تفسير سورة البروج

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة البروج من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وهي ثنتان وعشرون آية. وهي تقص علينا خبرا من أخبار الطغاة الظالمين السابقين الذين نكلوا بالمؤمنين في اليمن أشد تنكيل، إذ شقوا لهم في الأرض أخاديد ثم أوقدوا فيها نارا متأججة فألقوهم فيها فاحترقوا.
وذلك لإيمانهم بربهم وإصرارهم على الثبات على عقيدة التوحيد. فلم يثنهم التهديد والتخويف بالتحريق، عن الاستمساك بدينهم حتى الموت، بل آثروا التعذيب بالنار على الكفر والزيغ عن دين الله.
وهذه فعلة بشعة نكراء تلبّس بارتكابها المجرمون من عتاة البشر، وهم في غاية الظلم المغالي الذي تغيض فيه كل أثارة من أثارات الرحمة، والذي يتقمّص فيه الظالمون الأشرار طبائع الوحوش الكاسرة في غابات الظلام.
ومن أجل هذا الإجرام الفظيع والعدوان الصارخ على المؤمنين المعذبين الصابرين يقسم الله بالسماء وبروجها وبالقيامة الموعودة وبالشاهد والمشهود على أن بطشه شديد أليم وأنه العزيز الجبار المنتقم لعباده المؤمنين المبتلين، من المجرمين الظالمين.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج ١ واليوم الموعود ٢ وشاهد ومشهود ٣ قتل أصحاب الأخدود ٤ النار ذات الوقود ٥ إذ هم عليها قعود ٦ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ٧ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ٨ الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد ٩ إن الذين فتنوا المؤمنين ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ١٠ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ﴾.
نزلت في نصارى نجران إذ دعاهم رجل ممن كان على دين عيسى ( عليه السلام ) فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد. وقيل، سبعون ألفا١.
وهذه فعلة أليمة فظيعة تقشعر لبشاعتها الجلود والأبدان، وتنفر منها المشاعر والضمائر. وذلك هو ديدن الأشقياء الكفرة من أعداء الله في كل زمان، أولئك الذين يعذبون المؤمنين من عباد الله من أجل استمساكهم بعقيدة الحق. عقيدة التوحيد الخالص والإذعان الكامل لله وحده.
ومن أجل هذه الفعلة الأثيمة المنكرة أقسم الله قسمه الكريم العظيم ليبطشنّ بالقتلة المجرمين الذين عذبوا المؤمنين الموحدين من قوم عيسى ( عليه السلام ) فأحرقوهم إحراقا. وهو قوله سبحانه متوعدا متهددا هؤلاء الطغاة المجرمين ﴿ والسماء ذات البروج ﴾ أقسم الله بالسماء ذات البروج. والمراد بالبروج النجوم. أي : والسماء ذات النجوم. وقيل : البروج : منازل الكواكب وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا وهي : برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعقرب، والجدي، والدلو، والحوت، والأسد، والسنبلة، والميزان، والقوس.
١ الكشاف جـ ٤ ص ٢٣٨..
قوله :﴿ واليوم الموعود ﴾ المراد به يوم القيامة. وهو اليوم الذي وعد الله باجتماع الخلائق فيه من أجل الحساب.
قوله :﴿ وشاهد ومشهود ﴾ قيل في ذلك عدة أقوال. منها، أن الشاهد هو الله، والمشهود سائر الخلائق. ومنها : أن الشاهد من يحضر في اليوم الموعود من الخلائق. والمشهود، ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب. ومنها : أن الشاهد هو يوم الجمعة. والمشهود يوم عرفة وهو قول أكثر المفسرين.
قوله :﴿ قتل أصحاب الأخدود ﴾ وهذا جواب القسم. وتقديره : لقد قتل أصحاب الأخدود. وهو يتضمن معنى الدعاء. أي لعن أصحاب الأخدود. فكأنه أقسم بذلك على أن أصحاب الأخدود ملعونون بفعلتهم النكراء وهي حرقهم المؤمنين بسبب إيمانهم. والأخدود معناه الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد، شقها الظالمون من يهود لتحريق المؤمنين الموحدين من قوم عيسى.
قوله :﴿ النار ذات الوقود ﴾ النار، بدل اشتمال من الأخدود، لأن الأخدود مشتمل على النار. وذات الوقود، صفة للنار بأنها عظيمة التأجج. والوقود، هو الحطب المتوقد به.
قوله :﴿ إذ هم عليها قعود ﴾ أي لعن هؤلاء الظالمون المجرمون حين أحدقوا بالنار قاعدين قريبا منها : كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود الذي سعّرت فيه النار وهم ينظرون إلى المعذبين في النار. وهو قوله :﴿ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ﴾.
قوله :﴿ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ﴾ والمراد الملك الظالم وجنوده المجرمون ﴿ شهود ﴾ أي حضور يشهدون ما فعلوه بالمؤمنين وهم يحترقون في النار بعد أن أرادوا صدهم عن دين الله.
قوله :﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ﴾ يعني ما أنكروا عليهم ولا عذبوهم إلا بسبب إيمانهم بالله الغالب القاهر المحمود في كل الأحوال.
قوله :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾ يصف الله نفسه بأنه مالك كل شيء فهو مالك السماوات والأرض. ومن كان هذا شأنه من العظمة والجلال وعلو السلطان حقيق بإفراده بالإلهية، والإذعان له بالخضوع والطاعة ﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾ الله يشهد ما فعله الظالمون المجرمون بالمؤمنين من تحريق في النار. وهو سبحانه لا يخفى عليه من أمر الخلائق شيء. وفي ذلك من بالغ الوعيد لأصحاب الأخدود ما لا يخفى.
قوله :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ﴾ يخبر الله عن الظالمين المجرمين الذين محنوا المؤمنين والمؤمنات ليصدوهم عن دينهم الحق فعذبوهم بالنار، إذ جعلوهم فيها فأحرقوهم إحراقا ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ لم يتوبوا من سوء صنعهم ومن فعلتهم البشعة ولم يرجعوا عن كفرهم وتعذيبهم المؤمنين ﴿ فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ﴾ أي جزاؤهم التعذيب في جهنم بسبب كفرهم، وتحريقهم بالنار بسبب ما فعلوه بالمؤمنين من تعذيب بالنار.
قوله :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ المراد بذلك عموم المؤمنين والمؤمنات، ويدخل فيهم المؤمنون المعذبون بالنار دخولا أوليّا. وأولئك جميعا قد أعد الله لهم جنات. وهي حدائق وبساتين ذات بهجة وفيها من كل الثمرات، تتفجر من خلالها الأنهار الجارية السائحة ﴿ ذلك الفوز الكبير ﴾ الإشارة إلى ما تقدم ذكره مما أعده الله للمؤمنين لهو الفوز الذي لا يعدله فوز١.
١ فتح القدير جـ ٥ ص ٤١٢، ٤١٣..
قوله تعالى :﴿ إن بطش ربك لشديد ١٢ إنه هو يبدئ ويعيد ١٣ وهو الغفور الودود ١٤ ذو العرش المجيد ١٥ فعّال لما يريد ﴾ البطش معناه الأخذ بعنف. فقد وصف الله نفسه بأنه منتقم من الطغاة الجبابرة الذين يصدون الناس عن دين الله ويعذبون المؤمنين وينكلون بهم بسبب إيمانهم وعقيدتهم. وانتقام الله من المجرمين العتاة أليم شديد.
قوله :﴿ إنه هو يبدئ ويعيد ﴾ الله الذي يبدأ الخلق في الدنيا ثم يعيدهم بعد الممات في الآخرة ليلاقوا الحساب والجزاء.
قوله :﴿ وهو الغفور الودود ﴾ الله رحيم بعباده، يتجاوز لهم عن السيئات ويستر عليهم الذنوب. وهو سبحانه شديد الرحمة بعباده المؤمنين التوابين.
قوله :﴿ ذو العرش المجيد ﴾ المجيد، نعت لذو. فإن الله يعظم نفسه إذ يصف نفسه بأنه صاحب العرش، هذا الخلق العظيم فهو صاحب الملك والسلطان. وهو سبحانه المجيد. أي ذو الفضل، الممجّد.
قوله :﴿ فعّال لما يريد ﴾ يفعل الله ما يشاء وهو المبدئ المعيد، فلا يعجزه شيء يريده١.
١ فتح القدير جـ ٥ ص ٤١٤..
قوله تعالى :﴿ هل أتاك حديث الجنود ١٧ فرعون وثمود ١٨ بل الذين كفروا في تكذيب ١٩ والله من ورائهم محيط ٢٠ بل هو قرآن مجيد ٢١ في لوح محفوظ ﴾.
يبين الله خبر الأمم السالفة الكافرة الذين كذبوا رسلهم وتمالأوا عليهم بالإيذاء والعدوان، فانتقم الله منهم وبطش بهم بطشه الأليم. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لقي من قومه المشركين من الصدّ والأذى وهو قوله :﴿ هل أتاك حديث الجنود ﴾ هل أتاك يا محمد خبر الغابرين الظالمين الذين تجندوا على أنبيائهم فكذبوهم وصدوا الناس عنهم ثم بيّنهم بقوله :﴿ فرعون وثمود ﴾.
قوله :﴿ فرعون وثمود ﴾ بدل من الجنود. أما فرعون فقد كان عاتيا متجبرا وفي غاية الغرور والطغيان والعصيان. وكذلك قومه الظالمون الأشرار الذين استخفهم فرعون فأطاعوه وراحوا ينكّلون بالمؤمنين المستضعفين أشد تنكيل. ثم ثمود، قوم صالح الذين طغوا في الأرض وعتوا عن أمر الله وقتلوا الناقة فأخذهم الله بعذاب بئيس.
قوله :﴿ بل الذين كفروا في تكذيب ﴾ بل، للإضراب. فقد أضرب عن مماثلة هؤلاء المشركين من العرب لمن سبقهم من المشركين الغابرين، فهؤلاء كفرهم بالغ وتكذيبهم شديد، إذ لم يعتبروا بمن سبقهم من الكفار وبما وقع بهم من الهلاك.
قوله :﴿ والله من ورائهم محيط ﴾ محيط، من الإحاطة بالشيء. أي الحصر له من سائر جوانبه. وذلك تهديد وتخويف لهؤلاء المشركين المكذبين. فإن الله بقدرته وإرادته وبطشه محيط بالظالمين فلا مفر لهم ولا فوت ولا نجاة إذ نزل بهم عقابه الأليم وبطشه الشديد.
قوله :﴿ بل هو قرآن مجيد ﴾ ذلك تذكير من الله بعظيم قرآنه المبارك الممجّد. فهو قوله الكريم الحق الذي لا يضاهيه في الشرف والخير وعلو المنزلة والإعجاز، نظم ولا بيان. وليس هو بالشعر أو الكهانة كما يفتري السفهاء والجهلاء والضالون.
قوله :﴿ في لوح محفوظ ﴾ أي هذا القرآن المبارك الممجّد مكتوب في لوح، وهو أم الكتاب ﴿ محفوظ ﴾ مصون عند الله من عبث الشياطين١.
١ فتح القدير جـ ٥ ص ٤١٤..
Icon