تفسير سورة المدّثر

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٧٤) سورة المدّثر مكيّة وآياتها ستّ وخمسون
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٣١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)
272
اللغة:
(الْمُدَّثِّرُ) لابس الدثار وهو ما فوق الشعار أي الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال كما تقدم في المزمل أي المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر.
(الرُّجْزَ) بكسر الراء وهي قراءة الجمهور وقرأ حفص ومجاهد والسلمي وغيرهم بضمها فقيل هما بمعنى واحد يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل: الكسر لتبيين النقائض والفجور والضم لضمين أساف
273
ونائلة وقال الحسن كل معصية والمعنى في الأمر اثبت ودم على هجره لأنه صلّى الله عليه وسلم كان بريئا منه، وقال النخعي الإثم، وقال القتبي: العذاب أي اهجر ما يؤدي إليه، وأخذ به الزمخشري قال:
«والرجز بالكسر والضم وهو العذاب ومعناه اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى الثبات على هجره لأنه كان بريئا منه». وفي القاموس «الرجز بالكسر والضم القذر وعبادة الأوثان والشرك» والزاي منقلبة عن السين والعرب تعاقب بينهما والمعنى واحد.
(النَّاقُورِ) النقر الصوت قال الشاعر:
أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض
والناقور فاعول منه كالجاسوس مأخوذ من التجسس والمراد هنا الصور وهو القرن.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد في الأصل التسوية والتهيئة ويتجوز به عن بسط المال والجاه، قال في الكشاف: «وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه».
(عَبَسَ) يعبس عبسا وعبوسا قطب وجهه وبابه جلس والعبس ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول.
(بَسَرَ) بسر يبسر بسرا وبسورا إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء واسود وجهه منه وبابه دخل ويقال وجه باسر أي منقبض أسود وقال الراغب: «البسر استعجال الشيء قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته: طلبها في غير أوانها، وماء بسر: متناول من غدير قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من الثمر بسر وقوله تعالى: (عَبَسَ وَبَسَرَ) أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته فإن قيل: فقوله تعالى: «ووجوه يومئذ باسرة» ليس يفعلون ذلك قبل الوقت وقد قلت إن ذلك فيما يقع قبل
274
وقته قيل أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء إلى النار فحص لفظ البسر تنبيها على أن ذلك مع ما ينالهم منه يجري مجرى التكليف ومجرى ما يفعل قبل وقته ويدل على ذلك قوله تظن أن يفعل بها فاقرة».
(سَقَرَ) اسم من أسماء جهنم وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
(لَوَّاحَةٌ) محرقة لظاهر الجلد وهي بناء مبالغة وفيها معنيان أحدهما من لاح يلوح أي ظهر أي أنها تظهر للبشر وثانيهما وهو الأرجح أنها من لوّحه أي غيّره وسوّده، وعبارة الزمخشري: «لواحة من لوح الهجير قال:
تقول ما لاحك يا مسافر يا ابنة عمي لاحني الهواجر
قيل تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل والبشر عالي الجلود.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تقدم إعراب يا أيها المدثر في يا أيها المزمل، وقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت فأنذر عطف على قم. وقال الزجاج: «إن الفاء في فكبر دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في فأنذر قال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب أي زيدا اضرب فالفاء زائدة»
. والواو عاطفة وربك مفعول به مقدم والفاء رابطة لشرط مقدر يقتضيه السياق كأنه قيل وأيا ما كان فلا تدع تكبيره ونحوه قولك زيدا فاضربه، قال النحاة تقديره تنبه فاضرب زيدا فالفاء جواب الأمر إما على أنه مضمن معنى الشرط وإما على أن الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عندهم، وكبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت. (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) الواو عاطفة وثيابك مفعول مقدم
275
والفاء تقدم القول فيها قريبا، وطهر فعل أمر. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) عطف أيضا على ما تقدم. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمنن فعل مضارع مجزوم بلا وتستكثر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة نصب على الحال أي ولا تعط مستكثرا، وقرىء مجزوما على أنه جواب النهي أو على البدلية من تمنن والتقدير على جعله جوابا للنهي أي أنك إن لا تمنن بعملك أو بعطيتك تزدد من الثواب لسلامة ذلك من الإبطال بالمن على حد قوله تعالى: «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى» ووجه الإبدال أنه كقوله تعالى: «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب»، وفي قراءة من جزم بدلا من قوله يلق وكقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) الواو عاطفة ولربك متعلقان باصبر. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) الفاء للتسبيب والعلة كأنه قال اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه مغبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وهو متعلق بما يدل عليه الإشارة في قوله فذلك لأنه إشارة إلى النقر ويجوز أن يتعلق بما دل عليه عسير ولا يعمل فيه عسير نفسه لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها والتقدير اشتد الأمر وعسر، ونقر فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي إسرافيل.
والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الناقور متعلقان بنقر.
(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) الفاء رابطة لجواب إذا وذلك مبتدأ والإشارة إلى وقت النقر ويومئذ بدل من ذلك وبني لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ نفخ في الصور، ويوم خبر المبتدأ وعسير نعت. (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) على الكافرين متعلقان بعسير وغير يسير نعت ثان ليوم، وللزمخشري تعليل طريف قال: «فإن
276
قلت فما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه، قلت لما قال على الكافرين فقصر العسر عليهم قال غير يسير ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هنيا ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا». (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ذرني فعل أمر والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول ومن الواو للمعية ومن مفعول معه ويجوز أن تكون الواو عاطفة ومن معطوفة على المفعول في ذرني وجملة خلقت صلة الموصول والعائد محذوف أي خلقته، ووحيدا حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير النصب في ذرني أو من التاء في خلقت أي خلقته وحيدا لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى نصير، قيل الأول أولى لأن المراد به الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه في رياسته ويساره وتقدمه في الدنيا وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب شهر به وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وقيل هو عام. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني ومالا هو المفعول الأول وممدودا نعت وقيل هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الزروع والضروع والتجارة. (وَبَنِينَ شُهُوداً) عطف على مال قيل كان للوليد عشرة أولاد ذكور أو سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام وعمارة ونقل عن ابن حجر في الإصابة: أن عمارة مات كافرا وذكر بدله الوليد بن الوليد فهم خالد وهشام والوليد. وشهودا نعت لنبين جمع شاهد بمعنى حاضر فهم يشهدون مع أبيهم الأندية والمجتمعات. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمهدت وتمهيدا مفعول مطلق.
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفيه استبعاد
277
واستنكار بطمعه وحرصه وتهالكه على زيادة المال والنعمة ويطمع فعل مضارع مرفوع معطوف على جعلت ومهدت وفاعله مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض متعلق بيطمع أي يطمع في الزيادة على ما ذكر من المال والبنين والتمهيد. (كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) كلا ردع وزجر له لقطع رجائه وطمعه وتهالكه، وإن وما بعدها جملة تعليلية للردع لأن معاندة آيات المنعم مع وضوحها وكفرانها مع شيوعها من موبقات النفس وموجبات الحرمان وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ولآياتنا متعلقان بعنيدا وعنيدا خبرها والعين الجاحد والمعرض والمجانب للحق والهدى ويجمع على عند. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) السين حرف استقبال وأرهقه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وصعودا مفعول به ثان لأن أرهقه متضمن معنى أكلفه، والصعود في اللغة العقبة الشاقة وإذا لم يتضمن أرهقه معنى أكلفه كانت صعودا في موضع نصب بنزع الخافض أي سأعنته بمشقة وعسر. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل لاستحقاقه هذا الوعيد الآنف الذكر وإن واسمها وجملة فكر خبر وقدر عطف على فكر. روي أن الوليد حاجّ أبا جهل وجماعته من قريش في أمر القرآن وقال: إن له لحلاوة وإن أسفله لمفرقه وإن فرعه لجناه وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى ونحو هذا الكلام فخالفوه وقالوا: هو شعر فقال: والله ما هو بشعر وقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه قالوا فهو كاهن قال: والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان قالوا: هو مجنون قال: والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وخنقه قالوا: هو سحر قال: أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه وروي غير ذلك بما لا يخرج عن هذه المعاني مما يرجع إليه في المطولات. (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الفاء عاطفة وقتل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومعناه لعن وقيل غلب وقهر، قال امرؤ القيس:
278
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب. فإذا كان معناه لعن فالجملة دعائية وإذا كان معناه غلب وقهر فالجملة معطوفة على ما تقدم وكيف اسم استفهام منصوبة على الحال من الضمير في قدر والمقصود من الاستفهام التعجب من تقديره وتوبيخه والاستهزاء به. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وأتي بها للدلالة على أن هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى فهي للتفاوت في الرتبة وهي مؤكدة لنظيرتها المتقدمة فالتكرار للتأكيد. (ثُمَّ نَظَرَ) ثم حرف عطف أيضا للترتيب مع التراخي أي نظر في وجوه الناس مغضبا مما قالوه فيه وهو أنه صبأ ومال إلى محمد. (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) عطف أيضا أي ثم قطب وجهه ثم تشاوس وتخازر مستكبرا. (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) عطف أيضا أي أدبر عن الإيمان وتكبر عن اتباع النبي فهو عطف مساو في المعنى. فقال: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) الفاء عاطفة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر وجملة يؤثر صفة لسحر أي منقول عن السحرة. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) هذه الجملة تأكيد للجملة السابقة أي ملتقط من أقوال الناس. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) السين حرف استقبال وأصليه فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به أول وسقر مفعول به ثان والجملة كلها بدل من قوله سأرهقه صعودا. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وأدراك فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو ومفعول به أول والجملة خبر ما أي أيّ شيء أعلمك، وما اسم استفهام مبتدأ وسقر خبره والجملة سادة مسد المفعول الثاني لأدراك المعلقة عن العمل بالاستفهام وقد مرّ نظيره في الحاقة. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) الجملة حالية والعامل فيها معنى التهويل والتعظيم لأمرها لأن الاستفهام بقوله ما سقر للتعظيم فالمعنى استعظموا سقر في هذه الحال ولا نافية وتبقي فعل
279
مضارع وفاعله مستتر تقديره وهي وتذر عطف على تبقي ومفعول تبقي وتذر محذوف أي لا تبقي ما ألقي
فيها ولا تذره بل تهلكه ولك أن تجعلها جملة مستأنفة. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) لواحة خبر لمبتدأ محذوف وللبشر متعلقان بلواحة والجملة حال ثانية وقرئت لواحة بالنصب على الحال فقيل هي حال من سقر وقيل هي حال من الضمير في لا تبقي وقيل من الضمير في لا تذر واختار الزمخشري نصبها على الاختصاص للتهويل.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) الجملة حال ثالثة أو مستأنفة كما تقدم في لواحة للبشر وعليها خبر مقدم وتسعة عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر، وسيأتي المزيد من معنى هذا العدد في باب البلاغة. (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) الواو استئنافية والكلام استئناف مسوق للرد على أبي الأشد به كلدة بن خلف الجمحي قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: «عليها تسعة عشر» قال أبو جهل لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم محمد يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر: عشرة على ظهري وسبعة على بطني وأكفوني أنتم اثنين فنزلت. وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وأصحاب النار مفعول به أول وإلا أداة حصر وملائكة مفعول به ثان أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم تغالبونهم وإنما جعلناهم ملائكة لا يطاقون. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وعدتهم مفعول به وإلا أداة حصر وفتنة مفعول به ثان على حذف مضاف أي سبب فتنته وليست مفعولا من أجله كما يتوهم، وللذين متعلقان بفتنة وجملة كفروا صلة الموصول. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) اللام لام التعليل ويستيقن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل وهو متعلق بجعلنا الثانية لا بفتنة لأن الفتنة ليست معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة
280
سببا لفتنة الذين أوتوا الكتاب، وقيل ليستيقن متعلق بفعل مضمر أي فعلنا ذلك ليستيقن، والذين فاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول أوتوا الثاني لأن الواو نائب فاعل أوتوا ويزداد عطف على ليستيقن والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وإيمانا مفعول به ثان. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرتاب الذين فعل مضارع وفاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والمؤمنون عطف على الذين.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) عطف على ما تقدم واللام لام التعليل والذين فاعل وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذين وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأراد وبهذا متعلقان بأراد ومثلا حال من هذا أي حال كونه مشابها للمثل، ولك أن تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وأراد الله صلة للموصول وجملة ماذا أراد إلخ مقول القول. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كذلك نعت لمصدر محذوف يضل إضلالا مثل ذلك والله فاعل يضل ومن مفعوله وجملة يشاء صلة والعائد محذوف ويهدي من يشاء عطف على الجملة السابقة. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) الجملة مستأنفة. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الواو عاطفة وما نافية وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والضمير يعود إلى سقر وإلا أداة حصر وذكرى خبر وللبشر متعلقان بذكرى.
البلاغة:
١- في قوله تعالى: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فن الإبهام وقد تقدم الإلماع إليه في هذا الكتاب ونعيده هنا بمزيد من التفصيل لأهمية هذه الآية ولكثرة ما خاض علماء البلاغة والمفسرون فيها، فنقول: الإبهام
281
فن من فنون البلاغة، وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين: إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) مبهم أشدّ الإبهام، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة في ذكر هذا العدد؟
ولا يقال إن هذا السؤال ساقط فإنه يرد على أي عدد فرض بحيث لو قيل عليها خمسة عشر أو أحد عشر أو عشرون أو غير ذلك ورد السؤال عليه وما كان بهذه المثابة فهو ساقط لأنّا نقول: هذا فيما يرد من المخلوق الذي يدخل خبره الخلف وليس بمعصوم من الكذب أما البارئ سبحانه الذي لا يدخل خبره الخلف وإذا أخبر بشيء كان خبره على ما أخبر به فإنه إذا أخبر بعدد لا يجوز أن يقال فيه لو قال غيره ورد عليه السؤال لأنه الحق الواقع الذي لا مرية فيه وإذا كان ذلك كذلك يمكن لقائل أن يقول: ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة؟
فيكون السؤال واردا مستحقا للجواب ليزول هذا الإبهام الذي على ظاهر الكلام، هذا ونورد خلاصة لما قاله كبار الأعلام في تفسير هذا الإبهام ثم نورد بعد ذلك رأيا آثرناه على غيره ليكون في ذلك إيراد للذهن وحفز للقرائح، على أننا لم نورد ما رأيناه غير جدير بالعناية.
أما الإمام فخر الدين بن الخطيب فقد رأى رأيا فيه كثير من السداد والحصافة قال: «لما كان المكلف عبارة عن حواس ظاهرة وحواس باطنة وهي عشر وطبائع وقوى خمس وهي الهاضمة والغازية
282
والماسكة والدافقة. وكانت هذه الأشياء هي التي تدعو إلى الاشتغال بالملاذ الدنيوية والشهوات البهيمية ودفع المضارّ البدنية عن الاشتغال بما يدني من الجنان ويباعد من النيران وكانت عدة هذه الأشياء تسعة عشر جعلت الملائكة الموكلة بتعذيب الإنسان وفق هذه العدة ليكون بإزاء كل شيء من هذه الأشياء ملك موكل باستيفاء ما يجب على ذلك الشيء الذي هو أحد الأسباب المانعة من الخير».
هذا ما ذكره الرازي وهو على وجاهته ونفاسته لا يخلو من التكلف. أما الكرخي فقد اختصر ما ذكره الرازي وزاد عليه من جهة ثانية فقال: «وخص هذا العدد بالذكر لأنه موافق لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والعادية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر».
أما الأقدمون وعلى رأسهم الزمخشري فقد استنبطوا استنباطا بيانيا جميلا، قال الزمخشري: «إن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمن وحيرة الكافر واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ولما رأوا من يسلم أهل الكتاب» وهذا على وجاهته لا يخلو من اعتراض.
أما القرطبي فلم يخرج عن الحدود السمعية ولم يلجأ إلى الاجتهاد فقال بعد كلام طويل: «قلت والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء
283
التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).
أما أبو حيان فقد أطال ودندن ووثب حينا وأسف حينا ومما نختاره من عبارته: «عليها تسعة عشر التمييز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك»، ونقل الرواية التي أوردناها ثم قال: «وقيل التمييز المحذوف صنفا من الملائكة وقيل نقيبا ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء» ويكاد هذا يكون نفس ما قاله القرطبي.
أما رأي الرازي والكرخي فلا يخلو من دخل عليه لما فيه من التعسف والتكلف كما ترى ووجه الدخل عليه أنه يلزم أن يكون لكل إنسان مثل هذه العدة من الملائكة ولم تكن هي جملة عدة الملائكة لجهنم ولجميع من حوت من المعذبين.
أما الجواب الفني الذي يحل الإبهام حلا أدنى إلى المنطق وأقرب إلى الإقناع وأشبه ببلاغة القرآن الكريم فهو أن يقال: إنه لا مرية في أن أهل النار يزيدون على أهل الجنة بأضعاف مضاعفة ولأن المؤمنين من كل أمة عشر معشار كفارها، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنة أن عرضها السموات والأرض فما ظنك بطولها والطول من كل شيء في معترف العادة أكثر من العرض فأهلها على هذا لا يحصيهم العد ولا يحصرهم الحد، وقد تبين أن أهل النار أضعافهم فهم إلى تجاوز الحدّ في العد أقرب وأقلّ ما يظنّ بالملائكة الموكلين بعذابهم أن تكون عدتهم وفق عدتهم ليكون بإزاء كل معذّب معذّب وهذا عدد لا نهاية له ولا لكميته، فلما أراد الحق الإخبار بعدة هذه الملائكة عدل عن ذكر عددهم الذي هو معلوم عنده، وإن تجاوز النهاية
284
بالنسبة إلينا لئلا يخرج الكلام بكثرة الألفاظ وطول الفصول عن حد البلاغة إلى إشارة يفهم منها أن عدة هذه الملائكة عدد لا يتناهى مرتبة، فاقتصر سبحانه على ذكر آخر مرتبة الآحاد من العدد وأول مرتبة العشرات منه فإن مراتب العدد أربع آحاد وعشرات ومئون وألوف، الأصول منها الآحاد وأول مرتبته فإن نهاية مرتبة الآحاد التسعة وهي عبارة عن تكرار الواحد تسع مرات ثم ينتقل إلى ذكر العشرة التي هي أول مرتبة العشرات ثم يكررها كما كرر الواحد من العشرين إلى التسعين كما فعل في المرتبة الأولى ثم ينتقل إلى مرتبة الألوف فيكررها تكرير الواحد بلفظ الآحاد وهكذا إلى غير النهاية وإذا انتهت مرتبة الألوف عاد إلى مرتبة العشرات فقال: عشرة آلاف إلى ما لا نهاية له لا يزيد على أن يضيف إلى الألف لفظ الآحاد والعشرات فيعود إلى أصول الأعداد فدلّ ذلك على أن أصول جميع الأعداد التي لا تتناهى الآحاد وهي تسعة وأول العشرات هي العشرة فالاقتصار على ذكرهما للعرب الواضعين لهذه الأسماء يشير إلى أعداد لا نهاية لها، واستغنى عن ذكر لفظتي المائة والألف لما جاء في الكلام من المثال الذي يحتذى على مثاله والأصل الذي يقاس الفرع عليه واللفظتان يعني المائة والألف عند المخاطب معروفتان والطريق في التكرير قد وضحت.
٢- في قوله: «وربك فكبر» فن طريف ابتدعه المتأخرون وأساءوا فيه، لأنه لا يأتي جيدا إلا في الندرة، أما تكلفه فيؤدي إلى إسفافه، وقد وضع له علماء البديع اسم «ما لا يستحيل بالانعكاس» وسماه بعضهم «القلب» وبعضهم الآخر سماه «المقلوب المستوي» وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل هو هذا الكلام عينه وهو قد يكون في النظم وقد يكون في النثر أما في النظم فمنه قول القاضي الأرجاني:
285
مودته تدوم لكل هول... وهل كلّ مودته تدوم
وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل:
ولما تبدى لنا وجهه... أرانا الإله هلالا أنارا
والشاهد في المصراع الثاني أما في النثر فقال الله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)، (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) ويحكى عن العماد الكاتب أنه لقي القاضي الفاضل يوما وهو راكب فرسا فقال له: سر فلا ركبا بك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع، أما ما تكلفوه فقد ضربنا عنه صفحا لأنه لا يمت إلى البلاغة بأي نسب.
٣- في قوله تعالى: «وثيابك فطهر» إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
أي قلبي من قلبك وقيل كنى عن النفس بالثياب، قال عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه... ليس الكريم عن القنا بمحرم
وقيل كنى بها عن الجسم، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى... لها شبها إلا النعام المنضرا
أي ركبوها فرموها بأنفسهم.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٢ الى ٥٦]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
286
اللغة:
(قَسْوَرَةٍ) القسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها وقيل: الأسد يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وفي وزنه الحيدرة من أسماء الأسد، وفي المختار: «القسور والقسورة: الأسد» وفي القاموس: «والقسورة: العزيز والأسد كالقسور ونصف الليل أو أوله أو معظمه ونبات سهلي والجمع قسور والرماة من الصيادين الواحد قسور» وتعقبه شارحه التاج بقوله: «قوله الواحد قسور هكذا قاله الليث وهو خطأ لا يجمع قسور على قسورة إنما القسورة اسم جامع للرماة ولا
287
واحد لها من لفظها» وعبارة أبي حيان: «القسورة الرماة والصيادون قاله ابن كيسان أو الأسد قاله جماعة من اللغويين قال:
مضمر تحدره الأبطال... كأنه القسورة الريبال
أو الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا... أتانا الرجال الصائدون القساور
أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي وثعلب.
الإعراب:
(كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) كلا حرف ردع وزجر لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا للبشر والواو حرف قسم وجرّ والقمر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ولا معنى لما قاله الجلال: «كلا استفتاح بمعنى ألا»
ولا لما قاله القرطبي نقلا عن الفراء «إنها صلة للقسم والتقدير إي والقمر» والليل جار ومجرور والواو للقسم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل القسم وجملة أدبر في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) الواو حرف قسم وجر والصبح مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف زمان متعلق بفعل القسم المحذوف وجملة أسفر في محل جر بإضافة الظرف إليها (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وإحدى الكبر خبر إنها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) حال من إحدى الكبر وأعربها الزمخشري تمييز من إحدى الكبر على معنى أنها إحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا وننقل فيما يلي عبارتي السمين وأبي البقاء ونترك لك الخيار. «وقوله تعالى: «نذيرا للبشر» فيه أوجه: أحدها أنه تمييز من إحدى لما تضمنته من معنى التعظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا فنذير بمعنى الإنذار، والثاني أنه مصدر بمعنى
288
الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر قاله الفرّاء، الثالث أنه فعيل بمعنى مفعل وهو حال من الضمير في إنها قاله الزجّاج، الرابع أنه حال من الضمير في إحدى لما تضمنت من معنى التعظيم كأنه قيل أعظم الكبر منذرة، الخامس أنه حال من فاعل قم فأنذر أول السورة، السادس أنه مصدر منصوب بأنذر أول السورة، السابع أنه حال من الكبر، الثامن أنه حال من ضمير الكبر، التاسع هو حال من إحدى الكبر قاله ابن عطية، العاشر أنه منصوب بإضمار أعني وقيل غير ذلك». أما عبارة أبي البقاء فهي: «قوله تعالى: نذيرا في نصبه أوجه أحدها هو حال من الفاعل في قوله: قم في أول السورة، والثاني من الضمير في فأنذر حال مؤكدة، والثالث هو حال من الضمير في إحدى، والرابع هو حال من نفس إحدى، والخامس حال من الكبر أو من الضمير فيها، والسادس حال من اسم إن، والسابع أن نذيرا في معنى إنذارا أي فأنذر إنذارا أو أنها لإحدى الكبر لإنذار البشر، وفي هذه الأقوال ما لا نرتضيه ولكن حكيناها والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت عليه نذيرا». أما أبو حيان فبعد أن أورد هذه الأوجه قال: «قال أبو البقاء والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت نذيرا وهو قول لا بأس به». وقرىء نذير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي نذير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) لمن بدل من قوله للبشر بإعادة الجار وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها في موضع نصب بشاء وفاعل شاء يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي لمن شاء هو أي الله تعالى. وقال الزمخشري: أن يتقدم في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدّم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم والتأخر أن يتقدم أو يتأخر والمراد بالتقدم السبق إلى الخير والتخلّف عنه وهو كقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انتهى، وهو معنى لا يتبادر
289
إلى الذهن وفيه حذف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) كلام مستأنف لبيان أن كل نفس رهن بما كسبت وكل نفس مبتدأ وبما متعلقان برهينة وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة ما ورهينة خبر وهي مصدر بمعنى رهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء ولو قصدت الصفة لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل
أأذكر بالبقيا على من أصابني وبقياي أني جاهد غير مؤتل
والبيتان لزياد بن مسور الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد قتل أبوه زياد فعرض عليه فيه سبع ديّات فأبى إلا الثأر، والاستفهام إنكاري والنعف بالفتح الجبل والمكان المرتفع وقيل ما يستقبلك من الجبل وكويكب جبل بعينه وفي هذا الإبدال من التفصيل بعد الإجمال ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال أي أبعد قتل أبي المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس وقيل رهينة بالجر بدل من الذي فهو اسم ملحق بالجواحد بمعنى الرهن ويقال رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب فأطلق المصدر وأريد مكانه وهو القبر والجندل الحجارة وكررت همزة الاستفهام في قوله أأذكر توكيدا للأولى لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا ويحتمل أنها داخلة على مقدّر أي أبعد أبي أفرح بالديّة والبقيا الإبقاء على الشيء أي لا أذكر بين الناس بأني أبقيت على قاتل أبي والحال إن إبقائي عليه كوني جاهدا أو مصمّم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك لأني غير محتاج إلى الحلف في تنفيذ أموري أو غير مقصر في الاجتهاد لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) إلا أداة استثناء وأصحاب اليمين مستثنى قيل هو متصل لأن الله تعالى جعل تكليف عباده كالدين عليهم ونفوسهم تحت استيلائه وقهره فهي رهينة فمن وفى دينه الذي كلّف به
290
خلّص نفسه من عذاب الله تعالى الذي نزل منزلة علامة الرهن وهو أخذه في الدين ومن لم يوف عذّب وقيل هو منقطع إذ المراد بهم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقيل الملائكة (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) في جنات خبر لمبتدأ محذوف أي هم في جنات والجملة مستأنفة كأنها نشأت جوابا لسؤال نشأ من الاستثناء والتقدير فما شأنهم وحالهم وجملة يتساءلون خبر ثان واختار أبو البقاء أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين وأن يكون حالا من الضمير في يتساءلون وأن يتعلق بيتساءلون فيكون ظرفا للفعل ومعنى يتساءلون يسأل بعضهم بعضا وعن المجرمين متعلقان بيتساءلون ولا بدّ من تقدير مضاف أي عن حال المجرمين (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) الجملة مقول قول محذوف أي قائلين فجملة القول في محل نصب حال وما اسم استفهام مبتدأ والاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم وجملة سلككم خبر وفي سقر متعلقان به (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) قالوا فعل وفاعل ولم حرف نفي وقلب وجزم ونك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف لأنها تحذف من مضارع كان المجزوم إذا لم يله ساكن وقد تقدم نظيره واسم نك ضمير مستتر تقديره نحن ومن المصلّين خبرها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة نخوض خبرها ومع ظرف مكان متعلق بنخوض والخائضين مضاف إليه أي نشرع في الباطل مع الخائضين وهذا تحذير لكل من تسوّل له نفسه أن يسرع في الإجابة عمّا لا يعلمه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف على ما تقدم أيضا (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر وأتانا اليقين فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والغاية للأمور الأربعة الآنفة (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وتنفعهم فعل مضارع ومفعول به وشفاعة
291
الشافعين فاعل والمعنى لا شفاعة لهم وسيأتي المزيد من معناها في باب البلاغة (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولهم خبر وعن التذكرة متعلقان بمعرضين ومعرضين حال من الضمير المجرور باللام ووهم من جعله حالا من الضمير المستكن في الخبر لأنه عائد على ما وهي عبارة عن شيء وسبب ومعرضين وصف للأشخاص أنفسهم فلا يصحّ كونه وصفا لأسباب الإعراض على القاعدة في أن الحال وصف لصاحبها (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) الجملة حالية من الضمير المستكن في معرضين فهي حال متداخلة وكأن واسمها وحمر خبرها ومستنفرة نعت وقرئ في السبع بكسر الفاء وفتحها فالأول بمعنى نافرة والثاني بمعنى نفرها الأسد أو الصياد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) الجملة نعت ثان لحمر وفرت فعل ماض والفاعل
مستتر يعود على الحمر والتاء تاء التأنيث الساكنة ومن قسورة متعلقان بفرت (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) بل إضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد، ويريد فعل مضارع مرفوع وكل امرئ فاعل ومنهم نعت وأن وما في حيّزها في موضع نصب مفعول به ويؤتى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وصحفا مفعول به ثان ومنشرة نعت لصحفا أي منشورة غير مطويّة يقرؤها كلّ من رآها (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) كلا ردع عن الإرادة وبل إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت ولا نافية ويخافون الآخرة فعل مضارع وفاعل ومفعول به (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) كلا ردع عن الإعراض وإن واسمها أي القرآن وتذكرة خبرها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره أن يذكره وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه
292
خبر المبتدأ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة استثناء وأن يشاء الله المصدر استثناء من أعمّ الأحوال أطلق نفي الذكر ثم استثنى منه حال المشيئة المطلقة وهو مبتدأ وأهل التقوى خبره وأهل المغفرة عطف على أهل التقوى.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» فن تقدم الإلماع إليه وهو «نفي الشيء بإيجابه» وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا ثم ينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي حقيقة في باطن الكلام وقد تحدثنا عنه طويلا في البقرة عند قوله لا يسألون الناس إلحافا وفي غافر عند قوله «ولا شفيع يطاع» وهنا تعريف أكثر إيضاحا وهو أن تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة موصوف وهي نفي للموصوف أصلا واعتاد البلاغيون أن يمثلوا له بقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا
فقوله لا يهتدى لمناره أي إن له منارا إلا أنه لا يهتدى به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا منار له يهتدى به وهنا ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفعهم شفاعة من يشفع لهم وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب «على لاحب لا يهتدي بمناره» أي لا منار له فيهتدي به وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات ينتفع بها.
٢- في قوله «كأنهم حمر مستنفرة، فرّت من قسورة» تشبيه مرسل، شبّههم بالحمر المستنفرة وفي ذلك مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ولا ترى مثل نفار حمر الوحش واطّرادها في العدو إذا رابها رائب.
293
Icon