تفسير سورة النجم

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النجم من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة النجم١
مقصودها ذم الهوى لإنتاجه الضلال والعمى بالإخلاد إلى الدنيا التي هي دار الكدور والبلاء، والتصرم والفناء، ومدح العلم لإثماره الهدى في الإقبال على الأخرى لأنها دار البقاء في السعادة أو الشقاء، والحث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في نذارته التي بينتها سورة ق وصدقتها٢/ الذاريات وأوقعتها وعينتها الطور كما تتبع في بشارته لأن علمه هو العلم لأنه لا ينطق عن الهوى لا في صريح الكناية، ولا في بيانه له لأن الكل عن الله الذي له صفات الكمال فلا [ بد ] من بعث الخلق إليه وحشرهم لديه لتظهر حكمته غاية الظهور فيرفع أهل التزكي والظهور، ويضع أهل الفجور، ويفضح كل متحل بالزور، متجل للشرور، وعلى ذلك دل اسمها النجم عن تأمل القسم والجواب وما نظم به من نجوم الكتاب ( بسم الله ) الذي أحاط بصفات الكمال فلا يكون رسوله إلا من ذي الكمال ( الرحمن ) الذي عم الموجودات بصفة الجمال ( الرحيم ) الذي خص أهل وده بالإنقاذ من الضلال والهداية إلى ما يرضي من الخلال وصالح الأعمال.
١ -الثالثة والخمسون من سورة القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها ٦٢ عند الكوفيين و ٦١ عند غيرهم-كما في نثر المرجان ٧/٧٩..
٢ - في الأصل: صدقها..

ولما ختمت الطور بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتسبيح والتحميد، وكان أمره تكويناً لا تكليفاً، فكان فاعلاً لا محالة، وذاك بعد تقسيمهم القول في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه كاهن وساحر ومجنون، وكان
40
لذلك تعلق بالشياطين، وكانت الشياطين مباينة للقرآن بختلها وبمنعها بالرجوم من النجوم كما بين آخر الشعراء، افتتحت هذه بالحث على الاهتداء بهدية والاستدلال بدله واتباع أثره، ولما كان من ذلك تسبيحه بالحمد في إدبار النجوم أقسم أول هذه بالنجم على وجه أعم مما في آخر تلك فعبر بعبارة تفهم عروجه وصعوده لأنه لا يغيب في في الأفق الغربي واحد من السيارة إلا وطلع من الأفق الشرقي في نظير له منها لما يكون عند ذلك من تلك العبارة العالية، والأذكار الزاكية، مع ما فيه من عجيب الصنع الدال على وحدانية مبدعه من زينة السماء التي فيها ما توعدون والحراسة من المردة حفظاً لنجوم الكتاب والاهتداء به الدين والدنيا، وغير ذلك من الحكم التي يعرفها الحكماء، فقال تعالى: ﴿والنجم﴾ أي هذا الجنس من نجوم السماء أو القرآن لنزوله منجماً مفرقاً وهم يسمون التفريق تنجيماً - أو النبات، قال البغوي: سمي النجم نجماً لطلوعه وكل طالع نجم. ﴿إذا هوى﴾ أي نزل للأفول أو لرجم الشياطين عند الاستراق كما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد السمائي، فكانت عنده العبادة والاستغفار والدعاء للملك الجبار بالأسحار، أو صعد فكان به اهتداء المصلي والقارئ والساري، فإنه يقال: هوى هوياً - بالفتح إذا سقط، وبالضم - إذا علا وصعد، أو نزل به الملك للإصعاد وللإبعاد إن كان المراد القرآني لما يحصل من البركات في الدين والدنيا والشرح
41
للصدور، والاطلاع على عجائب المقدور، أو إذا سقط منبسطاً على الأرض أو ارتفع عنها إن كان المراد النبات، لما فيه من غريب الصنعة وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق.
ولما أقسم بهذا القسم الجليل، أجابه بقوله معبراً بالماضي نفياً لما كانوا رموه به وليسهل ما قبل النبوة فيكون ما بعدها بطريق الأولى: ﴿ما ضل﴾ أي عدل عن سواء المحجة الموصلة إلى غاية المقصود أي أنه ما عمل الضالين يوماً من الأيام فمتى تقول القرآن عنده ولا علم فيه عمل المجانين ولا غيرهم ما رموه به وأما ﴿وجدك ضالاً﴾ [الضحى: ٧] فالمراد غير عالم، وعبر بالصحبة مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيها ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طيب أعرافه وطهارة شمائله وأخلاقه فقال: ﴿صاحبكم﴾ أي في إنذاره لكم في القيامة فلا وجه لكم في اتهامه.
ولما كان الهدى قد يصحبه ميل لا يقرب الموصول إلى القصد وإن حصل به نوع خلل في القرب أو نحوه فقد يكون القصد مع غير صالح قال: ﴿وما غوى *﴾ وما مال أدنى ميل ولا كان مقصوده مما يسوء فإنه محروس من أسبابه التي هي غواية الشياطين وغيرها، وقد دفع سبحانه عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما بقية الأنبياء فدفعوا أنفسهم ﴿ليس بي ضلالة﴾ [الأعراف: ٦١] ﴿ليس بي سفاهة﴾ [الأعراف: ٦٧]، ونحو ذلك - قاله القشيري.
ولما كان قد يكون مع الهدى مصادفة قال: ﴿وما ينطق﴾
42
أي يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في الحال ولا في الاستقبال، نطقاً ناشئاً ﴿عن الهوى﴾ أي من أمره كالكاهن الذين يغلب كذبهم صدقهم والشعراء وغيرهم، وما تقول هذا القرآن من عند نفسه. ولما أكد سبحانه في نفسه ذلك عند التأكيد تنزيهاً له عما نسب إليه، فكان ذلك مظنة السؤال عن أصل ما تقوله، أجاب بالحصر والآية أصرح وأدفع لإنكارهم البالغ فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هو﴾ أي الذي يتكلم به من القرآن وبيانه، وكل أقواله وأفعاله وأحواله بيانه ﴿إلا وحي﴾ أي من الله تعالى، وأكده بقوله: ﴿يوحى *﴾ أي يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت، ويجوز أن يجتهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا استقر اجتهاده على شيء أوحي مع أن من يرد ما يجتهد فيه إلى ما أوحي إليه بريء من الهوي.
وقال أبو جعفر ابن الزبير في برهانه: لما قطع سبحانه تعليقهم بقوله: ساحر وشاعر ومجنون - إلى ما هو به مما علموا أنه لا يقوم على ساق، ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى ما أمكنه وإن لم يغن عنه، أعقب الله سبحانه بقسمة على تنزيه نبيه وصفيه من خلقه عما تقوله وتوهمه الضعفاء فقال تعالى: ﴿والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى﴾ ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه، وفي إبداء ذلك يحركهم عزّ وجلّ ويذكرهم ويوبخهم على سوء نكاياتهم بلطف واستدعاء كريم
43
منعم فقال تعالى: ﴿أفرأيتم اللات والعزى﴾ والتحمت الآي على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام، لا يشاركه في شيء من ذلك غيره فقال: ﴿وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى﴾. ولما بين ذلك فقال: ﴿فبأي آلاء ربك تتمارى﴾ أي في أيّ نعمة تشكون أم بأي آية تكذبون؟ ثم قال: ﴿هذا نذير من النذر الأولى﴾ وإذا كان عليه الصلاة والسلام... فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره - انتهى.
ولما كان الوحي ظاهراً فيما بواسطة الملك، تشوف السامع إلى بيان ذلك فقال مبيناً له بأوصافه لأن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره: ﴿علمه﴾ أي صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ﴿شديد القوى *﴾ أفلا تعجبون من هذه البحار الزاخرة التي فأقكم بها وهو أمي فإن معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كل ما أمره الله به ﴿ذو مرة﴾ أي جزم في قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به والطاقة لحمله في غير آية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس ماض في مراوته على طريقة واحدة على غاية من الشدة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به، فهو على غاية الخلوص فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة، لا بيان في شيء بزواله ومن جملة ما أعطى من القوة والقدرة على التشكل، وإلى ذلك كله أشار بما سبب عن هذا من قوله: ﴿فاستوى *﴾ فاستقام واعتدل بغاية ما يكون
44
من قوته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها ﴿وهو﴾ أي والحال أن جبرائيل عليه السلام، وجوزوا أن يكون الضمير المنفصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي استوى جبرائيل عليهما السلام معه ﴿بالأفق الأعلى *﴾ أي الناحية التي هي النهاية في العلو والفضل من السماوات مناسبة لحالة هذا الاستواء، وذلك حين رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق.
45
ولما كان الدنو من الحضرة الإلهية - التي هي مهيئة لتلقي الوحي - من العلو والعظمة بحيث لا يوصف، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: ﴿ثم﴾ أي بعد ذلك الاستواء العظيم ﴿دنا﴾ أي جبرائيل عليه السلام من الجناب الأقدس دنو زيادة في كرامة لا دنو مسافة، وكل قرب يكون منه سبحانه فهو مع أنه منزه عن المسافة يكون على وجهين: قرب إلى كل موجود من نفسه، وقرب ولاية حتى يكون سمع الموجود وبصره بمعنى أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يرضاه - أشار إليه ابن برجان، فأخذ الوحي الذي أذن له في أخذه في ذلك الوقت ﴿فتدلّى﴾ عقب ذلك من الله رسولاً إلى صاحبكم أي أنزل إليه نزولاً هو فيه كالمتدلي إليه بحبل فوصل إليه ولم ينفصل عن محله من الأفق الأعلى لما له من القوة والاستحكام، قال البيضاوي: فإن التدلي هو استرتسال مع تعلق كتدلي الثمرة ﴿فكان﴾ في القرب من صاحبكم في رأي من يراه منكم ﴿قاب﴾ أي على مسافة قدر ﴿قوسين﴾ من قسيكم، قال الرازي في اللوامع: أي بحيث الوتر في القوس مرتين، وعن ابن عباس
45
رضي الله عنهما: القوس الذراع بلغة أزدشنوءة، وقال ابن برجان: قاب القوسين: ما بين السيين، وقيل: ما بين القبضة والوتر ﴿أو أدنى *﴾ بمعنى أن الناظر منكم لو رآه لتردد وقال ذلك لشدة ما يرى له من القرب منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، روى مسلم في الإيمان من صحيحه عن الشيباني قال: «سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى ﴿فكان قاب قوسين﴾ فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبرائيل عليه السلام له ستمائة جناح» ﴿فأوحى﴾ أي ألقى سراً من كلام الله بسبب هذا القرب، وعقبه بقوله: ﴿إلى عبده﴾ أي عبد الله، وإضماره من غير تقدم ذكره صريحاً لما هو معلوم مما تقدم في آخر الشورى أن كلام الله يكون وحياً بواسطة رسول يوحي بإذنه سبحانه، والمقام يناسب الإضمار لأن الكلام هو الوحي الخفي، وعبر بالبعد إشارة إلى أنه لم يكن أحد ليستحق هذا الأمر العظيم غيره لأنه لم يتعبد قط لأحد غير الله، وكل من عاداه حصل منهم تعبد لغيره في الجملة، فكان أحق الخلق بهذا الوصف مع أنه كان يتعبد لله في غار حراء وغيره، وهذه النزلة - والله أعلم - كانت على هذا التقدير في أول الوحي لما كان بحراء وفرق منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع ترجف بوادره، وقال: زملوني زملوني. وأشار إلى عظمة ما أنزل بقوله: ﴿ما أوحى *﴾ أي إنه يجل عن الوصف فأجمل له ما فصل له بعد ذلك، هذا الذي ذكر من تفسير لضمائر مظاهر العبارة وإن كان الإضمار في جميع الأفعال لا يخلو عن التباس
46
وإشكال، ويمكن لأجل احتمال الضمائر لما يناسبها من الظواهر أن يكون ضمير ﴿دنا﴾ وما بعده لله تعالى، وحينئذ يصير في ﴿عبده﴾ واضحاً كما تقدم في هذا الوجه جعله له سبحانه لأنه لا يجوز لغيره، روى البخاري في التوحيد في باب ﴿وكلم الله موسى تكليماً﴾ عن أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مسجد الكعبة «أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم» : أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، وكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه، ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قالوا: ومن معك، قال: معي محمد، قالوا: وبعث إليه، قال: نعم، قالوا: فمرحباً به
47
وأهلاً - ثم ذكر عروجه إلى السماوات السبع، وأنه لما وصل إلى السماء السابعة علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى منه فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما يوحي الله إليه خمسين صلاة - فذكر مشورة موسى عليهما السلام في سؤال التخفيف حتى صارت خمساً كل واحدة بعشرة، ودنا الجبار رب العزة في هذا الوجه وهو رب العزة «وهو في غاية الحسن إذا جمعته مع ما يأتي في هذا الوجه المنقول عن جعفر الصادق رضي الله عنه فيكون المعنى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استوى بالأفق الأعلى فوصل إلى حد لا يمكن المخلوق الصعود عنه تنزل له الخالق سبحانه، ولذلك عبر عنه ب ﴿ثم﴾ يعني أنه سبحانه تنزل له تنزلاً لا يمكن الاطلاع على كنه رتبته في العلو والعظمة، ثم نزل ثم تنزل.
ولما كانت العبارة ربما أوهمت شيأ لا يليق به نفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما في الرواية من تخصيص التعبير باسم الجبار فعلم أنه قربه تقريباً يليق به، وسمى ذلك دنواً فكان الدنو والتدلي تمثيلاً لما وصل منه سبحانه إلى عبده محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغاية السهولة واليسر واللطافة مع اتصاله بالحضرات القدسية، والتعبير بالتدلي لإفهام العلو مثل ما كني بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا عن إجابة الدعاء بفتح أبواب
48
السماء كما رويناه في جزء العيشي من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه تمثيلاً بما نعرفه من حال الملوك في أن أحدهم يكون نزوله عن سريره أدنى في إتيان خواصه إليه، وفتح بابه أدنى لمن يليهم، وكلما نزل درجة كان الإذن أعم إلى أن يصل إلى الإذن العام لجميع الناس، هذا علم المخاطبين بأن ذلك على سبيل التمثيل بمن يحتاج إلى هذه الدرجات، وأما من هو غني عن كل شيء فله سبحانه المثل الأعلى ولا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء، وفي ﴿قرآن الفجر﴾ من سورة سبحان لهذا مزيد بيان، وقال القاضي عياض في الشفاء ما حاصله أن تلك الضمائر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قال جعفر بن محمد - يعني الصادق بن الباقر: أدناه ربه حتى كان منه كقاب قوسين، وقال أيضاً: انقطعت الكيفية عن الدنو، ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام عن دنوه ودنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه وزال عن قلبه الشك والارتياب، وقال جعفر أيضاً: والدنو من الله تعالى لا حد له، ومن العباد بالحدود - انتهى.
وحينئذ يكون ضمير «استوى» له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون المعنى: فتسبب عن تعليم جبريل له استواوه - أي اعتدال علمه - إلى غاية لم يصلها غيره من الخلق علماً وكسباً بالملك والملكوت والحال أنه بالأفق الأعلى ليلة الإسراء، وتدليه كناية عن وصوله بسبب عظيم حامل السبب للمتدلي، وعبر به وهو ظاهر في النزول من علو مع عدم الانفصال منه لئلا يوهم اختصاص
49
جهة العلو به سبحانه دون بقية الجهات، ومنه «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وكذا قيل في الإشارة ب «لا تفضلوني على يونس بن متى» ومن المحاسن جداً أن تكون ألف ﴿تدلى﴾ المقلبة عن ياء في هذا الوجه بدلاً من لام فيكون من التدلل وهو الانبساط وثوقاً بالمحبة، يقال: تدلل عليه، أي انبسط ووثق بمحبته فأفرط عليه، وانبساطه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الحالة إفراط كثرة سؤاله، وشفاعته في أمته، وبذلك ظهر إلى عالم الشهادة أنه أرحم الخلق كما كان معلوماً إلى عالم الغيب، فتسبب عنه زيادة تقريبه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وإبراز هذا الكلام في هذه الضمائر المتحملة لهذه الوجوه من غير ظاهر يعين المراد يناسب لتلك الحالة، فإنها كانت حالة غيب وخفاء وستر، وكان العلم فيها واسعاً، وسوق الضمائر هكذا يكثر احتمال الكلام للوجوه، فيتسع العلم مع أنه ليس فيها وجه يؤدي إلى لبس في الدين ولا ركاكة في معنى ولا نظم ولا مجال للعلم - والله أعلم.
50
ولما أثبت هذا الكلام ما أثبت من القرب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن أوحى إليه على كلا التقديرين، قرره على وجه أفاد الرؤية فقال: ﴿ما كذب الفؤاد﴾ أي القلب الذي هو في غاية الذكاء والاتقاد ﴿ما رأى﴾ البصر أي حين رؤية البصر كان القلب، لا أنها رؤية بصر فقط تمكن فيها - للخلو - عن حضور القلب - النسبة إلى الغلط، وقال القشيري ما معناه: ما كذب فؤاد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رآه بصره، بل
50
رآه على الوصف الذي علمه قبل أن رآه فكان علمه حق اليقين، وفي صحيح مسلم «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هل رأيت ربك؟ قال: نور إليّ أراه «، وفي صحيح مسلم أيضاً» عن مسروق أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما أنكرت الرؤية: ألم يقل الله تعالى ﴿ولقد رآه بالأفق المين﴾ و ﴿لقد رآه نزلة أخرى﴾ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إنما هو جبرئيل عليه السلام، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض» قال البغوي: وذهب جماعة إلى أنه رآه فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده، ثم روي من صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «رآه بفؤاده مرتين» وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس رضي الله عنه، وقال ابن برجان ما معناه: إن النوم والصعق من آيات الله على لقاء الله وهي مقدمات لذلك، ولكل حقيقة حق يتقدمها كأشراط الساعة، والإسراء وإن لم يكن موتاً ولا صعقاً ولا نوماً على أظهر الوجوه فقد خرج عن مشاهدات الدنيا إلى مشاهدات الأفق الأعلى فلا تنكر الرؤية هنالك، فالإسراء حالة غير حالة الدنيا، بل هي من أحوال الآخرة وعالم الغيب - والله الهادي.
ولما تقرر ذلك غاية التقرر، وكان موضع الإنكار عليهم، قال
51
مسبباً عن ذلك: ﴿أفتمارونه﴾ أي تستخرجون منه بجدالكم له فيما أخبركم به شكاً فيه ولا شك فيه، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة عن حمزة والكسائي ويعقوب إشارة إلى اجتهادهم في تشكيكه، من مري الشيء: استخرجه، ومري الناقة: مسح ضرعها، فأمرى: در لبنها، والمرية بالكسر والضمر: الشك والجدل ﴿على ما يرى *﴾ على صفة مطابقة القلب والبصر، وذلك مما لم تجر العادة بدخول الشك فيه ولا قبوله للجدال، وزاد الأمر وضوحاً بتصوير الحال الماضية بالتعبير بالمضارع إشارة إلى أنه كما لم يهم لم يلبس الأمر عليه، بل كأنه الآن ينظر.
ولما كان الشيء أقوى ما يكون إذا حسر البصر، فإذا وافقه كون القلب في غاية الحضور كان أمكن، فإذا تكرر انقطعت الأطماع عن التعلق بالمجادلة منه، قال مؤكداً لأجل إنكارهم: ﴿ولقد رآه﴾ أي الله تعالى أو جبرئيل عليه السلام على صورته الحقيقية، روى مسلم في الإيمان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ ﴿ولقد رآه نزلة أخرى﴾، قال: «رآه بفؤاده مرتين» وجعل ابن برجان الإسراء مرتين: الأولى بالفؤاد مقدمة وهذه بالعين.
ولما كان ذلك لا يتأتي إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر، عبر بقوله: ﴿نزلة﴾ وانتصب على الظرفية لأن الفعلة بمعنى المرة ﴿أخرى﴾ أي ليكمل له الأمر مرة في عالم الكون والفساد وأخرى في المحل الأنزه الأعلى، وعين الوقت بتعين
52
المكان فقال: ﴿عند سدرة المنتهى *﴾ أي الشجرة التي هي كالسدر وينتهي إليها علم الخلائق وينتهي إليها ما يعرج من تحت وما ينزل من فوق، فيتلقى هنالك، وذلك - والله أعلم - ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل بعد الترقي في معراج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينهما من المسافات، فانتهى إلى منتهى يسمع فيه صريف الأقلام، وعظمها بقوله: ﴿عندها﴾ أي السدرة ﴿جنة المأوى *﴾ الذي لا مأوى في الحقيقة غيره لأنه لا يوازي في عظمه، وزاد في تعظيمها بقوله: ﴿إذ يغشى السدرة ما يغشى *﴾ أي يغطيها ويركبها وسمره؟ من فراش الذهب والرفرف الأخضر والملائكة والنبق وغير ذلك فإن الغشو النبق ﴿ما يغشى﴾ لا تحتملون وصفه وهو بحيث يكاد أن لا يحصى، وإليه الإشارة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: «وغشيها، ألا وإني لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها» أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكد الرؤية وقررها مستأنفاً بقوله: ﴿ما زاغ﴾ أي ما مال أدنى ميل ﴿البصر﴾ أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه، فما قصر عن النظر فيما أذن له فيه ولا زاد ﴿وما طغى *﴾ أي تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم، وفيه من العجائب ما يحير الناظر، بل كانت له العفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل، فأثبت ما رآه على حقيقته، وكما قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه: وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية، وهذه غامضة من
53
غوامض الأدب، اختص بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله، زاد في تأكيده على وجه يعم غيره فقال: ﴿لقد رأى﴾ أي أبصر بسبب ما أهلناه له من الرسالة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر ﴿من آيات ربه﴾ أي المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده، ومن ادعى ذلك فهو كافر ﴿الكبرى *﴾ من ذلك ما رآه في السماوات من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام إشارة بكل شيء إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة، وقال الإمام أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف: والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير، فإنه من علم النبوة، وأهل التعبير يقولون: من رأى نبياً بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شده أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث، وحديث الإسراء كان بمكة، ومكة حرم الله وأمنه، وقطانها جيران الله لأن فيها بيته، فأول ما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام آدم عليه الصلاة والسلام الذي كان في أمن الله وجواره، فأخرجه إبليس عدوه منها، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته، فكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا
54
قصة آدم عليه الصلاة والسلام مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم، فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها، كما قال الله تعالى، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وهما الممتحنان باليهود، أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله إليه، وأما يحيى عليه السلام فقتلوه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان، وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه لقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى عليه السلام منهم، ثم سموه في الشاة ولم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة يحيى وعيسى لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران أمهما جنة، وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام، وذلك أن يوسف ظفر بإخواته من بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال
﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم﴾ [يوسف: ٩٢] الآية، وكذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوهم فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق، ومنهم من قبل أفديته،
55
ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم:
«أقول ما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم» ثم لقاؤه إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم، فكان ذلك مؤذناً بالحالة الرابعة وهو علو شأنه عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأى ما رأى من خوف هرقل: لقد أُمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك بني عمان ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه، فهذا مقام علي، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس عليه السلام، ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون عليه السلام المحبب في قومه يؤذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بعضهم فيه، ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن بحالة تشبه حالة موسى عليه السلام حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد هلاك عدوهم، ولذلك غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة
56
حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه، ثم لقاؤه في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام لحكمتين: إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسنداً ظهره إليه، والبيت المعمور جبال مكة، وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة وإذن في الناس بالحج إليها، والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجه إلى البيت الحرام، وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين، ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة - انتهى. وهذا المقام هو الإسراء وما تفرع منه الموصل إلى أعلى ما يكون من تجريد التوحيد، فجعل سبحانه عنوانه المفروض فيه الحاجز بين الإسلام والشرك وهو الصلاة الجامعة لمعاني الدين الشاملة لجميع البركات بأن جعلت خمسين مستغرقة لجميع الفراغ ثم ردت إلى خمس دون القوى بكثير ثم رتب عليها جزاء الخمسين ورفع كل واحدة من صلاة الجماعة إلى سبع وعشرين صلاة وفضل صلاتي الطرفين: الصبح الثنائية والعصر الرباعية بشهادة فريقي الملائكة وكتابتهما في صحيفتي كل من الجمعين، فقال حمزة الكرماني في جوامع التفسير: فأسري به في شهر ربيع الأول قبل الهجرة من بيت أم هانىء رضي الله عنها، ثم ساق حديث الإسراء مساقاً عجيباً جداً طويلاً.
57
ولما أخبر سبحانه من استقامة طريق نبيه عليه الصلاة والسلام مما ثبتت رسالته بما أوحي إليه وما أراه من آياته التي ظهر بها استحقاقه سبحانه الإلهية متفرداً بها، سبب عنه الإنكار عليهم في عبادة معبوداتهم على وجه دال على أنها لا تصلح لصالحة فقال: ﴿أفرأيتم﴾ أي أخبروني بسبب ما تلوت عليكم من هذه الآيات الباهرات. هل رأيتم رؤية خبرة بالباطن والظاهر ﴿اللاّت﴾ وهو صنم ثقيف ﴿والعزى﴾ وهي شجرة لغطفان وهما أعظم أصنامهم فإنهم كانوا يحلفون بهما ﴿ومناة﴾ وهو صخرة لهذيل وخزاعة، ودل على أنها عندهم بعدهما في الربوبية بقوله مشيراً بالتعدد بالتعبير عنه بما عبر به إلى أن شيئاً منها لا يصلح لصالحة حتى ولا أن يذكر: ﴿الثالثة الأخرى *﴾ أي إنه ما كفاهم في خرق سياج منها العقل في مجرد تعديد الإله بجعله الاثنين حتى أضافوا ثالثاً أقروا بأنه متأخر الرتبة فكان الإله عندهم قد يكون سافلاً ويكون ملازماً للإنزال وللسفول بكونه أنثى، قال الرازي في اللوامع: وأنثوا أسماءها تشبيهاً لها بالملائكة على زعمهم بأنها بنات الله - انتهى، ولا شك عند من له أدنى معرفة بالفصاحة أن هذا الاستفهام الإنكاري والتعبير بما شأنهم بالولادة التي هي أحب الأشياء إلى الإنسان بل الحيوان لا يوافقه أن يقال بعده ما يقتضي مدحاً بوجه في الوجوه، فتبين بطلان ما نقل نقلاً واهياً من أنه قيل حين قرئت هذه السورة في هذا المحل: تلك الغرانيق العلا - إلى آخره لعلم كل عربي أن ذلك غاية في الهذيان في هذا السياق، فلا وصلة بهذا السياق المعجز بوجه.
58
ولما كان التقدير بما أفهمه السياق، كيف ادعيتم أنها آلهة أهي كذلك مع أن عادتكم احتقار الإناث من أن تكون لكم أولاداً، فكيف رضيتم أن تكون لكم آلهة، وتكونوا لها عباداً مع أنها لم تنزل لكم وحياً ولا أرسلت لكم رسولاً ولا فعلت مع أحد منكم شيئاً مما كرمنا به عبدنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أرتكم قط آية ولا هي متأهلة لشيء من ذلك، بل لا تملك ضراً ولا نفعاً وادعيتم أنها بناته واستوطنها جنيات هي بناته وادعيتم مع ادعاء مطلق الولدية لمن لا يلم به حاجة ولا شبه له أن له أردأ الصنفين، فكان ذلك نقصاً مضموماً إلى نقص - وعلا سبحانه تعالى عن صحابة أو ولد، فاستحققتم بذلك الإنكار الشديد، وعلم بهذا التقدير الذي هدى إليه السياق بطلان حديث الغرانيق ولا سيما مع تعقيبه بقوله: ﴿ألكم﴾ أي خاصة ﴿الذكر﴾ أي النوع الأعلى ﴿وله﴾ أي وحده ﴿الأنثى *﴾ أي النوع الأسفل.
ولما كان الاستفهام إنكارياً رد الإنكار بقوله فذلكة لفعلهم: ﴿تلك﴾ أي هذه القسمة البعيدة عن الصواب ﴿إذاً﴾ أي إذ جعلتم البنات له والبنين لكم ﴿قسمة ضيزى *﴾ أي جائرة ناقصة ظالمة فيما يحسن للحق للغاية عرجاء غير معتدلة حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً، وقد علم أن الآية من الاحتباك: دل ذكر اسمها في أسلوب الإنكار على حذف إنكار كونها آلهة وإنكار تخصيصة بالإناث على حذف ما يدل على أنهم جعلوها بناته.
59
ولما أفهم هذا الإنكار بطلان قولهم هذا، حصر القول الحق فيها
59
فقال مستأنفاً: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هي﴾ أي هذه الأصنام ﴿إلا أسماء﴾ أي لا حقائق لها، فما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك إلا الأسماء، وأكد ذلك بقوله مبيناً: ﴿سميتموها﴾ أي ابتدعتم تسميتها أنتم، واجتث قولهم من أصله فقال: ﴿أنتم وآباؤكم﴾ أي لا غير بمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط كلمة تعتدونها، وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأي طريقة قويمة شرعت لكم وأي كلام مليح أو بليغ وصل إليكم وأي آية كبرى أرتكموها - انتهى.
ولما علم بهذا أن الله تعالى لم يأمرهم بشيء من ذلك، صرح به نافياً أن يدل على ما وسموه به دليل فقال: ﴿ما﴾ ولما قدم في الأعراف ترك النافي للتدريج لما تقدم بما اقتضاه، نفى هنا الإفعال النافي لأصل الفعل سواء كان بالتدريج أو غيره لأن المفصل لباب القرآن فهو للمقاصد، وذلك كاف في ذم الهوى الذي هو مقصود السورة فقال: ﴿أنزل الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿بها﴾ أي بالاستحقاق للأسماء ولا لما وسمتموها به من الإلهية، وأعرق في النفي بقوله: ﴿من سلطان﴾ أي حجة تصلح مسلطاً على ما يدعي فيها.
ولما كان هذا النفي المستغرق موجباً للخصم إيساع الحيلة في ذكر دليل على أي وجه كان، وكان هؤلاء قد أبلسوا عند سماع هذا الكلام ولم يجدوا ما يقولون ولا يجدوا، فكان من حقهم أن يرجعوا فلم يرجعوا، أعرض عنهم إيذاناً بشديد الغبن قائلاً: ﴿إن﴾ أي ما ﴿يتبعون﴾
60
أي في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة، وأنها تشفع لهم أو تقربهم من الله ﴿إلا الظن﴾ أي غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم، فالظن ترجيح أحد الجائزين على رغم الظان.
ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال: ﴿وما تهوى الأنفس﴾ أي تشتهي، وهي - لما لها من النقص - لا تشتهي أبداً إلا بما يهوي بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما تشوق إليها العقل، قال القشيري: فالظن الجميل بالله فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل، إنما الظن المعلول في الله وصفاته وأحكامه. ﴿ولقد﴾ أي العجب أنهم يفعلون ذلك والحال أنه قد ﴿جاءهم من ربهم﴾ أي المحسن إليهم ﴿الهدى *﴾ أي الكامل في بابه إلى الدين الحق الناطق بالكتاب الناطق بالصواب على لسان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرأي يقتضي أن من رأى الهدى تبعه ولو أتاه به عدوه، فكيف إذا أتاه به من هو أفضل منه من عند من إحسانه لم ينقطع عنه قط.
ولما كان التقدير: أعليهم أن يتركوا أهويتهم ويهتدوا بهدى ربهم الذي لا ملك لهم معه ﴿أم﴾ لهم ما تمنوا - هكذا كان الأصل، ولكنه ذكر الأصل الموجب لاتباع الهوى فقال: ﴿للإنسان﴾ أي الآنس بنفسه المحسن لكل ما يأتي وما يذر ﴿ما تمنى *﴾ أي من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهية عيش ومن كفره وعناده، وقوله ﴿لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾ [
61

فصلت: ٥٠].


ولما كان الاستفهام إنكارياً، كان المعنى: ليس له ما تمنى، وكان ذلك دليلاً قطعياً على أنه مربوب مقهور ممن له الأمر كله، فسبب عنه قوله: ﴿فلله﴾ أي الملك الأعظم وحده. ولما كانت الأخرى دار اللذات وبلوغ جميع الأماني وحرمانها، وكانوا يدعون فيها على تقدير كونها جميع ما يتمنون من شفاعة آلهتهم وإجابتها إلى إسعادهم ونحو ذلك، قدم قوله: ﴿الآخرة﴾ فهو لا يعطي الأماني فيها إلا لمن تبع هداه وخالف هواه ﴿والأولى *﴾ فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد، فمن ترك هواه فيها نال أمانيه في الآخرة، فلهذا قدمها لا للفاصلة فإنه لو قيل «الأخرى» لصلحت للفاصلة.
ولما كان التقدير: فكم من شخص ترونه في الأرض مع أنه في غاية المكنة فيما يظهر لكم لا يصل إلى ربع ما يتمناه، عطف عليه قوله، مظهراً لضخامة ملكه وأنه لا يبالي بأحد، دالاً على الكثرة: ﴿وكم من ملك﴾ أي مقرب، ودل على زيادة قربه بشرف مسكنه فقال: ﴿في السماوات﴾ أي وهم في الكرامة والزلفى ﴿لا تغني﴾ أي لا تجزي وتسد وتكفي، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة، عبر بما يحتمل ذلك فقال: ﴿شفاعتهم﴾ أي عن أحد من الناس ﴿شيئاً﴾ فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله: ﴿إلا﴾ ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقاً فقال: ﴿من بعد أن يأذن﴾ أي يمكن ويريد ﴿الله﴾
62
أي الذي لا أمر لأحد أصلاً معه، وعبر بأن والفعل دلالة على أنه لا عموم بعد الإذن بجميع الأوقات، وإنما ذلك يجدد بعد تجدد الإذن على حينه وقبل الأمر الباب؟ لعموم العظمة بقوله: ﴿لمن يشاء﴾ أي بتجدد تعلق مشيئته به لأن يكون مشفوعاً أو شافعاً.
ولما كان الملك قد يأذن في الشفاعة وهو كاره، قال معلماً أنه ليس كأولئك: ﴿ويرضى *﴾ فحينئذ تغني شفاعتهم إذا كانوا من المأذون لهم - كل هذا قطعاً لأطماعهم وعن قولهم بمجرد الهوى أي آلهتهم تشفع لهم. ولما أخبر باتباعهم للهوى ونفى أن يكون لهم من ذلك ما يتمنونه دل على اتباعهم للهوى بقوله موضع ﴿أنهم﴾ :﴿إن الذين﴾ وأكد تنبيهاً على أنه قول بالغ في العجب الغاية فلا يكاد يصدق أن عاقلاً بالآخرة يقوله بما جرى لهم على قولهم ذلك وأمثاله بقوله: ﴿لا يؤمنون﴾ أي لا يصدقون ولا هم يقرون ﴿بالآخرة﴾ ولذلك أكد قوله: ﴿ليسمون الملائكة﴾ أي كل واحد وهم رسل الله ﴿تسمية الأنثى﴾ بأن قالوا: هي بنات الله، كما يقال في جنس الأنثى: بنات ﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما ﴿لهم به﴾ أي بما سموهم به، وأعرق في النفي بقوله: ﴿من علم﴾ ولما نفى علمهم تشوف السامع إلى الحامل لهم على ذلك فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿يتبعون﴾ أي بغاية ما يكون في ذلك وغيره ﴿إلا الظن﴾.
ولما كانوا كالقاطعين بأن ذلك ينفعهم، أكد قوله: ﴿وإن الظن﴾
63
أي مطلقاً في هذا وغيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ﴿لا يغني﴾ إغناءً مبتدئاً ﴿من الحق﴾ أي الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله، والظن إنما يعبر به في العمليات لا العلميات ولا سيما الأصولية ﴿شيئاً﴾ من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإن المقصود بتحقق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإن المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه، وهو رده إلى الأصول المستنبط منها لعجز الإنسان على القطع في جميع الفروع، تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوته ليكشف له من الأحقاف.
64
ولما كانوا بعد مجيء الهدى قد أصبروا على الهوى، وكانت هذه السورة في أوائل ما نزل، والمؤمنون قليل، سبب عن ذلك: ﴿فأعرض عن من تولى *﴾ أي كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة من ولى ﴿عن ذكرنا﴾ أي ذكره إيانا، فأعرض عن الذكر الذي أنزلناه فلم ينله ولم يتدبر معانيه فلا يلتفت إلى شيء علمه فإنه مطموس على قلبه ولو كان ذهنه أرق من الشعر فإنه لا يؤول إلا إلى شر ﴿ولا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ [فاطر: ٨] فإنه ما عليك إلا البلاغ.
64
ولما كان المعرض في وقت قد يقبل في آخر، دل على دوامه على وجه بليغ بقوله: ﴿ولم يرد﴾ أي في وقت من الأوقات ﴿إلا الحياة الدنيا *﴾ أي الحاضرة ليقصده بالمحسوسات كالبهائم في العمى عن دناءتها وحقارتها، ثم ترجم جملتي الإعراض والإرادة بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر المتناهي في الجهل والقباحة ﴿مبلغهم﴾ أي نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم، وتهكم بهم بقوله: ﴿من العلم﴾ أنه لا علم لهم لأن عيون بصائرهم عمي، ومرائبها كثيفة مظلمة لا تكشف عن نظر الآخرة التي هي أصل العلوم كلها، ثم علل هذه الجملة بقوله مؤكداً قطعاً لطمع من يظن أن وعظه وكلامه يرد أحداً من غيه وإن أبلغ في أمره ودعائه في سره وجهره، وإعلاماً بأن ذلك إنما هو من الله، فمن وعظ له سبحانه راجياً منه في إيمانه أوشك أن ينفع به كما فعل في وعظ مصعب بن عمير رضي الله عنه فصغى له أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في ساعة واحدة كما هو مشهور ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بالإرسال وغيره ﴿هو﴾ أي وحده ﴿أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ ضلالاً مستمراً، فلا تعلق أملك بأن يصل علمه إلى ما وراء الدنيا، وعبر بالرب إشارة إلى أن ضلال هذا من الإحسان إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لو دخل في دنيه لأفسد أكثر مما يصلح كما قال تعالى: ﴿ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ [التوبة: ٤٧] وذلك لأنه جبل جبلة غير قابلة للخير ﴿وهو﴾ أي وحده
65
﴿أعلم بما اهتدى *﴾ أي ظاهراً وباطناً.
ولما كان هذا ربما أوهم أن من ضل على هذه الحالة ليس في قبضه، قال نافعاً لهذا الإبهام مبيناً أن له الأسماء الحسنى ومقتضياتها في العالم موضع «والحال أنه له» أو عطفاً على ما تقديره: فلله من في السماوات ومن في الأرض: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعظم وحده ﴿ما في السماوات﴾ من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السماوات والأراضي، فإن كل سماء في التي تليها، والأرض في السماء ﴿وما في الأرض﴾ وكذلك الأراضي والكل في العرش وهو ذو العرش العظيم.
ولما أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعراض عنهم وسلاه وأعلمه أن الكل في ملكه، فلو شاء لهداهم ورفع النزاع، ولكنه له في ذلك حكم تحار فيها الأفكار، علل الإعراض كما تقدم في الجاثية في قوله: ﴿قل للذين آمنوا يغفروا﴾ [الجاثية: ١٤] بقوله: ﴿ليجزي﴾ أي يعاقب هو سبحانه كافياً لك ما أهمك من ذلك، ويجوز أن يكون التقدير: وكما أنه سبحانه مالك ذلك فهو ملكه ليحكم بجزاء كل على حسب ما يستحق، فإن الحكم نتيجة الملك ﴿الذين أساؤوا﴾ بالضلال ﴿بما عملوا﴾ أي بسببه وبحسبه إما بواسطتك وبسيوفك وسيوف أتباعك إذا أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة ﴿ويجزي﴾ أي يثبت ويكرم ﴿الذين أحسنوا﴾ أي على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ﴿بالحسنى *﴾
66
أي الثبوت الذي هو في غاية الحسن ما بعدها غاية، فإن الحسنى تأنيث الأحسن.
ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان، وصفهم فقال: ﴿الذين يجتنبون﴾ أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا ﴿كبائر الإثم﴾ أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وعطف على ﴿كبائر الإثم﴾ قوله: ﴿والفواحش﴾ والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه.
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون كان مغفوراً له، صرح به فقال: ﴿إلا﴾ أي لكن ﴿اللمم﴾ معفو، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن، فهو استثناء منقطع، ولعله وضع فيه ﴿إلا﴾ موضع ﴿لكن﴾ إشارة إلى الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى ﴿وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم﴾ [النور: ١٥] واللمم هو صغار الذنوب، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صحابه فلتة بغير اختيار منه، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة، قال الرازي في اللوامع: وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل، قال ذو النون: ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى. يقال: وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه، وقال البغوي: قال السدي: قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال: هو الرجل يلم بالذنب
67
ثم لا يعاوده، قال: فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم، ثم قال البغوي: فأصل الملم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً.
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا، علل ذلك بقوله: ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك ﴿واسع المغفرة﴾ فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله.
ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن، قال نافياً لذلك: ﴿هو أعلم بكم﴾ أي بذواتكم وأحوالكم منك بأنفسكم ﴿إذ﴾ أي حين ﴿أنشاكم﴾ ابتداء ﴿من الأرض﴾ التي طبعها طبع الموت: البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح ﴿وإذ﴾ أي حين ﴿أنتم أجنة﴾ أي مستورون.
68
ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن، حقق معناه بقوله: ﴿في بطون أمهاتكم﴾ بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء، فنشأت الحرارة والرطوبة، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية، ولكن لا علم لكم أصلاً، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً.
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى، سبب عن ذلك قوله: ﴿فلا تزكوا﴾ أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة ﴿أنفسكم﴾ أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قال القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه، وربما حصل له الأذى بسببه «وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع» الحديث، ولذلك علل بقوله: ﴿هو أعلم﴾ أي منكم ومن جميع الخلق ﴿بمن اتقى﴾ أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً.
69
ولما أمره سبحانه بالإعراض عمن تولى عن التشرف بذكر الملك
69
الأعظم واللجاء إليه، ونهى عن التزكية للجهل بالعواقب، وكان قد ارتد ناس عن الإسلام، كان سبب ارتدادهم إخباره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بعض ما رأى من الآيات الكبرى ليلة الإسراء، وكان لما نزلت عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجدة النجم وسجد فيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد معه - كما في البخاري - المسلمون والمشركون والجن والإنس، ولم يكن في ظن أحد من الخلق انقلابهم على أدبارهم بعد حتى ولا في ظن المرتدين، سبب عن ذلك قوله: ﴿أفرأيت﴾ أي أخبروني ﴿الذي تولّى *﴾ أي عن ذكرنا بعد أن كان حريصاً عليه، يظن هو وأهله أنه عريق في أهله بإيمانه وأعماله في أيام إيمانه ﴿وأعطى قليلاً وأكدى *﴾ أي قطع ذلك العطاء على مكده وقلته وأبطله وأفسده فصار كالحافر الذي وصل في حفره إلى كدية، يقال لحافر البئر: أجبل - إذا وصل إلى جبل، وأكدى - إذا وصل إلى كدية أي صفاة عظيمة شديدة لا تعمل فيها المعاول، فصار لا يقدر معها على شيء من علمه، ولا يستطيع النفوذ فيها بشيء من حيله، وقد كان قبل ذلك لما صادف التراب الليل يظن أنه لا يمنعه مانع مما يريد، فهذا دليل خبري شهودي على أنه لا علم لأحد من الخلق بما حباه الله في نفسه فضلاً عن غيره، فلا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه ولا غيره، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة أسلم ثم ارتد لتعيير بعض المشركين له، وقوله له «ارجع وأنا أتحمل عنك العذاب» وهي تصلح لكل من ارتد ظاهراً أو نافق أو انهمك في المعاصي بعد
70
إيمانه معرضاً عن الأعمال الصالحة.
ولما كان هذا - وقد وقع في خطر عظيم من إفساد العمل في الماضي وتركه في المستقبل فصار على خطأ عظيم في أحدهما - يتعلق بأصل الدين: الكفر والإيمان، وكان مثل هذا لا يفعله عاقل بنفسه إلا عن بصيرة، قال تعالى موبخاً له مقرعاً: ﴿أعنده﴾ أي خاصة ﴿علم الغيب﴾ أي كله بحيث لا يشاركه في مشارك يمكن أن يخفى عليه شيء منه ﴿فهو﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنه ﴿يرى *﴾ أي الرؤية الكاملة فيعلم جميع ما ينفعه فيرتكبه وجميع ما يضره فيجتنبه ويعلم أن هذا القليل الذي أعطاه قد قبل وأمن به من العطب فاكتفى به.
ولما كان الغبي قد يظن أن عمل غيره ينفعه، عبر عنه جامعاً للوعظ والتهويل بقوله: ﴿أم لم ينبأ﴾ أي يخبر إخباراً عظيماً متتابعاً ﴿بما في صحف موسى *﴾ أي التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه وكذا ما يتبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها.
ولما قدم كتاب موسى عليه السلام لكونه أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس يمكن مراجعته، قال: ﴿وإبراهيم﴾ ومدحه بقوله دالاً بتشديد الفعل على غاية الوفاء: ﴿الذي وفى﴾ أي أتم ما أمر به وما امتحن به وما قلق شيئاً من قلق، وكان أول من هاجر قومه وصبر على حر ذبح الولد وكذا على حر النار ولم يستعن بمخلوق، وخص هذين النبيين لأن المدعين من بني إسرائيل اليهود
71
والنصارى يدعون متابعة عيسى عليه السلام، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام، ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوة محققة ولا شريعة محفوظة، ثم فسر الذي في الصحف أو استأنف بقوله: ﴿ألا تزر﴾ أي تأثم وتحمل ﴿وازرة﴾ أي نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة ﴿وزر أخرى *﴾ أي حملها الثقيل من الإثم، يعني فمن يحمل عنه أثم أحد الشقين الذي لزمه فلا بد أن يكون آثماً وهما قبل التولي وما بعده.
72
ولما نفى أن يضره إثم غيره نفى أن ينفعه سعي غيره فقال: ﴿وأن ليس للإنسان﴾ كائناً من كان ﴿إلا ما سعى *﴾ فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى، ودعاء المؤمنين للمؤمن سعيه بمواددته لهم ولو بموافقته لهم في الدين وكذا الحج عنه والصدقة ونحوهما، وأما الولد فواضح في ذلك، وأما ما كان لسبب العلم ونحوهما فكذلك، وتضحية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عزامته أصل كبير في ذلك، فإن من تبعه فقد وادده، وهذا أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها.
ولما ثبت أنه ليس له ولا عليه إلا ما عمل، وكان في الدنيا قد يفعل الشيء من الخير والشر ولا يراه من فعله لأجله ولا غيره نفى أن يكون الآخرة كذلك بقوله: ﴿وأن سعيه﴾ أي من خير وشر ﴿سوف﴾ أي من غير شك بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى.
72
ولما كان الاطلاع نفسه مرضياً أو مخزياً لا بالنسبة لأحد بعينه، بناه للمجهول بقوله: ﴿يرى *﴾ ولما كان المخوف منه المجازاة مطلقاً لا من مجاز معين قال: ﴿ثم يجزاه﴾ ولما كان في هذه الدار ربما وقعت المسامحة ببعض الأشياء والغفلة عن بعضها، قال: ﴿الجزاء الأوفى *﴾ أي الإثم الأكمل، إن كان خيراً فمع المضاعفة، وإن كان غيره فعلى السواء لمن أراد الله ذلك له ويعفو عن كثير، لكنه تذكرة له.
ولما كانت رؤية الأعمال لا تقطع برؤية المتوكلين بها من الملائكة أو غيرها ممن أقامه الله لذلك، وكان الرائي كلما كان أكثر كان الأمر أهول، وكان رؤية الملك الأعظم أخوف، قال عاطفاً على ﴿لا تزر﴾ مبيناً بحروف الغاية أن الرائين للأعمال كثير لكثرة جنوده سبحانه: ﴿وأن إلى ربك﴾ أي المحسن إليك لا غيره ﴿المنتهى *﴾ أي الانتهاء برجوع الخلائق حساً بالبعث ومعنى بالعمل والعلم، وإسناد الأمور وإرسال الآمال، ومكان رجوعهم وزمانه كما كان منه المبتدأ، أكد ذلك خلقاً لذلك كله وحساباً عليه، روى البغوي من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية قال «لا فكرة في الرب» قال: ومثل هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنه لا يحيط به الفكرة» ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره»، هذا هو
73
المراد وهو واضح، فمن أول الآية باتحاد أو غير ذلك من الإلحاد فعليه لعنة الله وعلى الذاب عنه والساكت عنه.
ولما ذكر تعالى الأمور الاختيارية وقدمها لأنها محط للبلاء وسلب علمها عن أصحابها، وحذر من عاقبتها بإحاطته بكل شيء، وكان معنى ذلك أنه القادر على غيره والعالم لا غيره، عطف عليه قوله ذاكراً للأمور الاضطرارية التي هي في غاية التنافي إكمالاً للدليل على أنه يعلم ما في النفوس دون أصحابها وغيرهم وأنه إليه المنتهى إعادة وإبداء، يوقف ما يشاء على ما يريد من الأسباب التي تفعل بإذنه من الضحك أو البكاء وغيرهما من الأمور المنافية التي لولا الإلف لها لقضى الإنسان أن المتلبس بأحدهما لا يتلبس بضده أصلاً من غيرها ﴿وأنه﴾ ولما كانت التأثيرات الإدراكية تحال على أسبابها، أكد الكلام فيها فقال: ﴿هو﴾ أي لا غيره ﴿أضحك وأبكى *﴾ أي ولا يعلم أحد قبل وقت الضحك أو البكاء أنه يضحك أو يبكي ولا أنه يأتيه ما يعجبه أو يحزنه، ولو قيل له حالة الضحك أنه بعد ساعة يبكي لأنكر ذلك، وربما أدركه ما أبكاه وهو في الضحك وبالعكس.
ولما كانت الإماتة والإحياء أعظم تنافياً بما مضى، فكانت القدرة على إيجادها في الشخص الواحد أعظم ما يكون، وكان ربما نسب إلى من قتل داوى من مرض أو أطلق من وجب قتله، أكد فقال: ﴿وأنه هو﴾ أي لا غيره. ولما كان الإلباس في الموت أكبر، وكان الموت انسب للبكاء، والإحياء أنسب للضحك، وكان طريق النشر المشوش
74
أفصح، قدمه فقال: ﴿أمات وأحيا *﴾ وإن رأيتم أسباباً ظاهرية فإنه لا عبرة بها أصلاً في نفس الأمر بل هو الذي خلقها.
ولما كان ذكر الإحياء، وكان تصنيف الولد إلى نوعيه ظاهراً في اختصاصه، بل وهو في غاية التعذر على من سواه، أعراه عن مثل التأكيد في الذي قبله فقال: ﴿وأنه خلق الزوجين﴾ ثم فسرها بقوله: ﴿الذكر والأنثى *﴾ فإنه لو كان ذلك في غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لكل أحد، ثم ذكر ما يظهر ولا بد أنه من صنعه فتسبب أن مادة الاثنين واحدة وهو الماء الذي هو أشد الأشياء امتزاجاً فقال: ﴿من نطفة﴾ وصور كونها منها بقوله: ﴿إذا تمنى *﴾ أي تراق وتدفق بالفعل لا قبل ذلك ليمكن فيه طعن بأنه كان بدءاً أو غيره بل أنتم تعلمون أنه لا يخلق الولد إلا بعد الإمناء بالفعل، وخرج أصله ما يمكن خلقاً من خلق الله أن يعرف بمجرد رؤيته أهو صالح للأنثى فقط أو للذكر فقط أو لهما أو للأشكال بالخنوثة.
ولما ساق هذه الأشياء دليلاً على إحاطة علمه فلزمها أن دلت على تمام قدرته، وختمها بالنشأة الأولى فلزم من ذلك الإقرار حتماً بأنه قادر على البعث، عبر بما يتقضي أنه لما تقدم به وعده على جميع ألسنة رسله صار واجباً عليه بمعنى أنه لا بد من كونه لأنه لا يبدل القول لديه، لا غير ذلك، فعبر بحرف الاستعلاء تأكيداً له رداً لإنكارهم إياه فقال: ﴿وأن عليه﴾ أي خاصاً به علماً وقدرة ﴿النشأة﴾ أي الحياة وهو ممدود لابن
75
كثير وأبي عمرو ومقصور لغيرهما مصدر نشأ - إذا حنى وربى وسن ﴿الأخرى *﴾ أي التي ينشأ بها الخلق بعد أن يميتهم.
ولما كان الغنى والفقر من الأمور المتوسطة بين الاختيارية والاضطرارية له بكل الأمرين لسبب وكان مقسوماً بين الإناث والذكور بحكمة ربانية لا ينفع الذكر فيها قوته ولا يضر الأنثى ضعفها، وكان ذكر النشأة الآخرة كالمعترض إنما أوجب ذكر النشأة الأولى، تعقب ذكرهما به وكان ذكر الغنى مع أنه يدل على الفقر أليق بالامتنان، والنسبة إلى الرب، وكان الغنى الحقيقي إنما يكون في تلك الدار، أخر ذكره فقال: ﴿وأنه﴾ ولما كان ربما نسب إلى السعي وغيره، أكد بالفعل فقال: ﴿هو﴾ أي وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره ﴿أغنى﴾ ولما كان الغنى في الحقيقة إنما هو غنى النفس، وهو رضاها بما قسم لها وسكونها وطمأنينتها، وإنما سمي ذو المال غنياً لأن المال بحيث تطمئن معه النفس، فمن كان راضياً بكل ما قسم الله به فهو غني، وهو في الجنانة مغني وإن كان في الدنيا ﴿وأقنى *﴾ أي أمكن من المال وأرضى بجميع الأحوال قال البغوي: أعطى أصول المال وما يدخر بعد الكفاية، قال: وقال الأخفش أقنى أفقر - انتهى. ونقل الأصبهاني مثله عن أبي زيد، فتكون الهمزة للإزالة ويقال، أفناه بكذا أرضاه، وأقناه الصد: أمكنه منه.
76
ولما كانت الشعرى لأنها تقطع السماء عرضاً أدل النجوم بعد تمام
76
القدرة على الفعل بالاختيار مع أنها مما دخل تحت ذلك الجنس المقسم به أول السورة، وهي لمرورها في سيرها عرضاً على جميع المنازل التي كانت العرب تستمطر بها وتنسب بالإتيان بالحد الموجب للغنى إليها كانت قد عبدها من دون الله أبو كبشة الخزاعي لكونها عنده أجل الكواكب، قال تعالى دالاً بالتأكيد على سفاهة من عبدها: ﴿وأنه هو﴾ أي لا غيره ﴿رب الشعرى *﴾ أي الكاملة في معناها وهي العبور، وأهل علم النجوم يقولون، إن الأحكام النجومية المنسوبة إليها أصح ما ينسب إلى العالم العلوي، وهي نجم يضيء خلف الجوزاء، ويسمى كلب الجبال، وسميت الجوزاء بالجبار تشبيهاً لها بملك على كرسيه وعلى رأسه تاج، وقال الرازي في اللوامع: هي أحد كوكبي ذراعي الأسد، وقال ابن القاص في كتاب دلائل القبلة: وترى عند صلاة الصبح نيرة زائداً نورها على نور سائر الكواكب حولها، وقد طمس الصبح نور سائر الكواكب، وأما الشعرى الأخرى فهي الغميصاء - بالغين المعجمة والصاد المهملة - فهي أقل نوراً منها، ولذلك سميت الغميصاء، وقال القزاز في جامعه: وقيل: بكت على أختها فغمصت عينها، أي غارت وذهبت.
ولما دل سبحانه على كمال علمه وشمول قدرته بأمور الخافقين: العلوي والسفلي، فكان ذلك داعياً إلى الإقبال على ما يرضيه، وناهياً عن الإلمام بما يسخطه، شرع في التهديد لمن وقف عن ذلك بما وقع في مصارع الأولين من عجائب قدرته فقال: ﴿وأنه أهلك عاداً﴾ ولم يأت بضمير الفصل لأنه لم يدع في أحد غيره إهلاكهم، وهول أمرهم بقوله:
77
﴿الأولى *﴾ أي القدماء في الزمان جداً دلالة على أنه المنصرف في جميع الأزمنة، وقدمهم لأن الشر أتاهم من حيث ظنوه خيراً وجزموا بأنه من الأنواء النافعة التي كانت عادتهم استمطارها، وقيل: إن عاداً قبيلتان: والأولى قوم هود عليه السلام والأخرى إرم ذات العماد - قاله جماعة منهم القشيري، قال البغوي: وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى، وقال ابن جرير: وعاداً الأولى هم الذين عنى الله بقوله ﴿ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم﴾ [الفجر: ٦ - ٧] وإنما قيل لهم عاداً الأولى لأن بني لقيم بن هزال هزيل بن عنبل بن عاد كانوا أيأم أرسل الله على هؤلاء عذابه سكاناً بمكة مع إخوانهم من العمالقة ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام فلم يصبهم من العذاب ما أصاب قومه وهم عاد الأخرى، ثم هلكوا بعد بغي بعضنهم على بعض فتفانوا، وقال غير ابن جرير: إن إرم هم عاد الأخرى، وعطف عليهم قوله: ﴿وثموداً﴾ أي أهلكهم ثم سبب عن الإهلاك قوله: ﴿فما أبقى *﴾ أي من الفريقين أحداً، ومن قال: إن عاداً قبيلتان جعل عدم الإبقاء خاصاً بثمود، وقراءة عاصم وحمزة ويعقوب بمنع الصرف نص في أنه قوم صالح عليه السلام، وقراءة الباقين بالصرف أنسب للإهلاك والإعدام.
ولما قدم من كان إهلاكهم بنفس الريح التي هي مبدأ الأمطار الآتية لهم في السحاب، وأتبعهم من إهلاكهم بها بحملها للصيحة إرجافها
78
بهم، أتبعهم من كان إهلاكهم بالماء الذي هو غاية السحاب فقال: ﴿وقوم نوح﴾ أي أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب، ولما كان إهلاكهم في بعض الزمان الماضي قال: ﴿من قبل﴾ أي قبل الفريقين فصار في الكلام تهويلان يهزان القلب ويفعلان في النفس وصف هؤلاء بالقبيلتين وأولئك بالأولى، ولولا تقديمهم ما كان هذا، وعلل هلاكهم بما يؤذن أنه لا فرق عنده بين قوي وضعيف وقليل وكثير مؤكداً لان ما اشتهر من طغيان عاد يوجب أنهم أطغى الناس: ﴿إنهم كانوا﴾ أي بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبال التي لا انفكاك عنها ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿أظلم﴾ من الطائفتين المذكورتين ﴿وأطغى *﴾ أي وأشد تجاوزاً في الظلم وعلواً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتواً لتمادي دعوة نوح عليه السلام ولأنهم أطول أعماراً وأشد أبداناً، وكانوا مع ذلك ملء الأرض، ويجوز أن يكون الضمير للفرق الثلاثة.
79
ولما ذكر الهلاك بالريح العاصفة الناشئة عنها ثم بالماء الناشئ عن السحاب الناشئ عن الريح، ذكر الإهلاك بالريح والنار والماء إعلاماً بأنه الفاعل وحده بما أراد من العذاب من العناصر التي سبب الحياة مجتمعة ومنفردة، فقال مقدماً عن العامل إعلاماً بالتخصيص بما ذكر من العذاب إفادة بإنه تعالى قادر على كل شيء فلم يعذب فرقة بما عذب به الأخرى: ﴿والمؤتفكة﴾ أي المدن المقلبة عن وجوهها إلى أقفائها بقدرة جعلتها من شدتها وعظمتها كأنها انقلبت نفسها من غير قالب وذلك أنه سبحانه فتقها من الأرض ففتقها ثم دفعها في الهواء إلى عنان السماء ثم
79
قلبها وأتبعها حجارة النار الكبريتية وغمرها بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الدنيا، ولذلك قال: ﴿أهوى *﴾ أي رفع وحط وأنزل، فكان الإنزال إهواءً حقيقياً، والرفع مجازياً لأنه سببه وهي مدن قوم لوط عليه السلام، وأشار إلى الحجارة والماء بقوله مسبباً عن الإهواء ومعقباً له: ﴿فغشاها﴾ أي أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء، وهولها بقوله: ﴿ما غشى *﴾ أي أمراً عظيماً من الحجارة وغيرها لا يسع العقول وصفه، وقد اشتمل ما ذكره سبحانه من الصحف على بيان ما ينفع من الأعمال وما يضر وبيان التوحيد باحاطة الله سبحانه بالنهايات التي لا نهاية بعدها علماً وقدرة لاختصاصه ببيان المصنوعات وببيان البعث للتخويف بالآجل وإهلاك المرتدين للتخويف بالعاجل لمن كان قلبه جافياً عن النفوذ إلى الآجل.
ولما أهلك كل واحدة من هذه الفرقة فلم يبق من فجارها أحد، وأنجى من أطاعه منهم فلم يهلك منهم أحد، وكان إهلاكه لكل منها بشيء غير ما هلك به الفريق الآخر، فدل كل من ذلك على تمام علمه وكمال قدرته، وكان كمل ما تقدم في هذه السورة من النعم والنقم لكونه كان أتم أوجه الحكم نعمة على كل مؤمن لما فيها من الترغيب في ثوابه والترهيب من عقابه، خاطب سبحانه رأس المؤمنين لأن خطابه له أشد في تذكير غيره فقال مسبباً عما مضى: ﴿فبأيّ آلاء ربك﴾ أي عطية المحسن إليك التي هي وجه الإنعام والإكرام وهي إشارة المعرفة به سبحانه بمنزلة ظل الشخص من الشخص كما أنه لايتصور ظل إلا لشخص
80
فكذلك فعل الفاعل ولا أثر للمؤثر ﴿تتمارى *﴾ أي تشك بإجالة الخواطر في فكرك في إرادة هداية قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك وقد حكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته، وكان بعض خطرك في تلك الإجالة يشكك بعضاً، ولما تم الكلام على هذا المنهاج البديع والنمط الرفيع في حسان البيان للمواعظ والشرع والقصص القديمة والإنذار العظيم التام على وجه معجز من وجوه شتى، أنتج قوله مرغباً مرهباً خاتماً السورة بما بدأ هنا به من ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿هذا﴾ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿نذير﴾ أي محذر بليغ التحذير، ولما كانت الرسل الماضون عليهم الصلاة والسلام قد تقررت رسالتهم في النفوس وسكنت إليها القلوب، بحيث أنه لا يسع إنكارها، فكان قد أخبر عن إنكار من كذبهم لأجل تكذيبهم، وإنجائهم وإنجاء من صدقهم لأجل نصرتهم، وكان لا فرق بينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم في ذلك إلا أن الرحمة به أبلغ وأغلب، مرعباً في اتباعه مرهباً من نزاعه، قال: ﴿من النذر الأولى *﴾ يجب له ما وجب لهم وأنتم كالمنذرين الأولين، فاحذروا ما حل بالمكذبين منهم وارجوا ما كان للمصدقين.
ولما كان كل آت قريباً، وكانت الساعة - وهي ما أنذر به من القيامة ومما دونها - لا بد من إتيانها لما وقع من الوعد الصادق به المتحف بالدلائل التي لا تقبل شكاً بوجه من الوجوه، فكان باعتبار ذلك لا شيء أقرب منها، قال دالاً على ذلك بصيغة الماضي الذي قد تحقق وقوعه وباشتقاق الواقع الفاعل مما منه الفعل: ﴿أزفت الآزفة *﴾ أي دنت
81
الساعة الدانية في نفسها التي وصفت لكم بالفعل بالقرب غير مرة لأنها محط الحكمة وإظهار العظمة، وما خلق الخلق إلا لأجلها، المشتملة على الضيق وسوء العيش من القيامة، وكل ما وعدتموه في الدنيا مما يكون به ظهور هذا الدين وقمع المفسدين. ولما ضاق الخناق من ذكرها على هذا الوجه، تشوف السامع إلى دفعها، فاستأنف قوله: ﴿ليس لها﴾ واستدرك بقوله: ﴿من دون الله﴾ أي من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿كاشفة *﴾ أي كاشف يوجدها ويقيمها ويجلي علمها، أو يدفع كربها وهمها وإن بالغ في الكشف وبذلك الجهد فيه، فالهاء للمبالغة، ويجوز أن تكون مصدراً كالجاثية والكاذبة والباقية فيكون الهاء للتأنيث.
ولما أفهم هذا أن الله يكشفها أي يكشف كربها ممن يريد من عباده ويثقله على من يشاء، ويكشف علمها بإقامتها، ولا حيلة لغيره في شيء من ذلك بوجه، سبب عنه وعما تقدمه من الإنذار قوله منكراً موبخاً، ﴿أفمن هذا الحديث﴾ أي القول العظيم الذي يأتيكم على سبيل التجدد بحسب الوقائع والحاجات ﴿تعجبون *﴾ إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب.
ولما كان المعجب قد يمسك نفسه عن الضحك، بين أنهم ليسوا كذلك فقال: ﴿وتضحكون﴾ أي استهزاء تجددون ذلك في كل وقت مبتدأ ضحككم منه وهو بعيد من ذلك، ولما كان إنما يورث الحزن بكونه
82
نزل بالحزن قال: ﴿ولا تبكون *﴾ أي كما هو حق من يسمعه.
ولما كان البكاء قد يكون على التقصير في العمل، بين أن الأمر أخطر من ذلك فقال: ﴿وأنتم﴾ أي والحال أنكم في حال بكائكم ﴿سامدون *﴾ أي دائبون في العمل جاهدون في العمل، فإن الأمر جد، فالدأب في العمل والجد فيه حينئذ علة للبكاء، فكأنه قيل: ولا تدأبون في العمل فتبكون، وإنما قلت ذلك لأن «سمد» معناه دأب في العمل ورفع رأسه تكبراً وعلاً، وسمد الإبل: جد في السير، وسار سيراً شديداً، واسمادّ: ورم، وسمد: قام متحيراً وحزن وسر وغفل ولهاً وقام وحصل ونام واهتم وتكبر وتحير وبطر وأشر، وسمد الأرض: سهلها، وأيضاً جعل فيها السماد، أي السرقين، والشعر: استأصله، وهو لك سمداً أي سرمداً، والسميد: الحواري، ذكر ذلك مبسوطاً القزاز في جامعه وصاحب القاموس.
فالمادة كما ترى تدور على انتشارها على الدأب في العمل فتارة بذكر مبدئه الباعث عليه، وتارة الناشئ عنه، وتارة ما بينهما، وهو الجد في العمل، فينطلق الاسم على كل من ذلك تارة حقيقة ومرة بمجاز الأول، وأخرى بمجاز الكون، فالقصد باعث، وكذا الاهتمام والقيام ورفع الرأس ناشئان عنهما، وذلك أوله، والسدم بمعنى احرص والهم واللهج بالشيء، والسديم: الضباب الرقيق، هو مبدأ الكشف، والمسدم: البعير المهمل وما دبر ظهره، كأنه من الإزالة، وركية سدم: متدفقة - للمعالجة في فتحها، ولأن تدفقها دأب في العمل، وكذا سدم الباب أي ردمه، والدسم: الودك، لأنه منشط على العمل ومنشأ
83
منه، والوضر والدنس، ودسم المطر الأرض: بلها قليلاً، لأنه مبدأ الكثير، والقارورة: سدها، والباب: أغلقه، لأنه يعالج في فتحه، والدسمة: غبرة إلى السواد - كأنه مبدأ السواد والدسيم لما لم يكن أبواه من نوع واحد - كأنه مبدأ لكل نوع منهما ولأنه يلزم الخلط في العادة العلاج، ومنه الدسمة للرديء من الرجال - كأنه لم يكمل فيه النوع، ولأن نقص الشيء عن عادته يلزمه العلاج والفعل بالاختيار، والديسم: الرفيق بالعمل المشفق، وأنا على دسم من الأمر أي طرف منه، والمسد - محركة: المحور من الحديد، لأنه آلة الفتل، وحبل من الليف أو ليف المقل لأنه محل الدأب، والمساد: نحى السمن، ودمسه: دفنه، يصلح أن يكون مبدأ ومقصداً، ومنه دمس بينهم: أصلح لأنه دفن أحقادهم وعالج في ذلك، والدمس: إخفاء الشيء والظلام، لأنه منشئ التعب، ودمس الموضع: درس - للتعب في معرفته، ودمس الإهاب: غطاه فيمشط شعره، والدمس: الشخص، وبالتحريك: ما غطى، والدودمس بالضم: حية مجر نفشة الغلاصيم تنفخ فتحرق ما أصابت بنفخها، ومن آثاره الناشئة عن الورم، وكذ القيام متحيراً والغفلة والسرور والحزن واللهو والنوم والكبر والتبختر والعلو والعتا، والسميد أي الحواري، والسمد بمعنى السرمد: والسمد: الهم مع ندم أو الغيظ مع حزن، والديماس: الكن، وما بين ذلك سمد الأرض والشعر والسير الشديد والجد فيه، وهو نفس الدأب، وكذا السديم للكثير الذكر، وماء مسدم وعاشق مسدم: شديد العشق، والدسيم: ظلمة السواد، والدسيم، الكثير الذكر، ودسم البعير: طلاه بالحناء - والمسد:
84
إداب السير - وبالتحريك: المضفور المحكم الفتل، ورجل ممسود: مجدول الخلق - شبه به - وهي بها، ودمس بينهم: أصلح، وهو من الدفن أيضاً لأنه دفن أحقادهم فنبين أن جعل السمود في الآية بمعنى الدأب في العمل هو الأولى، وأن كون الجملة حالاً من جعلها معطوفة على ﴿تضحكون﴾ - انتهى والله أعلم.
ولما حث على السمود، فسره مسبباً عن الاستفهام ومدخوله قوله: ﴿فاسجدوا﴾ أي اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود الذي في الصلاة ﴿لله﴾ أي الملك الأعظم ﴿واعبدوا *﴾ أي بكل أنواع العبادة فإنه ﴿ما ضل صاحبكم﴾ عن الأمر بذلك ﴿وما غوى﴾ قال الرازي في اللوامع: قال الإمام محمد بن علي الترمذي: تعبدنا ربنا مخلصين أن نكون له كالعبيد وأن يكون لعبيده كما هو لهم - انتهى، ولو كان السمود بمعنى اللهو كان الأنسب تقديمه على ﴿تبكون﴾ - والله أعلم، وقد ظهر أن آخرها نتيجة أولها، ومفصلها ثمرة موصلها - والله الهادي.
85
سورة القمر
مقصودها بيان آخر النجم في أمر الساعة من تحققها وشدة قربها وتصنيفرآن والضحك والبكاء والعمل - إلى طالب علم مهتد به، وإلى متبع نفسه هواها وشهواتها ضال بإهمالها فهو خائب، وذلك لأنه سبحانه وعد بذلك بإخبار نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وتحقق صدقه بما أيده به من آياته التي ثبت بها اقتداره على ما يريد من الإيجاد الإعدام، فثبت تفرده بالملك وأيد اقترابها بالتاثير في آية الليل بما يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك... فإن ذلك... بأنه ما بقي يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك.. فإن ذلك... بأنه ما بقي إلا تأثير آية النهار وعندما يكون طي الانتشار وعموم البوار المؤذن بالإحضار لدى الواحد القهار، وأدل ما فيها على هذا الغرض كله أول آياتها، فلذلك سميت بما تضمنته من الاقتراب المنجم به النجم بالإشارة لا بالعبارة، ولم تسم بالانشقاق لأنه إذا أطلق انصرف إلى الأتم، فالسماء أحق به) بسم الله (الذي أحاط علمه فتمت قدرته) الرحمن (الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد) الرحيم (الذي خص بإتمام النعمة من اصطفاه فأسعدتهم رحمته.
86
Icon