تفسير سورة النبأ

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
٧٨-سورة النبأ
وتسمى سورة ﴿ عم يتساءلون ﴾ وهي مكية وآيها أربعون.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّبأ
وتسمى سورة عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وهي مكية، وآيها أربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)
عَمَّ يَتَساءَلُونَ أي هؤلاء المشركون بالله ورسوله. قال ابن جرير وذلك أن قريشا جعلت، فيما ذكر عنها، تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث.
فقال الله تعالى لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟. و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. انتهى.
والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت. والتفاعل إما على بابه، أو هو بمعنى (فعل) والمعنى على الأول يتساءلون فيما بينهم. وعلى الثاني يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلامه، أو المؤمنين. قيل مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان ونوقش بأن (تفاعل) يكون بمعنى (فعل) كثيرا وإن لم يتعدد فاعله. كتواني زيد وتدانى الأمر. بل حيث لا يمكن التعدد نحو تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: ٦٣]، وقوله:
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للمفخم شأنه، أو للمبكت من أجله الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ أي منقسمون، بعضهم يجحده وآخر يرتاب فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٤ الى ٥]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع للمتسائلين ووعيد لهم. والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم. فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال.
أو سيعلمون ما يحل بهم العقوبات والنكال. فتكريره مع الإبهام، يفيد مبالغة. وفي
ثُمَّ إشعار بأن الوعيد الثاني أشد. لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ. فكأنه قيل:
ردع وزجر لكم شديد، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله. ولذا خص عطفه ب ثُمَّ غالبا. هذا ملخص ما في (العناية).
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٦ الى ١١]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا وموطئا تتمهدونها وتفترشونها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي للأرض. أي أرسيناها بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهادا بسبب ذلك. قال الإمام مفتي مصر: وإنما كانت الجبال أوتادا لأن بروزها في الأرض كبروز الأوتاد المغروزة فيها، ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من الميدان والاضطراب، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك.
كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيشان.
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي ذكورا وإناثا. قال الإمام: ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة ودعة، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقا للملزوم وهو (السبات) بمعنى النوم، وإرادة لّلازم وهو (الاستراحة). وقيل: السبات هو النوم الممتد الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم: إنه مسبوت وبه سبات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر، لما فيه من المنفعة والراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في أماليه في لطائف تأويل هذه الآية.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد، وستره لهم.
قال الرازي: ووجه النعمة في ذلك، أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوّ أو بياتا له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه. قال المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبّر أن المانوية تكذب
وأيضا، فكما أن الإنسان، بسبب اللباس، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع
عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة.
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي وقت معاش. إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦)
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال الرازي: أي سبع سماوات شدادا جمع (شديدة) يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان، لا فطور فيها ولا فروج.
وقال الإمام: السبع الشداد الطرائق السبع. وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة. وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها. وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً أي متلألئا وقّادا. يعني الشمس وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ أي السحائب إذا أعصرت، أي شارفت أن تعصرها الرياح ماءً ثَجَّاجاً أي منصبّا متتابعا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً قال ابن جرير: الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد. والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع.
وقال الزمخشري: يريد ما يتقوّت من نحو الحنطة والشعير، وما يعلف من التبن والحشيش. كما قال: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: ٥٤].
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي حدائق ملتفة الشجر، مجتمعة الأغصان.
قال الرازي: قدم الحب لأنه الأصل في الغذاء. وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه. وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع. فاحتج بقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا إلخ على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر. أي لأن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه، بحكمته الباهرة، نظام العمران.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء، باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة كانَ أي عند الله وفي علمه وحكمه مِيقاتاً أي حدّا معينا، ووقتا مؤقتا، ينتهي الخلق إليه ليرى كلّ جزاء عمله يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان. كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة. كما قال القاشاني والشهاب.
وقال الإمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨]، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي فرقا مختلفة، كل فرقة مع إمامهم، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً قال ابن جرير: أي وشققت السماء فصدعت، فكانت طرقا، وكانت من قبل شدادا لا فطور فيها ولا صدوع.
وقال القاضي فيما نقله الرازيّ: وهذا الفتح هو معنى قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١]، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١]، إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب، وهذا، كما قال ابن جرير، متين للغاية. وتعقب الرازي له، وقوف مع الألفاظ لا يفيد. لا سيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أي رفعت من أماكنها في الهواء. وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ. والجامع أن كلّا منهما يرى على شكل شيء، وليس به. فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك. والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء، ترى كأنها جبال وليست بجبال. بل غبار غليظ متراكم، يرى من بعيد كأنه جبل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥)
جَزاءً وِفاقاً (٢٦)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أي موضع رصد، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد. على أن مِرْصاداً اسم مكان. أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم. على أنه صيغة مبالغة لِلطَّاغِينَ مَآباً أي للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم، منزلا ومرجعا يصيرون إليه لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي دهورا متتابعة إلى غير نهاية. كقوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الأحزاب: ٦٥]، لا
يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً
أي روحا وراحة وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارّا انتهى غليانه وَغَسَّاقاً أي صديدا. وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، في حياض يجتمع فيها، فيسقونه جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا بذلك جزاء موافقا لما ارتكبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأخلاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً قال القاشاني: أي ذلك العذاب، لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافاة والتكذيب بالآيات. أي لفساد العمل والعلم. فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء، ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً قال القاشاني: أي كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم.
وقال الرازيّ: المراد من قوله: كِتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم. وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر. فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال، لأنه واجب لذاته. انتهى.
وهو بمعنى ما نقله الشهاب أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا. وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط. ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٦]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي يقال لهم ذاك، تقريعا وغضبا وتأنيبا لهم من تخفيف العذاب، وإعلاما بمضاعفته.
ولما ذكر وعيد الكفار، تأثره بوعد الأبرار، بقوله سبحانه إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي فوزا بالنعيم. ونجاة من النار، التي هي مآب الطاغين حَدائِقَ وَأَعْناباً الحدائق
جمع حديقة وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به.
والأعناب معروفة. قال ابن جرير: أي وكروم وأعناب، فاستغنى بالأعناب عنها.
وَكَواعِبَ أي بنات فلكت ثديّهن، أي استدارت مع ارتفاع يسير أَتْراباً أي متساويات في السن وَكَأْساً دِهاقاً أي ملأى من خمر لذة للشاربين لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً أي باطلا من القول وَلا كِذَّاباً أي مكاذبة.
أي لا يكذب بعضهم بعضا.
قال الإمام: اللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم. فأراد الله إزاحة ذلك عنهم جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً أي جزاء لهم على صالح أعمالهم، تفضّلا منه تعالى بذلك الجزاء حِساباً أي كافيا، أو على حسب أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : آية ٣٧]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال ابن جرير: أي لا يملكون أن يخاطبوا الله. قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه. وقال غيره: أي لا يملكهم الله منه خطابا في شأن الثواب والعقاب. بل هو المتصرّف فيه وحده. وهذا كما تقول (ملكت منه درهما) ف (من) ابتدائية متعلقة ب (يملكون) وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب، ف (منه) صلة (خطابا) كما تقول (خاطبت منك) على معنى خاطبتك. ك (بعت زيدا) أو (بعت من زيد) ف (منه) بيان مقدم على المصدر لا صلة (يملكون) وقد قرئ (رب) و (الرحمن) بالجر وبالرفع. وقرئ بجر الأول ورفع الثاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ أي جبريل عليه السلام وهو المعبّر عنه بروح القدس في آية أخرى وفيه أقوال أخر نقلها ابن جرير. وما ذكرناه أصوبها. والتنزيل يفسر بعضه بعضا.
ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره، قال: لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام. وثبت أن القيام صحيح من جبريل، والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له. فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؟ وقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال القاشاني: أي صافّين في مراتبهم، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤].
وقال الرازي: يحتمل أن يكون المعنى صفّا وحدا. ويحتمل أنه صفان، ويجوز صفوفا. والصف في الأصل مصدر، فينبئ عن الواحد والجمع. ورجح بعضهم الأخير لآية وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢]، انتهى.
وقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً أي لا يتكلمون في الشفاعة كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٢٥٥]، والضمير للملائكة أو أعمّ كقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: ١٠٥].
قال الزمخشري: هما شريطتان: أن يكون المتكلّم منهم مأذونا له في الكلام، وأن يتكلّم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: ٢٨].
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الواقع الذي لا يمكن إنكاره والْحَقُّ صفة أو خبر.
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً قال ابن جرير: أي فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق، والاستعداد له والعمل بما فيه، النجاة له من أهواله، مرجعا حسنا يؤوب إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (٧٨) : آية ٤٠]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني عذاب الآخرة وقربه. لأن مبدأه الموت وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أي من خير أو شرّ. أي ينظر جزاءه: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أي مثله. لم أصب حظّا من الحياة، لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّ لأمثاله. وقاناه الله بمنه وكرمه.
Icon