من خمر، فنظر إليهما ثم أخذ قدح اللبن، فقال جبريل : أصبت هديت للفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمتك، ثم رجع رسول الله ﷺ إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه ». وقال ابن شهاب : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز - أو كلمة نحوها - ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس، ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة. فقال أبو بكر : أو قال ذلك؟ قالوا : نعم، قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا : فتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخير السماء، قال أبو سلمة : فبها سمي أبو بكر الصديق : قال أبو سلمة : فسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ».
1413
( رواية شداد بن أوس )
روى الإمام الترمذي، عن جبير بن نفير، عن شداد بن أوس قال، يا رسول الله، كيف أسري بك؟ قال :« صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتماً، فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض - أو قال بيضاء - فوق الحمار ودون البغل، فقال : اركب، فاستصعب علي، فرازها بأذنها. ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طرفها حتى بلغنا أرضاً ذات نخل فأنزلني. فقال : صلِّ، فصليت، ثم ركبت، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم، قال : صليت بيثرب، وصليت بطيبة، فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها عند منتهى طرفها، ثم بلغنا أرضاً، قال : انزل، ثم قال : صلِّ، فصلَّيت، ثم ركبنا، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم، قال : صليت بمدين عند شجرة موسى، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضاً بدت لنا قصور، فقال : انزل فنزلت، فقال : صلِّ، فصلَّيت، ثم ركبنا، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم، قال : صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى ابن مريم، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل أرسل إليّ بهما جميعاً، فعدلت بينهما ثم هداني الله عزَّ وجلَّ فأخذت اللبن فشربت حتى عرقت به جبيني، وبين يدي شيخُ متكئ على مثوات له، فقال : أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى، ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي، قلت : يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال : وجدتها مثل الحمة السنخة، ثم انصرف بين فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم قد جمه فلان فسلمت عليهم، فقال بعضهم : هذا صوت محمد، ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أبو بكر رضي الله عنه، فقال : يا رسول الله أي كنت الليلة فقد التمستك في منامك، فقد علمت أنك أتيت بيت المقدس الليلة، فقال يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي. قال : ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلاّ أنبأته. فقال أبو بكر : أشهد أنك لرسول الله، وقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كبشه يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة! قال : فقال : إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيراً لهم فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوك كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريباً من نصف النهار، حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله ﷺ ».
1414
قال البيهقي، عن قتادة عن أبي العالية، قال : حدثنا ابن عم نبيكم ﷺ ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« رأيت ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلاً طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ». وأري مالكاً خازن جهنم، والدجال في في آيات أراهن الله إياه، قال :﴿ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ ﴾ [ السجدة : ٢٣ ]، فكان قتادة يفسرها أن نبي الله ﷺ قد لقي موسى عليه السلام، ﴿ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الإسراء : ٢ ] قال : جعل موسى هدى لبني إسرائيل عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة، عرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلاً حزيناً، فمرّ به عدّو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء؟ فقال له رسول الله ﷺ :» نعم «، قال : وما هو؟ قال :» إني أسري بي الليلة «، قال : إلى أين؟ قال :» إلى بيت المقدس «. قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال :» نعم «، قال : فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، قال : أرأيتا إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثني؟ فقال رسول الله ﷺ :» نعم «، فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي، قال : فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال : حدّث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله ﷺ :» إني أسري بي الليلة «، فقالوا : إلى أين؟ قال :» إلى بيت المقدس «، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال :» نعم «. قال، فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب، قالوا : وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله ﷺ :» فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل، فنعته وأنا أنظر إليه، قال : وكان مع هذا نعت لم أحفظه، قال، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه «.
1415
وقد روي البخاري ومسلم في « الصحيحين »، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام -فنعته فإذا رجل حسبته قال : مضطرب. رجلُ الرأس، كأنه من رجال شنوءة، قال : ولقيت عيسى - فنعته النبي ﷺ قال : ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمام، قال : ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به، قال : وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، قيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربت، فقيل لي : هديت الفطرة، - أو أصبت الفطرة - أما أنك لو أخذت الخمر غوت أمتك »، وفي « صحيح مسلم »، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً ما كربت مثله قط، فرفعه الله إلي أنظر إليه، ما سألوني عن شيء إلاّ أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم، فالتفت إليه فبدأني بالسلام ».
« رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة، فنظرت فوق، فإذا رعد وبرق وصواعق، قال : وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء آكلوا الربا، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فذا أنا برهج ودخان وأصوات، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب »
1416

فصل


وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله ﷺ من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، قال الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة والحق أنه عليه السلام أسري به ( يقظة ) لا ( مناماً ) من مكة إلى بيت المقدس راكباً على البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما ﷺ وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام. أي أقلام القدر، بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة. وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق. ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح يومئذٍ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم. وهذا هو اللائق، لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم اختلف الناس هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظه لا مناماً. ولا ينكرون أن رسول الله ﷺ رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾.
1417
فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه. ولما ارتدت جماعة مما كان قد أسلم. وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال :﴿ أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ وقال تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ] قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم. وقال تعالى :﴿ مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى ﴾ [ النجم : ١٧ ]. والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضاً فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لا لمعان وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم. وقال آخرون : بل أسري برسول الله ﷺ بروجه ولا بجسده وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسير بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن.
فائدة :
وقد ذكر حديث الإسراء، من طريق أنس، وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء، عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأُبي بن كعب وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن الرواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عن الزنادقة والملحدون ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾ [ الصف : ٨ ].
1418
لما ذكر تعالى أنه أسري بعبده محمد ﷺ، عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً، فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام، وبين ذكر التوراة والقرآن، ولهذا قال بعد ذكر الإسراء :﴿ وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب ﴾ يعني التوراة، ﴿ وَجَعَلْنَاهُ ﴾ أي الكتاب ﴿ هُدًى ﴾ أي هادياً ﴿ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ أي لئلا تتخذوا، ﴿ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ أي ولياً ولا نصيراً ولا معبوداً دوني، لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له، ثم قال :﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ تقديره : يا ذرية من حملنا مع نوح! فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي يا سلالة من تجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾ فاذكروا نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمداً ﷺ، وقد ورد في الأثر : أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله، فلهذا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني، عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبداً شكوراً لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله. وفي الحديث :« إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها » وفي حديث الشفاعة، عن أبي هريرة مرفوعاً، قال :« فيأتون نوحاً، يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً فاشفع لنا إلى ربك ».
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كبيراً، أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، كقوله تعالى :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به. وقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ﴾ أي أولى الإفسادتين ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ أي سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد، أي قوة وعدة وسلطنة شديدة، ﴿ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار ﴾ أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي بينها ووسطها ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً، ﴿ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ﴾. وقد اختلف المفسرون في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة : أنه ( جالوت ) وجنوده سلط عليهم أولاً ثم أديلوا عليه بعد ذلك، وقتل داود جالوت، ولهذا قال :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، وعن سعيد بن جبير وعن غيره أو ( بختنصر ) ملك بابل. وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا وسلط الله عليهم عدوّهم فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقاً ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]، فإنهم كانوا قد تمردوا، وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء وقد روى ابن جرير، عن يحيى ابن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبا، فسأله ما هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم، فسكن. وهذا صحيح إلى سعيد ابن المسيب وهذا هو المشهور. وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه منهم خلقاً كثيراً أسرى من بناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته والله أعلم. ثم قال تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ أي فعليها، كما قال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ الجاثية : ١٥ ]، وقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة ﴾ أي الكرة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ : أي يهينوكم ويقهروكم، ﴿ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد ﴾ أي بيت المقدس ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ : أي في التي جاسوا فيها خلال الديار، ﴿ وَلِيُتَبِّرُواْ ﴾ : أي يدمروا ويخربوا ﴿ مَا عَلَوْاْ ﴾ أي ما ظهروا عليه ﴿ تَتْبِيراً * عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ : أي فيصرفهم عنكم ﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ أي متى عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدلة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾ أي مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد عنه. قال ابن عباس ﴿ حَصِيراً ﴾ أي سجناً. وقال الحسن : فراشاً ومهاداً، وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمد ﷺ وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد ﷺ وهو القرآن، بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل، ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه أن لهم أجراً كبيراً أي يوم القيامة، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة : أي ويبشر الذين ا يؤمنون بالآخرة، أن لهم عذاباً أليماً، أي يوم القيامة، كما قال تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ].
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر، أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر ﴾ [ يونس : ١١ ] الآية. وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقد تقدم في الحديث :« لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها » وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجازات وغير ذلك، ولهذا قال ﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك، ﴿ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾، فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك، كما قال تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ﴾ [ القصص : ٧١ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار ﴾ [ المؤمنون : ٨٠ ]، وقال ﴿ يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل ﴾ [ الزمر : ٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ]، ثم إنه تعالى جعل لليل آية، أي علامة يعرف بها، وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة، وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق ﴾ [ يونس : ٥ ]، وقال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] الآية. قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله :﴿ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً ﴾ قال : ظلمة الليل وسدف النهار، وعن مجاهد : الشمس آية النهار، والقمر آية الليل. وقال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقال قتادة : كنا نتحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم، وقال ابن عباس ﴿ وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ ﴾ قال : ليلاً ونهاراً، كذلك خلقهما الله عزَّ وجلَّ.
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾، وطائرة : هو ما طار عنه من عمله، كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : من خير وشر، ويلزم به ويجازى عليه، ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ]، وقال تعالى :﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٧-١٨ ]، وقال :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الانفطار : ١٠-١٢ ]، والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً صباحاً ومساء، وقال الإمام أحمد عن جابر سمعت رسول الله ﷺ يقول :« الطائر كل إنسان في عنقه » وقوله :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ أي نجمع له عمله كله في كتاب، يعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيداً، أو بشماله إن كان شقياً ﴿ مَنْشُوراً ﴾ أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره ﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ أي إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلاّ ما عملت، لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي، وقوله :﴿ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ إنما ذكر العنق لأنه عضو لا نظير له في الجسد، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه، عن النبي ﷺ قال :« ليس من عمل يوم إلاّ وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا عبدك فلان قد حبسته، فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت »، وقال معمر عن قتادة ﴿ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ قال : عمله، ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة ﴾ قال : نخرج ذلك العمل ﴿ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ قال معمر : وتلا الحسن البصري ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ [ ق : ١٧ ] يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً ﴿ اقرأ كتابك ﴾ الآية. فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك، هذا من أحسن كلام الحسن رحمه الله.
يختبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى أثر النبوة، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه، ﴿ وَمَن ضَلَّ ﴾ أي عن الحق وزاغ عن سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه، ثم قال :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ أي لا يحمل أحد ذنب أحد؟ ولا يجني جان إلاّ على نفسه. ؟ كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ [ فاطر : ١٨ ]، ولا منافاة بين هذا وبين قوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] وقوله :﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ النحل : ٢٥ ] فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده، وكذا قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ إخبار عن عدله تعالى؛ وأنه لا يعذب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسول إيه كقوله تعالى :﴿ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾ [ الملك : ٨-٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين ﴾ [ الزمر : ٧١ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلاّ بعد إرسال الرسول إليه.
مسألة
بقي هاهنا قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً، هي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم! وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه، ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان. ( فالحديث الأول ) : رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله ﷺ قال :« أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ».
( الحديث الثاني ) : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :« سئل رسول الله ﷺ عن أطفال المسلمين، قال :» هم مع أبائهم «، وسئل عن أولاد المشركين. فقال :» هم مع آبائهم «، فقيل : يا رسول الله ما يعملون؟ قال :» الله أعلم بهم «.
1425
( الحديث الثالث ) : عن ثوبان أن النبي ﷺ عظَّم شأن المسألة قال :« إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولاً، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون : نعم، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً، فرجعوا إلى ربهم، فيقولون : ربنا أخرجنا أو أجرنا منها، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها، فينطلقون، حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا، وقالوا : ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول : ادخلوها داخرين »، فقال نبي الله ﷺ :« لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً » ( الحديث الرابع ) : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء »، وفي رواية قالوا :« يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيراً، قال :» الله أعلم بما كانوا عاملين «، وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :» ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام « وفي » صحيح مسلم « عن عياض بن حمار عن رسول الله ﷺ عن الله عزَّ وجلَّ أنه قال :» إني خلقت عبادي حنفاء « ( الحديث الخامس ) : عن سمرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :» كل مولود يولد على الفطرة «، فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين. قال :» وأولاد المشركين « وقال الطبراني عن أبي رجاء عن سمرة قال :» سألنا رسول الله ﷺ عن أطفال المشركين فقال :« هم خدم أهل الجنة » ( الحديث السادس ) : عن خنساء بنت معاوية، من بني صريم قالت : حدّثني عمي قال، قلت :« يا رسول الله من في الجنة؟ قال :» النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة « فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث، ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في » صحيح البخاري « » أنه ﷺ قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال : نعم، وأولاد المشركين «
1426
ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام :« هم مع آبائهم » ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن أهل السنّة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في « كتاب الاعتقاد ». وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء، فكيف يكلفون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
( والجواب ) عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثيرر من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله : إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنّة والجماعة من أمتحان الأطفال. وقد قال تعالى :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود ﴾ [ القلم : ٤٢ ] الآية. وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه. وفي « الصحيحين » في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة، وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم، فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظ ممن هذا بل هذا أطم وأعظم. وأيضاً فقد ثبتت السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً، فهذا نظير ذاك، وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
1427

فصل


إذا تقرر هذا، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال، ( أحدها ) : أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين، ( والقول الثاني ) : أنهم مع آبائهم في النار : واستدل عليه بما روي « عن عبد الله بن أبي قيس، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت، قال رسول الله ﷺ :» هم تبع لآبائهم «. فقلت : يا رسول الله بلا أعمال؟ فقال :» الله أعلم بما كانوا عاملين « ( والقول الثالث ) : التوقف فيهم، واعتمدوا على قوله ﷺ :» الله أعلم بما كانوا عاملين « وهو في » الصحيحين «، ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف، وهذا القول يرجع إلى من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة، لأن الأعراف ليس دار قرار، ومآل أهلها إلى الجنة، كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف، والله أعلم، وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي يقطع به إن شاء الله عزَّ وجلَّ.
1428
اختلف القرّاء في قراءة قوله :﴿ أَمَرْنَا ﴾، فالمشهور قراءة التخفيف، واختلف المفسرون في معناها، فقيل معناه : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً، كقوله تعالى :﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾ [ يونس : ٢٤ ] قالوا معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب، وقيل معناه : أمرهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة. وقال ابن جرير : يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء، قلت : إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾، قال ابن عباس قوله ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ﴾ يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو قوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ] الآية، وعنه قال : أكثرنا عددهم.
يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً ﷺ، بأنه قد أهلك أمماً من المكذبين للرسل بعد نوح، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله ابن عباس. كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعبوبتكم أولى وأحرى. وقوله :﴿ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً ﴾ أي هو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها في الآيات، فإنه قال :﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ﴾ أي في الدار الآخرة ﴿ يَصْلاهَا ﴾ أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه، ﴿ مَذْمُوماً ﴾ أي في حال كونه مذموماً على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، ﴿ مَّدْحُوراً ﴾ مبعداً مقصياً حقيراً ذليلاً مهاناً. وفي الحديث :« الدنيا دار من لا دار له، وما لمن لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له » وقوله :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة ﴾ وما فيها من النعم والسرور ﴿ وسعى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ أي طلب ذلك من طريقه، وهو متابعة الرسول ﷺ ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ أي قلبه مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء ﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾.
يقول تعالى ﴿ كُلاًّ ﴾ أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة، نمدهم فيما فيه ﴿ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ﴾ أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور فيعطي كلاً ما يستحقه من السعادة والشقاوة، ولهذا قال :﴿ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾ أي لا يمنعه أحد ولا يرده راد، قال قتادة ﴿ مَحْظُوراً ﴾ أي منقوصاً، وقال الحسن وغيره : أي ممنوعاً، ثم قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ أي في الدنيا، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك، والحسن والقبيح وبين ذلك، ومن يموت صغيراً، ومن يعمر حتى يبقى شيخاً كبيراً، وبين ذلك ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ : أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وفي « الصحيحين » :« إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾.
يقول تعالى والمراد المكلفون من الأمة، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكاً ﴿ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً ﴾ أي على إشراكك به ﴿ مَّخْذُولاً ﴾ لأن الرب تعالى لا ينصرك، بل يكلك إلى الذي عبدت مه، وهو لا يملك ضراً ولا نفعاً، عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل. أو آجل ».
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له، فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر. قال مجاهد ﴿ وقضى ﴾ يعنى وصّى، ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ أي وأمر بالوالدين إحساناً، كقوله في الآية الأخرى :﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ﴾ [ لقمان : ١٤ ]. وقوله :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ أي لا تسمعهما قولاً شيئاً حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيء، ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ أي لا تنفض يدك عليهما، ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن. فقال :﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم. ﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة ﴾ أي تواضع لهما بفعلك، ﴿ وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ أي في كبرهما وعند وفاتهما. وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، ( منها ) الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره « أن النبي ﷺ صعد المنبر ثم قال :» آمين آمين آمين «، قيل : يا رسول الله علام أمنت؟ قال :» أتاني جبريل. فقال : يا محمد زعم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل آمين، فقلت آمين، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له، قل آمين فقلت آمين، ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قل آمين، فقلت آمين « ( حديث آخر ) : روى الإمام أحمد عن أبي مالك القشيري قال، قال النبي ﷺ :» من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه « ( حديث آخر ) : روى الإمام أحمد. عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :» رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف : رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولم يدخل الجنة « ( حديث آخر ) : عن مالك بن ربيعة الساعدي قال :» بينما أنا جالس عند رسول الله ﷺ إذ جاءه من الأنصار، فقال : يا رسول الله هل بقي علي من بر أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال :« نعم، خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما. وصلة الرحم التي لا رحم لك إلاّ من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما » ( حديث آخر ) : عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال :« يا رسول الله أردت الغزو. وجئتك أستشيرك. فقال :» فهل لك من أم؟ « قال : نعم، قال :» فالزمها فإن الجنة عند رجليها « ( حديث آخر ) : قال الحافظ البزار في » مسنده « عن سليمان بن بريدة، عن أبيه » أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها. فسأل ﷺ هل أديت حقها؟ قال :« لا، ولا بزفرة واحدة » «.
قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به، وفي رواية لا يريد إلاّ الخير بذلك، فقال :﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ ﴾، وقوله :﴿ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ﴾ قال قتادة : للمطيعين أهل الصلاة، وعن ابن عباس : المطيعين المحسنين. وعن ابن المسيب : الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، وعن عطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد : هم الراجعون إلى الخير. وعن عبيد بن عمير قال : كنا نعد الأوَّاب من يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال هو التائب من الذنب، الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه، وهذا الذي قاله هو الصواب، لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع، يقال : آب فلان إذا رجع، قال تعالى :﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ [ الغاشية : ٢٥ ]. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ كان إذا رجع من سفر قال :« آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ».
يقول تعالى آمراً بالاقتصاد في العيش، ذاماً للبخل، ناهياً عن السرف :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ﴾ أي لا تكن بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله ( يد الله مغلولة ) أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب، وقوله :﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ أي ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك ﴿ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾، وهذا من باب اللف والنشر، أي فتقعد إن بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك، ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه فتكون كالحسير، وهو الدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفاً وعجزاً، فإنها تسمى الحسير. وهو مأخوذ من الكلال، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [ الملك : ٤ ] أي كليل عن أن يرى عيباً، وقد جاء في « الصحيحين » عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت، أو وفرت على جلده حتى تخفى بنانة وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع » وفي « الصحيحين » عن أسماء بنت أبي بكر قالت، قال رسول الله ﷺ :« أنفقي هكذا وهكذا وهكذا، ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك »، وفي لفظ :« ولا تحصي فيحصي الله عليك » وفي « صحيح مسلم »، قال رسول الله ﷺ :« إن الله قال لي : أنفق أنفق عليك » وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً »، وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً :« ما نقص مالٌ من صدقة، وما زاد الله عبداً أنفق إلاّ عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله » وفي حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً :« إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا » وروى البيهقي عن الأعمش، عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ :« ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطاناً » وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :
1436
« ما عال من اقتصد »، وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ إخبار أنه تعالى هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء. فيغني من يشاء ويفقر من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة، ولهذا قال :﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾ أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر. كما جاء في الحديث :« إن من عبادي لمن لا يصلحه إلاّ الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه. وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلاّ الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه » وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً، والفقر عقوبة عياذاً بالله من هذا وهذا.
1437
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الولد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾ أي خوف أن تفتقروا في ثاني الحال، ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾. وفي الأنعام :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾ [ الآية : ١٥١ ] : أي من فقر ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [ الآية : ١٥١ ] :﴿ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ﴾ : أي ذنباً عظيماً، وفي « الصحيحين » عن عبد الله بن مسعود، قلت :« يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال :» أن تجعل لله نداً وهو خلقك «، قلت : ثم أي؟ قال :» أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك «، قلت : ثم أي؟ قال :» أن تزاني بحليلة جارك « ».
يقول تعالى ناهياً عباده عن الزنا، وعن مقاربته، ومخالطة أسبابه ودواعيه ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ أي ذنباً عظيماً، ﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ أي وبئس طريقاً ومسلكاً، روى الإمام أحمد، عن أبي أمامة، « أن فتى شاباً أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا : مه مه. فقال :» ادنه «، فدنا منه قريباً، فقال :» اجلس « فجلس، فقال :» أتحبه لأمك؟ « قال : لا والله، جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال :» أفتحبه لابنتك؟ « قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال : أفتحبه لأختك؟ » قال : لا والله، جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال :« أفتحبه لعمتك؟ » قال : لا والله، جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال :« أفتحبه لخالتك؟ » قال : لا والله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال : فوضع يده عليه وقال :« اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه »، قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء « وعن النبي ﷺ قال :» ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له «.
يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة » وفي السنن :« لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم » وقوله :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ﴾ : أي سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه، إن شاء قتله قوداً، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجاناً، كما ثبتت السنة بذلك، وقوله :﴿ فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل ﴾ أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل، وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾ : أي إن الولي منصور على القاتل شرعاً وقدراً.
يقول تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلاّ بالغبطة، ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾ [ النساء : ٦ ]. وقد جاء في « صحيح مسلم » أن رسول الله ﷺ قال لأبي ذر :« يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وأني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم » وقوله :﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ﴾ أي الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه، ﴿ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ أي عنه. وقوله :﴿ وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ ﴾ أي من غير تطفيف، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ﴿ وَزِنُواْ بالقسطاس ﴾ وهو الميزان، قال مجاهد هو العدل بالرومية، وقوله :﴿ المستقيم ﴾ أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب :﴿ ذلك خَيْرٌ ﴾ أي لكم في معاشكم ومعادكم، ولهذا قال :﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ أي مآلاً ومنقلباً في آخرتكم، قال قتادة : أي خير ثواباً وأحسن عاقبة، وكان ابن عباس يقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المكيال. وهذا الميزان.
قال ابن عباس : لا تقل، وقال العوفي : لا ترم أحداً بما ليس لك به علم. وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر. وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى :﴿ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ ﴾ [ الحجرات : ١٢ ]. وفي الحديث :« إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث » وفي « سنن أبي داود » :« بئس مطية الرجل زعموا » وفي الحديث الآخر :« إن أفرى الفري أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا » وفي « الصحيح » :« من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل » وقوله :﴿ كُلُّ أولئك ﴾ أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد ﴿ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ أي سيسأل البد عنها يوم القيامة، وتسأل عنه.
يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً ﴾ أي متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، ﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض ﴾ أي لن تقطع الأرض بمشيك، ﴿ وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً ﴾ : أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما ثبت في « الصحيح » :« بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة » وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض، وفي الحديث :« من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير »، ورأى البختري العابد رجلاً من آل ( علي ) يمشي وهو يخطر في مشيته، فقال له : يا هذا! إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته، قال : فتركها الرجل بعد. ورأى ابن عمر رجلاً يخطر في مشيته، فقال : إن للشياطين إخواناً، وقال رسول الله ﷺ :« إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض » وقوله :﴿ كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ﴾، أي كل هذا الذي ذكرناه من قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] إلى هنا، ( فسيئه ) أي فقبيحه مكروه عند الله.
يقول تعالى هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس، ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً ﴾ أي تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق ﴿ مَّدْحُوراً ﴾ : أي مبعداً من كل خير، قال ابن عباس وقتادة : مطروداً، والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة رسول الله ﷺ فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين - عليهم لعائن الله - أن الملائكة بنات الله، فجعلوا الملائكة الذين عم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً، فقال تعالى منكراً عليهم :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين ﴾ أي خصصكم بالذكور ﴿ واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً ﴾ أي واختار لنفسه على زعمكم البنات، ثم شدد الإنكار عليهم فقال :﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾ أي في زعمكم أن لله ولداً ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكون لكم وربما قتلتموهن بالوأد، فتلك إذاً قسمة ضيزى، وقال تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٦ ].
يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٩ ] : أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ، فينزجرون عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك ﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ ﴾ أي الظالمين منهم ﴿ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ أي عن الحق وبعداً عنه.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفاً : لو كان الأمر كما وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه، ثم نزه نفسه الكريمة وقدسها، فقال :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ : أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى ﴿ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ أي تعالياً كبيراً، بل هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
يقول تعالى تقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن، أي من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته :
ففي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ [ مريم : ٩٠-٩١ ]. وقوله :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ أي وما من شيء من المخلوقات إلاّ يسبح بحمد الله ﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ أي لا تفهمون تسبيحهم لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، كما ثبت في « صحيح البخاري » عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وفي حديث أبي ذر « أن النبي ﷺ أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل »، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وقال الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم :« اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكراً لله منه » وفي « سنن النسائي » عن عبد الله بن عمرو قال :« نهى رسول الله ﷺ عن قتل الضفدع، وقال : نقيقها تسبيح » وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلق، وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق »، قال الله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾. وقال عكرمة في قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ قال : الأسطوانة تسبح. والشجرة تسبح. وقال بعض السلف : صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه.
وقال آخرون : إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات. قال قتادة في قوله :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ قال : كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه، وقال الحسن والضحّاك : كل شيء فيه الروح وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس. أن رسول الله ﷺ مرّ بقبرين فقال :« إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة »، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين. ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال « لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا »
1448
، قال بعض من تكلم عن هذا الحديث من العلماء، إنما قال ما لم ييبسا : لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة فإذا يبسا انقطع تسبيحهما، والله أعلم. وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ أي أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه عزيز مقتدر كما جاء في « الصحيحين » :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »، ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ] : الآية وقال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [ الحج : ٤٨ ] الآية وقال :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [ الحج : ٤٥ ] الآيتين، ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ورجع إلى الله وتاب إليه، تاب عليه كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله ﴾ [ النساء : ١١٠ ] الآية. وقال هاهنا. ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ كما قال في آخر فاطر :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤١ ] إلى أن قال :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس ﴾ [ النحل : ٦١ ] إلى آخر السورة.
1449
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ : وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن. جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً قال قتادة وابن زيد : هو الأكنة على قلوبهم، كما قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ] : أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء وقوله :﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ بمعنى ساتر، وقيل مستوراً عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : لما نزلت ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [ المسد : ١ ] « جاءت العوراء أم جميل، لها ولولة وفي يدها فهر. وهي تقول : مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا. ورسول الله ﷺ جالس وأبو بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال :» إنها لن تراني «، وقرأ قرآناً اعتصم به منها » ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾، قال، فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبي ﷺ، فقلت يا أبا بكر : بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت، ما هجاك، قال فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أني بنت سيدها. وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ وهي جمع كنان : الذي يغشى القلب ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ : أي لئلا يفهموا القرآن ﴿ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع القرىن سماعاً ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ ﴾ أي إذا وحدت الله في تلاوتك وقلت : لا إله إلاّ الله ﴿ وَلَّوْاْ ﴾ أي أدبروا راجعين ﴿ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ﴾ [ الزمر : ٤٥ ] الآية. قال قتادة : إن المسلمين لما قالوا : لا إله إلاّ الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضاقها إبليس وجنوده، فأبى الله إلاّ أن يمضيها وبعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر. إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
يخبر تعالى نبيه محمداً ﷺ بما يتناجى به رؤساء كفار قريش، حين جاءوا يستمعون قراءته ﷺ سراً من قومهم بما قالوا : من أنه رجل مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه. ولهذا قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصاً، قال محمد بن إسحاق في السيرة : إن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ﷺ وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتكم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسة، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، قال : يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به، قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال : فقام عنه الأخنس وتركه.
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك :﴿ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ﴾ أي تراباً، ﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾ أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر، كما أخبر عنهم في الموضع الآخر :﴿ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [ النازعات : ١٠-١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ [ يس : ٨٧ ] الآية، فأمر الله سبحانه رسول الله ﷺ أن يجيبهم، فقال :﴿ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾ إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات، ﴿ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ : عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو الموت، وعن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية لو كنتم موتى لأحييتكم ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده وقال مجاهد :﴿ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ يعني السماء والأرض والجبال، وفي رواية : ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم، وقوله تعالى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ﴾ : أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً، أو خلقاً آخر شديداً ﴿ قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً، ثم صرتم بشراً تنتشرون، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾. قال ابن عباس وقتادة : يحركونها استهزاءً، والإنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، يقال نغضت سنه : إذا تحركت وارتفعت من منبتها. وقال الزاجر : ونغضت من هرم أسنانها.
وقوله :﴿ وَيَقُولُونَ متى هُو ﴾ إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك كما قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٤٨ ]، وقال تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، وقوله :﴿ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾ أي احذروا ذلك فإنه قريب إليكم سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت قريب، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ﴾ أي الرب تبارك وتعالى، ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [ الروم : ٢٥ ] : أي إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالف ولا يمانع، بل كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ [ النازعات : ١٤ ] : أي إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾ : أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته، قال ابن عباس ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾ : أي بأمره، وقال قتادة : بمعرفته وطاعته، وقال بعضهم ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾ : أي وله الحمد في كل حال، وقد جاء في الحديث :
1452
« ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم »، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله «. وفي رواية يقولون :» الحمدلله الذي أذهب عنا الحزن «، وقوله تعالى :﴿ وَتَظُنُّونَ ﴾ أي يوم تقومون من قبوركم، ﴿ إِن لَّبِثْتُمْ ﴾ أي في الدار الدنيا، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ كقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]. وقال تعالى :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾ [ طه : ١٠٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ].
1453
يأمر تبارك وتعالى رسوله ﷺ أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدوّ لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بينة، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزغ في يده فربما أصابه بها، ففي الحديث :« لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار » وفي الحديث :« المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا »، قال حماد : وقال بيده إلى صدره :« وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلاّ حدث يحدثه أحدهما، والمحدث شر، والمحدث شر، والمحدث شر ».
يقول تعالى :﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾ أيها الناس، أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق، ﴿ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ﴾ بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه، ﴿ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ يا محمد ﴿ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ أي إنما أرسلناك نذيراً، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار، وقوله :﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض ﴾ أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية، ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ ﴾، كما قال تعالى :﴿ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ]، وهذا لا ينافي ما ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« لا تفضلوا بين الأنبياء »، فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم فضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ [ الآية : ٧ ]. وفي الشورى في قوله :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ [ الآية : ١٣ ]، ولا خلاف أن محمداً ﷺ أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور، وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع والله الموفق. وقوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ تنبيه على فضله وشرفه، عن النبي ﷺ قال :« خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ » يعني القرآن.
يقول تعالى :﴿ قُلِ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ﴿ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ﴾ من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم، فإنهم ﴿ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ ﴾ أي بالكلية، ﴿ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ أي بأن يحولوه إلى غيركم، والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر، قال ابن عباس : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة، والمسيح وعزيراً، وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود في قوله :﴿ أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة ﴾ قال ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا، وفي رواية قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم، وقال قتادة، عن ابن مسعود في قوله :﴿ أولئك الذين يَدْعُونَ ﴾ الآية قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنيون. والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية، وفي رواية عن ابن مسعود : كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن فذكره، وقال ابن عباس : هم عيسى وعزير والشمس والقمر، وقال مجاهد : عيسى والعزير والملائكة، واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله :﴿ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة ﴾ وهذا لا يعبر به عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة، وقال : والوسيلة هي القربة، كما قال قتادة، ولهذا قال :﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ لا تتم العبادة إلاّ بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف عن المناهي، وبالرجاء يكثر من الطاعات، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾ أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله عياذاً بالله منه.
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ، أنه ما من قرية إلاّ سيهلكها، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم ﴿ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى عن الأمم الماضين :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ [ هود : ١٠١ ]، وقال تعالى :﴿ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ﴾ [ الطلاق : ٩ ]، وقال :﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ﴾ [ الطلاق : ٨ ] الآيات.
عن ابن عباس قال :« سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا. كما هلكت من كان قبلهم من الأمم. قال :» الإبل استأن بهم «، وأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ الآية. وعن ابن عباس قال، » قالت قريش للنبي ﷺ : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، ونؤمن بك، قال :« وتفعلون؟ » قالوا : نعم، قال، فدعا فأتاه جبريلن فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، فقال :« بل باب التوبة والرحمة » «.
وقال الحافظ أبو يعلى في »
مسنده « :» لما نزلت ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] صاح رسول الله ﷺ على أبي قبيس :« يا آل عبد مناف إني نذير » فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك وإن سليمان سخر له الريح والجبال، وإن موسى سخر له البحر، وإن عيسى كان يحيى الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فتتخذ محارث فنزرع ونأكل، وإلاّ فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا، وإلاّ فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم. قال : فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي فلما سري عنه قال :« والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد. فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين »، ونزلت :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾، وقرأ ثلاث آيات، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات ﴾ أي نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا، إلاّ أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها، كما قال تعالى في المائدة :﴿ قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾
1458
[ الآية : ١١٥ ]، وقال تعالى عن ثمود حين سألوا الناقة :﴿ فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ : أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله ﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم، وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾ قال قتادة : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون، ويذكرون ويرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن، وفي الحديث المتفق عليه :« إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عزَّ وجلَّ يخوف بهما عباده؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغيرَ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ».
1459
يقول تعالى لرسوله ﷺ محرضاً له على إبلاغ رسالته، ومخبراً له بأنه قد صعمه من الناس فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهرة وغلبته. قال مجاهد والحسن وقتادة في قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس ﴾ أي عصمك منهم. قال البخاري، عن ابن عباس :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾ قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به، ﴿ والشجرة الملعونة فِي القرآن ﴾ شجرة الزقوم. ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾ : أي اختباراً وامتحاناً. وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم. لما أخبرهم رسول الله ﷺ أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك، حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله : هاتوا لنا تمراً وزبداً، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا. وكل من قال إنها ليلة الإسراء فسره كذلك بشجرة الزقوم، واختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة الإسراء، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، قال لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، أي في الرؤيا والشجرة، وقوله ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ ﴾ أي الكفار، بالوعيد والعذاب والنكال، ﴿ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾ : أي تمادياً فيما هم فيه من الكفر والضلال، وذلك من خذلان الله لهم.
يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له، افتخاراً عليه واحتقاراً له ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ﴾، كما قال في الآية الأخرى :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ ص : ٧٦ ]، وقال أيضاً : أرأيتك، يقول للرب جراءة وكفراً، والرب يحلم وينظر ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾ الآية، قال ابن عباس ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ﴾ يقول : لأستولين على ذريته إلاّ قليلاً. وقال مجاهد : لأحتوين، وقال ابن زيد : لأضلنهم، وكلها متقاربة، والمعنى : أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ، لئن أنظرتني لأضلن ذريته إلاّ قليلاً منهم.
لما سأل إبليس النظرة قال الله له ﴿ اذهب ﴾ فقد أنظرتك، كما قال في الآية الأخرى ﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ [ الحجر : ٣٧-٣٨ ]، ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم ﴿ قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ ﴾ أي على أعمالكم ﴿ جَزَاءً مَّوْفُوراً ﴾ قال مجاهد : وافراً، وقال قتادة : موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه، وقوله تعالى :﴿ واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ قيل : هو الغناء. قال مجاهد : باللهو والغناء، أي : استخفهم بذلك، وقال ابن عباس في قوله :﴿ واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ قال : كل داع دعا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى :﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾ يقول : واحمل عليهم بجنودك خيالتهم وراجلتهم. فإن الرجل جمع راجل، كما أن الركب جمع راكب، ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه، وهذا أمر قدري. كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾ [ مريم : ٨٣ ] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً وتسوقهم إليها سوقاً. وقال قتادة : إن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه، تقول العرب : أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه، ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب، ومنه اشتقاق الجلبة. وهي ارتفاع الأصوات، وقوله تعالى :﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى، وقال عطاء : هو الربا، وقال الحسن : هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام، والآية تعم ذلك كله، وقوله :﴿ والأولاد ﴾ يعني أولاد الزنا، قال ابن عباس : هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهاً بغير علم وقال الحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد، مجَّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام. وجزأوا من أموالهم جزءاً للشيطان، وقال أبو صالح عن ابن عباس : هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد فلان.
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله أو وأده، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله بهن فقد دخل في مشاركة إبليس فيه لأن الله لم يخصص بقوله :﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد ﴾ معنى الشركة فيه، بمعنى دون معنى، فكل ما عصي الله فيه أو به، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة. وهذ الذي قال متجه. وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة، وفي « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً »
1462
، وقوله تعالى :﴿ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً ﴾ كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول، إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال تعالى :﴿ وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً. وفي الحديث :« إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر » ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره.
1463
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده، لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم، ولهذا قال :﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوة منيبين إليه مخلصين له الدين، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فاراً من رسول الله ﷺ حين فتح مكة، فذهب هارباً فركب في البحر ليدخل الحبشة فيجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلاّ أن تدعو الله وحده، فقال عكرمة في نفسه، والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محد فلأجدنه رؤوفاً رحيماً، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله ﷺ فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ ﴾ أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له ﴿ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً ﴾ أي سجيته هذا، ينسى النعم ويجحدها إلاّ من عصم الله.
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر، أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر، أو يرسل عليكم حاصباً، وهو المطر الذي فيه حجارة، كما قال تعالى :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ [ القمر : ٣٤ ]، وقال :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ أي ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.
يقول تبارك وتعالى : أم أمنتم أيها المعرضون عنا، بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر، وخرجوا إلى البر، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية، ﴿ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح ﴾ أي يقصف الصواري ويغرق المراكب، قال ابن عباس وغيره : القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها، وقوله :﴿ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ : أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى، وقوله :﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾، قال ابن عباس : نصيراً، وقال مجاهد : نصيراً ثائراً، أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة : ولا تخاف أحداً يتعبنا بشيء من ذلك.
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ] أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه، ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر ﴾ أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار، ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي، ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات. وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة. عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال :« إن الملائكة قالت : يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبّح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان »
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم، وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة : أي بنبيهم، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ [ يونس : ٤٧ ] الآية، وقال بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي ﷺ، وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم واختاره ابن جرير، وروي عن مجاهد أنه قال : بكتبهم، فيحتمل أن يكون أراد ما روي عن ابن عباس في قوله :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ أي بكتاب أعمالهم، وهذا القول هو الأرجح، لقوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ يس : ١٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] الآية، ويحتمل أن المراد ﴿ بِإِمَامِهِمْ ﴾ أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار ﴾ [ القصص : ٤١ ] وفي « الصحيحين » :« التَّتبعْ كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت » الحديث، وقال تعالى :﴿ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ]. وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته، فإنه لا بدّ أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها، كقوله تعالى :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء ﴾ [ الزمر : ٦٩ ].
وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ]، ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال، ولهذا قال تعالى :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ ﴾ أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته، كقوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ ﴾ [ الحاقة : ١٩ ] الآيات، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ الفتيل : هو الخيط المستطيل في شق النواة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ في قول الله تعالى :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾، قال :« يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم أتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافرون فيسود وجهه ويمد له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه، فيقول : أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا » وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى ﴾ أي في الحياة الدنيا ﴿ أعمى ﴾ أي عن حجة الله وآياته وبيناته، ﴿ فَهُوَ فِي الآخرة أعمى ﴾ أي كذلك يكون ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ أي وأضل منه كما كان في الدنيا، عياذاً بالله من ذلك.
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجّار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها ﷺ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
قيل : نزلت في اليهود حين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال : فيها محياك ومماتك ومنها تبعث. وقيل : نزلت في كفار قريش لما هموا بإخراج رسول الله ﷺ من بين أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلاّ سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه وسلطه عليهم وأظفره بهم، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم، ولهذا قال تعالى :﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ الآية أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه ﷺ رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] الآية.
يقول تبارك وتعالى لرسوله ﷺ آمراً بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها :﴿ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس ﴾ قيل : لغروبها. وقال ابن عباس : دلوكها زوالها، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس، فمن قوله :﴿ لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل ﴾ وهو ظلامه؛ أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله :﴿ وَقُرْآنَ الفجر ﴾ يعني صلاة الفجر، وقد ثبتت السنّة عن رسول الله ﷺ تواتراً من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً عن سلف وقرناً بعد قرن كما هو مقرر في مواضعه ولله الحمد، ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً ﴾ قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :« فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً ﴾. وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ في قوله :﴿ وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً ﴾ قال :« تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار » وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال :« يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح. وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون. وتركناهم وهم يصلون » وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء. وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ ﴾ أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد « عن رسول الله ﷺ أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال :» صلاة الليل «، ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد ما كان بعد نوم، وهو المعروف في لغة العرب، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه كان يتهجد بعد نومه، وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء، ويحتمل على ما كان بعد النوم، واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ نَافِلَةً لَّكَ ﴾، فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة، رواه العوفي عن ابن عباس واختاره ابن جرير، وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره من أمته إنما يكفر عن صلواته النوافل الذنوب التي عليه.
وقوله تعالى :﴿ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالفهم تبارك وتعالى، قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل، ذلك هو المقام الذي يقومه محمد ﷺ يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم، عن حذيفة قال : يجمع الناس على صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياماً لا تكلم نفس إلا بإذنه، ينادى : يا محمد
1472
« فيقول : لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك ومنك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلاّ إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت » فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عزَّ وجلَّ، وقال ابن عباس : المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال مجاهد والحسن البصري، وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود. قلت : لرسول الله ﷺ تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد، فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكباً إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر وارداً منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعد ما يسأل الناس آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول : لست لها، حتى يأتوا إلى محمد ﷺ فيقول :« أنا لها، أنا لها »، كما سنذكر ذلك مفصلاً في هذا الموضع إن شاء الله تعالى، ومن ذلك، أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها، وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وهو أول شفيع في الجنة، وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم، وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلاّ له، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلاّ الله تعالى، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك. ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان.
روى البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء، كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد ﷺ، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً، وفي رواية :« إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول : لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد ﷺ فيشفع بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقه باب الجنة، فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم »
1473
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :« من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة » وعن أُبي بن كعب، عن النبي ﷺ قال :« إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر ».
حديث أنس بن مالك، عن النبي ﷺ قال :« يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك، فيقولون : لو شفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لهم آدم : لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصاب، فيستحيي ربه عزّ وجلّ من ذلك، ويقول ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول : ليست هناكم، ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول : ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتوه، فيقول : ليست هناكم، ولكن ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة، فيأتون موسى فيقول : لست هناكم، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول : ولكن ائتوا عيسى، عبد الله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني - قال الحسن هذا الحرف - فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين، قال أنَس : حتى استأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني ما يشاء الله أن يدعني، قال، ثم يقال : ارفع محمد، قل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه؛ فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه ثانية، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال : ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، قال : ثم أعود الثالثة، فإذا رأيت ربي وقعت - أو خررت - ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال : أرفع محمد قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم اجنة ثم أعود الثالثة، فإذا رأيت ربّي وقعت - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال : ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطيه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فقال : يا رب ما بقي إلاّ من حبسه القرآن »
1474
فحدثنا أنَس بن مالك، أن النبي ﷺ قال :« فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ».
( الثاني ) حديث كعب بن مالك رضي الله عنه : عن كعب بن مالك، أن رسول الله ﷺ قال :« يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي عزّ وجلّ حلة خضراء، ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ».
( الثالث ) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : عن أبي الدرداء. قال : قال رسول الله ﷺ :« أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة. وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه. فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم. ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك »، فقال رجل : يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال :« هم غير محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم ».
( الرابع ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتي رسول الله ﷺ بلحم فرفع إليه الذراع. وكانت تعجبه فنهش منها نشهة ثم قال :« أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممَّ ذاك؟ فيجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم. ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم عليه السلام، فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، أشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي اله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قلبه مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى عليه السلام فيقولون : يا موسى أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبياً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي نفسي، ذاهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ﷺ ؛ فيأتون محمداً ﷺ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترة ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عزّ وجلّ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتح، على أحد قبلي، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول : أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب؟ فيقال : يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال : والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى ».
1475
وفي « صحيح مسلم » رحمه الله، قال رسول الله ﷺ :
1476
« أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع » وعن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ قال :« هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه » وفي الحديث :« إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مدّ الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه - قال النبي ﷺ - فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى - والله ما رآه قبلها - فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ. فيقول الله عزَّ وجلَّ صدق. ثم أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوم في أطراف الأرض. قال فهو المقام المحمود ».
1477
عن ابن عباس قال : كان النبي ﷺ بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله :﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾، وقال الحسن البصري : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله ﷺ ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه، فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أن يخرج إلى المدينة، فهو الذي قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ الآية، وقال قتادة :﴿ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ يعني المدينة ﴿ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ يعني مكة، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد، وهذ القول هو أشهر الأقوال، وهو اختيار ابن جرير، وقوله :﴿ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ قال الحسن البصري : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة : إن نبي الله ﷺ علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمة من الله، جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم، قال مجاهد :﴿ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ حجة بينة، واختار ابن جرير الأول، لأنه لا بدّ مع الحق من قهر، لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات... ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] إلى قوله ﴿ وَأَنزَلْنَا الحديد ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] الآية. وفي الحديث :« إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع، وقوله :﴿ وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل ﴾ تهديد ووعيد لكفّار قريش. فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه، ولا قيل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع وزهق باطلهم : أي اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء ﴿ وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل ﴾. عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي ﷺ مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :« جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد » وقال الحافظ أبو يعلى، عن جابر رضي الله عنه قال :« دخلنا مع رسول الله ﷺ مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً تُعبد من دون الله، فأمر بها رسول الله ﷺ فأكبت على وجوهها، وقال :» جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً «.
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد ﷺ، إنه شفاء ورحمة للمؤمنين، أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله. وهو أيضاً رحمة، يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلاّ لمن آمن به وصدقه، واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك؛ فلا يزيده سماعه القرآن إلاّ بعداً وكفراً، والآفة من الكافر لا من القرآن، كقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]. وقال تعالى :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ]، وقال قتادة : إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ﴿ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ : أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلاّ من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء، فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر، ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه. قال مجاهد : بَعُد عنا، وهذا كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب والحوادث والنوائب ﴿ كَانَ يَئُوساً ﴾ أي قنط أن يعود، يحصل له بعد ذلك خير، كقوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [ هود : ٩-١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ ﴾ قال ابن عباس : على ناحيته، وقال مجاهد : على حدته وطبيعته، وقال قتادة : على نيته، وقال ابن زيد : على دينه، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وهذه الآية - والله أعلم - تهديد المشركين ووعيد لهم، كقوله تعالى :﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ ﴾ [ ٍهود : ١٢١ ] الآية. ولهذا قال :﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً ﴾ أي منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله، فإنه لا تخفى عليه خافية.
عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، قال : كنت أمشي مع رسول الله ﷺ في حرث في المدينة وهو متوكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح، وقال بعضهم : لا تسألوه، قال : فسألوه عن الروح، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئاً على العسيب، قال : فظننت أنه يوحى إليه، فقال :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ قال، فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه. وهذا السياق يقتضي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح ﴾، ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة، ما قال الإمام أحمد، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ قالوا : أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، قال، وأنزل الله :﴿ قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ] الآية. وقد روى ابن جرير عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله ﷺ عن الروح، فأنزل الله ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح ﴾ الآية، فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ]. وقال : فنزلت :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله ﴾ [ لقمان : ٢٧ ] الآية.
وقال محمد بن إسحاق، « عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، أتاه أحبار يهود، وقالوا : يا محمد! ألم يبلغنا عنك أنك تقول ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال :» كلاً قد عنيت «، فقالوا : إنك تتلوا أنا أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله ﷺ :» هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم « وأنزل الله :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
1481
[ لقمان : ٢٧ ]، وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :( أحدها ) أن المراد أرواح بني آدم، « عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي ﷺ أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فأتاه جبريل فقال له :﴿ قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. فأخبرهم النبي ﷺ بذلك. فقالوا : من جاءك بهذا؟ قال :» جاءني به جبريل من عند الله «، فقالوا له : والله ما قاله لك إلاّ عدونا »، فأنزل الله :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ]، وقيل : المراد بالروح هاهنا جبريل، قاله قتادة، وقيل : المراد به اهنا، ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
وقوله تعالى :﴿ قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ : أي من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلاّ بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من عمله تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر، أن الخضر قال : يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلاّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا لأنهم سألوا على وجه التعنت، وقيل أجابهم، ثم ذكر السهيلي : الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر : أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وحاصل القول : أن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه، لا من كل وجه، وهذا معنى حسن والله أعلم.
1482
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم، ﷺ فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل ن حكيم حميد، ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال ولا عديل؟ وقوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ ﴾ الآية، أي بينا لهم الحجج، والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه، ومع هذا ﴿ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً ﴾ أي جحوداً للحق، ورداً للصواب.
قال ابن جرير عن ابن عباس :« إن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله ﷺ وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليهم عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الألهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوَّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطلب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله ﷺ :» ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم «. فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجّر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا، منهم ( قصي بن كلاب ) فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولاً، كما تقول. فقال لهم رسول الله ﷺ :» ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم «. قالوا : لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم! فقال لهم رسول الله ﷺ :» ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم «. قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلاّ أن تفعل. فقال لهم رسول الله ﷺ :» ذلك إلى الله إن شاء فعل بكل ذلك «، فقالوا : يا محمد! أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
فلما قالوا ذلك، قام رسول الله ﷺ عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معي بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك »
. ثم انصرف عن رسول الله ﷺ وانصرف رسول الله ﷺ إلى أهله حزيناً أسفاً، لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه. ولو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفراً وعناداً، فقيل لرسول الله ﷺ : إن شئت أعطيناهم ما سألوا، فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال :« بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة » «.
1484
وقوله تعالى :﴿ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ الينبوع : العين الجارية، سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا، وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا، ولكن علم أنهم لا يهتدون، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ]. وقوله تعالى :﴿ أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ ﴾ أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهي وتدلي أطرافها فعجّلْ ذلك في الدنيا، وأسقطها كسفاً، أي قطعاً، كذلك سأل قوم شعيب فقالوا :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ الشعراء : ١٨٧ ]، فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم، وأما نبي الرحمة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وكذلك وقع، فإن من هؤلاء الذين الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى ( عبد الله بن أبي أمية ) الذي تبع النبي ﷺ وقال له ما قال. أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ ﴾. قال ابن عباس ومجاهد : هو الذهب، أي يكون لك بيت من ذهب، ﴿ أَوْ ترقى فِي السمآء ﴾ أي تصعد في سلم، ونحن ننظر إليك، ﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ﴾، قال مجاهد : أي مكتوب فيه، إلى كل واحد صحيفة، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان تصبح موضوعة عند رأسه، وقوله تعالى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ أي سبحانه وتعالى وتقدس، أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، وما أنا إلاّ رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم وأمركم فيما سألتم إلى الله عزَّ وجلَّ، وعن أبي أمامة، عن النبي ﷺ قال :« عرض علي ربي عزَّ وجلّ ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ».
1485
يقول تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ الناس ﴾ أي أكثرهم، ﴿ أَن يؤمنوا ﴾ ويتابعوا الرسل، إلاّ استعجابهم من بعثة البشر رسلاً كما قال تعالى :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ [ يونس : ٢ ] ؟ وقال تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] الآية. وقال فرعون وملؤه :﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ] ؟ وكذلك قالت الأمم لرسلهم :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ]، والآيات في هذا كثيرة، ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، كما قال تعالى :﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥١ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ﴾ أي كما أنتم فيها ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً ﴾ أي من جنسهم، ولمّا كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة.
يقول تعالى مرشداً نبيّه ﷺ إلى الحجة على قومه، في صدق ما جاءهم به إنه شاهد علي وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين ﴾ [ الحاقة : ٤٤-٤٦ ]. وقوله ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾ : أي عليماً بهم، بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة، ولهذا قال :﴿ وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ... ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم، كما قال :﴿ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ [ الكهف : ١٧ ]، وقوله :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ ﴾، عن أنس بن مالك :« قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال :» الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم « وعن حذيفة بن أسيد، قال، قام أبو ذر فقال : يا بني غفار قولوا ولا تحلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني : أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج، فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. وقوله :﴿ عُمْياً ﴾ أي لا يبصرون ﴿ وَبُكْماً ﴾ يعني لا ينطقون ﴿ وَصُمّاً ﴾ لا يسمعون وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكماً وعمياً وصماً عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه، ﴿ مَّأْوَاهُمْ ﴾ أي منقلبهم ومصيرهم ﴿ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ﴾ قال ابن عباس : سكنت، وقال مجاهد : طفئت ﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ أي لهباً ووهجاً وجمراً، كما قال :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ].
يقول تعالى هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه، لأنهم كذبوا ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ أي بأدلتنا وحجتنا، واستبعدوا وقوع البعث، ﴿ وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ﴾، أي بالية نخرة ﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾ أي بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه، من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في الأرض، نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السماوات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك. كما قال :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، وقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ] الآية، وقال :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقال هاهنا :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، وقوله :﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، كما قال تعالى :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ [ هود : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ فأبى الظالمون ﴾ أي بعد قيام الحجة عليهم ﴿ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ : إلاّ تمادياً في باطلهم وضلالهم.
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، قل لهم يا محمد : لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله، لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس : أي الفقر، أي خشية أن تُذهبوها، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال :﴿ وَكَانَ الإنسان قَتُوراً ﴾ قال ابن عباس وقتادة. أي بخيلاً منوعاً، وقال الله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً ﴾ [ النساء : ٥٣ ] أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً، ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلاّ من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين ﴾ [ المعارج : ١٩-٢٢ ] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه. وقد جاء في « الصحيحين » :« يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه؟ »
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي « العصا »، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم « آيات مفصلات قاله ابن عباس، وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا والخمس في الأعراف والطمس والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد :( هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم )، وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي، وجعل الحسن البصري : السنين ونقص الثمرات واحدة؛ وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون، ﴿ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ] أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها كفروا بها وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً وما نعجعت فيهم؛ فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلاّ أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى - وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات - ﴿ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً ﴾ قيل : بمعنى ساحر، والله تعالى أعلم. فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعنية في قوله تعالى :﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ ﴾ [ النمل : ١٠ ] إلى قوله ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ [ النمل : ١٢ ]، فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبيَّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصّلها، وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة : منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
ولهذا قال موسى لفرعون :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به، ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً ﴾ أي هالكاً، قاله مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس : ملعوناً، وقال الضحّاك ﴿ مَثْبُوراً ﴾ : أي مغلوباً، والهالك كما قال مجاهد، شمل هذا كله. ويدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله، وقوله :﴿ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض ﴾ أي يخليهم منها ويزيلهم عنها ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض ﴾، وفي هذا بشارة لمحمد ﷺ بفتح مكة مع أن السورة مكية، نزلت قبل الهجرة وكذلك وقع فإن أهل مكة همّوا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآيتين، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل، وقال هاهنا ﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾ أي جميعكم أنتم وعدوكم، قال ابن عباس ﴿ لَفِيفاً ﴾ أي جميعاً.
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد، إنه بالحق نزل، أي متضمناً للحق، كما قال تعالى :﴿ لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] أي متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه، وقوله ﴿ وبالحق نَزَلَ ﴾ أي ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً، لم يشب بغيره ولا زيد فيه، ولا نقص منه، بل وصل إليك بالحق فإنه نزل به شديد القوى، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ أي يا محمد ﴿ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين، ونذيراً لمن عصاك من الكافرين، وقوله :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾ بالتخفيف، ومعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة، قاله ابن عباس، وعن ابن عباس ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾ بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبيناً مفسراً، ولهذا قال ﴿ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس ﴾ أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم ﴿ على مُكْثٍ ﴾ أي مهل ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ شيئاً بعد شيء.
يقول تعالى لنبيّه محمد ﷺ ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم ﴿ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا ﴾ أي سواء آمنتم به أم لا، فهو حق في نفسه أنزله الله، ونّوه بذكره في كتبه المنزلة على رسله، ولهذا قال :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولا حرفوه ﴿ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ ﴾ هذا القرآن ﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ ﴾ جمع ذقن، وهو أسفل الوجه ﴿ سُجَّداً ﴾ أي لله عزَّ وجلَّ، شكراً على ما أنعم به عليهم، ولهذا يقولون ﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَآ ﴾ أي تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد، ولهذا قالوا :﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾، وقوله :﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ﴾ أي خضوعاً لله عزّ وجلّ، وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله، ﴿ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ أي إيماناً وتسليماً، كما قال :﴿ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [ محمد : ١٧ ].
يقول تعالى :﴿ قُلِ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عزّ وجلّ، المانعين من تسميته بالرحمن، ﴿ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ أي لا فرق بين دعائكم له باسم ﴿ الله ﴾ أو باسم ﴿ الرحمن ﴾ فإنه ذو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى :﴿ لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] الآية. وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي ﷺ وهو يقول في سجوده :« يا رحمن يا رحيم »، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية، وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير، وقوله :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله ﷺ متوار بمكة، ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركين سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال فقال الله تعالى لنبيه ﷺ :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، ﴿ وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً ﴾. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رسول الله ﷺ إذا جهر القرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله ﷺ بعض ما يتلو وهو يصلي، استرق السمع منهم دونهم فرقاً منهم. فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع، فإن خفض صوته ﷺ لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً، فأنزل الله ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ فيتفرقوا عنك ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ أي فلا يسمع من أراد أن يسمع فينتفع به، ﴿ وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً ﴾.
قال ابن جرير، عن محمد بن سيرين، قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال : أناجي ربي عزّ وجلّ وقد علم حاجتي، فقيل : أحسنت، وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، قيل : أحسنت، فلما نزلت :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً ﴾ قيل لأبي بكر : ارفع شيئاً، وقيل لعمر : اخفض شيئاً. وقال عكرمة، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء، وقوله :﴿ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾ لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائص، فقال :﴿ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك ﴾، بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل ﴾ أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي، أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بمشيئته وحده لا شريك له، قال مجاهد في قوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل ﴾ لم يخالف أحداً، ولم يبتغ نصر أحد، ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً.
Icon