تفسير سورة المرسلات

الدر المصون
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿عُرْفاً﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسَلات. والعُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. قال الشاعر:
٤٤٥٤ - مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ «مُرْسَلة» الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ «مُرْسَل» المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ.
629
وفيه ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف. والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو: «بَكُر» في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ، والمشهورةُ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن.
630
قوله: ﴿عَصْفاً﴾ : مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك «نَشْراً» و «فَرْقاً» انتصبا على المصدرِ أيضاً.
قوله: ﴿ذِكْراً﴾ : مفعولٌ به، ناصبُه «المُلْقِيات». وقرأ العامَّةُ «فالمُلْقِياتِ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القافِ اسمَ فاعلٍ. وابن عباس بفتحِ اللامِ وتشديدِ القافِ، من التَّلْقِية، وهي إيصالُ الكلامِ إلى المخاطبِ. ورَوَى عنه المهدويُّ أيضاً فتحَ القافِ اسمَ مفعولٍ أي: مُلْقَيَةٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ تعالى.
قوله: ﴿عُذْراً أَوْ نُذْراً﴾ : فيهما أوجهٌ، أحدُها: أنَّهما بدلانِ مِنْ «ذِكْراً». الثاني: أنهما منصوبان به على المفعوليةِ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ جائزٌ. ومنه ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤ - ١٥]. الثالث: أنَّهما مفعولان مِنْ أجلِهما، والعاملُ فيه: إمَّا «المُلْقِيات»، وإمَّا «ذِكْراً» ؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ مَعْلولاً بأحدِهما، وحينئذٍ يجوزُ
630
في «عُذْراً» و «نُذْراً» وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونا مصدرَيْنِ بسكونِ العينِ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أَنْ يكونا جمعَ عَذِير ونَذِير، المرادِ بهما المصدرُ بمعنى: الإِعذارِ والإِنذارِ، كالنَّكير بمعنى الإِنكار. الرابع: أنَّهما منصوبان على الحالِ من «المُلْقِيات»، أو من الضمير فيها، وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْنِ واقعَيْنِ مَوْقِعَ الحالِ بالتأويلِ المعروفِ في أمثاله، وأَنْ يكونا جمعَ عذيرٍ ونذيرٍ مُراداً بهما المصدرُ، أو مراداً بهما اسمُ الفاعلِ بمعنى: المُعْذِر والمُنْذِر، أي: مُعْذِرين أو مُنْذِرين.
وقرأ العامَّةُ بسكونِ الذالِ مِنْ «عُذْراً» و «نُذْراً». وقرأ زيدُ ابن ثابت وابن خارجة وطلحةُ بضمِّها والحَرَميَّان وابنُ عامر وأبو بكر بسكونِها في «عُذْراً» وضمِّها في «نُذُراً». والسكونُ والضمُّ كما تقدَّمَ في أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ كلُّ منهما أصلاً للآخرِ، وأَنْ يكونا أصلَيْنِ، ويجوز في كلٍ من المثقَّلِ والمخفَّفِ أن يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ جمعاً سَكَنَتْ عينُه تخفيفاً. وقرأ إبراهيم التيمي «عُذْراً ونُذْراً» بواو العطفِ موضعَ «أو»، وهي تدلُّ على أنَّ «أو» بمعنى الواو.
631
قوله: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ﴾ : هذا جوابُ القسمِ في قولِه والمُرْسَلاتِ «، وما بعده معطوفٌ عليه، وليس قَسَماً مستقلاً، لِما تقدَّم في أولِ هذا الموضوع، ولوقوعِ الفاءِ عاطفةً؛ لأنها لا تكونُ للقَسَم، و» ما «موصولةٌ بمعنى الذي هي اسمُ» إنَّ «و» تُوْعَدون «صلَتُها،
631
والعائدُ محذوفٌ أي: إنَّ الذي تُوْعَدُونه. و» لَواقعٌ «خبرُها. وكان مِنْ حَقِّ» إنَّ «أَنْ تُكْتَبَ منفصلةً من» ما «الموصولةِ، ولكنهم كتبوها متصلةً بها.
632
قوله: ﴿فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ﴾ :«النجومُ» مرتفعةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده عند البصريين غيرَ الأخفشِ، وبالابتداء عند الكوفيين والأخفشِ. وفي جواب «إذا» قولان: أحدُهما محذوفٌ تقديرُه: / فإذا طُمِسَت النجومُ وَقَعَ ما تُوْعَدون، لدلالةِ قولِه: «إنَّ ما تُوْعَدُوْن لَواقعٌ»، أو بَانَ الأمرُ. والثاني: أنَّه ﴿لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ على إضمارِ القولِ، أي: يُقال: لأيِّ يومٍ، فالفعلُ في الحقيقةِ هو الجوابُ. وقيل: الجوابُ: «ويلٌ يومئذٍ» نقله مكي، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه لو كان جواباً لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه جملةً اسميةً.
قوله: ﴿أُقِّتَتْ﴾ : قرأ أبو عمروٍ «وُقِّتَتْ» بالواوِ، والباقون «أُقِّتَتْ» بهمزةٍ بدلَ الواوِ. قالوا: وهي الأصلُ؛ لأنَّه من الوَقْتِ، والهمزةُ بدلٌ منها؛ لأنَّها مضمومةٌ ضمةً لازِمَةً. وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك في أولِ هذا الموضوع.
قوله: ﴿لأَيِّ يَوْمٍ﴾ : متعلِّقٌ ب «أُجِّلَتْ» وهذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ. أي: يُقال. وهذا القولُ المضمرُ يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً ل «إذا»، كما تقدَّم، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ «أُقِّتَتْ» أي: مَقُولاً فيها: لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ.
قوله: ﴿لِيَوْمِ الفصل﴾ : بدلٌ مِنْ «لأيِّ يومٍ» بإعادةِ العاملِ. وقيل: بل تتعلَّق بفعلٍ مقدَّرٍ أي: أُجِّلَتْ ليومِ الفَصْل. وقيل: اللامُ بمعنى «إلى» ذكرهما مكيٌّ.
قوله: ﴿وَيْلٌ﴾ : مبتدأٌ، سَوَّغ الابتداءَ به كونُه دعاءً. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف وقعَتِ النكرةُ مبتدأً في قولِه:» ويَلٌ «؟ قلت: هو في أَصْلِهِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِه، ولكنه عُدِل به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ معنى الهلاكِ ودوامِه للمدعُوِّ عليهم. ونحوُه ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] ويجوز: وَيْلاً له بالنصبِ، ولكن لم يُقْرَأْ به». قلت: هذا الذي ذكره ليس من المُسَوِّغاتِ التي عَدَّها النَّحْويون، وإنما المُسَوِّغُ ما ذكرْتُه لك مِنْ كونه دعاءً. وفائدةُ العدولِ إلى الرفع ما ذكره. و «يومئذٍ» ظرفٌ للوَيْل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً ل «وَيْلٌ» و «للمُكَذِّبين» خبرُه.
قوله: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ﴾ : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ «أَهْلَكَ» رباعياً. وقتادة بفتحِه. قال الزمخشري: «مَنْ هَلَكه بمعنى: أَهْلكه. قال العجَّاج:
٤٤٥٥ - ومَهْمَهٍ هالكِ مَنْ تعرَّجا... قلت: ف»
مَنْ «معمولٌ ل» هالك «، وهو مِنْ هَلَكَ. إلاَّ أنَّ بعضَ الناسِ جَعَلَ هذا دليلاً على إعمالِ الصفةِ المشبهةِ في الموصولِ، وجَعَلَها مِن اللازمِ؛ لأنَّ شرطَ الصفةِ المشبهةِ أَنْ تكونَ مِنْ فِعْلٍ لازم، فعلى هذا لا دليلَ فيه.
قوله: ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ﴾ : العامَّةُ على رَفْعِ العينِ استئنافاً أي: ثم نحن نُتْبِعُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء. وقال: «وليس بمعطوفٍ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجِبُ أَنْ يكونَ المعنى: أَهْلَكْنا الأوَّلِيْن، ثم أَتْبَعْناهم الآخِرين في الهلاكِ. وليس كذلكَ؛ لأنَّ هلاكَ الآخرين لم يَقَعْ بعدُ». قلت: ولا حاجةَ في وجهِ الاستئنافِ إلى تقديرِ مبتدأ قبلَ الفعل، بل يُجْعَلُ الفعلُ معطوفاً على مجموع الجملةِ من قولِه: «ألم نُهْلِك» ويَدُّلُّ على هذا الاستئنافِ قراءةُ عبدِ الله «ثم سَنُتْبِعُهم» بسينِ التنفيسِ.
634
وقرأ الأعرجُ والعباسُ عن أبي عمروٍ بتكسيِنها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تسكينٌ للمرفوعِ فهو مستأنف كالمرفوعِ لفظاً. والثاني: أنَّه معطوفٌ على مجزومٍ. والمَعْنِيُّ بالآخِرين حينئذٍ قومُ شُعَيْبٍ ولوطٍ وموسى، وبالأوَّلِيْنَ قومُ نوحٍ وعادٍ وثمودَ.
635
قوله: ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ﴾ : أي: مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيعِ نَفْعَلُ بكلَّ مَنْ أَجْرَمَ.
قوله: ﴿فَقَدَرْنَا﴾ : قرأ نافعٌ والكسائيُّ بالتشديد من التقدير، وهو موافِقٌ لقولِه: ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: ١٩] والباقون بالتخفيف من القُدْرة. ويَدُلُّ عليه قولُه: «فنِعْمَ القادِرون». ويجوز أَنْ يكونَ المعنى على القراءة الأولى: فنِعْمَ القادِرون على تقديرِه، وإن جُعِلت «القادِرون» بمعنى «المُقَدِّرُون» كان جَمْعاً بين اللفظَيْنِ، ومعناهما واحدٌ، ومنه قولُه تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ [الطارق: ١٧] وقولُ الأعشى:
قوله: ﴿كِفَاتاً﴾ : الكِفاتُ: اسمٌ للوِعاءِ الذي يُكْفَتُ فيه أي: يُجْمَعُ، قاله أبو عبيدة. يقال: كَفَتَه يَكْفِتُه أي: جَمَعَه وضَمَّه. وفي الحديث «اكْفِتُوا صِبْيانَكم» وقال الصمصامة بن الطِّرِمَّاح:
٤٤٥٦ - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
٤٤٥٧ - وأنتَ اليوم فوقَ الأرضِ حَيّاً وأنتَ غداً تَضُمُّك في كِفاتِ
وقيل: الكِفاتُ اسمٌ لِمَا يَكْفِتُ كالضِّمام والجِماع. يقال: هذا البابُ جِماعُ الأبوابِ. وفي انتصابِه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «نَجْعَلْ» لأنَّها للتصيير. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من «الأرضَ»، والمفعولُ الثاني «أحياءً وأمواتاً» بمعنى: ألم نُصَيِّرْها/ أحياءً بالنَّبات وأمواتاً بغير نباتٍ أي: بعضُها كذا، وبعضُها كذا. وقيل: كِفاتٌ جمعُ كافِتٍ كصِيامٍ وقِيامٍ في جمعِ صائمٍ وقائمٍ. وقيل: بل هو مصدرٌ كالكتابِ والحسابِ.
قوله: ﴿أَحْيَآءً﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ ب كِفات، قاله مكي، والزمخشريُّ وبدأ به، بعد أن جَعلَ «كِفاتاً» اسمَ ما يَكْفِتُ كقولِهم: الضِّمام والجِماع، هذا يمنعُ أَنْ يكونَ «كِفاتاً» ناصباً ل «أحياءً» لأنه ليس من الأسماءِ العاملةِ، وكذلك إذا جَعَلْناه بمعنى
636
الوِعاء، على قول أبي عبيدةَ، فإنه لا يعملُ أيضاً، وقد نصَّ النحاةُ على أنَّ أسماءَ الأمكنةِ والأزمنةِ والآلات، وإنْ كانَتْ مشتقةً جاريةً على الأفعالِ لا تعملُ، نحو: مَرْمى ومِنْجل، وفي اسم المصدرِ خلافٌ مشهورٌ، ولكنْ إنما يتمشَّى نصبُهما بكِفات على قولِ أبي البقاء، فإنَّه لم يُجَوِّزْ إلاَّ أَنْ يكونَ جمعاً لاسمِ فاعلٍ، أو مصدراً، وكلاهما من الأسماءِ العاملة.
الوجه الثاني: أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه «كِفات» أي: يَكْفِتُهم أحياءً على ظهرِها، وأمواتاً في بَطْنِها، وبه ثنَّى الزمخشري.
الثالث: أن يَنْتَصِبا على الحالِ من «الأرضَ» على حَذْفِ مضافٍ أي: ذاتَ أحياءٍ وأموات.
الرابع: أَنْ يَنْتَصِبا على الحالِ مِنْ محذوفٍ أي: تَكْفِتُكم أحياءً وأمواتاً؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتٌ للإِنسِ، قاله الزمخشريُّ، وإليه نحا مكيٌّ؛ إلاَّ أنَّه قَدَّره غائباً أي: تَجْمعهم الأرضُ في هاتَيْن الحالتَيْن.
الخامس: أَنْ ينتصِبا مفعولاً ثانياً ل «نَجْعل» وكِفاتاً حالٌ كما تقدَّم تقريرُه: وتنكيرُ «أحياءً وأمواتاً» : إمَّا للتَّفْخيمِ أي: تَجْمَعُ أحياءً لا يُقَدَّرُوْن وأمواتاً لا يُحْصَوْن، وإمَّا للتبعيضِ؛ لأنَّ أَحياءَ الإِنس وأمواتَهم ليسوا بجميع الأحياءِ ولا الأمواتِ، وكذلك التنكيرُ في «ماءً فُراتاً» يحتمل المعنَيْيْنِ أيضاً: أمَّا التفخيم فواضِحٌ لعِظَمِ المِنَّةِ به عليهم، وأمَّا التبعيضُ
637
فكقولِه تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] فهذا مُفْهِمٌ للتبعيضِ، والقرآنُ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً.
والشَّامخاتُ: جمعُ «شامِخ»، وهو المرتفعُ جداً ومنه: «شَمَخَ بأَنْفِه» إذا تكبَّر، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْي العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك.
638
والشَّامخاتُ : جمعُ " شامِخ "، وهو المرتفعُ جداً ومنه :" شَمَخَ بأَنْفِه " إذا تكبَّر، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْي العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك.
قوله: ﴿انطلقوا﴾ : أي: يُقال لهم ذلك. وقرأ العامَّةُ «انطَلِقوا» الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد. ورُوَيْسٌ عن يعقوب «انطلَقوا» بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي: لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك. وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ: فانطَلَقوا نحو قولِك: قلت اذهب فذهب، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:قوله :﴿ انطَلِقُواْ ﴾ : أي : يُقال لهم ذلك. وقرأ العامَّةُ " انطَلِقوا " الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد. ورُوَيْسٌ عن يعقوب " انطلَقوا " بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي : لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك. وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ : فانطَلَقوا نحو قولِك : قلت اذهب فذهب، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ.
قوله: ﴿لاَّ ظَلِيلٍ﴾ : صفةٌ ل «ظلٍّ» و «لا» تتوسَّطُ بين الصفةِ والموصوفِ لإِفادةِ النفي، وجيْءَ بالصفةِ الأولى اسماً، وبالثانية فعلاً، دلالةً على نَفْيِ ثبوتِ هذه الصفةِ واستقرارِها للظلِّ، ونَفْيِ التجدُّدِ والحدوثِ للإِغْناءِ عن اللهب.
قوله: ﴿إِنَّهَا﴾ : أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها. وقرأ العامَّةُ: «بَشرَرٍ» بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم
638
بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين. فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق.
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً.
قوله: ﴿كالقصر﴾ العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ. وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع «قَصَرة» يعني بفتح القافِ. قال الزمخشريُّ: «كحاجةٍ وحِوَج» وقال الشيخ: «كحَلَقة من الحديدِ
639
وحِلَق». وقُرىء «كالقَصِرِ» بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ، والأصلُ: كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى. ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه:
٤٤٥٨ - فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ... يريد: ونُمور. فقصَر وكقوله: «النُّجُم» يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور.
640
قوله: ﴿جِمَالَةٌ﴾ : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ «جِمالَةٌ». والباقون «جِمالات». فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة،
640
قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «جِمالة» هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم: «رجِالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه:
٤٤٥٩ - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع «بُوقاً» على «بُوقات» مع قولِهم: «أَبْواق»، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو «: حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ.
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ»
جُمْلة «لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ» جُمالات «جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ» جُمالات «جمعُ جُمالة قاله الزمخشري،
641
وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ» جُمالة «بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.
قوله: ﴿صُفْرٌ﴾ صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ:»
وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ:
٤٤٦٠ - دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري:
٤٤٦١ - حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: «حمراءُ» توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ: «كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ» فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في
642
التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ «انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ:» شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان «قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة:
643
قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ : العامَّةُ على رفعٍ «يومُ» خبراً ل «هذا». وزيد بنُ عليّ والأعرجُ والأعمشُ وأبو حيوةً وعاصمٌ في بعضِ طرقِه بالفتح. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الفتحةِ فتحةُ بناءٍ وهو خبرٌ ل «هذا» كما تقدَّم. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الظرفِ واقعاً خبراً ل «هذا» على أَنْ يُشارَ به لِما تقدَّم من الوعيدِ كأنه قيل: هذا العذابُ المذكورُ كائنٌ يومَ لا يَنْطِقون. وقد تقدَّم آخِرَ المائدة ما يُشْبه هذا في قوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ إلاَّ أنَّ النصبَ هناك متواترٌ.
قوله: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ﴾ : العامَّةُ على عَدَمِ تَسْمِيَةِ الفاعِل. وحكى الأهوازِيُّ عن زيدِ بن علي «ولا يَأْذَنُ» سَمَّى الفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. «فيعتذرون» في رفعِه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ
643
أي: فهم يَعْتَذِرون. قال أبو البقاء: «ويكون المعنى: أنَّهم لا يَنْطِقُون نُطْقاً ينفَعُهم، أو يَنْطقون في بعضِ المواقفِ ولا يَنْطِقُون في بعضها». والثاني: أنه معطوفٌ على «يُؤْذن» فيكون مَنْفِيّاً. ولو نُصِبَ لكان مُتَسَبَّباً عنه «. وقال ابن عطية:» ولم يُنْصَبْ في جوابِ النفيِ لتشابُهِ رؤوسِ الآي، والوجهان جائزان «. انتهى فقد جَعَلَ امتناعَ النصبِ مجردَ المناسبةِ اللفظيةِ، وظاهرُ هذا مع قولِه:» والوجهان جائزان «أنهما بمعنىً واحدٍ، وليس كذلك، بل المرفوعُ له معنىً غيرُ معنى المنصوبِ. وإلى مثلِ هذا ذهبَ الأعلمُ فيُرفع الفعلُ، ويكونُ معناه النصبَ، ورَدَ عليه ابنُ عصفور.
644
قوله: ﴿فِي ظِلاَلٍ﴾ : هذه قراءةُ العامَّةِ، جمعُ ظِلّ. والأعمش «ظُلَلٍ» جمعُ ظُلَّة. وتقدَّم في يس مثلُه، إلاَّ أنهما متواتران.
قوله: ﴿كُلُواْ﴾ : معمولاً لقولٍ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي: كائِنْين في ظلال، مَقُولاً لهم ذلك، وكذلك ﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً﴾ فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي: هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا. ومثله:
644
٤٤٦٢ - فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
٤٤٦٣ - إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا
أي: هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك.
645
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:قوله :﴿ كُلُواْ ﴾ : معمولاً لقولٍ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي : كائِنْين في ظلال، مَقُولاً لهم ذلك، وكذلك ﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً ﴾ فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي : هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا. ومثله :
إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا
أي : هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك.

قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ : متعلقٌ بقولِه: «يُؤمنون» أي: إنْ لم يُؤمنوا بهذا القرآنِ فبأيِّ شيءٍ يُؤْمنون؟ والعامَّةُ على الغَيْبة. وقرأ ابن عامر في روايةٍ ويعقوبُ بالخطاب على الالتفات أو على الانتقال.
Icon