تفسير سورة الحج

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الحج مكية وهي ثمان وسبعون اية

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ﴾ أمر بني آدم بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عظيم﴾ لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصورها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع والزلزلة شدة التحريك والإزعاج وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله بل مكر الليل والنهار ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)
وانتصب ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ أي الزلزلة أو الساعة بقوله ﴿تَذْهَلُ﴾ تغفل والذهول الغفلة ﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ عما أرضعت﴾ عن
الحج (٥ - ٢)
أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يحلقها من الدهشة
426
إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ﴾ أي حبلى ﴿حِمْلِهَا﴾ ولدها قبل تمامه عن الحس تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ﴿وَتَرَى الناس﴾ أيه الناظر ﴿سكارى﴾ على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي نفسي نفسي ﴿وَمَا هُم بسكارى﴾ على التحقيق ﴿ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾ فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه وعن الحسن وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب سكرى فيهما بالامالة حمة وعلى وهو كعطش في عطشان رُوي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة
427
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣)
﴿وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله﴾ في دين الله في دين الله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حال نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى ﴿وَيَتَّبِعْ﴾ في ذلك ﴿كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ﴾ عاتٍ مستمر في الشر ولا وقف في مريد لأن ما بعده صفته
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)
﴿كتب عليه﴾ قضى على الشيطان ﴿يُضِلُّهُ﴾ عن سواء السبيل ﴿وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾ النار قال الزجاج الفاء
427
في فإنه للعطف وإن من مكرر للتأكيد ورد عليه أبو علي وقال إن من إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير فالأمر أنه يضله قال والعطف التأكيد يكون بعد تمام الأول والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار
428
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال ﴿يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث﴾ يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء قرابا وماء وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء ﴿فَإِنَّا خلقناكم﴾ أي
الحج (٧ - ٥)
أباكم ﴿مّن تُرَابٍ ثُمَّ﴾ خلقتم ﴿مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ أي قطعة دم جامدة ﴿ثم من مضغة﴾ أي لحمة صغسيرة قدر ما يمضغ ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم وإنما نقلنا كم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة ﴿لّنُبَيّنَ لَكُمْ﴾ بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ثم نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقد ر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما قدر على إعادة ما بدأه ﴿وَنُقِرُّ﴾ بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف أي نحن نثبت ﴿فِى الأرحام مَا نَشَاء﴾ ثبوته ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي وقت الولادة ومالم نشأ ثبوته أي أسقطته الأرحام ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ﴾ من الرحم ﴿طِفْلاً﴾ حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ﴾ ثم نربيكم لتبلغوا ﴿أَشُدَّكُمْ﴾ كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل
428
لها واحد ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾ عند بلوغ الأشد أو قبله أبو بعده ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ أخسه يعني الهرم والخرف ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾ ميتة يابسة ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت﴾ تحركت بالنبات ﴿وَرَبَتْ﴾ وانتفخت وربأت حيث كان يزيد ارتفعت ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كل زوج﴾ صنف ﴿بهيج﴾ حسن سار للناظرين إليه
429
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
﴿ذلك﴾ مبتدأ خبره ﴿بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود ﴿وأنه يحيي الموتى﴾ كما أحيا الأرض ﴿وَأَنَّهُ على كُلّ شيء قدير﴾ قادر
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
﴿وأن الساعة آتية لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور﴾ أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة
الحج (١٢ - ٨)
والبعث فلا بد أن يفي بما وعد
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨)
﴿وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله﴾ في صفاته فيصفه ما هو له نزلت في أبي جهل ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ضروري ﴿وَلاَ هُدًى﴾ أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة ﴿وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ﴾ أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩)
﴿ثاني عطفه﴾ حال أي لا وياعنقه عن طاعة الله اكبرا وخيلاء
429
وعن الحسن ثاني عطفه بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره ﴿لِيُضِلَّ﴾ تعليل للمجادلة ليضل مكي وأبو عمرو ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ دينه ﴿لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ﴾ أي القتل يوم بدر ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق﴾ أي جمع له عذاب الدارين
430
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ﴾ فلا يأخذ أحداً بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على بما أي وبأن الله وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منها
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١)
﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾ على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطرباً ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ صحة في جسمه وسعة في معيشته ﴿اطمأن﴾ سكن واستقر ﴿بِهِ﴾ بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته ﴿انقلب على وَجْهِهِ﴾ جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه قالوا نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شراً وانقلب عن دينه ﴿خَسِرَ الدنيا والآخرة﴾ حال وقد مقدرة دليله قراءة روح وزيد خاسر الدنيا والآخرة والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار
430
﴿ذلك﴾ أي خسران الدارين ﴿هُوَ الخسران المبين﴾ الظاهر الذي لا يخفى على أحد
431
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢)
﴿يدعو مِن دُونِ الله﴾ يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُ﴾ إن لم يعبده ﴿وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ إن عبده ﴿ذلك هو الضلال البعيد﴾ من
الحج (١٧ - ١٢)
الصواب
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
﴿يدعو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ والإشكال أنه تعالى نفى الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماد لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه ﴿لَبِئْسَ المولى﴾ أي الناصر الصاحب ﴿ولبئس العشير﴾ المصاحب أو كرر يدعو كأنه قال يدعو يدعو من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤)
﴿إن الله يدخل الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والآخرة﴾ المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ بحبل ﴿إِلَى السماء﴾ إلى سماء بيته ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ ثم ليختنق به وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه وبكسر اللام بصري وشامي {فَلْيَنْظُرْ
431
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي الذي يغيظه أو ما مصدرية أي غيظه والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه سمي فعله كيداً على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاديه نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ
432
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
﴿وكذلك أنزلناه﴾ ومثل ذلك الا نزال أنزل القرآن كله ﴿آيات بينات﴾ واضحات ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ﴾ أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّناً
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
﴿إن الذين آمنوا والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ﴾ قبل الاديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن الصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحدا ولا يجمعمه في موطن واحد وخبر إن الذين آمنوا إن الله يفصل بينهم كما تقول إن زيداً إن أباه قائم ﴿إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ﴾ عالم به حافظ له فلينظر كل امرئ معتقده وقوله وفعله
الحج (٢٢ - ١٨)
وهو أبلغ وعيد
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)
﴿ألم تر﴾ ألم تعلم يا محمد علما يقوم مقام العيان ﴿أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب﴾ قيل إن الكل يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقيل سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث من أفعاله وتسخيره له سجوداً له تشبيهاً لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه {وَكَثِيرٌ مّنَ
432
الناس} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة أو هو مرفوع على الابتداء ومن الناس صفة له والخبر محذوف وهن مثاب ويدل عليه قوله ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود ﴿وَمَن يُهِنِ الله﴾ بالشقاوة ﴿فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ بالسعادة ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ من الإكرام والإهانة وغير ذلك وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول ما يشاء
433
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
﴿هذان خَصْمَانِ﴾ أي فريقان مختصمان فالخصم صفة وصف بها الفريق وقوله ﴿اختصموا﴾ للمعنى وهذان للفظ والمراد المؤمنون والكافرون وقال ابن عباس رضي الله عنهما رجع إلى أهل الأديان المذكورة فالمؤمنون وسائر الخمسة خصم ﴿فِى رَبّهِمْ﴾ في دينه وصفاته ثم بين جزاء كل خصم بقوله ﴿فالذين كَفَرُواْ﴾ وهو فصل الخصومة المعنى بقوله إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴿قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ﴾ كأن الله يقدر لهم نيرانا على مقادير جثتهم تشتمل عليه كما نقطع الثياب الملبوسة واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ﴾ بكسر الهاء والميم بصري وبضمهما حمزة وعلى منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)
﴿يُصْهَرُ﴾ يذاب ﴿بِهِ﴾ بالحميم ﴿مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود﴾ أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)
﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ﴾ سياط مختصة بهم ﴿مِنْ حَدِيدٍ﴾ يضربون بها
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
﴿كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ من النار ﴿من غم﴾ بدل
الحج (٢٥ - ٢٢)
الاشتمال من منها بإعادة الجار أو الأولى لابتداء الغابة والثانية بمعنى من أجل يعني كلما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا ﴿أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ بالمقامع ومعنى الخروج عند الحسن أن النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فضربوا بالمقامع فهووا فيهما سبعين خريفاً والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنه ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها ﴿وَذُوقُواْ﴾ أي وقيل لهم ذوقوا ﴿عَذَابَ الحريق﴾ هو الغلبظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣)
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال ﴿إِنَّ الله يدخل الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ﴾ جمع أسورة جمع سوار ﴿مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ بالنصب مدني وعاصم وعلي ويؤتون لؤلؤاً وبالجر غيرهم عطفاً على من ذهب وبترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو بكر وحماد ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ ابريسم
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
﴿وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول وَهُدُواْ إلى صراط الحميد﴾ أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد وإلى صراط الحميد أي الإسلام أو هداهم الله في الآخرة الهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة والحميد الله المحمود بكل لسان
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي يمنعون عن الدخول في الإسلام ويصدون حال من فاعل كفروا أي وهم يصدون أي الصدود منهم دائم متسمر كما يقال فلان يحسن إلى الفقراء فإنه يراد
434
به استمرار وجود الإحسان منه في الحال والاستقبال ﴿والمسجد الحرام﴾ أي ويصدون عن المسجد الحرام والدخول فيه ﴿الذى جعلناه لِلنَّاسِ﴾ مطلقاً من غير فرق بين حاضر وبادٍ فإن أريد بالمسجد الحرام مكة ففيه دليل على أنه لا تباع دور مكة وأن أريد به البيت فالمعنى أنه قلة لجميع الناس سَوَآء بالنصب حفص مفعول ثانٍ لجلناه أي جعلناه مستوياً ﴿العاكف فِيهِ والباد﴾ وغير المقيم بالياء مكي وافقه أبو عمرو في الوصل وغيره بالرفع على أنه خير والمبتدأ مؤخر أي العاكف فيه والباد سواء والجملة مفعول ثان وللناس حال ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ﴾ في المسجد الحرام ﴿بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً فالإلحاد العدول عن القصد ﴿نُّذِقْهُ مِنْ﴾
﴿عذاب أليم وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا﴾
عذاب أليم فى الآخرة وخبران محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك
435
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت﴾ واذكر يا محمد حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أسه القديم ﴿أن﴾ هي المفسرة للقول المقدر أي قائلين له ﴿لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ﴾ من الأصنام والأقذار وبفتح الياء مدني وحفص ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ لمن يطوف به ﴿والقائمين﴾ والمقيمين بمكة ﴿والركع السجود﴾ المصلين جمع راكع وساجد
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)
﴿وَأَذّن فِى الناس بالحج﴾ ناد فيهم والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع ورُوي أنه صعد أبا قبيس فقال يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجاب من قدر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله ﷺ أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع والأول أظهر وجواب الأمر ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ مشاة وجمع راجل كقائم وقيام ﴿وعلى كُلّ ضَامِرٍ﴾ حال معطوفة على رجال كأنه قال رجالاً وركباناً والضامر البعير المهزول وقدم الرجال على الركبان اظهارا لفضيلة المشاة كما ورد فى الحديث ﴿يأتين﴾ صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع وقرأ عبد الله يأتون صفة للرجال والركبان ﴿مِن كُلّ فَجّ﴾ طريق ﴿عَميِقٍ﴾ بعيد قال محمد بن ياسين قال لي شيخ في الطواف من أين أنت فقلت من خراسان قال كم بينكم وبين البيت قلت مسيرة شهرين أو ثلاثة قال فأنتم جيران البيت فقلت أنت من أين جئت قال من مسيرة خمس سنوات وخرجت وأنا شاب فاكتهلت قلت والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فقال
زر من هويت وإن شطت بك الدار
وحال من دونه حجب وأستار لا يمنعنك بعدٌ عن زيارته
إن المحب لمن يهواه زوّار
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)
واللام فى ﴿ليشهدوا﴾ ليحضروا معلق بأذن أو بيأتوك ﴿منافع لَهُمْ﴾ نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم أو بالمال كالزكاة وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء فالحج
الحج (٢٩ - ٢٨)
﴿ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده ولا يأكل إلا من زاده فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة وركب
436
بحر الوفاة لاينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه مطيباً بالحنوط ملففاً في كفن غير مخيط ثم المحرم يكون أشعث حيران فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغباً ورهباً سائلين خوفاً وطمعاً وهم من بين مقبول ومخذول كموقف العرصات لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف والبيت الحرم الذي من دخله كان آمناً من الإيذاء والقتال أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله﴾ عند الذبح ﴿فِى أَيَّامٍ معلومات﴾ هي عشر ذي الحجة عند أبى حنيفة رحمه الله وآخرها يوم النحر وهو قول ابن عباس رضى الله عنهما وأكثر المفسرين رحمهم الله وعند صاحبيه هي أيام النحر وهو قول ابن عمر رضى الله عنهما ﴿على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ أي على ذبحه وهو يؤيد قولهما والبهيمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبيتت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ من لحومها والأمر للإباحة ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فأشبه الأضحية ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا ﴿وَأَطْعِمُواْ البائس﴾ الذي أصابه بؤس أي شدة الفقير الذي أضعفه الإعسار
437
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾ ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم كذا قاله نفطويه قيل قضاء التفث قص الشارب والأظافر ونتف الإبط والاستحداد
437
والتفث الوسخ والمراد قضاء إزالة التفث وقال ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما قضاء التفث مناسك الحج كلها ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ مواجب حجهم والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه وفى بنذره وإن لم ينذر أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم وليوفوا بسكون اللام والتشديد أبو بكر ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ﴾ طواف الزيارة الذي هو ركن الحج ويقع به تمام التحلل اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو ﴿بالبيت العتيق﴾ القديم لأنه أول بيت يوضع للناس بناه آدم ثم جدده إبراهيم أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها وعتاق الرقيق لخروجه من ذل العبودية إلى كرم الحرية أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان أو من أيدي الجبابرة كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله أو من أيدي الملاك فلم يملك قط وهو مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء فإن الطالب إذا هاجته
الحج (٣١ - ٣٠)
﴿ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام﴾ معية الطرب وجذبته جواذب الطلب جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ويتخذ مسالك المهالك منازل فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقاً فيرده الأسف لهفان ويردده اللهف حوله فى الدوران وطواف الزيارة آخره فرائض الحج الثلاث وأولها الإحرام وهو عقد الالتزام يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه كما أن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثار وترتفع ألف حوبة بتوبة وثانيا الوقوف بعرفات بسمة الابتهال وصدق الاعتزال عن دفع الاتكال على مراتب الأعمال وشواهد الأحوال
438
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
﴿ذلك﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك أو تقديره
438
ليفعلوا ذلك ﴿وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله﴾ الحرمة ما لا يحل هنكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرهما فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ويحتمل أن يكون خاصاً بما يتعلق بالحج وقيل حرمات الله البيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام ﴿فَهُوَ﴾ أي التعظيم ﴿خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ﴾ ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام﴾ أي كلها ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ آية تحريمه وذلك قوله حرمت عليكم الميتة الآية والمعنى أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها إلا ما بيّن في كتابه فحافظوا على حدوده ولا تحرموا شيئاً مما أحل كتحريم البعض البحيرة ونحوها ولا تحلوا مما حرم كاحلات لهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما ولما حث على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ لأن ذلك من أعظم الحرمات واسبقها خطوا ومن الاوثان بيان للرجس مبهم يتناول غير شئ كأنه قيل فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان وسمى الأوثان رجساً على طريقة التشبيه يعني أنكم تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان أو شهادة الزور وهو من الزور وهو الانحراف لأن الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة
439
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١)
﴿حُنَفَاء للَّهِ﴾ مسلمين ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ حال كحنفاء ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ﴾ سقط ﴿مّنَ السماء﴾ إلى الأرض ﴿فَتَخْطَفُهُ الطير﴾ أي تسلبه بسرعة فتخطّفه أي تتخطفه مدني ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح﴾ أي تسقطه
439
والهوي السقوط ﴿في مكان سحيق﴾ بعيد يجوز أن
الحج (٣٥ - ٣٢)
يكون هذا تشبيهاً مركباً ويجوز أن يكون مفرقاً فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه أهلا كاليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي أشرك بالله بالساقط من السماء والاهواء المردية بالطير المختلفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة
440
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)
﴿ذلك﴾ أي الأمر ذلك ﴿وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله﴾ تعظيم الشعائر وهي الهدايا لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حساناً سمانا غالية الأثمان ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
﴿لَكُمْ فِيهَا منافع﴾ من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى أن تنحر ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا﴾ أي وقت وجوب نحرها منتهية ﴿إلى البيت العتيق﴾ والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذا لحرم حريم البيت ومثله في الاتساع قولك بلغت البلد العتيق يأباه
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
﴿وَلِكُلّ أُمَّةٍ﴾ جماعة مؤمنة قبلكم ﴿جَعَلْنَا مَنسَكًا﴾ حيث كان بكسر السين بمعنى الموضع علي وحمزة أي موضع قربان وغيرهما بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين ﴿لّيَذْكُرُواْ اسم الله﴾ دون غيره ﴿مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ أي عند نحرها وذبحها
440
﴿فإلهكم إله واحد﴾ أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد وفيه دليل على أن ذكر اسم الله شرط الذبح يعني أن الله تعالى شرع لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا له على وجه التقرب وجعل القلة فى ذلك أن يذكر اسمه تقدمت أسماؤه على النسائك وقوله ﴿فَلَهُ أَسْلِمُواْ﴾ أي أخلصوا له الذكر خاصة واجعلوه له سالماً أي خالصاً لا تشوبوه بإشراك ﴿وَبَشّرِ المخبتين﴾ المطمئنين بذكر الله أوالمتواضعين الخاشعين من الخبث وهو المطمئن من الأرض وعن ابن عباس رضى الله عنهما الذى لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا وقيل تفسيره ما بعده أي
441
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ خافت منه هيبة ﴿والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ﴾ من المحن والمصائب ﴿والمقيمي الصلاة﴾ في أوقاتها ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ يتصدقون
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
﴿والبدن﴾ جمع بدنة سميت لعظم بدنها وفي الشريعة يتناول الابل والبقر وقرئ برفعها وهو كقوله والقمر قدرناه
الحج (٣٩ - ٣٦)
﴿جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله﴾ أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها ومن شعائر الله ثاني مفعولي جعلنا ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ النفع في الدنيا والأجر في العقبى ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا﴾ عند نحرها ﴿صَوَافَّ﴾ حال من الهاء أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ إن شئتم ﴿وَأَطْعِمُواْ القانع﴾ السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته
441
قنوعاً ﴿والمعتر﴾ الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال من قنعت قنعاً وقناعة والمعتر المتعرض للسؤال ﴿كذلك سخرناها لَكُمْ﴾ أي كما أمرناكم بنحرها لكم أو هو كقوله ذلك ومن يعظم ثم استأنف فقال سخرناها لكم أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لكي تشكروا إنعام الله عليكم
442
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر والمراد أصحاب اللحوم والدماء والمعنى لن يرضى المضحكون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى وقيل كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت ﴿كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ﴾ أي البدن ﴿لِتُكَبّرُواْ الله﴾ لتسموا الله عند الذبح أو لتعظموا الله ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ على ما أرشدكم إلى ﴿وبشر المحسنين﴾ الممثلين أوامره بالثواب
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
﴿إن الله يدافع﴾ مكي وبصري وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم ﴿عن الذين آمنوا﴾ أى يدفع غائلة المشرين عن المؤمنين ونحوه إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمنوا ثم علل ذلك بقوله ﴿إِنَّ الله لاَ يحب كل خوان﴾ فى أمانة الله ﴿كفورا﴾ لنعمة الله أى
442
لأنه لايحب أضدادهم وهم الخونة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون بنعم الله ويغمطونها
443
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
﴿أُذِنَ﴾ مدني وبصري وعاصم ﴿لِلَّذِينَ يقاتلون﴾ بفتح التاء مدني وشامي وحفص والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه ﴿بأنهم ظلموا﴾ بسبب كونهم
الحج (٤٢ - ٣٩)
مظلومين وهم أصحاب رسول الله ﷺ كان مشركوا مكة يؤذونهم أذىً شديداً وكانوا يأتون رسول الله ﷺ من بين مضروب إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ﴾ على نصر المؤمنين ﴿لَقَدِيرٌ﴾ قادر وهو بشارة المؤمنين بالنصرة وهو مثل قوله إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
﴿الذين﴾ في محل جر بدل من الذين أو نصب بأعنى أو رفع بإضمارهم ﴿أُخْرِجُواْ مِن ديارهم﴾ بمكة ﴿بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله﴾ أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكن لا موجب الإخراج ومثله هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلا أن آمنا بالله ومحل أن يقولوا جر بدلا من حق والمنعى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله﴾ دفاع مدني ويعقوب ﴿الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ﴾ وبالتخفيف حجازي ﴿صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد﴾ أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لا ستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً
443
ولا للمسلمين مساجد أو لغلب المشركون في أمة محمد ﷺ على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً أو لقربها من التهديم ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ في المساجد أو في جميع ما تقدم ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله من ينصره﴾ أى ينصر دينه وأولياءه ﴿إن الله لقوي﴾ على نصرأوليائه ﴿عَزِيزٌ﴾ على انتقام أعدائه
444
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
﴿الذين﴾ محله نصب بدل من من ينصره أو جر تابع للذين أخرجوا ﴿إِنْ مكناهم فِى الأرض أَقَامُواْ الصلاة وآتوا الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا وكيف يقومون بأمر الدين وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله عز وجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة وعن الحسن هم أمة محمد ﷺ ﴿وَلِلَّهِ عاقبة الأمور﴾ أي مرجعها إلى حكمه وتقديره وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢)
﴿وإن يكذبوك﴾ هذه تسلية لمحمد ﷺ من تكذيب أهل مكة إياه أي لست باوحدى فى
الحج (٤٦ - ٤٢)
التكذيب ﴿فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ قبل قومك ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحاً ﴿وَعَادٌ﴾ هوداً ﴿وَثَمُودُ﴾ صالحاً
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣)
﴿وَقَوْمِ إبراهيم﴾ إبراهيم ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ لوطاً
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤)
﴿وأصحاب مَدْيَنَ﴾ شعيباً ﴿وَكُذّبَ موسى﴾ كذبه فرعون والقبط ولم
444
يقل وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه أو كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنك بغيره ﴿فَأمْلَيْتُ للكافرين﴾ أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ عاقبتهم على كفرهم ﴿فَكَيْفَ كَانَ نكير﴾ انكاري وتعبيري حيث أبدلتهم بالنعم نقماً وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً نكيري بالياء في الوصل والوقف يعقوب
445
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
﴿فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها﴾ أهلكتها بصري ﴿وَهِىَ ظالمة﴾ حال أي وأهلها مشركون ﴿فَهِىَ خَاوِيَةٌ﴾ ساقطة من خوى النجم إذا سقط ﴿على عروشها﴾ يتعلق بخاوية والمعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ولا محل لفهى خاوية من الإعراب لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل وهذا إذا جعلنا كأين منصوب المحل على تقدير كثيراً من القرى أهلكناها ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ أي متروكة لفقد دلوها ورشائها وفقد تفقدها أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها ﴿وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ مجصص من الشيد الجص أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعاً فخلت القصور عن اربابها والآبار عن واردها والاظهران البئر والقصر على العموم
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض﴾ هذا حث على السفر ليروا مصارع من أهلكم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ويسمعون
445
ما يجب سماعه من الوحي ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور﴾ الضمير في فإنها ضمير القصة أو ضمير مبهم يفسره الأبصار أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار ولكل إنسان أربع أعين عينان في رأسه وعينان في قلبه فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضره وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب
الحج (٥٢ - ٤٧)
ولئلا يقال إن القلب يعني به غير هذا العضو كما يقال القلب لب كل شئ
446
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ الآجل استهزاء ﴿وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾ كأنه قال ولم يستعجلونك به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ولن يخلف الله وعده وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ﴾ يعدون مكي وكوفي غير عاصم أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
﴿وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظالمة﴾ أي وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ بالعذاب ﴿وَإِلَيَّ المصير﴾ أي المرجع إلي فلا يفوتني شئ وإنما كانت الأولى أي فكأين معطوفة بالفاء وهذه أى وكأين بالواو ولأن الأولى وقعت بدلاعن فكيف كان نكيرو أما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩)
﴿قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر
446
الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين ويا أيها الناس نداءلهم وهم الذين قيل فيهم أفلم يسيروا ووصفوا بالاستعجال وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولا فقال
447
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠)
﴿فالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ اى حسن ثم أنذار فقال
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١)
﴿والذين سَعَوْاْ﴾ سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه ﴿في آياتنا﴾ أي القرآن ﴿معاجزين﴾ حال معجزين حيث كان مكى وأبو عمر ووعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للاسلام يتم لهم ﴿أولئك أصحاب الجحيم﴾ أي النار الموقدة
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ﴾ من لابتداء الغاية ﴿مِن رَّسُولٍ﴾ من زائدة لتأكيد النفي ﴿وَلاَ نَبِيّ﴾ هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض انهما واحد وسئل النبى ﷺ عن الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً فقيل فكم الرسل منهم فقال ثلثمائة وثلاثة عشر والفرق بينهما أن الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله وقيل الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره ﴿إلا إذا تمنى﴾ قرأ قال
الحج (٥٤ - ٥٢)
... تمنى كتاب الله أول ليلة تمنى داود الزبور على رسل...
﴿أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ﴾ تلاوته قالوا انه عليه السلام كان
447
نادي قومه يقرأ والنجم فلما بلغ قوله ومناة الثالثة الأخرى جرى على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه وقيل نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان وهذا القول غير مرضى لأنه لا يخلو إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمدا وأه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعناً للاصنام لا مادحالها أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه الصلاة والسلام جبراً بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك على لسانه سهوا وغلفة وهو مردود أيضاً لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون فلما بطلت هذه الكلمات متصلا بقراءة النبى ﷺ فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها فيكون هذا إلقاء في قراءة النبى ﷺ وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل وقال يوم بدر لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جارلكم ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان﴾ أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان ﴿ثُمَّ يحكم الله آياته﴾ أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يدعه حتى يكشفه ويزيله
448
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوماً بقوله
448
﴿لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً﴾ محنة وابتلاء ﴿لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق ﴿والقاسية قُلُوبُهُمْ﴾ هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكاً وظلمة ﴿وَإِنَّ الظالمين﴾ أي المنافقين والمشركين وأصله وأنهم فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾ خلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق
449
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ بالله وبدينه وبالآيات ﴿أَنَّهُ﴾ أي القرآن ﴿الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ بالقرآن ﴿فَتُخْبِتَ﴾ فتطمئن ﴿لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾
فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ﴾ شك ﴿مِنْهُ﴾ من القرآن أو من الصراط المستقيم ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧)
﴿الملك يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم ﴿لِلَّهِ﴾ فلا منازع له فيه ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أي يقضي ثم بين حكمه فيهم بقوله {فالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فِى جنات النعيم
449
والذين كَفَرُواْ وكذبوا بآياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
450
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)
ثم خص قوماً من الفريق الأول بفضيلة فقال ﴿والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ خرجوا من أوطانهم مجاهدين ﴿ثم قتلوا﴾ في الجهاد قُتِلُواْ شامي ﴿أَوْ مَاتُواْ﴾ حتف أنفهم ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً﴾ قيل الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبداً ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ لأنه المخترع للخلق بلا مثال المتكفل للرزق بلا مال
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً﴾ بفتح الميم مدني والمراد الجنة ﴿يَرْضَوْنَهُ﴾ لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ﴾ بأحوال من قضى نحبه مجاهداً وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً ﴿حَلِيمٌ﴾ بإمهال من قاتلهم معانداً رُوي أن طوائف من أصحاب النبى ﷺ قالوا يا نبى الله هؤلاء لاذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله هاتين الآيتين
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
﴿ذلك﴾ أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ سمي الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله﴾ أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله
الحج (٦٤ - ٦٠)
أن ينصره ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ﴾ يمحو آثار الذنوب ﴿غفور﴾ يستر أنواع العيوب وتقريب الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله فمن عفا وأصلح فاجره على الله وان تعفوا أقرب للتقوى فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في
450
الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغى وعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو يذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل العفو عند القدرة
451
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
﴿ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات بصير مما يفعلون ولا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت وإن توالت الظلمات
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يدعون﴾ عرقى غير أبي بكر ﴿مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير﴾ أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلهيته وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة وأنه لا شئ أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء ماء﴾ مطرا ﴿فتصبح الأرض مخضرة﴾ بالنبات بعد ما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول أنعم عليّ فلان فاروح وأغدو شاكرا له ولو نصب لبطل الغرض وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار
451
فينقلب بالنصب جواباً للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه وإن رفعته أثبت شكره ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ﴾ واصل عمله أو فضله إلى كل شئ ﴿خَبِيرٌ﴾ بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير الخبير المحيط بكر قليل وكثير
452
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
﴿لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ مُلكاً وملكاً ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني﴾ المستغني بكمال
الحج (٦٩ - ٦٥)
﴿الحميد ألم تر أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ قدرته بعد فناء ما فى السموات وما فى الأ رض ﴿الحميد﴾ المحمود بنعمته قبل ثناء من في السموات ومن فى الأرض
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
﴿ألم تر أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ من البهائم مذللة للركوب في البر ﴿والفلك تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ﴾ أي ومن المراكب جارية في البحر ونصب الفلك عطفاً على ما وتجرى حالها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها ﴿وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ أي يحفظها من أن تقع ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ بأمره أو بمشيئته ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ﴾ بتسخير ما في الأرض ﴿رَّحِيمٌ﴾ بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض عدد آلاءه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه وعن أبى حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرائها ألبتة
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
﴿وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ﴾ في أرحام أمهاتكم ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ لإيصال جزائكم ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم أو
452
لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود
453
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
﴿لكل أمة﴾ أهل دين ﴿جعلنا منسكا﴾ من بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ عاملون به ﴿فَلاَ ينازعنك﴾ فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك ﴿فِى الأمر﴾ أمر الذبائح أو الدين نزلت حين قال المشركون للمسلمين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة ﴿وادع﴾ الناس ﴿إلى رَبّكَ﴾ إلى عبادة ربك ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق قويم ولم يذكرا لوا وفى لِكُلّ أُمَّةٍ بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨)
﴿وَإِن جادلوك﴾ مراء وتعنتاً كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينكم وبينهم تنازع وجدال ﴿فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة لرسول
الحج (٧٣ - ٧٠)
الله ﷺ مما كان يلقى منهم
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض﴾ أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث فى السموات والأرض ﴿إِنَّ ذلك﴾ الموجود فيهما ﴿فِى كتاب﴾ في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك
453
عَلَى الله يَسِيرٌ} أي علمه بجميع ذلك عليه يسير
454
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها بقوله ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ﴾ ينْزل مكي وبصري ﴿سلطانا﴾ حجة وبرهاناً ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلى ﴿وما للظالمين من أنصار﴾ وما الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ﴾ يعني القرآن ﴿تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر ﴿يكادون يَسْطُونَ﴾ يبطشون والسطو الوثب والبطش ﴿بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ هم النبى ﷺ وأصحابه ﴿قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم﴾ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم ﴿النار﴾ خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً قال ما هو فقيل النار أي هو النار ﴿وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ استئناف كلام ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ النار
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)
ولما كانت دعواهم بأن الله تعالى شريكاً جارية في الغرابة والشهرة مجرى الامثال المسيرى قال الله تعالى ﴿يا أيها الناس ضُرِبَ﴾ بين ﴿مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾ لضرب هذا المثل ﴿أَنَّ الذين تَدْعُونَ﴾ يَدَّعُونَ سهل ويعقوب ﴿مِن دُونِ الله﴾ آلهة باطلة ﴿لَن يخلقوا ذبابا﴾ لن لتأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل كأنه قال محال أن يخلقوا وتخصيص الذباب لمهانته وذعفه واستقداره وسمي ذباباً لأنه كلما ذب
454
لاستقذاره آب لاستكباره ﴿وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾ لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه وهذا من أبلغ ما أنزل فى تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى واذله
الحج (٧٧ - ٧٣)
ولو اجتمعوا لذلك ﴿وإن يسلبهم الذباب شَيْئاً﴾ ثاني مفعولي يَسْلُبْهُمُ ﴿لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا عن ابن عباس رضى الله عنهما انهم كانوا يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه ﴿ضَعُفَ الطالب﴾ أي الصنم بطلب ما سلب منه ﴿والمطلوب﴾ الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب
455
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
﴿ما قدروا الله حق﴾ ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكاً له ﴿إِنَّ الله لْقَوِيٌ عَزِيزٌ﴾ أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
﴿الله يَصْطَفِى﴾ يختار ﴿مِنَ الملائكة رُسُلاً﴾ كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ﴿وَمِنَ الناس﴾ رسلاً كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام هذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر وقيل نزلت حين قالوا أنزل عليه الذكر من بيننا ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ﴾ لقولهم ﴿بَصِيرٌ﴾ بمن يختاره لرسالته أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول
455
بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول
456
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما مضى ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ أى إليه ترجع الأمور كلها والذي هو بهذه الصفات لا يسأل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه فى حكمه وتدابيره واختياره رسله ترجع شامى وحمزة وعلى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا﴾ في صلاتكم وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ﴿وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾ واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم ﴿وافعلوا الخير﴾ قيل لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكرى ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما ثم عم الحث على سائر الخيرات وقيل أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي كي تفوزوا وافعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
﴿وجاهدوا﴾ أمر الغزو أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر أو هو كلمة حق عند أمير جائر ﴿في الله﴾ أى فى
الحج (٧٨)
ذات الله ومن أجله ﴿حَقَّ جهاده﴾ وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم يقال هو حق عالم وجد عالم أى حقاً وجداً ومنه حق جهاده وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه لكن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله
456
ويوم شهدنا سليماً وعامراً هُوَ ﴿اجتباكم﴾ اختاركم لدينه ونصرته ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج بالتيمم بالايماء وبالقصد والإفطار لعذر السفر والمرض وعدم الزاد والراحلة ﴿مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم﴾ أي اتبعوا ملة أبيكم أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم وسماه أباً وإن لم يكن أباً للأمة كلها لأنه أبو رسول الله ﷺ فكان أباً لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد ﴿هُوَ سماكم المسلمين﴾ أي الله بدليل قراءة أبى الله سماكم ﴿مِن قَبْلُ﴾ في الكتب المتقدمة ﴿وَفِى هذا﴾ أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ﴾ أنه قد بلغكم رسالة ربكم ﴿وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس﴾ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم وإنما خصكم بهذه الكرامة والأثرة ﴿فأقيموا الصلاة﴾ بواجباتها ﴿وآتوا الزكاة﴾ بشرائطها ﴿واعتصموا بالله﴾ وثقوا بالله وتوكلوا عليه لا بالصلاة والزكاة ﴿هُوَ مولاكم﴾ أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم ﴿فَنِعْمَ المولى﴾ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ﴿وَنِعْمَ النصير﴾ أي الناصر هو أعانكم على طاعتكم وقد أفلح من هو مولاه وناصره والله الموفق للصواب
457
المؤمنون (٦ - ١)

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون مكية وهي مائة وثمان عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

458
Icon