تفسير سورة الدّخان

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة ﴿ حم ﴾ الدخان وهي مكية

سُورَةُ حم الدُّخَانِ
وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ (٣) قال أهل التأويل: إنا أنزلنا الكتاب -أي: القرآن- في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتفاريق.
ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى قوله: (حم) أي: قضى ما هو كائن على ما قال بعض أهل التأويل: إن ما قضى في كل سنة من الموت والحياة والرزق ونحو ذلك ينزل في ليلة القدر نسخها الملائكة الذين وكلوا على ذلك، فهذا يحتمل.
ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى ما ضمن في قوله: (حم) على ما أراد به، والله أعلم.
ويحتمل أنه أراد بهذا إنزال شيء وأمر في ليلة القدر، عرفه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فيخبر أنه أنزل ذلك ولم يبينوا لنا ذلك؛ لما لا حاجة لنا إلى معرفته.
وقالت الروافض في قوله - تعالى - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ): إن اللَّه - تعالى - أنزل شيئًا على رسوله، يكون ذلك الشيء على رأسه وعلى رءوس الأئمة الذين يكونون بعده بحيث يروا ذلك دون غيرهم، إذا استقبلهم أمر أو بدا لهم شيء، نظروا في ذلك الشيء، وعرفوا ما احتاجوا، وما يكون لهم من الصلاح، أو كلام نحو هذا.
وأما عند أهل التأويل هو ما ذكرنا راجع إلى ذلك الكتاب المنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو إلى ما ذكرنا من تضمين ما ضمن في قوله: (حم)، وكذلك قالوا - أيضًا - في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقوله: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر، سماها: مباركة، وقد سمى المطر والماء المنزل من السماء مباركا؛ كقوله - تعالى -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا)، وكذلك الأرزاق المنزلة من السماء والمستخرجة من الأرض مباركة بقوله: (بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، والمبارك هو
الآية ٣ وقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾ قال أهل التأويل : إنا أنزلنا /٥٠٢-ب/ الكتاب أي القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالتفاريق.
ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى قوله :﴿ حم ﴾ أي قضى ما هو كائن على ما قال بعض أهل التأويل : إن ما قضى في كل سنة من الموت والحياة والرزق ونحو ذلك ينزل في ليلة القدر، ونسخُه١ إلى الملائكة الذين وُكّلوا على ذلك. فهذا يحتمل.
ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى ما ضمّن في قوله ﴿ حم ﴾ على ما أراد به، والله أعلم.
ويحتمل أنه أراد بهذا إنزال شيء وأمر في ليلة القدر، عرفه٢ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيُخبر أنه أنزل ذلك، ولم يبيّنوا لنا ذلك لما لا حاجة لنا إلى معرفته.
وقال الرّوافض في قوله :﴿ إنا أنزلناه ﴾ : إن الله تعالى أنزل شيئا على رسوله، يكون ذلك الشيء على رأسه وعلى رؤوس الأئمة الذين يكونون بعده بحيث يرون ذلك دون غيرهم إذا استقبلهم أمرا، أو بدا لهم شيء، نظروا في ذلك الشيء، فعرفوا٣ ما احتاجوا وما يكون لهم من الصلاح، أو كلام نحو هذا.
وأما عند أهل التأويل فهو ما ذكرنا راجع إلى ذلك الكتاب المُنزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ما ذكرنا من تضمين ما ضمّن في قوله :﴿ حم ﴾ وكذلك قالوا أيضا في قوله :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ [ القدر : ١ ].
وقوله تعالى :﴿ في ليلة مباركة ﴾ وهي ليلة القدر، سمّاها مباركة، وقد سمّى المطر والماء المُنزَل من السماء [ مباركا بقوله ]٤ تعالى :﴿ ونزّلنا من السماء ماء مباركا ﴾ [ ق : ٩ ] وكذلك الأرزاق المُنزلة من السماء والمستخرجة من الأرض مباركة بقوله :﴿ بركات من السماء والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] والمبارك هو الذي عنده تُدرَك كل الخيرات. والبركة هي اسم كل خير يكون أبدا على الزيادة والنماء، فسمّى تلك الليلة مباركة لم جعل فيها من الخيرات والبركات.
وقوله تعالى :﴿ إنا كنا منذِرين ﴾ يحتمل ﴿ إنا كنا منذرين ﴾ الخلق إذا أُنشئوا، وبلغوا المبلغ الذي يستوجبون الإنذار.
ويحتمل ﴿ إنا كنا منذرين ﴾ الخلق بالرسل ؛ هذا هو الظاهر أن هذا القول من الله تعالى، والله أعلم : قال :﴿ إنا كنا منذرين ﴾ بالقرآن بما أنزل على [ الرسول ]٥.
١ في الأصل: ونسخها، في م: نسخها..
٢ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٣ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: كقوله..
٥ ساقطة من الأصل وم..
الذي عنده يدرك كل الخيرات، والبركة: هي اسم كل خير يكون أبدًا على الزيادة والنماء، فسمى تلك الليلة: مباركة؛ لما جعل فيها من الخيرات والبركات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ).
يحتمل (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) للخلق إذا أنشئوا وبلغوا المبلغ الذي يستوجبون الإنذار.
ويحتمل (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) الخلق بالرسل؛ هذا هو الظاهر؛ أن هذا القول من الله تعالى - واللَّه أعلم - قال: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) بالقرآن بما أنزل علي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤).
يحتمل: أي: يفصل ويبين كل أمر هو كائن في ليلة القدر.
ويحتمل: أي: يبين في ليلة القدر كل ما يكون في تلك السنة.
ثم قوله: (كلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) يحتمل أي: كل أمر فيه حكمة.
ويحتمل. كل أمر محكم متقن (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا... (٥).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الأمر الذي ذكر بقوله: (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦).
يحتمل قوله: (رَحْمَةً) أي: ما أنزل من الكتاب هو رحمة من ربك.
ويحتمل: ليلة القدر؛ أي: جعلها رحمة منه.
ويحتمل ما ذكر من أمر حكيم هو رحمة منه.
ويحتمل: أي: الرسول المبعوث إليهم رحمة منه لهم، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وقوله: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يحتمل قوله: (السَّمِيعُ) بأقوالهم التي أسروها، (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وأعمالهم التي أخفوها وأضمروها.
ويحتمل (السَّمِيعُ): المجيب لمن دعا، (الْعَلِيمُ) بما يرجع إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم.
وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧).
قَالَ بَعْضُهُمْ: رب الشيء هو مصلحه؛ معناه: مصلح السماوات والأرض وما فيهما،
وحافظ ذلك كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: مالكهما ومالك ما فيهما.
ويحتمل: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: خالقهما، وخالق ما فيهما، ومنشئ ذلك كله.
الآية ٥ [ وقوله تعالى :﴿ أمرا من عندنا ﴾ يحتمل ]١ كل أمر محكم متقن ﴿ أمرا من عندنا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إنا كنا مرسلين ﴾ الأمر الذي ذكر بقوله :﴿ كل أمر حكيم ﴾ والله أعلم.
١ في الأصل وم: ويحتمل..
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ رحمة من ربك ﴾ يحتمل قوله :﴿ رحمة ﴾ أي ما أنزل من الكتاب هو رحمة من ربك، ويحتمل، ليلة القدر، أي جعلها رحمة منه، ويحتمل ما ذكر من أمر حكيم، هو رحمة منه، ويحتمل أي الرسول المبعوث إليهم رحمة منه لهم، وهو كقوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
وقوله تعالى :﴿ إنه هو السميع العليم ﴾ بأقوالهم التي أسرّوها ﴿ العليم ﴾ بأفعالهم وأعمالهم التي أخْفَوها، وأضمروها. ويحتمل ﴿ السميع ﴾ المجيب لمن دعا ﴿ العليم ﴾ بما يرجع إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم.
الآية ٧ وقوله تعالى :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ قال بعضهم : رب الشيء، هو مُصلحه ؛ معناه مصلح السماوات والأرض وما فيهما، وحافظ ذلك كله.
وقال بعضهم :﴿ رب السماوات والأرض ﴾ أي مالكهما ومالك ما فيهما. ويحتمل ﴿ رب السماوات والأرض ﴾ أي خالقهما وخالق ما فيهما ومُنشئ ذلك كله.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم موقنين ﴾ قال بعضهم : هذا على إتمام الآية ومراعاة المقاطع على وجهها. هذا وأمثاله١ يخرّج على هذا، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ إن كنتم موقنين ﴾ على إثر قوله :﴿ رب السماوات والأرض ﴾ أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم تعلمون أنه رب ما ذكر، فكيف تصرفون العبادة واسم الألوهية إلى من ليس برب ما ذكر أن الإيقان، هو العلم بالشيء حقيقة ؟
١ في الأصل وم: وأمثالها..
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على إتمام الآية، ومراعاة المقاطع على وجهها، هذا وأمثاله يخرج على هذا، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) على إثر قوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هو رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم تعلمون: أنه رب ما ذكر، فكيف تصرفون العبادة واسم الألوهية إلى من ليس برب؟! لما ذكر أن الإيقان هو العلم بالشيء حقيقة.
ثم نعت الربّ فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... (٨) فكأنه يقول: لا معبود يستحق العبادة سواه؛ لأن الإله هو المعبود عند العرب؛ يقول: لا تستحق الأشياء التي يعبدون العبادة إنما المستحق لها هو الذي لا إله غيره.
ويحتمل أن يقول: لا يستحق اسم الألوهية إلا هو، لا الأشياء التي سميتموها: آلهة، ثم نعته فقال: (يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي: هو يحيي ويميت، وهو ربكم ورب آبائكم الأولين.
إن من عادة العرب أنهم كانوا يعبدون ويخدمون شيئًا دون اللَّه - تعالى - رجاء أن تشفع لهم وتقربهم تلك العبادة إلى اللَّه - تعالى - فيقول: إن الذين تعبدون دونه لا يقع لهم العلم بعبادتكم إياها، فاصرفوا العبادة إلى الذي يعلم بعبادتكم على كل حال، وأخلصوا له ذلك، ولا تشركوا غيره.
* * *
قوله تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) أي: في أمر القرآن.
ويحتمل: بل هم في شك في أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) اختلف أهل التأويل فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو على حقيقة الدخان، ولكن على التمثيل والمجاز.
ثم اختلف في كيفية ذلك، مع اتفاقهم أنه قد مضى ذلك وقد كان؛ قَالَ بَعْضُهُمْ:
198
(بِدُخَانٍ) أي: بجدب وقحط؛ جعل الدخان كناية عن الجدب؛ لوجوه:
أحدها: لما يقال: إن الجائع في القحط كان يرى بينه وبين السماء والناس دخانًا من شدة الجوع، كالذي يشتد به العطش يرى السراب ماء؛ وذلك لأنه لما اشتد الجوع ضعفت أبصارهم وغطاها الجوع؛ فيكون الجوع سبب ترائي الدخان، فاستعير له، ولأن في سنة الجدب تيبس الأرض، وينقطع النبات، فيرتفع الغبار، ويصعد الريح ليبسها، فيشبه ذلك الغبار الذي يرتفع من يبس الأرض بالدخان ولذلك قيل للسنة: غبراء، وقيل: جوع أغبر؛ لأن العرب ربما وضعت الدخان موضع الشر إذا علا، فيقولون: لو كان بيننا: أمر ارتفع له دخان، وقالوا: إن هذا القحط الذي جعل الدخان كناية عنه قد كان، فإنه اشتد بهم القحط، وقلت الأمطار، ويبست الأرض، وارتفع الغبار، وصعدت الريح كالدخان، وضعفت الأبصار لشدة الجوع، حتى كانوا يرون السماء كالدخان؛ على ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كان أحدهم ينظر إلى السماء، فيرى كهيئة الدخان من شدة الجوع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما مثل الأرض يومئذ كمثل بيت أوقد ليس فيه خصاصة.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قد مضى الدخان، وهو سنون كسني يوسف - عليه السلام - فجهد الناس، واللَّه أعلم.
ومنهم من يقول: هو على حقيقة الدخان، وأنه لم يمض بعد، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الدخان لم يمض بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينتفخ الكافر حتى ينفذ، وكذلك قال أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن وغيرهم، لكن صرف الدخان المذكور في الآية على التمثيل أشبه؛ لأن الأمر إذا اشتد وبلغ نهايته يشبه بالنار والدخان، كقوله: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ)، وليس هناك نار، لكن وصف شدة الحرب فعلى ذلك جائز تشبيه ما اشتد بهم من الجوع والجدب والقحط بالدخان الذي ذكر، وكذلك يصف الناس الأمر إذا اشتد؛ يقولون: هاج الدخان وثار، واللَّه أعلم.
199
الآية ٩ وقوله تعالى :﴿ بل هم في شك يلعبون ﴾ يحتمل قوله :﴿ بل هم في شك ﴾ في أمر القرآن، ويحتمل ﴿ بل هم في شك ﴾ في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونحوه، والله أعلم.
الآية ١٠ وقوله تعالى :﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ﴾ اختلف أهل التأويل فيه :
قال بعضهم : ليس هو على حقيقة الدخان، ولكن على التمثيل والمجاز. ثم اختُلف في كيفية ذلك مع اتفاقهم أنه قد مضى ذلك، وقد كان.
قال بعضهم :﴿ بدخان ﴾ أي بجدب وقحط، جعل الدخان كناية عن الجدب لوجوه :
أحدها : لما يقال : إن الجائع في القحط، كان يرى بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع كالذي يشتد به العطش يرى السّراب ماء ؛ وذلك لأنه لما اشتد [ بهم ]١ الجوع، ضعُفت أبصارهم، وغطّاها الجوع، فيكون الجوع سبب ترائي الدخان، فاستُعير له.
[ والثاني ]٢ : لأن في سنة الجدب تتيبّس الأرض، وينقطع النبات، فيرتفع الغبار، ويصعد بالريح٣. فيُشبَّه ذلك الغبار الذي يرتفع من يُبس الأرض بالدخان [ ويسمّى بالدخان ]٤. ولذلك قيل : السّنة غبراء، وقيل : جوع أغبر، لأن العرب ربما وضعت الدخان مواضع الشر إذا علا، فيقولون : لو كان يبِس أمر ارتفع له دخان، وقالوا : إن هذا القحط الذي جعل الدخان كناية عنه، قد كان، فإنه اشتد بهم القحط، وقلّت الأمطار، ويبِست الأرض، وارتفع الغبار، وصعد بالريح كالدخان، وضعُفت الأبصار لشدة الجوع حتى كانوا يرون السماء كأنها على ما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : كان أحدهم ينظر إلى السماء، فيرى كهيئة الدخان /٥٠٣-أ/ من شدة الجوع.
وقال بعضهم : إن مثل الأرض يومئذ كمثل بيت أُوقد ليس فيه خُصاصة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قد مضى الدخان، وهو سِنون كسني يوسف، فجهد الناس، والله أعلم.
ومنهم من يقول : هو على حقيقة الدخان، وإنه لم يمض بعد، وكذلك رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الدخان لم يمض بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفُخ الكافر حتى ينفذ، وكذلك قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه والحسن وغيرهما.
لكن صرف الدخان المذكور في الآية على التمثيل أشبه لأن الأمر إذا اشتدّ، وبلغ نهايته، يُشبه النار والدخان كقوله :﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] وليس هنالك نار، لكن وصف شدة الحرب. فعلى ذلك جائز تشبيه ما اشتد بهم من الجوع والجدب والقحط بالدخان الذي ذكر. وكذلك يصف الناس الأمر إذا اشتدّ ؛ يقولون : هاج الدخان، وثار، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: الريح ليبسها..
٤ ساقطة من م..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) يحتمل قوله: (يَغْشَى النَّاسَ) أي: غشي الناس ما ذكر، وهو عذاب أليم؛ على تأويل من قال: إنه ماضٍ كائن.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يغشى، فيقول الناس: هذا عذاب أليم؛ وهو على قول من يقول: إنه لم يمض بعد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أي: إنا نؤمن بك فيما تدعونا إليه لو كشفت عنا العذاب، في معنى الشرط والجزاء، وهو كقول قوم موسى - عليه السلام - حيث قالوا: (يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ...) الآية.
ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) على الحال؛ كأنهم قالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون للحال.
ثم أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون، وأنهم كذبة فيما قالوا؛ حيث قال - تعالى -: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) يقول: أنى يتوبون؟! أو من أين تنفعهم توبتهم في ذلك بعدما خرجت أنفسهم من أيديهم، وقد جاءهم رسول قبل ذلك الوقت مبين أنه رسول؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ... (١٤) يحتمل: أي: أعرضوا عما جاء به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.
ويحتمل تولوا عما دعاهم إليه رسول اللَّه وأمرهم به.
ويحتمل: تولوا عن رسول اللَّه نفسه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ).
قولهم: (مُعَلَّمٌ) لأنهم يقولون: إنما يعلمه بشر.
وقوله: (مَجْنُونٌ) نسبوه إلى الجنون؛ لوجهين:
أحدهما: ما ذكر: أنه إذا نزل به الوحي، تغيرت حاله ولونه؛ لثقل ذلك عليه، فيقولون: به آفة وجنون.
والثاني: لما رأوه قد خاطر بروحه ونفسه؛ لأنه خالف الفراعنة منهم والأكابر الذين كانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ودعاهم إلى غير الذي كانوا عليه، إذن نسبوه إلى الجنون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) في معاصيكم وكفركم الذي كنتم فيه.
الآية ١٢ وقوله تعالى :﴿ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ﴾ أي إنا نؤمن بك في ما تدعونا إليه لو كشفت١ عنا العذاب في معنى الشرط والجزاء، وهو كقول موسى عليه السلام حين٢ ﴿ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهِد عندك لئن كشفت عنا الرّجز لنُؤمنن لك ﴾ [ الأعراف : ١٣٤ ].
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ إنا مؤمنون ﴾ على الحال كأنهم قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون للحال.
١ في الأصل وم: كشف..
٢ في الأصل وم: حيث..
الآية ١٣ ثم أخبر الله عز وجل أنهم لا يؤمنون، وأنهم كذَبة في ما قالوا حين١ قال تعالى :﴿ أنا لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ﴾ يقول٢ : أنا يتوبون ؟ أو من أين تنفعهم توبتهم في ذلك بعد ما خرجت أنفسهم من أيديهم ﴿ وقد جاءهم رسول ﴾ قبل ذلك الوقت ﴿ مبين ﴾ أنه رسول، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: يقولون..
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ ثم تولّوا عنه ﴾ يحتمل أي أعرضوا عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويحتمل تولّوا عما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم به. ويحتمل تولّوا عن رسول الله نفسه.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا معلَّم مجنون ﴾ قولهم :﴿ معلّم ﴾ لأنهم يقولون :﴿ إنما يعلّمه بشر ﴾ [ النحل : ١٠٣ ].
وقولهم١ :﴿ مجنون ﴾ نسبوه إلى الجنون لوجهين :
أحدهما : ما ذُكر أنه إذا نزل به الوحي تغيّرت حاله ولونه لثقل ذلك عليه، فيقولون : به آفة وجنون.
والثاني : لمّا رأوه قد خاطر بروحه ونفسه لأنه خالف الفراعنة منهم والأكابر الذين كانت همّتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم، ودعاهم إلى غير الذي كانوا عليه، نسبوه٢ إلى الجنون، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وقوله..
٢ أدرج قبلها في الأصل وم: إذا..
الآية ١٥ وقوله تعالى :﴿ إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ﴾ قال بعضهم : إنكم عائدون إلى١ معاصيكم وكُفركم الذي كنتم فيه. وقال بعضهم : إنكم عائدون إلى عذاب يوم القيامة، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وفي..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) إلى عذاب يوم القيامة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك يوم بدر، وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول عامة أهل التأويل، وقالوا ذلك أشد من الدخان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عذاب يوم القيامة؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ والحسن، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يقول - واللَّه أعلم -: ولقد فتنا قوم فرعون بموسى قبل قومك كما فتنا قومك بك.
أو يحتمل أن يقول: ولقد فتنا قوم فرعون بمثل الذي فتنا قومك.
ثم افتتان قوم فرعون بمثل الذي فتن قومه يخرج على وجوه:
أحدها: أن موسى - عليه السلام - قد أتاهم بالبينات المعجزات ما لم يقدر فرعون وقومه على مقابلة تلك الآيات، وعجزوا عن الإتيان بمثلها، فمهما أتاهم بذلك وعرفوا أنها آيات اللَّه - تعالى - كذبوها وردوها ونسبوا موسى إلى السحر والكذب والافتراء على اللَّه تعالى - فعلى ذلك عمل أهل مكة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعاملوه بالذي عامل أُولَئِكَ موسى من النسبة إلى السحر والجنون والكذب والافتراء على اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم.
الآية ١٧ وقوله تعالى :﴿ ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون ﴾ يقول، والله أعلم : ولقد فتنّا قوم فرعون بموسى قبل قومك كما فتنّا قومك بك. ويحتمل أن يقول : ولقد فتنا قوم فرعون بمثل الذي فتنّا قومك.
ثم افتتان قوم فرعون بمثل الذي فتن قومه [ يحتمل ]١ وجوها :
أحدها : أن موسى عليه السلام قد أتاهم بالبينات المعجزات وما لم يقدر فرعون على مقابلة تلك الآيات، وعجزوا عن الإتيان بمثلها، فمهما أتاهم بذلك، وعرفوا أنها آيات الله تعالى، كذّبوها وردّوها، ونسبوا موسى إلى السحر والكذب والافتراء على الله تعالى.
فعلى ذلك عمل أهل مكة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعاملوه بالذي عامل أولئك موسى من النسبة إلى السحر والجنون والكذب والافتراء على الله تعالى، والله أعلم.
[ والثاني : ما ]٢ قال بعضهم : إن فرعون وقومه، ازدروا موسى، وحقّروه، لأنه وُلد فيهم كما ازدرى أهل مكة محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنت أصغرنا وأفقرُنا وأقلّنا حيلة كما قال فرعون لموسى :﴿ ألم نربّك فينا وليدا ﴾ الآية [ الشعراء : ١٨ ].
[ والثالث :]٣ أن يكون أهل مكة سألوا اليهود عن الأنباء التي يجدونها في القتل ليحاجّوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون بذلك ظهورا لكذب من رسول الله في ما كان يخبرهم عن الأنباء المتقدمة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وجاءهم رسول كريم ﴾ كان جميع رسل الله عليهم السلام كراما لأن الله تعالى كان بعثهم إلى قوم جهّال سفهاء كان لهم الركون إلى الدنيا والميل إليها والرغبة فيها، فبعث إليهم كرام الخُلق ليُذكّروا أولئك الأقوام، وتتهيأ لهم [ المعاملة لهم ]٤ والتحمّل منهم سوء٥ ما كانوا يعاملونهم، والله أعلم.
ولذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخُلق العظيم حين٦ قال :﴿ وإنك لعلى خُلق عظيم ﴾ [ القلم : ٤ ].
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: ويحتمل..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل وم: لسوء..
٦ في الأصل وم: حيث..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون وقومه ازدروا موسى وحقروه؛ لأنه ولد فيهم كما ازدرى أهل مكة محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: أنت أصغرنا وأفقرنا وأقلنا حيلة، كما قال فرعون لموسى: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا...) الآية.
ويحتمل أن يكون أهل مكة سألوا اليهود من الأنباء التي يجدونها في كتبهم؛ ليحاجوا بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يطلبون بذلك ظهور الكذب من رسول اللَّه فيما كان يخبرهم من الأنباء المتقدمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) كان جميع رسل اللَّه - عليهم الصلاة والسلام - كرامًا؛ لأن اللَّه - تعالى - كان بعثهم إلى قوم جهال سفهاء، كان لهم الركون إلى الدنيا، والميل إليها والرغبة فيها، فبعث إليهم كرام الخلق؛ ليداروا أُولَئِكَ الأقوام، ويتهيأ لهم المعاملة لهم والتحمل منهم؛ لسوء ما كانوا يعاملونهم، واللَّه أعلم بذلك؛ ولذلك وصف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالخلق العظيم؛ حيث قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ... (١٨) يقول: أن أرسلوا معي بني إسرائيل، وخلوا عنهم، ولا تحبسوهم، ولا تستعبدوهم، فإنهم أحرار.
ويحتمل أن يقول: أرسلوا معي بني إسرائيل فإنهم يرغبون في إجابتي إلى ما أدعوهم إليه، ويطمعون في اتباعي فيما آمرهم به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: إني لكم سول أمين على الوحي والرسالة.
ويحتمل أن يقول: إني كنت أمينًا فيما بينكم، لا يظهر لكم مني خيانة؛ ولا اطلعتم على كذب قط، فلماذا تكذبونني وتنسبونني إلى السحر؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ... (١٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وألا تتكبروا، ولا تتعظموا على اللَّه.
لكن عندنا معناه: وألا تتكبروا وتتعظموا على رسول اللَّه، ولا تتعظموا على عبادة الله وعلى دينه؛ إذ لا أحد يقصد قصد التكبر على اللَّه - تعالى - وأن ينسب إليه، فهو على إرادة أوليائه أو دينه؛ كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: آتيكم بحجة بينة أنها من اللَّه، وأني رسول اللَّه، وهو ما آتاهم من الآيات المعجزات أو الحجج والبراهين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) لا يحتمل أن يكون هذا الكلام
الآية ١٩ وقوله تعالى :﴿ وأن لا تعلُوا على الله ﴾ قال بعضهم : أي وألاّ تتكبّروا، ولا تتعظّموا على الله تعالى.
لكن عندنا معناه : وألا تتكبّروا، ولا تتعظّموا على رسول الله، ولا تتعظموا على عبادة الله وعلى دينه ؛ إذ لا أحد يقصد قصد التكبّر على الله تعالى، وإن تنسّب إليه فهو على إرادة أوليائه أو دينه كقوله تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾ [ محمد : ٧ ] ونحوه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إني آتيكم بسلطان مبين ﴾ أي آتيكم بحجّة بيّنة أنها من الله وأني رسول الله ؛ وهو ما أتاهم من الآيات المعجزات والحجج والبراهين، والله أعلم.
الآية ٢٠ وقوله تعالى :﴿ وإني عُذت بربي وربكم أن ترجُمونِ ﴾ لا يحتمل أن يكون هذا الكلام من موسى عليه السلام على ابتداء بلا سبب، كان من فرعون، ولا أمر، سبق ؛ فكان سببه /٥٠٣-ب/ ونازلتُه، والله أعلم، هو ما ذكر في سورة أخرى حين١ قال :﴿ ذروني أقتل موسى وليدع ربه ﴾ الآية [ غافر : ٢٦ ].
لمّا قال فرعون ذلك، وهمّ أن يقتل موسى [ قال له موسى ]٢ عند ذلك :﴿ وإني عُذت بربي وربكم أن ترجمون ﴾. في ذلك دلالة أنه آية من آيات الله [ آيات ]٣ الرسالة لأنه [ لما ]٤ قال فرعون :﴿ ذروني أقتل موسى وليدع ربه ﴾ ليمنعني عن قتله، فقال :﴿ وإني عُذت بربي وربكم ﴾ الآية دلّ هذا القول على أنه علِم قول فرعون وقصده بقتله وتعبيره بالدعاء إلى الله ليمنعه عن ذلك، وعلِم أن الله تعالى يعصمه عن شرّه وكيده متى قال ذلك.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
من موسى - عليه السلام - على ابتداء بلا سبب كان من فرعون، ولا أمر سبق، فكأن سببه ونازلته - واللَّه أعلم - هو ما ذكر في سورة أخرى؛ حيث قال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الآية، لما قال فرعون ذلك وهم أن يقتل موسى قال له موسى عند ذلك: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) وفي ذلك دلالة آية من آيات اللَّه لرسالته؛ لأنه قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، ليمنعني عن قتله، فقال: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ...) الآية دل هذا القول على أنه علم قول فرعون، وقصده بقتله، وتعبيره بالدعاء إلى اللَّه - تعالى - ليمنعه عن ذلك، وعلم أن اللَّه - تعالى - يعصمه عن شره وكيده حتى قال ذلك.
وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) يقول: فإن لم تصدقوني فيما أدعوكم إليك وآمركم به فاتركوني فأصدق وأومن به، ولا يضركم تصديقي وإيماني.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: دعوني خفافا جانبًا، لا عليَّ ولا لي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) ولا تقتلون.
وقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) وهو كقوله حيث قال: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ)، وكقول نوح - عليه السلام -: (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، ونحو ذلك يقولون: يا ربنا إنا قد عاملناهم المعاملة التي أمرتنا أن نعاملهم، واحتلنا الحيل التي علمتنا أن نحتال معهم، فلم ينجع ذلك فيهم ولا تبعونا، ولا أجابونا إلى ذلك، فهل من حيلة سوى ذلك أو معاملة غير ذلك نعاملهم بها، لعلهم يتبعوننا ويجيبوننا، هذا الدعاء وهذا القول منهم يكون بعد ما أجهدوا أنفسهم في دعائهم إلى الحق زمانًا طويلا ليس يحتمل في ابتداء الأمر.
وقوله: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) كان في إخراج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من بين أظهر أعدائهم ليلا من غير أن شعر علم أحد من أعدائهم بذلك، وهم العدد الذي ذكر في القصة أنهم زهاء ستمائة ألف - آية عظيمة عجيبة لموسى - عليه السلام - على رسالته؛ إذ خروج عدد ستين من بين أظهرهم عسير صعب، فكيف خروج العدد الذي ذكر في القصة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: قوم فرعون يتبعونهم؛ ليردوهم إلى الأمر الذي كانوا يستعملونهم من قبل، من نحو الاستخدام والاستعباد، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يتبعوهم للعناد والحرب؛ لأنه ذكر في القصة أنهم أخذوا أموالهم من
الآية ٢٢ وقوله تعالى :﴿ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ﴾ وهو كقوله حين١ قال :﴿ وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ﴾ [ الزخرف : ٨٨ ] وقول نوح عليه السلام ﴿ رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ﴾ ﴿ فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ﴾ [ نوح : ٥ و٦ ] ونحو ذلك ؛ يقولون : يا ربنا إنا قد عاملناهم المعاملة التي أمرتنا أن نعاملهم، واحتلنا الحيل التي علّمتنا أن نحتال معهم، فلم ينجع ذلك فيهم، ولم٢ يتبعونا، ولا أجابونا إلى ذلك. فهل من حيلة سوى ذلك أو معاملة غير ذلك نُعاملهم بها، لعلّهم يتبعوننا، ويجيبوننا ؟
هذا الدعاء وهذا القول منهم يكون [ بعد ]٣ ما أجهدوا أنفسهم في دعائهم إلى الحق زمانا طويلا، ليس يحتمل في ابتداء الأمر.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: ولا..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ فأسر بعبادي ليلا إنكم متّبَعون ﴾ كان في إخراج موسى عليه السلام وبني إسرائيل من بين أظهُر أعدائهم ليلا من غير أن شعر، وعلم أحد من أعدائهم بذلك، وهم العدو [ الذين ذُكروا ]١ في القصة أنهم زُهاء ستّ مائة ألف، آية عظيمة عجيبة لموسى عليه السلام على رسالته، إذ خروج عدد ستّين من بين أظهُرهم عسير صعب، فكيف خروج العدد الذي ذُكر في القصة ؟ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنكم متّبعون ﴾ هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : أي قوم فرعون يتبعونهم ليردّوهم إلى الأمر الذي كانوا يستعملونهم من قبل من نحو الاستخدام والاستعداد، والله أعلم.
والثاني : أي يتبعونهم للقتال والحرب لأنه ذُكر في القصة أنهم أخذوا أموالهم من الحُليّ واللباس، فخرجوا بها. فجائز أن يكون اتّباعهم إياهم ليقاتلوهم كما يقاتَل الأعداء.
١ في الأصل: الذي ذكر، في م: الذين ذكر..
الحلي واللباس فخرجوا بها، فجائز أن يكون اتباعهم إياهم ليقاتلوهم كما يقاتل الأعداء.
وقوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) يحتمل قوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ) كأن موسى - عليه السلام - كان يضرب البحر بعصا، ليصل الماء بعضه ببعض؛ لئلا يعبر فرعون وقومه، فقال له: اتركه كما هو (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).
ثم اختلف في قوله: (رَهْوًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هي فارسية عربت؛ أي: اترك البحر " راه ".
وقال بعض أهل اللسان: (رَهْوًا) أي: ساكنًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَهْوًا) أي: متصلا؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وقال أهل التأويل: (رَهْوًا) أي: يابسًا، وهو كقوله: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا).
وقوله - تعالى -: (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قد وعدهم - جل وعلا - أن يغرق فرعون وقومه ففعل.
وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) أي: ناعمين.
وقيل: معجزين.
من الناس من قال: إن هذه الآية مخالفة للآية الأخرى في ظاهر المخرج، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -، (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ...) الآية، ثم قال اللَّه - تعالى - (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)، فإذا كانت قد أجيبت دعوتهما في طمس أموالهم فطمست لا محالة فكيف ذكر (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ...) الآية، وما معنى قوله: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ).
لكن عندنا أنه لا مخالفة بين الآيتين؛ إذ جائز أن يكون طمس أموالهم التي كانت لهم من الحلي وغير ذلك من الصامت ونحوه خاصة، فأما الأموال التي كانت لهم بالشركة من نحو البستان والزروع وأمثالها فتلك لم يطمسها، ولكنه تركها على ما هي عليه لبني إسرائيل، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) أي: مثل ذلك أورثناها قومًا آخرين، وهو كما ذكر في آية أخرى حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)، فيه أن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر،
الآيات ٢٥ -٢٧ وقوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ ﴿ و زروع ومقام كريم ﴾ ﴿ ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين ﴾ أي ناعمين وقيل : فرحين١.
من الناس من قال : إن هذه الآية مخالفة للآية الأخرى في ظاهر المخرج، وهو قوله عز وجل ﴿ ربنا ليُضلّوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم ﴾ الآية [ يونس : ٨٨ ] ثم قال الله تعالى :﴿ قد أُجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : ٨٩ ] فإذا كانت قد أجيبت دعوتهما في طمس أعمالهم، فطُمست، لا محالة. فكيف ذكر ﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ الآيات٢ ؟
١ في الأصل وم: معجزين..
٢ في الأصل وم: الآية..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:الآيات ٢٥ -٢٧ وقوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ ﴿ و زروع ومقام كريم ﴾ ﴿ ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين ﴾ أي ناعمين وقيل : فرحين١.
من الناس من قال : إن هذه الآية مخالفة للآية الأخرى في ظاهر المخرج، وهو قوله عز وجل ﴿ ربنا ليُضلّوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم ﴾ الآية [ يونس : ٨٨ ] ثم قال الله تعالى :﴿ قد أُجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : ٨٩ ] فإذا كانت قد أجيبت دعوتهما في طمس أعمالهم، فطُمست، لا محالة. فكيف ذكر ﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ الآيات٢ ؟
١ في الأصل وم: معجزين..
٢ في الأصل وم: الآية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:الآيات ٢٥ -٢٧ وقوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ ﴿ و زروع ومقام كريم ﴾ ﴿ ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين ﴾ أي ناعمين وقيل : فرحين١.
من الناس من قال : إن هذه الآية مخالفة للآية الأخرى في ظاهر المخرج، وهو قوله عز وجل ﴿ ربنا ليُضلّوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم ﴾ الآية [ يونس : ٨٨ ] ثم قال الله تعالى :﴿ قد أُجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : ٨٩ ] فإذا كانت قد أجيبت دعوتهما في طمس أعمالهم، فطُمست، لا محالة. فكيف ذكر ﴿ كم تركوا من جنات وعيون ﴾ الآيات٢ ؟
١ في الأصل وم: معجزين..
٢ في الأصل وم: الآية..

الآية ٢٨ وما معنى قوله :﴿ كذلك وأورثناها قوما آخرين ﴾ ؟
لكن عندنا أنه لا مخالفة بين الآيتين، إذ جائز أن يكون طمس أموالهم التي كانت من الحُليّ وغير ذلك من الصامت ونحوه خاصة.
فأما الأموال التي كانت لهم بالشركة من نحو [ البساتين والزروع ]١ وأمثالها فذلك لم يطمسها، ولكنه تركها على ما هي عليها، لبني إسرائيل، وهو قوله عز وجل :﴿ كذلك وأورثناها قوما آخرين ﴾ أي مثل ذلك ﴿ وأورثناها قوما آخرين ﴾ وهو كما ذكر في آية أخرى [ حين قال ]٢ :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ]. فيه أن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر، ونزلوا أوطانهم ومنازلهم وبساتينهم.
١ في الأصل وم: البستان وزروع..
٢ في الأصل: حيث، في م، حيث قال..
ونزلوا أوطانهم ومنازلهم وبساتينهم.
وقوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض؛ بل سروا بذلك واستبشروا بهلاكهم؛ فيكون ذكر نفي البكاء لإثبات ضده وهو السرور والفرح، لا لعينه، وذلك جائز في اللغة أن يذكر نفي الشيء ويراد به إثبات ضده، لا عين النفي، كقوله - تعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، ليس المراد إثبات نفي الربح؛ أي: لم يربح فحسب؛ بل المراد إثبات الخسران والوضيعة، أي: خسرت ووضعت؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أي: ضحكت وسرت واستبشرت بهلاكهم؛ لأنهم جميعًا أبغضوهم وعادوهم لادعائهم ما ادعوا من الألوهية لفرعون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) يحتمل أن المراد به ما روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ما من مؤمن إلا وله باب في السماء يصعد إليه عمله الصالح، وفي الأرض مصلى يصلي فيه، فإذا مات بكى ذلك عليه كذا كذا يومًا " وهم ليس لهم ذلك فلا يبكى عليهم.
وجائز أن يكون - أيضًا - قوله - تعالى -: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أي: لم يبق لهم أحد يبكي عليهم من الأولاد وغيرهم؛ لأنهم استؤصلوا جميعًا من الأولاد وغيرهم، فلم يبك عليهم أحد، فأمَّا سائر الموتى قد يبقى لهم من يبكي عليهم؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يذكر بكاء السماء إذا عظم الأمر على التمثيل، من نحو موت الملوك والقادة ومن عظم قدره عندهم، فيخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن موت فرعون وأتباعه لم يعظم على أهل السماء والأرض؛ لما لا قدر لهم عندهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ) الذي نزل بفرعون وقومه، وهو الغرق في البحر، أغرق أُولَئِكَ ونجى هَؤُلَاءِ.
ويحتمل أن يكون المراد: أنه نجاهم من العذاب الذي كانوا يعذبون؛ من نحو القتل والاستخدام والاستعباد وأنواع العذاب الذي كانوا يعذبون هم ما داموا بين أظهرهم وفي
الآية ٣٠ وقوله تعالى :﴿ ولقد نجّينا بني إسرائيل من العذاب المهين ﴾ قال بعضهم : نجّينا بني إسرائيل من العذاب الذي نزل بفرعون وقومه، وهو الغرق في البحر ؛ [ أغرق ]١ أولئك، ونجّى هؤلاء.
ويحتمل أن يكون المراد أنه نجّاهم من العذاب الذي كانوا يُعذّبون من نحو القتل والاستخدام والاستعباد وأنواع العذاب الذي كانوا يعذّبونهم ما داموا بين أظهُرهم وفي أيديهم، فنجّاهم من ذلك حين٢ أخرجهم من بين أيديهم، والله أعلم.
وهو أشبه بما قال :﴿ ولقد نجّينا بني إسرائيل من العذاب المهين ﴾.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: حيث..
أيديهم، فنجاهم من ذلك؛ حيث أخرجهم من بين أيديهم - واللَّه اعلم - وهو أشبه؛ لما قال: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١).
قوله: (عَالِيًا) أي: غالبًا عليهم، قاهرًا لهم بأنواع القهر الذي كان يقهرهم، والله أعلم.
وقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) أي: اخترنا بني إسرائيل.
وقوله: (عَلَى عِلْمٍ) يخرج هذا على وجوه:
أحدها: أي: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) أي: بسبب علم آتيناهم ذلك، لم يؤت ذلك غيرهم؛ لتظهر فضيلة العلم على العالمين وشرفه، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) منا بأسباب فيهم وأشياء لم تعلم تلك الأسباب والمعاني في غيرهم، بها استوجبوا الاختيار على العالمين.
والثالث: أي: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) أي: بسبب علم أحوجنا غيرهم إليهم، فصاروا مختارين مفضلين بسبب تعليمهم إياهم ما احتاجوا إليه؛ فيكون لهم فضل الأستاذ على التلميذ، وهذا كما يقال: إن العرب أفضل من الموالي؛ لأن الموالي احتاجوا إلى العرب في معرفة لسانهم، ومعرفة أشياء احتاجوا إليها، فاستوجبوا الفضيلة؛ لحاجتهم إليهم؛ ولذلك فضلت قريش على سائر العرب؛ لما احتاجت سائر العرب إلى قريش في معرفة أشياء لا يصلون إلى ذلك إلا أنهم فضلوا على غيرهم لذلك؛ فعلى ذلك يحتمل أنه أحوج إلى بني إسرائيل غيرهم في معرفة أشياء، فاستوجبوا بذلك الاختيار والفضيلة على غيرهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣) من وجهين:
أحدهما: أي: محنة بينة، وهي أنواع ما امتحنهم من البلايا والشدائد، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون قوله: (بَلَاءٌ مُبِينٌ) أي: نعم عظيمة، وهو ما آتاهم من أنواع النعم من المن، والسلوى، وتظليل الغمام عليهم، وخروج العيون من الحجر، ومجاوزتهم من البحر، وإهلاك عدوهم، وغيرهم من النعم التي آتاهم مما لا يحصى، وهو ما ذكر في سورة البقرة، وهو قوله - تعالى -: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي: نعمة عظيمة من ربكم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَمَا خَلَقْنَا
الآية ٣٢ وقوله تعالى :﴿ ولقد اخترناهم على علم على العالمين ﴾ أي /٥٠٤-أ/ اخترنا بني إسرائيل.
وقوله عز وجل :﴿ على علم ﴾ يخرّج هذا على وجوه :
أحدها : أي اخترناهم على علم أي بسبب علم، آتيناهم ذلك، لم نُؤت ذلك غيرهم ليُظهر فضيلة العلم على العالمين وشرفه، والله أعلم.
والثاني : يحتمل :﴿ اخترناهم على علم ﴾ منا بأسباب فيهم وأشياء، لم تُعلم تلك الأسباب والمعاني في غيرهم، بها استوجبوا الاختيار على العالمين.
والثالث : أي اخترناهم على علم، أي بسبب علم أخرجنا غيرهم إليه، فصاروا مختارين مفضّلين بسبب تعليمهم إياهم ما احتاجوا إليه، أي فيكون لهم فضل الأستاذ على التلميذ.
وهذا كما يقال١ : إن العرب أفضل من الموالي لأن الموالي احتاجوا إلى العرب في معرفة لسانهم ومعرفة أشياء احتاجوا إليها، فاستوجبوا الفضيلة لحاجتهم إليهم، وكذلك٢ فضل قريش على سائر العرب لما احتاجت سائر العرب إلى قريش في معرفة أشياء، لا يصلون إلى ذلك إلا أنهم فُضّلوا على غيرهم بذلك٣.
فعلى ذلك يحتمل أنه أحوج إلى بني إسرائيل غيرهم في معرفة أشياء، فاستوجبوا بذلك الاختيار والفضيلة على غيرهم، والله أعلم.
١ في الأصل وم: يقول..
٢ في الأصل وم: ولذلك..
٣ في الأصل وم: لذلك..
الآية ٣٣ وقوله تعالى :﴿ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ﴾ [ يحتمل قوله ﴿ بلاءٌ مبين ﴾ ]١ وجهين :
أحدهما : أي محنة بيّنة، وهي أنواع ما امتحنهم من البلايا والشدائد، والله أعلم.
والثاني : يحتمل أن يكون قوله :﴿ بلاء مبين ﴾ أي نِعم عظيمة، وهو ما آتاهم من أنواع النعم من المنّ والسلوى وتظليل الغمام عليهم وخروج العيون من الحجر ومجاوزتهم من البحر وإهلاك عدوّهم وغيرها٢ من النعم التي آتاهم ممّا لا يُحصى، وهو ما ذكر في سورة البقرة، وهو قوله تعالى :﴿ وفي ذلكم بلاء من ربك عظيم ﴾ [ البقرة : ٤٩ ] أي نعمة عظيمة من ربكم، والله أعلم.
١ في الأصل وم: من..
٢ في الأصل وم: وغيرهم..
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) يقول اللَّه تعالى - وهو أعلم -: إن الذي يحمل هَؤُلَاءِ على الإنكار والكفر بك وترك الإيمان بك - إنكارهم البعث والإحياء بعد الموت؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، ممن آمن بالآخرة فأما من لم يؤمن بالآخرة لا يؤمن به، واللَّه أعلم.
وأصله أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث لدعاء الخلق إلى الزهد في هذه الدنيا، والرغبة في الآخرة، والقطع عن جميع شهواتهم ومناهم في الدنيا، وتأخير ذلك إلى الآخرة، فمن آمن بالآخرة سهل عليه ترك ذلك كله، وهانَ عليه قطع نفسه عن قضاء ذلك كله، ومن أنكر الآخرة وجحدها اشتد ذلك عليه وصعب، وحمله ذلك على إنكارها والجحود لها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) هذا منهم احتجاج عليه، يقولون: لو كنت صادقًا فيما تقول: إنه بعث وإحياء، فأحيي من ذكروا وائت بهم، لكن هذا احتجاج باطل؛ لأن الآيات والحجج ليست تنزل وتأتي على ما تشتهي أنفس أُولَئِكَ، ولكن تنزل على ما توجبه الحكمة، وعلى ما فيه الحجة، لا على ما يريد المقام عليهم الحجة، كما في الشاهد أن الواجب على المدعي إقامة ما هو حجة في ذاتها، لا إقامة ما يريدها المدعى عليه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أتاهم من البيان والحجة ما يوجب البعث والإحياء بعد الموت لو تأملوا ولم يكابروا عقولهم، وكون سؤالهم منه آية أخرى مردود عليهم، والله أعلم.
وبعد: فإن اللَّه - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - قد وعد البقاء لهذه الأمة إلى يوم القيامة، ولو أعطاهم ما سألوا من الآيات ثم أنكروها أهلكوا واستؤصلوا؛ إذ من سنته أن كل آية أتت ونزلت على إثر سؤال كان منهم، ثم أنكروا - كان في ذلك هلاك وعذاب؛ لذلك لم يعطهم ما سألوا، واللَّه أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:الآيتان ٣٤ و٣٥ وقوله تعالى :﴿ إن هؤلاء ليقولون ﴾ ﴿ إن هي إلا موتتُنا الأولى وما نحن بمُنشَرين ﴾ يقول الله تعالى، وهو أعلم : إنّ الذي يحمل هؤلاء على الإنكار والكفر بك وترك الإيمان بك وإنكارهم البعث والإحياء بعد الموت كقوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] فأما من لم يؤمن بالآخرة لا يؤمن به، والله أعلم.
وأصله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث لدعاء الخلق إلى الزهد في هذه الدنيا والرغبة في الآخرة والقطع عن جميع شهواتهم ومُناهم في الدنيا وتأخير ذلك إلى الآخرة.
فمن آمن بالآخرة سهُل عليه ترك ذلك كلّه، وهان عليه قطع نفسه عن قضاء ذلك كلّه. ومن أنكر الآخرة وجحدها اشتدّ ذلك عليه، وصعُب حمله ذلك على إنكارها والجحود لها، والله أعلم.

الآية ٣٦ وقوله تعالى :﴿ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ﴾ هذا منهم احتجاج عليه ؛ يقولون : لو كنت صادقا فيما تقول : إنه بعث وإحياء، فأخّر من ذُكر، وأرِ آيات بهم.
لكن هذا احتجاج باطل لأن الآيات والحجج ليست تنزل، وتأتي على [ ما ]١ تشتهي أنفس أولئك، ولكن تنزل على [ ما ]٢ توجبه الحكمة وعلى ما فيه الحجة لا على ما يريد المقام عليهم الحجة كما في الشاهد أنّ الواجب على المُدّعي إقامة ما هو حجة في ذاتها لا إقامة ما يريد٣ من المُدّعى عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أتاهم من البيان والحجة ما يوجب البعث والإحياء بعد الموت، لو تأمّلوا، ولم يكابروا عقولهم. ويكول سؤالهم منه آية أخرى مردودا٤ عليهم، والله أعلم.
وبعد فإن الله تعالى عز وجل قد وعد البقاء لهذه الأمة إلى يوم القيامة، ولو أعطاهم ما سألوا من الآيات، ثم أنكروها، أُهلكوا، واستُؤصِلوا، إذ من سنّته أن كل آية، أتت، ونزلت، على إثر سؤال كان منهم، ثم أنكروا، كان في ذلك هلاك وعذاب. لذلك لم يُعطهم ما سألوا، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: ها..
٤ في الأصل وم: مردود..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) ليس في هذا جواب لقولهم: (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ولم يأت بجواب ذلك، وإنما كان؛ لأنهم لم يستحقوا الجواب لهذا السؤال؛ لأنهم سألوا ذلك تعنتًا وعنادًا.
ويحتمل أن يكون في هذا جواب لقولهم وسؤالهم الآية المخترعة، وفي الآية دلالة على البعث أيضًا:
بيان الأول: أنه أخبر عن قوم تبع ومن ذكر من الأمم الخالية، كانوا ينكرون رسالة رسلهم، ويكذبونهم، ويوعدونهم الرسل بالعذاب والهلاك، فيكذبونهم - أيضًا - فيما يوعدون من البعث، فجاءهم الهلاك، فيقول: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ومن ذكر، أي: أُولَئِكَ هم أشد قوة أم هَؤُلَاءِ؟ وهم علموا أن أُولَئِكَ أشد قوة وبطشًا، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع من عذاب اللَّه الذي نزل بهم بتكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث، فأنتم دون أُولَئِكَ، فكيف يتهيأ لكم الامتناع من العذاب إذا نزل بكم؟! وهو كقوله - تعالى -: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ)، وإذا لم يتهيأ لهم الدفع ومن سنته الاستئصال بالتكذيب للآيات المخترعة، وقد وعد البقاء لهذه الأمة إلى يوم القيامة وكونه رحمة للخلق؛ لذلك لم يعطهم الآية التي سألوا، واللَّه أعلم.
وأما الثاني: وهو أنه لما أخبر: أن تعذيب أُولَئِكَ الكفرة؛ لتكذيب الرسل وإنكار البعث؛ فدل أن البعث حق حتى يستحق منكره العذاب، واللَّه أعلم.
وذكر أن تبعًا كان رجلا صالحًا، وعائشة - رضي اللَّه عنها - تقول: " لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان رجلا صالحًا ".
وذكر أنه كان رسولا، وقد ذكرنا نعته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) وقال في آية أخرى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا): إن الكفرة كانوا لا يطلقون القول، فلا يقولون: إن اللَّه - تعالى - خلقهما وخلق ما بينهما باطلا ولعبًا، لكن خلق ذلك كله على فتياهم وظنهم، وعلى ما عندهم يصير عبثًا باطلا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون: أن لا بعث، ولا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، فإذا كان فتياهم وظنهم أن لا بعث ولا نشور، يكون خلقهم وخلق السماء والأرض وما ذكر - باطلا ولعبًا؛ لأن المقصود بخلق ما ذكر -على زعمهم- لم يكن إلا الإفناء والإهلاك، ومن لم
الآية ٣٨ وقوله تعالى :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ﴾ وقال في آية أخرى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ﴾ [ ص : ٢٧ ] إن الكفرة كانوا لا يُطلقون القول، فلا يقولون : إن الله تعالى خلقهما، وخلق ما بينهما باطلا ولعبا لكن خلق ذلك كله على فُتْياهم وظنّهم وعلى [ ما ]١ عندهم يصير عبَثا باطلا لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون : أن لا بعث، ولا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب.
فإذا كان فُتياهم وظنهم أن لا بعث ولا نشور يكون خلقهم وخلق السماء والأرض وما ذكر باطلا لعبا لأن المقصود بخلق ما ذكر على زعمهم لم يكن إلا الإفناء والإهلاك. ومن لم يقصد في بنائه إلا النقض في الشاهد والإفناء في العاقبة كان في بنائه وقصده سفيها غير حكيم.
فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى في خلقه إياهم وإنشائه لهم وتحويله إياهم من حال إلى حال أخرى من حال النطفة إلى حال العلقة إلى حال المُضغة إلى حال تصوير الإنسان ثم إلى [ حال ]٢ الكِبرِ. لو لم يكن ما ذكرنا من المقصود سوى الإفناء والإهلاك على ما زعموا كان سَفها باطلا غير حكمة لما ذكرنا من قصْد من قَصَد في البناء الإفناء خاصة لا غير كان في فعله وقصده لاعبا عابثا سفيها.
ولذلك سفّه الله تعالى تلك المرأة التي لم يكن قصدها في غزلها إلا نقضه في العاقبة حين٣ قال :﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ﴾ الآية [ النحل : ٩٢ ].
فعلى ذلك خلق الخَلْق إذ لم يكن بعث ولا نشور على ما قال أولئك الكفرة، وظنّوا، كان كذلك سَفَها غير حكمة. ولذلك قال :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا تُرجعون ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] جعل خَلقه إياهم [ لا ]٤ للرجوع إليه /٥٠٤-ب/ عبثا، والله الموفّق.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ ساقطة من الأصل وم..
يقصد في بنائه إلا النقض في الشاهد والإفناء في العاقبة، كان في بنائه وقصده سفيهًا، غير حكيم، فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - في خلقه إياهم، وإنشائه لهم، وتحويله إياهم من حال إلى حال أخرى: من حال النطفة إلى حال العلقة إلى حال المضغة إلى حال تصوير الإنسان، ثم إلى حال الكبر، لو لم يكن ما ذكرنا من المقصود سوى الإفناء والإهلاك على ما زعموا - كان سفهًا باطلا، غير حكمة؛ لما ذكرنا: من قصد في البناء الإفناء خاصة لا غير، كان في فعله وقصده لاعبًا عابثًا سفيهًا؛ ولذلك سفه اللَّه تلك المرأة التي لم يكن قصدها في غزلها إلا نقضه في العاقبة؛ حيث قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا...) الآية، فعلى ذلك خلق اللَّه إذا لم يكن بعث ولا نشور -على ما قال أُولَئِكَ الكفرة وظنوا- كان كذلك سفهًا غير حكمة؛ ولذلك قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، جعل خلقه إياهم لا للرجوع إليه عبثًا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ... (٣٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: إلا لإقامة الحق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا لأمر كائن مراد.
وأصل الحق: هو أن يحمد عليه فاعله في العاقبة، والباطل هو ما يذم عليه فاعله، وإنما خلق - جل وعلا - ما ذكر؛ ليحمد على فعله، لا ليذم، ولو لم يكن القصد في خلقهم إلا الإفناء والإهلاك لكان لا يحمد عليه، ولكن يذم، على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أنهما لم يخلقا باطلا وعبثًا، وهو ما ظنوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) سمي يوم القيامة مرة: يوم الجمع، ومرة يوم التفريق، ومرة يوم الفصل، فهو يوم الجمع؛ لما يجمع فيه الخلائق جميعًا، وكذلك يوم الحشر.
ويوم الفصل يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يفصل بين أوليائه وأعدائه، ينزل أولياءه في دار الكرامة والمنزلة وهي الجنة، وأعداءه في دار الهوان والعقاب، وهو ما قال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).
ويحتمل أن يكون قوله: (يَوْمَ الْفَصْلِ) أي: يوم القضاء والحكم، أي: يقضي ويحكم بين المؤمنين والكافرين فيما تنازعوا واختلفوا في الدنيا بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
الآية ٤٠ وقوله تعالى :﴿ إن يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين ﴾ سمّى يوم القيامة مرة ﴿ يوم الجَمْع ﴾ [ الشورى : ٧ ] ومرّة يوم ﴿ الفصل ﴾ [ الصافات : ٢١ و. . . ] فهو يوم ﴿ الجمع ﴾ الجمع لما يجتمع فيه الخلائق جميعا وكذلك يوم ﴿ الحشر ﴾ [ الحشر : ٢ ]. ويوم الفصل يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يفصل بين أوليائه في دار الكرامة والمنزلة، وهي الجنة، وأعدائه في دار الهوان والعقاب، وهو١ ما قال :﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ].
[ والثاني ]٢ : يحتمل أن يكون قوله :﴿ يوم الفصل ﴾ يوم القضاء والحُكم، أي يقضي، ويحكُم بين المؤمنين والكافرين في ما تنازعوا، واختلفوا في الدنيا بقوله :﴿ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ [ يونس : ٩٣ ].
ويحتمل أيضا ما ذكرنا من الفصل بين الأولياء والأعداء ما [ لو ]٣ لم يكن ذلك في الآخرة بينهم كان جامعا مُسوّيا بين الأولياء والأعداء، وهم استووا، واجتمعوا في الدنيا في ظاهر أحوالهم. ومن سوّى بين وليّه وعدوّه كان سفيها غير حكيم. دلّ أنّ هناك دارا أخرى يفصل بينهما، ويُميّز، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وهي..
٢ في الأصل وم: و..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
ويحتمل - أيضًا - ما ذكرنا من الفصل بين الأولياء والأعداء ما لو لم يكن ذلك في الآخرة بينهم وإن جامعًا مسويًا بين الأولياء والأعداء، وهم استووا واجتمعوا في الدنيا في ظاهر أحوالهم، ومن سوى بين وليه وعدوه، كان سفيهًا غير حكيم - دل أن هنالك دارًا أخرى يفصل بينهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) هذا في الكفار خاصة يخبر أنه لا ولي ينفعهم في الآخرة، ولا يعين بعضهم بعضًا على ما يعان في الدنيا إذا نزل ببعض منهم بلاء وشدة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ...) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاخْشَوْا يَوْمًا...) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، واللَّه الموفق.
ثم قوله - تعالى -: (لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) يحتمل مولى الأعلى ومولى الأسفل، على ما يعين بعضهم بعضا في الدنيا.
ويحتمل كل ولي وقريب؛ يخبر أنه لا قريب يملك دفع ما نزل به، ولا ولي، ولا يملك نصره ولا معونته؛ لأن ولايتهم يومئذ تصير عداوة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ...) الآية، استثنى المتقين، وعلى ذلك استثنى في هذه الآية أيضًا حيث قال: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ... (٤٢) ومنَّ عليه، وهداه الإيمان، ورزقه التوحيد فإنه يكون بعضهم لبعض شفعاء وأولياء ينصر بعضهم بعضا، ويشفع بعضهم لبعض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ): (الْعَزِيزُ) في نقمته من أعدائه لأوليائه (الرَّحِيمُ) للمؤمنين الذين استثنى في الآية؛ حيث قال: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ).
وقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) ظاهر الآية أنها طعام كل أثيم، لكنها ليست بطعام كل أثيم؛ بل هي طعام أثيم دون أثيم، وهو الكافر؛ لأن الإثم المطلق هو الإثم من كل وجه، وهو الكافر، فأما المؤمن المسلم لا يكون أثيمًا مطلقًا مع قيام إيمانه وكثير طاعته؛ فلا يكون صاحب الكبيرة داخلا تحت الآية.
قال بعض أهل التأويل: إنه لما نزل قوله - تعالى -: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ) أتى بعض الكفار بالعسل والزبد، وقالوا لأصحابهم: تعالوا نتزقم فإن
الآية ٤٢ وعلى ذلك استثنى في هذه الآية أيضا حين١ قال :﴿ إلا من رحم الله ﴾ ومنّ عليه، وهداه الإيمان، ورزقه التوحيد، فإنه يكون بعضهم لبعض شفعاء وأولياء، ينصر بعضهم بعضا، ويشفع بعضهم لبعض، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنه هو العزيز الرحيم ﴾ العزيز في نقمته من أعدائه لأوليائه، الرحيم للمؤمنين الذين استثنى في الآية حين٢ قال :﴿ إلا من رحم الله ﴾.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: حيث..
الآيتان ٤٣ و٤٤ وقوله تعالى :﴿ إن شجرة الزّقوم ﴾ ﴿ طعام الأثيم ﴾ ظاهر الآية أنها طعام كل أثير دون إثم، لأن الإثم المطلق هو الإثم من كل وجه، وهو [ صفة ]١ الكافر. فأما المؤمن المسلم فلا٢ يكون أثيما مطلقا مع قيام إيمانه وكثير طاعته، فلا يكون. وصاحب الكبيرة [ يكون ]٣ داخلا تحت الآية.
قال بعض أهل التأويل٤ : يدل قوله تعالى :﴿ إن شجرة الزقوم ﴾ ﴿ طعام الأثيم ﴾ [ على أنه ]٥ أتى بعض الكفار بالعسل والزّبد، وقالوا لأصحابهم : تعالوا نتزقّم، فإن محمدا وعدنا بذلك لما كان الزقوم، هو الزُّبد والتمر أو العسل بلغة قوم من العرب، فنزل عند ذلك قوله تعالى :﴿ إنها شجرة تخرُج في أصل الجحيم ﴾ ﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٤ و٦٥ ] أخبر أنها شجرة أُنشئت من النار لقوله٦ تعالى :﴿ إنها شجرة تخرُج في أصل الجحيم ﴾ ليست كسائر الأشجار.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: أنه..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: كقوله تعالى..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:الآيتان ٤٣ و٤٤ وقوله تعالى :﴿ إن شجرة الزّقوم ﴾ ﴿ طعام الأثيم ﴾ ظاهر الآية أنها طعام كل أثير دون إثم، لأن الإثم المطلق هو الإثم من كل وجه، وهو [ صفة ]١ الكافر. فأما المؤمن المسلم فلا٢ يكون أثيما مطلقا مع قيام إيمانه وكثير طاعته، فلا يكون. وصاحب الكبيرة [ يكون ]٣ داخلا تحت الآية.
قال بعض أهل التأويل٤ : يدل قوله تعالى :﴿ إن شجرة الزقوم ﴾ ﴿ طعام الأثيم ﴾ [ على أنه ]٥ أتى بعض الكفار بالعسل والزّبد، وقالوا لأصحابهم : تعالوا نتزقّم، فإن محمدا وعدنا بذلك لما كان الزقوم، هو الزُّبد والتمر أو العسل بلغة قوم من العرب، فنزل عند ذلك قوله تعالى :﴿ إنها شجرة تخرُج في أصل الجحيم ﴾ ﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٤ و٦٥ ] أخبر أنها شجرة أُنشئت من النار لقوله٦ تعالى :﴿ إنها شجرة تخرُج في أصل الجحيم ﴾ ليست كسائر الأشجار.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: أنه..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: كقوله تعالى..

محمدًا وعدنا بذلك؛ لما كان الزقوم هو الزبد والتمر والعسل بلغة قوم من العرب، فنزل عند ذلك قوله - تعالى -: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ...) الآية، أخبر أنها شجرة أنشئت من النار، بقوله - تعالى -: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) الآية، ليست كسائر الأشجار، ثم شبهها بالمهل بقوله - تعالى -: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) والمهل: دُرْدِيُّ الزيت.
ثم يحتمل تشبيهها بالمهل وجهين:
أحدهما: لالتصاقه بالبدن؛ لأنه قيل: إنه ألصق الأشياء بالبدن.
ويحتمل أن يشبهها بذلك؛ لكثرة ألوانها وتغيرها من حال إلى حال.
ثم الإشكال أنه ليس في أكل دُرْدِيُّ الزيت فضل شدة وكثير مؤنة، فما معنى التشبيه به؟ لكن نقول: إنّه بين أن ذلك المهل والدردي من النار؛ حيث قال: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ).
ثم الإشكال أن شجرة الزقوم كيف تكون للأثيم؟ فيحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يخرج منها شيء ويسيل، فيسقى ذلك الكافر.
ويحتمل: أنه يأكلها كما هي، فتذوب في بطنه، فتغلي، فيكون ما ذكر.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى فضة قد أذيبت، فقال: هذا المهل، فجائز أن يكون على هذا كل شيء يذاب ويحرق فهو المهل، والحميم هو الشيء الحار الذي قد انتهى حره غايته واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ظاهر هذا أن يكون بعدما أدخلوا في النار، لكن يحتمل أيضًا أن يكون ذلك في أول ما يراد أن يدخلوا النار؛ كقوله: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)، فعلى ذلك (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ).
ثم قوله - تعالى -: (فَاعْتِلُوهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ادفعوه (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) أي: إلى وسط الجحيم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاعْتِلُوهُ) أي: قودوه قودًا إلى (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) يقال: جيء بفلان يعتل إلى السلطان؛ أي: يجرُّ ويُقاد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السوق الذي فيه شدة وتعنيف؛ أي: سوقوه سوقًا شديدًا عنيفًا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:الآيتان ٤٥ و٤٦ ثم شبّهها بالمهل يقوله تعالى :﴿ كالمُهل يغلي في البطون ﴾ ﴿ كغلي الحميم ﴾ والمُهل درديّ الزيت، ثم يحتمل تشبيهُها بالمُهل لوجهين١ :
أحدهما لالتصاقه بالبدن، لأنه قيل : إنه ألصق الأشياء بالبدن.
[ والثاني ]٢ : يحتمل أن يشبّهها بذلك لكثرة تلوّنها وتغيُّرها من حال إلى حال.
ثم الإشكال أنه ليس في أكل دُرديّ الزيت فضل شدّة وكثرة مُؤنة، فما معنى التشبيه به ؟
لكن نقول : إنه بيّن أن ذلك المهل والدّرديّ من النار حين٣ قال :﴿ كالمُهل يغلي في البطون ﴾ ﴿ كغلي الحميم ﴾ ثم الإشكال : أن شجرة الزّقوم كيف تكون للأثيم ؟ فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما أنه يخرُج منها شيء، ويسيل، فيسقي ذلك الكافر.
[ والثاني ]٤ : يحتمل [ أنها تُؤكَل ]٥ كما هي، فتذوب في بطنه، فتغلي. فيكون ما ذُكر. ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى فضة، قد أُذيبت، فقال : هذا المُهل.
فجائز أن يكون على هذا كل شيء يُذاب، ويحرق، فهو المُهل.
والحميم : هو الشيء الحارّ الذي قد انتهى حرّه غايته، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وجهين..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل وم: و..
٥ في الأصل وم: أنه يأكل..

الآية ٤٧ وقوله تعالى :﴿ خُذوه فاعتِلوه إلى سواء الجحيم ﴾ ظاهر هذا أن يكون هذا ذلك بعد ما أُدخلوا في النار. لكن يحتمل أيضا أن يكون ذلك في أوّل ما يراد أن يُدخَلوا النار كقوله تعالى :﴿ خذوه فغلّوه ﴾ ﴿ ثم الجحيم صلّوه ﴾ [ الحاقة : ٣٠ و٣١‍ ] فعلى ذلك ﴿ خُذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ﴾.
ثم قوله تعالى :﴿ فاعتلوه ﴾ قال بعضهم : أي ادفعوه إلى سواء الجحيم أي إلى وسْط الجحيم.
وقال بعضُهم :﴿ فاعتلوه ﴾ أي قودوه إلى سواء الجحيم. يقال : جيء بفلان يُعتل إلى السلطان أي يُجرّ، ويقاد.
وقال بعضهم : هو السّوق الذي فيه شدّة وتعنيف، أي سوقوه سوقا شديدا عنيفا. وبعضه قريب من بعض. والجحيم، هو مُعظم النار، والله أعلم.
وبعضه قريب من بعض.
والجحيم: هو معظم النار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) أي: من شراب الحميم؛ جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل النار من ألوان الشراب: الحميم، والصديد، ونحوهما، مكان ما جعل لأهل الجنة من أنواع الشراب؛ حيث قال: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ...) الآية.
ثم في الآية أن الفريقين جميعًا لا يتولون شرابها بأنفسهم، لكنهم يُسقون؛ على ما ذكر في أهل الجنة في غير آي من القرآن؛ حيث قال: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ...)، وقوله - تعالى -: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا...)، ونحو ذلك كثير، وقال في أهل النار: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)، وقوله - تعالى -: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)، وقال في آية أخرى: (مِنْ غِسْلِينٍ)، وغير ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) قال أهل التأويل: إنما يقال هذا لأبي جهل اللعين، وله ذلك العذاب الذي ذكر في الآية، وهو المراد بالأثيم؛ كان في الدنيا يفتخر، ويقول: أنا العزيز الكريم، وليس فيما بين كذا إلى كذا أعزّ منّي، وأنا المتعزز المتكرم، فيقال له في الآخرة: (ذُقْ) هذا الذي ذكر (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) في الدنيا يصغرونه ويهينونه.
ويحتمل أن يكون هذا في كل كافر يتعزز في الدنيا ويتكرّم، وكل رئيس منهم، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي: ذق فإنك لست بعزيز ولا كريم، ثم يقال ذلك له على التهزي به؛ أي: لو كنت عزيزًا كريمًا ما دخلت النار، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) فيه لغتان: (مُقَامٍ) بالرفع،
الآية ٤٩ وقوله تعالى :﴿ ذُق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ قال أهل التأويل : إنما يقال هذا لأبي جهل اللعين، وله ذلك العذاب الذي ذُكر في الآية، وهو المراد بالأثيم، كان في الدنيا يفتخر ويقول : أنا العزيز الكريم، وليس ما بين كذا إلى كذا أعزّ مني، وأنا المتعزّز المتكرّم. فيقال له في الآخرة :﴿ ذُق ﴾ هذا الذي ذكر ﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ في الدنيا ؛ يصغّرونه، ويُهينونه.
ويحتمل أن يكون هذا في كل كافر يتعزّز في الدنيا، ويتكرّم، وكل رئيس منهم، والله أعلم.
وقال بعضهم في قوله :﴿ ذُق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ أي ذُق فإنك لست بعزيز ولا كريم.
الآية ٥٠ ثم يقال ذلك له على الهُزء به ﴿ إن هذا ما كنتم به تمترون ﴾ أي لو كنت عزيزا كريما ما دخلت النار، والله أعلم. /٥٠٥-أ/
الآية ٥١ وقوله تعالى :﴿ إن المتقين في مقام أمين ﴾ فيه لغتان : مُقام بالرفع١ ومقام بالنصب. فمن قرأ بالنصب فهو موضع المقام، وهو المنزل والمسكن، معناه : في مسكن أمين : أمِنوا فيه٢ من الآفات والأوصاب والأسقام.
ومن قرأ برفع الميم فهو المصدر ؛ يعني الإقامة، أي يُقيمون فيها آمنين من الخروج عنها والزوال، والله أعلم.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ج٦/ ١٤٣..
٢ في الأصل وم: فيها..
و (مَقَامٍ) بالنصب:
فمن قرأ بالنصب فهو موضع المقام، وهو المنزل والمسكن؛ معناه: في مسكن أمين؛ أي: آمنوا فيها من الآفات والأوصاب والأسقام.
ومن قرأ برفع الميم فهو المصدر؛ يعني: الإقامة؛ أي: يقيمون فيها، آمنين عن الخروج عنها والزوال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣)، قالوا: السندس: ما رق من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه.
ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من اللبس لما رق منه، فأما ما غلظ منه فإنه يبسط، وإن كان ذكر اللبس فيهما -في الظاهر- يتناول ما رق منه وما غلظ، فالمراد من ذكر اللبس يرجع إلى ما يلبس، وهو الذي يرق منه ويدق.
وجائز في اللغة أن يذكر الشيئان باسم أحدهما إذا كان بينهما ازدواج في الجملة عادة أو حقيقة، واللَّه أعلم.
ويحتمل أنه إنما ذكرهما جميعًا؛ لما يكون من رغبة الناس إليهما جميعًا في الدنيا، فرغبهم في الآخرة، ووعد لهم أن يكون لهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَقَابِلِينَ) يخبر أن مجلسهم في الجنة نحو مجلسهم في الدنيا مقابل بعضهم بعضا، حيث قال: (كَذَلِكَ... (٥٤) على إثر ذلك، يكونون في الجنة كما كانوا في الدنيا من مقابلة بعض بعضًا، واجتماعهم في المجلس في الشراب وغيره، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِحُورٍ) أي: ببيض الوجوه، و (عِينٍ)، أي: حسان الأعين.
وقال بعض أهل الأدب: الحور في العين هو شدة سواد سوادها وبياض بياضها، ويقال: امرأة حوراء، ونسوة حور، ورجل أحور، وقوم حور، والعيناء: الحسنة العينين؛ يقال رجل أعين، ورجال عين، وامرأة عيناء، ونسوة عين، فالجماعة على هيئة واحدة في هذا الباب في المذكر والمؤنث، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥).
تأويله - واللَّه أعلم - أي: ثمار الجنة وفواكهها، ليس لها فساد ولا انقطاع، ولا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:الآيتان ٥٢ و٥٣ وقوله تعالى :﴿ في جنّات وعيون ﴾ ﴿ يلبسون من سُندس وإستبرق متقابلين ﴾ قالوا : السّندس ما رقّ من الديباج، والإستبرق ما غلُظ منه.
ثم يحتمل أن يكون ما ذُكر من اللّبس لما رقّ منه. فأما ما غلظ منه فإنه يُبسط، وإن كان ذلك اللبس فيهما في الظاهر يتناول ما رقّ منه، وما غلظ. فالمُراد من ذكر اللّبس يرجع إلى ما يُلبس، وهو الذي يرقّ منه، ويدقّ.
وجائز في اللغة أن يُذكر الشيئان باسم أحدهما إذا كان بينهما ازدواج في الجملة عادة أو حقيقة، والله أعلم.
ويحتمل أنه إنما ذكرهما جميعا لما يكون من رغبة الناس إليهما جميعا في الدنيا، فرغّبهم في الآخرة، ووعد لهم أن يكون لهم ذلك، والله أعلم.

الآية ٥٤ وقوله تعالى :﴿ كذلك وزوّجناهم بحور عين ﴾ قال بعضهم :﴿ بحور ﴾ ببيض الوجوه، و﴿ عين ﴾ أي حِسان الأعين. وقال بعض أهل الأدب : الحَوَر في العين، هو شدة سوادها وبياض بياضها، ويقال : امرأة حوراء، ونسوة حُور، ورجل أحور، وقوم حور، والعيناء الحسنة العينين ؛ يقال : رجل أعين، ورجال عين، وامرأة عيناء ونسوة عِين، فالجماعة على هيئة واحدة في هذا الباب في المذكر والمؤنث، والله أعلم.
الآية ٥٥ وقوله تعالى :﴿ يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ﴾ تأويله، والله أعلم : أي ثمار الجنة وفواكهها ليس فيها فساد ولا انقطاع، ولا نقصان ولا زوال ﴿ يدعون ﴾ يسألون إذا حضروها، كما يسألون في الدنيا : هل بقي شيء ؟ أو هل عندكم شيء من الفواكه ؟ ونحو ذلك لما ذكرنا أن لثمار الدنيا ما ذكرنا انقطاعا١ وفناء، وليس لثمار الجنة وفواكهها كذلك. لذلك ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ آمنين ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما :﴿ آمنين ﴾ من انقطاع فواكهها وثمارها وما ذكر.
[ والثاني ]٢ :﴿ آمنين ﴾ فيها في الجنة، ليس لهم خوف الخروج عنها والزوال، و﴿ آمنين ﴾ من جميع الآفات التي تكون في الدنيا، والله أعلم.
١ في الأصل وم: انقطاع..
٢ في الأصل وم: ويحتمل..
ْنقصان، ولا زوال (يَدْعُونَ) يسألون أن أحضروها، لا يسألون كما يسألون في الدنيا هل بقي شيء، أو هل عندكم شيء من الفواكه؟ ونحو ذلك؛ لما ذكرنا أن لثمار الدنيا انقطاع وفناء، وليس لثمار الجنة وفواكهها كذلك، لذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (آمِنِينَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (آمِنِينَ) عن انقطاع فواكهها وثمارها وما ذكر.
ويحتمل (آمِنِينَ) وفيها في الجنة ليس لهم خوف الخروج عنها والزوال، وآمنون عن جميع الآفات التي تكون في الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى... (٥٦) والإشكال: أنه نفى الموت في الجنة واستثنى الموتة الأولى، وليس في الجنة موت أصلا، كيف يستثني الموتة الأولى وأن ظاهر الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، فيوهم أن يكون في الجنة موت؟!
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن " إلا " بمعنى غير وسوى، وفيه إضمار؛ كأنه قال: لا يذوقون فيها -أي: في الجنة- الموت سوى الموتة الأولى التي ذاقوا في الدنيا؛ لأن الموتة التي ذاقوا وهي الموتة الأولى لا يتصور ذوقها ثانيًا، ولو كان يكون مثلها، ولأن الجنة ليست محل الموت، فكأن المراد ما قلنا، أي: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموت الذي ذاقوا في الدنيا، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ...) الآية؛ أي: سوى ما قد سلف، (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً)، في ذلك الوقت؛ على أحد التأويلين، واللَّه أعلم.
وعندنا يخرج تأويله على وجهين:
أحدهما: لا يذوقون فيها الموت إلا ما ذاقوا من الموتة الأولى؛ لأنه ذكر في الخبر أنه: " يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح -أو كذا- فيذبح بين أيديهم، فعند ذلك يأمنون الموت هنالك " واللَّه أعلم.
والثاني: لا يذوقون فيها الموت ولا يرونه إلا الموتة الأولى التي رأوها في الدنيا، تلك يعرفونها ويذكرونها، فأما سواها فلا، والذوق سبب المعرفة، فاستعير للمعرفة مجازًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ليس هو تخصيص وقاية عذاب
الجحيم فحسب؛ بل المراد نفيهم العذاب كله، لكن الجحيم معظم النار، فذكره كناية عن الكل، فضلا منه، ليس باستحقاق منهم بالأعمال، على ما تقدم ذكره في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) الفوز بأحد شيئين: إما الظفر بما يأمل ويرجو، فإذا ظفر بذلك يقال: فاز، وإما النجاة مما يحذر ويخاف إذا حذر أمرًا وخافه فيخلص من ذلك ويقال، فأيهما كان فهو فوز، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَظِيمُ) جميع أمور الآخرة وحالها سمي: عظيمًا، من العذاب والنعيم؛ قال اللَّه - تعالى - (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)، و (عَذَابٌ عَظِيمٌ)، و (فَوْزًا عَظِيمًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ... (٥٨) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: كأنه يقول: فإنما أنزلنا القرآن بلسانك ويسرناه للذكر؛ ليلزمهم التذكر؛ لأنه أنزله بلسانه ويسره لقومه؛ لأنه لو كان منزلا بغير لسانه، لم يكن ميسرًا لهم للذكر، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، أخبر أنه يسره للذكر؛ لأنه يسره باللسان، ولكن معناه ما ذكرنا: أنه أنزله بلسانه ويسره للذكر، واللَّه أعلم.
والثاني: فإنما يسرناه على لسانك كي تذكره وتحفظه بلا كتابة ولا نظر في كتاب؛ لأنه ذكر أنه كان - عليه السلام -: يحفظ سورة طويلة إذا تلا عليه جبريل - صلوات اللَّه عليه - وقد آمنه اللَّه - سبحانه وتعالى - عن النسيان بقوله - تعالى -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) هو يخرج على وجوه:
أحدها: لكي يلزمهم التذكر.
ويحتمل: لكي يتذكروا ما قد نسوا من حق اللَّه الذي عليهم.
أو ليتعظوا بمواعظ اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) على وجهين:
أحدهما: ارتقب ما وعد اللَّه أن ينزل بهم من العذاب فإنهم مرتقبون هلاكك وانقطاعك ونحوه.
أو يقول: ارتقب، ولا تكافئهم، ولا تدع عليهم بالهلاك، فإنهم مرتقبون بما ألقى الشيطان في أمنيتهم بأن ملكك يزول، وأنه يعود إليهم، واللَّه أعلم.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فارتقبهم إنهم مرتقبون) والارتقاب: الانتظار، واللَّه أعلم.
الآية ٥٨ وقوله تعالى :﴿ فإنما يسّرناه بلسانك ﴾ هذا يُخرّج على وجهين :
أحدهما : كأنه يقول : فإنما أنزلنا القرآن بلسانك، ويسّرناه للذِّكر ليُلزمهم الشكر١، لأنه أنزله بلسانه، ويسّره لقومه، لأنه لو كان مُنزلا بغير لسانه لم يكن مُيسّرا لهم للذّكر، وهو ما ذكر في آية أخرى :﴿ ولقد يسّرنا القرآن للذّكر ﴾ [ القمر : ١٧ ] أخبر أنه يسّره للذكر ؛ لأنه يسّره باللسان. ولكن معناه ما ذكرنا أنه أنزله بلسانه، ويسّره للذّكر، والله أعلم.
والثاني :﴿ فإنما يسّرناه ﴾ على لسانك كي [ تذكُره، وتحفظه ]٢ بلا كتابة ولا نظر في كتاب ؛ لأنه ذُكر أنه كان عليه السلام يحفظ سورة طويلة إذا تلا عليه جبريل عليه السلام وقد أمّنه الله سبحانه وتعالى من النسيان بقوله تعالى :﴿ سنُقرئك فلا تنسى ﴾ الأعلى : ٦ ].
[ وقوله ]٣ عز وجل :﴿ لعلّهم يتذكّرون ﴾ يُخرّج على [ وجهين :
أحدهما :]٤ لكي يُلزمهم التذكّر.
[ والثاني ]٥ لكي يتذكّروا ما٦ قد نسُوا من حق الله الذي عليهم ليتّعظوا بمواعظ الله تعالى.
١ في الأصل وم: التذكير..
٢ في الأصل وم: ذكرته، وحفظته..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: وجوه أحدها..
٥ في الأصل وم: ويحتمل..
٦ في الأصل وم: وإما..
الآية ٥٩ وقوله تعالى :﴿ فارتقب إنهم مرتقبون ﴾ على وجهين :
أحدهما : ارتقب ما وعد الله أن ينزِل بهم من العذاب فإنهم مرتقِبون هلاكك وانقطاعك ونحوه.
والثاني : ارتقِب، ولا تكافئهم، ولا تدع عليهم بالهلاك، فإنهم مرتقبون ما ألقى الشيطان في أمنيّتهم بأن مُلكك يزول، وأنه يعود إليهم، والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه : فارتقبهم١ إنهم مرتقَبون. والارتقاب الانتظار، والله أعلم [ بالصواب، وإليه المرجع والمآب ]٢.
١ من م، في الأصل: فارتقب..
٢ ساقطة من م..
Icon