تفسير سورة الأعراف

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

فذلك المأمول، وإن ردّ بحكم فله الحكم، فتوافق تقديره بالموافقة فى الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمنّ.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (....) «١» فيه من وجوه المراعاة! وصنوف لطائف المناجاة، فهم فى جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هى الموجبة لمحابّهم، إذ عنها صدر كلّ حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين فى الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حلّ تلك الساحة رتع فى حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة «بِسْمِ اللَّهِ» ربيع الأحباب أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
هذه الحروف من المتشابه فى القرآن على طريقة قوم من السلف، والحق- سبحانه- مستأثر بعلمها دون خلقه. وعلى طريقة قوم فلها معان تعرف، وفيها إشارات إلى أشياء توصف: فالألف تشير إلى ألفة الأرواح العطرة أصابت الشكلية مع بعض الأرواح العطرة، فهى- فى التحقيق- فى ذلك المعنى كالمتحدة فمنه تقع الألفة بين المتشاكلين، ولأجل اتحاد المقصود يتفق القاصدون.
ويقال ألف القلب حديثه فلم يحتشم من بذل روحه.
(١) مشتبهة.
ويقال الألف تجرّد من قصده عن كل غير فلم يتصل بشىء، وحين استغنى عن كل شىء اتصل به كل شىء على جهة الاحتياج إليه.
ويقال صورة اللام كصورة الألف ولكن لما اتصلت بالحروف تعاقبتها الحركات كسائر الحروف فمرة أصبحت مفتوحة، ومرة (مسكونة) «١»، ومرة مرفوعة، وأمّا الألف التي هى بعيدة عن الاتصال بالعلاقات (فباقية على وصف التجرد عن تعاقب الحركات عليها فهى على سكونها الأصلى) «٢».
وأمّا الصاد فتشير إلى صدق أحوال المشتاقين فى القصد، وصدق أحوال العارفين فى الوجد، وتشير إلى صدق قلوب المريدين وأرباب الطلب، إذ العطش نعت كلّ قاصد، كما أن الدهشة وصف كل واجد.
ويقال الصاد تبدى محبة للصدور وهو بلاء الأحباب.
ويقال الصاد تطالبك بالصدق فى الود، وأمارة الصدق فى الود بلوغ النهاية والكمال، حتى لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالمنع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
كتاب الأحباب تحفة الوقت، وشفاء لمقاساة ألم البعد، وهو لداء الضنى مزيل، ولشفاء الشكّ مقيل، وقال تعالى: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ولم يقل: فى قلبك فإن قلبه- عليه السّلام- فى محل الشهود، ولذلك قال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» «٣» وكذلك قال موسى عليه السّلام: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» «٤». وقال للمصطفى صلوات الله
(١) وردت (مسكوه) بسقوط النون وهى خطأ فى النسخ.
(٢) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن حسب العلامة المميزة.
(٣) آية ٩٧ سورة الحجر.
(٤) آية ٢٥ سورة طه.
عليه: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «١». فإن القلب فى محل الشهود، وهو أبدا بدوام أنس القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم: «تنام عينى ولا ينام قلبى» »
وقال: «أسألك لذة النظر» «٣» وصاحب اللذة لا يكون له حرج.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
استسلموا لمطالبات التقدير، قفوا حيثما وقفتم، وتحققوا بما عرفتم، وطالعوا بما كوشفتم، ولا تلاحظوا غيرا، ولا تركنوا إلى علّة، ولا تظنوا أن لكم من دونه وسيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤ الى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
يعنى كم من قرية ركنوا إلى الغفلة، واغتروا بطول المهلة باتوا فى (خفض) «٤» الدعة وأصبحوا وقد صادفتهم البلايا بغتة، وأدركتهم القضية فجأة، فلا بلاء كشف عنهم، ولا دعاء سمع لهم، ولا فرار نفعهم، ولا صريخ أنقذهم. فما زالوا يفزعون إلى الابتهال، ويصيحون:
الويل! ويدعون إلى كشف الضر، ويبكون من مسّ السوء؟! بادوا وكأنه لا عين ولا أثر، ولا لأحد منهم (خبر) «٥». تلك سنّة الله فى الذين خلوا من الكافرين، وعادته فى الماضين من الماردين.
(١) آية ١ سورة الشرح.
(٢) فى رواية سعيد بن منصور فى سننه عن ابن سعد بن الحسن مرسلا: (تنام عيناى ولا ينام قلبى) ص ١٢٠ الجامع الصغير.
(٣) وردت ضمن وعاء طويل رواه النسائي فى سننه والحاكم فى مستدركه عن عمار بن ياسر- هكذا (... وأسألك لذة النظر الى وجهك). [.....]
(٤) وردت (حفض) بالحاء والصواب أن تكون (خفض العيش) بالخاء.
(٥) وردت (خير) بالياء والصواب أن تكون (خبر) بالباء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» : سؤال تعنيف وتعذيب.
«وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» : سؤال تشريف وتقريب.
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» عن القبول فيتقنّعون بذل الخجل.
«وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» عن البلاغ فيتكلمون ببيان الهيبة، فالكلّ بسمة العبودية والتوقير، والحقّ بنعت الكبرياء والتقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧]
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
فلنخبرنهم يوم الفصل ما هم عليه اليوم، ونوقفهم على ما أسلفوه، ونقيمنهم فى مقام الصّغار ومحل الخزي، وسيعلمون أنه لم يغب عن علمنا صغير ولا كبير.
ويقال أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بتخويف العباد بعلمه مرة كما خوّفهم بعقوبته تارة فقال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «١» يعنى العذاب الواقع فى ذلك اليوم، وقال فى موضع آخر:
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» «٢» وهذا أبلغ فى التخويف، وقال «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
يزن أعمالهم بميزان الإخلاص، وأحوالهم بميزان الصدق. فمن كانت أعمالهم بالرياء
(١) آية ٤٨ سورة البقرة.
(٢) آية ٢٨ سورة آل عمران.
(٣) آية ١٤ سورة العلق.
مصحوبة لم يقبل أعمالهم، ومن كانت أحوالهم بالاعجاب مشوبة لم يرفع أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
سهّلنا عليكم أسباب المعيشة، ويسّرنا لكم أحوال التصرف، ثم أراد منكم أن تتخذوا إليه سبيلا، ولم يعتص عليه مراد.
«قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» لاستعمالكم- فى الخلاف- أبدانكم، ولإنفاقكم- بالإسراف- أحوالكم، ولاستغراقكم- فى الحظوظ- أوقاتكم. فلا نعمة الفراغ شكرتم، ولا من مسّ العقوبة شكوتم... خسرتم وما شعرتم! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١١]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
ثبّتناكم على النعت الذي أردناكم، وأقمناكم فى الشواهد التي اخترنا لكم فمن قبيح صورته خلقا ومن مليح، ومن سقيم حالته خلقا «١»، ومن صحيح. ثم إنا نعرفكم سابق أيادينا إلى أبيكم، ثم لاحق خلافه بما بقي عرق منه فيكم، ثم ما علمنا به (من مكان يحسدكم) «٢» ويعاديكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
أي لولا قهر الربوبية جرى عليك وإلا فما موجب امتناعك عن السجود لآدم لو كنت تعظّم أمرى؟ فيتحقق الموحّدون أن موجب امتناعه عن السجود الخذلان الحاصل، ولو ساعده التوفيق لم يبرح بعد من السجود.
(١) ضبطنا خلقا وخلقا حسبما يتطلبه السياق
(٢) هكذا فى ص ونرجح أن الناسخ قد اخطأ فى النقل فما بين قوسين لا معنى له، وربما كانت فى الأصل (ثم ما علمنا بمن كان يحسدكم ويعاديكم) والمقصود إبليس كما فى الآية
قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» ادّعى الخيرية، وكان الواجب عليه- لولا الشقوة- أن يؤثر التذلّل على التكبّر، لا سيما والخطاب الوارد عليه من الحقّ.
ثم إنه وإن سلك طريق القياس فلا وجه له مع النّفس لأنه بحظ، فلم يزده قياسه إلا فى استحقاق نفيه إذ ادّعى الخيرية بجوهره «١»، ولم يعلم أن الخيرية بحكمه- سبحانه- وقسمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
فارق بساط القربة فإنّ التكبّر والترفّع على البساط ترك للأدب، وترك الأدب يوجب الطرد.
ويقال من رأى لنفسه محلا أو قيمة فهو متكبّر، والمتكبّر بعيد عن الحق سبحانه، ورؤية المقام قدح فى الربوبية إذ لا قدر لغيره تعالى، فمن ادّعى لنفسه محلا فقد نازع الربوبية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
أجاب دعاءه فى الحال ولكن كان ذلك مكرا به لأنه مكّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يزده بذلك التمكين إلا شقوة. ليعلم الكافة أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمة ولطفا بل قد تكون بلاء ومكرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
جاهر الحقيقة بالخلاف بعد ما أظهر من نفسه غاية الخلوص فى العبودية، فعلم أن جميع ما كان منه فى (سالف) «٢» حاله لم يصدر عن الإخلاص والصدق.
(١) حيث اعتبر النار خيرا من الطين.
(٢) وردت (سالك) والصواب أن تكون (سالف) اى سابق عهده قبل عصيانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧]
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
أخبر أنه يأخذ عليهم جوانبهم، ويتسلط عليهم من جميع جهاتهم، ولم يعلم أن الحقّ سبحانه قادر على حفظهم عنه، فإنّ ما يكيد بهم من القدرة حصل، وبالمشيئة يوجد، ولو كان الأمر به أو إليه لكان أولى الخلق بأن يؤثّر فيه كدحه نفسه، وحيث لم ينفعه جهده فى سالف أحواله لم يضرهم كيده بما توعدهم به من سوء أفعاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
أخرجه من درجته، ومن حالته ورتبته، ونقله إلى ما استوجبه من طرده ولعنته، ثم تخليده أبدا فى عقوبته، ولا يذيقه ذرة من برد رحمته، فأصبح وهو مقدّم على الجملة، وأمسى وهو أبعد الزّمرة، وهذه آثار قهر العزّة. فأىّ كبد يسمع هذه القصة ثم لا يتفتت؟!.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
لما أسكن آدم الجنة خلق معه سبب الفتنة، وهو ما أكرمه به من الزوجة. وأي نقص يكون فى الجنة لو لم يخلق فيها تلك الشجرة التي هى شجرة المحنة لولا ما أخفى من سرّ القسمة؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
نسبته ما حصل منهما إلى الشيطان من أمارات العناية، كانت الخطيئة منهما لكنّه تعالى قال: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ».
523
ويقال التقى آدم بإبليس بعد ذلك فقال له: يا شقىّ! وسوست إلىّ وفعلت!، فقال إبليس لآدم. يا آدم! هب أنّى كنت إبليسك فمن كان إبليسى!؟.
قوله جل ذكره: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما.
وفى ذلك دلالة على عناية زائدة حيث قال: «لِيُبْدِيَ لَهُما» فلم يطلع على سوأتهما غيرهما.
قوله جل ذكره: وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ.
تاقت أنفسهما إلى أن يكونا ملكين- لا لأن رتبة الملائكة كانت أعلى من رتبة آدم عليه السّلام- ولكن لانقطاع الشهوات والمنى عنهما.
ويقال لمّا طمعا فى الخلود وقعا فى الخمود، ووقعا فى البلاء والخوف وأصل كلّ محنة الطمع.
ويقال إذا كان الطمع فى الجنة- وهى دار الخلود- أوجب كلّ تلك المحن فالطمع فى الدنيا- التي هى دار الفناء- متى يسلم صاحبه من ذلك؟ ويقال إن يكونا إنما ركنا إلى الخلود فلا لنصيب أنفسهما، ولكن لأجل البقاء مع الله تعالى، وهذا أولى لأنه يوجب تنزيه محلّ النبوة. وقيل ساعات الوصال قصيرة وأيام الفراق طويلة، فما لبثا فى دار الوصلة إلّا بعضا من النهار دخلا ضحوة النهار وخرجا نصف النهار! ويقال إن الفراق عين تصيب أهل الوصلة، وفى معناه قال قائلهم:
إن تكن عين أصابتك فما إلا لأنّ العين تصيب الحسنا
ويقال حين تمّت لهما أسباب الوصلة، ووطّنا نفوسهما على دوام القربة بدا الفراق من مكامنه فأباد من شملهما (ما) «١» انتظم، كما قيل:
(١) وردت (فانتظم) والصواب (ما انتظم)
524
حين تمّ الهوى وقلنا سررنا وحسبنا من الفراق أمنّا
بعث البين رسله فى خفاء فأبادوا من شملنا ما جمعنا
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
(حسن ظنّ آدم- عليه السّلام- حمله على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب فى يمينه بالله، ثم لمّا بان له أنه دلّاهما بغرور تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فعلم- سبحانه- صدقه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم) «١» قوله جل ذكره: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما.
لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشير العقاب، وتنغّص الحال، وكذا صفة من آثر على الحق- سبحانه- شيئا يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك من ادّخر عن الله- سبحانه- نفسه أو ماله أو شيئا بوجه من الوجوه- لا يبارك الله فيه، قال تعالى فى صفة الأعداء: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ».
ويقال لمّا بدت سوأتهما احتالا فى السّتر، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فبعدما كانت كسوتهما حلل الجنة ظلّا يستتران بورق الجنة، كما قيل:وأنشدوا:
لله درّهم من فتية بكروا مثل الملوك، وراحوا كالمساكين
لا تعجبوا لمذلتى فأنا الذي عبث الزمان بمهجتي فأذلّها
ثم إن آدم عليه السّلام لم يساعده الإمكان فى الاستتار بالورق إذ كانت الأشجار أجمع كلّها تتطاول وتأبى أن يأخذ آدم- عليه السّلام- شيئا من أوراقها. وقبل ذلك كان لا يلاحظ الجنة فكان يتيه على الكون بأسره ولكنه صار كما يقال:
وكانت- على الأيام- نفسى عزيزة فلمّا رأت صبرى على الذلّ ذلّت
(١) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن.
ولمّا أخرج آدم من الجنة وأسكن الأرض كلّف العمل والسعى والزرع والغرس، وكان لا يتجدد له حال إلا تجدّد بكاؤه، وجبريل- عليه السّلام- يأتيه ويقول: «أهذا الذي قيل لك: «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى» ؟
فلم تعرف قدره. «فذق جزايا خلافك» فكان يسكن عن الجزع. ويقال بل الحكم بالخنوع كما قيل:
وجاشت إلىّ النفس أوّل مرة وزيدت على مكروهها فاستقرت
قوله جلّ ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ.
كانت لا تصل يده إلى الأوراق حين أراد قطافها ليخصفها على نفسه، فلو لم تصل يده إلى تلك الشجرة- التي هى شجرة المحنة- لكان ذلك عناية بشأنه، ولكن وصلت يده إلى شجرة المحنة، تتمة للبلاء والفتنة، ولو لم تصل يده إلى شجرة الستر- إبلاغا فى القهر- لما خالف الأمر، ولما حصل ما حصل.
«وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» : فكان ما داخلهما من الخجل أشدّ من كل عقوبة لأنهما لو كانا فى الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حلّ بهما من الخجل ما حلّ، وفى معناه أنشدوا:
واخجلتا من وقوفي وسط دارهم... إذ قال لى مغضبا: من أنت يا رجل؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٣]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
اعترفا بالظلم جهرا، وعرفا الحكم فى ذلك سرّا فقولهما: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» اعتراف بالظلم من حيث الشريعة، وعرفان بأن المدار على الحكم من حيث الحقيقة، فمن لم يعترف بظلم الخلق طوى الشريعة «١»، ومن لم يعرف جريان حكم الحق فقد جحد الحقيقة،
(١) حتى يكون الشر منسوبا للإنسان كسبا.
فلمّا أقرّا بالظلم قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» نطقا على عين التوحيد حيث لم يقولا بظلمنا خسرنا، بل قالا: فعلنا فإن لم تغفر لنا خسرنا، فبترك غفرانك تخسر لارتكاب ظلمنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٤]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
أهبطهم، ولكنه أهبط إبليس عن رتبته فوقع فى اللعنة، وأهبط آدم عن بقعته فتداركته الرحمة.
ويقال لم يخرج آدم عليه السّلام من رتبة الفضيلة وإن أخرج عن دار الكرامة، فلذلك قال الله تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ» وأما إبليس- لعنة الله عليه- فإنه أخرج من الحالة والرتبة فلم ينتعش قط عن تلك السّقطة.
قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
«وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» هذا عام «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» : أراد به إبليس على الخصوص.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
أخبر أنه يستقبلهم اختلاف الأحوال فى الدنيا، ويتعاقب عليهم تفاوت الأطوار، فمن عسر ومن يسر، ومن خير ومن شر، ومن حياة ومن موت، ومن ظفر ومن فوت...
إلى غير ذلك من الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
سترناكم عن الأسباب الظاهرة، ويسّرنا لكم ما تدفعون به صنوف المضار عنكم بما مكّنّا لكم من وجوه المنافع.
ثم قال: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» فإن اللباس الظاهر بقي آفات الدنيا، ولباس التقوى يصون عن الآفات التي توجب سخط المولى، ولباس التقوى بجميع أجزاء العبد وأعضائه. وللنّفس لباس من التقوى وهو بذل الجهد والروح والقلب، لباس من التقوى وهو صدق القصد بنفي الطمع. وللروح لباس من التقوى وهو ترك العلائق وحذف العوائق.
وللسرّ لباس من التقوى وهو نفى المساكنات والتصاون من الملاحظات.
ويقال تقوى العبّاد ترك الحرام، وتقوى العارفين نفى مساكنة الأنام. ويقال للعوام التقوى، وللخواص لباس التقوى عن شهود التقوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
من أصغى إلى وساوس نفسه بأسماع الهوى وجد الشكّ بين وسواس الشيطان وهاجس النّفس، ويتناصر الوسواس والهاجس وتصير خواطر القلب وزواجر العلم مغمورة مقهورة- فعن قريب تشمل تلك الهواجس والوساوس صاحبها، وينخرط فى سلك موافقة الهوى فيسقط فى مهواة الزلة، فإذا لم يحصل تدارك بوشيك التوبة صارت الحالة قسوة فى القلب، وإذا قسا القلب فارقته الحياة وتمّ له البلاء.
قوله جل ذكره: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
لا يحصل للعبد احتراس من رؤية الشيطان إياه وهو عنه غائب إلا برؤية العبد للحق- سبحانه- بقلبه، فيستغيث إليه من كيده، فيدخله- سبحانه- فى كنف عنايته فيجد الخلاص من مكر الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
استروحوا فى التعلل إلى سلوكهم نهج أسلافهم، فاستمسكوا بحبل واه فزلّت بهم أقدام الغرور، وقعوا فى وهدة المحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
القسط العدل، ويقع ذلك فى حق الله تعالى، وفى حق الخلق، وفى حق نفسك فالعدل فى حقّ الله الوقوف على حدّ الأمر من غير تقصير فى المأمور به أو إقدام على المنهىّ عنه، ثم ألا تدخر عنه شيئا مما خوّلك، ثم لا تؤثر عليه شيئا فيما أحلّ لك. وأمّا العدل مع الخلق- فعلى لسان العلم- بذل الإنصاف، وعلى موجب الفتوة ترك الانتصاف. وأمّا العدل فى حق نفسك فإدخال العتق عليها، وسدّ أبواب الراحة بكل وجه عليها، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال فى كل نفس.
قوله جل ذكره: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
الإشارة منه إلى استدامة (شهوده فى كل حالة، وألا تنساه لحظة فى كلّ ما تأتيه وتذره وتقدمه) «١» وتؤخره.
قوله جل ذكره: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
من كانت قسمته- سبحانه- له بالسعادة كانت فطرته على السعادة، وكانت حالته بنعت السعادة، ومن كانت حالته بنعت السعادة كانت عاقبته إلى السعادة، ومن كانت القسمة له بالعكس فالحالة بالضد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان بحالة لقى الله بها».
(١) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص.
وجملة العلم بالقضاء والقدر أن يتحقق أنه علم ما يكون أنه كيف يكون، وأراد أن يكون كما علم. وما علم ألا يكون- مما جاز أن يكون أراده ألا يكون- أخبر أنه لا يكون.
وهو على وجه الذي أخبر، وقضى على العبد وقدّر أجرى عليه ما سبق به الحكم، وعلى ما قضى عليه حصل العبد على ذلك الوصف..
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
على لسان العلم: يجب ستر العورة فى الصلاة، وعلى موجب الإشارة: زينة العبد بحضور الحضرة، ولزوم السّدّة، واستدامة شهود الحقيقة.
ويقال زينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية، والعارف على البساط بحكم الحرية. وشتّان بين عبد وعبد! قوله جل ذكره: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
الإسراف ما تناولته لك ولو بقدر سمسمة.
ويقال الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأى وجه كان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
الإشارة منها إلى زينة السرائر فزينة العابدين آثار التوفيق، وزينة الواجدين أنوار التحقيق، وزينة القاصدين ترك العادة، وزينة العابدين حسن العبادة.
ويقال زينة النفوس صدار الخدمة، وزينة القلوب حفظ الحرمة، وزينة الأرواح الإطراق بالحضرة باستدامة الهيبة والحشمة.
ويقال زينة اللسان الذكر وزينة القلب الشكر.
ويقال زينة الظاهر السجود وزينة الباطن الشهود.
ويقال زينة النفوس حسن المعاملة من حيث المجاهدات، وزينة القلوب دوام المواصلة من حيث المشاهدات.
ومعنى قوله: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي....» يعنى إن الله لم يمنع هذه الزينة عمن تعرض لوجدانها، فمن تصدى لطلبها فهى مباحة له من غير تأخير قصود.
قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ.
أرزاق النفوس بحكم أفضاله سبحانه، وأرزاق القلوب بموجب إقباله تعالى.
ويقال أرزاق المريدين إلهام ذكر الله، وأرزاق العارفين الإكرام بنسيان ما سوى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
ما ظهر منها الزّلّة، وما بطن منها الغفلة.
ويقال ما ظهر منها كان بنسيان الشريعة، وما بطن بإشارة الحقيقة.
ويقال لقوم ترك الرخص يكون علة، والأولى بهم والأفضل لهم الأخذ به. وقوم لو ركنوا إلى الرّخص لقامت عليهم القيامة.
ويقال فاحشة الخواص تتبع ما لأنفسهم فيه نصيب ولو بذرة أو سنّة.
ويقال فاحشة الأحباب الصبر على المحبوب «١»
(١) لأنهم عندئذ يستطيعون الصبر بعيدا عن رضا محبوبهم عزّ وجلّ. (الرسالة ص ١٦٢) [.....]
ويقال فاحشة الأحباب أن تبقى حيّا وقد منيت بالفراق، قال قائلهم:
لا عيش بعد فراقهم... هدا هو الخطب الأجلّ
ويقال فاحشة قوم أن يلاحظوا غيرا بعين الاستحقاق، قال قائلهم:
يا قرّة العين سل عينى هل اكتحلت... بمنظر حسن مذغبت عن عينى؟
ويقال فاحشة قوم أن تبقى لهم قطرة من الدمع ولم يسكبوها للفرقة، أو يبقى لهم نفس لم يتنفّسوا به فى حسرة، وفى معناه أنشدوا:
لئن بقيت فى العين منّى دمعة... فإنى إذا فى العاشقين دخيل
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
لكلّ قوم مدة مضروبة، فإذا تناهت تلك المدة زالت تلك الحالة فلنعمة المترفين مدّة، فإذا زالت فليس بعدها إلا الشدّة، ولمحنة المستضعفين مدة فإذا انقضت تلك المدة زالت تلك الشدة.
ويقال إذا سقط قرص الشمس زال سلطان النهار فلا يزداد بعده إلا تراكم الظلمة، فإذا ارتحلت عساكر الظلام بطلوع الفجر فبعد ذلك لا تبقى فيه للنهار تهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٥]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
إذا أتاكم الرّسل فلا تركنوا إلى مجوزات الظنون، واحملوا الأمر على الجدّ فإنّا- مع استغنائنا عن الأغيار، وتقدّسنا عن المنافع والمضار- نطالب بالقليل والكثير، ونحاسب على النقير والقطمير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
من قابل ربوبيتنا بالجحد، وحكمنا بالرد، لقى الهوان، وقاسى الآلام والأحزان، ثم العجز يلجئه إلى الخنوع، ولكن بعد ألا ينفع ولا يسمع «١» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
يصيبهم من الكتاب ما سبق لهم به الحكم، فمن جرى بسعادته الحكم وقع عليه رقم السعادة، ومن سبق بشقاوته الحكم حقّ عليه علم الشقاوة.
ويقال من سبقت له قسمة السعادة فلو وقع فى قعر اللّظى تداركته العناية وأخرجته الرحمة، ومن سبقت له قسمة الشقاوة.. فلو نزل الفراديس تداركته السخطة وأخرجته اللعنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
(١) توضح هذه العبارة فى ضوء ما سيرد بعد قليل هكذا: (ولكن بعد الا ينفعهم بكاء ولا يسمع لهم دعاء).
آثار إعراض الحق عنهم أورثت لهم وحشة الوقت تبرّم بعضهم ببعض، وضاق كلّ واحد منهم عن كل شىء حتى عن نفسه، فدعا بعضهم على بعض، وتبرّأ بعضهم من بعض، وكذلك صفة المطرودين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
فلا دعاؤهم يسمع، ولا بكاؤهم ينفع، ولا بلاؤهم يكشف، ولا عناؤهم يرفع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤١]
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
كما أحاطت العقوبات بهم فى الدنيا فتدنّس بالغفلة باطنهم، وتلوّث بالزّلة ظاهرهم «١»، فكذلك أحاطت العقوبات بجوانبهم فمن فوقهم عذاب ومن تحتهم عذاب، وكذلك من جوانبهم فى القلب من ضيق العيش واستيلاء الوحشة ما يفى ويزيد على الكل.
(١) نذكّر أن القشيري منذ قليل أوضح أن (ما ظهر من الفواحش هى الزلة وما بطن منها هى الغفلة)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة العمل فيسّرنا عليهم الطاعات بحسن التوفيق، وخفّفنا عنهم العبادات بتقليل التكليف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٣]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
طهرنا قلوبهم من كل غش، واستخلصنا أسرارهم عن كل آفة. وطهّر قلوب العارفين من كل حظ وعلاقة، كما طهّر قلوب الزاهدين عن كل رغبة ومنية، وطهّر قلوب العابدين عن كل تهمة وشهوة، وطهّر قلوب المحبين عن محبة كل مخلوق وعن غل الصدر- كل واحد على قدر رتبته.
ويقال لمّا خلق الجنة وكل ترتيبها إلى رضوان، والعرش ولى حفظه إلى الجملة «١»، والكعبة سلّم مفتاحها إلى بنى شيبة، وأمّا تطهير صدور المؤمنين فتولّاه بنفسه.
وقال: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ».
ويقال إذا كان نزع الغل من الصدور من قبله فلا محلّ للغرم الذي لزمهم بسبب الخصوم حيث كان منه سبحانه وجه أدائه.
قوله جل ذكره: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ.
فى قولهم اعتراف منهم وإقرار بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات،
(١) هل المقصود بها جملة الملائكة إشارة إلى قوله تعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ... ؟
وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف.
قوله جل ذكره: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
تسكين لقلوبهم، وتطييب لهم، وإلا فإذا رأوا تلك الدرجات علموا أن أعمالهم المشوبة بالتقصير لم توجب لهم كل تلك الدرجات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
اعترف أهل النار بحقيقة الدّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرار بحال من الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٦]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
ذلك الحجاب الذي بينهما حصل من الحجاب السابق لمّا حجبوا فى الابتداء «١» فى سابق القسمة عما خصّ به المؤمنون من القربة والزلفة حجبوا فى الانتهاء عما خصّ به السعداء من المغفرة والرحمة.
ويقال حجاب وأي حجاب! لا يرفع بحيلة ولا تنفع معه وسيلة.
حجاب سبق به الحكم قبل الطاعة والجرم.
(١) وردت فى (الابتداع) والصواب أن سابق القسمة فى (الابتداء) قبل الطاعة والجرم- كما سيأتى بعد قليل، وكما نعرف من مذهب القشيري فى هذا الخصوص.
قوله جل ذكره: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
هؤلاء الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم فأشرفوا على مقادير الخلق بأسرارهم، ويشرفون غدا على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم.
ويقال يعرفونهم غدا بسيماهم التي وجدوهم عليها فى دنياهم فأقوام موسومون بأنوار القرب، وآخرون موسومون «١» بأنوار الرد والحجب.
قوله جل ذكره: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ.
سلموا اليوم عن النكرة والجحود، وأكرموا بالعرفان والتوحيد.
وسلموا غدا من فنون الوعيد، وسعدوا بلطائف المزيد. وتحققوا أنهم بلغوا من الرتب ما لم يسم إليه طرف تأميلهم، ولم يحط بتفصيله كنه عقولهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٧]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
إنما يصرف أبصارهم اليوم تقديرا عليهم عظيم المنّة التي بها نجاتهم، فيزيدون فى الاستغاثة وصدق الابتهال، فتكمل بهم العارفة «٢» بإدامة ما لاطفهم به من الإيواء والحفظ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩).
(١) قال أحمد بن عطاء: (الوسم يظهر على المقبولين والمطرودين) اللمع ص ٤٢٧.
(٢) العارفة هى الفضل والمعروف والمنة.
ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهى مما لا يخفى على ذى عينين، فيقولون لهم: هل يغني عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم؟ فشاهدوا- اليوم- تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغنى عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٠]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
دلّت الآية على أن من أواخر ما يبقى على الإنسان الأكل والشرب فإنهم فى تلك العقوبات الشديدة يقع عليهم الجوع والعطش حتى يتضرعون كلّ ذلك التضرع فيطلبون شربة ماء أو لقمة طعام وهم فى غاية الآلام، والعادة- اليوم- أن من كان فى ألم شديد لا يأكل ولا يشرب، وهذا شديد.
ثم أبصر كيف لا يسقيهم قطرة- مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرته على أن يعطيهم ما يريدون! ولكنه قهر الربوبية وعزّ الأحدية، وأنه فعّال لما يريد. فكما لم يرزقهم- اليوم- من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غدا فى تلك الأحوال قطرة، وفى معناه أنشدوا:
وأقسمن لا يسقيننا- الدهر- قطرة ولو فجّرت من أرضهن بحور
ويقال إنما يطلبون الماء ليبكوا به بعد ما نفدت دموعهم، وفى هذا المعنى قيل:
يا نازحا نزفت دمعى قطيعته هب لى من الدمع ما أبكى عليك به.
وفى هذا المعنى أنشدوا.
من ذا يعيرك عينه تبكى بها... أرأيت عينا للبكاء تعار؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥١]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
كما تركوا أمره وضيّعوه تركهم فى العقوبة، ولا (... ) «١» فيما يشكون، فتأتى عليهم الأحقاب، فلا كشف عذاب، ولا برد شراب، ولا حسن جواب، ولا إكرام بخطاب ذلك جزاء لمن لم يعرف قدر الوصلة فى أوقات المهلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٢]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
أنزلنا عليهم من الكتاب وأوحينا إليهم من الخطاب ما لو قابلوه بالتصديق وصاحبوه بالتحقيق لوجدوا الشفاء من محنة البعاد، ونالوا الضياء بقرب الوداد، ووصلوا فى الدنيا والعقبى إلى جميل المراد، ولكنه- سبحانه- أبى القسمة فى نصيبهم إلا الشّقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
إذا كشف جلال الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطية الرّيب، فلا بكاء لهم ينفع، ولا دعاء منهم يسمع، ولا شكوى عنهم ترفع، ولا بلوى من دونهم تقطع
(١) مشتبهة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
تعرّف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهى أفعاله، وتعرّف إلى الخواص منهم باياته الدالة على نصرته التي هى أفضاله وإقباله، وظهر لأسرار خواص الخواص بنعوته الذاتية «١» التي هى جماله وجلاله، فشتان بين قوم وقوم! ثم كما يدخل فى الظاهر الليل على النهار والنهار على الليل فكذلك يدخل القبض على البسط والبسط على القبض. ومنه الإشارة إلى ليل القلوب ونهار القلوب: فمن عبد أحواله أجمع قبض، ومن عبد أحواله أجمع بسط، ومن عبيد يكون مرة بعين القبض ومرة بعين البسط كما أن بعض أقطار العالم فيها نهار بلا ليل، وفى بعضها ليل بلا نهار، وفى بعضها ليل يدخل على نهار ونهار يدخل على ليل.
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» : فمنه الخير والشر، والنفع والضر، فإن له الخلق والأمر.
«تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قدمه ودوام ثبوته من حيث يقال برك الطير على الماء.
وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العزّ لأنه قد تبارك أي تعظّم. وأشارت إلى إسداد النّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البركة هى الزيادة فهى مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٥]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
(١) لاحظ حرص القشيري الشديد حين يقرر أن أقصى حالات المشاهدة لا تكون مشاهدة الذات- فقد جلت الصمدية أن يستشرف من شهود ذاتها عبد، إنما هى مشاهدة نعوت الذات:
الجمال والجلال.
الأمر بالدعاء إذن- فى التسلّى- لأرباب المحنة، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روح المناجاة فى حال الدعاء والدعاء نزهة لأرباب الحوائج، وراحة.
لأصحاب المطالبات، ومعجل من الأنس بما (....) «١» إلى القلب عاجل التقريب.
وما أخلص عبد فى دعائه إلا روّح- سبحانه- فى الوقت قلبه.
ويقال علّمهم آداب الدعاء حيث قال: «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» وهذا أدب الدعاء أن يدعوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكك عن دعائه- الذي لا بد منه- اعتداء منك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
من الإفساد بعد الإصلاح إحمال النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعد ما كبحت لجامها مدة عن العدو فى ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسال القلب فى أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعار محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوح إلى تتبع الرّخص فى طريق الطلب بعد حمل النّفس على ملازمة الأولى والأشق، ومن ذلك الانحطاط بحظّ إلى طلب مقام منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب وفى الجملة: الرجوع من الأعلى إلى الأدنى إفساد فى الأرض بعد الإصلاح.
قوله جل ذكره: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
يقال المحسنين عملا والمحسنين أملا، فالأول العابدون والثاني العاصون «٢» ويقال المحسن من كان حاضرا بقلبه غير لاه عن ربّه ولا ناسيا لحقّه.
ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.
(١) مشتبهة.
(٢) تأمل كيف يفسح الصوفية صدورهم ويفتحون أبواب الأمل أمام العصاة
ويقال المحسن الذي لم يخرج (....) «١» عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٧]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
تباشير القرب تتقدم فيتأدى نسيمه إلى مشام الأسزار، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض فى الباطن، فظلّ الوحشة يتقدمها، ونسيم الوصلة بعدها، وفى قريب منه قال قائلهم:
جرف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرار
ولقد تشمّمت القضاء لحاجتى فإذا له من راحتيك نسيم
قوله جل ذكره: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويبرّح به الوجد وينحل به الجسم، بل يبطل كلّه البعد، فيأتيه القرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طريا، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا، كما قال بعضهم:
كنّا كمن ألبس أكفانه وقرّب النعش من اللّحد
فجالت الروح فى جسمه وردّه الوصل إلى المولد
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
إذا زكا الأصل نما الفرع، وإن خبث الجوهر لم يطب ما تحلّل منه، وإن طاب العنصر
(١) مشتبهة.
فالجزء يحاكى أصله، والأسرّة تدل على السريرة، فمن صفا باطن قلبه زكا ظاهر فعله، ومن كان بالعكس فحاله بالضد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٩]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)
بلّغ الرسالة فلم ينجع فيهم ما أظهر من الآلاء، لأنّ محزوم القسمة لا ينفعه مجهود الحيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١)
قوله لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ: نسبوا نوحا- عليه السّلام- إلى الضلالة، فتولّى إجابتهم بنفسه فقال «يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ»، ونبينا- صلّى الله عليه وسلّم- نسب إليه فتولّى الحق- سبحانه- الردّ عنه فقال: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» «١» فشتّان بين من دافع عن نفسه، وبين من دافع عنه ونفى عنه ربّه «٢» ! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦٢]
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
إنى أعلم أنّى وإن بالغت فى تبليغ الرسالة فمن سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحى، ولا يؤثّر فيه قولى، فمن أسقطته القسمة لم تنعشه النصيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦٣]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
(١) آية ٢ سورة النجم.
(٢) من عادة القشيري أن يلتمس نوعا من المقارنة بين المصطفى صلوات الله عليه وبين سائر الأنبياء عليهم السّلام ليظهر علو مقامه ورفعة مرتبته بينهم.
عجبوا من كون شخص رسول الله، ولم يتعجبوا من كون الصنم شريكا لله، هذا فرط الجهالة وغاية الغباء! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦٤]
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
تسر بلوا غبّ التكذيب لمّا ذاقوا طعم العقوبة، فلم يسعدوا بما حملوه ولم يصلوا إلى ما أمّلوه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا فى وهدتهم، ومنوا بمثل حالتهم.
فلا خير فيمن آثر هواه على رضاء الله، ولا ربح من قدّم هواه على حقّ الله.
قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ
جعل الله الخلق بعضهم خلفا عن بعض، فلا يفنى فوجا منهم من جنس إلا أقام فوجا منهم من ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوم، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، ولا ينبغى للعبد أن يسمو طرف «١» تأميله إلى محل الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله، فما لم تنته نوبة أولئك لا تنتهى النوبة إلى هؤلاء.
قوله جل ذكره: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً.
كما زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق، وكما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المبانى أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
قوله جل ذكره: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
النّعماء عام، والآلاء خاص، فتلك تتضمن ترويح الظواهر، وهذه تتضمن التلويح فى السرائر، تلك بالترويح بوجود المبار، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٠]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
طاحوا فى أودية التفرقة فلم يجدوا قرارا فى ساحات التوحيد، فشقّ عليهم الإعراض عن الأغيار، وفى معناه قال قائلهم:
أراك بقية من قوم موسى فهم لا يبصرون على طعام
ويقال شخص لا يخرجه من غش التفرقة، وشخص لا يحيد لحظة عن سنن التوحيد [فهو لا يعبد إلا واحدا، وكما لا يعبد إلا واحدا لا يشهد إلا واحدا، قال قائلهم:
لا يهتدى قلبى إلى غيركم لأنه سدّ عليه الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧١]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)
(١) وردت (طرق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ. [.....]
إذا أراد الله هوان عبد طرحه فى مفازات التفرقة وإنّ من علامات غضبه وإعراضه ردّ العبد إلى شهود الأغيار، وتغريقه إياه فى بحار الظنون، إذ لا تحصيل للأغيار فى معنى الإثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٢]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة.
وأخبر- سبحانه- أنه نجّى هودا برحمته، وكذلك نجّى الذين آمنوا معه برحمته، ليعلم أنّ النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضل من الله ورحمته فما نجا من نجا إلا بفضل الحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
غاير الحقّ- سبحانه- بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم فى التوحيد فالشرائع «١» ] التي هى العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد.
(١) كل هذه المساحة فيما بين القوسين موجودة فى الهامش بخط دقيق جدا.
ثم أخبر عن إمضاء سنّته تعالى بإرسال الرسل عليهم السّلام، وإمهال أممهم ريثما ينظرون فى معجزات الرسل.
ثم أخبر عما درجوا عليه فى مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسلية للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- فيما كان يقاسى من بلاء قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٤]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
أزاح علتهم فى بسط الدلالة، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتهم فلا الدليل تأمّلوه، ولا السبيل لازموه، ولا النعمة عرفوا قدرها، ولا المنّة قدّموا شكرها، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
أجرى الله- سبحانه- سنّته ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله- فى الغالب من عباده- إلّا من يسمو إليه طرفه بالإجلال، وألّا يوضح له قدره بين الأضراب والأشكال فأنصار كلّ نبى إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة فى معادتها، وقيمة المحالّ بساكنيها، قال قائلهم:
وما ضرّ نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضبا حيث وجهته وترا
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» «١» قوله تعالى: «وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» الحيلة تدعو إلى وفاق الهوى فتستثقل النّفس قول الناصحين، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم العائبون، قال قائلهم:
وكم سقت فى آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤).
(١) فى رواية الترمذي (كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك). الجامع الصغير ص ٢٣٧
أباح الحقّ- سبحانه- فى الشرع ما أزاح به العذر، فمن تخطّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب- باختياره- صغره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
خسّت همم قوم شعيب فقنعوا بالتطفيف فى المكيال والميزان عند معاملاتهم، ثم إن الحق- سبحانه- لم يساهلهم فى ذلك ليعلم أنّ الأقدار ليست من حيث الأخطار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
من المعاصي ما لا يكون لازما لصاحبه وحده بل يكون متعدّيا عنه إلى غيره. ثم بقدر الأثر فى التعدّى يحصل الضر للمبتدىء «١» قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
(١) مثلما يحدث فى حالة البدعة، فصاحب البدعة يحمل وزر ابتداعه ووزر من اقتدى به (انظر رأى القشيرى فى كتاب التحبير تحت «البديع» ) وهنا قد تكون (المبتدى) أى البادى بالابتداع وقد تكون (المقتدى) ويقصد بها من اقتدى به، فكلاهما يناله الضر هذا جزاء اتباعه وذاك لابتداعه.
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
منّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشى الأمور ويحصل المراد.
ويقال كما أن كل أمر بالأعوان والأنصار (خيرا أو شرا، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار فى الخير، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان) «١» فى الشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٨]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨)
كما أن (أهل) «٢» الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد فى بابه من باين نهج أضرابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٩]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ»، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا: «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها»، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا: «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» يعنى إن يلبسنا لباس الخذلان نردّ إلى الصغر والهوان.
ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» أي به وثقنا، ومنه الخير أمّلنا.
(١) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن.
(٢) وضعنا (أهل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى المتن.
ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» فتداركهم الحقّ- سبحانه- عند ذلك بجميل العصمة وحسن الكفاية «١» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين فى حكمهم، مبطلين فى ظنهم، فعلم أنّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة «٢» لا يحسن اتباعها.
قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا كانت لهم غلبتهم فى وقتهم، ولكن لما اندرست أيامهم سقط صيتهم، و (خمد) «٣» ذكرهم، وانقشع سحاب من توهّم أنّ منهم شيئا.
قوله جل ذكره: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ.
الحقّ غالب فى كل أمر، والباطل زاهق بكل وصف، وإذا كانت العزّة نعت من هو أزلىّ الوجود، وكان الجلال حقّ من هو الملك فأى أثر للكثرة مع القدرة؟ وأي خطر للعلل مع الأزل؟ ولقد أنشدوا فى قريب من هذا:
استقبلني وسيفه مسلول وقال لى واحدنا معذول
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٣]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
(١) لاحظ من هذه الفقرة ترتيب السلوك: صحة العزم ثم الشكر ثم التبري عن الحول والقوة ثم التوكل ثم التفويض.
(٢) إشارة هنا معناها مشورة أي نصيحة.
(٣) وردت (خمر) بالراء، وقد صوبناها (خمد) ذكرهم وليس بمستبعد أن تكون (خمل) ذكرهم فحمود الذكر وخموله بمعنى متقارب.
«١» بيّن أنه راعى حدّ الأمر فإذا خرج عن عهدة التكليف فى التبليغ فما عليه من إقرارهم أو إنكارهم، من توحيدهم أو جحودهم إن أحسنوا فالميراث الجميل لهم، وإن أساءوا فالضرر بالتألم عائد عليهم، ومالك الأعيان أولى بها من الأغيار، فالخلق خلقه والملك ملكه إن شاء هداهم، وإن شاء أغواهم، فلا تأسّف على نفى وفقد، ولا أثر من كون ووجود «٢» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)
حرّكهم بالبلاء الأهون تحذيرا من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا فى غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مدّ عليهم ظلال الاستدراج، ووسّع عليهم أسباب التفرقة مكرا بهم فى الحال، فإذا وطّنوا- على مساعدة الدنيا- قلوبهم، وركنوا إلى ما سوّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نغّص عليهم طيب الحياة، واندق بغتة عنق السرور، وشرفوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى، فتبدّل ضياء نهارهم بسدفة الوحشة، وتكدّر صافى مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧)
(١) أخطأ الناسخ إذ كتبها (عسى) بالعين.
(٢) ربما كان (ووجد) فالوجد يقابل الفقد، ولكن حيث هو هنا لا يتحدث عن طائفة الصوفية، وإنما يتحدث عموما، فالوجود مرادف للكون.
لو آمنوا بالله، واتّقوا الشرك لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض بأسباب العطاء- ولكن «١» سبق بخلافه القضاء- وأبواب الرضاء، والرضاء أتمّ من العطاء.
ويقال ليست العبرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة فى النعمة، ولذا لم يقل أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال: باركنا لهم فيما خوّلنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٨]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأة على غفلة من أهله، ويقال من حذر البيات لم يجد روح الرّقاد.
ويقال ربّ ليلة مفتتحة بالفرح مختتمة (بالترح) «٢». ويقال ربّ يوم تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٩]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
يقال من عرف علوّ قدره- سبحانه- خشى خفىّ مكره، ومن أمن خفىّ مكره نسى عظيم قدره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
(١) وردت (وإن سبق... ) وعند ذلك يضطرب السياق فوجدنا ان الأوفق ان تكون (ولكن سبق... ) لأنهم فى الآية كذبوا... ، ثم وضعنا الجملة المبدوءة بلكن بين علامتى جملة اعتراضية، فانتظم السياق، ونرجح ان ما صنعناه قريب من الأصل او هو الأصل.
(٢) وردت (بالطرح) بالطاء، وهى خطأ من الناسخ فالترح ضد الفرح.
أو لا يعلم المغترون بطول سترنا أن لو أردنا لعجّلنا لهم الانتقام، أو بلغنا فيهم الاصطلام، ثم لا ينفعهم ندم، ولا يشكى عنهم ألم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠١]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
سلكوا طريقا واحدا فى التمرد، واجتمعوا فى خط واحد فى الجحد والتّبلّد فلا للإيمان جنحوا، ولا عن العدوان رجعوا، وكذلك صفة من سبقت بالشقاء قسمته، وحقت بالعذاب عليه كلمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٢]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
نجم فى الغدر طارقهم، وأفل من سماء الوفاء شارقهم، فعدم أكثرهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.
ويقال: شكا من أكثرهم إلى أقلّهم، فالأكثرون من ردّتهم القسمة، والأقلون من قبلتهم الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٣]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
لما انقرضت أيامهم، وتقاصر عن بساط الإجابة إقدامهم «١» بعث موسى نبيّه، وضمّ
(١) ويجوز أن تكون (أقدامهم) فالقشيرى يستعمل وطء القدم للبساط كثيرا
إليه هارون صفيّه، فقوبلا بالتكذيب والجحود، فسلك بهم مسلك إخوانهم فى التعذيب والتبعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٦]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
الرجوع إلى دعاء فرعون إلى الله بعد سماع كلام الله بلا واسطة صعب شديد، ولكنه لمّا ورد الأمر قابله بحسن القبول، فلما ترك اختيار نفسه أيّده الحق- سبحانه- بنور التأييد حتى شاهد فرعون محوا فى التقدير فقال: «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ».
فإذا لم يصح له أن يقول على الخلق فالخلق محو فيما هو الوجود الأزلى فأىّ سلطان لآثار التفرقة فى حقائق الجمع؟
قوله: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: من المعلوم أن مجرّد الدعوى لا حجة فيه، ولكن إذا ظهر برهان لم يبق غير الانقياد لما هو الحق، فمن استسلم (... ) «١»، ومن جحد الحقائق بعد لوح البيان سقط سقوطا لا ينتعش.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٧]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
إنما أظهر له المعجزة من عصاه لطول (مقارنته) «٢» إياها، فالإنسان إلى ما ألفه أسكن بقلبه. فلمّا رأى ما ظهر فى العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه السّلام فى الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق، وفى هذا إشارة إلى أنّ السكون إلى شىء غرّة وغفلة (ايش) «٣»
(١) لا بد ان كلمة هنا سقطت من الناسخ مثل (سلم) او (نجا) او نحوهما. [.....]
(٢) (مقارنته) هنا معناها مصاحبته لها بدليل قوله فيما بعد (إلى ما ألفه).
(٣) (إيش) هذه كلمة دارجة استعملها القشيري كثيرا فى رسالته ومعناها (اى شىء).
ما كان، فإنّ تقلب العبد فى قبض القدرة، وهو فى أسر التقلّب، وليس للطمع فى الكون مساغ بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٨]
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
العصا- وإن كانت معه من زمن- فيده أخص به لأنها عضو له، فكاشفه أولا «١» برسم من رسمه ثم أشهده من ذاته فى ذاته ما عرف أنه أولى به منه، فلما رأى انقلاب وصف فى يده علم أنه ليس بشىء من أمره بيده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠)
إذا أراد الله هوان عبد لا يزيد الحقّ حجّة إلا ويزيد لذلك المبطل فيه شبهة فكلّما زاد موسى- عليه السّلام- فى إظهار المعجزات ازدادوا حيرة فى التأويلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
توهّم الناس أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذل الجهد والتشمير يغيّرون شيئا من التقدير بالتقديم أو بالتأخير، ولم يعلموا أن القضاء غالب، وأنّ الحكم سابق، وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم، والتسرع «٢» والحلم.. كلا، بل هو الله الواحد القهار العلّام.
(١) فى هذه الإشارة نلحظ تأثر القشيري بالمكاشفة، فالحق سبحانه يتجلى للعبد اولا بنعت من نعوت صفاته ثم يتجلى له بنعت من نعوت ذاته.
(٢) وردت (التشرع) حيث التبست علامة التضعيف التي على السين على الناسخ، والتسرع مقبول فى السياق لأنه يقابل الحلم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
ظنوا أنهم يغلبون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زوّروه فى أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكيد لهم، فهو كما قيل:
ورمانى بأسهم صائبات... وتعمدته بسهم فطاشا
فبيناهم فى توهّم أنّ الغلبة لهم فتح عليهم- من مكامن القدرة- جيش، فوجدوا أنفسهم- فى فتح القدرة- مقهورين بسيف المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١٢٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
موّهوا بسحرهم أنهم غلبوا، فأدخل الله- سبحانه- على تمويهاتهم قهر الحق وطاشت تلك الحيل، وخاب منهم الأمل، وجذب الحقّ- سبحانه- أسرارهم على الوهله فأصبحوا فى صدر العداوة، وكانوا- فى التحقيق- من أهل الود. فسبحان من يبرز
العدوّ فى نعت الولي ثم يقلب الكتاب ويظهر الولىّ فى نعت العدو، ثم يأبى الحال إلا حصول المقضىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
«١» خاطبهم معتقدا أنهم هم الذين كانوا «٢»، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رقّ الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن تو التفرقة، وأن شمس العرفان طلعت فى سماء أسرارهم، فأشهدوا الحقّ بنظر صحيح، ولم يبق لتخويفات النفس فيهم سلطان، ولا لشىء من العلل بينهم مساغ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٥]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
لمّا كان مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا فى مسيرهم إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٦]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
لما عملوا لله، وأوذوا فى الله، صدقوا القصد إلى الله، وطلبوا المعونة من قبل الله، كذا سنّة من كان لله أن يكون كلّه على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٧]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
(١) اخطأ الناسخ إذ كتبهما (أيديهم وأرجلهم).
(٢) نعرف من عبارات القشيري: «كانوا لكنهم بانوا» و «العارف كائن بائن».
لما استزادوا من فرعون فى التمكين من موسى وقومه استنكف أن يقر بعجزه، ويعترف بقصور قدرته، فتوعد موسى وقومه بما عكس الله عليه تدبيره، وغلب عليه تقديره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٨]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
أحالهم على الله فإن رجوعه إليه، فقال لهم: إن رجوعى- عند تحيري فى أمورى- إلى ربى، فليكن رجوعكم إليه، وتوكّلكم عليه، وتعرّضوا لنفحات يسره، فإنه حكم لأهل الصبر بجميل العقبى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٩]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
خفى عليهم شهود الحقيقة، وغشى على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا ففى حالك بلاء، وقبلك شقاء... فما الفضل؟ فأجابهم موسى- عليه السّلام- بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» فوقفهم على الانتظار. ومن شهد ببصر الأسرار شهد تصاريف الأقدار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٠]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
شدّد عليهم وطأة القدرة بعد ما ضاعف لديهم أسباب النعمة، فلا الوطأة أصلحتهم شدّتها ولا النعمة نبهتهم كثرتها، لا بل إن مسّهم يسر لاحظوه بعين الاستحقاق، وإن مسّهم عسر حملوه على التّطيّر بموسى- عليه السّلام- بمقتضى الاغترار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣١]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
الكفور لا يرى فضل المنعم فيلاحظ الإحسان بعين الاستحقاق، ثم إذا اتصل به شىء مما يكرهه تجنّي وحمل الأمر على ما يتمنّي:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ملّ الوصال وقال كان وكانا
إن الكريم إذا حباك بودّه ستر القبيح وأظهر الإحسانا
قوله جل ذكره: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
المتفرد بالإيجاد هو الواحد ولكن بصائرهم مسدودة، وعقولهم عن شهود الحقيقة مصدودة، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٢]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
«١» جعلوا الإصرار على الاستكبار شعارهم، وهتكوا بألسنتهم- فى العتوّ- أستارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٣]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
جنّس عليهم العقوبات لمّا نوّعوا وجنّسوا فنون المخالفات، فلا إلى التكفير عادوا، ولا إلى التطهير تصدوا، وعوقبوا بصرف قلوبهم عن شهود الحقائق
(١) سقطت (من) فى النسخ فأثبتناها.
وذلك أبلغ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا.... ونعوذ بالله من السقوط عن عين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٤]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤)
لم يقولوا ادع لنا ربّنا، بل قالوا يا موسى ادع لنا ربك، فهم ما ازدادوا بزيادة تلك المحن إلا بعدا وأجنبية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
أبرموا العهد ثم نقضوه، وقدموا العهد ثم رفضوه، وكما قيل:
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذى الضنى عاد إلى نكسه
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى فى ثرى رمسه
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
من صبر على مقاساة الذّلّ فى الله وضع الله على رأسه قلنسوة العرفان، فهو العزيز سبحانه، لا يشمت بأوليائه أعداءهم، ولا يضيع من جميل عهده جزاءهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)
لم تخلص فى قلوبهم حقائق التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالو لنبيّهم موسى- عليه السّلام-: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال.
ويقال من ابتغى بالصنم أن يكون معبوده متى يتوهّم فى وصفه أن يخلص إلى الله قصوده؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٠]
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
ذكّرهم انفراده- سبحانه- بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونبّههم أيضا على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقّ إتمام النعمة عليهم مقابلتهم إياها بالتولّى لغيره والعبادة لمن سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤١]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
ما ازداد موسى- عليه السّلام- فى تعديد إنعام الله عليهم، وتنبيهم على عظيم آلائه إلا ازدادوا جحدا على جحد، وبعدا بالقلوب- عن محل العرفان- على بعد، وهذه أمارة من بلاه- سبحانه- فى السابق بالقطع والرد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
562
عدة الأحباب عزيزة، فإذا حصلت المواعدة بين الأحباب، فهى عذبة حلوة كيفما كانت، وفى هذا المعنى أنشدوا:
أمطلينا وسوّفى... وعدينا ولا تفى
ويقال علّل الحقّ- سبحانه- موسى بالوعد الذي وعده بأن يسمعه مرة أخرى كلامه، وذلك أنه فى المرة الأولى ابتلاه بالإسماع من غير وعد، فلا انتظار ولا توقع ولا أمل، فأخذ سماع الخطاب بمجامع قلب موسى- عليه السّلام- فعلّق قلبه بالميقات المعلوم ليكون تأميله تعليلا له، ثم إن وعد الحقّ لا يكون إلا صدقا، فاطمأن قلب موسى- عليه السّلام- للميعاد، ثم لمّا مضت ثلاثون ليلة أتى كما سلف الوعد فزاد له عشرا فى الموعد. والمطل فى الإنجاز غير محبوب إلا فى سنّة الأحباب، فإن المطل عندهم أشهى من الإنجاز، وفى قريب من هذا المعنى أنشدوا:
أقيمى لعمرك لا تهجرينا... ومنّينا المنى، ثم امطلينا
عدينا موعدا ما شئت إنّا... نحبّ وإن مطلت تواعدينا
فإما تنجزى وعدك أو فإنا... نعيش نؤمل فيك حينا
قوله جل ذكره: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
كان هارون- عليه السّلام- حمولا بحسن الخلق لمّا كان المرور إلى فرعون استصحب موسى- عليه السّلام- هارون، فقال الله- سبحانه-: «أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» بعد ما قال: «أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً». ولمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه، فقال: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» وهذا غاية لحمل من هارون ونهاية التصبر والرضاء، فلم يقل: لا أقيم فى قومك. ولم يقل: هلّا تحملني مع نفسك كما
563
استصحبتنى حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضى بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفى قريب منه أنشدوا:
قال لى من أحب والبين قد... حلّ وفاقا لزفرتى وشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي... قلت: أبكى عليك طول الطريق
ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون- عليه السّلام- فى الخطاب، فقال:
«يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى».
ويقال لو قال هارون- عليه السّلام: إن لم تعوضنى عما فاننى من الصحبة فلا تعاتبنى فيما لم أذنب فيه بحال ذرة ولا حبّة... لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنب كان من بنى إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلّ من عصى وجنى استوجب العتاب، فالعتاب ممنوع عن الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
جاء موسى مجىء المشتاقين مجىء المهيّمين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يبق من موسى شىء لموسى. آلاف الرجال قطعوا مسافات طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطوات فإلى القيامة يقرأ الصبيان: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى».
ويقال لما جاء موسى لميقات بأسطر الحقّ- سبحانه- سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ»، فإن غلبات الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا:
564
وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام
ويقال صار موسى- عليه السّلام- عند سماع الخطاب بعين السّكر فنطق ما نطق، والسكران لا يؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس فى نص الكتاب معه عتاب بحرف؟
ويقال أخذته عزّة السّماع فخرج لسانه «١» عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحيّة وبسط الوصلة.
ويقال جمع موسى- عليه السّلام- كلمات كثيرة يتكلم بها فى تلك الحالة فإن فى القصص أنه كان يتحمل فى أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟
ألكم كلام معه؟ فإنى أريد أن أمضى إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبّره فى نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه فى قلبه- شيئا ولا حرفا، بل نطق بما صار فى الوقت غالبا على قلبه، فقال: ربّ:
أرنى أنظر إليك، وفى معناه أنشدوا:
فيا ليل كم من حاجة لى مهمة إذا جئتكم ليلى فلم أدر ماهيا
ويقال أشدّ الخلق شوقا إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى عليه السّلام، وكان عريق الوصلة، واقفا فى محل المناجاة، محدقة به سجوف التولي، غالبة عليه بواده الوجود، ثم فى عين ذلك كان يقول: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» كأنه غائب عن الحقيقة.
ولكن ما ازداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا، ولا ازدادوا تيما إلا ازدادوا شوقا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقّ- سبحانه- يصون أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال «٢».
ويقال نطق موسى عليه السّلام بلسان الافتقار فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ولا أقلّ
(١) تعليل القشيري لموقف الإفصاح الذي وقفه موسى يوضح كيف يلتمس هذا الباحث مبروا لشطحات الصوفية- بطريق غير مباشر، ويعزو ذلك تارة للسكر الروحي وتارة لوقوع العبد تحت تأثير العزة الإلهية، فيخرج اللسان عن طاعته.
(٢) وفى ذلك أنشدوا:
565
من نظرة- والعبد قتيل هذه القصة- فقوبل بالرّد، وقيل له: «لَنْ تَرانِي» وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم:
جور الهوى أحسن من عدله... وبخله أظرف من بذله
ويقال لمّا صرّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحا ردّ صريحا فقيل له: «لَنْ تَرانِي»، ولما قال نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بسرّه فى هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظرا الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «١» فردّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزّ من أن يطمح إلى شهوده- اليوم- طرف، بل الألحاظ مصروفة موقوفة- اليوم- على الأغيار «٢».
ويقال لما سمت همّته إلى أسنى المطالب- وهى الرؤية- قوبل «بلن، ولمّا رجع إلى الخلق وقال للخضر «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً»، قال الخضر: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» «٣» فقابله بلن، فصار الردّ موقوفا على موسى- عليه السّلام من الحق ومن الخلق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافيا عن كل نصيب لموسى من موسى، وفى قريب منه أنشدوا:
(.......) «٤» نحن أهل منازل... أبدا غراب البين فينا ينعق
ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفرق. فزع موسى حتى خرّ صعقا، والجبل صار دكّا.
ثم الروح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقّ- بعد امتحاء معالم موسى- خيرا لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة: شهود الحقائق بالحقّ أتم من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم:
(١) آية ١٤٤ سورة البقرة.
(٢) من هذا- ومما أوضحه فى رسالته- نعرف أن القشيري لا يرى بجواز رؤية الله بالبصر فى هذه الدنيا.
(٣) آية ٦٧ سورة الكهف.
(٤) هنا لفظتان مطموستان ونعرف أنهما «أبنى أبينا... »
566
فما مل ساقينا وما مل شارب عقار لحاظ كأسه يسلب اللبا
ولوجهها من وجهها قمر ولعينها من عينها كحل
ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله: «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» أتمّ وأعظم منه قوله: «لَنْ تَرانِي» لأن ذلك صريح فى الرد، وفى اليأس راحة. لكنّه لما قال فسوف أطمعه فيما منعه فلما اشتد موقفه جعل الجبل دكا، وكان قادرا على إمساك الجبل، لكنه قهر الأحباب الذي به جرت سنّتهم.
ويقال فى قوله: «انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ».
ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا- والله- لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» تداركه قلب موسى- عليه السّلام- حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل:
فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: «تُبْتُ إِلَيْكَ».
يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله- تعالى- لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جل ذكره: تُبْتُ إِلَيْكَ.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك.
567
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٤]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
هذا الخطاب لتدارك قلب موسى- عليه السّلام- بكل هذا الرّفق، كأنه قال:
يا موسى، إنى منعتك عن شىء واحد وهو الرؤية، ولكنى خصصتك بكثير من الفضائل اصطفيتك بالرسالة، وأكرمتك بشرف الحالة، فاشكر هذه الجملة، واعرف هذه النعمة، وكن من الشاكرين، ولا تتعرض لمقام الشكوى، وفى معناه أنشدوا:
إن أعرضوا فهم الذين تعطّفوا وإن جنوا فاصبر لهم إن أخلفوا
وفى قوله سبحانه: «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» إشارة لطيفة كأنه قال: لا تكن من الشاكين، أي إن منعتك عن سؤلك، ولم أعطك مطلوبك فلا تشكى إذا انصرفت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٥]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
وفى الأثر: أن موسى عليه السّلام كان يسمع صرير القلم، وفى هذا نوع لطف لأنه إن منع منه النظر أو منعه من النظر فقد علله بالأثر «١».
قوله جل ذكره: فَخُذْها بِقُوَّةٍ.
فيه إشارة إلى أن الأخذ يشير إلى غاية القرب، والمراد هاهنا صفاء الحال، لأن قرب المكان لا يصحّ على الله سبحانه.
قوله جل ذكره: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها.
فرق بين ما أمر به موسى من الأخذ وبين ما أمره أن يأمر به قومه من الأخذ، أخذ موسى عليه السّلام من الحق على وجه من تحقيق الزلفة وتأكيد الوصلة، وأخذهم أخذ قبول من حيث التزام الطاعة، وشتان ما هما!.
(١) نلاحظ أن القشيري كان ممتعا أشد ما يكون الإمتاع حين استغل موقف شهود موسى استغلالا جميلا أوشك أن يحيط بكل جوانب هذه اللحظات الحاسمة فى الحياة الروحية، فاجتمعت إشاراته لتكون درسا في غاية الدقة والإفادة. [.....]
قوله: «بِأَحْسَنِها» بمعنى بحسنها، ويحتمل أن تكون الهمزة للمبالغة يعنى: بأحسنها ألا تعرّج على تأويل وارجع إلى الأولى «١».
قوله جل ذكره: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ.
يعنى عليها غبرة العقوبة، خاوية على عروشها، ساقطة على سقوفها، منهدّ بنيانها، عليها قترة العقاب.
والإشارة من دار الفاسقين إلى النّفوس المتابعة للشهوات، والقلوب التي هى معادن المنى وفاسد الخطرات، فإنّ الفسق يوجب خراب المحل الذي يجرى فيه فمن جرى على نفسه فسق خربت نفسه. وآية خراب النفوس انتفاء ما كان عليها وفيها من سكان الطاعات، فكما تتعطل المنازل عن قطانها إذا تداعت للخراب فكذلك إذا خربت النفوس بعمل المعاصي فتنتفى عنها لوازم الطاعات ومعتادها، فبعد ما كان العبد يتيسر عليه فعل الطاعات لو ارتكب شيئا من المحظورات يشق عليه فعل العبادة، حتى لو خيّر بين ركعتى صلاة وبين مقاساة كثير من المشاق آثر تحمل المشاقّ على الطاعة.. وعلى هذا النحو ظلم القلوب وفسادها فى إيجاب خراب محالها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
سأحرم المتكبرين بركات الاتباع حتى لا يقابلوا الآيات التي يكاشفون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يخاطبون به بسمع الإيمان.
والتكبّر جحد الحق- على لسان العلم، فمن جحد حقائق الحقّ فجحوده تكبّره واعتراضه على التقدير مما يتحقق جحوده فى القلب.
(١) يوجه القشيري هذه الإشارة نحو موضوع الرخص، فمن المعلوم أنه يرى ان من الأفضل الا يلجا المريد للرخصة، وفعل الأولى عنده هو ترك الرخصة لأنها للمستضعفين وأرباب الحوائج والأشغال من الكافة، والمريد لا حاجة له ولا شغل إلا لربه وبربه.
ويقال التكبّر توهم استحقاق الحقّ لك.
ويقال من رأى لنفسه قيمة فى الدنيا والآخرة فهو متكبّر.
ويقال من ظنّ أنّ شيئا منه أو له أو إليه- من النفي والإثبات- إلا على وجه الاكتساب فهو متكبّر.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
تبيّن بهذا أنه لا يكفى شهود الحقّ حقا وشهود الباطل باطلا بل لا بدّ من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل.
ويقال إنّ الجاحد للحقّ- مع تحققه به- أقبح حالة من الجاهل به المقصّر فى تعريفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٨]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)
لم يطهّر قلوبهم- فى ابتداء أحوالهم- عن توهم الظنون، ولم يتحققوا بخصائص القدم وشروط الحدوث، فعثرت أقدام فكرهم فى وهاد المغاليط لما سلكوا المسير.
ويقال إن أقواما رضوا بالعجل أن يكون معبودهم متى تشم أسرارهم نسيم «١» التوحيد؟
هيهات لا! لا ولا من لاحظ جبريل وميكائيل والعرش أو الثّرى، أو الجنّ أو الورى.
وإنّ من لحقه ذلك أو وجد من قبيل ما يقبل نعوت الحدثان، أو صحّ فى التجويز أن ترتقى إليه صواعد التقدير وشرائط الكيفية فغير صالح لاستحقاق الإلهية.
(١) وردت (تشيم) وهى خطأ فى النسخ.
570
ويقال شتّان بين أمة وأمة! أمة خرج نبيهم عليه السّلام من بينهم أربعين يوما فعبدوا العجل، وأمة خرج نبيّهم- عليه السّلام- من بينهم وأتى نيف وأربعمائة سنة فمن ذكر بين أيديهم أن الشموس والأقمار أو شيئا من الرسوم والأطلال تستحق الإلهية أحرقوه بهممهم ويقال لا فصل بين الجسم والجسد، فكما لا يصلح أن يكون المعبود جسما لا يصلح أن يكون متصفا بما فى معناه، ولا أن يكون له صوت فإن حقيقة الأصوات مصاكّة الأجرام الصلبة، والتوحيد الأزلى ينافى هذه الجملة.
ويقال أجهل بقوم آمنوا بأن يكون مصنوعهم معبودهم! ولولا قهر الربوبية وأنه تعالى يفعل ما يشاء- فأىّ عقل يقرّ مثل هذا التلبيس؟! قوله جل ذكره: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ.
جعل من استحقاقه «١» نعوت الإلهية صحة الخطاب وأن تكون منه الهداية، وهذا يدل على استحقاق الحق بالنعوت «٢» بأنه متكلّم فى حقائق آزاله، وأنه متفرّد بهداية العبد لا هادى سواه. وفيه إشارة إلى مخاطبة الحق- سبحانه- وتكليمه مع العبد، وإنّ الملوك إذا جلّت رتبتهم استنكفوا أن يخاطبوا أحدا بلسانهم حتى قال قائلهم:
وما عجب تناسى ذكر عبد على المولى إذا كثر العبيد
وبخلاف هذا أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته مع عباده المؤمنين، أما الأعداء فيقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «٣» وأمّا المؤمنون فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم إلا يكلمه ربّه ليس بينه وبينه ترجمان» «٤»، وأنشدوا فى معناه.
وما تزدهينا الكبرياء عليهم إذا كلّمونا أن نكلمهم مردّا
(١) وردت (استحقاقهم) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) يشير القشيري بذلك إلى معارضة المعتزلة الذين ينفون الصفات الإلهية منعا للتعدد، واقتضاء حامل ومحمول.
(٣) آية ١٠٨ سورة المؤمنون.
(٤) في رواية مسلم عن عدى بن حاتم قال رسول الله (ص) :
«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان) ص ٧٠٣ ح ٢ ط الحلبي.
571
قال تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٩]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
حين تحققوا بقبح صنيعهم تجرّعوا كاسات الأسف ندما، واعترفوا بأنهم خسروا إن لم يتداركهم من الله جميل لطفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
لو وجد موسى قومه بألف ألف وفاق لكان متنغّص العيش لما منى به من حرمان سماع الخطاب والرد إلى شهود الأغيار.. فكيف وقد وجد قومه قد ضلوا وعبدوا العجل؟! ولا يدرى أىّ المحن كانت أشدّ على موسى:
أفقدان سماع الخطاب؟ أو بقاؤه عن سؤال الرؤية؟ أو ما شاهد من افتنان بنى إسرائيل، واستيلاء الشهوة على قلوبهم فى عبادة العجل؟ سبحان الله! ما أشدّ بلاءه على أوليائه! قوله جل ذكره: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
(١) آية ١٠٩ سورة الكهف.
إن موسى عليه السّلام وإن كان سمع من الله فتن قومه فإنه لما شاهدهم أثّرت فيه المشاهدة بما لم يؤثر فيه السماع، وإن علم قطعا أنه تأثر بالسماع إلا أن للمعاينة تأثيرا آخر.
ثم إن موسى لما أخذ برأس أخيه يجره إليه استلطفه هارون فى الخطاب.
فقال: يا «ابْنَ أُمَّ» فذكر الأمّ هنا للاسترفاق والاسترحام.
وكذلك قوله: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
يريد بهذا أنه قد توالت المحن علىّ فذرنى وما أنا فيه، ولا تزد فى بلائي، خلفتنى فيهم فلم يستنصحونى. وتلك علىّ شديدة. ولقيت فى عتابى وجر رأسى وقصدت ضربى، وكنت أود منك تسليتى وتعزيتى. فرفقا بي ولا تشمت بي الأعداء، ولا تضاعف علىّ البلاء.
وعند ذلك رقّ له موسى- عليه السّلام، ورجع إلى الابتهال إلى الله والسؤال بنشر الافتقار فقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» وفى هذا إشارة إلى وجوب الاستغفار على العبد فى عموم الأحوال، والتحقق بأنّ له- سبحانه- تعذيب البريء إذ الخلق كلّهم ملكه، وتصرّف المالك فى ملكه نافذ.
ويقال: ارتكاب الذّنب كان من بنى إسرائيل، والاعتذار كان من موسى وهارون عليهما السّلام، وكذا الشرط فى باب خلوص العبودية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
يعنى إن الذين اتخذوا العجل معبودا سينالهم فى مستقبل أحوالهم جزاء أعمالهم. والسين فى قوله «سَيَنالُهُمْ» للاستقبال، ومن لا يضره عصيان العاصين لا يبالى بتأخير العقوبة عن الحال، وفرق بين الإمهال والإهمال، والحق- سبحانه- يمهل ولكنه لا يهمل، ولا ينبغى لمن يذنب ثم لا يؤاخذ فى الحال أن يغترّ بالإمهال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٣]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
وصفهم بالتوبة بعد عمل السيئات ثم بالإيمان بعدها، ثم قال: «مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
والإيمان الذي هو بعد التوبة يحتمل آمنوا بأنه يقبل التوبة، أو آمنوا بأن الحق سبحانه لم يضرّه عصيان، أو آمنوا بأنهم لا ينجون بتوبتهم من دون فضل الله، أو آمنوا أي عدّوا ما سبق منهم من نقض العهد شركا.
ويقال استداموا للإيمان فكان موافاتهم على الإيمان.
أو آمنوا بأنهم لو عادوا إلى ترك العهد وتضييع الأمر سقطوا من عين الله، إذ ليس كل مرة تسلم الجرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
تشير إلى حسن إمهاله- سبحانه- للعبد إذا تغيّر عن حدّ التمييز، وغلب عليه ما لا يطيق ردّه من بواده الغيب.
وإذا كانت حالة الأنبياء- عليهم السّلام- أنه يغلبهم ما يعطلهم عن الاختيار فكيف الظن بمن دونهم «١» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥).
(١) يستشفع القشيري للواله إذا خرج عن حد التمييز إن كان صادقا وله عذر.
شتّان بين أمة وأمة أمة يختارهم نبيّهم- عليه السّلام، وبين أمة اختارها الحقّ- سبحانه، فقال: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «١».
الذين اختارهم موسى قالوا: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ» والذين اختارهم الحق- سبحانه- قال الله تعالى فيهم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «٢».
ويقال إن موسى- عليه السّلام- جاهر الحقّ- سبحانه- بنعت التحقيق وفارق الحشمة وقال صريحا: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» ثم وكل «٣» الحكم إليه فقال: «تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» ثم عقّبها ببيان التضرع فقال: «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا»، ولقد قدّم الثناء على هذا الدعاء فقال: «أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٦]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
نطق بلسان التضرع والابتهال حيث صفّى إليه الحاجة، وأخلص له فى السؤال فقال:
«وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ» أي اهدنا إليك.
وفى هذه إشارة إلى تخصيص نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- فى التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقّ لأن موسى- عليه السّلام قال: «وَاكْتُبْ لَنا فِي....» ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» ولا أقلّ من ذلك، وقال:
«واكفلنى كفالة الوليد» ثم زاد فى ذلك حيث قال: «لا أحصى ثناء عليك» «٤».
(١) آية ٣٢ سورة الدخان والمقصود أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) آية ٢٢ سورة القيامة
(٣) وردت (وقل) والصواب أن تكون (وكل) إليه الحكم.
(٤) قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفلنى كفالة الوليد، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وجهت وجهى إليك، وألجأت ظهرى إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك».
اللهم اكفلنى كفالة الوليد... علمها النبي (ص) لبعض أصحابه، للشيخين من حديث البراء. اللهم أمتعني بسمعى وبصرى: الترمذي، والحاكم عن أبى هريرة «ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» الحاكم من حديث أنس قال: صحيح على شرط الشيخين، وعلّمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته الزهراء.
575
قوله جل ذكره: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي ملنا إلى دينك، وصرنا لك بالكلية، من غير أن نترك لأنفسنا بقية.
قوله جل ذكره: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وفى هذا لطيفة حيث لم يقل: عذابى لا أخلى منه أحدا، بل علّقه على المشيئة.
وفيه أيضا إشارة أن أفعاله- سبحانه- غير معلّلة بأكساب الخلق لأنه لم يقل:
عذابى أصيب به العصاة بل قال: «مَنْ أَشاءُ» وفى ذلك إشارة إلى جواز الغفران لمن أراد لأنه قال: «أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» فإذا شاء ألا يصيب به أحدا كان له ذلك، وإلا لم يكن حينئذ مختارا.
ثم لمّا انتهى إلى الرحمة قال: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» لم يعلّقها بالمشيئة لأنها نفس المشيئة ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم. فلمّا كان العذاب من صفات الفعل علّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات.
ويقال فى قوله تعالى: «وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» مجال لآمال العصاة لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعابدين والعارفين فهم «شَيْءٍ» «١».
قوله جل ذكره: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ.
أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحد شىء على الله إذ لا يجب عليه شىء لعزّة فى ذاته «٢».
قوله هاهنا: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» أي يجتنبون أن يروا الرحمة باستحقاقهم، فإذا اتقوا هذه الظنون، وتيقنوا أن أحكامه ليست معللة بأكسابهم- استوجبوا الرحمة، ويحكم بها لهم.
(١) اى ضمن (شىء) التي فى الآية «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ».
(٢) أي بخلاف المعتزلة الذين يقولون بالوجوب (على) الله، وشتان بين الوجوب (من) الله والوجوب (عليه) فالوجوب من الله فضل، والوجوب على الله إلزام. [.....]
576
«وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» أي بما يكاشفهم به فى الأنظار مما يقفون عليه بوجوه الاستدلال، وبما يلاطفهم به فى الأسرار مما يجدونه فى أنفسهم من فنون الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٧]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
أظهر شرف المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» أي أنه لم يكن شىء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه من قبل نفسه، أو من تعلّمه وتكلّفه، أو من اجتهاده وتصرّفه.. بل ظهر عليه كلّ ما ظهر من قبله- سبحانه- فقد كان هو أمّيا غير قارئ للكتب، ولا متتبّع للسّير.
ثم قال: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» : والمعروف هو القيام بحق الله، والمنكر هو البقاء بوصف الحظوظ وأحكام الهوى، والتعريج فى أوطان المني، وما تصوّره للعبد تزويرات الدعوى «١». والفاصل بين الجسمين، والمميّز بين القسمين- الشريعة، فالحسن من أفعال العباد ما كان بنعت الإذن من مالك الأعيان فلهم ذلك، والقبيح ما كان موافقا للنّهى «٢» والزجر فليس لهم فعل ذلك.
قوله جل ذكره: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
الإصر الثّقل، ولا شىء أثقل من كدّ التدبير، فمن ترك كد التدبير إلى روح شهود التقدير، فقد وضع عنه كلّ إصر، وكفى كلّ وزر وأمر.
والأغلال التي كانت عليهم هى ما ابتدعوه من قبل أنفسهم باختيارهم فى التزام طاعات
(١) يقصد بها دعوى النفس أنها على شىء وذلك زور وباطل.
(٢) وردت (الهنى) وهى خطأ فى النسخ.
الله ما لم يفترض عليهم، فوكلوا إلى حولهم ومنّتهم فيها فأهملوها، ونقضوا عهودهم.
ومن لقى- بخصائص الرضا- ما تجرى به المقادير، وشهد الحقّ فى أجناس الأحداث- فقد خصّ بكل نعمة وفضل.
قوله جل ذكره: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
اعترف لهم «١» بنصرة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وإلا فالنبى صلّى الله عليه وسلّم كان الله حسيبه، ومن كان استقلاله بالحق لم يقف انتعاشه على نصرة الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
صرّح بما رقّيناك إليه من المقام، وأفصح عما لقيناك به من الإكرام، قل إنى إلى جماعتكم مرسل، وعلى كافتكم مفضّل، ودينى- لمن نظر واعتبر، وفكّر وسبر- مفصّل. فإلهى الذي لا شريك له ينازعه، ولا شبيه يضارعه له حقّ التصرف فى ملكه بما يريد من حكمه. ومن جملة ما حكم وقضى، ونفذ به التقدير وأمضى- إرسالى إليكم لتطيعوه فيما يأمركم، وتحذروا من ارتكاب ما يزجركم.
وإنّ مما أمركم به أنه قال لكم: آمنوا بالنبيّ الأمّى، واتبعوه لتفلحوا فى الدنيا والعقبى، وتستوجبوا الزّلفى والحسنى، وتتخلصوا من البلوى والهوى.
(١) (اعترف لهم) أي عرف لهم هذا العمل وأشاد به.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
هم الذين سبقت لهم العناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمة السابقة، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفىّ تبديل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٠]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
فرّقهم أصنافا، وجعلهم فى التحزب أخيافا، ثم كفاهم ما أهمّهم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بدّ منه فيما نابهم فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرّ والبرد، وأنزلنا عليهم المنّ والسّلوى مما نفى عنهم تعب الجوع والجهد والسعى والكد، وفجّرنا لهم العيون عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عيانا، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العبرة بأفعال الخلق ولا بأعمالهم إنما المدار على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يمضى عليهم من فنون أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦١]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)
يخبر عما ألزمهم من مراعاة الحدود، وما حصل منهم من نقض العهود. وعما ألزمهم من التكليف، ولقّاهم به من صنوف التعريف، وإكرامه من (شاء) «١» منهم بالتوفيق والتصديق، وإذلاله من شاء منهم بالخذلان وحرمان التحقيق، ثم ما عاقبهم به من فنون البلاء فما لقوا تعريفا، وأذاقهم من سوء الجزاء، حكما- من الله- حتما، وقضاء جزما.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٢]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
«٢» جاء فى التفسير أنهم زادوا حرفا فى الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل «حطّة» فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة فى الدّين، والابتداع فى الشرع عظيم الخطر، ومجاوزة حدّ الأمر شديد الضرر.
ويقال إذا كان تغيير كلمة هى عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب- فما الظنّ بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود؟
ويقال إنّ القول أنقص من العمل بكلّ وجه- فإذا كان التغيير فى القول يوجب كلّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير فى الفعل؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٣]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك روغان- فى التحقيق «٣»، وإن الحقائق تأبى
(١) سقطت (شاء) وقد أثبتناها قياسا على ما حدث فيما بعد.
(٢) سقطت (من السماء) من الناسخ.
(٣) تأمل مفهوم (التأويل) عند القشيري، وكيف يعارضه إذا كان باطلا.
إلا الصدق، وإنّ التعريج فى أوطان الحظوظ والجنوح إلى محتملات الرّخص فسخ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوّب له، ومن صفّى صفى له.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٤]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
الحقائق- وإن كانت لازمة- فليست للعبد عند لوازم الشرع عاذرة «١» بل الوجوب يفترض شرعا، وإن كان التقدير غالبا بكل وجه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٥]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
إذا تمادى العبد فى تهتّكه، ولم يبال بطول الإمهال والسّتر لم تهمل يد التقدير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر.
ثم البريء فى فضاء السلامة، وتحت ظلّ الحفظ، ودوام روح التخصيص وبرد عيش التقريب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٦]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
إذا انتهت مدة الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبد من عين الله لم ينتعش بعده أبدا، فمن أسقطه حكم الملوك فلا قبول له بعد الردّ، وفى معناه أنشدوا:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
(١) أي لا ينبغى نصرة الحقيقة على حساب الشريعة بحال.
إذا الحقّ- سبحانه- أمضى سنته بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداء للعذر- وإن جلت «١» رتبته عن كل عذر- فإن ينجع فيهم القول وإلا دمّر عليهم بالعذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٨]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
«٢» أجراهم على ما علم أنهم يكونون عليه من صلاح وسداد، ومعاص وفساد. ثم ابتلاهم بفنون الأفعال من محن أزاحها، ومن منن أتاحها، وطالبهم بالشكر على ما أسدى، والصبر على ما أبلى، ليظهر للملائكة والخلائق أجمعين جواهرهم فى الخلاف والوفاق، والإخلاص والنفاق فأمّا الحسنات فهى ما يشهدهم المجرى، ولا يلهيهم عن المبدى، وأمّا السيئات فالتردد بين الإنجاز والتأخير، والإباحة والتقصير.
ويقال الحسنة أن ينسيك نفسك، والسيئة أن يشهدك نفسك.
ويقال الحسنات بتيسير وقت عن الغفلات خال، وتسهيل يوم عن الآفات بائن. والسيئات التي ابتلاهم بها خذلان حاصل وحرمان متواصل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
استوجبوا الذم بقوله- سبحانه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» لأنهم آثروا العرض «٣»
(١) وردت (حلت) بالحاء وهى خطأ فى النسخ.
(٢) أخطأ الناسخ إذ كتبها (لعلهم يرحمون)
(٣) وردت (الأرض) وهى خطأ فى النسخ فلفظة (عرض) مذكورة فى الآية.
الأدنى، وركنوا إلى عاجل الدنيا، وجعلوا نصيبهم من الآخرة المنى فقالوا: «سَيُغْفَرُ لَنا».
ويقال من أمارات الاستدراج ارتكاب الزلة، والاغترار بزمان المهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ.
أخبر عن إصرارهم على الاغترار بالمنى، وإيثار متابعة الهوى.
قوله جل ذكره: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.
استفهام فى معنى التقرير «١»، أي أمروا ألا يصفوا الحقّ إلا بنعت الجلال، واستحقاق صفات الكمال، وألا يتحاكموا عليه بما لم يأت منه خبر، ولم يشهد بصحته برهان ولا نظر.
قوله جل ذكره: وَدَرَسُوا ما فِيهِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
يعنى تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان. يعنى التعرض لنفحات فصله- سبحانه- خير لمن أمّل جوده من مقاساة التعب ممن بذل- فى تحصيل هواه- مجهوده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٠]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
يمسكون بالكتاب إيمانا، وأقاموا الصلاة إحسانا، فبالإيمان وجدوا الأمان، وبالإحسان وجدوا الرضوان فالأمان معجّل والرضوان مؤجل. ويقال «يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة فى المآل والمناجاة فى الحال.
ويقال أفرد الصلاة هاهنا بالذكر عن جملة الطاعات ليعلم أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.
(١) وردت (التقدير) بالدال وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها، والاستفهام التقريرى مصطلح بلاغي.
قوله جل ذكره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
من أمّل سبب إنعامنا لم تخسر له صفقة، ولم تخفق «١» له فى الرجاء رفقة، ويقال من نقل (....) «٢» إلى بابه قدمه لم يعدم فى الآجل نعمه، ومن رفع إلى ساحات جوده هممه نال فى الحال كرمه.
ويقال من توصّل إليه بجوده نال فى الدارين شرفه. ومن اكتفى بجوده «٣» كان الله عنه خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
ليس من يأتى طوعا كمن يأتى جبرا، فإن الذي يأتى قهرا لا يعرف للحق- سبحانه- قدرا، وفى معناه أنشدوا:
إذا كان لا يرضيك إلا شفاعة فلا خير فى ود يكون لشافع
وأنشدوا:
إذا أنا عاتبت الملول فإنّما أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم يكن تودده طبعا، فصار تكلّفا؟
ويقال قصارى من أتى خيرا أن ينكص على عقبيه طوعا، كذلك لمّا قابلوا الكتاب بالإجبار ما لبثوا حتى قابلوه بالتحريف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
(١) وردت (تحقق) وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها.
(٢) مشتبهة وربما كانت (فى العاجل).
(٣) الأصوب أن تكون هذه (بوجوده) أي من فنى عن نفسه وبقي بالحق كان الحق عنه خلقه. [.....]
584
أخبر بهذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج «١» ودّه، بتعريف عبده، وفى معناه أنشدوا:
سقيا لليلى والليالى التي كنّا بليلى نلتقى فيها
أفديك بل أيام دهرى كلها يفدين أياما عرفتك فيها
ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر، أو ظهر فى قلوبهم لمصنوع أثر، أو كان لهم من حميم أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفى معناه أنشدوا:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى وصادف قلبى فارغا فتمكنّا
ويقال جمعهم فى الخطاب ولكنه فرّقهم فى الحال. وطائفة خاطبهم بوصف القربة فعرّفهم فى نفس ما خاطبهم، وفرقة أبقاهم فى أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم.
ويقال أقوام لاطفهم فى عين ما كاشفهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم فى نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود.
ويقال وسم بالجهل قوما فألزمهم بالإشهاد ببيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضح الحجة (......) «٢».
(١) العناج حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد).
(٢) لا بد أن هنا عبارة ساقطة.
585
ويقال تجلّى لقوم فتولّى تعريفهم فقالوا: «بَلى» عن حاصل يقين، وتعزّز عن آخرين فأثبتهم فى أوطان الجحد فقالوا: «بَلى» عن ظن وتخمين.
ويقال جمع المؤمنين فى الأسماء ولكن غاير بينهم فى الرتب فجدب قلوب قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبارّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار.
ويقال فرقة ردّهم إلى الهيبة فهاموا، وفرقة لاطفهم بالقربة فاستقاموا.
ويقال عرّف الأولياء أنه من هو فتحققوا بتخليصهم، ولبّس على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم.
ويقال أسمعهم وفى نفس ما أسمعهم أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم- بحسن التولي- أحكام التكليف «١» وكان- سبحانه- لهم مكلّفا، وعلى ما أراده مصرّفا، وبما استخلصهم له معرّفا، وبما رقاهم إليه مشرّفا.
ويقال كاشف قوما- فى حال الخطاب- بجماله فطوحهم فى هيمان حبه، فاستمكنت محابّهم فى كوامن أسرارهم فإذا سمعوا- اليوم- سماعا تجددت (تلك الأحوال، فالانزعاج الذي يظهر فيهم لتذكّر ما سلف لهم) «٢» من العهد المتقدم «٣».
ويقال أسمع قوما بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود.
ويقال أظهر آثار العناية بدءا حين اختصّ بالأنوار التي رشت عليهم قوما، فمن حرمه تلك الأنوار لم يجعله أهلا للوصلة، ومن أصابته تلك الأنوار أفصح بما خصّ به من غير مقاساة كلفة.
(١) لاحظ مدى إلحاح القشيري على التزام أحكام التكليف ما سنحت له مناسبة.
(٢) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه في موضعه من النص حسب العلامات المميزة
(٣) من هذا ومما ثلاه يتضح كيف ارتبطت الولاية بالفطرة والاجتباء والخصوصية منذ يوم الذر وكذلك الشأن فى العداوة.
586
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٤]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
إذا سدّت «١» عيون البصائر فما ينفع وضوح الحجّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
الحقّ- سبحانه- يظهر الأعداء فى صدار الخلّة ثم يردّهم إلى سابق القسمة، ويبرز الأولياء بنعت الخلاف والزّلّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة.
ويقال أقامه فى محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدّ له من سابق التقدير فأصبح والكلّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه- مع خساسته: وفى معناه أنشدوا:
فبينا بخير والدّنى مطمئنة وأصبح يوما- والزمان تقلّبا
ويقال ليست العبرة بما يلوح فى الحال، إنما العبرة بما يئول إليه فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٦]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تلحقه الشقاوة الأبدية، ولكن من قصمته السوابق لم تنعشه اللواحق.
قوله جل ذكره: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ.
إذا كانت مساكنة آدم للجنّة وطمعه فى الخلود فيها أوجبا خروجه عنها، فالركون إلى الدنيا- متى يوجب البقاء فيها؟
قوله جل ذكره: وَاتَّبَعَ هَواهُ.
موافقة الهوى تنزل صاحبها من سماء العزّ إلى تراب الذّل، وتلقيه فى وهدة الهوان ومن لم يصدّق علما فعن قريب يقاسيه وجودا.
(١) وردت (شدت) والمعنى يرفضها ويبدو أن الناسخ قد حسب ضمة السين ثلاث نقط انظر (ولولا انسداد البصائر ص ٥٨٩ من هذا المجلد).
قوله جل ذكره: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ.
من أخلاق الكلب التعرّض لمن لم يخفه على جهة الابتداء، ثم الرضاء عنه بلقمة..
كذلك الذي ارتدّ عن طريق الإرادة يصير ضيق الصدر، سيىء الخلق، يبدأ بالجفاء كلّ برىء، ثم يهدأ طياشه بنيل كلّ عرض خسيس.
قوله جل ذكره: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
المحجوب عن الحقيقة عنده الإساءة والإحسان (سيان) «١»، فهو فى الحالين: إمّا صاحب ضجر أو صاحب بطر لا يحمل المحنة إلا على زوال الدولة، ولا يقابل «٢» النعمة إلا بالنهمة، فهو فى الحالين محجوب عن الحقيقة.
ويقال الكلب نجاسته أصلية، وخساسته كلية، كذلك المردود فى الصفة له نقصان القيمة وحرمان القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٧]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
«٣» أي صفته أدنى من نعت من بلى بالإعراض الأزلىّ، وأىّ نعت أعلى من وصف من أكرم بالقبول الأيدىّ؟ وأىّ حيلة تنفع مع من يخلق الحيلة؟»
وكيف تصحّ الوسيلة إلا لمن منه الوسيلة؟
(١) (سيان) زياد أضفناها ليستقيم بها والمعنى ويقوى.
(٢) وردت (ولا يقال) وهى خطأ فى النسخ والمعنى يتطلب (ولا يقابل).
(٣) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مثلان).
(٤) نعرف من مذهب القشيري أن (الحيلة) تتصرف إلى الإنسان، وهو هنا يقرر أن الحيلة من خلق الحق، وبهذا يتاكد اتجاهه الكلامى نحو جعل الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٨]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
ليست الهداية من حيث السعاية، إنما الهداية من حيث البداية، وليست الهداية بفكر العبد ونظره، إنما الهداية بفضل الحق وجميل ذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
من خلقه لجهنم- متى يستوجب الجنّات؟
ومن أهّله للسخطة- أنّى يستحق الرضوان؟
ولولا انسداد البصائر وإلا فأىّ إشكال بقي بعد هذا الإيضاح؟ «١» ويقال هم- اليوم- فى جحيم الجحود، مقرّنين فى أصفاد الخذلان، ملبسين ثياب الحرمان، طعامهم ضريع الوحشة، وشرابهم حميم الفرقة، وغدا هم فى جحيم الحرقة «٢»..
كما فصّل فى الكتاب شرع تلك الحالة.
قوله جل ذكره: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
أي لا يفقهون معانى الخطاب كما يفهم المحدّثون «٣»، وليس لهم تمييز بين خواطر الحق
(١) يغمز القشيري هنا بمن يقول بحرية الإنسان فى اختطاط مصيره باختياره وإرادته، ويرجع الأمر كله للقسمة.
(٢) لاحظ مفهوم الجحيم، فى تصور الصوفية، وهو جحيم الفراق- هنا فى هذه الدنيا. وبعده جحيم الاحتراق فى الدار الآخرة.
(٣) يقول السراج فى شرح «المحدّث» التي وردت فى الحديث الشريف:
«قد كان فى الأمم محدثون ومكلمون فان يك في هذه الأمة فعمر» المحدّث أعلى درجة من درجات الصديقين، ودلائل ذلك ظهرت عليه حين صاح في خطبه: يا سارية الجبل، وكان سارية فى نهاوند فسمع صوت عمر وأخذ نحو الجبل وظفر بالعدو (اللمع ص ١٧٣).
وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان، ولهم أعين لا يبصرون بها شواهد التوحيد وعلامات اليقين فلا ينظرون إلا من حيث الغفلة، ولا يسمعون إلا دواعى الفتنة، ولا ينخرطون إلا مع سلك ركوب الشهوة.
«أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» : لأنّ الأنعام قد رفع عنها التكليف، وإن لم يكن لها وفاق الشرع فليس منها أيضا خلاف الأمر.
والأنعام لا يهمّها إلا الاعتلاف، وما تدعو الحيلة من مباشرة الجنس، فكذلك من أقيم بشواهد نفسه وكان من المربوطين بأحكام النّفس، وفى معناه أنشدوا:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والرّدى لك لازم
وسعيك فيها سوف تكره غبّه كذلك فى الدنيا تعيش البهائم
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
«١» سبحان من تعرّف إلى أوليائه بنعوته وأسمائه فعرّفهم أنه من هو، وبأى وصف هو، وما الواجب فى وصفه، وما الجائز فى نعته، وما الممتنع فى حقّه وحكمه فتجلى لقلوبهم بما يكاشفهم به من أسمائه وصفاته، فإن العقول محجوبة عن الهجوم بذواتها لما يصحّ إطلاقه فى وصفه، وإن كانت واقفة على الواجب والجائز والممتنع فى ذاته، فللعقل العرفان بالجملة، وبالشرع الإطلاق والبيان فى الإخبار، والقول فيما ورد به التوفيق يطلق، وما سكت عنه التوفيق يمنع. ويقال من كان الغالب عليه وصف من صفاته ذكره بما يقتضى هذا الوصف فمن كان مكاشفا بعطائه «٢»، مربوط القلب بأفضاله فالغالب على قالته الثناء عليه بأنه الوهاب والبار والمعطى وما جرى مجراه. ومن كان مجذوبا عن شهود الإنعام، مكاشفا بنعت الرحمة
(١) أخطأ الناسخ إذ زاد واوا قبل (ما كانوا) والصواب بدونها. [.....]
(٢) وردت (بغطائه) بالغين والصواب ان تكون (بعطائه) بدليل (افضاله) و (الإنعام) فيما بعد فضلا عن الأسماء والصفات الإلهية المختارة (الوهاب والبار والمعطى).
فالذى يغلب على ذكره وصفه بأنه الرحمن والرحيم والكريم وما فى معناه. ومن سمت همّته عن شهود وجوده، واستهلك فى حقائق وجوده فالغالب على لسانه الحق. ولذلك فأكثر أقوال العلماء فى الإخبار عنه: «البارئ» لأنهم فى الترقي فى شهود الفعل إلى شهود الفاعل.
وأمّا أهل المعرفة فالغالب على لسانهم «الحق» لأنهم «١» مختطفون عن شهود الآثار، متحققون بحقائق الوجود.
ويقال إنّ الله- سبحانه- وقف الخلق بأسمائه فهم يذكرونها قالة، وتعزّز بذاته، والعقول- وإن صفت- لا تهجم على حقائق الإشراف، إذ الإدراك لا يجوز على الحق فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عند التعرض للإحاطة، والمعارف تائهة عند قصد الإشراف على حقيقة الذات، والأبصار حسيرة عند طلب الإدراك فى أحوال الرؤية، والحق سبحانه عزيز، وباستحقاق نعوت التعالي متفرّد «٢».
قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» : الإلحاد هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين بالزيادة والنقصان فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨١]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بألا يخلى البسيطة من أهل لها هم الغياث وبهم دوام الحق فى الظهور، وفى معناه قالوا:
إذا لم يكن قطب... فمن ذا يديرها؟
فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق، ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون
(١) وردت (إليهم) ولا معنى لها فى السياق والصواب أن تكون (لأنهم)،
(٢) يلح القشيري على هذا المعنى دائما فيقول فى تحديد العرفان (تنزه عن الدرك والوصول، ليس بين لخلق إلا عرفان الحقائق بنعت التعالي فى شهود أفعاله، فاما الوقوف على حقيقة إنيته فجلت الصمدية عن شراف عرفان عليه) اللطائف (م) ص ٣٩٨.
(٣) (لا تمثيل ولا تعطيل) هذا أصل من أصول المذهب الكلامى عند هذا الإمام.
للحق بالحق، وهم قائمون بالحق يصرفهم الحق بالحق أولئك هم غياث الخلق بهم يسقون إذا قحطوا، ويمطرون إذا أجدبوا، ويجابون إذا دعوا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٣]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
الاستدراج أن يلقى فى أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفى الحقيقة: السابق لهم من القسمة حقائق الفرقة.
ويقال الاستدراج انتشار الصيت بالخير فى الخلق، والانطواء على الشر- فى السر- مع الحق.
ويقال الاستدراج ألا يزداد فى المستقبل صحبة إلا ازداد فى الاستحقاق نقصان رتبة.
ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقا فى حاله لكان معصوما فى أعماله.
ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معان مريضة.
ويقال الاستدراج إفاضة البرّ مع (....) «٢» الشكر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٤]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
أو لم يتأملوا بأنوار البصائر ليشهدوا أخلاق آثار التقريب بجملة أحواله- عليه السّلام- ليعلموا أن ذلك الشاهد ليس بشاهد متخرص.
ويقال إن برود «٣» الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- كانت بنسيم القربة
(١) هذه نظرة القشيري الى الولاية والأولياء ومعنى القطب وأهميته.
(٢) مشتبهة.
(٣) جمع برد
معطرة «١»، ولكن لا يدرك ذلك النّشر إلا بشمّ العرفان، فمن فقد ذلك- فأى خبر «٢» له عن حقيقة حاله- صلوات الله عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٥]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
أطلع الله- سبحانه- أقمار الآيات، وأماط عن ضيائها سحاب الشبهات فمن استضاء بها ترقّى إلى شهود القدرة.
ويقال ألاح الله تعالى- لقلوب الناظرين بعيون الفكر- حقائق التحصيل فمن لم يعرّج فى أوطان التقصير أنزلته مراكب السّرّ بساحات التحقق.
قوله جل ذكره: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
الناس فى مغاليط آمالهم ناسون لو شيك آجالهم، فكم من ناسج لأكفانه! وكم من بان لأعدائه! وكم من زارع لم يحصد زرعه! هيهات! الكبش يعتلف والقصّاب مستعدّ له! ويقال سرعة الأجل تنغّص لذة الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٦]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
من حرمه أنوار التحقيق فهو فى ضباب الجهل، فهو يزلّ يمينا ويسقط شمالا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
(١) وردت (مطرة) بدون عين، والسياق يتطلب (معطرة) لتناسب النسيم والشم والنشر
(٢) وردت (خير) والمقصود فاى (خبر) أي فاى علم له عن حقيقة المصطفى (ص).
السائل عن الساعة رجلان منكر يتعجّب لفرط جهله، وعارف مشتاق يستعجل لفرط شوقه، والمتحقق بوجوده ساكن فى حاله فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة.
ويقال الحق- سبحانه- استأثر بعلم الساعة فلم يطلع على وقتها نبيّا ولا صفيّا، فالإيمان بها غيبى، ويقين أهل التوحيد صادق «١» عن شوائب الرّيب. ثم معجّل قيامتهم يوجب الإيمان بمؤجّلها «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
أمره بتصريح الإقرار بالتبري عن حوله ومنّته، وأن قيامه وأمره ونظامه بطول ربّه ومنّته ولذلك تتجنّس علىّ الأحوال، وتختلف الأطوار فمن عسر «٣» يمسّني، ومن يسر «٤» يخصنى، ولو كان الأمر بمرادى، ولم يكن بيد غيرى قيادى لتشابهت أحوالى فى اليسر، ولتشاكلت أوقاتى فى البعد من العسر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
أخرج النّسمة من نفس واحدة وأخلاقهم مختلفة، وهممهم متباينة، كما أن الشخص من
(١) ربما كانت (صاف) فى الأصل
(٢) القيامة المعجلة التي يشير إليها هى (التي تقوم فى اليوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) اللطائف (م) ٣٥١، فالمقصود من العبارة إذا أن أهل الخصوص يؤمنون إيمان يقين بالقيامة المؤجلة لأنهم يشهدون ويذوقون القيامة المعجلة، وقد صدق القشيري إذ يقول فى رسالته: (فما للناس غيب فلهم ظهور) الرسالة ص ١٩٨.
(٣) وردت (عصر).
(٤) وردت (يستر) وقد صوبناهما (عسر ويسر) فى ضوء ما قالاهما.
نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاؤه مختلفة. فمن قدر على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها فهو القادر على تنويع أخلاق الخلق الذين أخرجهم من نفس واحدة.
قوله جل ذكره: لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
ردّ المثل إلى المثل، وربط الشّكل بالشكل، ليعلم العالمون أن سكون الخلق مع الحقّ لا إلى الحق، وكذلك أنسل الخلق من الخلق لا من الحق، فالحقّ تعالى قدوس منه كل حظ للخلق خلقا، منزه عن رجوع شىء إلى حقيقته حقا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٠]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
شرّ الناس من يبتهل إلى الله عند هجوم البلاء بخلوص الدعاء، وشدة التضرع والبكاء، فإذا أزيلت شكاته، ودفعت- بمنّته- آفاته ضيّع الوفاء، ونسى البلاء، وقابل الرّفد «١» بنقض العهد، وأبدل العقد برفض الود، أولئك الذين أبعدهم الله فى سابق الحكم، وخرطهم فى سلك أهل الرد «٢» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩١]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
كما لا يجوز أن يكون الربّ مخلوقا لا يجوز أن يكون غير الرب خالقا، فمن وصف الحقّ بخصائص وصف الخلق فقد ألحد، ومن نعت الخّلق بما هو من خصائص حق الحق فقد جحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٢]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
من حكم بأنه ليس فى مقدور الحق شىء (لو فعله اسم الجاهل طوعا إلا فعله «٣» فقد
(١) (الرفد) هو العطاء. [.....]
(٢) وردت (الود) وهى خطأ في النسخ.
(٣) ما بين القوسين جاء فى النسخة المصورة هكذا، وفيه غموض ربما نشأ عن خطا فى النسخ.
وصف بأنه لا يقدر على نصره فمضاه الذي يعبد الجماد، ونعوذ بالله من الضلالة عن الرشاد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٣]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
المعبود هو القادر على هداية داعيه، وعلم العبد بقدرة معبوده يوجب تبرّيه عن حوله وقوته، وإفراد الحق- سبحانه- بالقدرة على قضاء حاجته، وإزالة ضرورته فتتقاصر عن قصد الخلق خطاه «١»، وتنقطع آماله عن غير مولاه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٤]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)
إذا قرنت الضرورة بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء فالمخلوق إذا استعان بمخلوق مثله ازداد بعد مراده عن النّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية؟! هيهات! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٥]
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
بيّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضا فكيف استجازوا عبادة ما فاقهم «٢» فى النقص؟
قوله جل ذكره: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.
(١) وردت (خطاؤه) والصواب أن تكون (خطاه)
(٢) وردت (فوقهم) والأرجح أنها ما (فاقهم) فى النقص لأن الأصنام أقلّ قدرا من الإنسان، حيث لا تملك يدا او عينا أو أذنا، ولا تعى ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فإذا كان الإنسان مع ذلك موصوفا بالنقص فالصنم أشد نقصا.
صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا والمتفرّد بالقدرة- على النفع والضرر، والخير والشر- الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)
من قام بحقّ الله تولّى أموره على وجه الكفاية، فلا يخرجه إلى أمثاله، ولا يدع شيئا من أحواله إلّا أجراه على ما يريده بحسن أفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيا بما يفعل، وروح الرضا على الأسرار أتمّ من راحة العطاء على القلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٨]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
شاهدوه بأبصارهم لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم فلم يعتدّ برؤيتهم.
ويقال رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب، وذلك على مقادير الاحترام وحصول الإيمان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
من خصائص سنّة الله فى الكرم أنه أمر نبيّه- صلوات الله عليه وعلى آله- بالأخذ به، إذ الخبر ورد بأنّ المؤمن أخذ من الله خلقا حسنا. وكلما كان الجرم أكبر كان العفو عنه أجلّ وأكمل، وعلى قدر عظم رتبة العبد فى الكرم يتوقف العفو
عن الأصاغر والخدم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فى الجراحات «١» التي أصابته فى حرب أحد:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون».
قوله «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» : أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول- صلّى الله عليه وعلى آله- الناس.
قوله: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» : الإعراض عن الأغيار بالإقبال على من «٢» لم يزل ولا يزال، وفى ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٠]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
إن سنح فى باطنك من الوساوس أثر فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق، وإن هجس فى صدرك من الحظوظ خاطر فاستعذ بالله يدركك بإزالة كل نصيب، وإن لحقتك فى بذل الجهد فترة فاستعذ بالله يدركك بإدامة آلائه، وإن اعترتك فى الترقي إلى محل الوصول وقفة فاستعذ بالله يدركك بإدامة التحقيق، وإن تقاصر عنك شىء من خصائص القرب- صيانة لك عن شهود المحل- فاستعذ بالله يثبتك له بدلا من لك بك «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠١]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
إنما يمس المتقين طيف الشيطان فى ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا
(١) وردت (الجراهات) بالهاء وهى خطأ في النسخ.
(٢) وردت (ما لم يزل) وقد آثرنا (من لم يزل) لأن (من) للعاقل
(٣) تصلح هذه الفقرة وصية المريدين، وتبين عن أسلوب القشيري فى الوصية من الناحيتين الصوفية والأدبية.
ذكر الله بقلوبهم لما مسّهم طائف الشيطان، فإن الشيطان لا يقرب قلبا فى حال شهوده الله لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارم نبوة، ولكلّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارف حجبة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليغان على قلبى....» «١» أخبر أنه يعتريه ما يعترى غيره، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحدّة تعترى خيار أمتى» «٢»، فأخبر أنّ خيار الأمة- وإن جلت رتبتهم لا يتخلصون عن حدّة تعتريهم فى بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٢]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
إخوان الشيطان أرباب دوام الغيبة فهم فى كمال الغفلة تدوم بهم الحجبة فمنهم بالزّلّة من لم يلم، أو ألمّ ولكن لم يصرّ فهم خياره «٣»، ومنهم من غفل واغترّ، وعلى دوام الغيبة أصرّ- فهم المحجوبون قطعا، والمبعدون «٤» - عن محلّ القرب- صدّا «٥» وردّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
(١) «إنه ليغان على قلبى فاستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم مائة مرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وفى رواية لمسلم: «توبوا الى ربكم فو الله إنى لأتوب إلى ربى تبارك وتعالى فى اليوم مائة مرة» ويقول صاحب اللمع: الغين الذي كان يتوب منه الرسول مثله مثل المرآة إذا تنفس فيها الناظر فينقص من ضوئها ثم تعود إلى حالة ضوئها (اللمع ص ٤٥١)
(٢) قال (ص) (انى بشر أغضب كما يغضب البشر) الشيخان عن أبى هريرة وأحمد ومسلم عن جابر
(٣) من هذا يتضح مدى انفساح الأمل أمام العصاة، وكيف أن باب التوبة يتسع لآمالهم.
(٤) وردت المعبودون وهى خطأ فى النسخ.
(٥) وردت (صمد) وهى خطأ فى النسخ وقد تقدم معنى الصد والرد
من شاهد الحقّ من حيث الخلق سقط فى مهواة المغاليط، فهو فى متاهات الشّكّ يجوب منازل الرّيب، ولا يزداد إلا عمىّ على عمى. ومن طالع الخلق بعين تصريف القدرة إياهم تحقق بأنهم لا يظهرون إلا فى معرض اختيار الحق لهم، فهو ينظر بنور البصيرة، ويستديم شهود التصريف بوصف السكينة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
استمعوا بسمع الإيمان والتصديق، وأنصتوا (بصون) الخواطر عن معارضات الاعتراض، ومطالبات الاستكشاف. ومن باشر التحقيق سرّه لازم التصديق قلبه.
والإنصات- فى الظاهر- من آداب أهل الباب، والإنصات- بالسرائر- من آداب أهل البساط، قال الله تعالى فى نعت تواصى الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول صلّى الله عليه وسلّم «فلما حضروه قالوا أنصتوا» «١» فإذا كان الحضور إلى الواسطة عليه السّلام يوجب هذه الهيبة فلزوم الهيبة وحفظ الأدب عند حضور القلب بشهود الربّ أولى وأحق، قال تعالى: «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
«٣» التضرع إذا كوشف العبد بوصف الجمال فى أوان البسط، والخيفة إذا كوشف بنعت الجلال فى أحوال الهيبة، وهذا للأكابر.
(١) آية ٢٩ سورة الأحقاف.
(٢) آية ١٠٨ سورة طه. [.....]
(٣) أخطأ الناسخ إذ كتبها (الغافلون).
Icon