تفسير سورة المرسلات

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة المرسلات عرفاً مكية، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ﴾ فمدنية.
وقال ابن مسعود :«نزلت والمرسلات عرفاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم » ا. ه. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد، وعن كريب مولى ابن عباس قال : قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت : والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الحق المبين ﴿ الرحمن ﴾ المنعم على الخلق أجمعين ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بكرامته عباده المؤمنين.

﴿ والمرسلات عرفاً ﴾ أي : الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضاً ونصبها على الحال، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] وقال تعالى :﴿ ويرسل الرياح ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ]. وروى مسروق عن عبد الله قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح : هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل : المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
﴿ فالعاصفات ﴾ أي : الرياح الشديدة ﴿ عصفاً ﴾ أي : عظيماً بما لها من النتائج الصالحة، وقيل : الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح، وقيل : الملائكة تعصف بروح الكافر يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي : تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي : ذهبت بهم. وقيل : يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف.
﴿ والناشرات نشراً ﴾ أي : الرياح اللينة تنشر المطر. وقال الحسن : هي الرياح التي يرسلها الله تعالى بين يدي رحمته، وقيل : الأمطار لأنها تنشر النبات بمعنى تحييه. وروي عن السدي أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى. وروى الضحاك أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.
تنبيه : إنما قال الله تعالى ﴿ والناشرات ﴾ بالواو لأنه استئناف قسم آخر.
﴿ فالفارقات فرقاً ﴾ أي : الرياح تفرق السحاب وتبدده قاله مجاهد، وعن ابن عباس هي الملائكة تفرّق الأقوات والأرزاق والآجال، وقيل : هم الرسل فرّقوا بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه أي : بينوا ذلك، وقيل : آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام.
﴿ فالملقيات ذكراً ﴾ أي : الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل : هو جبريل عليه السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيماً.
فإن قيل : ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم ؟ أجيب : بأنّ الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وقيل : المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم، وذكراً مفعول به ناصبه الملقيات.
﴿ عذراً أو نذراً ﴾ مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور، وجمع نذير بمعنى الإنذار، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له، وإمّا على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ ﴿ أو نذراً ﴾ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها.
وقوله تعالى :﴿ إنما توعدون لواقع ﴾ جواب القسم، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وقال الكلبي : المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع.
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى :﴿ فإذا النجوم ﴾ أي : على كثرتها ﴿ طمست ﴾ أي : محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى :﴿ انتثرت ﴾ [ الانفطار : ٢٠ ] و﴿ انكدرت ﴾ [ التكوير : ٢ ] قال الزمخشري : ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.
﴿ وإذا السماء ﴾ أي : على عظمها ﴿ فرجت ﴾ أي : فتحت وشققت فكانت أبواباً، والفرج الشق ونظيره ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ].
﴿ وإذا الجبال ﴾ أي : على صلابتها ﴿ نسفت ﴾ أي : ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء : إذا اختطفته، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف، ونحوه ﴿ وبست الجبال بساً ﴾ [ الواقعة : ٥ ] ﴿ وكانت الجبال كثيباً مهيلاً ﴾ [ المزمل : ١٤ ].
﴿ وإذا الرسل ﴾ أي : الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكُذبوا ﴿ أقتت ﴾ قال مجاهد والزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، أي : جمعت لميقات يومٍ معلومٍ وهو يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى : جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى :﴿ يوم يجمع الله الرسل ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ]. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت.
وقوله تعالى :﴿ لأي يوم ﴾ أي : عظيم متعلق بقوله تعالى :﴿ أجلت ﴾ وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي : يقال لأي يوم أجلت، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جواباً لإذا وأن يكون حالاً من مرفوع ﴿ أقتت ﴾ أي : مقولاً فيها لأي يوم أجلت أي : أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له.
وقوله تعالى :﴿ ليوم الفصل ﴾ بيان ليوم التأجيل. وقيل : اللام بمعنى إلى، ذكره مكي. قال ابن عباس : يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى :﴿ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ﴾ [ الدخان : ٤٠ ].
ثم أتبع هذا التعظيم تعظيماً آخر بقوله تعالى :﴿ وما أدراك ما يوم الفصل ﴾ أي : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم أتبعه تهويلاً ثالثاً بقوله تعالى :﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يكون يوم الفصل ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بذلك، قال القرطبي : ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإنّ لكل مكذب بشيء عذاباً سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من تكذيبه لغيره ؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه، وهو قوله تعالى :﴿ جزاء وفاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٦ ]. وقيل : كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد، وروي عن النعمان بن بشير قال : ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، وقاله ابن عباس وغيره، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال :«عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها وادياً أعظم من الويل »، وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً.
تنبيه : ويل مبتدأ، وسوّغ الابتداء به الدعاء، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري : فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه ﴿ سلام عليكم ﴾ [ الرعد : ٢٤ ] واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.
﴿ ألم نهلك ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الأوّلين ﴾ من لدن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي : أهلكناهم.
﴿ ثم نتبعهم الآخرين ﴾ أي : ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم ؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الفعل الشنيع ﴿ نفعل بالمجرمين ﴾ أي : بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يوجد ذلك الفعل ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بآيات الله وأنبيائه، قال البيضاوي : فليس تكراراً وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
﴿ ألم نخلقكم ﴾ أي : أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة ﴿ من ماء مهين ﴾ أي : ضعيف حقير وهو المني، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين : الأوّل : أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني : أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم :﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ وهذه الآية نظير قوله تعالى :﴿ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ﴾ [ السجدة : ٨ ]. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف.
﴿ فجعلناه ﴾ أي : بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم ﴿ في قرار ﴾ أي : مكان ﴿ مكين ﴾ أي : حريز وهو الرحم.
﴿ إلى قدر معلوم ﴾ أي : وهو وقت الولادة، كقوله تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] إلى قوله :﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
﴿ فقدرنا ﴾ أي : ذلك دون غيرنا ﴿ فنعم القادرون ﴾ نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى : فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه : ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً ؛ لأنّ العرب تقول : قدر وقدر عليه الموت.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ كان ذلك ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى :﴿ ألم نجعل ﴾ أي : نصير بما شئنا بما لنا من العظمة ﴿ الأرض كفاتاً ﴾ مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
﴿ أحياء ﴾ أي : على ظهرها في الدور وغيرها ﴿ وأمواتاً ﴾ أي : في بطنها في القبور وغيرها. وقيل : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل : كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل : تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي : انقلبوا، فمعنى الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.
﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿ فيها ﴾ أي : الأرض ﴿ رواسي ﴾ أي : جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن ﴿ شامخات ﴾ أي : مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه :﴿ ولا تصعر خدّك للناس ﴾ [ لقمان : ١٨ ].
﴿ وأسقيناكم ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ ماء ﴾ أي : من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك ﴿ فراتاً ﴾ أي : عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ تقوم الساعة ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بأمثال هذه النعم.
وقوله تعالى :﴿ انطلقوا ﴾ على إرادة القول، أي : يقال للمكذبين يوم القيامة : انطلقوا. ﴿ إلى ما كنتم به تكذبون ﴾ من العذاب يعني : النار فقد شاهدتموها عياناً.
﴿ انطلقوا إلى ظل ﴾ أي : ظل دخان جهنم لقوله تعالى :﴿ وظل من يحموم ﴾ [ الواقعة : ٤٣ ]. ﴿ ذي ثلاث شعب ﴾ أي : تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل : إن الشعب الثلاث : هي الضريع والزقوم والغسلين ؛ لأنها أوصاف النار.
وقوله تعالى :﴿ لا ظليل ﴾ أي : كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. ﴿ ولا يغني ﴾ أي : ولا يردّ عنهم شيئاً ﴿ من اللهب ﴾ أي : لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر.
﴿ إنها ﴾ أي : النار ﴿ ترمي ﴾ أي : من شدّة الاشتعال ﴿ بشرر ﴾ وهو ما تطاير من النار ﴿ كالقصر ﴾ أي : كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود : يعني الحصون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ ترمي بشرر كالقصر ﴾ قيل : هي الخشب العظام المقطعة، قال : وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر.
وقوله تعالى :﴿ كأنه ﴾ أي : الشرر ﴿ جمالات ﴾ قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلاً وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى :﴿ صفر ﴾ جمع أصفر أي : في هيئتها ولونها. وفي الحديث «شرار النار أصفر كالقير » والعرب تسمي سود الإبل صفراً لشوب سوادها بصفرة، فقيل : صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
قال الترمذيّ : وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى :﴿ جمالات صفر ﴾ فلا نسلم من هذا شيئاً في اللغة. وقيل : شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها، وقيل : لمتابعة بعضها بعضاً.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يكون ذلك ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بهذه الأمور العظام.
﴿ هذا ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ يوم لا ينطقون ﴾ أي : بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون.
وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون ﴾ و﴿ فلا تسمع إلا همساً ﴾ [ طه : ١٠٨ ] و﴿ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ [ الصافات : ٢٧ ] فقال : إنّ الله تعالى يقول :﴿ وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج : ٤٧ ] فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقال الحسن : فيه إضمار أي : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد : ما قلت شيئاً. وقيل : إنّ هذا وقت جوابهم ﴿ اخسؤوا فيها ولا تكلمون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ].
﴿ ولا يؤذن لهم ﴾ أي : في العذر وقوله تعالى :﴿ فيعتذرون ﴾ عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي : لا إذن فلا اعتذار.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ كان هذا الموقف ﴿ للمكذبين ﴾ أي : الذين لا تقبل منهم معذرة.
﴿ هذا يوم الفصل ﴾ وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي : يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل ﴿ جمعناكم ﴾ أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة ﴿ والأوّلين ﴾ من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعاً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين كذبوا النبيين من قبل.
وقوله تعالى :﴿ فإن كان لكم كيد ﴾ أي : حيلة في دفع العذاب عنكم ﴿ فكيدون ﴾ أي : فاحتالوا لأنفسكم وقاوون، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب، وقيل : إنّ ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيكون كقول هود عليه السلام ﴿ فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون ﴾ [ هود : ٥٥ ].
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم ﴿ للمكذبين ﴾ أي : الراسخين في التكذيب في ذلك.
ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى :﴿ إنّ المتقين ﴾ أي : الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين ﴿ في ظلال ﴾ أي : تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها ﴿ وعيون ﴾ أي : من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ﴾ [ محمد : ١٥ ]. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.
﴿ وفواكه مما يشتهون ﴾ في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.
وقوله تعالى :﴿ كلوا واشربوا ﴾ في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي : هم مستقرّون في ظلال مقولاً لهم ذلك.
وقوله تعالى :﴿ هنيئاً ﴾ حال أي : متهنئين ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كنتم تعملون ﴾ من طاعات الله تعالى.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ كذلك ﴾ أي : كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم ﴿ نجزي المحسنين ﴾ أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ﴿ للمكذبين ﴾ أي : يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.
وقوله تعالى :﴿ كلوا وتمتعوا ﴾ خطاب للكفار في الدنيا ﴿ قليلاً ﴾ أي : من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم، ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لهم في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلاً وذكر الأول ثانياً، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولاً وهو أولى. قال بعض العلماء : التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ثم علل ذلك مؤكداً بقوله تعالى لأنهم ينكرون وصفهم بذلك :﴿ إنكم مجرمون ﴾ ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ تعذبون بإجرامكم ﴿ للمكذبين ﴾ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي : لهؤلاء المجرمين من أي : قائل كان ﴿ اركعوا ﴾ أي : صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ولأنه خاص بصلاة المسلمين ﴿ لا يركعون ﴾ أي : لا يصلون، قال الرازي : وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا : لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ». قال في القاموس : جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة ؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب.
فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به.
وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
﴿ ويل يومئذ ﴾ أي : إذ يكون الفصل ﴿ للمكذبين ﴾ أي : بما أمروا به.
قال الرازي : إنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها ﴿ فبأي حديث بعده ﴾ أي : القرآن ﴿ يؤمنون ﴾ أي : لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً. وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة.
Icon