تفسير سورة مريم

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة مريم من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

ﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ
اللغَة: ﴿وَهَنَ﴾ ضعف يقال وَهَن يهنُ فهو وَاهِنٌ والوهنُ ضعفُ القوة ﴿اشتعل﴾ الاشتعال انتشار شعاع النار ﴿عَاقِراً﴾ العاقر: التي لا تلد لكبر سنها ﴿عِتِيّاً﴾ العِتيُّ: النهاية في الكبر واليبس
193
والجفاف يقال: عتا الشيخ كبر وولّى قال الشاعر:
إنما يُعذر الوليدُ ولا يُعذر من كان في الزَّمان عِتّياً
﴿حَنَاناً﴾ الحنان: الشفقة والرحمةُ والمحبةُ، وأصله من حنين الناقة على ولدها وحنانْيك تريد رحمتك قال طرفة:
أبَا منذر أفنيت فاسْبتق بعضّنا حنانَيْك بعضُ الشر أهونُ من بعض
﴿انتبذت﴾ ابتعدت وتنحَّت ﴿سَوِيّاً﴾ مستوي الخلقة ﴿المخاض﴾ اشتداد وجع الولادة والطلق ﴿سَرِيّاً﴾ السريُّ: النهر والجدول لأن الماء يسري فيه ﴿فَرِيّاً﴾ الفريُّ: العظيم من الأمر.
التفسِير: ﴿كهيعص﴾ حروفٌ مقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وتقرأ: «كافْ، هَا، يَا، عَيْنْ، صَادْ» ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ أي هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك لعبدِهِ زكريا نقصُّه عليك يا محمد ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ أي حين ناجى ربه ودعاه بصوتٍ خفي لا يكاد يسمع قال المفسرون: لأن الإخفاء في الدعاء أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ أي دعا في ضراعة فقال يا رب: لقد ضعف عظمي، وذهبتْ قوتي من الكِبر ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ أي انتشر الشيب في رأسي انتشار النار في الهشيم ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ أي لم تخيّب دعائي في وقت من الأوقات بل عودتني الإحسان والجميل فاستجب دعائي الآن كما كنت تستجيبه فيما مضى قال البيضاوي: هذا توسلٌ بما سلف له من الاستجابة، وأنه تعالى عوَّده بالإجابة وأطعمه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيَّب من أطمعه ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي﴾ أي خفت بني العم والعشيرة من بعد موتي أن يضيّعوا الدين ولا يُحسنوا وراثة العلم والنبوة ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي لا تلد لكبر سنها أو لم تلدْ قطُّ ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ أي فارزقني من محض فضلك ولداً صالحاً يتولاني ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي يرثني ويرث أجداده في العلم والنبوة قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورّثون المال ﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾ أي أجعله يا رب مرضياً عندك قال الرازي: قدًَّم زكريا عليه السلام على طلب الولد أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً، والثاني: أن الله ما ردَّ دعاءه البتة، والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم صرَّح بسؤال الولد وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الاعتماد على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى﴾ أي نبشرك بواسطة الملائكة بغلامٍ يسمى يحيى كما في آل عمران ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى﴾
[آل عمران: ٣٩] ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ أي لم يسمَّ أحدٌ قبله بيحيى فهو اسم فذٌّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه وقال مجاهد: ليس له شبيه في الفضل والكمال ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يكون لي غلام؟ وهو استفهام تعجب وسرور بالأمر العجيب ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي والحال أن أمرأتي كبيرة السن لم تلد في شبابها فكيف وهو الآن عجوز!! ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ أي
194
بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مائةً وعشرين سنة، وامرأتهُ ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ وإنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً﴾ أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإذا أراد الناس لم يستطع أن يكلمهم ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب﴾ أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ [آل عمران: ٤١] ﴿يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ﴾ في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبُ فقال لهم: ما للَّعب خُلقت، وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً﴾ أي فعلنا ذلك رحمة منا بأبوية وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط قال ابن عباس: طاهراً لم يعلم بذنب ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ أي جعلناه باراً بأبيه وأمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة «ميلاد يحيى» لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله ﴿إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيَّ بيت المقدس لتتفرع لعبادة الله ﴿فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أي جعلت بينها وبين قومها
195
ستراً وحاجزاً ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ أي أرسلنا إليها جبريل عليه السلام ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ أي تصوَّر لها في صورة البشر التام الخلقة قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعْدَ الشعر مستوى الخلقة قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتسأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرتْ ولم تقدر على السماع لكلامه، ودلَّ على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن ﴿قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أي فلما رأته فزعت وخشيتْ أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت: إني أحتمي وألتجئ إلى الله منك، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره إن كنت تقياً فاتركني ولا تؤذني ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾ أي قال لها جبريل مزيلاً لما حصل عندها من الخوف: ما أنا إلا ملَكٌ مرسلٌ من عند الله إليك ليهبَ لك غلاماً طاهراً من الذنوب ﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يكون لي غلام؟ وعلى أيّ صفةٍ يوجد هذا الغلام مني؟ ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ أي ولستُ بذاتِ زوج حتى يأتيني ولد ولستُ بزانية ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي كذلك الأمر حكم ربُّك بمجيء الغلام منك وإن لم يكن لك زوج، فإنَّ ذلك على الله سهل يسير ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي وليكون مجيئه دلالةّ للناس على قدرتنا العجيبة ورحمة لهم ببعثته نبياً يهتدون بإرشاده ﴿وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ أي وكان وجوده أمراً مفروغاً منه لا يتغّير ولا يتبدل لأنه في سابق علم الله الأزلي ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً﴾ انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلى مكان بعيد ومعنى الآية أنها حملت بالجنين فاعتزلت - وهو في بطنها - مكاناً بعيداً عن أهلها خشية أن يعيرّوها بالولادة من غير زوج ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة﴾ أي فألجأها ألم الطَّلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة لتعتمد عليه عند الولادة ﴿قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ أي قالت يا ليتني كنت قد مِتُّ قبل هذا اليوم وكنت شيئاً تافهاً لا يُعرف ولا يُذكر قال ابن كثير: عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عاهرة زانية ولذلك قالت ما قالت ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ أي فناداها الملك من تحت النخلة قائلاً لها: لا تحزني لهذا الأمر ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ أي جعل لك جدولاً صغيراً يجري أمامك قال ابن عباس: ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماءٍ عذب فجرى جدولاً ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ أي حركي جذع النخلة اليابسة ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ أي يتساقط عليك الرُّطب الشهيُّ الطريُّ قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولاً، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامة من الله لها ﴿فَكُلِي واشربي﴾ أي كلي من هذا الرطب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ أي طيبي نفساً بهذا المولود
196
ولا تحزني ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ أي فإن رأيتِ أحداً من الناس وسألك عن شأن المولود ﴿فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ أي نذرت السكوت والصمت لله تعالى ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ أي لن أكلّم أحداً من الناس.
. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها ﴿قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ أي فلما وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ أي وما كانت أمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيت طاهر معرفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلي: هارون رجل من عُباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله﴾ أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى في الربوبية ﴿آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ أي قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلني نبياً، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادته تحققه فإن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد.
. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى بن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزَّه الله عن الولد والشريك ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى
197
معاناةٍ أو تعب، ومن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ قال المفسرون: وهذا كالدليل لما سبق كأنه قال: إن اتخاذ الولد شأن العاجز الضعيف المحتاج الذي لا يقدر على شيء، وأما القادر الغني الذي يقول للشيء ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ فلا يحتاج في اتخاذ الولد إلى إحبال الأنثى وحيث أوجده بقوله ﴿كُن﴾ لا يسمى ابناً له بل هو عبده، فهو تبكيتٌ وإلزام لهم بالحجج الباهرة ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي وممّا أمرَ به عيسى قومَه وهو في المهد أن أخبرهم أن الله ربه وربهم فليفردوه بالعبادة هذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ أي اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى وصاروا أحزاباً متفرقين، فمنهم من يزعم أنه ابن الله، ومنهم من يزعم أنه ابن زنى ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي ويلٌ لهم من المشهد الهائل ومن شهود هول الحساب والجزاء ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ أي ما أسمعهم وأبصرهم في ذلك اليوم الرهيب ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي لكنْ الظالمون في هذه الدنيا في بعدٍ وغفلة عن الحق واضح جلي ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ أي أنذر الخلائق وخوّفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسيء إذ لم يُحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ أي قُضي أمرُ الله في الناس، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ أي وهم اليوم في غفلةٍ سادرون ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بالبعث والنشور ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ أي نحن الوارثون للأرض وما عليها من الكنوز والبشر ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ أي مرجع الخلائق ومصيرهم إلينا للحساب والجزاء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الكناية ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.
٢ - الاستعارة ﴿اشتعل الرأس شَيْباً﴾ شبّه انتشار الشيب وكثرته باشتعال النار في الحطب واستعير الاشتعال للانتشار واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر ففيه استعارة تبعية.
٣ - الطباق بين ﴿وُلِدَ.. ويَمُوتُ﴾.
٤ - جناس الاشتقاق ﴿نادى.. نِدَآءً﴾.
٥ - الكناية اللطيفة ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.
٦ - صيغة التعجب ﴿أَسْمِعْ.. وَأَبْصِرْ﴾.
٧ - السجع ﴿سَرِيّاً، بَغِيّاً، صَبِيّاً، نَبِيّاً﴾ وهو من المحسنات البديعة.
تنبيه: في يوم القيامة تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون - أي يمدون أعناقهم - وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة..﴾ الآية «.
198
المنَاسَبَة: لم ذكر تعالى «قصة مريم» واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله، أعقبها بذكر «قصة إبراهيم» وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن من توحيد الربّ الديّان، وسواء في الضلال من عبد بشراً أو عبد حجراً، فالنصارى عبدوا المسيح، ومشركوا العرب عبدوا الأوثان.
اللغَة: ﴿صِدِّيقاً﴾ من أبنية المبالغة ومعناه كثير الصدق ﴿مَلِيّاً﴾ دهراً طويلاً من قولهم أمليتُ لفلان في الأمر إذا أطلت له قال الشاعر:
فتصدَّعت شُمُّ الجبال لموته وَبكتْ عليه المُرْملاتُ مليّاً
﴿حَفِيّاً﴾ الحفيُّ: المبالغ في البر واللطف به ﴿خَلْفٌ﴾ الخلف: بسكون اللام الذي يخلف سلفه بالشر وبفتحها الذي يخلفه بالخير يقال جعلك الله خير خلفٍ لخير سلف وقال الشاعر:
199
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيتُ في خَلْف كجلد الأجرب
﴿غَيّاً﴾ : شراً وضلالاً قال أهل اللغة: كل شر عند العرب فهو غي، وكل خير فهو رشاد.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فنزلت الآية ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ..﴾ الآية».
التفسِير: ﴿واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ﴾ أي اذكر يا محمد في الكتاب العزيز خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ أي ملازماً للصدق مبالغاً فيه، جامعاً بين الصّديقية والنبوة والغرضُ تنبيه العرب إلى فضل إبراهيم الذي يزعمون الانتساب إليه ثم يعبدون الأوثان مع أنه إمام الحنفاء وقد جاء بالتوحيد الصافي الذي دعاهم إليه خاتم المرسلين ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ أي ناداه متلطفاً بخطابه، مستميلاً له نحو الهداية والإيمان، يا أبتِ لم تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك ضراً؟ ﴿ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ كرَّر النصح باللطف ولم يصف أباه بالجهل الشنيع في عبادته للأصنام وإنما ترفق وتلطف في كلامه أي جاءني من العلم بالله ومعرفة صفاته القدسية ما لا تعلمه أنت ﴿فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾ أي اقبل نصيحتي وأطعني أرشدك إلى طريق مستقيم فيه النجاة من المهالك وهو دين الله الذي لا عوج فيه ﴿ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾ أي لا تطع أمر الشيطان في الكفر وعبادة الأوثان ﴿إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ أي إن الشيطان عاصٍ للرحمن، مستكبر على عبادة ربه، فمن أطاعه أغواه، قال القرطبي: وإنما عبّر بالعبادة عن الطاعة لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده ﴿ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ تحذيرٌ من سوء العاقبة والمعنى أخاف أن تموت على كفرك فيحل بك عذاب الله الأليم وتكون قريناً للشيطان بالخلود في النيران قال الإمام الفخر: وإيراد الكلام بلفظ ﴿ياأبت﴾ في كل خطاب دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصواب، وقد رتَّب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبَّهه أولاً إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال وترك التقليد الأعمى، ثم ذكَّره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام مع رعاية الأدب والرفق، وقوله ﴿إني أَخَافُ﴾ دليلٌ على شدة تعلق قلبه بمصالحه قضاءً لحق الأبوَّة ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم﴾ أي قال له أبوه آزر: أتارك يا إبراهيم عبادة آلهتي ومنصرفٌ عنها؟ استفهامٌ فيه معنى التعجب والإنكار لإعراضه عن عبادة الأوثان كأن ترك عبادتها لا يصدر عن عاقل قال البيضاوي: قابل أبوه استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظه وغلظة العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله ﴿ياأبت﴾ ب «يا ابني» وقدَّم الخبر وصدَّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل، ثم هدَّده بقوله ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ أي لئن لم تترك شتم وعيب آلهتي لأرجمنك بالحجارة ﴿واهجرني مَلِيّاً﴾ أي اهجرني دهراً طويلاً قال السديُّ: أبداً.
. بهذه الجهالة تلقى «آزر»
200
الدعوة إلى الهدى، وبهذه القسوة قابل القول المؤدَّب المهذَّب، وكذلك شأن الكفر مع الإيمان، وشأن القلب الذي هذَّبه الإيمان، والقلب الذي أفسده الطغيان ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ أي قال إبراهيم في جوابه: أمَّا أنا فلا ينالك مني أذى ولا مكروه، ولا أقول لك بعدُ ما يؤذيك لحرمة الأبوَّة، وسأسأل الله أن يهديك ويغفر لك ذنبك ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ أي مبالغاً في اللطف بي والاعتناء بشأني ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي أترككم وما تعبدون من الأوثان وأرتحل عن دياركم ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أي وأعبد ربي وحده مخلصاً له العبادة ﴿عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ أي راجياً بسبب إخلاصي العبادة له ألاَّ يجعلني شقياً، وفيه تعريضٌ بشقاوتهم بدعاء آلهتم.. وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم للأوثان، وهجر الأهل والأوطان، فلم يتركه الله وحيداً بل وهب له ذريةً وعوَّضه خيراً ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ قال المفسرون: لما هاجر إبراهيم إلى أرض الشام، واعتزل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خيرٌ منهم، فوهب له إسحاق ويعقوبُ أولاداً أنبياء، فآنس الله بهما وحشته عن فراق قومه بأولئك الأولاد الأطهار، ويعقوب ابن اسحاق، وهما شجرتا الأنبياء فقد جاء من نسلهما أنبياء بني إسرائيل قال ابن كثير: المعنى جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته بالنبوة ولهذا قال ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ أي كل واحدٍ منهما جعلناه نبياً ﴿وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ أي أعطينا الجميعَ - إبراهيم وإسحاق ويعقوب - كل الخير الديني والدنيوي، من المال والولد والعلم والعمل ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ أي جعلنا لهم ذكراً حسناً في الناس، لأن جميع أهل الملل والأديان يثنون عليهم لما لهم من الخصال المرضية، ويُصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، قال الطبري: أي رزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل في الناس ﴿واذكر فِي الكتاب موسى﴾ أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ «كان» لتفخيم شأن النبي المذكور ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن﴾ أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ أي أدنْيناه للمناجاة حين كلمناه قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجب حتى سمع صريف الأقلام قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾ أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال
﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ [طه: ٢٩ - ٣٠] جعلناه له عضداً وناصراً ومعيناً ﴿واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ﴾ أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك «إسماعيل» الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾ أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإكراماً،
201
ولأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح فلذلك أثنى الله عليه ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ أي جمع الله له بين الرسالة والنبوة قال ابن كثير: وفي الآية دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وُصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، ومن إسماعيل جاء خاتم المرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة﴾ أي كان يحث أهله على طاعة الله، وبخاصة الصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي بها تتحقق سعادة المجتمع ﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ أي نال رضى الله قال الرازي: وهذا نهاية المدح لأن المرضيَّ عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات ﴿واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾ أي اذكر يا محمد في الكتاب الجليل خبر إدريس إنه كان ملازماً للصدق في جميع أحواله، موحىً إلأيه من الله قال المفسرون: إدريس هو جدُّ نوح، وأول مرسل بعد بعد آدم، وأول من خط بالقلم ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ أي رفعنا ذكره وأعلينا قدره، بشرف النبوة والزلفى عند الله ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾ أي أولئك المذكورون هم أنبياء الله ورسله الكرام، الذين قصصنا عليك خبرهم في هذه السورة - وهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - وهم الذين أنعم الله عليهم بشرف النبوة ﴿مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ﴾ أي من نسل آدم كإِدريس ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ كإِبراهيم فإِنه من ذرية سام بن نوح ﴿وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ كإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ أي ومن ذرية إسرائيل وهو «يعقوب» كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ﴾ أي وممن هديناهم للإيمان واصطفيناهم لرسالتنا ووحينا ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ أي إذا سمعوا كلام الله سجدوا وبكوا من خشية الله مع ما لهم من علو الرتبة، وسموِّ النفس، والزلفى من الله تعالى، قال القرطبي: وفي الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيراً في القلوب ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات﴾ أي جاء من بعد هؤلاء الأتقياء قومٌ أشقياء، تركوا الصلوات وسلكوا طريق الشهوات ﴿فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾ أي سوف يلقون كل شرٍّ وخسارٍ ودمار، قال ابن عباس: عيٌّ وادٍ في جهنم، وإِن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي إلا من تاب وأناب وأصلح عمله ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ أي فأولئك يُسعدون في الجنة ولا يُنقصون من جزاء أعمالهم شيئاً ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب﴾ أي هي جنات إقامة التي وعدهم بها ربهم فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها تصديقاً بوعده تعالى ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ أي إن وعده تعالى بالجنة آتٍ وحاصلٌ لا يُخلف ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً﴾ أي لا يسمعون في الجنة شيئاً من فضول الكلام، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم على وجه التحية والإكرام، والاستثناء منقطع ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أي ولهم ما يشتهون في الجنة من أنواع المطاعم والمشارب بدون كدٍّ ولا تعب، ولا نتغصٍ ولا انقطاع {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ
202
عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها هي التي نورثها لعبادنا المتقين ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ هذا من كلام جبريل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين احتبس عنه فترةً من الزمن والمعنى: ما نتنزَّل إلى الدنيا إلا بأمر الله وإِذنه ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك﴾ أي لله جل وعلا جميع الأمر، أمر الدنيا والآخرة، وهو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل شيء إلا بأمره وإِذنه؟ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ أي لا ينسى شيئاً من أعمال العباد ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده﴾ أي هو ربُّ العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده ﴿واصطبر لِعِبَادَتِهِ﴾ أي اصبر على تكاليف العبادة ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ أي هل تعلم له شبيهاً ونظيراً؟
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الكناية اللطيفة ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ كنَّى عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان لأن الثناء يكون باللسان فلذلك قال ﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾ كما يكنى عن العطاء باليد.
٢ - الاستعارة ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ شبَّه المكانة العظيمة والمنزلة السامية بالمكان العالي بطريق الاستعارة.
٣ - المبالغة ﴿صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾ أي مبالغاً في الصدق.
٤ - الإشارة بالبعيد لعلو المرتبة ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ﴾ فما فيه من معنى البعد للإشادة بعلو رتبهم وبُعد منزلتهم في الفضل.
٥ - الجناس الناقص ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ لتغير الحركات والشكل.
٦ - الطباق ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا﴾ وبين ﴿بُكْرَةً.. وَعَشِيّاً﴾.
٧ - السجع الحسن الرصين ﴿عَلِيّاً، حَفِيّاً، نَّبِيَّاً﴾.
فائِدَة: في قول إبراهيم عليه السلام «يا أبتٍ» تلطفٌ واستدعاء، والتاء عوضٌ عن ياء الإضافة لأن أصله «يا أبي» ولهذا لا يُجمع بينهما.
تنبيه: ذكر السيوطي في التحبير أن إبراهيم عليه السلام عاش من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة، وبينه وبين آدم ألفا سنة، وبينه وبين نوح ألف سنة، ومنه تفرعت شجرة الأنبياء.
203
المناسَبَة: لما ذكر تعالى طائفةً من قصص الأنبياء للعظة والاعتبار، وكان الغرضُ الأساسي للسورة الكريمة إثبات قدرة الله على الإحياء والإفناء، وإثباتُ يوم المعاد، ذكر تعالى هنا بعض شبهات المكذبين للبعث والنشور وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وختم السورة الكريمة ببيان مآل السعداء والأشقياء.
اللغَة: ﴿جِثِيّاً﴾ جمع جاثٍ يقال: جثا إذا قعد على ركبتيه من شدة الهول وهي قعدة الخائف الذليل قال الكُميت:
هُمُو تركوا سراتُهم جثّياً وهم دُونَ السَّراة مقرَّنينا
﴿عِتِيّاً﴾ عصياناً وتمرداً عن الحق ﴿نَدِيّاً﴾ النديُّ والنادي: الذي يجتمع فيه القوم للتحدث والمشورة قال الجوهري: النديُّ مجلس القوم ومتحدثهم وكذلك الندوة والنادي فإن تفرقوا فليس بندي ﴿أَثَاثاً﴾ الأثاث: متاع البيت ﴿رِءْياً﴾ منظراً حسناً ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾ الأزُّ: التهييجُ والإِغراء، قال أهل اللغة: الأزُ والهزُّ والاستفزاز متقاربة ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ومنه أزيز المِرجل وهو غليانه وحركته ﴿وَفْداً﴾ جمع وافد وهو الذي يقدم على سبيل التكرمة معزَّزاً مكرَّماً ﴿وِرْداً﴾ مشاةً عطاشاً قال الرازي: والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ﴿إِدّاً﴾ منكراً
204
عظيماً قال الجوهري: الإدُّ: الداهية والأمر الفظيع ﴿رِكْزاً﴾ الركز: الصوت الخفي.
سَبَبُ النّزول: عن خباب بن الأرت قال: كنتُ رجلاً قيناً - أي حداداً - وكان لي على العاص بن وائل دينٌ فأتيتُه أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث - أي تموت الآن وتبعث أمامي وهذا من باب المستحيل - قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثمَّ مالٌ فأعطيتك فأنزل الله ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾.
التفسِير: ﴿وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾ أي يقول الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت على وجه الإِنكار والاستبعاد: أئذا متُّ وأصبحتُ تراباً ورفاتاً فسوف أخرج من القبر حياً؟ قال ابن كثير: يتعجب ويستبعد إِعادته بعد موته، واللام «لسوف» للمبالغة في الإنكار، وهو إنكار منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى، أين كان؟ وكيف كان؟ ولو تذكّر لعلم أن الأمر أيسر مما يتصور ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ أي أولاً يتذكر هذا المكذّب الجاحد أول خلقه فيستدل بالبداءة على الإعادة؟ ويعلم أن الله الذي خلقه من العدم قادرٌ على أن يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء؟ قال بعضُ العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذْ لا شكَّ أنَّ الإعادة ثانياً أهونُ من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾ أي فوربك يا محمد لنحشرنَّ هؤلاء المكذبين بالبعث مع الشياطين الذين أغووهم قال المفسرون: يُحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾ أي محضر هؤلاء المجرمين حول جهنم قعوداً على الركب من شدة الهول والفزع، لا يطيقون القيام على أرجلهم لما يدهمهم من شدة الأمر ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ أي لنأخذنَّ ولننتزعنَّ من كل فرقةٍ وجماعة ارتبطت بمذهب ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ أي من منهم أعصى لله وأشد تمرداً، والمراد أنه يؤخذ من هؤلاء المجرمين ليقذف في جهنم الأعتى فالأعتى قال ابن مسعود: يُبدأ بالأكابر جرماً ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾ أي نحن أعلم بمن هم أحق بدخول النار والاصطلاء بحرها وبمن يستحق تضعيف العذاب فنبدأ بهم ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ أي ما منكم أحدٌ من برٍ أو فاجر ألاً وسيرد على النار، المؤمن للعبور والكافر للقرار ﴿كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ أي كان ذلك الورود قضاءً لازماً لا يمكن خُلفه ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾ أي ننجّي من جهنم المتقين بعد مرور الجميع عليها ﴿وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً﴾ أي ونترك الظالمين في جهنم قعوداً على الركب قال البيضاوي: والآية دليلٌ على أن المراد بالورود
205
والجثوُّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى جنة بعد نجاتهم، ويبقى الفجرة فيها على هيئاتهم ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات﴾ أي وإذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، واضحات الإعجاز، بينات المعاني ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ أي قال الكفرة المترفون لفقراء المؤمنين أيُّ الفريقين: - نحن أو أنتم - أحسنُ مسكناً، وأطيب عيشاً، وأكرم منتدى ومجلساً؟ قال البيضاوي: إن المشركين لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم لقصور نظرهم، فردَّ الله عليهم بقوله ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ أي وكثير من الأمم المكذبين بآياتنا أهلكناهم بكفرهم كانوا أكثر من هؤلاء متاعاً، وأجمل صورةً ومنظراً، فكما أهلكنا السابقين نهلك اللاحقين، فلا يغترُّ هؤلاء بما لديهم من النعيم والمتاع ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أنهم على حق: من كان في الضلالة منا ومنكم فليمهله الرحمن فيما هو فيه، وليدعْه في طغيانه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله قال القرطبي: وهذا غايةٌ في التهديد والوعيد ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ﴾ أي حتى يروا ما يحلُّ بهم من وعد الله ﴿إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة﴾ أي إمَّا عذاب الدنيا بالقتل والأسر، أو عذاب الآخرة بما ينالهم يوم القيامة من الشدائد والأهوال ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ أي فسيعلمون عندئذ حين تنكشف الحقائق أي الفريقين شرٌّ منزلة عند الله، وأقل فئة وأنصاراً، هل هم الكفار أم المؤمنون؟ وهذا في مقابلة قولهم ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ ﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى﴾ أي ويزيد الله المؤمنين المهتدين، بصيرةً وإيماناً وهداية ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾ أي والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ذخراً في الآخرة خير عند الله من كل ما يتباهى به أهل الأرض من حيث الأجر والثواب ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ أي وخير رجوعاً وعاقبة، فإن نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ دائم ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ نزلت في العاص بن وائل، والاستفهام للتعجب أي تعجَّب يا محمد من قصة هذا الكافر الذي جحد بآيات الله وزعم أن الله سيعطيه في الآخرة المال والبنين ﴿أَطَّلَعَ الغيب﴾ أي هل اطَّلع على الغيب الذي تفرَّد به علاّم الغيوب؟ ﴿أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ أي أم أعطاه الله عهداً بذلك فهو يتكلم عن ثقةٍ ويقين؟ ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ ردٌّ عليه، ولفظةُ «كلا» للردع والزجر أي ليرتدع ذلك الفاجر عن تلك المقالة الشنيعة فسنكتب ما يقول عليه ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ أي سنزيد له في العذاب ونطيله عليه جزاء طغيانه واستهزائه، ونضاعف له مدد العذاب مكان الإمداد بالمال والولد ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ أي ونرثه وما يخلفه من المال والولد بعد إهلاكه، ويأتينا وحيداً لا مال معه ولا ولد، ولا نصير له ولا سند ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ أي واتخذ المشركون أصناماً عبدوها من دون الله لينالوا بها العزَّ والشرف {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
206
عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا فإن الآلهة التي عبدوها ستبرأ من عبادتهم ويكونون له أعداء يوم القيامة ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ أي ألم تر يا محمد أنَّا سلَّطنا الشياطين على الكافرين تُغريهم إغراءٌ بالشر، وتهيّجُهم تهييجاً حتى يركبوا المعاصي قال الرازي: أي تغريهم على المعاصي وتحثُّهم وتهيّجهم لها بالوساوس والتسويلات ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ أي لا تتعجل يا محمد في طلب هلاكهم فإِنه لم يبق لهم أيام وأنفاس نعدُّها عليهم عدّاً ثم يصيرون إلى عذاب شديد قال ابن عباس: نعدُّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدُّ عليهم سنيَّهم ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ أي يوم نحشر المتقين إلى ربهم معزَّزين مكرَّمين، راكبين على النوق كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإِنعامهم ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ أي ونسوق المجرمين كما تُساق البهائم مشاةً عطاشاً كأنهم إبلٌ عطاش تُساق إلى الماء وفي الحديث
«يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، واربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتُجرُّ بقيتهم إلى النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا»
﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة﴾ أي لا يشفعون ولا يُشفع لهم ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ الاستثناء منقطع أي لكنْ من تحلَّى بالإيمان والعمل الصالح فإنه يملك الشفاعة قال ابن عباس: العهدُ «شهادة أن لا إله إلا الله» ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله ﴿لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ أي لقد أتيتم أيها المشركون بقولٍ منكر عظيم تناهى في القبح والشناعة ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ أي تكاد السماوات تتشقَّق من هول هذا القول ﴿وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً﴾ أي وتنشقُّ كذلك الأرض وتندكُّ الجبال وتُهدُّ هداً استعظاماً للكلمة الشنيعة ﴿أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾ أي ما يليق به سبحانه اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي المجانسة ويكون عن حاجة، وهو المنزَّه عن الشبيه والنظير، والغني عن المعين والنصير ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾ أي ما من مخلوقٍ في هذا العالم العلوي والسفلي إلا وهو عبدٌ لله، ذليلٌ خاضعٌ بين يديه، منقادٌ مطيع له كما يفعل العبيد ﴿لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ أي علم عددهم وأحاط علمه بهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾ أي وكل فردٍ يأتي يوم القيامة وحيداً فريداً، بلا مالٍ ولا نصير، ولا معين ولا خفير ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾ لما ذكر أحوال المجرمين ذكر أحوال المؤمنين والمعنى سيحدث لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً ومودة قال الربيع: يحبُّهم ويحببهم إلى الناس ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾ أي فإِنما يسرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك العربي تقرأه، وجعلناه سهلاً يسيراً لمن تدبره، لتبشّر به المؤمنين المتقين، وتخوّف به قوماً معاندين شديدي الخصومة والجدال ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ أي كم من الأمم الماضية أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، و «كم» للتكثير ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ أي هل ترى منهم أحداً؟ ﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ أي
207
أو تسمع صوتاً خفياً؟ والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم الديار، وأوحشت منهم المنازل، فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - ذكر العام وإرادة الخاص ﴿وَيَقُولُ الإنسان﴾ المراد به الكافر لأنه هو المنكر للبعث.
٢ - الطباق بين ﴿مِتُّ.. حَيّاً﴾ وبين ﴿تُبَشِّرَ.. وَتُنْذِرَ﴾.
٣ - الاستفهام للإِنكار والتوبيخ ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان﴾.
٤ - المقابلة اللطيفة بين المتقين والمجرمين وبين حال الأبرار والأشرار ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾.
٥ - الجناس غير التام ﴿وَفْداً.
. وِرْداً﴾
لتغير الحرف الثاني.
٦ - اللف والنشر المرتب في ﴿شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ حيث رجع الأول إلى ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً﴾ والثاني إلى ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ كما يوجد بين ﴿خَيْرٌ.. وشَرٌّ﴾ طباق.
٧ - المجاز العقلي ﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ أي نأمر الملائكة بالكتابة فهو من إسناد الشيء إلى سببه.
٨ - السجع الرصين مثل ﴿عَبْداً، عَدّاً، فَرْداً، وُدّاً﴾ وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُ فلاناً فأحبَّه فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء..» الحديث وهو مصداق قوله تعالى ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾.
لطيفَة: روي أن المأمون قرأ هذه الآية ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ وعنده جماعة من الفقهاء فيهم ابن السماك فأشار إليه المأمون أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد قال الشاعر:
208
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
حياتكَ أنفاسٌ تُعدُّ فكلما مضى نفس منك انتقصت به جزءاً