تفسير سورة آل عمران

زاد المسير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
ذكر أهل التفسير أنها مدنية، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران، قدموا النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا، فيهم العاقب، والسيد، فخاصموه في عيسى، فقالوا : إن لم يكن ولد الله، فمن أبوه ؟ فنزلت فيهم صدر [ آلَ عِمْرَانَ ] إلى بضع وثمانين آية منها.

سورة آل عمران
(١٥٣) ذكر أهل التفسير أنها مدنيّة، وأن صدرا من أوّلها نزل في وفد نجران، قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ستّين راكبا، فيهم العاقب، والسّيّد، فخاصموه في عيسى، فقالوا: إن لم يكن ولد الله، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)
قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني: القرآن بِالْحَقِّ يعني: العدل. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب. وقيل: إنما قال في القرآن: «نزّل» بالتشديد، وفي التوراة والإنجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، وأنزل القرآن في مرات كثيرة. فأما التوراة. فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجعلها من: وري الزند يري: إذا خرجت ناره، وأوريتُه، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري، ويقال: وريت بك زنادي. والإنجيل، من نجلت الشيء: إذا أخرجته، وولد الرجل: نجله، كأنه هو استخرجه، يقال: قبح الله ناجليه، أي: والديه، وقيل للماء يظهر من البئر:
نجل، يقال: قد استنجل الوادي: إذا ظهر نزوزه. وإنجيل: إفعيل من ذلك، كأن الله أظهر به عافياً من الحق دارساً. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب، قال: وقال بعضهم: إن كان عربياً، فاشتقاقه من النجل، وهو ظهور الماء على وجه الارض، واتساعه، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل:
فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. وفي الفرقان هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة، والجمهور.
قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقاناً، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقال السّدّيّ: في الآية
أخرجه الطبري ٦٥٤٠ وابن هشام في «السيرة» ٢/ ١٦٤ من طريق ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير.
وكذا ابن كثير في «التفسير» ١/ ٣٧٦ من طريق ابن إسحاق وعزاه البغوي في «تفسيره» ٣٥٨ للكلبي والربيع بن أنس وغيرهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩٠ نقلا عن المفسرين. وانظر دلائل النبوة للبيهقي ٥/ ٣٨٢- ٣٨٤ وهذه المراسيل تتأيد بمجموعها.
تقديم وتأخير، تقديره: وأنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فيه هدى للناس.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤]
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد وفد نجران النصارى، كفروا بالقرآن، وبمحمد. والانتقام: المبالغة في العقوبة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، قال أبو سليمان الدمشقي: هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبيّ عليه السلام. وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم: المتقن المبيّن. وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال «١» :
أحدها: أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، السّدّيّ في آخرين. والثاني: أنه الحلال والحرام، روي عن ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله، روي عن جابر بن عبد الله. والرابع: أنه الذي لم ينسخ، قاله الضّحّاك. والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد.
والسادس: أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشافعي، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة. والثامن: أنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى بن الفرّاء.
وأم الكتاب أصله. قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام، ومجمع الحلال والحرام.
(١) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٤٥: وأحسن ما قيل فيه الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
- وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» ١/ ٣٦٠ بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره.
- والمتشابه: ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره.
- وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٤/ ١٣- ١٤ بتخريجنا- طبع «دار الكتاب العربي».
258
وفي المتشابه سبعة أقوال: أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله: «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس. والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما احتاج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ: ما احتمل من التأويل وجوهاً. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات.
والسابع: أنه القصص والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى.
فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين: أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني: المجاز، والكنايات، والإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس:
ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتَّل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته، وقال امرؤ القيس أيضاً:
رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أنتصر
وقال أيضاً:
فقلت له لما تمطى بصُلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل «١»
فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه، فحسن بذلك شعره. وقال غيره:
من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر:
تبكي هاشماً في كل فجر كما تبكي على الفنن الحمام
وقال الآخر:
عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها فَصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة.
والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويردّه إلى عالمه، فيعظم بذلك صوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر
(١) في «اللسان» : الكلكل من الفرس: ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.
259
طالوت. والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم، كما أثيبوا على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم، وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون، ويمرّونهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ في الزيغ قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أنه الميل، قاله أبو مالك، وعن ابن عباس كالقولين، وقيل: هو الميل عن الهدى.
وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الخوارج، قاله الحسن. والثاني: المنافقون، قاله ابن جريج. والثالث: وفد نجران من النصارى، قاله الربيع. والرابع: اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل، قاله ابن السائب. قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ قال ابن عباس: يُحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويُلبسون. وقال السدي يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الشبهات، قاله مجاهد. والثالث: إفساد ذات البين، قاله الزجاج. وفي التأويل وجهان: أحدهما: أنه التفسير. والثاني: العاقبة المنتظرة. والراسخ: الثابت، رسخ يرسخ رسوخاً.
وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان «١» : أحدهما: أنهم لا يعلمونه، وأنهم مستأنفون،
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٣٤٦: وقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلّا الله... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا...
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به). وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (إِن تأويله إِلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا
260
وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ «ويقول الراسخون في العلم آمنّا به» وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والفراء، وأبو عبيدة، وثعلب، وابن الأنباري، والجمهور. قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله «إن تأويله، إلّا عند الله» وفي قراءة أُبيّ، وابن عباس «ويقول الراسخون» وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، وقوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «١» فأنزل تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى. والثاني: أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، واختاره ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨ الى ٩]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي يقولون: ربنا لا تُمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا. قال أبو عبد الرحمن السلمي، وابن يعمر، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك: بمعنى عندك. والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، وكذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، ولا ولده. وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ أي:
من عذابه
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، في الدأب قولان: أحدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل
(١) الفرقان: ٣٨.
فرعون، يريد: كفر اليهود. ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود ككفر آل فرعون. والثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم، وتظاهرهم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزّجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ بالتاء ويَرَوْنَهُمْ بالياء، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء! وقرأهن حمزة، والكسائي بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٥٤) أحدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، همّوا بالإِسلام، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا، لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أُحد، شكّوا، وقالوا: ما هو به، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
(١٥٥) والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقق الله وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، والضحاك.
(١٥٦) والثالث: أن أبا سفيان في جماعة ن قريش، جمعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال «١» : أحدها:
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩١ قال الكلبي قال أبو صالح قال ابن عباس. وهذا الإسناد ساقط، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري ٦٦٦٣ وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٦٦٦٤، وورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري ٦٦٦٧. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
ذكره الماوردي في «تفسيره» عن ابن عباس والضحاك بدون إسناد. فهذا الخبر لا شيء لخلوه عن الإسناد.
- والقول المتقدم هو الصواب، فإن الآية الآتية تدل على أن ذلك كان بعد بدر.
لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي واسمه محمد، وهو متروك متهم بالكذب، فهذا الأثر لا شيء. والقول الأول هو الصواب، والله أعلم.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٥٠: يقول الله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية أي دلالة على أن الله معزّ دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعدل أمره.
262
أنهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفار، فيكون معطوفاً على الذي قبله، وهو يخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. والثالث: أنهم اليهود، ذكره الفراء، وابن الأنباري، وابن جرير. فإن قيل: لم قال قَدْ كانَ لَكُمْ ولم يقل قد كانت لكم: فالجواب من وجهين: أحدهما: أَن ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. والثاني: أنه ردّ المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى، وترك اللفظ، وأنشدوا:
إنّ امرأ غره منكنَّ واحدةٌ بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقد سبق معنى «الآية»، و «الفئة» وكل مشكل تركت شرحه، فإنك تجده فيما سبق، والمراد بالفئتين: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة.
وفي قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قولان: أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفراء، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، وأحتاج إلى مثليه، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم، قال الزجاج: وهو الصحيح.
قوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأياً، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال: هي التي ذكرناها في قوله تعالى:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم الله، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود. وإن قلنا:
إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفراء: ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين، وإن المسلمين استكثروا المشركين، وقد بين قوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «١» أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال، واستقلوهم في حال، فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فنصرهم الله بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وقال في رواية اخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلاً فقلت:
كم كنتم؟ قال: ألفاً. وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون فإنهم استقلوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، واستكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ، أي: يقوي، إِنَّ فِي ذلِكَ في الإشارة قولان: أحدهما: أنها
(١) الأنفال: ٤٤.
263
ترجع إلى النصر. والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم. والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدية إلى العلم، وهي من العبور، كأنه طريق يعبر به ويتوصّل به المراد. وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى العلم. والأبصار: العقول والبصائر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قرأ أبو رزين العقيلي وأبو رجاء العطاردي، ومجاهد، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين. والقناطير:
جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية، وأحسب أنه معرب. واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولا:
(١٥٧) أحدها: أنه ألف ومائتا أوقية، رواه أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال معاذ بن جبل، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية.
(١٥٨) والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعن أبي هريرة كالقولين، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً: اثنا عشر أوقية.
(١٥٩) والثالث: أنه ألف ومائتا دينار، ذكره الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ورواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، والضحاك، كهذا القول، والذي قبله. والخامس: أنه سبعون ألف دينار، روي عن ابن عمر، ومجاهد. والسادس: ثمانون ألف درهم، أو مائة رطل من الذهب، روي عن سعيد بن المسيب، وقتادة. والسابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. والثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السدي. والتاسع:
أنه ألف مثقال ذهب أو فضة، قاله الكلبي. والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهباً، قاله أبو نضرة، وأبو عبيدة. والحادي عشر: أن القنطار: رطل من الذهب، أو الفضة، حكاه ابن الأنباريّ.
أخرجه الطبري ٦٦٩٨ وإسناده ضعيف جدا. له علتان: علي بن زيد وعنه مخلد بن عبد الواحد، وهذا الأخير منكر الحديث جدا، والأول ضعيف. وقد رجح ابن كثير رحمه الله فيه الوقف ١/ ٣٥٩ فقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا. وشدة الاختلاف في ذلك يدل على عدم صحة المرفوع أصلا، وانظر مزيد الكلام عليه في تفسير ابن كثير بتخريجي عند هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» ٤٧٦.
أخرجه الترمذي ٣٠٢٣ والحاكم ٢/ ٣٠٠ والطبري ٨٣٦٨ وعبد الرزاق في «تفسيره» ٤٩٨ والواحدي ٢٨٥ من حديث أم سلمة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. قال عبد الرزاق في روايته، وكذا الترمذي والطبري: عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة. وأما الواحدي فقال: عن سلمة بن عمر رجل من ولد أم سلمة. وصححه الألباني وأورده في صحيح الترمذي، والله أعلم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٦٦٩٩ عن الحسن مرسلا، ومع إرساله مراسيل الحسن واهية، وكرره الطبري ٦٧٠٠ عن الحسن قوله، وهو الصحيح.
والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس «١» : القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحدّ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن الأنباري قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمة من المال.
وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المضعَّفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها المكملة، كما تقول: بدرة مبدَّرة، وألف مؤلَّفة، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم، قاله السّدّيّ.
في المسومة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الراعية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية، والضحاك، والسدي، والربيع، ومقاتل. قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، وأسمتها وهي مسامة، وسومتها، فهي مسوَّمة: إذا رعيتها، والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيِّماء أي: بالعلامة. والثاني: أنها المعلمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، وعن الحسن كالقولين وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة.
والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. والثالث: أنها الحسان، قاله عكرمة، ومجاهد.
فأما الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، والبقر، والغنم، واحدها نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب: المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها، فيثاب عليها، وإنما يتوجه الذّم إلى سوء القصد فيها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
قوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ، روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال:
لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قال عمر: يا ربّ الآن حين زيّنتها؟! فنزلت: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا، وإن كان محبوباً، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرضوان فقرأ عاصم، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ «٢»، وقراء الباقون بكسر الراء، والكسر لغة قريش. قال الزجاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضىً ومرضاة ورِضواناً ورُضواناً، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم.
(١) قال القرطبي رحمه الله ٤/ ٣٣: وقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وهذا المعروف عند العرب ومنه قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي مالا كثيرا. ومنه الحديث- الأثر- «إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه» ) أي صار له قنطار من المال.
(٢) المائدة: ١٦. [.....]

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦ الى ١٧]

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
قوله تعالى: الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله عز وجل، وعن محارمه وَالصَّادِقِينَ في عقائدهم وأقوالهم وَالْقانِتِينَ بمعنى المطيعين لله وَالْمُنْفِقِينَ في طاعته. وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة. وفي معنى استغفارهم قولان: أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان، قاله ابن مسعود، والحسن في آخرين. والثاني: أنه الصلاة. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك ومقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفاراً، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السحر، فقال إبراهيم بن السري:
السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم الله بهذه الطاعات، ثم وصفهم بأنهم لشدّة خوفهم يستغفرون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
(١٦٠) سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشّام قدما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: «نعم». قالا: وأحمد؟ قال: «نعم». قالا: نسألك عن شهادة، فإن أخبرتنا بها، آمنّا بك، فقال: «سلاني». فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السائب.
وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة. وقال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، خرّت الأصنام سجداً. وفي معنى شَهِدَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم، قاله مجاهد والفراء وأبو عبيدة. والثاني: بمعنى بيّن، قاله ثعلب والزجاج. قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه، أنه لا إله إلا هو. وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعاصم الجحدري (شهداء الله) بضم «الشين» وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المد، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل.
قال جعفر الصادق: وإنما كرر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسبابه» ١٩٣ عن الكلبي وهو محمد بن السائب، وتقدم أنه يضع الحديث.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجمهور على كسر «إِن» إِلا الكسائي، فإنه فتح «الألف»، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وأبي رزين، وأبي العالية، وقتادة. قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية، نزلت هذه الآية. قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وأن يكون عادتهم، وبه يجزيهم. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عزّ وجلّ. قال ابن قتيبة: والإسلام الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ومثله الاستسلام، يقال: سلم فلان لأمرك، واستسلم، وأسلم، كما تقول: أشتى الرجل، أي: دخل في الشتاء، وأربع:
دخل في الربيع. وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله الربيع. والثاني: أنهم النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: أنهم اليهود، والنصارى، قاله ابن السائب. وقيل:
الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتاب. وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال: أحدها: دينهم. والثاني:
أمر عيسى. والثالث: دين الإسلام، وقد عرفوا صحّته. والرابع: نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقد عرفوا صفته.
قوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه بَغْياً بَيْنَهُمْ قال الزجاج:
معناه: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى: سريع الحساب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك، وخاصموك. قال مقاتل: يعني اليهود، قال ابن جرير:
يعني نصارى نجران في أمر عيسى، وقال غيرهما: اليهود والنصارى. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ قال الفراء:
معناه: أخلصت عملي، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله.
قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة، وابن شنبوذ عن قنبل، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزجاج: والأحب إِلىَّ اتباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ ولَئِنْ أَخَّرْتَنِ ورَبِّي أَكْرَمَنِ ورَبِّي أَهانَنِ. فهو على ضربين: أحدهما: ما كان مع النون، فإن كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، ويسمون أواخر الآي الفواصل، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى:
ومن شانئ كاسف باله... إذا ما انتسبت له أنكرن «١»
وهل يمنعني ارتيادي البلا... د من حذر الموت أن يأتين
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد أيضاً، خاصة مع النونات، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء،
(١) الشانئ: المبغض. كاسف الوجه: عابسه من سوء الحال. والكسوف في الوجه: الصفرة والتغير.
فأما إذا لم تكن النون، نحو غلامي وصاحبي، فالأجود إثباتها، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته، تقول: هذا غلام، قد جاء غلاميَ، وغلاميْ. بفتح الياء وإسكانها، فجاز الحذف، لأن الكسرة تدل عليها. قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ بمعنى مشركي العرب، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى: أَأَسْلَمْتُمْ قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «١».
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأن المراد بها تسكين نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند امتناع من لم يجبه، لأنه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التّبليغ، وهذا منسوخ بآية السيف.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى. قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن. وقد تقدم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء، والقسط، والعدل. وقرأ الجمهور وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف. وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(١٦١) «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني اسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار» فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم، وإنما وبخ بهذا الذين كانوا في زمن النّبيّ عليه السلام لأنهم تولوا أولئك، ورضوا بفعلهم. فَبَشِّرْهُمْ بمعنى: أخبرهم، وقد تقدم شرحه في «البقرة». ومعنى حَبِطَتْ: بطلت.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
أخرجه الطبري ٦٧٧٧ وإسناده ضعيف. لضعف محمد بن حفص الحمصي، ضعفه ابن مندة كما في «الميزان». وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٣٦٣ والبزار ٣٣١٤ «كشف» ومداره على أبي الحسن مولى بني أسد، وهو مجهول كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ٣٤٨ وفيه أيضا محمد بن حمير لين الحديث. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٢١٦٦: فيه من لم أعرفه اثنان اه. وفي الباب من حديث ابن عباس وفيه «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي.....» أخرجه البيهقي في «الشعب» ٧٨٨٨. وإسناده واه، فيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف متروك.
__________
(١) المائدة: ٩١.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١٦٢) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم. قالا: فإنه كان يهودياً. قال: فهلموا إلى التوراة، فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس (١٦٣) والثاني: أنّ رجلا وامرأة من اليهود زنيا، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النّبيّ عليه السلام رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليهما بالرجم، فقالوا: جرْت علينا يا محمد، ليس علينا الرجم. فقال: بيني وبينكم التوراة، فجاء ابن صوريا، فقرأ من التوراة، فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها، وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام، فقرأها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديِّين، فرجما، فغضب اليهود. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(١٦٤) والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال نعمان بن أبي أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار. فقال: بل إلى كتاب الله، فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(١٦٥) والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود، دعاهم النبي إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبياً إلا من بني اسرائيل. قال: فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها أني نبي، فأبوا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
فأما التفسير، فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة. وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التوراة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال: أحدها: ملة إبراهيم. والثاني: حد الزنى. رويا عن ابن عباس. والثالث: صحة دين الإسلام، قاله السدي. والرابع: صحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. فان قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها: التأكيد. والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي، ويعرضون عما دعا إليه. والثالث: يتولون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم. والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباريّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا يعني: الذي حملهم على التّولي والإعراض أنهم قالوا:
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر كما في «الدر» ١/ ٢٤ والطبري ٦٧٧٨٠ عن ابن عباس. وفيه محمد بن أبي محمد. قال الذهبي: في «الميزان» لا يعرف. وانظر «تفسير القرطبي» ١٦٣٩ بتخريجنا.
عزاه المصنف، وكذا البغوي في «تفسيره» ٣٧٣ للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، ومر في المقدمة. وأصل هذا الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، وسيأتي في بحث التراجم.
عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، ولم أقف على إسناده فهذا خبر لا حجة فيه.
- وكذا الواحدي في «الأسباب» ١٩٤ للسدي بدون إسناد.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو متروك كذاب.
- ولم يصح في سبب نزول هذه الآية شيء، إلّا أنه لا ريب أن المراد بالآية اليهود.
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقد ذكرناها في «البقرة». ويَفْتَرُونَ: يختلقون. وفي الذي اختلقوه قولان: أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قاله مجاهد، والزجاج. والثاني:
قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة، ومقاتل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لِيَوْمٍ أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى: «في».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٦٦) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما فتح مكة، ووعد أمته ملك فارس والرّوم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك.
(١٦٧) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت هذه الآية، حكاه قتادة.
والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلاً جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فأما التفسير، فقال الزجاج: قال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: «اللهم» بمعنى «يا الله»، و «الميم» المشددة زيدت عوضاً من «يا» لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة، ووجدوا اسم الله عزّ وجلّ مستعملاً ب «يا» إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «ياء» في أولها والضمة التي في «الهاء» هي ضمة الاسم المنادى المفرد. قال أبو سليمان الخطابي:
ومعنى «مالك الملك» : أنه بيده، يؤتيه من يشاء، قال: وقد يكون معناه: مالك الملوك، ويحتمل أن يكون معناه: وارث المالك يوم لا يدعيه مدّع، كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. قوله تعالى:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ في هذا الملك قولان: أحدهما: أنه النبوة، قاله ابن جبير، ومجاهد. والثاني:
أنه المال، والعبيد، والحفدة، ذكره الزجاج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء، يعني محمداً وأمته، وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس الرّوم. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ محمداً وأمته وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فارس والروم. وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: العز بالنصر، والذل بالقهر. والثاني:
العز بالغنى، والذل بالفقر. والثالث: العز بالطاعة، والذل بالمعصية. قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة، وقيل: معناه بيدك الخير والشر، فاكتفى بأحدهما، لأنه المرغوب فيه.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩٧ عن ابن عباس وأنس بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ٣٥٠: ولم أجد له إسنادا. اه. فالخبر ليس بحجة، بل هو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
ضعيف. أخرجه الطبري ٦٧٨٧ والواحدي ١٩٨ عن قتادة مرسلا. فهو ضعيف لإرساله.

[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٧]

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي: تدخل ما نقّصت من هذا في هذا. قال ابن عباس، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر. قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجاً وولجاً وولجة. قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «وتخرج الحي من الميْت وتخرج الميّت من الحيّ»، و «لبلد ميت» «١»، وأَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً «٢»، ووَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً «٣»، والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «٤» : كله بالتخفيف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ولِبَلَدٍ مَيِّتٍ وإِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «٥»، وخفف حمزة، والكسائي غير هذه الحروف. وقرأ نافع: «أو من كان ميِّتاً»، و «الأرض الميِّتة»، و «لحم أخيه ميّتا» «٦»، وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو علي: الأصل التثقيل، والمخفف محذوف منه، وما مات، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال. وأنشدوا:
ومنهل فيه الغراب مَيتُ سَقَيتُ مِنه القومَ واستقيت
فهذا قد مات. وقال آخر: «٧»
ليسَ مَن ماتَ، فاستراحَ بميتٍ إِنما المَيْتُ ميّت الأحياء
فخفف ما مات، وشدد ما لم يمت. وكذلك قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «٨». ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة، وهي ميتة. وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور. والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء. والثالث: أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة، والنواة الميّتة من النخلة الحية، قاله السدي. وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي.
قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ أي: بغير تقتير. قال الزجاج: يقال للذي ينفق موسعاً: فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١) الأعراف: ٥٧.
(٢) الأنعام: ١٢٢.
(٣) الأنعام: ١٣٩.
(٤) يس: ٣٣.
(٥) فاطر: ٩.
(٦) الحجرات: ١٢.
(٧) هو عدي بن الرّعلاء. كما في «اللسان».
(٨) الزمر: ٣٠.
(١٦٨) أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حُلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(١٦٩) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(١٧٠) والثالث: أن قوماً من اليهود، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الآية. روي عن ابن عباس أيضا.
(١٧١) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، وابن حيان.
فأما التفسير، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال في المكان. ومعنى فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي: فالله بريء منه. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قرأ يعقوب والمفضل عن عاصم «تَقيِّةً» بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدّنيا. قال أبو العالية: التقاة باللسان لا بالعمل.
فصل: والتقية رخصة، وليست بعزيمة. قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال: إِذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «١»، إن شاء الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٩]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٢ عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. وانظر «تفسير القرطبي» ٤/ ٦٠.
واه بمرة. ذكره الواحدي ٢٠١ عن الكلبي به، والكلبي متهم بالكذب وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي فالخبر ساقط.
ضعيف. أخرجه الطبري ٦٨٢١ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده ضعيف لجهالة محمد شيخ ابن إسحاق.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان. وهو كذاب. وعزاه لمقاتل بن حيان، وهو ذو مناكير. وذكره البغوي ٢٩١ بدون إسناد.
__________
(١) النحل: ١٠٦.
قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ قال ابن عباس: يعني من اتّخاذ الكافرين أولياء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٠]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً قال الزجاج: نصب «اليوم» بقوله:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقاً بالمصير، والتقدير:
والى الله المصير يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان: أحدهما: وجوده مكتوباً في الكتاب. والثاني: وجود الجزاء عليه. والأمد:
الغاية. قال الطرماح:
كلُّ حيٍّ مُسْتَكْملٌ عِدَة العم رِ ومُودٍ إِذا انقضى أمَدُه
يريد: غاية أجله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣١]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١٧٢) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقف على قريش، وقد نصبوا أصنامهم. فقالوا: يا محمد إِنما نعبد هذه حباً لله، ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(١٧٣) والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحبَّاؤه، فنزلت هذه الآية، فعرضها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(١٧٤) والثالث: أن ناساً قالوا: إنّا لنحب ربنا حبّاً شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل هذه الآية، قاله الحسن، وابن جريج.
(١٧٥) والرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما نقول هذا في عيسى حباً لله وتعظيماً له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
باطل. لا أصل له عن ابن عباس، فالضحاك لم يلق ابن عباس وهو بدون إسناد كما ذكره الواحدي في «الوسيط» ١/ ٤٢٩ من رواية الضحاك عن ابن عباس فلا حجة فيه وهو منكر، وعزاه في «الأسباب» ٢٠٣ لابن عباس من طريق جويبر عن الضحاك وجويبر ابن سعيد، وهو متروك. ليس بشيء. ثم إن هذه السورة مدنية، والحديث يدل على أن ذلك كان في مكة؟!.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٤ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط. الكلبي متهم بالكذب، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس.
أخرجه الطبري ٦٨٤٠ عن الحسن، ومراسيل الحسن واهية. وورد من مرسل ابن جريج، أخرجه برقم ٦٨٤٢ ومراسيل ابن جريج ساقطة.
ضعيف. أخرجه الطبري ٦٨٤٤ هكذا مرسلا عن محمد بن جعفر، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٥ عن محمد بن جعفر بن الزبير.
قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٧٦) أحدها: أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(١٧٧) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبّاً لله مما تدعونا إليه، فنزلت قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ونزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. والثالث:
أنها نزلت في نصارى نجران «١»، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٣]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ، قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه. وفيه ثلاث لغات: صَفوة، وصِفوة، وصُفوة. وأما آدم فعربي وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة». وأما نوح، فأعجمي مُعربّ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن، وإنما سمي نوحاً، لكثرة نوحه. وفي سبب نوحه خمسة أقوال: أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرقاشي. والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه. والثالث: لمراجعته ربه في ولده. والرابع:
لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس: أنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه:
أعِبتني يا نوح أم عبت الكلب؟
وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آل إبراهيم» هو نفسه، كقوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «٢»، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان: أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن ووهب. والثاني: أنه والد موسى وهارون، قاله مقاتل.
وفي «آله» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن. والثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آله» نفسه، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم.
وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر
هو مكرر الحديث ١٧٣، وإسناده ساقط. وليس في هذا الأقوال شيء صحيح ولا حسن، ولا يلزم في كل آية وجود سبب لنزولها كما يظنه الكلبي ومقاتل وجويبر وغيرهم، وعامة ما يرويه هؤلاء موضوع.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك كذاب.
__________
(١) هو المتقدم برقم ١٧٥.
(٢) البقرة: ٢٤٨.
الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم، كما ذكرنا في «البقرة».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٤]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، قال الزجاج: نصْبُها على البدل، والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض. قال ابن الأنباري: وإنما قال: بعضها، لأن لفظ الذرية مؤنث، ولو قال: بعضهم، ذهب إلى معنى الذرية. وفي معنى هذه البعضية قولان: أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين، لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه في التّناسل، لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير. قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله:
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أن الأبناء ذرية للآباء، والآباء ذرية للأبناء كقوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «١»، فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله: ذرأ الله الخلق، فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين، ومثله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، فأضاف الحب إلى الله، والمعنى: كحب المؤمن لله، ومثله وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، فأضاف الحبّ إلى الطعام.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٥]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ، في «إذ» قولان: أحدهما: أنها زائدة، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنها أصلٌ في الكلام، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرّد، والأخفش. والثاني: أن العامل في إِذْ قالَتِ معنى الاصطفاء، فيكون المعنى:
اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم، هذا اختيار الزجاج.
والثالث: أنها من صلة «سميعٌ» تقديره: والله سميعٌ إذ قالت، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنة، وهي أم مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس ب «عمران أبي موسى»، وليست هذه مريم أخت موسى. وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة. والمحَرّر: العتيق. قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام، وحررته: سواء. وأرادت: أي: نذرت أن أجعل ما في بطني محرراً من التعبيد للدنيا، ليعبدك. وقال الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم. وقال ابن اسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل. قال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلّمه القرآن، والفقه، وعلم الدّين، صحّ النّذر.
(١) يس: ٤١. [.....]

[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٦]

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصاً ويعقوب (بما وضعْتُ) بإسكان العين، وضم التاء. وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء، وفتح العين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: إني وضعتها أُنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت. ومن قرأ بضم التاء، فهو كلام متصل من كلام أمّ مريم.
قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، من تمام اعتذارها، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر، من خدمته المسجد، والإقامة فيه، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس. قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام، فلما وضعت جارية، اعتذرت. ومريم: اسم أعجمي. وفي الرّجيم قولان:
أحدهما: أنه الملعون، قاله قتادة. والثاني: أنه المرجوم بالحجارة، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا سُمي رجيماً، لأنه يرمى بالنّجوم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وقرأ مجاهد (فتقبَّلْها) بسكون اللام «ربَّها» بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء. قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبَّلها بتقبُّل حسن، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولاً يقال: قبلت الشيء قَبولاً، ويجوز قُبولا: إذا رضيته.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، أي: جعل نشوءها نشوءاً حسناً، وجاء «نباتاً» على غير لفظ أنبت، على معنى:
نبتت نباتاً حسناً. وقال ابن الأنباري: لما كان «أنبت» يدل على نبت حمل الفعل على المعنى، فكأنه قال: وأنبتها، فنبتت هي نباتاً حسناً. قال امرؤ القيس:
فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى ورقَّ كَلامُنَا ورضتُ فذلَّت صعبةٌ أيَّ إِذلال
أراد: أي رياضة، فلما دل «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى.
وللمفسرين في معنى النبات الحسن، قولان:
أحدهما: أنه كمال النشوء، قال ابن عباس: كان تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام.
والثاني: أنه ترك الخطايا، حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم.
قوله تعالى: وَكَفَّلَها، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كفلها» بفتح الفاء خفيفة، و «زكرياء» مرفوع ممدود. وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء، ونصب «زكرياء»، وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر. وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و «زكريا» مقصور في كل القرآن. وكان حمزة والكسائي يشددان و «كفلها»، ويقصران «زكريا» في كل القرآن. فأما «زكريا» فقال الفراء: فيه ثلاث لغات: أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء، مقصور، وزكرياء، ممدود، وأهل نجد يقولون: زكري، فيجرونه، ويلقون الألف. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، عن ابن
276
دريد، قال: زكريا اسم أعجمي، يقال: زكريُّ، وزكرياء ممدود، وزكريا مقصور. وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء، فمن قال: زكرياء بالمد، قال في التثنيه: زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال:
زكريا بالقصر، قال في التثنيه زكريان كما نقول: مدنيان، ومن قال: زكري بتخفيف الياء، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء.
(الإشارة إلى كفالة زكريا مريم) قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها، عندي أختها، فأبوا، وخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فجرت الأقلام، وثبت قلم زكريا، فكفلها، قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا، فقالوا:
نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها، فصعد قلم زكريا، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء. وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب، ومعه المفتاح، لا يأمن عليه أحداً، وكانت إذا حاضت، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى، فاذا طهرت، ردها إلى بيت المقدس. والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة، وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة، لأجل أن أمها ماتت وكانت خالتها عنده. فلما بلغت، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة، لأجل سنة أصابتهم. فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده، فقالوا: ونحن أيضاً كذلك، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا، فخرج السهم على جريج النجار، وكان فقيراً، وكان يأتيها باليسير، فينمي، فدخل زكريا، فقال: ما هذا على قدر نفقة جريج، فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله. والصحيح ما عليه الأكثرون، وأن القوم تشاحوا على كفالتها، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران، كذلك قال قتادة في آخرين، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها.
فأما المحراب فقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس، ومقدمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد. وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة. وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف. قال الشاعر «١» :
ربَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها لَمْ ألقها أو أرتقي سلماً
قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قال ابن عباس: ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول الجماعة. قوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب «٢»، فإذا دخل وجد عندها رزقاً. وقال الحسن: لم ترتضع ثدياً قط، وكان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فتكلمت وهي صغيرة، وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون
(١) هو وضّاح اليمن- واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل.
(٢) هذا من الإسرائيليات المنكرة، فلماذا هذه الأبواب السبعة؟!!!.
277
قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها. وما عليه الجمهور أصح. والحساب في اللغة:
التقتير والتضييق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية المعجبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر. ومِنْ لَدُنْكَ بمعنى: من عندك. والذرية، تقال للجمع، وتقال للواحد، والمراد بها هاهنا: الواحد. قال الفراء: وإنما قال:
طيبة، لتأنيث الذرية، والمراد بالطيبة: النقيّة الصالحة. والسميع: بمعنى السامع. وقيل: أراد مجيب الدّعاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٩]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «فنادته» بالتاء، وقرأ حمزة، والكسائي: «فناداه» بألف ممالة، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ «١». وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس: «فناداه» بألف. وفي الملائكة قولان: أحدهما:
جبريل وحده، قاله السدي، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس. والثاني: أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطبري. وفي المحراب قولان: أحدهما: أنه المسجد. والثاني: أنه قبلة المسجد. وفي تسمية محراب الصلاة محراباً، ثلاثة أقوال: أحدها: لانفراد الإمام فيه، وبُعده من الناس، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة، وتباعد، ذكره ابن الأنباري عن أبيه، عن أحمد بن عبيد. والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، وأشرف المسجد مقام الإمام. والثالث: أنه من الحرب، فالمصلي محارب للشيطان.
قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله، فلما حذف الجار منها، وصل الفعل إليها، فنصبها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بكسر «إنَّ» فأضمر القول.
والتقدير: فنادته، فقالت: إن الله يبشرك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يبشرك» بضم الياء، وفتح الباء، والتشديد في جميع القرآن إلا في «حم عسق» : يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «٢» فإنهما فتحا الياء وضما الشين، وخففاها. فأما نافع، وابن عامر، وعاصم، فشددا كل القرآن. وقرأ حمزة: «يبشر» خفيفاً في كل القرآن، إلا قوله تعالى: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «٣». وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع، في (آل عمران) في قصة زكريا، وقصة مريم، وفي بني (إسرائيل) وفي (الكهف) وفي (حم عسق)، قال الزجاج: وفي «يبشرك» ثلاث لغات: أحدها: يبشرك بفتح الباء وتشديد الشين. والثانية: «يبشرك» باسكان الباء، وضم الشين. والثالثة: «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء، فمعنى «يبشّرك» بالتشديد
(١) يوسف: ٣٠.
(٢) الشورى: ٢٣.
(٣) الحجر: ٥٤.
278
و «يبشرك» بضم الياء: البشارة. ومعنى «يبشرك» بفتح الياء: يَسُرّك ويفرحك، يقال: بشَرت الرجل أبشره،: إذا أفرحته، وبشر الرجل يبشر: وأنشد الأخفش والكسائي:
وإِذا لقيت الباهشين الى النّدى غُبْراً أكفُّهُم بقاعٍ مُمحِل
فأعنهمُ وابشَرْ بِما بَشِروا به واذا هُمُ نزلوا بضنك فانزل «١»
فهذا على بشر يبشَر: إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشَرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومنه قولهم:
يلقاني ببشر، أي: بوجهٍ منبسط.
وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال: أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه. قاله ابن عباس.
والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان. قاله قتادة. والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل. والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، قاله الزجاج. والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة، فلم يعص، ولم يَهمَّ، قاله الحسن بن الفضل.
وفي «الكلمة» قولان: أحدهما: أنها عيسى، وسمي كلمة، لأنه بالكلمة كان، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة والسدّي، ومقاتل، وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى. والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين. ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة، أي: قصيدة.
وفي معنى السيد ثمانية أقوال: أحدها: أنه الكريم على ربه، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني:
أنه الحليم التقي، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه الحكيم، قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وأبو الشعثاء والربيع ومقاتل. والرابع: أنه الفقيه العالم، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه التقي، رواه سالم عن ابن جبير. والسادس: أنه الحَسَن الخلق، رواه أبو روق عن الضحاك. والسابع: أنه الشريف، قاله ابن زيد. والثامن: أنه الذي يفوق قومَه في الخير، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا الرئيس، والإمام في الخير.
فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء، وهو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: محبوس عنهن. وأصل الحصر: الحبس. ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول» : ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب، وهيوب بمعنى مهيب، واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النّساء.
(١٧٨) فروى عمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا
ضعيف جدا، والصحيح موقوف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير ١/ ٣٦٩ من حديث عمرو بن العاص مرفوعا. وقال ابن كثير: هذا غريب جدا، ثم كرره ابن أبي حاتم موقوفا وهو أصح من المرفوع وأخرجه من حديث أبي هريرة اه. قلت وفي إسناد حديث أبي هريرة حجاج بن سليمان قال أبو زرعة: منكر الحديث.
انظر الميزان، ورجّح السيوطي في «الدر»
٢/ ٢٢ الوقف فيه ومع ذلك هو منكر، وهو من الإسرائيليات، فإن ابن عمرو روى عن أهل الكتاب، وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» ١٦٦٦، ويأتي تفصيل ذلك في سورة مريم.
__________
(١) البيتان لعبد قيس بن خفاف البرجمي كما ورد في «لسان العرب» مادة «بشر». وبشر الرجل: فرح. والبهش:
المسارعة إلى أخذ الشيء، ورجل باهش وبهوش. والقاع: الأرض الحرّة الطين التي لا يخالطها رمل فيشرب ماءها. الممحل: من المحل الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض.
279
ما كان من يحيى بن زكريا» قال: ثم دلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال:
«وذلك أنّه لم يكن له ما للرّجال إلا مثل هذا العود، ولذاك سماه الله سيداً وحصوراً» وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة.
والثاني: أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس والضحاك. والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء، قاله الحسن وقتادة والسدي. والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماوردي «١».
قوله تعالى: وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن الأنباري: معناه: من الصّالحي الحال عند الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)
قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون؟!. قال الكميت:
أنى ومن أينَ آبَكَ الطرب «٢» قال العلماء، منهم الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان: كأنه قال: من أي وجه يكون لي الولد؟
أيكون بازالة العقر عن زوجتي، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك، قال الزجاج: يقال: غلام بيّن الغلوميَّة، وبين الغلاميَّة، وبين الغلومة.
قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال، من الغُلمة، وهي شدة شهوة النكاح، ويقال للكهل:
غلام. قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
غلام إِذا هزَّ القناة سقاها «٣» وكأن قولهم للكهل: غلام، أي: قد كان مرة غلاماً. وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: سيصير غلاماً. قال: وقيل: الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية: غلامة. قال الشاعر «٤» :
يهان لها الغلامة والغلام قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: وقد بلغت الكبر، قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك. وفي سنة يومئذ ستة أقوال: أحدها: أنه كان ابن مائة وعشرين سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة. والثالث: ابن خمس وسبعين، قاله
(١) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٦١: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان (حصورا). معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، معصوم عن الفواحش والقاذورات. ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا عليه السّلام (هب لي من لدنك ذرية طيبة) كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) صدره: من حيث لا صبوة ولا ريب.
(٣) صدره: شفاها من الداء العضال الذي بها.
(٤) هو أوس بن غلفاء الهجيمي. وصدر بيته: ومركضة صريحيّ أبوها.
مقاتل. والرابع: ابن سبعين، حكاه فضيل بن غزوان. والخامس: ابن خمس وستين. والسادس: ابن ستين، حكاهما الزجاج. قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه الولد، وإنما قال:
«عاقر» ولم يقل: عاقرة، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكر فيه كالمستعار، فأجري مجرى «طالق» و «حائض»، هذا قول الفرّاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على وجود الحمل. وفي علة سؤاله «آية» قولان:
أحدهما: أن الشيطان جاءه، فقال: هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي الله، لأوحاه إليك، كما يوحي إليك غيره، فسأل الآية، ذكره السدي عن أشياخه. والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجل السرور، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام. فأما «الرَمز» فقال الفراء: الرمز بالشفتين، والحاجبين، والعينين، وأكثره في الشفتين. قال ابن عباس: جعل يكلم الناس بيده، وإنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذكر لله تعالى. وقال ابن زيد: كان يذكر الله، ويشير إلى الناس. وقال عطاء بن السائِب: اعتُقِلَ لسانه من غير مرض. وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آيةً على وجود الحمل. وقال قتادة، والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبةً له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة.
قوله تعالى: وَسَبِّحْ قال مقاتل: صل. قال الزجاج: يقال: فرغت من سُبحتي، أي: من صلاتي. وسمّيت الصلاة تسبيحاً، لأن التسبيح تعظيم الله، وتبرئته من السوء، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء. قوله تعالى: بِالْعَشِيِّ العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار وَالْإِبْكارِ ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى: قال الشاعر:
فلا الظلَّ في بَردِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ولا الفيءَ مِن بردِ العشيّ يذوق
قال الزجاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إِبكاراً، وبكر يبكر تبكيراً، وبكر يبكر في كل شيء تقدّم فيه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٢]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ، قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده، وقد سبق معنى الاصطفاء. وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال: أحدها:
أنه التطهير من الحيض، قاله ابن عباس. وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. وقال قوم: من الحيض والنفاس. والثاني: من مس الرجال، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: من الكفر، قاله الحسن ومجاهد. والرابع: من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل. وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال: أحدها: أنه تأكيد للأول. والثاني: أن الأول للعبادة. والثاني لولادة عيسى عليه السلام. والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين.
والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الاول، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. قال ابن
عباس، والحسن، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٣]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قد سبق شرح القنوت في «البقرة»، وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه العبادة، قاله الحسن. والثاني: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد. والثالث:
الطاعة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد. والرابع: الإخلاص، قاله سعيد بن جبير.
وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال: أحدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تؤذن بالجمع، فالركوع مقدّم، ذكره الزجاج في آخرين. والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال، والركوع في حال، لا أنهما يجتمعان في ركعة، فكأنه حثٌ لها على فعل الخير. والثالث: أنه مقدم ومؤخر، والمعنى: اركعي واسجدي، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «١» ذكرهما ابن الأنباري. والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال مقاتل: ومعناه اركعي مع المصلين قُرَّاء بيت المقدس. قال مجاهد: سجدت حتى قرحت.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم من قصّة زكريا، ويحيى، وعيسى، ومريم. والأنباء: الأخبار. والغيب: ما غاب عنك. والوحي: كل شيء دللت به من كلام أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة، قاله ابن قتيبة. والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة. وفي الأقلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي. والثاني: أنها العصيّ، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها القداح، وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة. وإنما قيل للسهم:
القلم، لأنه يقلم، أي: يبرى. وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء، فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به، لأنه قُلم مرة بعد مرة، ومنه: قلمت أظفاري. قال: ومعنى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها. ومعنى لَدَيْهِمْ: عندهم. وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفاً.
وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول الله له: «كن» فكان، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان. والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى، وسمي كلمة، لأنه كان عن الكلمة. وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى. وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال: أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من القدم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه
(١) آل عمران: ٥٥.
الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد. والرابع: أن معنى المسيح:
الصديق قاله مجاهد، وإبراهيم النخعي، وذكره اليزيدي. قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى هذا أن الله مسحه، فطهره من الذنوب. والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، ذكره ثعلب. وبيانه: أنه كان كثير السياحة. والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم. وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين: أحدهما: المسيح الدجال، والأصل فيه: الممسوح، لأنه ممسوح أحد العينين. والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية «مشيحا» بالشين، فلما عربته العرب، أبدلت من شينه سيناً، كما قالوا: موسى، وأصله بالعبرانية موشى. قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه، فقال: المسيح عيسى ابن مريم، لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قل أن يقع على سميٍّ يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم. فأما قوله: عيسى ابن مريم، فإنما نسبه إلى أمه لينفي ما قاله عنه الملحدون من النصارى، إذ أضافوه إلى الله تعالى.
قوله تعالى: وَجِيهاً قال ابن زيد: الوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول. وقال ابن قتيبة:
الوجيه: ذو الجاه. وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال: قد وجُه الرجل يوْجُه وجاهة، ولفلان جاه عند الناس، أي: منزلة رفيعة. قوله تعالى: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قال قتادة: عند الله يوم القيامة. والمهد: مضجع الصبي في رضاعه، وهو مأخوذ من التمهيد، وهو التوطئة.
وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان: أحدهما: لتبرئة أمه مما قذفت به. والثاني: لتحقيق معجزته الدالة على نبوته. قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق.
وَكَهْلًا قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله. وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله. وقال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن أربى عليها، فقد دخل في الكهولة. والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين، وإنما سمي الكهل كهلاً، لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات. وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشّيب. فإن قيل: فقد علم أن الكهل يتكلم، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي: أنه يبلغ الكهولة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: وَكَهْلًا قال: ذلك بعد نزوله من السماء. والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه هذا التغير، ذكره ابن جرير الطبري. والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم، قاله مجاهد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ في علة قولها هذا قولان: أحدهما: أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً، لا شكاً وإنكاراً، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور. والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً، ولهذا قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
فلما بشّرها
لم تتيقن صحة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي: ولم يقربني زوج. والمس: الجماع، قاله ابن فارس. وسمي البشر بشراً، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها. وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح: أوائله. قال: يعني جبريل: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: بسبب، وبغير سبب. وباقي الآية مفسّر في «البقرة».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٨]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قرأ الأكثرون «ونعلمه» بالنون. وقرأ نافع، وعاصم بالياء، فعطفاه على قوله «يبشرك». وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه كُتُبُ النبيين وعلمهم، قاله ابن عباس. والثاني:
الكتابة، قاله ابن جريج ومقاتل. قال ابن عباس: والحكمة الفقه وقضاء النّبيين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٩]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
قوله تعالى: وَرَسُولًا قال الزجاج: ينتصب على وجهين: أحدهما: ونجعله رسولاً، والاختيار عندي: ويكلم الناس رسولاً.
قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ قرأ الأكثرون «أني» بالفتح، فجعلوها بدلاً من آية، فكأنه قال: قد جئتكم بأنّي أخلق، وقرأ نافع بالكسر، قال أبو علي «١» : يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً.
والثاني: أنه فسر الآية بقوله: إني أخلق، أي: أصور وأقدر. قال ابن عباس: أخذ طيناً، وصنع منه خفاشاً، ونفخ فيه، فاذا هو يطير، ويقال: لم يصنع غير الخفاش، ويقال: إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش.
فسألوه أشدّ الطير خلقا، لأنه يطير من غير ريش. وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه، فاذا غاب عن أعينهم، سقط ميتاً، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق. والأكثرون قرءوا فَيَكُونُ طَيْراً وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) «طائراً» قال أبو علي: حجة الجمهور قوله تعالى:
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ولم يقل: كهيئة الطائر. ووجهة قراءة نافع، أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه، طائراً.
وفي «الأكمه» أربعة أقوال: أحدها: أنه الذي يولد أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيدي، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الأعمى، ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن، والسدي، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى، وإن كان بصيراً. والثالث: أنه الأعمش، قاله عكرمة. والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد والضحاك.
(١) هو الفارسي النحوي صاحب كتاب «الحلبيات» في اللغة والأدب.
والأبرص: الذي به وضح. وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص، وكان ذلك دليلاً على صدقه.
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، وإنما كان يداويهم بالدعاء. وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموتى. وعن ابن عباس: أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له، إلا سام بن نوح.
قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قال سعيد بن جبير: كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيّئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وبما خبأتم منه. وعلى هذا المفسرون، إلا أن قتادة كان يقول: وأنبئُكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدَّخروا، فلما خانوا، مسخوا خنازير.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
قوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ قال الزجاج: نصب «مصدقاً» على الحال، أي: وجئتكم مصدقاً وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب «١» وأشياء من الطير، فأحلها عيسى. قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ أي: بآيات تعلمون بها صدقي وإنما وحد، لأن الكل من جنس واحد مِنْ رَبِّكُمْ أي: من عند ربّكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٢]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي: علم. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسستُ بالشيء، وحسست به، وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال: حسه: إذا قتله. والأنصار: الأعوان. و «إِلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة، قال الزجاج: وإنما حسنت في موضع «مع» لأن «إِلى» غاية و «مع» تضم الشيء بالشيء.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله. واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريّين. وقال غيره:
لما كفر به قومه، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين. وقيل: استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجة. والجمهور على تشديد «ياء» الحواريّين. وقرأ الجونيّ، والجحدريّ، وأبو حياة: الحواريون بتخفيف الياء.
وفي معنى الحواريّين أقوال: أحدها: أنهم الخواص الأصفياء، قال ابن عباس: الحواريون:
أصفياء عيسى. وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى. وقال الزجاج: الحواريون في اللغة: الذين أخلصوا،
(١) في «اللسان» : الثّرب: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء، وجمعه ثروب.
ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق: الحوّاري، إنما سمي بذلك، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه.
قال حذاق اللغويين: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم.
ويقال: عين حوراء: إذا اشتد بياضها، وخلص، واشتد سوادها، ولا يقال: امرأة حوراء، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء. والثاني: أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك، لبياض ثيابهم. والثالث: أنهم القصارون، سموا بذلك، لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي:
يبيضونها. قال الضحاك، ومقاتل: الحواريون: هم القصارون. قال اليزيدي: ويقال للقصارين:
الحواريون، لأنهم يبيضون الثياب، ومنه سمي الدقيق: الحُوَّارى، والعين الحوراء: النقية المحاجر.
والرابع: الحواريون: المجاهدون. وأنشدوا:
ونحن أناسٌ يملأ البَيض هامنا ونحن حواريون حين نزاحف
جَماجِمُنا يوم اللقاء تراسُنا إِلى الموت نمشي ليس فينا تحانف «١»
والخامس: الحواريون: الصيادون. والسادس: الحواريون: الملوك «٢»، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري. قال ابن عباس: عدد الحواريين اثنا عشر رجلاً. وفي صناعتهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضحاك، وأبو أرطاة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٣]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
قوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ هذا قول الحواريين. والذي أنزل: الإنجيل. والرسول:
عيسى. وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال: أحدها: أنهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، رواه عكرمة عن ابن عباس «٣». والثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الأنبياء، لأن كل نبي شاهد أمته، قاله عطاء. والرابع: أن الشاهدين:
الصادقون، قاله مقاتل. والخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتّصديق. فمعنى الآية: واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا، هذا قول الزجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٤]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع، ومن الله عزّ وجلّ: المجازاة، فسمي باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «٤»،
(١) في «اللسان» : الحنف: الاعوجاج في الرّجل. [.....]
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٦٥: والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبي حواريّ وحواري الزبير».
(٣) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٦٥: قوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس. وهذا إسناد جيد اه.
- قلت: ولعل الراجح قول الزجاج وهو الأخير، فإنه عامّ شامل.
(٤) البقرة: ١٥.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، لأن مكره مجازاة، ونصر للمؤمنين. قال ابن عباس: ومكرهم، أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة «١»، فدخل رجل منهم، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم، ظنّوه عيسى، فقتلوه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قال ابن قتيبة: التوفي، من استيفاء العدد يقال:
توفيت، واستوفيت، كما يقال: تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة، وتوف. وأنشد أبو عبيدة «٢» :
إِنَّ بني الأدرد ليسوا من أحدٍ ليسوا إِلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد أي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء: التمام. وفي هذا التوفي قولان: أحدهما: أنه الرفع إلى السماء. والثاني: أنه الموت. فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيماً من غير تقديم ولا تأخير، ويكون معنى «متوفيك» قابضك من الأرض وافياً تاماً من غير أن ينال منك اليهود شيئاً، هذا قول الحسن، وابن جريج، وابن قتيبة، واختاره الفراء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ «٣»، أي: رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه، لا بعد موته. وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، هذا قول الفراء، والزجاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته «٤». قال سعيد بن المسيب: رُفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان. وقيل: عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. ويقال: ماتت قبل رفعه.
قوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه قولان: أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم.
والثاني: منعهم من قتله «٥». وفي الذين اتبعوه قولان: أحدهما: أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليه السلام، لأنهم صدقوا بنبوته، وأنه روح الله وكلمته، وهذا قول قتادة، والرّبيع، وابن السّائب. والثاني:
(١) في «اللسان» : الخوخة: مخترق ما بين كل دارين لم ينصب عليها باب.
(٢) الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان» مادة (وفي).
(٣) المائدة: ١١٧.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٦٦: قال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
(٥) وقع في المطبوع: قبله، والتصويب من «تفسير الماوردي» ١/ ٣٩٧.
أنهم النصارى، فهم فوق اليهود، واليهود مستذلون مقهورون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني الدّين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٦]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: هم اليهود والنصارى. وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية، وفي الآخرة بالنّار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٧]
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قرأ الأكثرون بالنون، وقرأ الحسن، وقتادة، وحفص عن عاصم: «فيوفيهم» بالياء معطوفاً على قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يعني ما جرى من القصص. مِنَ الْآياتِ يعني الدلالات على صحة رسالتك، إذ كانت أخباراً لا يعلمها أميٌ. وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ قال ابن عباس: هو القرآن. قال الزجاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٩]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في أمر عيسى، وقد ذكرناه في أول السورة «١». فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعاً من غير أب.
وقوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني: آدم. قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم. وليس بحال.
قوله تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ يعني آدم، وقيل لعيسى كُنْ فَيَكُونُ أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي، كقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «٢» أي: ما تلت.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٠]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى:
الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: الشاكين. والخطاب للنبي خطابٌ للخلق، لأنه لم يشك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى. والثاني:
(١) تقدم برقم ١٥٣.
(٢) البقرة: ١٠٢.
إلى الحق. والعلم: البيان والإيضاح.
قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا قال ابن قتيبة: تعال: تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين. قال الفراء: أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة «هلم» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف: تعال، أي: اهبط.
وإنما أصلها: الصعود. قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة، والحسن، والحسين. وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص قال:
(١٧٩) لما نزلت هذه الآية تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».
قوله تعالى: وَأَنْفُسَنا فيه خمسة أقوال: أحدها: أراد علي بن أبي طالب، قاله الشعبي.
والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه. والثاني: أراد الإخوان، قاله ابن قتيبة. والثالث: أراد أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أراد الأزواج. والخامس: أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري. فأما الابتهال، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللَّعن، يقال: عليه بَهلةُ الله، وبُهلته، أي: لعنته. وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء وأصله: الالتعان، يقال: بهله الله، أي: لعنه. وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة.
(١٨٠) قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السيّد والعاقب فذكر الحديث.. إلى أن قال:
فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يغادياه، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه، فأقرا له بالخراج فقال: «والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي نارا»
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٢]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ قال الزجاج: دخلت «مِن» هاهنا توكيداً ودليلاً على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٣]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عن الملاعنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد هاهنا قولان: أحدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله
صحيح. أخرجه مسلم ٢٤٠٤ والترمذي ٢٩٩٩ والحاكم ٣/ ١٤٧ من حديث سعد، وفيه قصة.
انظر «تفسير الشوكاني» ٥٠٤.
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٢٤٤ والواحدي ٢٠٩ من حديث جابر، وفيه بشر بن مهران الخصاف، قال ابن أبي حاتم: ترك أبي حديثه وفيه أيضا محمد بن دينار، وهو ضعيف. وقد جعل الواحدي كلام جابر الأخير من كلام الشعبي، ويؤيد ذلك هو أن الحاكم أخرج حديث جابر ٢/ ٥٩٣ دون كلام جابر. وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
مقاتل. والثاني: الكفر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله قتاده، وابن جريج، والربيع بن أنس. والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى، قاله السدي ومقاتل. والثالث: أهل الكتابين جميعاً «١»، قاله الحسن.
وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان، فبعث بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة. فقرأها جعفر، والنجاشي جالس، وأشراف الحبشة.
فأما «الكلمة» فقال المفسرون هي: لا إله إلا الله. فإن قيل: فهذه كلمات، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات. قال اللغويون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال، تقول العرب قال زهير في كلمته يراد في قصيدته: قالت الخنساء:
وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا ن تبقى ويذهبُ من قالها
تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ أبت أن تزايل أو عالها «٢»
نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها ولم ينطق الناس أمثالها
فأوقعت القافية على القصيدة كلّها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، وإنما سمّيت قافية، لأن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسمّيت قافية، من قول العرب: قفوت فلانا:
إذا اتّبعته، وإلى هذا الجواب يذهب الزجّاج وغيره.
والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة:
بها جيف الحسرى فأمّا عظامها فبيض وأمّا جلدها فصليب
أراد: وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ.
قوله تعالى: سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ قال الزجّاج: يعني بالسّواء العدل، وهو من استواء الشيء، ويقال: للعدل سواء وسواء. قال زهير بن أبي سلمى:
أروني خطّة لا ضيم فيها يسوّي بيننا فيها السّواء
فإن تركا السّواء فليس بيني وبينكم بني حصن بقاء
قال: وموضوع «أن» في قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ خفض على البدل من «كلمة» المعنى:
(١٨١) لم أقف له على إسناد، وهو غريب جدا، ويأتي في مطلع سورة مريم شيء من هذا.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٧١: هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم.
(٢) في «اللسان» سنان الرمح: حديدته لصقالتها، وملاستها. القد: القطع المستأصل والشق طولا. الذؤابة: ذؤابة كل شيء أعلاه. يذبل: جيل في أقصى أرض بني كلاب. تزايل: من تزيّل: تفرّق.
تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. وجائز أن يكون «أن» في موضوع رفع، كأن قائلاً قال: ما الكلمة؟
فأجيب، فقيل: هي ألاّ نعبد إلا الله.
قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة. والثاني: لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، قاله ابن جريج. والثالث:
لا نجعل غير الله رباً، كما قالت النصارى في المسيح، قاله مقاتل والزجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ. قال ابن عباس والحسن والسدي:
(١٨٢) اجتمع عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا. فنزلت هذه الآية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٦]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ قرأ ابن كثير «ها أنتم» مثل: هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد: أأنتم. وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدوداً استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «ها أنتم» ممدوداً مهموزاً ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و «أولاء».
قوله تعالى: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا قاله قتادة. والثاني: ما أُمروا به ونهوا عنه، قاله السدي. فأما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة. وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة «١». وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة. وقد سبق في «البقرة» معنى الحنيف.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
أثر ابن عباس أخرجه الطبري ٧١٩٨ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد، شيخ ابن إسحاق.
- وأثر السدي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٢/ ٧٢ وهذا مرسل.
- وأثر الحسن لم أره مسندا، وإنما ذكره الواحدي ٢١٤ بدون إسناد.
__________
(١) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات.
قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، في سبب نزولها قولان:
(١٨٣) أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لقد علمت أنَّا أولى بدين إبراهيم منك، وأنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم على دينه، قاله ابن عباس.
والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يُغضب النجاشي على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى. فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يَزِن هذا القذى، ثم أبشروا، فلا دهورة «١» اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو بن العاص: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرّهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمّار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمّد، فنزلت هذه الآية «٢»، قاله ابن عباس.
والطّائفة: اسم لجماعة مجتمعين على اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك. وفي هذه الطائفة قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود والنّصارى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والضّلال: الحيرة. وفيه هاهنا قولان: أحدهما: أنه الاستنزال عن الحقّ إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الإهلاك، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «٣» قاله ابن جرير، والدّمشقيّ.
وفي قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: وما يشعرون أنّ الله يدلّ المؤمنين على حالهم. والثاني: وما يشعرون أنهم يضلّون أنفسهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٠]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٠ عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١١ عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة.
وورد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٢/ ٧٣ وهذا مرسل، وشهر بن حوشب غير قوي. وله شاهد موصول من حديث أبي موسى: أخرجه الحاكم ٢/ ٣٠٩ وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، لكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية.
__________
(١) في «اللسان» : الدهورة: جمعك الشيء وقذفك به في مهواة ودهورت الشيء: كذلك. وفي حديث النجاشي: فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم، كأنه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم. [.....]
(٢) ذكره الواحدي ٢١٣ بدون عزو لأحد فهو ساقط، ليس بشيء. وانظر «تفسير القرطبي» ٤/ ١١٠.
(٣) السجدة: ١٠.
قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال قتادة: يعني: محمداً والإسلام وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أن بعث محمد في كتابكم، ثم تكفرون به.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح. وفي الحق والباطل أربعة أقوال:
أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباطل: كتمانهم بعض أمره. والثاني: الحق:
إيمانهم بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم غدوة، والباطل: كفرهم به عشية، رويا عن ابن عباس. والثالث: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: الحق: الإسلام. والباطل: اليهودية والنصرانية، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ قال قتادة: كتموا الإسلام، وكتموا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار، فآمنوا، وإذا كان آخره، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطية عن ابن عباس «١». وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبراً من اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، فيشك أصحابه في دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية «٢». وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. والثاني: أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، فقال قوم من علماء اليهود: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٣». قال مجاهد وقتادة، والزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله. وأنشد الزجاج «٤» :
من كان مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
(١) أخرجه الطبري ٧٢٣٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي. وهو ضعيف عن ابن عباس، فالإسناد واه.
(٢) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٤ عن الحسن والسدي بدون إسناد. وأثر السدي، أخرجه الطبري ٧٢٢٩ مع اختلاف يسير فيه. وورد من مرسل أبي مالك، أخرجه الطبري ٧٢٢٨.
(٣) عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح، وهو متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي، كذبه الجمهور. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٥ عن مجاهد ومقاتل والكلبي بدون إسناد.
(٤) البيتان لربيع بن زياد، يرثي مالك بن زهير العبسي.
يجد النساء حواسراً يَنْدبنه قد قُمن قبل تبلّج الأسحار «١»
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٣]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
قوله تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمنِّ والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم، لأنكم أصح ديناً منهم، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في «لمن» صلة، ويكون قوله تعالى:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلاماً معترضاً بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش. والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ والباقي من قول الله تعالى، لا يعترضه شيءٌ من قولهم، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلاّ أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير. وقال الفراء:
معنى: «أن يؤتى» : أن لا يؤتى. والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخرت «أن»، وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير، ودخلت اللام على جهة التوكيد، كقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «٢» أي:
ردفكم. وقال الشاعر:
ما كنتُ أخدعُ للخليل بخلَّة حتى يكون ليَ الخليلُ خَدوعا
أراد: ما كنت أخدع الخليل. وقال الآخر «٣» :
يذمّون للدنيا وهم يحلبونها أفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثُعْل
أراد: يذمون الدنيا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أن اللام غير زائدة، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود. فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمداً وأصحابه على حق، إلا لمن تبع دينكم، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق، ويحاجوكم به عند ربكم. فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي.
وقرأ ابن كثير: «أان يؤتى» بهمزتين: الأولى مخفّفة، والثانية مليّنة على الاستفهام، مثل: أانتم أعلم.
قال أبو علي: ووجهها أن «أن» في موضع رفع بالابتداء، وخبره: يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصباً، فيكون المعنى: أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى
(١) في «اللسان» : البلجة: ضوء الصبح آخر الليل عند انصداع الفجر.
(٢) النمل: ٧٢.
(٣) هو ابن همّام السّلولي كما في «اللسان» مادة (ثعل). والأفاويق: واحدها: فيقة: وهي اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ويقال شاة ثعول: تحلب من ثلاثة أمكنة وأربعة للزيادة التي في الطّبي. وإنما ذكر الثّعل للمبالغة في الارتضاع. والثعل لا يدرّ.
أحدٌ، ومثله في المعنى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ «١». وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرّف: «إن يؤتى»، بكسر الهمزة، على معنى: ما يؤتى.
وفي قوله تعالى أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه: ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة. والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبّد، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة، قاله الكسائي.
قوله تعالى: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قال ابن عباس: يعني النبوة، والكتاب، والهدى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا ما تمنَّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٤]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ في الرحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: النبوة، قاله مجاهد. والثالث: القرآن والإسلام، قاله ابن جريج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومائتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام، فأداها إليه، فمدحه الله بهذه الآية، وأودع رجل فنحاصَ بن عازوراء ديناراً، فخانه «٢». وأهل الكتاب: اليهود. وقد سبق الكلام في القنطار. وقيل. إِن «الباء» في قوله: «بقنطارٍ» بمعنى «على». فأما الدينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الدينار فارسي معرّب، وأصله: دِنّار، وهو وإِن كان معرباً، فليس تعرف له العرب اسماً غير الدينار، فقد صار كالعربيّ، ولذلك ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقوا منه فِعلاً، فقالوا: رجل مُدَنَّر:
كثير الدنانير. وبرذون «٣» مدنّر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد. فان قيل: لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك، وقد بيّته في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فحذّر منهم. وقال مقاتل: الأمانة إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم. وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى، والذين لا يؤدونها: اليهود.
قوله تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دُمتَ ودُمتم، ومُت ومُتم، وتميم يقولون: مِت ودِمت بالكسر، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت. وفي هذا القيام
(١) البقرة: ٧٦.
(٢) لا أصل له، ذكره البغوي في «تفسيره» ٣١٧ (آل عمران: ٧٥) عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، فالخبر باطل، وذكره القرطبي في «تفسيره» ٤/ ١١٤ بدون سند. وكذلك ذكره في «الكشاف» ١/ ٤٠١ بدون سند.
(٣) في «اللسان» : برذون: دابة معروفة.
قولان: أحدهما: أنه التقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة:
والمعنى: ما دمت مواظباً بالاقتضاء له والمطالبة. وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرَّف والتارك له يقعد عنه، قال الأعشى:
يقوم على الرَّغم في قومه فيعفو إِذا شاء أو ينتقم
أي: يطالب بالذّحل «١» ولا يقعد عنه. قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «٢» أي: عاملة غير تاركة، وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٣» أي: آخذ لها بما كسبت. والثاني: أنه القيام حقيقة، فتقديره: إلا ما دمت قائماً على رأسه، فإنه يعترف بأمانته، فاذا ذهبت ثم جئت، جحدك، قاله السدي.
قوله تعالى: ذلِكَ يعني: الخيانة. والسبيل: الإثم والحرج، ونظيره ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «٤» قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال السدي: يقولون: قد أحلّ الله لنا أموال العرب.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء، وأداء الأمانة. والثاني: يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
قوله تعالى: بَلى ردّ الله عزّ وجلّ عليهم قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ بقوله: بَلى قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام، ثم استأنف، فقال: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: بَلى مَنْ أَوْفى. والعهد: ما عاهدهم الله عزّ وجلّ عليه في التّوراة. وفي «هاء» بِعَهْدِهِ قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني: إلى الموفي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٨٥) أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهودي فقدّمه إلى
صحيح. أخرجه البخاري ٢٣٥٦ و ٢٣٥٧ و ٢٦٧٦ و ٢٦٧٧ و ٤٥٤٩ و ٤٥٥٠ و ٦٦٥٩، و ٦٦٦٠، و ٦٦٧٦ و ٦٦٧٧ و ٧١٨٣ و ٧١٨٤ ومسلم ١٣٨ والشافعي ٢/ ٥١ وأحمد ١/ ٤٤ و ٥/ ٢١٢ والطيالسي ٢٦٢ و ١٠٥١ وأبو داود ٣٢٤٣ والترمذي ١٢٦٩ وابن ماجة ٢٣٢٣ والطبري ٧٢٧٩ والواحدي في «أسباب النزول» ٢١٦ والبغوي ١/ ٣١٨ وابن حبان ٥٠٨٤ والبيهقي ١٠/ ٤٤ من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان قال: فقال الأشعث:
فيّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألك بينة»
قلت لا. قال، فقال لليهودي: «احلف». قال قلت: يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية».
__________
(١) في «اللسان» الذّحل: الثأر، وقيل: طلب المكافأة بجناية العداوة والحقد.
(٢) آل عمران: ١١٣. [.....]
(٣) الرعد: ٣٣.
(٤) التوبة: ٩١.
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ألك بينة» ؟ قال: لا. قال لليهودي: «أتحلف» ؟ فقال الأشعث: إذاً يحلف فيذهب بمالي. فنزلت هذه الآية. أخرجه البخاري ومسلم.
(١٨٦) والثاني: أنها نزلت في اليهود، عهد الله إليهم في التوراة تبيّن صفة النبيّ عليه السلام، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، ومقاتل.
(١٨٧) والثالث: أن رجلاً أقام سلعته في السوق أول النهار، فلما كان آخره، جاء رجل يساومه، فحلف: لقد منَعَها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذه الآية. هذا قول الشعبي، ومجاهد.
فعلى القول الأول، والثالث، العهد: لزوم الطاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوراة. واليمين: الحلف. وإن قلنا: إنها في اليهود، والكفار، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً. وإن قلنا: إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم الله كلام خير. ومعنى وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتاً لهم، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلمه معناه: أنه غضبان عليه.
قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في اليهود، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: في اليهود والنصارى، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقوله تعالى: وَإِنَّ هي كلمة مؤكدة، واللام في قوله: «لَفريقاً» توكيد زائد على توكيد «إِنَّ»، قال ابن قتيبه:
ومعنى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ: يقلبونها بالتحريف والزيادة. والألسنة: جمع لسان، قال أبو عمرو: اللسان يذكر ويؤنَّث، فمن ذكره جمعه: ألسنة، ومن أنَّثه، جمعه: ألسناً. وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكراً. وتقول: سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكِّرونه. وأنشد ابن الأعرابي:
لسانك معسولٌ ونفسُك شحَّة وعند الثريا من صديقك مالُكا
وأنشد ثعلب «١» :
(١٨٦) ضعيف. أخرجه الطبري ٧٢٧٥ عن عكرمة مرسلا. وذكره السيوطي في «اللباب» ص ٥٨، ونقل عن الحافظ قوله: الآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح اه. وهو المتقدم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٠ بدون إسناد.
أخرجه الطبري ٧٢٨٠ عن عامر الشعبي مرسلا، ورجاله ثقات، لكنه مرسل. ولأصله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أخرجه البخاري ٤٥٥١ والواحدي في «أسباب النزول» ٢١٩.
__________
(١) البيت للحطيئة كما في «اللسان» مادة «عكم».
ندِمت على لسانٍ كان مني فليت بأنَّه في جوفِ عِكْمِ «١»
والعكم: العدل. ودل بقوله: كان مني، على أن اللسان الكلام. وأنشد ثعلب:
أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر
فأنّث لسان، لأنه عنى الكلمة والرّسالة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٩]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٨٨) أحدها: أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى، قالوا: يا محمد أتريد أن نتّخذك ربّا؟
فقال: معاذ الله، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١٨٩) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا نسجد لك؟ قال «لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله» فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصري.
والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى. قاله الضحاك، ومقاتل.
وفيمن عنى ب «البشر» قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والكتاب: القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: عيسى، والكتاب: الإنجيل، قاله الضحاك، ومقاتل. والحكم: الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين. قال الزجاج: ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوَّة، والقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله، لأن الله لا يصطفي الكذبة.
قوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.
فأما الرّبّانيّون، فروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها. وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلِّمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانيّة، وذلك أن عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين.
وقال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء، وأهل العلم، قال: وسمعت رجلاً عالماً بالكتب يقول: هم العلماء
ضعيف. أخرجه الطبري ٧٢٩٤ والبيهقي في «الدلائل» ٥/ ٣٨٤ من حديث ابن عباس وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وعزاه السيوطي في «الدر» ٢/ ٨٢ لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.
ضعيف جدا. عزاه المصنف للحسن، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٣ وعزاه السيوطي في «الدر» ٢/ ٨٢ (آل عمران: ٨٠) لعبد بن حميد عن الحسن.
- تنبيه: والمرفوع منه صحيح، له شواهد، والوهن فقط في ذكر نزول الآية. والمرفوع سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(١) في «اللسان» عكم: داخل الجنب على المثل بالعكم، وهو النّمط تجعله المرأة كالوعاء تدخر فيه متاعها.
بالحلال والحرام، والأمر والنهي. وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب، لأن العلم: مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية.
قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تعْلَمون»، باسكان العين، ونصب اللام، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (تعلّمون) مثقلا، وكلهم قرءوا:
«تدرسون» خفيفة. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرّف، وأبو حياة: «تُدرِّسون»، بضم التاء مع التشديد. والدراسة: القراءة. قال الزجّاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٠]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
قوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الروايات عنه وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيدي في اختياره، بنصب الراء. وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه مما قبله. قال ابن جريج: ولا يأمركم محمّد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، قال الزجاج: موضع «إِذ» نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. قال ابن عباس: الميثاق: العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان:
أحدهما: أنه تصديق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، روي عن علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاوس. قال مجاهد والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتَّاب «١»، وهي في قراءة ابن مسعود: «وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» واحتج الربيع بقوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ. وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس والزّجّاج.
(١) باطل. أما أثر مجاهد، فأخرجه الطبري ٧٣٢١ من طريق عيسى بن أبي عيسى الرازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وإسناده واه إلى مجاهد لأجل عيسى هذا.
- وأما أثر الربيع، فأخرجه الطبري ٧٣٢٣ من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع به وأبو جعفر هو الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى، وهو المتقدم في إسناد مجاهد، وعنه ابنه عبد الله وهو واه، فهذا لا يصح عنهما، وهو قول باطل بكل حال، والصواب ما هو رسم المصحف، وهو المجمع عليه.
واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام مع التخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشدَّدة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم.
وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من الأخذ.
قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة. و «ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة من شدَّد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، لأن أخذ الميثاق يمين. وعلى قراءة من خففها، معناها:
القسم، وجواب القسم اللام في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وإنما خاطب، فقال: آتيتكم. بعد أن ذكر النبيين وهم غيَّب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطباً لهم: لما آتيتكم. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف.
قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ قال عليّ عليه السلام: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضُهم بعضاً.
والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة: أصل الإصر الثِّقل، فسمي العهد إصراً، لأنه منعٌ من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد. وكلهم كسر ألف «إصري» وروى أبو بكر، عن عاصم ضمَّه.
قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة.
قوله تعالى: قالَ فَاشْهَدُوا قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه خطاب للنّبيين ثم فيه قولان: أحدهما: أن معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل. والثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيب، فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ قرأ أبو عمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة. «وإِليه تُرجعون» بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم: «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم، يعقوب على أصله.
(١٩٠) قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كلُّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم». فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية.
والمراد بدين الله، دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد، وخضع طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع:
الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقة وإباءٍ من النفس. وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال: أحدها:
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٤ بدون إسناد. ولم أره عند غيره، فهذا متن باطل لا أصل له لخلوه عن الإسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي بسلسلته المشهورة.
أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعاً وكرهاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السدي. والثاني: أن المؤمن يسجد طائعاً، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد. والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبي العالية، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم مخافة السيف، هذا قول الحسن. والخامس: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت، وهذا قول قتادة. والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلّتهم، لا يقدر أحدهم أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشّعبيّ: انقاد كلّهم له.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)
قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٩١) أحدها: أن رجلاً من الأنصار ارتدَّ، فلحق بالمشركين، فنزلت هذه الآية، إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فكتب بها قومه إليه، فرجع تائبا فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه وخلَّى عنه. رواه عكرمة عن ابن عباس. وذكر مجاهد والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد.
والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع «١». رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم كفروا به.
رواه عطية عن ابن عباس «٢». وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. وقيل: إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي الله هؤلاء.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٨٥ وأحمد ١/ ٢٤٧ وابن حبان ٤٤٦٠ والحاكم ٢/ ١٤٢ و ٤/ ٣٦٦ والطبري ٧٣٥٨ والبيهقي ٨/ ١٩٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٥ من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وله شواهد مرسلة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٥٢٠ بتخريجنا.
__________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» ٣٢٤ عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي كذبه غير واحد، روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، والصواب ما تقدم.
(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٧٣٦٦ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر» ٢/ ٨٨ وعزاه لابن أبي حاتم. والصحيح ما تقدم عن ابن عباس.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها قال الزجاج أي: في عذاب اللعنة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي: يؤخّرون عن الوقت. ومعنى: وَأَصْلَحُوا أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له.
فصل: وهذه الآية استثنت مَن تاب ممن لم يتب، وقد زعم قوم أنها نَسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد، والاستثناء ليس بنسخ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون «١»، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني. والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفراً باقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية.
قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفراً.
وفي عِلة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية. والثالث: أن معناه: لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي. والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، وهو قول مجاهد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.
(١٩٢) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، دخل من كان من أصحاب
باطل. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح عن الكلبي، وهذه تعرف بسلسلة الكذب عند العلماء، وهذا خبر باطل، فالسورة نزلت قبل فتح مكة بزمن طويل.
__________
(١) تقدم معناه عن ابن عباس، ولم أره مسندا بهذا اللفظ عن ابن عباس. وإنما ورد عن مجاهد بأتم منه، أخرجه الطبري ٧٣٦٥ والواحدي في «الأسباب» ٢٢٦ وهذا مرسل، لكن يشهد لأصل حديث ابن عباس المتقدم أولا.
الحارث بن سويد حياً في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافراً.
قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه. قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأً، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة: التي تلبس، ممدودة. والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة منه، يقولون: ابل جديداً، وتمل حبيباً، أي: عش معه دهراً طويلاً. وذَهَباً منصوب على التمييز. وقال ابن فارس: ربما أُنث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب.
قوله تعالى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صواباً، كقوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «١». قال الزجاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بيِّنة، فليست مما يلقى. قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً تبرعاً ولو افتدى به.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ، في البر أربعة أقوال: أحدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية. والرابع: الخير الذي يُستحق به الأجر، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال.
فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل.
قوله تعالى: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فيه قولان:
(١٩٣) أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنه الإنفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك. والثاني: أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر. والثالث: أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نُقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى.
(١٩٤) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة
لم أره من حديث ابن عمر بعد بحث، وإنما صح من حديث أبي هريرة، وقد ساقه المصنف بمعناه.
وحديث أبي هريرة، أخرجه البخاري ١٤١٩ و ٢٧٤٨ ومسلم ١٠٣٢ وأبو داود ٢٨٦٥ والنسائي ٥/ ٨٦ و ٦/ ٢٣٧ وابن ماجة ٢٧٠٦ وأحمد ٢/ ٢٥ و ٢٣١ و ٤١٥ و ٤٤٧ والبغوي ١٦٧١ من طرق عن أبي هريرة، قال:
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم قال: «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح.
تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان»
.
صحيح. أخرجه البخاري ١٤٦١ و ٢٣١٨ و ٢٧٥٢ و ٢٧٦٩ و ٤٥٥٤ و ٥٦١١ ومسلم ٩٩٨ وأحمد ٣/ ١٤١ والدارمي ٢/ ٣٩٠ وابن حبان ٣٣٤٠ والبيهقي ٦/ ١٦٤- ١٦٥ و ٢٧٥ ومالك ٢/ ٥٩٥- ٥٩٦ من حديث أنس. وأخرجه الترمذي ٢٩٩٧ من وجه آخر عن أنس بنحوه. وأخرجه البخاري ٢٧٥٨ وأحمد ٣/ ٢٥٦ من طرق. عن أنس بن مالك.
__________
(١) الأنعام: ٧٥.
أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «١»، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنس: فلما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح- شك الراوي «٢» - وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمِّه.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رميثة «٣»، فهي حرة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده «٤». وسُئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصّدقة شيء عجب. فقال السائل: يا أبا ذرٍ لقد تركت شيئاً هو أوثق عمل في نفسي ما ذكرته. قال:
ما هو؟ قال: الصيام. فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «٥». قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يجازي عليه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ سبب نزولها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(١٩٥) «أنا على ملة إِبراهيم» فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل، وتشرب ألبانها؟
فقال: «كان ذلك حلالا لإبراهيم». فقالوا: كل شيء نحرِّمه نحن، فإنه كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم. قاله أبو روق، وابن السائب.
و «الطعام» : اسم للمأكول. قال ابن قتيبة: والحلّ: الحلال، والحرم والحرام، واللبس واللباس.
وفي الذي حرَّمه على نفسه، ثلاثة أقوال: أحدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وأبي العالية في آخرين. والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٩ عن أبي روق والكلبي به، وهذا واه بمرة، شبه موضوع، الكلبي هو محمد بن السائب متهم بالوضع، وأبو روق، خبره معضل.
__________
(١) في «اللسان» : بيرحاء: وهو اسم مال، وموضع بالمدينة، وإنها فيعل من البراح، وهي الأرض الظاهرة.
(٢) هو القعنبي، واسمه عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري.
(٣) في «الدر المنثور» ٢/ ٨٩ «مرجانة» وكذا في «المجمع» ١٠٨٩٢.
(٤) أخرجه البزار ٢١٩٤ وقال الهيثمي في «المجمع» ٦/ ٣٢٦/ ١٠٨٩٢: فيه من لم أعرفه.
(٥) أخرجه الطبري ٧٣٩٤ من طريق ليث عن ميمون بن مهران عن أبي ذر به، وإسناده ضعيف لضعف ليث وهو ابن أبي سليم، وميمون لم يدرك أبا ذر. [.....]
ابن عباس، وهو قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة.
وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال:
(١٩٦) أحدها: أنه طال به مرضٌ شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرِّمنَّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرّم العروق، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه «النسا» اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النّسا فيبيت وقيدا «١»، فحرمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. واختلفوا:
هل حرّم ذلك بإذن الله، أم باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرماً في التوراة، قاله عطية.
وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد. والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرِّم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها، هذا قول الضحاك. والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً، حرم عليهم به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس:
فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٤]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
قوله تعالى: فَمَنِ افْتَرى
يقول: اختلق عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي: من بعد البيان في كتابهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتّوراة وتلاوتكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٥]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضده الكذب. واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين:
أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا، قاله مقاتل، وأبو سليمان الدمشقي.
والثاني: أنه عنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا قاله ابن السّائب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٦]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
حسن. أخرجه الترمذي ٣١٧ والنسائي في «الكبرى» ٩٠٧٢ وأحمد ١/ ٢٧٣- ٢٧٤ من حديث ابن عباس.
وفيه عبد الله بن الوليد. لينه الحافظ. وتوبع، فقد أخرجه الطبري ٧٤١٨ من وجه آخر بإسناد لا بأس به عن ابن عباس مرفوعا، فالحديث حسن إن شاء الله. وقد حسنه الترمذي عن ابن عباس «أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها»
، انظر «تفسير الشوكاني» ٥٢٣ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : الوقيذ الشديد المرض، الذي قد أشرف على الموت.
305
قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود:
بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه أوّلا قولان: أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة «١» على وجه الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: أن آدم استوحش حين أُهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتاً في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: أنه أُهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رُفع فصار معموراً في السماء، وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وُضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين.
فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقاً من البَكِّ. يقال: بكَّ الناس بعضهم بعضاً، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال: أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفراء، ومقاتل. والثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي:
تدُّقها، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله، روي عن عبد الله بن الزبير، وذكره الزجاج. والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقُطرُب. واتفقوا على أن مكة اسمٌ لجميع البلدة. واختلفوا في بكة على أربعة أقوال: أحدها: أنه اسمٌ للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم، وعطيَّة. والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة. والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسمٌ للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب. والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، وابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب.
قوله تعالى: مُبارَكاً قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقرّ بمكّة في حال بركته. وَهُدىً، أي: وذا هدىً. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع، المعنى: وهو هدى. فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمَن مَن دخله.
(١٩٧) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع
حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٩٥٩ وابن خزيمة ٢٧٥٣ وابن حبان ٣٦٩٧ والحاكم ١/ ٤٨٩ من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، جرير سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه الطيالسي ١٩٠٠ وأحمد ٢/ ٩٥ و ٢/ ٢٢- مطولا- وابن خزيمة ٢٧٥٣ عن محمد بن فضيل وهشيم عن عطاء به. وكلاهما سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه النسائي ٥/ ٢٢١ عن حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عمر لكن بلفظ «من طاف سبعا فهو كعدل رقبة»
. ورجاله ثقات، وهو صحيح إن كان سمعه عبد الله من ابن عمر، فإن عبارته تدل على الإرسال. لكن لهذا اللفظ طريق آخر، أخرجه ابن ماجة ٢٩٥٦ من طريق العلاء بن المسيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين. وقال البوصيري: رجاله ثقات.
- قلت: فلفظ النسائي صحيح. وأما لفظ المصنف، فلم يرد من وجه صحيح عن ابن عمر، لكن في الباب أحاديث تشهد له، فهو حسن، والله أعلم.
__________
(١) في «القاموس» : الحشفة صخرة رخوة حولها سهل من الأرض، أو صخرة تنبت في البحر.
306
أُخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحظّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة».
قوله تعالى: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، في معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين. والثاني: أنه بمعنى: الرحمة. والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه. والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، الجمهور يقرءون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ:
(فيه آية بينة مقام إبراهيم)، وبها قرأ مجاهد. قالا: مقام إبراهيم. فأما مَن قرأ: آياتٌ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الآيات: مقام إبراهيم، وأمنُ مَنْ دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبراً عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «١» وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدّهن، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومَن دخله كان آمناً، ولله على الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهن مقام إبراهيم. قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كلُّه، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثّرت قدماه فيه، فكان ذلك دليلاً على قدرة الله، وصدق إبراهيم.
قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومَنْ دخَله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا
(١) سورة الأنبياء: ٧٨.
307
أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذي: إذا قتل، أو قطع يداً، أو أتى حداً في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدُّ، ولم يقتصَّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم، استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس «١».
وفي قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشّعبيّ، وسعيد بن جبير، وطاوس.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، الأكثرون على فتح حاء «الحج»، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه أبداً.
قوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال النّحويون: «من» بدل من «الناس»، وهذا بدل البعض، كما تقول: ضربت زيداً رأسه.
(١٩٨) وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سُئِل: ما السبيل؟ فقال: «من وجد الزّاد والرّاحلة».
ورد عن جماعة من الصحابة بأسانيد واهية، لا تقوم بها حجة، منها:
١- حديث ابن عمر، أخرجه الترمذي ٨١٣ و ٢٩٩٨ وابن ماجة ٢٨٩٦ والدارقطني ٢/ ٢١٧ والطبري ٧٤٨٢ و ٧٤٨٣ والبيهقي ٤/ ٣٣٠. وأشار الترمذي إلى ضعفه، حيث قال: إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه اه. وكذا ضعف إسناده الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ٣٩٠. لكن تابعه محمد بن عبد الله الليثي عند ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٣٩٤، لكن الليثي هذا واه.
٢- حديث ابن مسعود، أخرجه أبو يعلى ٥٠٨٦ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٣/ ٢٢٤ وقال: وفيه رجل ضعيف اه. وهو في مسند أبي حنيفة ٢٢٣.
٣- حديث أنس، أخرجه الدارقطني ٢/ ٢١٦ والحاكم ١/ ٤٤٢ وصححه على شرطهما، وقال: وقد توبع سعيد بن أبي عروبة، تابعه حمّاد بن سلمة عن قتادة، ثم أسنده هو والدارقطني من طريق حماد وقال: صحيح على شرط مسلم! وسكت الذهبي! وليس كذلك بل فيه عبد الله بن واحد الحراني، وهو متروك.
٤- حديث عائشة: أخرجه الدارقطني ٢/ ٢١٧ والعقيلي ٣٢٣ والبيهقي ٤/ ٣٣٠ وأعلّه العقيلي بعتاب بن أعين وقال: وهم فيه والصواب عن الحسن مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ٣٩٠: حديث ابن عمر ضعيف، وحديث أنس معلول، وصوّب البيهقي أن يكون من مرسل الحسن، وأخرجه الدارقطني، بأسانيد ضعيفة اه باختصار.
- وجاء في «تلخيص الحبير» ٢/ ٢٢١ ما ملخصه: وطرقه كلها ضعيفة، وكذا قال عبد الحق. وقال ابن منذر:
لا يثبت مسندا، والصواب من الروايات رواية الحسن المرسلة اه. ولمزيد الكلام عليه راجع «نصب الراية» ٣/ ٨- ١٠ فقد ذكر طرقه وكشف عن عللها. وانظر «تفسير ابن كثير» بتخريجي عند هذه الآية، وكذا «فتح القدير» للشوكاني.
__________
(١) تقدم هذا البحث في سورة البقرة.
308
قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد. والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، فلم يحج حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر. والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أُنزلت في ذكر البيت، لأن قوماً من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ. قال الحسن: هم اليهود والنصارى. فأما آيات الله فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد.
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية.
وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنهم اليهودُ والنصارى، قاله الحسن. والثاني:
اليهود. قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. قال ابن عباس: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: الإسلام، والحج.
وقال قتادة: لمَ تصدون عن نبي الله، وعن الإسلام. قال السديُّ: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس.
قوله تعالى: تَبْغُونَها، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكَّر ويؤَنَّث. وأنشدوا:
فلا تبعُد فَكُلُّ فتى أُناس سَيُصبِحُ سالكاً تلك السبيلا
ومعنى «تبغونها» : تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادماً، يريدون: ابتغه لي، فاذا أرادوا: ابتغ معي، وأعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهماً، كما يقولون: وهبت لك. قال الشاعر:
فتولَّى غُلامُهم ثم نادى أظليماً أصيدُكم أم حماراً؟ «١»
أراد: أصيدُ لكم. ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف، ويريدون ردَّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، والزّجّاج، واللغويين.
(١) في «اللسان» : ظليم: الذكر من النعام. وأصيدكم: يعني أصيد لكم.
قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقِ عوجاً. أي: ضلالاً. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدين، والكلام، والعمل، والعَوج بفتحها، في الحائطِ والجذعِ. وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصاً، وما كان له شخص قلت: عَوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عِوَج، وفي العصا عَوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العِوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به، والعَوج بفتح العين في كل ما لا يحصَّل، فيقال: في الأرضِ عوج، وفي الدين عوج، لأن هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العَصا عَوج، وفي السن عَوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما. وقال ابن أبي فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعِوج: ما كان في بساط أو أرض، أو دين، أو معاش.
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فيه قولان: أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبُطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين. والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العُقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
(١٩٩) سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلمّا جاء النّبيّ عليه السلام أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي يذكِّرِهُما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسلاح، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه. قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠١]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ. قال ابن قتيبةَ: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جَزمٌ ب «من» والجواب: فَقَدْ هُدِيَ
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
قال عكرمةُ: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم.
وفي حَقَّ تُقاتِهِ ثلاثة أقوال:
(٢٠٠) أحدها: أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود
ضعيف. أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٢/ ١٠٣ (آل عمران: ١٠٠) والواحدي في «أسباب النزول» ٢٣١ عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف.
الصواب موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٤٤١ والحاكم ٢/ ٢٩٤ والطبراني ٨٥٠١ والطبري ٧٥٣٩ عن ابن مسعود. وصححه الحاكم على شرطهما، وكرره الطبري ٧٥٣٤ و ٧٥٣٥ و ٧٥٣٦ موقوفا و ٧٥٣٧ و ٧٥٣٨ و ٧٥٤٠ و ٧٥٤١ من طرق موقوفا. ولم أجده مرفوعا، فقد رواه الأئمة كما رأيت موقوفا، وهو الصواب. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٥٣٨.
عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج.
فصل: واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «١». والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاوس. قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى:
مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسراً ل حَقَّ تُقاتِهِ لا ناسخا ولا مخصّصا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما الحبل، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه كتاب الله: القرآن. رواه شقيق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود. والثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو الإسلام. والرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتج له الزجاج بقول الأعشى:
وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة أخذت من الأخرى إِليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري:
فلو حبلاً تناول من سُليمى لمدَّ بحبلِها حبلاً متينا «٢»
والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبو العالية. والسادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيان.
قال الزجاج: وقوله: جَمِيعاً منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل
(١) التغابن: ١٦.
(٢) في «اللسان» : الحبل الوصال.
تَفَرَّقُوا: تتفرَّقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الأولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدلّ على الجزم.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين:
أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو.
قال ابن فارس: وهو من عَدَا: إِذا ظَلم.
قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ أي: صرتم. قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسارّ فلان، أي: ما يسره. والشَّفا: الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك، وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السّدّيّ: فأنقذكم منها محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: اجتنبوا الأوثان، فانها رِجس. ومثله قول الشاعر «١» :
أخو رغائبَ يُعطيها ويسألها يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوفل الزفر
وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه بإعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أُمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل. والثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وأما المعروف فهو ما يعرف كل عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل:
المعروف ها هنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٥]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: أنهم الحروريّة «٢»، قاله أبو أمامة.
(١) هو أعشى باهلة- عامر بن الحارث- كما في «اللسان» مادة (نفل).
(٢) حروراء: هي قرية بظاهر الكوفة وقيل على ميلين منها نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسبوا إليها- انظر معجم البلدان ٢/ ٢٤٥.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٦]

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك: تبيض وتسود، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء:
تبياضُّ وتسوادُّ بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر. «فأمّا الذين اسوادّت وأمّا الذين ابياضّت» بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنَّة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال: أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: أنهم الحرورية، قاله أبو أُمامة، وأبو إسحاق الهمذاني. والثالث: اليهود، قاله ابن عباس. والرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن. والخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة.
قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه، كقوله تعالى: وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «١»، أي ويقولان: ربنا تقبَّل منا. ومثله: مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. فإن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، وإن قلنا: إنهم الحرورية، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، وإن قلنا: اليهود، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فإنهم قالوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنهم جعلوا ما يُتَعَرَّف ويُعرف مذوقاً على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد ذُقتُ من إكرام فلان ما يُرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون ذق الفرس، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل:
أو كاهْتِزَازِ رُديني تُذاوِقُه أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال الآخر:
وإنَّ الله ذاقَ حُلومَ قيس فلمَا راءَ خِفَّتَها قلاها
يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٧]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة الله: جنته، قال ابن قتيبة: وسمَّى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته. وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر «فيها» توكيدا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٨]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
(١) سورة البقرة: ١٢٧.
قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جُرمٍ. وقال الزجاج:
أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ سبب نزولها أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن أفضل منكم، فنزلت هذه الآية «١»، هذا قول عكرمة ومقاتل.
وفيمن أُريد بهذه الآية، أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل بدر. والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة. والرابع: جميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس.
(٢٠١) وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل». قال الزجّاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعم سائر أمته.
وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ، قولان: أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني: أن معناه: خلقتم وجدتم. ذكرهما المفسرون. والثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم، ذكره ابن الأنباري. والثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «٢». ذكره الفراء، والزجاج. قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: كُنْتُمْ ومعناه: أنتم، ومثله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «٣»، أي: وإذ يقول. ومثله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ «٤»، أي: سيأتي، ومثله:
حديث صحيح بشواهده. إسناده حسن للاختلاف المعروف في بهز عن آبائه، وهي سلسلة الحسن، وللحديث شواهد، جد بهز هو معاوية بن حيدة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي ٣٠٠١ وابن ماجة ٤٢٨٧ وأحمد ٤/ ٤٤٧ والحاكم ٤/ ٨٤ والطبري ٧٦١٩ والطبراني في «الكبير» ١٩/ ١٠٢٣ و ١٠٣٠ من حديث بهز بن حكيم.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٨٦٤٥ وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
- وأخرج الطبري ٧٦٢١ عن قتادة قال: «ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة:
نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها»
اه. وللحديث شواهد يتقوى بها إن شاء الله تعالى.
ويشهد له ما أخرجه أحمد ٣/ ٦١ (١١١٩٣) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفّي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل». وهو حديث حسن، وسيأتي.
__________
(١) ضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٣٥ عن عكرمة ومقاتل بدون إسناد وأخرجه الطبري ٧٦٠٧ عن عكرمة مرسلا مختصرا.
(٢) سورة النساء: ٩٦.
(٣) سورة المائدة: ١١٦.
(٤) سورة النحل: ١. [.....]
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ «١»، أي: من هو في المهد، ومثله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً «٢» أي: والله سميع بصير، ومثله: فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ «٣» أي: فنسوقه.
وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قولان: أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أُخرجت.
وفي قوله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قولان: أحدهما: أنه شرط في الخيريَّة، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد، والزجاج. والثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد. والمنكر: الشرك. قال ابن عباس:
وأهل الكتاب: النّصارى واليهود.
قوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: مَنْ أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية «٤». قال ابن عباس: والأذى قولهم:
«عزير ابن الله» و «المسيح ابن الله» و «ثالث ثلاثة». وقال الحسن: هو الكذب على الله، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج: هو البهت والتحريف. ومقصود الآية إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النَّصرَ عليهم في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، وكذلك كان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
قوله تعالى: أَيْنَ ما ثُقِفُوا معناه: أُدركوا وَوُجِدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية. قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية. وأما الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل: العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهدٍ يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية.
(١) سورة مريم: ٢٩.
(٢) سورة النساء: ٣٤.
(٣) سورة فاطر: ٩.
(٤) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٣]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً، في سبب نزولها قولان:
(٢٠٢) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، احتبس عن صلاة العشاء ليلةً حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء فبشرهم، فقال: «إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب»، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنه لما أسلم ابن سلاَّم في جماعة من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي.
والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام لَيْسُوا سَواءً أي: أهل الكتاب متساوين.
وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الثابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عبيد، والزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن «سواءً» لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب:
عصيت إِليها القلب إني لأمرِهِ سميعٌ فما أدري أرشد طلابها؟!
ولم يقل: أم لا، ولا أم غيّ، لأن الكلام معروف المعنى. وقال آخر «١» :
وما أدري إذا يمَّمت أرضاً أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
ومثله قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ولم يذكر ضده، لأن في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «٢»، دليلاً على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فأعلم الله أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء. قال: وآناءَ اللَّيْلِ ساعاته، وواحد
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٩٣ وأحمد ١/ ٣٩٦ وأبو يعلى ٥٣٠٦ وابن حبان ١٥٣٠ والبزار ٣٧٥ «كشف» والواحدي في «أسباب النزول» ٢٣٨ من حديث ابن مسعود، وإسناده حسن لأجل عاصم بن أبي النجود، وحسنه السيوطي في «الدر» ٢/ ٦٥ وكما نقل الشوكاني في «فتح القدير» ١/ ٤٣٠ ووافقه، وله شاهد من حديث عائشة، أخرجه البخاري ٥٦٦ ومسلم ٦٣٨. وشاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه البخاري ٥٦٤ ومسلم ٦٣٩ وليس فيهما نزول الآية. فالحديث حسن بتمامه، وأصله صحيح بشواهده، والله أعلم.
__________
(١) هو المثقّب العبدي- عائذ بن محصن، والبيت من قصيدة جيدة في المفضّليات.
(٢) سورة الزمر: ٩.
الآناء: إنى. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إنى وإنيان، والجمع: الآناء. واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور. والثالث: جوف الليل، قاله السدي. والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ، قولان: أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسّجود.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
قوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. قال قتادة: فلن تُكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم: حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروه، بالياء فيهما، إخباراً عن الأمة القائمة. وبقية أصحاب أبي عمرو يخيّرون بين الياء والتاء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
قوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها في نفقات الكفّار، وصدقاتهم، قاله مجاهد. الثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل. والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلاً لأعمالهم في شركهم.
وفي الصرّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النّار، قاله ابن عباس، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب. والثالث: أن الصرّ: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه: صرير النعل، ذكره ابن الأنباري.
والحرث: الزرع. وفي معنى لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
قولان: أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى. والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزّرع.
قوله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، وإنما أُنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة.
وحدّثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عزّ وجلّ هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى:
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ «١» وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «٢» فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين»، كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد:
لعلِّيَ إن مالت بي الرّيح ميلة عن ابن أبي ديَّان أن يتندَّما
فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «٣» والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدُّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مُداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم:
لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم.
قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي: ودُّوا عَنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ، ويقال: فلان يعنت فلاناً، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمةٌ عنوتٌ، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى مِنْ دُونِكُمْ أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر.
قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة «٤»، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلّهم الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٩]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
(١) سورة البقرة: ١٧١.
(٢) سورة البقرة: ٢٣٤.
(٣) سورة الزمر: ٦٠.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٩٨: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية، دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم»، فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال: أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة والرضاع والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية. والرابع: أنها بمعنى الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضّل، والزجّاج. والكتاب: بمعنى الكتاب، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل:
أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضُرِب مثلاً لما حلَّ بهم، وإن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ: ابقوا به حتى تموتوا، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئماً. قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكم الله كمدا من الغيظ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٠]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة.
قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا فيه قولان: أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس. والثاني: على أمر الله، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَتَتَّقُوا قولان: أحدهما: الشرك، قاله ابن عباس. والثاني:
المعاصي، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «لا يضِركم» بكسر الضاد، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لا يضركم» بضم الضاد وتشديد الراء.
قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلّها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: تبوّئ، من قولك: بوَّأتُك منزلاً: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصافُّ. واختلفوا في أي يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم أُحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وقتادة والسدي، والربيع وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أُحد من بيت عائشة إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. والثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: يوم بدر نقل عن
الحسن أيضاً. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أُحد.
قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج، ومرادهم للخروج عليم بما يخفون من حبّ الشهادة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٢]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قال الزجاج: كانت التبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا: تجبنا، وتخورا. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد الله:
(٢٠٣) نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وقال الحسن: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله. وقيل: لما رجع عبد الله بن أُبي في أصحابه يوم أُحد، همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله.
فصل: فأما التوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة بالله. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وُكَلَهٌ تُكَلَةٌ، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٣]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ في تسمية بدر قولان: أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي. والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه.
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي لقلة العَدد والعُدد لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتكونوا من الشّاكرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٤]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ قال الشعبي: قال كُرْز بن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية. وفي أي يوم كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة ومجاهد، وقتادة. والثاني: يوم أُحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا لم يُمدُّوا، روي عن عكرمة، والضحاك، ومقاتل.
والأول أصح. والكفاية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار على ذلك. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء.
قوله تعالى: مُنْزَلِينَ قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددها ابن عامر.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٥٨ ومسلم ٢٥٠٥ والطبري ٧٧٢٧ من حديث جابر.
تنبيه: في هذا ردّ على الرافضة الذين اختصوا عليا وحده بالولاية. والآية نزلت في الأنصار بالاتفاق، وهؤلاء كلهم أولياء الله، والله وليهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٥]

بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس والحسن، وقتادة ومقاتل، والزجاج. والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضحاك في آخرين. قال ابن جرير: من قال: من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال:
من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذ ابتداء ما فيها بالغليان، ثم اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان:
أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة. والثاني: يوم أُحد، قال مجاهد، والضحاك: كانوا غضبوا يوم أُحد ليوم بدر مما لقوا.
قوله تعالى: مُسَوِّمِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوَّمها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سوّمت خيلها. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال يوم بدر:
(٢٠٤) «سوموا فإن الملائكة قد سومت» ونسب الفعل إليها، فهذا دليل الكسر.
قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من السّيماء، والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال عليّ عليه السلام: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر.
(٢٠٥) وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدراً، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارساً يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت.
(٢٠٦) وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله.
ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة ١٤/ ٢٥٨ والطبري ٧٧٧٥ عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف يومئذ- يعني بدر- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسوّموا فإن الملائكة قد تسوّمت»، وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
ضعيف. أخرجه الطبري ٧٧٤٨ من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدّث عن ابن عباس...
فذكره. وإسناده ضعيف، لجهالة المحدث لعبد الله.
صحيح. أخرجه الطبري ٧٧٥٠ من طريق ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن عن أبي داود المازني به. وإسناده ضعيف، في الإسناد من لم يسمّ. وذكره ابن هشام في «السيرة» ٢/ ٢٧٤ وكذا الحافظ في «الإصابة» ٤/ ٥٨. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه مسلم ١٧٦٣ بهذا السياق في أثناء حديث طويل، فالخبر صحيح إن شاء الله.
وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال: أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن.
(٢٠٧) وروى [محمد بن] «١» جبير بن مطعم عن عليّ عليه السلام قال: بينا أنا أمتح «٢» من قليب بدر، [إذ] جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله، وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه.
والثاني: أربعة آلاف، قاله الشعبي. والثالث: ألف، قاله مجاهد. والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج. والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٦]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني المدد إِلَّا بُشْرى، أي: إلا بشارة تطيِّب أنفسكم، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، فتسكن في الحرب، ولا تجزع. والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد:
يوم أُحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدّهم بالملائكة في اليومين جميعاً، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.
قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ليس بكثرة العَدد والعدد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٧]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)
قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفاً. قال الزجاج: أي: ليقتل قطعةً منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان: أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور.
والثاني: يوم أُحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي.
قوله تعالى: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: أن معناه: يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجاج. والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه. والرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة. والخامس: يلعنهم، قاله السدي.
والسادس: يُظفِّر عليهم، قاله المبرّد. والسابع: يغيظهم، قاله النّصر بن شميل واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في
ضعيف. أخرجه أبو يعلى ٤٨٩ والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٥٥ من طريق موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن علي، وإسناده ضعيف، أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية وصفه الحافظ بأنه سيء الحفظ، ثم هو منقطع بين محمد بن جبير وعلي. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» ٦/ ٧٦: رجاله ثقات؟!.
__________
(١) ما بين معقوفتين زيادة عن «مسند أبي يعلى» و «دلائل النبوة» ٣/ ٥٥.
(٢) في «اللسان» الماتح: المستقي، ومتح: جذب الدلو من البئر مستقيا.
أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدو: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أُجْشِمْتُ من إِتيان قوم هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد. لأن الكبد هناك. قال الشاعر:
وأُضمِر أضغاناً عليَّ كشوحُها «١»
والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير.
قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمَّل. وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٨]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٢٠٨) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم عزّ وجلّ؟!» فنزلت هذه الآية. أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والرّبيع.
(٢٠٩) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لعن قوماً من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همَّ بسب الذين انهزموا يوم أُحد، فنزلت هذه للآية، فكفَّ عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، وابن عباس «٢».
حديث صحيح. أخرجه مسلم ١٧٩١ وأحمد ٣/ ٢٥٣ و ٢٨٨ وابن حبان ٦٥٧٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٤ والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس.
وأخرجه الترمذي ٣٠٠٢ و ٣٠٠٣ وابن ماجة ٤٠٢٧ وأحمد ٣/ ٩٩ وابن حبان ٦٥٧٤ والواحدي ٢٤٢ والبغوي ٣٦٤٢ والطبري ٧٨٠٥ و ٧٨٠٦ و ٧٨٠٧ من طريق حميد الطويل عن أنس.
ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٦٩ و ٤٥٥٩ و ٧٣٤٦ والترمذي ٣٠٠٤ و ٣٠٠٥ وأحمد ٢/ ٩٣ وأبو يعلى ٥٥٤٧ وابن خزيمة ٦٢٢ وعبد الرزاق ٤٠٢٧ وابن حبان ١٩٨٧ والنسائي في «التفسير» ٩٥ و ٩٦ والبيهقي ٢/ ١٧٨ من حديث ابن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو على أربعة نفر فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فهداهم الله للإسلام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح يستغرب من هذا الوجه من حديث نافع عن ابن عمر اه. وأخرجه الطبري ٧٨١٧ أيضا من هذا الوجه. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٥٥٢ بتخريجنا.
__________
(١) هو عجز بيت للنمر بن تولب، وصدره: تنفذ منهم نافذات تسؤنني.
(٢) لم أره مسندا، ولا يصح، والصواب ما رواه الإمام مسلم وكذا البخاري.
- وذكره الماوردي في «تفسيره» ١/ ٤٢٣ (آل عمران: ١٢٨). [.....]
(٢١٠) والرابع: أن سبعين من أهل الصفة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا جميعا، فدعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم أربعين يوماً، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
(٢١١) والخامس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة ممثلاً به، قال: «لأُمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية، قاله الواقدي.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء. وقيل: إن «لك» بمعنى «إليك».
قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال الفراء: في نصبه وجهان إن شئت جعلته معطوفاً على قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني. ولما نفى الأمر عن نبيه، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك، وكذبه غير واحد. وله شاهد من مرسل الزهري ولكن مراسيل الزهري واهية، أرسله الزهري في أثناء حديثه.
- ويشهد له ما أرسله الزهري عقب حديث صحيح. وهو ما أخرج البخاري ٤٥٦٠ و ٦٢٠٠ ومسلم ٦٧٥ والنسائي ٢/ ٢٠١ والشافعي ١/ ٨٦ و ٨٧ وأحمد ٢/ ٢٥٥ وابن أبي شيبة ٢/ ٣١٦ و ٣١٧ والطحاوي في «المعاني» ١/ ٢٤١ وأبو عوانة ٢/ ٢٨٠ و ٢٨٣ وابن حبان ١٩٧٢ وابن خزيمة ٦١٩ والدارمي ١/ ٣٧٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٦ والبيهقي ٢/ ١٩٧ و ٢٤٤ من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر، ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا، وذكوان وعصيّة عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ.
- وقول «ثم بلغنا»
هو من مرسل الزهري كما بينه الحافظ في «الفتح» ٨/ ٧١ فالخبر ضعيف.
وفي الباب من حديث أنس قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية يقال لهم: القرّاء فأصيبوا، فما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد على شيء ما وجد عليهم فقنت شهرا في صلاة الفجر ويقول: إن عصية عصوا الله ورسوله».
أخرجه البخاري ٦٣٩٤ ومسلم ٦٧٧.
- الخلاصة: خبر عصية وذكوان ورعل صحيح، لكن كون الآية نزلت فيهم ضعيف. وقال الحافظ في «الفتح» ٨/ ٢٢٧: قول الزهري ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت... هذا البلاغ لا يصح، لأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد، ونزول الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ... كان في قصة أحد، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟!.
واه بمرة عزاه المصنف للواقدي واسمه محمد بن عمر، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء، والصواب في ذلك ما رواه مسلم وكذا البخاري، وأما الأقوال الثلاثة الأخيرة فليست بشيء.
- وخبر حمزة سيأتي في سورة النحل عند الآية: ١٢٦.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حلّ الأجل، فيقول: أخّر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣١]
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)
قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلّوا ما حرّم الله فتكفّروا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كلهم أثبت الواو في وَسارِعُوا إلا نافعاً، وابن عامر، فإنهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن قرأ بالواو، عطف وَسارِعُوا على وَأَطِيعُوا ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال: أحدها: أنه الإخلاص، قاله عثمان بن عفّان رضي الله عنه. والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس. والرابع: التكبيرة الأولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك. والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير. والسادس: التّوبة، قاله عكرمة. والسابع:
الهجرة، قاله أبو العالية. والثامن: الجهاد، قاله الضحاك. والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان.
والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة.
(٢١٢) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين يوم أحد: «لقد ذهبتم فيها عريضة».
قال الشاعر «١» :
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل
قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، وإذا عرض الشيء اتسع، وإذا لم يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهنّ.
ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٠٢ عن ابن إسحاق به، وهذا مرسل بل معضل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق كما في «الدر» ٢/ ١٥٧.
__________
(١) في «اللسان» مادة- كفف- قال ابن بري: شاهد كفة الحابل قول الشاعر ولم ينسبه لأحد.
وكفة حابل: ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق. والحابل: الصائد، وكفته: حبالته التي يصيد بها.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٤]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قال ابن عباس: في العسر واليسر، ومعنى الآية:
أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا.
قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال الزجاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرَّته: إذا رددها في حلقه. وقال ابن الأنباري: الأصل في الكظم:
الإمساك على غيظ وغم.
(٢١٣) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى».
قوله تعالى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس. والثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٢١٤) أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمّها، وقبّلها، ثم ندم، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
(٢١٥) والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فخرج الثّقفيّ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعاهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبّله ثم ندم، فأدبر راجعا،
جيد. أخرجه ابن ماجة ٤١٨٩ والبيهقي في «الشعب» ٨٣٠٥ و ٨٣٠٧ وأحمد ٢/ ١٢٨ من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الحسن، وهو مدلس. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات اه. وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد ٢/ ١٢٨ من طريق شجاع بن الوليد عن عمر بن محمد بن سالم عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات. وفي الباب حديث ابن عباس، أخرجه أحمد ١/ ٣٢٧. وصدره «من أنظر معسرا، أو وضع له، وقاه الله فيح جهنم،... ». وله شاهد آخر من حديث معاذ بن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء» أخرجه أبو داود ٤٧٧٧ والترمذي ٢٠٢٢ و ٢٤٩٥ وابن ماجة ٤١٨٦ وأبو يعلى ١٤٩٧ وأبو نعيم في الحلية ٨/ ٤٧- ٤٨ وأحمد ٣/ ٤٤٠ و ٤٣٨.
لم أره مسندا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٧ عن ابن عباس في رواية عطاء بدون إسناد ولا يصح سبب النزول هذا، وقد ورد خبر نبهان التمار. انظر سورة هود آية: ١١٤.
باطل. ذكره الواحدي ٢٤٨ عن ابن عباس من طريق الكلبي وهو باطل، الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يلق ابن عباس. ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة.
فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه، فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكره مقاتل.
(٢١٦) والثالث: أن المسلمين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبيّ عليه السلام: «ألا أخبركم بخير من ذلك» ؟ فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء.
واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين: أحدهما:
أنها نعت لهم، قاله الحسن. والثاني: أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والفاحشة: القبيحة، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما:
أنها الزنى، قاله جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين.
واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظلم للنفس فاحشة أيضاً، وفرق آخرون، فقالوا: هو الصغائر.
وفي قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ قولان: أحدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين. والثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه ذكر العرض على الله، قاله الضحاك. والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي. والثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير. والرابع: ذكر نهي الله لهم عنه. والخامس: ذكر غفران الله ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي.
فأما الإصرار، فقال الزجاج: هو الإقامة على الشيء. وقال ابن فارس: هو العزم على الشيء والثبات عليه. وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به.
وهذا مذهب مجاهد. والثاني: أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق.
والثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي.
وفي معنى وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: يعلمون أن الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة. والثالث: يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السّدّيّ، ومقاتل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٧]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ السنن: جمع سنة، وهي الطريقة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا قول
ضعيف. أخرجه الواحدي ٢٤٩ في «الأسباب» عن عطاء مرسلا، فهو حديث ضعيف.
ابن عباس. والثاني: قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد. وفي معنى فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قولان: أحدهما: أنه السير في السفر. قال الزجاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم. والثاني: أنه التفكر. ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٨]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ قال سعيد بن جبير: هذه الآية أول ما نزل من «آل عمران».
وفي المشار إليه ب «هذا» قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن اسحاق. والبيان: الكشف عن الشيء، بان الشيء: اتضح، وفلانٌ أبين من فلان، اي: أفصح. قال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى، وهدىً من الضلالة، وموعظة من الجهل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا.
(٢١٧) سبب نزولها أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انهزموا يوم أُحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوَّةَ لنا إِلا بك» فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس.
قال ابن عباس، ومجاهد: وَلا تَهِنُوا أي: ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه هزيمتهم يوم أُحد، وقتلهم، قاله مقاتل. والثالث: أنه ما أصاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي.
والرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ. قال ابن عباس:
(٢١٨) أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما لقوا، فنزلت هذه الآية.
ضعيف بهذا اللفظ، والمرفوع منه صحيح، دون ذكر نزول الآية. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٠ عن ابن عباس بهذا اللفظ وبدون إسناد، وليس بصحيح، فإن المشهور في الأحاديث الصحيحة أن خالدا ومن معه قد علوا الجبل وكروا على المسلمين، وكان ما كان. وأخرجه الطبري ٧٨٩١ عن ابن عباس مختصرا وفيه عطية العوفي وهو ضعيف وعنه مجاهيل، وهذا خبر منكر، وسيأتي في الصحيح ما يرده.
- وله شاهد أخرجه الطبري ٧٨٨٩ عن ابن جريج مرسلا، ومراسيل ابن جريج واهية جدا.
ضعيف. أخرجه الطبري ٧٨٩٩ عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وفيه حفص بن عمر ضعيف.
وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج كما في «الدر المنثور» ٢/ ١٤١ عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم- يعني يوم أحد- قال عكرمة: وفيهم أنزلت الآية. والآية إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ النساء: ١٠٤. وهو ضعيف، ابن جريج عن عكرمة منقطع.
فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع «قرح» بفتح القاف.
وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم «قرح» بضم القاف. واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل. والقُرح بالضم: ألم الجراح. وقال الزجاج:
هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه: الجراح وألمها، قال: ومعنى نداولها: أي: نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا، فهم منصورون، قال: ومعنى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي: ليعلم واقعاً منهم، لأنه عالم قبل ذلك، وإنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية.
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أُحد، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوماً كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون. وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبيّ المنافق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤١]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين. وفي التمحيص قولان:
أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا «١» :
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً فكشَّفه التمحيص حتى بدا ليا
وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين.
والثاني: أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج، وحكي عن المبرّد، قال: يقال: محص الحبل محصاً: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلّص، ومعنى قوله: اللهم محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا.
وذكر الزجّاج عن الخليل أن المحص: التخليص، يقال: محصت الشيءُ أمحصه محصاً: إذا أخلصته.
فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذنوب بذلك. قال الفراء: معنى الآية: وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا.
قوله تعالى: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ فيه أربعة أقوال: أحدها: يهلكهم، قاله ابن عباس. والثاني:
يذهب دعوتهم، قاله مقاتل. والثالث: ينقصهم ويقللهم، قاله الفراء. والرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
(١) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر كما في «الكامل» ١/ ١٨٣.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه، فيلحقون بإخوانهم، فأراهم الله يوم أُحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فنزل فيهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ يعني القتال مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يومئذ، قال الفراء، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح. وفي معنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه، وأنتم بُصراء، كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علّة، أي: رأيته رؤية حقيقية. والثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنيتم. وفي الآية إضمار، أي: فقد رأيتموه فلم انهزمتم!؟
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. قال ابن عباس:
(٢١٩) صاح الشيطان يوم أُحد: قتل محمد. فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حياً لم نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية.
وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبياً ما قُتل، وقال ناسٌ من عِلْيَة أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله:
رجعة القهقرى، والعقب: مؤخّر القدم.
وقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أي: لن ينقص الله شيئاً برجوعه، وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي أي: يثيب الشَّاكِرِينَ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الثابتون على دينهم، قاله علي عليه السلام، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين. والثاني: أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية.
والثالث: على الدّين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ في الإذن قولان:
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٥٢ وعبد بن حميد وابن المنذر كما في «الدر» ٢/ ١٤٤- آل عمران: ١٤٤- عن عطية العوفي، وعطية واه. وأخرجه الطبري ٧٩٤٨ عن عطية عن ابن عباس، وإسناده واه لأجل عطية، وعنه مجاهيل. وانظر «تفسير القرطبي» ١٨٤٧ بتخريجنا.
أحدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل.
وقال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
قوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلًا توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتاباً ذا أجل. والأجل: الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «١»، لأنه لمّا قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «٢» دلّ على أنه مرفوض، فأكّد بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وكذلك قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ «٣» لأنه لما قال:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً «٤» دلّ على أنه خلق الله فأكد بقوله: صُنْعَ اللَّهِ.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي: من قصد بعمله الدنيا، أُعطي منها، قليلاً كان أو كثيراً، ومن قصد الآخرة بعمله، أُعطي منها. وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة.
فصل: وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته.
ومعنى قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها أي ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٦]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قرأ الجمهور وَكَأَيِّنْ في وزن «كعيِّن». وقرأ ابن كثير «وكائن» في وزن «كاعن». قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «كأيِّن» مثل: «كعِّين» ينصبون الهمزة، ويشددون الياء.
وتميم يقولون: «وكائن» كأنه فاعل من كئت. وأنشدني الكسائي:
وكائِن ترى يسعى من الناس جاهداً على ابنٍ غدا منه شجاعٌ وعقربُ
وقال آخر:
وكائِن أصابت مؤمناً من مُصيبةٍ على الله عُقباها ومنه ثوابُها
وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى «كم» مثل قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها «٥» وفيها لغتان. «كأين» بالهمزة وتشديد الياء، و «كائن» على وزن «قائل»، وقد قرئ بهما جميعاً في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها. قال الشاعر «٦» :
وكائن أرينا الموتَ من ذي تحيَّةٍ إذا ما ازدرانا أو أصرَّ لمأثمِ
وقال الآخر»
وكائِن ترى من صامتٍ لكَ معجب زيادته أو نقصه في التّكلّم
(١) سورة النساء: ٢٤.
(٢) سورة النساء: ٢٤.
(٣) سورة النمل: ٨٨.
(٤) سورة النمل: ٨٨.
(٥) سورة الطلاق: ٨.
(٦) أنشده ابن فارس ولم ينسبه لقائل كما في «الصاحبي» ص ١٣٢.
(٧) هو زهير بن أبي سلمى من «معلقته» في «شرح الزوزني» ص ٨٩.
قوله تعالى: قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم: «قُتِل» بضم القاف، وكسر التاء من غير ألف، وقرأ الباقون: قاتَلَ بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجّاج: أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله. والثاني: أن يكون قتل للربيين، ويكون «فما وهنوا» لمن بقي منهم.
وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال:
أحدها: أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفراء. والثاني: الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، واختاره اليزيدي، والزجاج. والرابع: أنهم الأتباع، قاله ابن زيد. والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس.
قوله تعالى: فَما وَهَنُوا فيه قولان: أحدهما: أنه الضعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: أنه العجز، قاله قتادة.
قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع والذل، ومنه أخذ المساكين. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع. والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٧]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
قوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ يعني الربيين. إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار. والإسراف: مجاوزة الحد، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف: الكبائر. قوله تعالى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا قال ابن عباس: على القتال. وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على دينك، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٨]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا فيه قولان: أحدهما: أنه النصر، قاله قتادة. والثاني:
الغنيمة، قاله ابن جريج. وروي عن ابن عباس، أنه النصر والغنيمة.
وفي حسن ثواب الآخرة قولان: أحدهما: أنه الجنة. والثاني: الأجر والمغفرة. وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدوّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا. قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه «١».
وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون، على قول ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج. والثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي. قالوا:
وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم. ومعنى يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ: يصرفوكم إلى الشّرك. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بالعقوبة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٠]
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفّار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.
(٢٢٠) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أُحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا:
قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية.
والإلقاء: القذف. والرعب: الخوف. قرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «الرعب» ساكنة العين خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقله، أين وقعت. والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة. والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه.
والمثوى: المقام، والثوى: الإقامة. قال ابن عباس: والظّالمون هاهنا: الكافرون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ.
(٢٢١) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أُحد، قال قومٌ منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟! فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين
ضعيف. أخرجه الطبري ٨٠٠٢ عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٤ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا وبدون سند، فهو لا شيء. وانظر «تفسير القرطبي» ١٨٥٧.
__________
(١) لم أقف عليه، وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
333
النصر بأحد، فنصرهم فلما خالفوا، وطلبوا الغنيمة، هُزِموا.
(٢٢٢) وقال ابن عباس: ما نُصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في موطن ما نُصر في أُحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. فأما الحسُّ، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسدي، والجماعة. وقال ابن قتيبة:
تحسونهم، أي تستأصلونهم بالقتل، يقال: سَنَةٌ حسوس: إذا أتت على كل شيء، وجراد محسوس: إذا قتله البرد.
وفي قوله تعالى: بِإِذْنِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: بأمره، قاله ابن عباس. والثاني: بعلمه، قاله الزجاج. والثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ قال الزجاج: أي: جبنتم وَتَنازَعْتُمْ أي: اختلفتم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يعني: النصرة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، معناه: حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ «١» معناه:
ناديناه.
(٢٢٣) فأما تنازعهم، فإن بعض الرماة قال: قد إنهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك عصيانهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أوصاهم: «لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم».
قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا. وقال ابن مسعود: ما كنت أظنّ أحدا من
أخرجه أحمد ٢٦٠٩ والحاكم ٢/ ٢٩٦ والبيهقي في «الدلائل» ٤/ ٢٦٩ و ٢٧٠ عن ابن عباس به، وأتم، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، فهو غير قوي، ومقصد ابن عباس هو في بداية المعركة كما هو ظاهر في رواية الحاكم، فللخبر تتمة توضح ذلك.
هو بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس.
- وله شاهد صحيح: أخرجه البخاري ٣٠٣٩ و ٤٠٤٣ وأبو داود ٢٦٦٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٧٩ والطيالسي ٧٢٥ وأحمد ٤/ ٢٩٣ وابن سعد في «الطبقات» ٢/ ٤٧ وابن حبان ٤٧٣٨ والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٢٢٩- ٢٣٠ من طرق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «جعل النبي على الرّجالة يوم أحد- وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير فقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم». فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيرا وسبعين قتيلا.....». واللفظ للبخاري.
__________
(١) سورة الصافات: ١٠٣- ١٠٤.
334
أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي: ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ أي:
ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع.
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس.
والثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن. وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: إذا عفا عنهم، قاله ابن عباس.
والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ قال المفسرون: «إذ» متعلقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين، من قوله تعالى: «تصعدون» وهو من الإصعاد. وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم فتحهما، وهي قراءة الحسن، ومجاهد، وهو من الصعود. قال الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا صعدت على سلم أو درجة، قلت: صعدت، ولا تقول: أصعدت. وقال الزجاج: كل من ابتدأ مسيراً من مكان، فقد أصعد، فأما الصّعود، فهو من أسفل إلى فوق، قال ومن فتح التاء والعين، أراد الصعود في الجبل.
وللمفسرين في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني:
أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة.
وتَلْوُونَ بمعنى: تعرجون. وقوله تعالى: عَلى أَحَدٍ عام.
(٢٢٤) وقد روي عن ابن عباس أنه أُريد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يناديهم من خلفهم: «إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله».
وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد «على أُحد» بضم الألف والحاء، يعنون الجبل.
قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ أي: جازاكم. قال الفراء: الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر «١» :
أخاف زياداً أن يكونَ عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
أخرجه الطبري ٨٠٥٣ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه، ابن جريج لم يدرك ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلا كما في «الدر» ٢/ ٥٤- آل عمران: ١٥٣. وأخرجه الطبري أيضا ٨٠٤٨ عن قتادة مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(١) هو الفرزدق، كما في «اللسان» - حدرج- وحدرج السوط: أحكم فتله حتى استوى.
المحدرجة: السياط. والسود فيما يقال: القيود.
قوله تعالى: غَمًّا بِغَمٍّ في هذه الباء أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «مع». والثاني: بمعنى «بعد». والثالث: بمعنى «على»، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة. وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال: أحدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني:
إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أن الأول قرارهم الأول، والثاني. قرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل، قاله مجاهد. والثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح، والثاني: حين سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، قاله قتادة. والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السدي. والخامس: أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي. والقول الرابع:
أن الباءَ بمعنى الجزاء، فتقديره: غمكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جُوزوا لأجله لغيرهم. وفي المراد بغيرهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون غموهم يوم بدر، قاله الحسن. والثاني: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم غموه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك بأن غمّوا بما أصابهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا في «لا» قولان: أحدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها النفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: فأثابكم غماً أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، نسوا ما أصابهم وما فاتهم. والثاني: أنه متّصل بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فمعنى الكلام: عفا عنكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأن عفوه يذهب كل غم. والقول الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم. ومثلها قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «١» أي: ليعلم. هذا قول المفضل. قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة، والذي أصابهم: القتل والهزيمة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن. يقال: وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام. و «نعاساً» منصوب على البدل من «أمنة»، يقال: نعس الرجل ينعس
(١) سورة الحديد: ٢٩.
336
نعاساً، فهو ناعس. وبعضهم يقول: نعسان. قال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها. قال العلماء:
النعاس: أخف النوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان: أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام. والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال.
قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
«يغشى» بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين أهمَّتهم أنفسهم: المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم.
(٢٢٥) قال أبو طلحة: كان السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس.
وجعلت أنظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حَجَفَته «١» من النعاس.
(٢٢٦) وقال الزبير: أرسل الله علينا النوم، فما منَّا رجل إلا ذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه.
قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس.
والثالث: أنهم ظنوا أن محمداً قد قتل، قاله مقاتل. والرابع: ظنّوا أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمحل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية.
قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد، تقديره: ما لنا من الأمر من شيء. قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أُخرجنا كرهاً. وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر، قالوا: إنما النصر للمشركين، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ، أي: النصر والظفر، والقضاء والقدر لِلَّهِ. والأكثرون قرءوا إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو علي: حجة من نصب، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم، فلو قال: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النَّصب، و «كله» بمنزلة «أجمعين»، ومن رفع، فلأنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ.
قوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ في الذي أخفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قولهم: «لو كنا في
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٦٨ والترمذي ٣٠٠٧ والنسائي في «الكبرى» ١١١٩٨ وابن سعد ٣/ ٥٠٥ وابن أبي شيبة ١٤/ ٤٠٦ والطبري ٨٠٧٥ والحاكم ٢/ ٢٩٧ والطبراني ٤٧٠٠ والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٢٧٢ وأبو نعيم في «الدلائل» ٤٢١ من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت به. وإسناده على شرط مسلم.
أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣/ ٢٧٣ عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير به.
وفي الإسناد أحمد بن عبد الجبار العطاردي، وهو ضعيف، ومن فوقه ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، فانحصرت العلة في أحمد هذا.
__________
(١) الحجف: ضرب من الترسة، واحدتها حجفة، وقيل: هي من الجلود خاصة. وميد: تحرك ومال. [.....]
337
بيوتنا ما قتلنا هاهنا». والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله. والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
قال أبو سليمان الدمشقي: والذي قال: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عبد الله بن أُبي. والذي قال: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معتب بن قشير.
قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كُتب عليه القتل، ولم ينجه القعود. والمضاجع: المصارع بالقتل.
قال الزجاج: ومعنى لَبَرَزَ: صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف. ومعنى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيباً، فيعلمه شهادة.
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين. وقال غيره:
أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها. وقال ابن الأنباري: معناه: عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم. فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الخطاب للمؤمنين، وتوليهم: فرارهم من العدو. والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أُحد. واستزلهم: طلب زللهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلاناً، أي: طلبت عجلته، واستعملته: طلبت عمله. والذي كسبوا: يريد به الذّنوب. وفي سبب فرارهم يومئذ قولان: أحدهما: أنهم سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فترخصوا في الفرار «١»، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، قاله الزجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق، وقيل: إخوانهم في النسب. قال الزجاج: وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا ولم يقل: إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنُهم هذا أبداً، تقول: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضُرِب صبر. و «إذا» لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون: ومعنى ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ:
(١) تقدم، تخريجه، وهو ضعيف جدا.
ساروا وسافروا. و «غزىً» جمع غازي. وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو غزوا، فقتلوا.
قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم، سلموا، حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: حزناً. قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت. قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: ليس تحرُّز الإنسان يمنعه من أجله.
قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يعملون» بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أنّ قبلها غيبة، وهو قوله عزّ وجلّ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ، ومن قرأ بالتاء، فحجته لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٧]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ اللام في «لئن» لام القسم، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في إقامتكم. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مُتَّ» و «مُتُّم» و «مُتنا» برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: أَوْ مُتُّمْ وَلَئِنْ مُتُّمْ برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر.
قوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس: خير مما يجمع المنافقون في الدنيا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٨]
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أي: في إقامتكم. أَوْ قُتِلْتُمْ في جهادكم. لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
وهذا تخويف من القيامة. والحشر: الجمع من سوق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ قال الفراء وابن قتيبة والزجاج: «ما» هاهنا صلة، ومثله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. قال ابن الأنباري: دخول «ما» هاهنا يحدث توكيداً. قال النّابغة:
المرء يهوى أن يعيش... وطولُ عيش ما يضرُّه
فأكد بذكر «ما». وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان: أحدهما: أنها تتعلّق بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني:
بالمؤمنين.
قال قتادة: ومعنى لِنْتَ لَهُمْ لان جانبك، وحَسُن خُلُقُك، وكثر احتمالك. قال الزجّاج:
والفظّ: الغليظ الجانب، السّيئ الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظاً، والفظ: ماء الكرش والفرث، وإنما سمي فظاً لغلظ مشربه. فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر
339
الفظاظة والغلظ- وإن كانا بمعنى واحد- توكيداً. وقال ابن عباس: الفظ: في القول، والغليظ القلب:
في الفعل.
قوله تعالى: لَانْفَضُّوا أي: تفرقوا. وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه.
فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ معناه:
استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من: شرت العسل. وأنشدوا «١» :
وقاسمها بالله حقاً لأنتم ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورُها
قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشوراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول: المشوْرَة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. ومعنى قولهم:
شاورت فلاناً، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها. فعرفت هيئتها في سيرها.
وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار. قال الأعشى:
كأنّ القرنفل والزّنجبيل باتا بفيها وأرياً مشاراً
والأري: العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال: أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل. قال الشّافعيّ رضي الله عنه:
نظير هذا قوله عليه السلام:
(٢٢٧) «البكر تُستأمر في نفسها»، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.
والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.
ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي عليه السلام: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أُمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم.
وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان، حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة.
والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.
صحيح. أخرجه مسلم ١٤٢١ وأبو داود ٢٠٩٩ والنسائي ٦/ ٨٥ والدارقطني ٣/ ٢٤٠ و ٢٤٠- ٢٤١ والطبراني ١٠/ ١٠٧٤٥ و ٤٠٨٤ و ٤٠٨٧ و ٤٠٨٩ وابن حبان ٤٠٨٨ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها».
__________
(١) البيت لخالد بن زهير «ديوان الهذليين» ١/ ١٥٨.
340
وقد قرأ ابن مسعود، وابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر».
قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله. وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدري: (فإذا عزمتُ) بضم التاء. فأما التوكل، فقد سبق شرحه.
ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شيء، فتوكل على الله، لا على المشاورة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ قال ابن فارس: النصر: العون، والخذلان: ترك العون. وقيل الكناية في قوله تعالى مِنْ بَعْدِهِ تعود إلى خذلانه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، في سبب نزولها سبعة أقوال:
(٢٢٨) أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(٢٢٩) والثاني: أن رجلاً غلَّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(٢٣٠) والثالث: أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخصهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضاً.
(٢٣١) والرابع: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائعا، فغنم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك.
غير قوي. أخرجه أبو داود ٣٩٧١ والترمذي ٣٠٠٩ وأبو يعلى ٢٤٣٨ والطبري ٨١٣٨ والواحدي ٢٥٥ من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. وفي إسناده ضعف من أجل خصيف بن عبد الرحمن الجزري فإنه صدوق لكنه سيء الحفظ، وقد رواه بعضهم مرسلا.
- وأخرجه الطبري ٨١٣٧ عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس اه.
وورد من وجه آخر عن ابن عباس، أخرجه الطبراني ١١/ ١٠١ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٦ وإسناده ضعيف لضعف محمد بن أحمد النرسي شيخ الطبراني. والله أعلم.
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٧ م عن الضحاك عن ابن عباس والضحاك لم يسمع ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك الحديث والسورة نزلت قبل حنين بزمن، فهذا خبر باطل.
لم أقف على إسناده. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بدون إسناد، فهذا لا شيء، لخلوه عن الإسناد.
ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٤٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٧ عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف.
341
(٢٣٢) والخامس: أن قوماً غلُّوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أخذ شيئا، فهو له» فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم ألّا تبرحوا؟! أظننتم أنّا نغلّ؟!» فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب، ومقاتل.
والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظيّ، وابن إسحاق «١».
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية.
واختلف القرّاء في «يغل» فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بفتح الياء وضمّ الغين، ومعناها:
يخون، وفي هذه الخيانة قولان: أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين. والثاني: خيانة الوحي على قول القرظيّ، وابن إسحاق. وقرأ الباقون: بضمّ الياء وفتح الغين، ولها وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى يخان، ويجوز أن يكون: يلفى خائنا، يقال: أغللت فلانا، أي: وجدته غالا، كما يقال:
أحمقته: وجدته أحمق، وأحمدته: وجدته محمودا، قاله الحسن، وابن قتيبة. والثاني: يخوّن، قاله الفرّاء، وأجازه الزجّاج، وردّه ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال: يغلل، كما يقال: يفسق ويخون، ويفجر.
وقيل: «اللام» في قوله «لنبيّ» منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبيّ ليغلّ، ومثله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «٢» أي: ما كان الله ليتّخذ ولدا. وهذه الآية من ألطف التّعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، فدلّ على أنّ الغلول في غيره. ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «٣» وقد ذكر عن السّدّيّ نحو هذا.
قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري تحت الشّجر، والغلّ: وهو الحقد الكامن في الصّدر، وأصل الباب الاختفاء. وفي إتيانه بما غلّ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يأتي بما غلّه، يحمله، ويدلّ عليه ما روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة قال:
(٢٣٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٥٢ وعبد بن حميد كما في «الدر» ٢/ ١٦٢ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٨ م عن الكلبي ومقاتل بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ٤٣٤: ذكره الثعلبي والواحدي في «أسبابه» عن الكلبي ومقاتل... اه.
وهو معضل، مقاتل إن كان ابن سليمان فهو متروك متهم، وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة، وأما الكلبي فمتروك متهم ولم أر من أسنده، ولا روي عن غيرهما.
__________
(١) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٨١٤٧ عن ابن إسحاق، وهذا معضل فهو ضعيف جدا.
(٢) سورة مريم: ٣٦.
(٣) سورة سبأ: ٢٥.
342
(٢٣٤) قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: «لا أُلفينَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك». الرغاء: صوت البعير، والثغاء: صوت الشاة، والنفس: ما يُغل من السَّبي، والرقاع: الثياب، والصامت: المال.
والقول الثاني: أنه يأتي حاملاً إثم ما غل. والثالث: أنه يردُّ عوض ما غل من حسناته. والقول الأوّل أصحّ لمكان الأثر الصّحيح.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٢]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)
قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين:
أحدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان الله، فلم يغل، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حين غل؟! هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور.
والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أُحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجّاج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٣]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ، قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان:
أحدهما: أنها درجات الجنة، قاله الحسن. والثاني: أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفراء، وابن قتيبة. وفيمن عنى بهذا الكلام قولان: أحدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط، فإنهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، وأبي صالح، ومقاتل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
صحيح. أخرجه البخاري ٣٠٧٣ ومسلم ١٨٣١ وابن حبان ٤٨٤٧ و ٤٨٤٨ والطبري ٨١٥٥ و ٨١٥٦ وأحمد ٢/ ٤٢٦ من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.
قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: أنعم عليهم. و «أنفسهم» : جماعتهم، وقيل:
نسبَهم. وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء: (من أنفَسهم) بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج. والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي. وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها خاصة للعرب. روي عن عائشة والجمهور. والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملكٍ، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجاج. وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لما كان يوم أُحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال: بأخذكم الفداء.
قوله تعالى أَوَلَمَّا قال الزجاج: هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له: أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أُحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أُحد مثلها، ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين.
قوله تعالى: أَنَّى هذا، قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟
قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب.
(٢٣٥) وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدَّتهم، فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أُحد سبعون، عدد أسارى بدر، فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداءَ، واختياركم القتل لأنفسكم.
والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أُحد، وتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس،
ضعيف. أخرجه الترمذي ١٥٦٧ والنسائي في «الكبرى» ٨٦٦٢ من حديث علي، وهو حديث ضعيف، ويأتي في سورة الأنفال باستيفاء، وقال الترمذي: حسن غريب.
ومقاتل في آخرين. والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أُحد، فإنه أمرهم بالتحصُّن فيها، فقالوا: بل نخرج، قاله قتادة، والربيع.
قال مقاتل: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النّصر والهزيمة قَدِيرٌ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الجمعان: النبي وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم.
قوله تعالى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أمره. والثاني: قضاؤه، رويا عن ابن عباس.
والثالث: علمه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم.
قال ابن قتيبة: والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جِِحَرتِه، يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال ابن قتيبة: قال الزيادي عن الأصمعي: ولليربوع أربعة أجحرة: النافقاء:
وهو الذي يخرج منه كثيراً، ويدخل منه كثيراً. والقاصعاء، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصِّع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل.
والدّامّاء، سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدمُّ به فم الجحر، كأنه يطليه، ومنه يقال: ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به. والرّاهطاء، ولم يذكر اشتقاقه، وإنما يتخذ هذه الجحر عدداً، فاذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض.
قال أبو زيد: فشبه المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه، ويخرج منه بعقده، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب. قال ابن قتيبة: والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبي، وأصحابه.
(٢٣٦) قال موسى بن عقبة: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أُحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أُبي في ثلاثمائة.
فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين.
والثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنه بمعنى القتال أيضاً. قاله ابن زيد.
قوله تعالى: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما
هذا معضل. وأخرجه الطبري ٨١٩٤ عن السدي، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
أسلمناكم، ذكره ابن اسحاق. والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتّبعناكم. والثالث: إن معناه: أن هناك قتلاً وليس بقتال، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ أي: إلى الكفر أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي: إلى الإيمان، وإنما قال:
يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان. قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فيه وجهان ذكرهما الماورديّ: أحدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر. والثاني: يقولون: نحن أنصار، وهم أعداء. وذكر في الذي يكتمون وجهين: أحدهما: أنه النّفاق. والثاني: العداوة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أُبي. وفي إخوانهم قولان: أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس. والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل.
فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا.
قوله تعالى: وَقَعَدُوا يعني القائلين قعدوا عن الجهاد. قوله تعالى: فَادْرَؤُا أي: فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ الحذر ينفع مع القدر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٩]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً قرأ ابن عامر: قتّلوا بالتشديد. واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في شهداء أُحد.
(٢٣٧) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية» وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضحى.
والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عزّ وجلّ وقالوا: ربّنا أعلم إخواننا،
حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أبو داود ٢٥٢٠ والحاكم ٢/ ٨٨ وأبو يعلى ٢٣٣١ وأحمد ١/ ٢٦٦ والبيهقي ٩/ ١٦٣ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٦١ عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن سعيد بن جابر عن ابن عباس، ورجاله ثقات. وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية أحمد، وحديثه حسن. وأخرجه أحمد ١/ ٢٦٥- ٢٦٦ والطبري ٨٢٠٥ عن أبي الزبير عن ابن عباس وإسناده منقطع أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس كما في مراسيل ابن أبي حاتم ص ١٩٣. ويشهد له حديث ابن مسعود. أخرجه مسلم ١٨٨٧ والطيالسي ١١٤٣ والبيهقي ٩/ ١٦٣ والطبري ٨٢٠٨، والله أعلم.
فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس «١»، وهو قول مقاتل.
(٢٣٨) والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر معونة، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر «٢» البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى فيهم:
«بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت، فنزلت هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً.
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أن رجلاً قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا، وقالوا نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
فأما التفسير، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتاً كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد بينا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٠]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
قوله تعالى: فَرِحِينَ قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة، فأما الذي آتاهم الله، فما نالوا من كرامة الله ورزقه، والاستبشار: السرور بالبشارة، بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ إخوانهم من المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل، قاله قتادة. والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي.
ذكره ابن هشام في «السيرة» ٣/ ١٤٧ في أثناء خبر مطول. وأخرج بعضه الطبري ٨٢٢٤ من حديث أنس.
وانظر «الدر المنثور» ٢/ ١٦٩ و «دلائل النبوة» للبيهقي ٣/ ٣٣٨- ٣٤١ وأصله في «صحيح البخاري» ٢٨٠١ من حديث أنس.
__________
(١) لم أقف على إسناده إلى سعيد، ولا يصح، والصواب أنها نزلت في شهداء أحد.
(٢) في «اللسان» : كسر البيت: جانبه.
و «الهاء» و «الميم» في قوله تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفراء:
معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن. وفي ماذا يرتفع «الخوف» و «الحزن» عنهم؟
فيه قولان:
أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم.
والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧١]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مقاتل: برحمة ورزق.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن الله، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٢]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ في سبب نزولها قولان:
(٢٣٩) أحدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد، ندب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه لاتباعهم، ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوماً، فقال: إن لقيتم محمداً، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلةٍ، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور.
(٢٤٠) والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أُحد، قال: يا محمد، موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نُعيم بن مسعود، فقال: إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير، فلقيهم فخوفهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآيات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وعكرمة. والاستجابة: الإجابة.
وأنشدوا:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «١»
لم أره عن ابن عباس بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الطبري ٨٢٣٨ بنحوه عن ابن عباس، وفي الإسناد مجاهيل.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٦٨ عن عمرو بن دينار مرسلا بهذا السياق. وأخرجه الطبري ٨٢٣٦ عن قتادة بنحوه.
أخرجه الطبري ٤٢٤٦ عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وأخرج الطبري ٨٢٤٨ بعضه عن مجاهد وكرره برقم ٨٢٤٩ عن مجاهد وعن ابن جريج، وأخرجه ٨٢٥٠ عن عكرمة مختصرا أيضا وليس فيه ذكر نعيم بن مسعود.
__________
(١) هو عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي وصدره: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
أي: فلم يجبه. وفي مراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال:
أحدها: ليرهب العدو باتباعهم. والثاني: لموعد أبي سفيان. والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم. وقد سبق الكلام في القرح.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ أي: أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٣]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ في المراد بالناس ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن عباس، وابن إسحاق. والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين. والثالث: أنهم المنافقون، لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السدي.
قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه.
قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم، وإِقامة على نصرة نبيهم، وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ أي: هو الذي يكفينا أمرهم. فأما «الوكيل»، فقال الفراء: الوكيل:
الكافي، واختاره ابن القاسم. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل، قال: ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له، وقام به. وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه. وحكى ابن الأنباري أن قوماً قالوا: الوكيل: الرّبّ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٤]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ الانقلاب: الرجوع. وفي النعمة، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد. والثاني: العافية، قاله السدي. والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج. وفي الفضل، ثلاثة أقوال: أحدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر، خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجراً يوافى كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد. والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل. والثالث: أنه الثواب، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طلب القوم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ أي: ذو منّ بدفع المشركين عن المؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٥]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان، سوّله للمخوِّفين. وفي قوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قولان:
أحدهما: أن معناه: يخوّفكم بأوليائه، قاله الفراء، واستدلّ بقوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «١» أي: ببأس، وبقوله تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «٢» أي: بيوم التلاق. وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباري في ذلك «٣» :
وأيقنتُ التفرُّقَ يوم قالوا تُقُسِّمَ مال أربد بالسهام
أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة.
والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسدي، وذكره الزجاج.
قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ يعني: أولياء الشيطان وَخافُونِ في ترك أمري. وفي «إنْ» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: «إذ»، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجّاج في آخرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، قرأ نافع «يحزنك» «ليحزنني» «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ «٤»، فإنه فتح الياء، وضم الزاي. وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي. قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثراً، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال: أحدها:
أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد. والثالث: كفار قريش، قاله الضحاك. والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام، ذكره الماوردي.
وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم. فإن قيل: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب: لا يحزنك فعلهم، فإنك منصور عليهم.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لن ينقصوا الله شيئاً بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، قاله عطاء.
قال ابن عباس: والحظ: النصيب، والآخرة: الجنة. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
(١) سورة الكهف: ٤.
(٢) سورة غافر: ١٥.
(٣) البيت للبيد بن ربيعة «الأغاني» ١٥/ ١٣٣.
(٤) سورة الأنبياء: ١٠٣.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ، قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء. والثالث: في مشركي مكة، قاله مقاتل. والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: «ولا يحسبن الذين كفروا» «ولا يحسبن الذين يبخلون» «ولا يحسبنّ الذين يفرحون» بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنّه فتح السين، وقرأ حمزة بالتاء، وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فإنهما بالياء، إلا أن عاصماً فتح السين، وكسرها الكسائي، ولم يختلفوا في وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا أنها بالتاء. نُمْلِي لَهُمْ: أي: نطيل لهم في العمر، ومثله: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قال ابن الأنباري:
واشتقاق «نملي لهم» من الملوة، وهي المدة من الزمان، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: وتملّ حبيباً، أي: لتطل أيامك معه. قال متمم بن نويرة:
بودِّيَ لو أني تملَّيت عمره بما لي من مال طريف وتالد «١»
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس «٢».
والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه الآية، هذا قول أبي العالية.
(٢٤١) والثالث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: عُرضتْ عليَّ أُمتي، وأُعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٧١ عن السدي بدون إسناد فهو لا شيء. وأخرج الطبري ٨٢٧٣ نحوه عن السدي.
__________
(١) في «اللسان» التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك. وهو نقيض الطارف والطريف: ما استحدثت من المال واستطرفته.
(٢) ذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٧٢ عن الكلبي بدون سند، والكلبي متهم وانظر الحديث الآتي. [.....]
والرابع: أن اليهود، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة.
والخامس: أن قوماً من المنافقين ادَّعوْا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم أُحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدمشقي.
وفي المخاطب بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق. قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني.
قوله تعالى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر حَتَّى يَمِيزَ ولِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب:
«يميز» بالتشديد، وكذلك في الأنفال: «ليميّز الله الخبيث». قال أبو علي: مزت وميَّزت لغتان. قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلص. فأما الطيب، فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج. والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي.
وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر. والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق. قال مجاهد: فميّز الله يوم أُحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلّفوا. والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف.
فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت التكاليف بانَ أمرُه، هذا قول ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قولان: أحدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب، قاله السّدّيّ. و «يجتبي» بمعنى يختار، قاله الزجاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا الأنبياء الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وفي رواية السدي في آخرين.
والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، واختاره الزجاج.
قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه. قال الشاعر:
إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه وخالف والسفيه إِلى خلاف «١»
يريد جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو العلم.
قوله تعالى: هُوَ إشارة إلى البخل وليس مذكوراً، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون».
وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال: أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان.
(٢٤٢) روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع «٢» أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل.
والثاني: أنه يجعل طوقاً من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم.
والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يموت أهل السّماوات وأهل الأرض، ويبقى رب العالمين، قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق، وانفرد عزّ وجل صار ذلك له وراثة.
قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ وقرأ الباقون بالتاء، لأنّ قبله وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨١]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ في سبب نزولها قولان:
(٢٤٣) أحدهما: أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد
صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠١٢ والنسائي في «الكبرى» ٢٢٢١ و ١١٠٨٤ وابن ماجة ١٧٨٤ من حديث ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو في صحيح البخاري ١٤٠٣ و ٤٥٦٥ ومالك ١/ ٢٥٦- ٢٥٧ وأحمد ٢/ ٢٧٩ والنسائي ٥/ ٣٩ وأبو يعلى ٦٣١٩ وابن حبان ٣٢٥٨ من حديث أبي هريرة. وورد من حديث جابر أخرجه مسلم ٩٨٨ والدارمي ١/ ٣٨٠ وابن حبان ٣٢٤٤ وله شواهد تبلغ به حد الشهرة. وانظر «تفسير القرطبي» ١٩٢٨ و «تفسير الشوكاني» ٥٧١ بتخريجنا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٧٥ عن عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق. وأخرجه الطبري ٨٣٠٠
__________
(١) أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» ١/ ٢٤٨ وثعلب في «مجالسه» ١/ ٦٠ و «أمالي الشجري» ١/ ٦٨ والبغدادي في «الخزانة» ٢/ ٣٨٣ ولم ينسبوه لقائل.
(٢) وفي «اللسان» : الشجاع: الحية الذكر، وقيل: هو الخبيث المارد منها.
اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتّق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا.
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك.
فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «١»، هذا قول ابن عباس، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً «٢» قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة.
وفي الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، أربعة أقوال: أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن وقتادة. والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لم يستقرضنا وهو غني؟! والرابع: أنه النَّباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا قرأ حمزة وحده: «سيُكتب» بياء مضمومة و «قتلُهم» بالرفع و «يقول» بالياء، وقرأ الباقون: سَنَكْتُبُ ما قالُوا بالنّون، ووَ قَتْلَهُمُ بالنصب و «نقول» بالنون، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة: «ويقول».
وفي معنى سَنَكْتُبُ ما قالُوا قولان: أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس.
والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط! فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قال الزجاج: ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ: عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٢]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى العذاب، والذي قدّمت أيديهم: الكفر والخطايا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
من حديث ابن عباس، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول. وأخرجه الطبري ٨٣٠٢ عن السدي مرسلا، باختصار، و ٨٣١٦ عن عكرمة، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، ويعلم أن له أصلا، والله أعلم.
__________
(١) آل عمران: ١٨٦.
(٢) البقرة: ٢٤٥.
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا. قال ابن عباس:
(٢٤٤) نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إن الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
قال ابن قتيبة: والقربان: ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء فأكلته، وكانت ناراً لها دويُّ، وحفيف. وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجداً، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات، وَبِالَّذِي سألتم من القربان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ معناه: لست بأول رسول كذب.
قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء.
قوله تعالى: وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال أبو سليمان: يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. قال ابن عباس:
(٢٤٥) لما نزل قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «١» قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية.
وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.
لم أره عن ابن عباس، ولعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد روى الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٧٧ عن الكلبي بلا سند، والكلبي متروك متهم بالكذب، والصواب الخبر المتقدم، وأن المراد بذلك فنحاص.
يأتي في سورة السجدة.
__________
(١) السجدة: ١١.
قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ قال ابن قتيبة: نُجِّي وأُبعد. فَقَدْ فازَ قال الزجاج: تأويل فاز.
تباعد عن المكروه ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز.
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٢٤٦) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية، قال كعب بن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي «١»، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي «٢».
(٢٤٧) والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
صحيح. أخرجه البخاري ٢٩٨٧ ومسلم ١٧٩٨ والطبراني في الكبير ١/ ٣٨٩ من حديث أسامة بن زيد.
تنبيه: لفظ الحديث عند البخاري والطبراني.... قال الله عز وجل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ... وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب.
أخرجه الطبري ٨٣١٧ عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣/ ١٩٦- ١٩٨ عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح، لكن ليس فيه نزول الآية، فقد أخرج البخاري ٢٥١٠ و ٣٠٣١ و ٣٠٣٢ و ٤٠٣٧ ومسلم ١٨٠١ وأبي داود ٢٧٦٨ من حديث جابر رضي الله عنه. يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم» : فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة- قال سفيان: يعني السلاح- فوعده أن يأتيه، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه». وورد بألفاظ أخرى.
__________
(١) تقدم.
(٢) تقدم.
وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري.
قال الزجّاج: ومعنى لَتُبْلَوُنَّ: لتخبرنّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقاً من غيره. و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها وسكون النون.
وفي البلوى في الأموال قولان: أحدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق.
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال: أحدها: المصائب، والقتل. والثاني: ما فرض من العبادات.
والثالث: الأمراض. والرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر.
وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم.
قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، والَّذِينَ أَشْرَكُوا: مشركو العرب وَإِنْ تَصْبِرُوا على الأذى وَتَتَّقُوا الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.

فصل: والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السّيف.


[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل. فعلى هذا، الكتاب: التوراة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيننه» و «تكتمونه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من قال:
هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا «١».
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٤٣٦ (آل عمران: ١٨٧) : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».
قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ قال الزجاج: أي: رمَوْا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق:
تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي بظَهْرٍ ولا يعيا عليَّ جوابها «١»
معناه: لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك، مطرحة.
وفي هاء «فنبذوه» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني: إلى الكتاب.
قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٨]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبنَّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال «٢» :
(٢٤٨) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس:
إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير «٣». والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها، أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصّلاة، وأولياء
حديث صحيح لكن ليس فيه ذكر نزول الآية، وإنما فيه أنهم المراد بهذه الآية، فقد أخرجه البخاري ٤٥٦٨ ومسلم ٢٧٧٨ ح ٨ والترمذي ٣٠١٤ والنسائي في «التفسير» ١٠٦ والطبري ٨٣٤٩ والحاكم ٢/ ٢٩٩ والواحدي ٢٨١ من طرق أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كذلك حتى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. واللفظ للبخاري.
__________
(١) في «اللسان» : رجل تكلّف عملا فيعيا به وعنه إذا لم يهتد لوجه عمله.
(٢) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٥٤٩ (آل عمران: ١٨٨) : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: «عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله عز وجل أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يكتمونه». لأن قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية، في سياق الخبر عنهم وهو شبيه بقصتهم، مع اتفاق أهل التأويل بأنهم معنيون بذلك.
(٣) أخرجه الطبري ٨٣٤٣ عن سعيد مرسلا.
358
الله، فنزلت هذه الآية «١»، هذا قول الضحاك، والسدي.
(٢٤٩) والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أن ناساً من اليهود جهزوا جيشا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي»
. والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج «٣».
(٢٥٠) والثامن: أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية «٤» أقوال: أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني: تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس:
اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون.
وفي قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ستة أقوال: أحدها: أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني: أحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن
أخرجه الطبري ٨٣٥٠ عن قتادة مرسلا بنحوه، و ٨٣٥١ من طريق عبد الرزاق بن معمر عن قتادة مرسلا باختصار. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ١/ ١٩٢ عن الحسن مرسلا مختصرا.
صحيح أخرجه البخاري ٤٥٦٧ ومسلم ٢٧٧٧ ح ٧ ص ٢١٤٢ والطبري ٨٣٣٥ والواحدي ٢٨٠ من طرق عن أبي سعيد الخدري.
__________
(١) عزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٨٣ للضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٨٣٤٠ عن جويبر عن الضحاك مع اختلاف يسير فيه، وجويبر هو ابن سعيد متروك، وكرره الطبري ٨٣٣٩ من وجه آخر عن الضحاك، وكرره ٨٣٤٢ عن السدي نحوه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أره مسندا، وعزاه المصنف للزجاج. [.....]
(٤) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٥٤٩ عني بذلك أهل الكتاب وتأويل الآية: لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ومخالفتهم أمري.
359
عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون.
قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فلا يحسبُنهم»، بالياء وضم الباء. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت» وما أشبهها، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيداً له، فتقول: لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقاً. قوله تعالى بِمَفازَةٍ قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٩]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير. وفي قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٠]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٢٥١) أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء.
وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «١» قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩١]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً في هذا الذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذّكر في
ضعيف منكر، أخرجه الطبراني ١٢٣٢٢ والواحدي في «الأسباب» ٢٨٤ عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف يحيى بن عبد الحميد الحماني، وبه أعله الحافظ الهيثمي في «المجمع» ٦/ ٣٢٩، ثم المتن منكر.
وقال الحافظ في «الفتح» ٨/ ٢٣٥: فيه إشكال أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة اه. وقال ابن كثير في «تفسيره» ١/ ٤٣٨: وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم.
__________
(١) البقرة: ١٦٤.
الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف، فالمعنى:
يخافون الله قياماً في تصرفهم وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم.
قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن فارس: الفكرة: تردد القلب في الشيء. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه.
قوله تعالى: رَبَّنا قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي: خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى سُبْحانَكَ: براءةً لك من السوء، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً، فَقِنا عَذابَ النَّارِ فقد صدَّقْنا أنّ لك جنّة ونارا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٢]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال الزجاج: المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجةً أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٣]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً في المنادي قولان: أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري.
قوله تعالى: يُنادِي لِلْإِيمانِ فيه قولان: أحدهما: ينادي إلى الإيمان، ومثله: الَّذِي هَدانا لِهذا «١»، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «٢»، قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا منادياً للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره: غطها عنا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح. ومعنى مَعَ الْأَبْرارِ: فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصّالحون.
(١) الأعراف: ٤٣.
(٢) الزلزلة: ٥.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٤]

رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا قال ابن عباس: يعنون: الجنة عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا.
والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم، وظفرنا عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
(٢٥٢) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟
فنزلت هذه الآية. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أُضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أُنثى.
وفي معنى قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ثلاثة أقوال: أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنُصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء.
قوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني:
المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، وَقُتِلُوا المشركين وَقُتِلُوا. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و «قتلوا وقاتلوا». قال أبو علي: تقديم «قتلوا» جائز، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى، مؤخراً في اللفظ.
حديث حسن. أخرجه الطبري ٨٣٦٧ من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه: قالت أم سلمة، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٤٩٨ والترمذي ٣٠٢٣ عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم ٢/ ٣٠٠ والواحدي ٢٨٥ عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة- رجل من ولد أم سلمة قال:
قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد، وقد توبع في ما تقدم، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.
قوله تعالى: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدرٌ مؤكد لما قبله، لأن معنى وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ: لأثيبنّهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما:
أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٢٥٣) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً، فأبى إلّا على رهن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض» فنزلت، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديباً وتحذيراً، وإن كان لا يغتر.
وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال: أحدها: تصرُّفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: تقلُّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة ومقاتل.
والثالث: تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين. قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد: الفراش.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قرأ أبو جعفر: «لكنَّ» بالتشديد هاهنا، وفي «الزُمر» قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: «النزل» الثواب. قال ابن فارس: النُّزُل: ما يهيأ للنّزيل، والنّزيل:
الضّيف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
لم أقف عليه هكذا، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ....- طه: ١٣١- أخرجه الواحدي ٦١٥ والطبري ٢٢٤٥٥ من حديث أبي رافع، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وكرره الطبري ٢٤٤٥٦ من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر، لأن سورة طه مكية، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي، وسيأتي.
وانظر «تفسير القرطبي» ٤٣٣٢ بتخريجنا.
(٢٥٤) أحدها: أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلّى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه.
والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله عطاء «١».
قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني: القرآن، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني: كتابهم. والخاشع:
الذليل. لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وليس يومئذ غزوٌ يرابَط.
وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال: أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. والثاني:
الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضاً. والرابع:
الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة الله، قاله قتادة.
وفي الذي أمروا بمصابرته قولان: أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظيّ.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٨٧ بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢٤٦ للثعلبي عن ابن عباس وقتادة.
- وخبر جابر، أخرجه الطبري ٨٣٧٦ وفيه رواد بن الجراح، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» ١٠٨ و ١٠٩ والبزار «كشف الأستار» ٣٨٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٦٨٨ والواحدي ٢٨٨ ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع ٣/ ٣٨، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري ١٣٣٣ ومسلم ٩٥١.
__________
(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٥٦٠ (آل عمران: ١٩٩) : فإن قال قائل: فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟
قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف.
وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل.
364
وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان: أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌ يُعدُّ لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة، أُمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ»، ومعنى «الفلاح» «١».
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣١٣: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء، وقيل: على الصلوات الخمس وقيل: إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع.
والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة: رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، واحتج بقوله عليه السلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا.
قلت: إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا.
والمرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد: للرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.
365
Icon