تفسير سورة البروج

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة البروج من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة البروج مكية
وهي اثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ والسماء ذات البروج١ : النجوم العظام، أو هي البروج الاثني عشر، أو البروج التي فيها الحرس،
١ عن أبي هريرة رضي الله عنه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرآ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق" أخرجه أحمد، وعن جابر بن سمرة:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج" أخرجه أحمد والدرامي، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وغيرهم /١٢ فتح..
﴿ واليوم الموعود ﴾ : القيامة،
﴿ وشاهد ومشهود ﴾، اختلفوا فيه، والحديث المرسل والضعيف على أنها يوم جمعة، وعرفة، وعليه كثير من السلف، أو الشاهد محمد، والمشهود : القيامة، أو الجمعة، أو الله، أو هما ابن آدم، والقيامة، أو ابن آدم، والجمعة، أو عرفة، والقيامة، أو يوم الذبح وعرفة، أو الله والخلف، أو عكسه، أو أعضاء بني آدم وبنو آدم، والجمعة والنحر، أو آدم والقيامة، أو الملك والقيامة، أو الملك وبنو آدم، أو هذه الأمة وسائر الأمم، أو الله والقيامة،
﴿ قتل ﴾ : لعن، ﴿ أصحاب١ الأخدود ﴾، الأظهر أن جواب القسم محذوف، وهذا دليله كأنه قال : إنهم، أي كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل : تقديره لقد قتل٢ أصحاب الأخدود، وهو جواب القسم، والأخدود : الشق في الأرض، واختلف فيهم، لكن اتفقت كلمتهم على أن بعض الكفرة عمدوا إلى بعض المؤمنين عشرين ألفا أو أقل أو أكثر، من أهل فارس، أو اليمن، أو الحبشة أو نجران أو الشام، وقهروهم أن يرجعوا إلى الكفر فأبوا، فحفروا لهم في الأرض أخاديد، وأججوا فيها نيرانا، وأوعدوهم عليها فلم يقبلوا الكفر فقذفوهم فيها لعنهم الله، ورحمهم الله٣،
١ أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم والترمذي، والنسائي، والطبراني عن صهيب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما- أو قال: فطنا لقنا- فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن، وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره، ، فقال إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام: إنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك، فقال له الراهب: إذا قال لك: أين كنت؟ فقل: عند أهلي، وإذ قال لك أهلك: أين كنت؟ فأخبرهم: إني كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك، إذ مر بجماعة من الناس كثير، قد حبستهم دابة، يقال: إنها كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى، فقتل الدابة فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام، ففزع الناس إليه، وقالوا: قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت عليّ بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال: نعم، فدعا الله فرد عليه بصره، فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم، فبعث إليهم، فأتي بهم، فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله، وقتل الآخر بقتله أخرى، ثم أمر الغلام، فقال: انطلوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه، جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل، ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع الغلام، فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر، فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فأغرق الله الذين كانوا معه، وأنجاه، فقال الغلام للملك: إنك لن تقتلني حتى تصلبني، وترميني، وتقول إذا رميتني: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على السهم، ثم مات، فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام، فقيل للملك: أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال: فخذ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار، ثم جمع الناس، فقال: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال: يقول الله:" قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود" حتى بلغ "العزيز الحميد" فأما الغلام فإنه دفن، ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه، كما وضع حين قتل، ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف، وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب/١٢ فتح..
٢ والجواب يشير إلى أن من فعل مثل فعلهم من أذى المسلمين، ليفتنوهم عن دينهم معلنون مطرودون، فإنهم آذوا بعض المؤمنين لأن آمنوا/١٢ وجيز..
٣ أي: لعن الله القاذف، ورحم المقذوف في النار من هؤلاء القوم (أصحاب الأخدود).
﴿ النار ﴾، بدل اشتمال من الأخدود، ﴿ ذات الوقود ﴾، صفة تبين عظمتها، أي : لها كثرة ما يرتفع به لهبها،
﴿ إذ هم ﴾ : الكفار، ﴿ عليها ﴾ : على حافة النار، ﴿ قعود ﴾، يعذبون المؤمنين،
﴿ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ﴾ : مشاهدون لهذا التعذيب الأليم، أو يشهد بعضهم لبعض عند أميرهم وملكهم بأنه لم يقصر فيما أمر به،
﴿ وما نقموا ﴾ : ما عابوا، وما كرهوا، ﴿ منهم إلا أن يؤمنوا بالله ﴾، ما هو حقيق بأن يكون سببا للثناء، والألفة جعلوه سببا للعيب والكراهة، ﴿ العزيز الحميد١ الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ﴾، وصفه بصفات توجب الإيمان به وحده،
١ وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله:
لا عيب فيهم سوى أن التنزيل بهم يسلوا عن الأهل والأوطان والحشم
وقول الآخر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عناق الطير شكلا عيونها
وقول الآخر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
١٢/ فتح.
.

﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ﴾، بالإحراق، ﴿ ثم لم يتوبوا١، لم يندموا عما أسلفوا، ﴿ فلهم عذاب جهنم ﴾، لكفرهم، ﴿ ولهم عذاب الحريق ﴾، العذاب الزائد في الإحراق بما أحرقوا المؤمنين، وعن بعض٢ لهم عذاب الحريق في الدنيا، وذلك لأن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم٣، أو المراد الذين بلوهم بالأذى على العموم لا أن المراد أصحاب الأخدود خاصة للفاتنين عذابان لكفرهم، ولفتنتهم،
١ عن الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة/١٢..
٢ هو ربيع بن أنس والكلبي/١٢ منه..
٣ حكاه جمع من السلف/١٢ وجيز..
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ﴾، المراد منهم المطروحون في الأخاديد، أو أعم،
﴿ إن بطش ربك ﴾، أخذه بالعنف لأعدائه، ﴿ لشديد ﴾، مضاعف،
﴿ إنه هو يبدئ ﴾، الخلق، ﴿ ويعيد ﴾، بعد الموت،
﴿ وهو الغفور ﴾، للمؤمنين، ﴿ الودود ﴾، المحب لهم،
﴿ ذو العرش ﴾، مالكه، ﴿ المجيد ﴾، العظيم في الذات، والصفات، وقراءة الكسر على صفة العرش فمعناه علوه وسعته،
﴿ فعال لما يريد١، لا يزاحمه أحد، ولا شيء،
١ لما هدد قريشا بأصحاب الأخدود، هددهم ثانيا بفرعون، وقومه فقال:﴿هل أتاك﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ هل أتاك ﴾، يا محمد، ﴿ حديث الجنود ﴾
﴿ فرعون وثمود ﴾، هما بدل من الجنود، والمراد من فرعون هو وقومه، وهذا تقرير لقوله :﴿ إن بطش ربك لشديد ﴾،
﴿ بل الذين كفروا ﴾ : من قومك يا محمد، ﴿ في تكذيب ﴾، للقرآن، ولك أي تكذيب، فلا يعتبرون بسماع قصة من قبلهم، ومعنى ( بل ) الإضراب عن الأمر بالإسماع، والتذكير، كأنه قال : ذكر قومك بشدة بطش ربك، وأسمعهم حكاية فرعون وثمود لعلهم يتعظوا به، بل هم في تكذيب عظيم لا يمكن لهم الارتداع، والاتعاظ،
﴿ والله من ورائهم محيط ﴾ : لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط،
﴿ بل هو ﴾ : بل هذا الذي كذبوا به، ﴿ قرآن مجيد ﴾ : عظيم في اللفظ والمعنى،
﴿ في لوح محفوظ ﴾، بالرفع صفة القرآن، أي : محفوظ من الزيادة، والنقصان، وبالجر صفة اللوح، وعن أنس بن مالك وغيره : إن هذا اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل، وعن مقاتل : هو عن يمين العرش، وفي الطبراني، قال عليه السلام :" إن الله قد خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء وصفحاتها من ياقوت حمراء قلمه نور، وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق، ويميت، ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما شاء " ١.
١ أخرجه الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس- رضي الله عنه- كما في "ابن كثير" (٤/٤٩٧) و"الدر المنثور" (٦/٥٥٨).
Icon