تفسير سورة الحشر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٥٩ ) سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون.
هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم وهي سورة بني النضير، وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم وهم يرون أنه لا ترد له راية فلما جرت هزيمة أحد ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفرة، فجمع إليهم وحاصرهم وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم فارتحلوا إلى بلاد مختلفة خيبر والشام وغير ذلك من البلاد، ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحشر
هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم، وهي سورة بني النضير، وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم، وهم يرون أنه لا تردد له راية، فلما جرت هزيمة أحد ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي ﷺ من أحد تبين له معتقد بني النضير، وغدرهم بعهده، وموالاتهم للكفرة، فجمع إليهم وحاصرهم وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر والشام وغير ذلك من البلاد، ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
قد تقدم القول في تسبيح الجمادات التي يتناولها عموم ما في السماوات والأرض وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك. فقال قوم: ذلك على الحقيقة، وقال آخرون: ذلك مجاز أي آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له أن يسبح، قال مكي سَبَّحَ معناه: صلى وسجد فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذي أخرجهم من ديارهم، والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل وأموال عظيمة، فلما رجع رسول الله ﷺ من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ. وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن الْحَشْرِ: الجمع والتوجيه إلى ناحية ما. فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: أراد حشر القيامة أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي أن النبي ﷺ قال لهم: «امضوا هذا
أول الحشر وإنا على الأثر». وقال عكرمة والزهري وغيرهما: المعنى لِأَوَّلِ موضع الْحَشْرِ وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي ﷺ قال لبني النضير «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»، وقال قوم في كتاب المهدوي: المراد الْحَشْرِ في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله ﷺ ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي ﷺ بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب»، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج: سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات، وفي هذه الإحاطة نظر.
وقوله تعالى: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ يريد: من جند الله حزب الله وقوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل. وقرأ الجمهور: «الرعب» بسكون العين، وقرأ أبو جعفر وشيبة، بضم العين، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فقال الضحاك والزجاج وغيره: كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأبا فهذا معنى تخريبهم. وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافا ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه، وقوله تعالى: وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ من حيث فعلهم، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين. وقال جماعة من المفسرين: إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي. قال قتادة: خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوهم من داخل. وقرأ جمهور القراء: «يخربون» بسكون الخاء وتخفيف الراء. وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء. فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب، معناه: هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خرابا وذهب عنه، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي العيون والأفهام.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٣ الى ٦]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه كتب على بني إسرائيل جلاء، وكانت بنو النضير ممن حل بالحجاز
284
بعد موت موسى عليه السلام بيسير، لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع وقد عصوا في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لجماله وعقله، وقد كان موسى عليه السلام قال لهم لا تستحيوا أحدا، فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل بالشام وجدوا موسى ميتا، وقال لهم بنو إسرائيل أنتم عصاة والله لا دخلتم علينا بلادنا، فقال أهل ذلك الجيش عند ذلك ليس لنا أحب من البلاد التي غلبنا أهلها، فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام، وقد كان الله تعالى كتب في الأزل على بني إسرائيل جلاء فنالهم هذا الْجَلاءَ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لَعَذَّبَهُمْ الله فِي الدُّنْيا بالسيف والقتل كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا الرجل وأجلاه غيره، وقد يقال: أجلى الرجل نفسه بمعنى جلا، والمشاقة كون الإنسان في شق ومخالفه في شق، وقوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ سببها أن بعض أصحاب النبي ﷺ وضعوا أيديهم في نخل بني النضير يقطعون ويحرقون، فقال بنو النضير: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فكف عن ذلك بعض الصحابة وذلك في صدر الحرب معهم، فنزلت الآية معلمة أن جميع ما جرى من قطع أو إمساك فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وردت الآية على قول بني النضير، إن محمدا ينهى عن الفساد وها هو ذا يفسد فأعلم الله تعالى أن ذلك بإذنه لِيُخْزِيَ به الْفاسِقِينَ من بني النضير، واختلف الناس في اللينة، فقال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون: اللينة النخلة اسمان بمعنى واحد وجمعها لين وليان، قال الشاعر [امرؤ القيس] :[المتقارب]
وسالفة كسحوق الليان أضرم فيها الغوي السعر
وقال الآخر [ذو الرمة] :
طراق الخوافي واقع فوق لينة ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال ابن عباس وجماعة من اللغويين: اللينة من النخل ما لم يكن عجوة. وقال سفيان بن سعيد الثوري: اللينة الكريمة من النخل، وقال أبو عبيدة فيما روي عنه وسفيان: اللينة: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، يقال له اللون، قال سفيان، هو شديد الصفرة يشف عن نواة من التمر فيرى من خارج وأصلها لونة فأبدلت لموافقة الكسرة، وقال أيضا أبو عبيدة اللين: ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني. وقرأ ابن مسعود والأعمش: «أو تركتموها قوماء على أصولها»، وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ الآية. إعلام إنما أخذ لبني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي ﷺ وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خمس الغنائم، وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها، ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها رسول الله ﷺ لنفسه قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين، ولم يعط منها الأنصار شيئا، غير أن أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف شكيا عظيمة فأعطاهما، هذا قول جماعة من العلماء، وفي ذلك قول عمر بن الخطاب: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون ب خَيْلٍ وَلا رِكابٍ فكان رسول الله ﷺ ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي منها جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. قال بعض العلماء: وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة والوجيف: دون
285
التضريب، يقال وجف الفرس وأوجفه الراكب والإيجاف: سرعة السير والاجتهاد فيه.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٧ الى ٨]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)
أَهْلِ الْقُرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، وحكمها مخالف لبني النضير، ولم يحبس من هذه رسول الله ﷺ لنفسه شيئا بل أمضاها لغيره، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت، واختلف الناس في صفة فتحها فقيل: عن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث بعثا إلى كل مكان فطاع وأعطاه أهله فكان مما لم يوجف عليه، وكان حكمه حكم خمس الغنائم، وليس في الآية نسخ على هذا التأويل، وأعطى رسول الله ﷺ جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا. وقال قتادة وزيد بن رومان:
كانت هذه القرى قد أوجف عليها، ولكن هذا حكم ما يوجف عليه، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية الأنفال فجعل فيها الخمس لهذه الأصناف وبقيت الأربعة الأخماس للمقاتلة، وآية هذه السورة لم يكن فيها للمقاتلة شيء، وهذا القول يضعف، لأن آية الأنفال نزلت إثر بدر وقبل بني النضير وقبل أمر هذه القرى بسنة ونيف. والْقُرْبى في هذه الآية قرابة النبي ﷺ منعوا الصدقة وعوضوا من الفيء.
وقوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ مخاطبة للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني، وقرأ جمهور الناس «يكون» بالياء، وقرأ أبو جعفر وابن مسعود وهشام عن ابن عامر:
بالتاء وهي كان التامة. وقرأ جمهور الناس: «دولة» بضم الدال ونصب الهاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «دولة» بفتح الدال ونصب الهاء. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وهشام عن ابن عامر: «دولة» بضم الدال والهاء. وقال عيسى بن عمرهما بمعنى واحد. وقال الكسائي وحذاق النظرة الفتح في الملك: بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر والضم في الملك بكسر الميم. والمعنى أنها كالعواري فيتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شيء ولا حظ في شيء من هذه الأموال ليتيم غني ولا لابن سبيل حاضر المال، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال، وروي: أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا: لنا منها سهمنا فنزل قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الآية، مؤدبا في ذلك وزاجرا ثم اطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي ﷺ ونواهيه حتى قال قوم إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود: لعنة الواشمة والمستوشمة الحديث. ورأى محرما في ثيابه المخيطة. فقال له: اطرح هذا عنك، فقال له الرجل: أتقرأ علي بذلك آية من كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بيان لقوله: وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ
فكرر لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ليبين أن البدل إنما هو منها، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم وتوجب الإشفاق عليهم وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وجميع المهاجرين إما أخرجهم الكفار وإما أحوال الكفار وظهورهم، وفرض الهجرة في ذلك الوقت، ووصفهم بالفقر وإن كان لهم بعض أحوال وهي حال للفقر في اللغة، وقد مضى بيان هذا في سورة الكهف. وقوله يَبْتَغُونَ في موضع الحال، و «الفضل والرضوان» يراد به الآخرة والجنة، و «نصر الله» تعالى هو نصر شرعه ونبيه، والصَّادِقُونَ في هذه الآية يجمع صدق اللسان وصدق الأفعال، لأن أفعالهم في أمر هجرتهم إنما كانت وفق أقوالهم.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
الَّذِينَ تَبَوَّؤُا هم الأنصار، والضمير في قَبْلِهِمْ للمهاجرين، و «الدار» هي المدينة، والمعنى: تبوءوا الدار مع الإيمان معا، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله: مِنْ قَبْلِهِمْ فتأمله، وَالْإِيمانَ لا يتبوأ لأنه ليس مكانا ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن.
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم يُحِبُّونَ المهاجرين، وبأنهم يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية. أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح، والحاجة: الحسد في هذا الموضع، قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي ﷺ في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى، وأُوتُوا معناه: أعطوا، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين، وقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ الآية، صفة للأنصار. وقد روي من غير ما طريق، أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار، قال أبو المتوكل: هو ثابت بن قيس، وقال أبي هريرة في كتاب مكي: كنية هذا الرجل أبو طلحة، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله ﷺ قالت: والله ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: نومي صبيتك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل، ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله ﷺ قال: عجب الله من فعلكما البارحة، ونزلت الآية في ذلك، والإيثار على النفس أكرم خلق، وقال حذيفة العدوي:
طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء، فوجدته، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يصيح آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي، فقلت: اشرب فإذا آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته، فإذا به قد فاضت نفسه، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي:
287
قدم علينا شاب من بلخ حاجا فقال: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا، فقال:
هكذا عندنا كلاب بلخ، فقلت له: فما هو عندكم، فقال: إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي: أن سبب هذه الآية أن النبي ﷺ لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه»، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت هذه الآية. والخصاصة: الفاقة والحاجة، وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج، و «شح النفس» هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح»، واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقيل له في ذلك فقال إذا وقيته لم أفعل سوءا.
قال القاضي أبو محمد: «شح النفس» فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به، وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة: من لم يأخذ شيئا نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برىء من شح النفس. وقال ابن مسعود رحمه الله «شح النفس» : هو أكل مال الغير بالباطل، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح، ولكنه ليس بالشح. وقرأ عبد الله بن عمر: «شح» بكسر السين، ويوقى وزنه: يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن. وقرأ أبو حيوة: «يوقّ» بفتح الواو وشد القاف والْمُفْلِحُونَ: الفائزون ببغيتهم.
واختلف الناس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ فقال الفراء: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول وإعراب الَّذِينَ رفع عطفا على هُمُ أو على الَّذِينَ أو رفع بالابتداء. وقوله تعالى:
يَقُولُونَ حال فيها الفائدة والمراد: والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة، ولهذه الآية قال مالك وغيره: إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض فلا حظ له في الغنيمة أدبا له، وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ فقالوا:
لا، أفمن الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ؟ قالوا: لا، قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية. قوموا فعل الله بكم وفعل، وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدريا كلهم يحدثني أن النبي ﷺ قال:
«من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحدا من أهل التوحيد بذنب». والغل: الحقد والاعتقاد الرديء، وقرأ الأعمش: «في قلوبنا غمرا للذين» والغمر: الحقد، وقد تقدم الاختلاف في قراءة رَؤُفٌ.
قوله عز وجل:
288

[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١١ الى ١٣]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣)
هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير وقالوا لهم، أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم، وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا حتى لا يقدر محمد عليهم فيتم لهم مرادهم وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بني النضير بل قعدوا في ديارهم.
وقوله عز وجل: لَئِنْ نَصَرُوهُمْ معناه: ولئن حاولوا ذلك فإنهم ينهزمون، ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحدا، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: لا يَخْرُجُونَ و: لا يَنْصُرُونَهُمْ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر، ثم خاطب تعالى أمة محمد مخبرا أن اليهود والمنافقين أشد خوفا من المؤمنين منهم من الله تعالى، لأنهم يتوقعون عاجل الشر من المؤمنين، ولا يؤمنون بآجل العذاب من الله تعالى وذلك لقلة فهمهم بالأمور وفقهم بالحق.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٤ الى ١٧]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
الضمير في قوله تعالى: لا يُقاتِلُونَكُمْ لبني النضير وجميع اليهود، وهذا قول جماعة المفسرين، ويحتمل أن يريد بذلك: اليهود والمنافقين، لأن دخول المنافقين في قوله تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متمكن بين. ومعنى الآية: لا يُقاتِلُونَكُمْ في جيش مفحص، والقرى المدن. قال الفراء هذا جمع شاذ. قال الزجاج: ما في القرآن فليس بشاذ وهو مثل ضيعة وضيع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وكثير من المكيين «جدار» على معنى الجنس. وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير:
«جدر» بفتح الجيم وسكون الدال ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه، وقرأ الباقون من القراء «جدر» بضم الجيم والدال وهو جمع جدار، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة «جدر» بضم الجيم وسكون الدال وهو تخفيف في جمع جدار، ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المضايقة، وقوله تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي في عائلتهم وأحبتهم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «تحسبهم جميعا
وفي قلوبهم أشتات»، وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبدا فيما يحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ معناه مثلهم كَمَثَلِ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قال ابن عباس: هم بنو قينقاع، لأن النبي ﷺ أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير وكانوا مثلا لهم، وقال قتادة ومجاهد: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أهل بدر الكفار فإنهم قبلهم ومثل لهم في أن غلبوا وقهروا، وقال بعض المتأولين: الضمير في قوله قَبْلِهِمْ للمنافقين، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم منافقوا الأمم المتقدمة وذلك أنهم غلبوا ونالتهم الذلة على وجه الدهر فهم مثل لهؤلاء، ولكن قوله قَرِيباً إما أن يكون في زمن موسى وإلا فالتأويل المذكور يضعف، إلا أن تجعل قَرِيباً ظرفا للذوق، فيكون التقدير ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ قَرِيباً من عصيانهم وبحدثانه، ولا يكون المعنى أن المثل قريب في الزمن من الممثل له، وعلى كل تأويل ف قَرِيباً
ظرف أو نعت لظرف والوبال: الشدة والمكروه وعاقبة السوء، و «العذاب الأليم» : هو في الآخرة، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كَمَثَلِ الشَّيْطانِ والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن «الشيطان» و «الإنسان» في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ففعل ثم شهره، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال:
إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له:
اكفر واسجد لي وأنجيك، ففعل وتركه عند ذلك. وقال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، وهذا كله حديث ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر، وقوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما الآية، يحتمل الضمير أن يعود على المخصوصين المذكورين، ويحتمل أن يعود على اسمي الجنس أي هذا هو عاقبة كل شيطان وإنسان يكون أمرهما هكذا، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد:
«عاقبتهما» بالرفع، وقرأ جمهور الناس: «عاقبتهما» بالنصب وموضع أن يخالف إعراب المعاقبة في القراءتين إن شاء الله تعالى، وقرأ الأعمش وابن مسعود: «خالدان» بالرفع على أنه خبر «أن»، والظرف ملغى، ويلحق هذه الآية من الاعتراض إلغاء الظرف مرتين قاله الفراء، وذلك جائز عند سيبويه على التأكيد.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٨ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة، وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية.
وقرأ جمهور الناس: «ولتنظر» بسكون اللام وجزم الراء على الأمر، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة وفرقة كذلك بالأمر إلا أنها كسرت اللام على أصل لام الأمر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما روي عنه:
«ولتنظر» بنصب الراء على لام كي كأنه قال وأمرنا بالتقوى لتنظروا، كأنه قال: اتَّقُوا اللَّهَ ولتكن تقواكم «لتنظر»، وقوله تعالى: لِغَدٍ يريد يوم القيامة، قال قتادة: قرب الله القيامة حتى جعلها غدا، وذلك أنها آتية لا محالة وكل آت قريب، ويحتمل أن يريد بقوله لِغَدٍ: ليوم الموت، لأنه لكل إنسان كغده ومعنى الآية: ما قدمت من الأعمال، فإذا نظرها الإنسان تزيد من الصالحات، وكف عن السيئات، وقال مجاهد وابن زيد: الأمس: الدنيا، وغد: الآخرة، وقرأ الجمهور: «ولا تكونوا» بالتاء من فوق على مخاطبة جميع الذين آمنوا، وقرأ أبو حيوة «يكونوا» بالياء من تحت كناية عن النفس التي هي اسم الجنس، والذين نَسُوا اللَّهَ هم الكفار، والمعنى: تركوا الله وغفلوا عنه، حتى كانوا كالناسين، وعبر عما حفهم به من الضلالة ب فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ سمى عقوبتهم باسم ذنبهم بوجه ما، وهذا أيضا هو الجزاء على الذنب بالذنب تكسبوهم نسيان جهة الله فعاقبهم الله تعالى بأن جعلهم ينسون أنفسهم، قال سفيان: المعنى حظ أنفسهم، ويعطي لفظ هذه الآية، أن من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اعرف نفسك تعرف ربك، وروي عنه أنه قال أيضا: من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وقرأ ابن مسعود: «ولا أصحاب الجنة» بزيادة لا. وقوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ الآية، موعظة للإنسان أو ذم لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعي الله تعالى، وذلك أن القرآن نزل عليهم وفهموه وأعرضوا عنه، وهو لو نزل على جبل وفهم الجبل منه ما فهم الإنسان لخشع واستكان وتصدع خشية الله تعالى، وإذا كان الجبل على عظمه وقوته يفعل هذا فما عسى أن يحتاج ابن آدم يفعل؟ لكنه يعرض ويصد على حقارته وضعفه، وضرب الله تعالى هذا المثل ليتفكر فيه العاقل ويخشع ويلين قلبه، وقرأ طلحة بن مصرف «مصدعا» على إدغام التاء في الصاد.
قوله عز وجل:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
291
لما قال تعالى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: ٢١] جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية، و «الغيب» ما غاب عن المخلوقين، و «الشهادة» ما شاهدوه. وقال حرب المكي «الغيب» : الآخرة «والشهادة» : الدنيا. وقرأ جمهور الناس: «القدوس» بضم القاف، وهو فعول من تقدس إذا تطهر، وحظيرة القدس الجنة، لأنها طاهرة، ومنه روح القدس، ومنه الأرض المقدسة بيت المقدس، وروي عن أبي ذر أنه قرأ: «القدوس» بفتح القاف وهي لغة، والسَّلامُ معناه: الذي سلم من جوره، وهذا اسم على حذف مضاف أي ذو «السلام»، لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها، والْمُؤْمِنُ اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. قال أحمد بن يحيى ثعلب معناه: المصدق للمؤمنين في أنهم آمنوا. قال النحاس: أو في شهادتهم على الناس في القيامة. وقال ناس من المتأولين معناه: المصدق نفسه في أقواله الأزلية: لا إله غيره والْمُهَيْمِنُ معناه: الأمين والحفيظ. قاله ابن عباس وقال مؤرج:
الْمُهَيْمِنُ: الشاهد بلغة قريش، وهذا بناء لم يجىء منه في الصفات إلا مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، جاء منه في الأسماء مجيمر: وهو اسم واد ومديبر. و: الْعَزِيزُ الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر يقال عزيز إذا غلب برفع العين في المستقبل. قال الله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: ٢٣] أي غلبني، وفي المثل من عز بزّ أي من غلب سلب، والْجَبَّارُ هو الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق رتبه، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق وأنشد الزهراوي: [الطويل]
أطافت به جيلان عند قطاعه وردت إليه الماء حتى تجبرا
والْمُتَكَبِّرُ معناه الذي له التكبر حقا، ثم نزه الله تعالى نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات، و: الْبارِئُ بمعنى الْخالِقُ، برأ الله الخلق أي أوجدهم، و: الْمُصَوِّرُ هو الذي يوجد الصور، وقرأ علي بن أبي طالب: «المصوّر» بنصب الواو والراء على إعمال الْبارِئُ به، وهي حسنة يراد بها الجنس في الصور، وقال قوم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قرأ: «المصوّر» بفتح الواو وكسر الراء على قولهم الحسن الوجه وقوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله ﷺ بقوله: «إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة»، وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف في بعضها ولم يصح فيها شيء إلا إحصاؤها دون تعين، وباقي الآية بين.
292
Icon