ﰡ
آياتها ست وثلاثون، نزلت بعد سورة العنكبوت، وهى آخر سورة نزلت بمكة.
ومناسبتها لما قبلها. أنه قال هناك: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» وذكر هنا ما يكتبه الحافظون: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» يجعل فى عليين أو فى سجّين.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
شرح المفردات
ويل: أي هلاك عظيم، والتطفيف: البخس فى الكيل والوزن وسمى بذلك لأن ما يبخس شىء حقير طفيف، اكتالوا على الناس: أي اكتالوا من الناس حقوقهم، يستوفون: أي يأخذونها وافية كاملة، كالوهم: أي كالوا لهم، يخسرون:
أي ينقصون الكيل والميزان، يقوم الناس لرب العالمين: أي يقف الناس للعرض على خالقهم، ويطول بهم الموقف إجلالا لعظمة ربهم.
المعنى الجملي
فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف فى المكيال والميزان.
وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد، من قبل أنه كان فاشيا منتشرا بمكة والمدينة، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه ولا يوفون حق المشترى.
روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير، فكان إذا أراد أن يشترى من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير، وإذا باع للناس كال للمشترى بالكيل الصغير.
هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى على نفوسهم الجثع- هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعّدهم النبي ﷺ وتهددهم
بقوله: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر».
وقد بين سبحانه عمل المطففين الذي استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله:
(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كان لهم عند الناس حق فى شىء من المكيلات لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيا كاملا، وإذا كان لأحد عندهم شىء وأرادوا أن يؤدوه له أعطوه ناقصا غير واف.
واقتصر النظم على الاكتيال حين الاستيفاء، وذكر الكيل والميزان فيه حين الإخساء، لأن التطفيف فى الكيل يكون بشىء قليل لا يعبأ به فى الأغلب، دون التطفيف فى الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضى إلى شىء كثير، ولأن ما يوزن أكثر
وكما يكون التطفيف فى الكيل والميزان يكون فى أشياء أخرى، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه فى العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغى أن يقوم به- يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبا لأليم العذاب، مهما يكن عمله، جلّ أو حقر وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة.
لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا فى عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.
ثم هوّل فى شأن هذا العمل فقال:
(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة- لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان.
والخلاصة- إنه لا يجسر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم، فما بالك بمن يستيقن ذلك.
ثم وصف هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول: اتق الله تعالى وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن، حتى إن العرق ليلجمهم.
وعن عكرمة أنه قال: أشهد أن كل كيال ووزان فى النار، فقيل له: إن ابنك كيال، فقال: أشهد إنه فى النار، وكأنه أراد المبالغة وبيان أن الغالب فيهم التطفيف.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ١٣]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
شرح المفردات
سجين: اسم للكتاب الذي دوّنت فيه أعمال الفجرة من الثقلين، مرقوم: من رقم الكتاب إذا جعل له علامة، والعلامة تسمى رقما، معتد: أي متجاوز منهج الحق، أثيم: أي يكثر من ارتكاب الآثام: وهى المعاصي، أساطير الأولين: أي أخبار الأولين أخذها محمد عن بعض السابقين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد الله به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة- أمرهم بالكف عما هم فيه، وذكر أن الفجار
الإيضاح
(كَلَّا) أي ازدجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي كفوا عما أنتم عليه، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم، وقد أعد الله لهم كتابا أحصى فيه أعمالهم يسمى (سجّينا).
(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) أي ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك.
ثم فسره له فقال:
(كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه.
وقصارى ما سلف- إن للشر سجلا دونت فيه أعمال الفجار وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين. كما تقول:
إن كتاب حساب قرية كذا فى السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى فلكل فاجر من الفجار صحيفة. وهذه الصحائف فى السجل العظيم، المسمى بسجين.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.
ثم بين أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال:
(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمى عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة، لأنه يأبى النظر فى أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهوّن عليها الأمر بالتغافل، أو التعلق بالأمانى من نصرة الأولياء، أو توسط الشفعاء.
أما من كان ميالا إلى العدل، واقفا عند ما حدّ الله لعباده فى شرائعه وسننه فى نظام الكون. فأيسر شىء التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين، أخذها محمد من غيره من السابقين.
ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».
وقد يكون المعنى- إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها ولم تجز عليهم، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعمون أن تكذيبنا بها يعتبر عجلة منا، فإنا إنما تأسّينا فى تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٤ الى ١٧]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)شرح المفردات
ران على قبله: أي غطى عليه، قال الزجاج: الرين كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق. وقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، قال الفرّاء: كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها، لمحجوبون: أي لمطرودون عن أبواب الكرامة، لصالوا الجحيم: أي لداخلوا النار وملازموها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم قالوا: إن القرآن أساطير الأولين وليس وحيا من عند الله- أردف ذلك بيان أن الذي جرأهم على ذلك هى أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها، فعمّيت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة.
ثم ردّ عليهم فرية كانوا يقولونها، ويكثرون من تردادها- وهى إن كان ما يحدّث به محمد صحيحا فنحن سنكون فى منزلة الكرامة عند ربنا، فأبان لهم أنهم كاذبون، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها، ويقال لهم هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول.
الإيضاح
(كَلَّا) زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين.
(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح، والصدق الواضح، والدليل اللائح.
وبعد أن بين منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين- دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة فقال:
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ».
ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال:
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي وبعد أن يحجبوا فى عرصات القيامة عن الدنو من ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها- يقذف بهم فى النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها.
ثم أرشد إلى أنهم حينئذ يبكّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال:
(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا الذي عوقبتم به- هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
شرح المفردات
عليين: أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما؟
أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت: أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور، ونضرة النعيم: بهجته ورونقه، ورحيق: أي شراب خالص لا غش فيه، مختوم: أي ختمت أوانيه وسدت، ختامه مسك: أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين، وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالعاملين، والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خاط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجرى من أعلى
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين، وبين منزلتهم عند الله يوم القيامة- أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.
وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.
وفى ذلك ترغيب فى الطاعة، وحفر لعزائم المحسنين، ليزدادوا إحسانا، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين.
(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم.
كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين- إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم.
ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال:
(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو؟
ثم فسره وبين المراد منه فقال:
وقد يكون المراد- إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار.
وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار- أخذ يفصل حال الأبرار فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم، الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله- لفى لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان فس.
ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال:
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.
ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال:
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك فمن ضحك، إلى هدوء بال، إلى استبشار كما قال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ».
وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.
ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال:
(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء.
(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال: هذا مما قال الله. «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
ثم بين هذا التسنيم فقال:
(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا، وقد وصفهم الله بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم.
وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر، إذا شاءوا أن يمزجوه.
وقصارى ما سلف- أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس، وبما يشوّقها إليه، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه، وحثا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك.
إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم، وبلوغ الغاية فى إيلامهم، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة، أو يسمع أن النعمة تنتظره.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
شرح المفردات
الغمز: الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء وسخرية، وقد يراد به العيب فيقال غمز فلان فلانا إذا عابه وذكره بسوء. ويقال فلان لا مغمز فيه: أي ليس فيه ما يعاب به، فكهين: أي معجبين بما هم فيه من الشرك والضلالة والعصيان، حافظين: أي رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم، والتثويب والإثابة: المجازاة. يقال ثوّبه وأثابه إذا جازاه كما قال:
سأجزيك أو يجزيك عنى مثوّب | وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي |
بعد أن ذكر سبحانه النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الحياة الدنيا، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم فى الحياة الأولى.
روى أن صناديد قريش كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وأضرابهم، كانوا يؤذون رسول الله
وهم الذين قال الله فيهم: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».
وروى أن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه جاء فى نفر من المسلمين فرآه بعض هؤلاء الكفار فسخروا منه وممن معه وضحكوا منهم وتغامزوا بهم، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن المعتدين الأئمة الذين ضريت نفوسهم على الشر، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق- كانوا فى الدنيا يضحكون من الذين آمنوا.
ذاك أنه حين رحم الله العالم ببعثه محمد ﷺ كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأى الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه الصلاة والسلام، ثم يهمس بها بعض من يلبى دعوته من الضعفاء فيسرّ بها إلى من يرجو الخير فيه ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه.
ومن شأن القوى المعتزّ بقوته وكثرة ماله وعزة نفره أن يضحك ممن يخالفه فى المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرف، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش كأبى جهل وشيعته، وأمثالهم كثيرون فى كل زمان ومكان، متى عمت البدع وخفى طريق الحق، وتحكمت الشهوات، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، وإذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعف صوت الحق، وازدرى السامعون منهم، بالداعي إليه.
(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ)
أي وإذا مر المؤمنون بهم يعيبونهم ويذكرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين.
(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأوا المؤمنين قالوا إن هؤلاء لضالون، إذ نبذوا ما عليه الكافة، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف، كابرا عن كابر، وجيلا بعد جيل.
فرد سبحانه على هؤلاء الكفار فقال:
(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي إن الله لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين، ولم يؤتهم سلطة محاسبتهم على أفعالهم، وتعريف باطلها من صحيحها، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالا بعقولهم الفاسدة، وإنما كلفهم أن ينظروا شئون أنفسهم، فيعدّلوا منها ما اعوجّ، فإذا فعلوا ذلك قاموا بما يجب عليهم فى هذه الحياة.
ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة، تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى وتقوية لقلوبهم، وشدّا لعزائمهم على التذرع بالصبر فقال:
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي إنهم فى يوم الدين يضحك المؤمنون ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم وخذلان أعدائهم، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم.
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما صنع الله بأعدائهم، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم ويهزءون بهم.
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنهم ينظرون ليتحققوا: هل جوزى الكفار بما كانوا يفعلون بهم فى الدنيا.
وإنما سمى الجزاء على العمل ثوابا، لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر.
ولله الحمد على إنعامه، والشكر على إحسانه وإفضاله.
مقاصد هذه السورة
(١) وعيد المطففين.
(٢) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.
(٣) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.
(٤) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
(٥) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.
(٦) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
(٧) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال.