تفسير سورة النحل

اللباب
تفسير سورة سورة النحل من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة النحل
مكية١ إلا قوله سبحانه وتعالى ﴿ وإن عاقبتم ﴾ [ الآية : ١٢٦ ] إلى آخر السورة وحكى الأصم رحمه الله عن بعضهم أنها كلها مدنية٢.
وقال آخرون : من أولها إلى قوله ﴿ كن فيكون ﴾ مدني، وما سواه فمكي، وعن قتادة : بالعكس٣، وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مائة وثمانية وعشرون آية، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.
١ وهو قول الحسن وعكرمة وجابر ذكره الماوردي في "النكت والعيون" (٣/١٧٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٠٤) عن ابن عباس وابن الزبير وعزاه إلى ابن مردويه..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٩/١٧٣)..
٣ ينظر: المصدر السابق..

مكية إلا قوله - سبحانه وتعالى - ﴿وإن عاقبتم﴾ [الآية: ١٢٦] إلى آخر السورة وحكى الأصم رحمه الله عن بعضهم أنها كلها مدنية. وقال آخرون: من أولها إلى قوله ﴿كن فيكون﴾ مدني، وما سواه فمكي، وعن قتادة: بالعكس، وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم على عباده. وهي مائة وثمانية وعشرون آية، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ في «أتَى» وجهان:
أشهرهما: أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى، إذ المراد به يوم القيامة، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به.
والثاني: أنَّه على بابه.
والمراد به مقدماته وأوائله، وهو نصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: جاء أمر الله ودنا وقرب.
وقال ابن عرفة: «تقول العرب: أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي: أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً».
وقال قومٌ: المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبراً.
3
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قوله تعالى: ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ننظر] ما هو كائن، فلما لم ينزل، قالوا: ما نرى شيئاً، [فنزل قوله تعالى] ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] فأشفقوا، فلما امتدَّت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فنزل قوله تعالى ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ فوثب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة، فنزل قوله ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ فاطمأنُّوا.
والاستعجال: طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ وتقرير هذا الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد: إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت.
والثاني: أن يقال: إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت، والمعنى: أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ قبل وقته، فكأنَّ الكفار قالوا: سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول: من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
قوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يجوز أن تكون «ما» مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي: عن إشراكهم به غيره، وأن تكون موصولة اسمية.
وقرأ العامة ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين.
وقرأ الأخوان «تُشْرِكُونَ» بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في «تَسْتَعْجِلُوهُ»
4
والباقون بالياء عوداً على الكفار، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين.
قوله ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة﴾ قد تقدم الخلاف في «يُنَزِّلُ» بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة.
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم «تُنَزَّلُ» [مشدداً] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق. «المَلائِكَةُ» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الجحدري: كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي.
وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل، والأصل تتنزل بتاءين.
وقرأ ابن أبي عبلة: «نُنَزِّلُ» بنونين وتشديد الزَّاي «المَلائِكةَ» نصباً، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف.
قال ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ كبيرٌ» ولم يبين وجه ذلك.
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ، وتخريجه على الالتفات.
قوله: «بِالرُّوحِ» يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة، أي: ومعهم الروحُ.
قوله «مِنْ أمْرهِ» حال من الروح، و «مِنْ» إمَّا لبيانِ الجنس، وإما للتبعيض.
قوله «أنْ أنْذِرُوا» في «أنْ» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [القول]، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] وقال: ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [غافر: ١٥].
الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره: أنَّ الشأن أقول لكم: أنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشري.
الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع، ووصلت بالأمر؛ كقولهم: كتبت إليه بأن قُمْ، وتقدم البحث فيه.
5
فإن قلنا: إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها، وإن قلنا: إنها المخففة، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها مجرورة المحل بدلاً من «الرُّوحِ» لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس.
الثاني: أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل.
الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه.
والأصل: بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.
قوله: ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ﴾ هو مفعول الإنذار، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال: أنْذرتهُ، وأنْذَرتهُ بكذا، أي: أعلموهم بالتوحيد.
وقوله: «فاتَّقُونِ» التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة.

فصل


وجه النَّظم: أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا: هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ، وعلى آخرين بالخير، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟.
فأجاب الله - تعالى - بقوله: ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون﴾ وتقرير هذا الجواب: أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد، وبالعبادة، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق.

فصل


روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: يريد ب «المَلائِكة» جبريل وحده.
وقال الواحديُّ: يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز، كقوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا﴾ [القمر: ١٩]، و ﴿إنَّآ أَنزَلْنَا﴾ [النساء: ١٠٥]، و ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾ [الحجر: ٩].
والمراد بالروح الوحي كما تقدم، وقيل: المراد بالروح هنا النبوة، وقال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: الرحمة، وقال أبو عبيدة: إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام.
6
والباءُ في قوله «بِالرُّوحِ» بمعنى «مع» كقولهم: «خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ» أي: ومعه ثيابهُ.
والمعنى: نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل، وتقرير هذا الوجه: أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ، وكان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تارة ملك الجبال، وتارة ملك البحار، وتارة رضوان، وتارة غيرهم.
وقوله «مِنْ أمْرهِ» أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧]، وقوله: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
وقوله: ﴿على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ يريد الأنبياء المخصوصين برسالته: «أنْ أنْذِرُوا» قال الزجاج: «أنْ» بدلٌ من «الرُّوحِ».
والمعنى: ينزِّل الملائكة بأن أنذروا، أي: أعلموا الخلائق، أنَّه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف.
«فاتَّقُون» فخافون. يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مراتٍ، وعلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خمسين مرَّة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات، وعلى عيسى عشر مراتٍ، وعلى محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ.
7
قوله ﴿ يُنَزِّلُ الملاائكة ﴾ قد تقدم الخلاف في " يُنَزِّلُ " بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة١.
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم " تُنَزَّلُ " [ مشدداً ]٢ مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق. " المَلائِكَةُ " رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الجحدري٣ : كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي.
وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية٤ - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل، والأصل تتنزل بتاءين.
وقرأ ابن أبي٥ عبلة :" نُنَزِّلُ " بنونين وتشديد الزَّاي " المَلائِكةَ " نصباً، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف.
قال ابن عطية٦ :" وفيهما شذوذٌ كبيرٌ " ولم يبين وجه ذلك.
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ، وتخريجه على الالتفات.
قوله :" بِالرُّوحِ " يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة، أي : ومعهم الروحُ.
قوله " مِنْ أمْرهِ " حال من الروح، و " مِنْ " إمَّا لبيانِ الجنس، وإما للتبعيض.
قوله " أنْ أنْذِرُوا " في " أنْ " ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها المفسرة ؛ لأن الوحي فيه ضرب من [ القول ]٧، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي ؛ قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وقال :﴿ يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ].
الثاني : أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره : أنَّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشري٨.
الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع، ووصلت بالأمر ؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قُمْ، وتقدم البحث فيه.
فإن قلنا : إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها، وإن قلنا : إنها المخففة، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها مجرورة المحل بدلاً من " الرُّوحِ " لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس.
الثاني : أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض ؛ كما هو مذهب الخليل.
الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه ؛ وهو مذهب سيبويه٩.
والأصل : بأن أنذروا ؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.
قوله :﴿ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ ﴾ هو مفعول الإنذار، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام ؛ يقال : أنْذرتهُ، وأنْذَرتهُ بكذا، أي : أعلموهم بالتوحيد.
وقوله :" فاتَّقُونِ " التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة.

فصل


وجه النَّظم : أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم ؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون ؛ فكأنَّ الكفار قالوا : هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ، وعلى آخرين بالخير، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله ؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته ؟.
فأجاب الله - تعالى - بقوله :﴿ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون ﴾ وتقرير هذا الجواب : أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد، وبالعبادة، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق.

فصل


روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يريد ب " المَلائِكة " جبريل وحده١٠.
وقال الواحديُّ : يسمَّى الواحد بالجمع ؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز، كقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا ﴾ [ القمر : ١٩ ]، و﴿ إنَّآ أَنزَلْنَا ﴾ [ النساء : ١٠٥ ]، و ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ﴾ [ الحجر : ٩ ].
والمراد بالروح الوحي كما تقدم، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة، وقال قتادة رحمه الله تعالى : الرحمة١١، وقال أبو عبيدة : إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام.
والباءُ في قوله " بِالرُّوحِ " بمعنى " مع " كقولهم :" خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ " أي : ومعه ثيابهُ.
والمعنى : نُنزِّلُ الملائكة مع الروح ؛ وهو جبريل، وتقرير هذا الوجه : أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الأحوالِ ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة ؛ كما في يوم بدرٍ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال، وتارة ملك البحار، وتارة رضوان، وتارة غيرهم.
وقوله " مِنْ أمْرهِ " أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله ؛ كقوله :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ [ مريم : ٦٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ]، وقوله :﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ].
وقوله :﴿ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ يريد الأنبياء المخصوصين برسالته :" أنْ أنْذِرُوا " قال الزجاج :" أنْ " بدلٌ من " الرُّوحِ ".
والمعنى : ينزِّل الملائكة بأن أنذروا، أي : أعلموا الخلائق، أنَّه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف.
" فاتَّقُون " فخافون. يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مراتٍ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات، وعلى عيسى عشر مراتٍ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ.
١ ينظر: الحجة ٣٨٥، والسبعة لأبي علي الفارسي ٥/٥٣ والبحر ٥/٤٥٩، والدر المصون ٤/٣١١..
٢ في ب: بالتشديد..
٣ ينظر: البحر ٥/٤٥٩، والدر المصون ٤/٣١١..
٤ ينظر: المصدر السابق..
٥ ينظر: المصدر السابق..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٧٨..
٧ في ب: القرآن..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٥٩٣..
٩ ينظر: الكتاب ١/٤٦٤ ـ ٤٦٥..
١٠ ذكره الرازي في تفسيره (١٩/١٧٥)..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٥٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٠٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره الماوردي في "تفسيره" (٣/١٧٨) عن الحسن وقتادة والبغوي (٣/٦١) عن قتادة..

قوله: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى﴾ ارتفع ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق.
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ، والأمهاتِ؛ قال تعالى: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١].
7
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ [البقرة: ٢٢] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى: ﴿والسماء بِنَآءً﴾ [البقرة: ٢٢].
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢].
النوع الثاني: أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [الأدون فالأدون] ؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾.
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ﴾ إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول: إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث: أنَّ الغذاء يحصل له: في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [الطبيعة] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، وغيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ: إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.
8
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم: البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا: إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين:
الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.
الوجه الثاني: أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً.
وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ.
قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ متعلق ب «خَلَقَ» و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ.
والنُّطفَةُ: القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي: قطر، وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه: صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال: ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ: ما سال من المائعات يقال: نَطَفَ يَنطفُ، أي: سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ.
قوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل: الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها «إذا» التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى: ﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٣٦].
والثاني: أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.
9
وقيل: ثمَّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله «خَلقَ» عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين.
و «خَصِيمٌ» : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى «خَصِيمٌ» جدولٌ بالبَاطلِ.

فصل


اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك.
قال الواحديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الخصيمُ بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة: خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك، وفعيل بمعنى مفاعل معروف، كالنَّسيبِ والعَشيرِ.
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم: أنَّ [النفوس] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاةءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أن الإنسان في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجئُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أنَّ الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات.
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض، وقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها غلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾.
الأول: أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً، لا حسَّ فيه ولا حركة، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم.
10
والثاني: فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل: ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة.
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟.
والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران.
قوله تعالى: ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب.
قوله
: ﴿والأنعام خَلَقَهَا﴾ العامة على النصب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة.
والثاني: أنه نصب على عطفه على «الإنْسانَ»، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكن «خَلقَهَا» على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً.
وقرئ شاذًّا «والأنْعَامُ» رفعاً وهي مرجوحةٌ.
قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ يجوز أن يتعلق «لكم» ب «خلقها»، أي: لأجلكم ولمنافعكم، ويكون «فيها» خبراً مقدماً، و «دفء» مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون «لَكُمْ» هو الخبر، أو يكون حالاً من «دفء» قاله أبو البقاء.
وردَّه أبو حيَّان: بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز «قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ» فإن تأخَّرت نحو «زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً» جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.
ولقائل أن يقول: لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول: لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.
وقال أبو البقاء أيضاً: «ويجوز أن يرتفع» دِفْءٌ «ب» لَكُمْ «أو ب» فِيهَا «والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب».
قال أبو حيان «ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير: خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ».
11
قال شهابُ الدِّين: «قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا».
والدِّفءُ: اسم لما يدفأ به، أي: يسخنُ.
قال الأصمعيُّ: ويكون الدفءُ السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الائط، أي: في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى.
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها.
وقرأ زيد بن علي: «دِفٌ» بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ: كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم: هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً.
وقال صاحب اللَّوامحِ: «ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً».
قال شهابُ الدِّين: والتشديد وقفاً: لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.
قوله «ومَنافِعُ» أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.

فصل


الحيوانات قسمان:
منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [أفضل] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال: ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ: تمَّ الكلام عند قوله: ﴿والأنعام خَلَقَهَا﴾ ثم ابتدأ وقال: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾.
قال صاحبُ النَّظم: أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: «خَلَقَهَا» ؛ لأنه عطف عليه ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ والتقدير: لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.
12
ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠].
والمعنى: ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال: «ومَنافِعُ» والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها.
ثم قال: ﴿وَمِنْهَا تَكُلُونَ﴾، «مِنْ» ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ.
قال الزمخشري: «فإن قلت: تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ».
قال ابن الخطيب: «ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم».
فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟.
فالجواب: أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ:
الأول: قوله ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ كقوله ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾.
و «حِينَ» منصوب بنفس «جمالٌ» أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في «فِيهَا» أو في «لَكُمْ».
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري - رحمهم الله -: «حِيناً» بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي: حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله: ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] وقدِّمت الإراحة على [السرح] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر.

فصل


قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى الوقت كهذه الآية.
13
الثاني: منتهى الأجل، قال: ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨]، أي: إلى منتهى آجالهم.
الثالث: إلى ستة اشهر، قال تعالى: ﴿تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ [إبراهيم: ٢٥].
الرابع: أربعون سنة، قال تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر﴾ [الإنسان: ١].
أي: أربعون سنة، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح.
والجمالُ: مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ، وحكى الكسائي: جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد: [الرمل]
٣٢٩٧ - فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ
ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة، وسرح الإبل يسرحها سرحاً، أي: أرسلها، وأصله أن يرسلها لترعى، والسَّرحُ: شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سرحةٌ، قال أبيّ: [الطويل]
٣٢٩٨ - أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
وقال: [الكامل]
٣٢٩٩ - أ - بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ
ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ، واستعير أيضاً للطلاق، يقال: سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها، واعتبر من السَّرح المضي فقيل: ناقة [سرحٌ]، أي: سريعة، وقيل: [الكامل]
٣٢٩٩ - ب - سُرُحُ اليَديْنِ كَانَّهَا............................
وحذف مفعولي «تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ» مراعاة للفواصل مع العلم بها.

فصل


الإراحةُ: ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً، وسرح القوم إبلهم سرحاً، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة: هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأُ، وخرجت العرب للنّجعةِ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت.
14
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وكثر فيها النفاء والرغاء، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها.
والمنفعة الثانية قوله: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ﴾.
الأثقالُ: جمع ثِقَل، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يريد من مكة إلى [المدينة] والشام ومصر».
وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم».
وخصَّ ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة.
قوله ﴿لَّمْ تَكُونُواْ﴾ صفة ل «بَلدٍ»، و «إلاَّ بشقِّ» حال من الضمير المرفوع في «بَالغِيهِ»، أي: لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ.
والعامة على كسر الشِّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، أي: المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر: [الطويل]
٣٣٠٠ - رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ
أي: من مشقّتها.
وقيل: المفتوح المصدر، والمكسور الاسم.
وقيل: بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير: إلاَّ بنصف أنفسكم، كما تقول: لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز.

فصل


أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها.
قال بعضهم: المراد من قوله تعالى ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ الإبل فقط، لأنه
15
وصفها في آخر الآية بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط.
والجواب: أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ، وبعضها يختص بالبعض، لأنَّ قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ حاصل في البقر والغنم أيضاً.
﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع.

فصل


احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس، وحملِ الأثقالِ على [الجمال]، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية، فيكون باطلاً.
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
والجواب: أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات.
قوله: ﴿والخيل والبغال والحمير﴾ العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء، والخبر محذوف، أي: مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا.
قال القرطبي: «وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل، كضَائن واحد ضأن. وقيل: لا واحد له، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل، والبغال، والحمير، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل: دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير».
قوله: «وَزِينَةً» في نصبها أوجهٌ:
أحدها: أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول، وعدم اتحاد الفاعل، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون.
الثاني: أنَّها منصوبة على الحال، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول «خَلَقَهَا» وإمَّا مفعول «لِترْكَبُوهَا» فهو مصدر، وأقيم مقام الحالِ.
16
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعلٍ، فقدره الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخلقها زينة.
وقدره ابن عطيَّة وغيره: وجعلها زينةً.
الرابع: أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي: «ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً».
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر: «لتَرْكَبُوهَا زِينَةً» بغير واوٍ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل «لِترْكبُوهَا» متزينين.

فصل


لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل.
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ، والحكم، ومالك، وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بهذه الآيةِ، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله.
ويقوِّي هذا الاستدلال: أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة، هو الركوبُ والزينةُ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ.
وأجاب الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية.
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [السنة] فائدة.
وأجاب غيره: بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن
17
يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته.
واحتجُّوا بقولِ جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ».
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال.
فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال.
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ».
قوله: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾ الآية والمعنى: إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
قوله: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: ١٠٨] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ، فأنَّث على معنى الجمع، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال: سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ، أي: مستقيمٌ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
وقيل: الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى، وما في مصحف عبد الله: «ومِنْكُمْ جَائِرٌ»، وقراءة عليّ: «فَمِنكُْ جَائِرٌ» بالفاء.
وقيل: «ألْ» في «السَّبيلِ» للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل: ومن السبيل فأعاد عليها، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها، وأما إذا كانت «ألْ» للجنس فيعود على لفظها.
18
والجَوْرُ: العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة: [الطويل]
٣٣٠١ -........................ يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي
وقال آخر: [الكامل]
٣٠٢ - ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء: و «قَصْدُ» مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل، أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ.

فصل


قوله: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾ يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة، وقيل: بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين، والقصد: الصراط المستقيم.
﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ يعني: ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ، والجائر منها: اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ.
قال جابر بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» بيانُ الشَّرائع والفرائض.
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» السنة، «ومِنْهَا جَائِرٌ» الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].

فصل


قالت المعتزلة: دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [والأعذار] ؛ لقوله ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾ وكلمة «عَلَى» للوجوب، قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾ وعليه جائرها، أو قال: وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه، بل قال: «ومِنْهَا جَائِرٌ» دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً.
وأجيب: بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين
19
الحق، والمذهب الصحيح، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هذاهم.
وأجاب الأصمُّ: بأنَّ المراد: لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل.
وأجاب الجبائيُّ: بأنَّ المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين.
وأجاب بضعهم؛ فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل، إلاَّ أنَّه - تعالى -[عرَّفكمُ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن، فمن تمسَّك بها فاز، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مراراً.
20
﴿ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾.
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ ﴾ إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله عز وجل :﴿ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة ؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة ؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ]١ العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، و غيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء ؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً ؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.
الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً.
وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ.
قوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ متعلق ب " خَلَقَ " و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ.
والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي : قطر، وقيل : هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ، أي : سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ.
قوله :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ ﴾ عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها " إذا " التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى :﴿ أَعْصِرُ خَمْراً ﴾ [ يوسف : ٣٦ ].
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.
وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله " خَلقَ " عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين.
و " خَصِيمٌ " : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى " خَصِيمٌ " جدولٌ بالبَاطلِ.

فصل


اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك.
قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك، وفعيل بمعنى مفاعل معروف، كالنَّسيبِ والعَشيرِ.
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ]٢ الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أن الإنسان في أولِ الحدوث أنقص حالاً، وأقلُّ فطرة من سائر الحيوانات.
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض، ويقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾.
وفي معنى كونه خصيماً مبيناً وجهان :
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً، لا حسَّ فيه ولا حركة، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم.
والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل :﴿ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة.
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذا بعدما قد رُمّ ؟.
والصحيح أنَّ الآية عامة ؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران.
١ في ب: الصبغة..
٢ في أ: النفس..
قوله تعالى :﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ الآية هذه الدلالة الثالثة ؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب.
قوله :﴿ والأنعام خَلَقَهَا ﴾ العامة على النصب، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة.
والثاني : أنه نصب على عطفه على " الإنْسانَ "، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكون " خَلقَهَا " على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً.
وقرئ١ شاذًّا " والأنْعَامُ " رفعاً وهي مرجوحةٌ.
قوله :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ يجوز أن يتعلق " لكم " ب " خلقها "، أي : لأجلكم ولمنافعكم، ويكون " فيها " خبراً مقدماً، و " دفء " مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون " لَكُمْ " هو الخبر، أو يكون " فيها " هو الخبر، و " لكم " متعلق بما تعلَّق به الخبر، أو يكون " فيها " حالاً من " دفءٌ " لأنه لو تأخر لكان صفة له، أو يكون " فيها " هو الخبر، و " لكم " متعلق بما تعلق به، أو يكون حالاً من " دفء " قاله أبو البقاء٢.
وردَّه أبو حيَّان٣ : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز " قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ " فإن تأخَّرت نحو " زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً " جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.
ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.
وقال أبو البقاء أيضاً :" ويجوز أن يرتفع " دِفْءٌ " ب " لَكُمْ " أو ب " فِيهَا " والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب ".
قال أبو حيان " ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ ".
قال شهابُ الدِّين :" قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراً، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا ".
والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به، أي : يسخنُ.
قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة، يقال : اقعد في دفء هذا الحائط، أي : في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى.
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها.
وقرأ زيد بن علي :" دِفٌ " بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً.
وقال صاحب اللَّوامحِ :" ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً ".
قال شهابُ الدِّين٤ : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.
قوله " ومَنافِعُ " أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة ؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.

فصل


الحيوانات قسمان :
منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [ أفضل ]٥ من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال :﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله :﴿ والأنعام خَلَقَهَا ﴾ ثم ابتدأ وقال :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾.
قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله :" خَلَقَهَا " ؛ لأنه عطف عليه
١ ينظر: الإملاء ٢/٧٨..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٦٠..
٣ ينظر: الدر المصون ٤/٣١٣..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٣١٣..
٥ في ب: أشرف..
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.
ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية ؛ فقال :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ ﴾ [ النحل : ٨٠ ].
والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال :" ومَنافِعُ " والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها.
ثم قال :﴿ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ ﴾، " مِنْ " ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ.
قال الزمخشري١ :" فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به ؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ ".
قال ابن الخطيب٢ :" ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها ؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم ".
فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر ؟.
فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم ؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ :
الأول : قوله ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ كقوله ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾.
و " حِينَ " منصوب بنفس " جمالٌ " أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في " فِيهَا " أو في " لَكُمْ ".
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري٣ - رحمهم الله - :" حِيناً " بالتنوين ؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ]٤ ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح ؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر.

فصل


قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية.
الثاني : منتهى الأجل، قال :﴿ وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ]، أي : إلى منتهى آجالهم.
الثالث : إلى ستة أشهر، قال تعالى :﴿ تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٥ ].
الرابع : أربعون سنة، قال تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر ﴾ [ الإنسان : ١ ].
أي : أربعون سنة، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح.
والجمالُ : مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ، وحكى الكسائي : جَمْلاء كحَمْرَاء ؛ وأنشد :[ الرمل ]
فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ٥
ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة، وسرح الإبل يسرحها سرحاً، أي : أرسلها، وأصله أن يرسلها لترعى، والسَّرحُ : شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سرحةٌ، قال أبيّ :[ الطويل ]
أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ٦
وقال :[ الكامل ]
٣٢٩٩أ- بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ٧
ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ، واستعير أيضاً للطلاق، يقال : سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها، واعتبر من السَّرح المضي فقيل : ناقة [ سرحٌ ]٨، أي : سريعة، وقيل :[ الكامل ]
٣٢٩٩ب- سُرُحُ اليَديْنِ كَأنَّهَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحذف مفعولي " تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ " مراعاة للفواصل مع العلم بها.

فصل


الإراحةُ : ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً، وسرح القوم إبلهم سرحاً، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة : هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأُ، وخرجت العرب للنّجعةِ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت.
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وكثر فيها النفاء والرغاء، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها.
والمنفعة الثانية قوله :
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٩٤..
٢ ينظر: الفخر الرازي ١٩/١٨١..
٣ ينظر: الشواذ ٧٢، والبحر ٨/٤٦١، والدر المصون ٤/٣١٣..
٤ في ب: التسرع..
٥ ينظر: اللسان والتاج والصحاح (جمل)، شرح المفصل ١/١٥، البحر المحيط ٥/٤٦١، روح المعاني ١٤/٩٩، الدر المصون ٤/٣١٤..
٦ تقدم..
٧ تقدم..
٨ في ب: سرحة..
﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ ﴾.
الأثقالُ : جمع ثِقَل، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ. قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- :" يريد من مكة إلى [ المدينة ]١ والشام ومصر " ٢.
وقال الواحديُّ - رحمه الله- :" والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم ".
وخصَّ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة.
قوله ﴿ لَّمْ تَكُونُواْ ﴾ صفة ل " بَلدٍ "، و " إلاَّ بشقِّ " حال من الضمير المرفوع في " بَالغِيهِ "، أي : لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ٣.
والعامة على كسر الشِّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع، وأبي عمرو بفتحها ؛ فقيل : هما مصدران بمعنى واحد، أي : المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر :[ الطويل ]
رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ٤
أي : من مشقّتها.
وقيل : المفتوح المصدر، والمكسور الاسم.
وقيل : بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير : إلاَّ بنصف أنفسكم، كما تقول : لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز.

فصل


إذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها.
قال بعضهم : المراد من قوله تعالى ﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ الإبل فقط، لأنه وصفها في آخر الآية بقوله - عز وجل - ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط.
والجواب : أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ، وبعضها يختص بالبعض، لأنَّ قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ حاصل في البقر والغنم أيضاً.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع.

فصل


احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس، وحملِ الأثقالِ على [ الجمال ]٥، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية، فيكون باطلاً.
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة، بطل القول بها في سائر الصُّورِ ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
والجواب : أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات.
١ في أ: اليمن..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٩/١٨٢)..
٣ ينظر: الإتحاف ٢/١٨١، والمحتسب ٢/٧، والبحر ٥/٤٦٢، والقرطبي ١٠/٤٨، والدر المصون ٤/٣١٤..
٤ البيت للنمر بن تولب: ينظر: اللسان والتاج والصحاح (شقق)، البحر المحيط ٥/٤٦٢، مجاز القرآن ١/٣٥٦، الكامل ١/١٣٧٣، القرطبي ١٠/٤٨، روح المعاني ١٤/١٠٠، الطبري ١٤/٨١، الدر المصون ٤/٣١٤. ويروى صدره هكذا:
وذي إبل يسعى ويحسبها لها.

٥ في ب: الأحمال..
قوله :﴿ والخيل والبغال والحمير ﴾ العامة على نصبها ؛ نسقاً على الأنعام، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها١ على الابتداء، والخبر محذوف، أي : مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا.
قال القرطبي٢ :" وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل، كضَائن واحد ضأن. وقيل : لا واحد له، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل، والبغال، والحمير، بالذكر ؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل : دخلتْ ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير ".
قوله :" وَزِينَةً " في نصبها أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى :﴿ لِتَرْكَبُوهَا ﴾ وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول، وعدم اتحاد الفاعل، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون.
الثاني : أنَّها منصوبة على الحال، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول " خَلَقَهَا " وإمَّا مفعول " لِترْكَبُوهَا " فهو مصدر، وأقيم مقام الحالِ.
الثالث : أن ينتصب بإضمار فعلٍ، فقدره الزمخشريُّ - رحمه الله - وخلقها زينة.
وقدره ابن عطيَّة وغيره : وجعلها زينةً.
الرابع : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي :" ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً ".
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر :" لتَرْكَبُوهَا زِينَةً " بغير واوٍ، وفيها الأوجه المتقدمة ؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل " لِترْكبُوهَا " متزينين.

فصل


لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال :﴿ والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل.
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ ؛ وهو قول ابن عباسٍ، والحكم، ومالك، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً ؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله.
ويقوِّي هذا الاستدلال : أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام.
وأيضاً قوله تعالى :﴿ لِتَرْكَبُوهَا ﴾ يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة، هو الركوبُ والزينةُ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً ؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ ؛ بل يصير بعض المقصودِ.
وأجاب الواحديُّ - رحمه الله- : بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل ؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة ؛ لأنَّ هذه السورة مكية.
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً ؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [ السنة ]٣ فائدة.
وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم ؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته.
واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه- :" نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ " ٤.
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال.
فقال سبحانه وتعالى :﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء ؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال.
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :" إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " ٥.
١ ينظر: البحر ٥/٤٦٢، والقرطبي ١٠/٤٩، والدر المصون ٤/٣٦٤..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٠/٤٩..
٣ في ب: الشبهة..
٤ أخرجه البخاري (٩/٥٦٥) كتاب الذبائح والصيد: باب لحوم الخيل (٥٥٢٠) ومسلم (١٥٤١٣) كتاب الصيد والذبائح: باب في أكل لحوم الخيل حديث (٣٦/١٩٤١) وأبو داود (٣٧٨٨) والدارمي (٢/٨٧) والبيهقي (٩/ ٣٢٦ ـ ٣٢٧) وأحمد (٣/٣٦١) والطحاوي (٢/٣١٨) والبغوي في "شرح السنة" (٦/٤٧) من طرق عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر به..
٥ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٩/١٨٤)..
قوله :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها ؛ إزاحةً للعذرِ ؛ وإزالة للعلَّة ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ [ الأنفال : ٤٢ ].
قوله :﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ الضمير يعود على السبيل ؛ لأنَّها تؤنث ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ، فأنَّث على معنى الجمع، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال : سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ، أي : مستقيمٌ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
وقيل : الضمير يعود على الخلائق ؛ ويؤيده قراءة١ عيسى، وما في مصحف عبد الله :" ومِنْكُمْ جَائِرٌ "، وقراءة٢ عليّ :" فَمِنكُْ جَائِرٌ " بالفاء.
وقيل :" ألْ " في " السَّبيلِ " للعهد ؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية ؛ لأنَّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها، وأما إذا كانت " ألْ " للجنس فيعود على لفظها.
والجَوْرُ : العدول عن الاستقامة ؛ قال النابغة :[ الطويل ]
٣٣٠١-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي٣
وقال آخر :[ الكامل ]
٣٣٠٢- ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى *** قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ٤
وقال أبو البقاء٥ : و " قَصْدُ " مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل، أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ.

فصل


قوله :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة، وقيل : بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين، والقصد : الصراط المستقيم.
﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ يعني : ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ، والجائر منها : اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ.
قال جابر بن عبد الله :" قَصْدُ السَّبيلِ " بيانُ الشَّرائع والفرائض.
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله :" قَصْدُ السَّبيلِ " السنة، " ومِنْهَا جَائِرٌ " الأهواء والبدع ؛ لقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ].

فصل


قالت المعتزلة : دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [ والأعذار ]٦ ؛ لقوله ﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ وكلمة " عَلَى " للوجوب، قال تعالى :﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال ؛ لقال ﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ وعليه جائرها، أو قال : وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه، بل قال :" ومِنْهَا جَائِرٌ " دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً.
وأجيب : بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ ؛ أن يبين الدِّين الحق، والمذهب الصحيح، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال ؛ فذلك غير واجب.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.
وأجاب الأصمُّ : بأنَّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل.
وأجاب الجبائيُّ : بأنَّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب ؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين.
وأجاب بعضهم ؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل، إلاَّ أنَّه - تعالى - [ عرَّفكمُ ]٧ للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن، فمن تمسَّك بها فاز، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مراراً.
١ ينظر: البحر ٥/٤٦٣، والدر ٤/٣١٥..
٢ ينظر: السابق..
٣ عجز بيت لطرفة بن العبد وليس كما قال المصنف رحمه الله وصدره:
عدولية أو من سفين ابن يامن
ينظر: ديوانه (٢٠) البحر المحيط ٥/٤٦٣ وشرح القصائد السبع ١٣٧ وسرح المعلقات العشر ٩٢، وتفسير القرطبي ١٠/٥٤ والخصائص ٢/١٢١، والمنصف ٢/١٢١، ورصف المباني ص ٤٤٧..

٤ البيت لامرىء القيس، ينظر: الديوان/١٥٢، فتح القدير ٣/١٤٩، البحر المحيط ٥/٤٦٣، القرطبي ١٠/٥٤، الدر المصون ٤/٣١٥..
٥ ينظر: الإملاء ٢/٧٨..
٦ في ب: والأغلال..
٧ في أ: عرضكم..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً﴾ لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان:
أحدهما: الذي جعله الله شراباً لنا، ولكل حيٍّ.
20
فإن قيل: دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض؛ وأجاب القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا، ولم ينفِ أن نشرب من غيره.
وأجاب غيره: بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ١٨] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر.
والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات، وهو قوله ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾.
قوله: «لَكُمْ» يجوز أن يتعلق ب «أنْزَلَ» ويجوز أن يكون صفة ل «مَاءً» فيتعلق بمحذوفٍ، فعلى الأول يكون [ «شراب» مبتدأ، و «منه» خبره مقدم عليه، والجملة ايضاً صفة ل «ماء»، وعلى الثاني يكون «شراب» فاعلاً] بالظرف، و «مِنْهُ» حال من «شَرابٌ»، و «مِنَ» الأولى للتبعيض، وكذا الثانية عند بعضهم، لكنَّه مجازٌ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء؛ كقوله: [الرجز]
٣٣٠٣ - أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ... أي: في سحابة، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها.
وقال ابنُ الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول؛ يعني قبل الضمير، أي: ومن جهته أو سقيه شجر، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شربُ شجرٍ أو حياة شجر».
وجعل أبو البقاءِ: الأولى للتبعيض، والثانية للسببية؛ أي: وبسببه غنباتُ شجرٍ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - ﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع﴾.
والشجر ها هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ، وفي الحديث: «لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ» يعني: الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها، وأنشدوا شعراً: [الرجز]
٣٣٠٤ - نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ... يريد: يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، قاله الزجاج.
وقال ابن قتيبة في هذه الآية: المراد من الشجر: الكلأ.
21
فإن قيل: قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦] : إن المراد بالنجم: ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، وأيضاً: عطف الشجر على النَّجم؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم.
فالجواب: أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً: فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت، وقال تعالى: ﴿حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥]، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه.
وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ.
قوله: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ هذه صفة أخرى ل «مَاءً»، والعامة على «تُسِيمُونَ» بضم التاء من أسام، أي: [أرسلها] لترعى.
وقرأ زيد بن علي بفتحها، فيحتمل أن يكون متعدياً، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ، أي: تُسِيمُ مَواشِيكُمْ.
يقال: أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى، وسامت هي تسُومُ سَوْماً، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة.
قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ».
وقال غيره: لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى: ﴿والخيل المسومة﴾ [الآية: ١٤].
قوله تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ﴾ تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة، كما في نظيرتها، ويقال: أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت، وقياسه: مُنْبَت. وقيل: أنْبتَ قد يجيء لازماً، ك «نَبَتَ» ؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
٣٣٠٥ - رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه، وتأويله: ب «أنبت» البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا.
22
وقرأ أبو بكر «نُنْبِتُ» بنون العظمة، والزهري «تنَبِّتُ» بالتشديد، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي، وقيل: بل للتَّكرير، وقرأ أبي: «تُنْبُتُ» بفتح الياء وضمِّ الباءِ. «الزَّرْعَ» وما بعده رفع بالفاعلية، وتقدم خلافُ القراء في رفع «الشَّمْس» وما بعدها ونصبها، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف.

فصل


النبات قسمان:
أحدهما: لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله «تُسِيمُونَ».
والثاني: المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله: ﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب﴾.
فإن قيل: إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [الحيوان] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال: ﴿كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم﴾ [طه: ٥٤] فما الفائدة فيه؟.
فالجواب: أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده، أكمل من اهتمامه بنفسه، وأمَّا الآية الأخرى، فمبنيةٌ على قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ».

فصل


اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء، إمَّا من الحيوانات، وإمَّا من النبات، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [أكل] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ.
وأمَّا الغذاء النباتيُّ، فقسمان: حبوب، وفواكه: أمَّا الحبوب، فإليها الإشارة بقوله: «الزَّرْعَ»، وأما الفواكه، فأشرفها: الزيتونُ، والنَّخيلُ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ، ومنافع الهنِ كثيرة: للأكلِ، والطلاءِ، وإشعالِ السِّراج.
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل، ثم وصف البقية بقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ
23
تَعْلَمُونَ} [النحل: ٨] فكذلك ههنا، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في وصف البقية: ﴿وَمِن كُلِّ الثمرات﴾ تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها، وأجناسها، وصفاتها، ومنافعها، ما لم يكن ذكره، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ، ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى -: هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [قعرِ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ، وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق، والأزهارُ، والأكمام، والثمار، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة، ونسبة التأثيرات الفلكية، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة، فمع تشابه هذه الأشياء، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ.
وختم هذه الآية بقوله: ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء، فأنبت به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، فكأنَّ قائلاً قال: لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا ختم الآية بقوله: ﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر﴾ الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين:
الأول: أن يقول: هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات: إما ذواتها، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها، والأول باطل من وجهين:
الأول: أنَّ الأجسام متماثلةٌ، فلو كان الجسم علَّة لصفة، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ.
والثاني: أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً؛
24
وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته، وما أفضى ثبوته إلى عدمه، كان أصلاً باطلاً.
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً، فبقي أن يكون متحركاً لغيره، وذلك الغير: إمَّا أن يكون سارياص فيه، أو مبايناً عنه، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً، عاد التقسيم الأول فيه، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى -.
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [أفلاكٍ أخرى] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر﴾ يعني: أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار، وحركاتِ الشَّمس والقمر، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل.
ولمَّا تم هذا الدليل، ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي: كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار.
والجواب الثاني عن ذلك السؤال: أنَّ تأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب: قشره على طبع، وعجمه على طبعٍ، ولحمه على طبع ثالثٍ، وماؤه على طبع رابع، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم، والأفلاكِ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضاً إذا أضأنا الشمع، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب، وإذا ثبت هذا، فنسبة الشمس، والقمر، والأنجم، والأفلاك، والطبائع
25
إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفة، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات، والألوان، والأحوال - ليس هو الطبيعة؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾.
ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى -.
فإن قيلك لا يقال: سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً.
فالجواب: أنَّ المعنى: أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه.
فإن قيل: التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار، وفي الجمادات؛ كالشمس والقمر؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ.
والجواب الثاني: لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة؛ لأنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير.
فإن قيل: إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس، فالجواب: حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [حدوث] حركةِ الشمس؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ، فَإنَّها علة لحدوث السنة، لا لحدوث اليومِ.
26
فإن قيل: المؤثر في التسخير هو القدرة، لا الأمر؛ فكيف قال الله: ﴿مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ ؟.
فالجواب: هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ، أم لا، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [والتقدير]، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
ومنهم من قال: إنها ليست بجماداتٍ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ.
قوله: ﴿وَمَا ذَرَأَ﴾ عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني: ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر.
وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: وخلق، أو أنبت».
كأنه استبعد تَسلطَ «وسَخَّرَ» على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً، و «مُخْتلِفاً» حال منه، و «ألْوانهُ» فاعل به.
وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم.
وجمع «آيَاتٍ» في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا﴾ الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ، وثانياً ببدن الإنسان، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ.
قال علماء الهيئةِ: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ، وذلك هو البحر المحيط، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى: ﴿والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر﴾ [لقمان: ٢٧] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخيرها للخلق: جعلها بحيث يتمكن [الناس] من الانتفاع بها: إمَّا بالركوبِ، أو بالغوصِ.
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ:
الأول: قوله تعالى ﴿لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا﴾ يجوز في «منهُ» تعلقه ب «لِتَأكُلوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية أو للتبعيض، ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: من حيوان، و «طَريًّا» فعيلٌ من: طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك «سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة».
27
وقال الفراء: [بل يقال:] «طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً؛ كما يقال: شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً».
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي: غضًّا جديداً، ويقال: طَريْتُ كذا، أي: جدَّدْتهُ، ومنه الثياب المُطرَّاة، والإطْراءُ: مدحٌ تجدَّد ذكرهُ؛ وأمَّا «طَرَأ» بالهمز، فمعناه: طَلَعَ.
قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لحمٌ طَريٌّ غير مهموز، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً.

فصل


اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ.

فصل


لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك، قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يحنثُ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم. وقال آخرون: يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً، وليس فوق بيان الله بيانٌ.
روي أنَّ أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قال بهذا، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ، هل يحنث أم لا؟.
فقال سفيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنثُ، فقال السائل: أليس أنَّ الله - تعالى - قال: ﴿والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا﴾ [نوح: ١٩] قال: فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قاله ابن الخطيب.
وهذا ليس بقويِّ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل، والفرق بين الصورتين من وجهين:
الأول: أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث، وإن صلَّى على البساط حنث، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ.
الثاني: أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّ الأيمان مبناها على العرف؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ، لا
28
يفهم منه لحم السَّمك؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: «اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً» فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار.
والجواب: أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ، وتارة تعتبرون المعنى، وتارة تعتبرون العرف، وليس لكم ضابط؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار، مع أنَّكم تقولون: إنه يحنث بأكل لحم العصفور؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين.
النوع الثاني من منافع البحر: قوله: ﴿وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ «الحليةُ: اسم لما يتحلَّى به، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة؛ كالعِمَّة والخِمرة».
«تَلْبَسُونهَا» صفة، و «مِنْهُ» يجوز فيه ما جاز في «مِنْهُ» قبل، والمراد بالحلية: اللؤلؤ والمرجان.

فصل


المراد: يلبسهم لبس نسائهم؛ لأنَّهن من جملتهم، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«لا زَكَاةَ في الحُلِيّ».
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث: بأنَّ لفظ «الحُلِيّ» مفرد محلى بالألف واللام؛ فيحمل على المعهود السابق، وهو المذكور في هذه الآية، فيصير تقدير الحديث: لا زكاة في اللآلئ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث.
النوع الثالث من منافع البحر: قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ قال أهل اللغة: مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها. وعن الفراء: أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ.
إذا عرفت هذا، فقول ابن عبَّاسٍ: «مَواخِرَ» أي: جَوارِي، إنما حسن التفسير به؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية. وقوله تعالى: ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ يعني: لتركبوه للتجارة؛ فتطلبوا الريح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه؛ فلعلكم تقدمون على شكره.
قال القرطبي: «امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير.
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب:»
هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا «.
29
وروى البخاريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله».

فصل


من حلف لا يلبس حلياً، فلبس لؤلؤاً لم يحنث، وهو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقال بعض المالكية: «هذا، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان مبنية على العرف، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً».
قوله: ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ﴾، «تَرَى» جملة معترضة بين التعليلين: وهما «لِتأكُلوا»، «ولِتَبْتغُوا»، وإنما كانت اعتراضاً، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ.
و «فِيهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَرَى» وأن يتعلق ب «مَوَاخِرَ» لأنها بمعنى شواقٍّ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من «مَواخِرَ» أو من الضمير المستكنِّ فيه.
و «مَواخِرَ» جمع مَاخِرَة، والمَخْرُ: الشقُّ، يقال: مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ، أي: شقَّتهُ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً، ويقال للسُّفنِ: بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ، بالميم والباء بدل منها.
وقال الفراء: هُوَ صوتُ جري الفلك، وقيل: صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ينشأ] صيفاً، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا: إذا استقبلتها بأنفك.
30
وفي الحديث: «اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ» يعني في الاستنجاءِ، اي: ينظر أين مجراها وهبوبها؛ فليستدبرها؛ حتَّى لا يرد عليه البول.
والمَاخُورُ: الموضع الذي يباع فيه الخمر، و «تَرَى» هنا بصرية فقط.
قوله ﴿وَلِتَبْتَغُواْ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: عطفٌ على «لِتَأكُلوا» وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم، وهذا هو الظاهر.
وثانيها: أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ، تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري.
وثالثها: أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ، أي: فعل ذلك لتبتغوا. وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه.
ومعنى ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ يعني: لتركبوها للتجارة؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه.
قوله تعالى: ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم﴾ والمقصود منه: ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض، وتقدم ذكر الرواسي.
قوله ﴿أَن تَمِيدَ بِكُم﴾ أي: كراهة أن تميدَ، أو لئلاَّ تميد، أي: تتحرَّك، والميدُ: هو الاضطرابُ [والتكفؤ]، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ: ميدٌ.
قال وهب: «لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ؛ فقالت الملائكة: إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها، [فأصبحت] وقد أُرسيتْ بالجبالِ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ، فإنها تميل من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها، استقرت على وجه الماء».
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ:
الأول: أنَّ هذا التعليل؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها، أو ليست بطبعها؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ، ولا يبقى طافياً عليه، وإذا لم يبق طافياً، امتنع أن يقال: إنَّها تميلُ، وتميدُ وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة؛ لأنها متخذة من الخشب، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء، [فحينئذ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة، استقرت وسكنت؛ فافترقا.
31
وأمَّا على التقدير الثاني: وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض: هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون.
وعلة كونها مائدة مضطربة: هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ.
الثاني: أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً.
فنقول: فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
الثالث: أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟.
فإن قيل: أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟.
قلنا: تلك البخارات احتبست في [داخل] قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذي عندي ههنا أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية
32
أنَّ الأرض كرة، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة.
وإذا ثبت هذا فنقول: لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية، خالية عن الخشونات، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير: إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [هذا الوجه]، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم، وقوته الشديدة، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ، والمَيْلِ، والاضطراب، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم.
قوله: «وأنْهَاراً» عطف على «رَواسِيَ» ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ، وادَّعى ابن عطيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجعل فيها أنهاراً.
وليس كما ذكر.
وقيل: الإلقاءُ معناه الجعلُ، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾ [فصلت: ١٠] وقدره أبو البقاء: «وشقَّ فيها أنْهاراً» وهو مناسبٌ.
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال، فلهذا [السبب] لمَّا ذكر الجبال، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
قوله «وسُبُلاً» أي: وذلَّل، أو وجعل فيها طرقاً؛ لتهتدوا بها في أسفاركم؛ كقوله تعالى: ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ [طه: ٥٣] إلى ما تريدون.
وقوله: ﴿وَعَلامَاتٍ﴾ أي: وضع فيها علاماتٍ.
قوله: «وبِالنَّجْمِ» متعلق ب «يَهْتَدُون» والعامة على فتح النون، وسكون الجيم، بالتوحيد، فقيل: المراد به: كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا.
وقيل: بل هو اسم جنس، وقرأ ابنُ وثَّاب: بضمهما، والحسن: بضمِّ النون فقط، وعكس بعضهم النقل عنهما.
فأمَّا قراءة الضمتين، ففيها تخريجان:
أظهرهما: أنه جمع صريح؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل؛ نحو: «سَقْقٌ وسُقُف، وزَهْر وزُهُر».
33
والثاني: أنَّ أصله النجوم، وفعل يجمع على فعول؛ نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خفِّف بحذف الواو، كما قالوا: أسُد وأسُود وأسْد.
قال أبو البقاء؛ «وقالوا في» خِيَام: خُيُم «يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ.
وقال ابن عصفورٍ:»
إنَّ قولهم: «النُّجُم» من ضرورات الشِّعر «وأنشد: [الرجز]
٣٣٠٦ - إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حِكمْ... أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ
يريد النجوم. كقوله: [الرجز]
٣٣٠٧ - حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ... يريد الحُلُوق.
وأمَّا قراءة الضمِّ، والسكون، ففيها وجهان:
أحدهما: أنها تخفيف من الضمِّ.
والثاني: أنها لغة مستقلة. وتقديم كلِّ من الجارِّ، والمبتدأ، يفيد الاختصاص، قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:»
فإن قلت: قوله تعالى: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ مختصٌّ بسفرِ البحر؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر، ومنافعه، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم.
وقال بعضهم: هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ.

فصل في المراد بالعلامات


المراد بالعلاماتِ: معالمُ الطريق، وهي الأشياء التي يهتدى بها، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ.
34
قال ابنُ الخطيب: «ورايتُ جماعة يشمُّون التراب؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه».
قال الأخفش - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تم الكلام عند قوله: «وعَلامَاتٍ» ثم ابتدأ: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾.
وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ، والكلبيُّ - رحمهما الله -: الجبالُ علاماتُ النَّهار، والنجوم علامات الليل.
قال السديُّ: أراد بالنجم: الثُّريَّا، وبنات نعش، والفرقدين، والجدي، يهتدى بها إلى الطرق، والقبلة.
قال القرطبيُّ: سأل ابنُ عباس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه -:
«هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ»، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [القاهرة] على وجود إله قادرٍ حكيم، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم، ولا يعقل؟.
فلهذا قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ هذه الأشياء التي ذكرناها ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح، فهذه الأصنام جمادات محضة، ليس لها فهمٌ، ولا قدرة ولا غحساس، فكيف تعبدونها؟.
قوله ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ إن أريد ب ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ جميع ما عبد من دون الله، كان ورود «مَنْ» واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره، فيعبر عن الجميع ب «مَنْ» ولو جيء أيضاً ب «ما» لجاز، وإن أريد به الأصنام، ففي إيقاع «مَنْ» عليهم أوجهٌ:
35
أحدها: إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها، واعتقادِ أنَّها تضرُّ، وتنفع كقول الشاعر: [الطويل]
٣٣٠٨ - بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي... فقُلْتُ: ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ
فأوقع «مَنْ» على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني: المشاكلة بينه وبين «مَنْ يَخْلقُ».
[الثالث: تخصيصه بمن يعلم، والمعنى: أنه إذا حصل التباين بين من يخلق] وبين «مَنْ لا يخلقُ» من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ [الأعراف: ١٩٥] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع «مَنْ» على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قلت: هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله عَزَّ وَجَلَّ، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾.

فصل في الاحتجاج بالآية


احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه؛ لأنَّه سبحانه - عَزَّ وَجَلَّ - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية، والمعبوديَّة؛ لكونه خالقاً، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق، والإيجاد.
أجاب المعتزلة من وجوه:
الأول: المراد من قوله تعالى ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ ما تقدم ذكره من السماوات والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، والبحار، والنجوم، والجبال، كمن لا يقدر على خلق
36
شيءٍ أصلاً، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ؛ فإنه يكون إلهاً، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً.
الثاني: أنَّ معنى الآية: أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة، والمعبوديَّة، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً؛ لقوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ [الأعراف: ١٩٥].
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ.
فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية: أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً.
الثالث: أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبيُّ في تفسيره: إنا لا نقول: إنا لا نخلق أفعالنا، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير﴾ [المائدة: ١١٠] ؛ وفي قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال: إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد، وعلى الله مجاز؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير، وذلك عبارة عن الظنِّ، والحسبان، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ، وفي حق الله تعالى محالٌ.
37
قوله تعالى :﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ ﴾ تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة، كما في نظيرتها، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت، وقياسه : مُنْبَت. وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً، ك " نَبَتَ " ؛ وأنشد الفراء :[ الطويل ]
٣٣٠٥-رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ***قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ١
وأباه الأصمعيُّ ؛ والبيت حجة عليه، وتأويله : ب " أنبت " البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا.
وقرأ أبو بكر٢ " نُنْبِتُ " بنون العظمة، والزهري " تنَبِّتُ " بالتشديد، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي، وقيل : بل للتَّكرير، وقرأ أبي :" تُنْبُتُ " بفتح الياء وضمِّ الباءِ. " الزَّرْعَ " وما بعده رفع بالفاعلية، وتقدم خلافُ القراء في رفع " الشَّمْس " وما بعدها ونصبها، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف.

فصل


النبات قسمان :
أحدهما : لرعي الأنعام ؛ وهو المراد من قوله " تُسِيمُونَ ".
والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ ؛ وهو المراد من قوله :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ﴾.
فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ]٣ وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ، وفي آية أخرى عكس الترتيب ؛ فقال :﴿ كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم ﴾ [ طه : ٥٤ ] فما الفائدة فيه ؟.
فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق ؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده، أكمل من اهتمامه بنفسه، وأمَّا الآية الأخرى، فمبنيةٌ على قوله - عليه الصلاة والسلام- :" ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " ٤.

فصل


اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء، إمَّا من الحيوانات، وإمَّا من النبات، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي ؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات ؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي ؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ.
وأمَّا الغذاء النباتيُّ، فقسمان : حبوب، وفواكه : أمَّا الحبوب، فإليها الإشارة بقوله :" الزَّرْعَ "، وأما الفواكه، فأشرفها : الزيتونُ، والنَّخيلُ، والأعناب أما الزيتون ؛ فلأنه فاكهة من وجه، وإدامٌ من وجه آخر ؛ لما فيه من الدهنِ، ومنافع الدهنِ كثيرة : للأكلِ، والطلاءِ، وإشعالِ السِّراج.
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل، ثم وصف البقية بقوله تعالى :﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٨ ] فكذلك ههنا، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في وصف البقية :﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها، وأجناسها، وصفاتها، ومنافعها، ما لم يكن ذكره، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ، ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها ؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ]٥ الأرض ؛ وهي عروقُ الشجرِ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ، وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق، والأزهارُ، والأكمام، والثمار، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع ؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة، ونسبة التأثيرات الفلكية، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة، فمع تشابه هذه الأشياء، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، والصفة ؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ.
وختم هذه الآية بقوله :﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء، فأنبت به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا ختم الآية بقوله :﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
١ البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر: ديوانه ص ١١١، جمهرة اللغة ص ٢٥٧، ١٢٦٢، خزانة الأدب ١/٥٠، شرح شواهد المغني ١/٣١٤، لسان العرب (نبت)، المحتسب ٢/٨٩، مغني اللبيب ١/١٠٢، معاني الفراء ٢/٢٣٣، القرطبي ١٠/ ٥٥، البحر المحيط ٥/٤٦٤، الدر المصون ٤/٣١٦..
٢ ينظر: السبعة ٣٧٠، والتيسير ١٣٧، والحجة ٣٨٦، والنشر ٢/٣٠٢، والإتحاف ٢/١٨١، والبحر ٥/٤٦٤، والدر المصون ٤/٣١٦..
٣ في أ: الحيوانات..
٤ تقدم..
٥ في أ: تخوم..
قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :
الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ، فلو كان الجسم علَّة لصفة، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ ؛ وهو محالٌ.
والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً ؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته، وما أفضى ثبوته إلى عدمه، كان أصلاً باطلاً.
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً، فبقي أن يكون متحركاً لغيره، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياً فيه، أو مبايناً عنه، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً، عاد التقسيم الأول فيه، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية ؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض ؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً، وجسمانيًّا ؛ وذلك هو الله - تعالى -.
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ]١ ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ ؛ وهو محالٌ ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله عز وجل :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار، وحركاتِ الشَّمس والقمر، فهذه الأشياء لابدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره ؛ قطعاً للتسلسل.
ولمَّا تم هذا الدليل، ختم الآية بقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار.
والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب ؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع، وعجمه على طبعٍ، ولحمه على طبع ثالثٍ، وماؤه على طبع رابع، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم، والأفلاكِ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة ؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضاً إذا أضأنا الشمع، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب، وإذا ثبت هذا، فنسبة الشمس، والقمر، والأنجم، والأفلاك، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفرة، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات، والألوان، والأحوال - ليس هو الطبيعة ؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾.
ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى-.
فإن قيل : لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً.
فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه.
فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر ؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار، وفي الجمادات ؛ كالشمس والقمر ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع ؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ.
والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة ؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية ؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير.
فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس ؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ]٢ حركةِ الشمس ؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ، فَإنَّها علة لحدوث السنة، لا لحدوث اليومِ.
فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة، لا الأمر ؛ فكيف قال الله :﴿ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ ؟.
فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ، أم لا، وأكثر المسلمين على أنَّها جمادات ؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ]٣، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ ؛ قال تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ].
ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ.
١ في أ: أفلك أخر..
٢ زيادة من أ..
٣ في ب: والتنصير..
قوله :﴿ وَمَا ذَرَأَ ﴾ عطف على الليل والنهار ؛ قاله الزمخشري ؛ يعني : ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر.
وقال أبو البقاء :" في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ ؛ أي : وخلق، أو أنبت ".
كأنه استبعد تَسلطَ " وسَخَّرَ " على ذلك ؛ فقدَّر فعلاً لائقاً، و " مُخْتلِفاً " حال منه، و " ألْوانهُ " فاعل به.
وختم الآية الأولى بالتفكُّر ؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر، والثانية بالعقل ؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه، والثالثة بالتذكر ؛ لأنه نتيجة ما تقدم.
وجمع " آيَاتٍ " في الثانية دون الأولى والثالثة ؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر ؛ ولذلك ذكر معها الفعل.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا ﴾ الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ، وثانياً ببدن الإنسان، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات، ورابعاً بعجائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ.
قال علماء الهيئةِ : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ، وذلك هو البحر المحيط، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ ؛ قال تعالى :﴿ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر ﴾ [ لقمان : ٢٧ ] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخيرها للخلق : جعلها بحيث يتمكن [ الناس ]١ من الانتفاع بها : إمَّا بالركوبِ، أو بالغوصِ.
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ :
الأول : قوله تعالى ﴿ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا ﴾ يجوز في " منهُ " تعلقه ب " لِتَأكُلوا " وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من النكرة بعده، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية أو للتبعيض، ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي : من حيوان، و " طَريًّا " فعيلٌ من : طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً ؛ ك " سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة ".
وقال الفراء :[ بل يقال :]٢ " طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً ؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً ".
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً، ويقال : طَريْتُ كذا، أي : جدَّدْتهُ، ومنه الثياب المُطرَّاة، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ ؛ وأمَّا " طَرَأ " بالهمز، فمعناه : طَلَعَ.
قال ابن الأعرابي - رحمه الله- : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً.

فصل


اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب ؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ.

فصل


لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم. وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً، وليس فوق بيان الله بيانٌ.
روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية ؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ، هل يحنث أم لا ؟.
فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال :﴿ والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا ﴾ [ نوح : ١٩ ] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب.
وهذا ليس بقويِّ ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل، والفرق بين الصورتين من وجهين :
الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ ؛ لزمنا أن نمنعه من الصلاة ؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث، وإن صلَّى على البساط حنث، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم ؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ.
الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه- : أنَّ الأيمان مبناها على العرف ؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ، لا يفهم منه لحم السَّمك ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه :" اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً " فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار.
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ، وتارة تعتبرون المعنى، وتارة تعتبرون العرف، وليس لكم ضابط ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور ؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين.
النوع الثاني من منافع البحر : قوله :﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ " الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة ؛ كالعِمَّة والخِمرة ".
" تَلْبَسُونهَا " صفة، و " مِنْهُ " يجوز فيه ما جاز في " مِنْهُ " قبل، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان.

فصل


المراد : يلبسهم لبس نسائهم ؛ لأنَّهن من جملتهم، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام- :
" لا زَكَاةَ في الحُلِيّ٣ ".
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ " الحُلِيّ " مفرد محلى بالألف واللام ؛ فيحمل على المعهود السابق، وهو المذكور في هذه الآية، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلئ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث.
النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها. وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ.
إذا عرفت هذا، فقول ابن عبَّاسٍ :" مَواخِرَ " أي : جَوارِي، إنما حسن التفسير به ؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية. وقوله تعالى :﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ يعني : لتركبوه للتجارة ؛ فتطلبوا الريح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه ؛ فلعلكم تقدمون على شكره.
قال القرطبي :" امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير.
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب :" هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا ٤ ".
وروى البخاريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله٥ ".

فصل


من حلف لا يلبس حلياً، فلبس لؤلؤاً لم يحنث، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -.
وقال بعض المالكية :" هذا، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان مبنية على العرف، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً ".
قوله :﴿ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾، " تَرَى " جملة معترضة بين التعليلين : وهما " لِتأكُلوا "، " ولِتَبْتغُوا "، وإنما كانت اعتراضاً، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ.
و " فِيهِ " يجوز أن يتعلَّق ب " تَرَى " وأن يتعلق ب " مَوَاخِرَ " لأنها بمعنى شواقٍّ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من " مَواخِرَ " أو من الضمير المستكنِّ فيه.
و " مَواخِرَ " جمع مَاخِرَة، والمَخْرُ : الشقُّ، يقال : مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ، أي : شقَّتهُ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً، ويقال للسُّفنِ : بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ، بالميم والباء بدل منها.
وقال الفراء٦ : هُوَ صوتُ جري الفلك، وقيل : صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ ينشأ ]٧ صيفاً، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا : إذا استقبلتها بأنفك.
وفي الحديث :" اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ٨ " يعني في الاستنجاءِ، اي : ينظر أين مجراها وهبوبها ؛ فليستدبرها ؛ حتَّى لا يرد عليه البول.
والمَاخُورُ : الموضع الذي يباع فيه الخمر، و " تَرَى " هنا بصرية فقط.
قوله ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عطفٌ على " لِتَأكُلوا " وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم، وهذا هو الظاهر.
وثانيها : أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ، تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري.
وثالثها : أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ، أي : فعل ذلك لتبتغوا. وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه.
ومعنى ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ يعني : لتركبوها للتجارة ؛ فتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه.
١ في أ: الإنسان..
٢ زيادة من أ..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٧) وضعفه..
٤ أخرجه أحمد (١/٩٦) والنسائي (٨/١٦٠ ـ ١٦١) وابن ماجه (٣٥٩٥) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٤/٢٥٠) وابن أبي شيبة (٨/٣٥١) وأبو يعلى (١/٢٣٥) رقم (٢٧٢) وابن حبان (١٤٦٥ موارد) من حديث علي بن أبي طالب..
وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري:
أخرجه ابن أبي شيبة (٨/٣٤٦) والترمذي (١٧٢٠) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٤/٢٥١) والبيهقي (٢/٤٢٥) وابن حبان في "صحيحه" (٧/٣٩٦) من طريق سعيد بن أبي هند عنه.
وقال الترمذي: "وفي الباب عن عمر وعلي ـ وهو الحديث السابق ـ وعقبة بن عامر وأنس وحذيفة وأم هانيء وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحان وابن عمر وواثلة بن الأسقع".
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن حبان: خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح، قلت: لعله يشير إلى الانقطاع بينهما.
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص (٧٥): سمعت أبي يقول: لم يلق سعيد بن أبي هند أبا موسى الأشعري ونقله العلاني في "جامع التحصيل" ص (١٨٥)..

٥ أخرجه البخاري رقم (٥٨٧٣) ومسلم في كتاب اللباس والزينة: باب لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق نقشه محمد رسول الله (٥٤/٢٠٩١) وأحمد (٢/٢٢) وأبو داود (٤٢١٨) والنسائي (٥٢٩٣) والترمذي في "الشمائل" رقم (٩٠) والبيهقي (٤/١٤٢) من حديث ابن عمر..
٦ ينظر: معاني القرآن للفراء ٢/٩٨..
٧ في ب: تنساب..
٨ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٦٤) بلفظ: إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح..
قوله تعالى :﴿ وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم ﴾ والمقصود منه : ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض، وتقدم ذكر الرواسي.
قوله ﴿ أَن تَمِيدَ بِكُم ﴾ أي : كراهة أن تميدَ، أو لئلاَّ تميد، أي : تتحرَّك، والميدُ : هو الاضطرابُ [ والتكفؤ ]١، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ : ميدٌ.
قال وهب :" لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ ؛ فقالت الملائكة : إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها، [ فأصبحت ]٢ وقد أُرسيتْ بالجبالِ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال ؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ، فإنها تميل من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها، استقرت على وجه الماء ".
قال ابن الخطيب - رحمه الله - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ :
الأول : أنَّ هذا التعليل ؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها، أو ليست بطبعها ؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ، ولا يبقى طافياً عليه، وإذا لم يبق طافياً، امتنع أن يقال : إنَّها تميلُ، وتميدُ وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة ؛ لأنها متخذة من الخشب، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء، [ فحينئذ ]٣ تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة، استقرت وسكنت ؛ فافترقا.
وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير ؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون.
وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها ؛ لتبقى ساكنة ؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ.
الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان ؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً.
فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص ؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض ؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت ؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض ؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس ؟.
فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها ؟.
قلنا : تلك البخارات احتبست في [ داخل ]٤ قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا.
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أنَّ الأرض كرة، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة.
وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة ؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية، خالية عن الخشونات، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاستدارة بأدنى سبب ؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة ؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [ هذا الوجه ]٥، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم، وقوته الشديدة، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ، والمَيْلِ، والاضطراب، بمعنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم.
قوله :" وأنْهَاراً " عطف على " رَواسِيَ " ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ، أي : وجعل فيها أنهاراً.
وليس كما ذكر.
وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ، قال تعالى :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا ﴾ [ فصلت : ١٠ ] وقدره أبو البقاء :" وشقَّ فيها أنْهاراً " وهو مناسبٌ.
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال، فلهذا [ السبب ] لمَّا ذكر الجبال، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
قوله " وسُبُلاً " أي : وذلَّل، أو وجعل فيها طرقاً ؛ لتهتدوا بها في أسفاركم ؛ كقوله تعالى :﴿ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ طه : ٥٣ ] إلى ما تريدون.
١ في ب: والحركة..
٢ في ب: فأصبحوا..
٣ في أ: لا جرم..
٤ في أ: خلال..
٥ في ب: وجه الماء..
وقوله :﴿ وَعَلامَاتٍ ﴾ أي : وضع فيها علاماتٍ.
قوله :" وبِالنَّجْمِ " متعلق ب " يَهْتَدُون " والعامة على فتح النون، وسكون الجيم، بالتوحيد، فقيل : المراد به : كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا.
وقيل : بل هو اسم جنس، وقرأ١ ابنُ وثَّاب : بضمهما، والحسن : بضمِّ النون فقط، وعكس بعضهم النقل عنهما.
فأمَّا قراءة الضمتين، ففيها تخريجان :
أظهرهما : أنه جمع صريح ؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل ؛ نحو :" سَقْفٌ وسُقُف، وزَهْر وزُهُر ".
والثاني : أنَّ أصله النجوم، وفعل يجمع على فعول ؛ نحو : فَلْس وفُلُوس، ثم خفِّف بحذف الواو، كما قالوا : أسُد وأسُود وأسْد.
قال أبو البقاء ؛٢ " وقالوا في " خِيَام : خُيُم " يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ.
وقال ابن عصفورٍ :" إنَّ قولهم :" النُّجُم " من ضرورات الشِّعر " وأنشد :[ الرجز ]
٣٣٠٦-إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حَكمْ *** أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ٣
يريد النجوم. كقوله :[ الرجز ]
٣٣٠٧- حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ٤ *** يريد الحُلُوق.
وأمَّا قراءة الضمِّ، والسكون، ففيها وجهان :
أحدهما : أنها تخفيف من الضمِّ.
والثاني : أنها لغة مستقلة. وتقديم كلِّ من الجارِّ، والمبتدأ، يفيد الاختصاص، قال الزمخشريُّ - رحمه الله- :" فإن قلت : قوله تعالى :﴿ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه " النجم " مقحم فيه " هُمْ " كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً، فمن المراد بهم ؟.
قلت : كأنه أراد قريشاً كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرهم، وكان لهم به علمٌ لم يكن لغيرهم ؛ فكان الشكر عليهم أوجب، ولهم ألزم ".
وقال بعض المفسرين : قوله تعالى :﴿ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ مختصٌّ بسفرِ البحر ؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر، ومنافعه، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم.
وقال بعضهم : هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ.

فصل في المراد بالعلامات


المراد بالعلاماتِ : معالمُ الطريق، وهي الأشياء التي يهتدى بها، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ.
قال ابنُ الخطيب٥ :" ورأيتُ جماعة يشمُّون التراب ؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه ".
قال الأخفش - رحمه الله- : تم الكلام عند قوله :" وعَلامَاتٍ " ثم ابتدأ :﴿ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾.
وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ، والكلبيُّ - رحمهما الله- : الجبالُ علاماتُ النَّهار، والنجوم علامات الليل٦.
قال السديُّ : أراد بالنجم : الثُّريَّا، وبنات نعش، والفرقدين، والجدي، يهتدى بها إلى الطرق، والقبلة٧.
قال القرطبيُّ : سأل ابنُ عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم ؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه- :
" هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ ٨ "، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما.
١ ينظر: المحتسب ٨١٢، والإتحاف ٢/١٨٢، والبحر ٥/٤٦٦، والشواذ ٧٢، والدر المصون ٤/٣١٨..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٧٩..
٣ البيت للاخطل. ينظر: ديوانه (٢٥١)، المنصف ١/٣٤٨، الخصائص ٣/١٣٤، المحتسب ١/١٩٩، ٢/٨، سر صناعة الإعراب ١٠/٣٤٨، اللسان (نجم)، البحر المحيط ٥/٤٦٧، الألوسي ١٤/١١٧ القرطبي ١٠/٦١، الدر المصون ٤/٣١٨..
٤ البيت لرؤبة. ينظر: الخصائص ١/٣٤٨، المنصف ١/٣٤٨، البحر ٥/٤٦٧، معاني القرآن ٣/٣٢، العمدة ٢/٢٧٤، الألوسي ١٤/١١٧، سر صناعة الإعراب ٢/٦٣٢، اللسان (حلق)، البحر ٤٦٧، المذكر والمؤنث للأنباري ٢٦٢، ضرائر الشعر ١٢٩، الدر المصون ٤/٣١٨..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٩..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٧٢) عن الكلبي وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٦٤) عن محمد بن كعب القرظي والسدي.
وذكره أيضا السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢١٢) عن الكلبي وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر..

٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٦٤)..
٨ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٣/١٨٣) عن ابن عباس..
قوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ]١ على وجود إله قادرٍ حكيم، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم، ولا يعقل ؟.
فلهذا قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ هذه الأشياء التي ذكرناها ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة ؛ ﴿ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر، ونظر ؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح، فهذه الأصنام جمادات محضة، ليس لها فهمٌ، ولا قدرة ولا إحساس، فكيف تعبدونها ؟.
قوله ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ إن أريد ب ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ جميع ما عبد من دون الله، كان ورود " مَنْ " واضحاً ؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره، فيعبر عن الجميع ب " مَنْ " ولو جيء أيضاً ب " ما " لجاز، وإن أريد به الأصنام، ففي إيقاع " مَنْ " عليهم أوجهٌ :
أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها، واعتقادِ أنَّها تضرُّ، وتنفع كقول الشاعر :[ الطويل ]
٣٣٠٨- بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي*** فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ ؟ لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ٢
فأوقع " مَنْ " على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني : المشاكلة بينه وبين " مَنْ يَخْلقُ ".
[ الثالث : تخصيصه بمن يعلم، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين " مَنْ لا يخلقُ " من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم ؛ كقوله تعالى :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] إلى آخره ؛ وأمَّا من يجيز إيقاع " مَنْ " على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري٣ - رحمه الله- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها ؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾.

فصل في الاحتجاج بالآية


احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه ؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية، والمعبوديَّة ؛ لكونه خالقاً، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق، والإيجاد.
أجاب المعتزلة من وجوه :
الأول : المراد من قوله تعالى ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ ما تقدم ذكره من السماوات والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، والبحار، والنجوم، والجبال، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ ؛ فإنه يكون إلهاً، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً.
الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة، والمعبوديَّة، وهذا القدر لا يدلُّ على أنَّ كلَّ من كان خالقاً ؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً ؛ لقوله :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ].
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ.
فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً.
الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا، ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] ؛ وفي قوله عز وجل :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة ؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد، وعلى الله مجاز ؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير، وذلك عبارة عن الظنِّ، والحسبان، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ، وفي حق الله تعالى محالٌ.
١ في أ: القاطعة..
٢ البيتان للمجنون. ينظر: ديوانه ص ١٠٦، ونسب للعباس بن الأحنف في ديوانه ص ١٦٨، تخليص الشواهد ص ٦١٤١ الدرر ١/٣٠، شرح التصريح ١/١٣٣، المقاصد النحوية ١/٤٣١، أوضح المسالك ١/١٤٧، شرح الأشموني ١/٦٩، شرح ابن عقيل ص ٨٠، ٨١، العيني ١/٤٣١، الهمع ١/٩١، الدر المصون ٤/٣١٩..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٥٩٩..
قوله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾ لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ، والكمال، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ، والعبادات، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل، فإنَّ من لا يكون متصوراً، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة، وأقسامها عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها، ومجملها.
ثم قال - جلَّ ذكره -: ﴿إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، «لَغَفُورٌ» لتقصيركم في شكر نعمه، «
37
رَحِيمٌ» بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم. قال بعضهم: إنَّه ليس لله على [الكافر] نعمةٌ. وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ، والأرض، وخلق الإنسان من نطفةٍ، والإنعام بخلق الخيلِ، والبغال والحمير، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن، والكافر.
قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ قرأ العامة «تُسِرُّونَ» و «تُعْلِنُونَ» بناء الخطاب، وأبو جعفرٍ، وشيبة بالياء من تحت، وقرأ عاصم وحده: «يَدْعُونَ» بالياء، والباقون بالتاء من فوق، وقراءة «يُدْعَونَ» مبنيًّا للمفعول، وهن واضحات، والمعنى: أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها.
قوله تعالى: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً.
فالجواب: أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى.
قوله «أمْوات» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، أي: وهم يخلقون وهم أمواتٌ، ويجوز أن يكون «يُخْلَقُونَ»، و «أمْواتٌ» كلاهما خبر من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم أمواتٌ.
قوله: ﴿غَيْرُ أَحْيَآءٍ﴾ يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ﴾ فيما بعد، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
قال شهابُ الدِّين: «وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك».

فصل في وصف الأصنام


اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات:
أولها: أنها لا تخلق شيئاً.
وثانيها: أنها مخلوقة.
38
وثالثها: أنهم أموات غير أحياءٍ، أي: أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات، أي: لا يجوز عليها الموت، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ.
فإن قيل: لما قال «أمْواتٌ» علم أنَّها «غَيْرُ أحياءٍ»، فما فائدة قوله تعالى: ﴿غَيْرُ أحْيَاءٍ﴾ ؟.
والجواب: أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة، وأيضاً: فهذا الكلام مع عبدة الأوثان، وهم في نهاية الجهالة، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي، فقد يعبر عن المعنى الواحد، بعباراتٍ كثيرة، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
ورابعها: قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ والضمير في قوله: «يَشْعرُونَ» عائد على الأصنام، وفي الضمير في قوله: «يُبْعَثُونَ» قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى العابد للأصنام، أي: ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون.
الثاني: أنه يعود إلى الأصنام، أي: الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ، ومعها شياطينها، فتتبرَّأ من عابديها، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ.

فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة


الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [الأنعام: ٩٥].
الثاني: أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ، لا يعرفون شيئاً، فخوطبوا على وفق معتقدهم.
الثالث: أنَّ المراد بقوله تعالى: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [الملائكة] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى: إنهم «أمْواتٌ» أي: لا بدَّ لهم من الموت «غَيْرُ أحْيَاءٍ» أي: غير باقيةٍ حياتهم، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أي لا علم لهم بوقت بعثهم. انتهى.
39
قوله تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ قرأ العامة " تُسِرُّونَ " و " تُعْلِنُونَ " بتاء الخطاب، وأبو جعفرٍ، وشيبة١ بالياء من تحت، وقرأ عاصم٢ وحده :" يَدْعُونَ " بالياء، والباقون بالتاء من فوق، وقراءة " يُدْعَونَ " مبنيًّا٣ للمفعول، وهن واضحات، والمعنى : أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول ؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها.
١ ينظر: السبعة ٣٧١، والمحرر ٨/٣٩٢، والقرطبي ١٠/٦٣ وفيه: أنها رواية هبيرة عن حفص عن عاصم. وينظر: الدر المصون ٤/٣١٩..
٢ ينظر: السبعة ٣٧١ والإتحاف ٢/١٨٢، والتيسير ١٣٧، والحجة ٣٨٧، والبحر ٥/٤٦٨، والدر المصون ٤/٣١٩..
٣ وهي قراءة محمد اليماني ينظر: الشواذ ٧٢، والبحر ٥/٤٦٨، والدر المصون ٤/٣١٩..
قوله تعالى :﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ تكريرٌ ؛ لأن قوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً.
فالجواب : أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وأنهم مخلوقون كغيرهم ؛ فكان هذا زيادة في المعنى.
قوله " أمْوات " يجوز أن يكون خبراً ثانياً، أي : وهم يخلقون وهم أمواتٌ، ويجوز أن يكون " يُخْلَقُونَ "، و " أمْواتٌ " كلاهما خبر من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رحمه الله تعالى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي : هم أمواتٌ.
قوله :﴿ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً.
وقال أبو البقاء١ : ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء ؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى :﴿ أَمْوَاتٌ ﴾ فيما بعد، إذ قال تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ].
قال شهابُ الدِّين٢ :" وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك ".

فصل في وصف الأصنام


اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات :
أولها : أنها لا تخلق شيئاً.
وثانيها : أنها مخلوقة.
وثالثها : أنهم أموات غير أحياءٍ، أي : أنها لو كانت آلهة حقيقية ؛ لكانت أحياء غير أموات، أي : لا يجوز عليها الموت، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ.
فإن قيل : لما قال " أمْواتٌ " علم أنَّها " غَيْرُ أحياءٍ "، فما فائدة قوله تعالى :﴿ غَيْرُ أحْيَاءٍ ﴾ ؟.
والجواب : أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة، وأيضاً : فهذا الكلام مع عبدة الأوثان، وهم في نهاية الجهالة، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي، فقد يعبر عن المعنى الواحد، بعباراتٍ كثيرة، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات ؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
ورابعها : قوله :﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ والضمير في قوله :" يَشْعرُونَ " عائد على الأصنام، وفي الضمير في قوله :" يُبْعَثُونَ " قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى العابد للأصنام، أي : ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون.
الثاني : أنه يعود إلى الأصنام، أي : الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس - رضي الله عنه : إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ، ومعها شياطينها، فتتبرَّأ من عابديها، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ٣.

فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة


الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً ؛ قال تعالى :﴿ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ].
الثاني : أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم : ليس الأمر كذلك ؛ بل هي أمواتٌ، لا يعرفون شيئاً، فخوطبوا على وفق معتقدهم.
الثالث : أنَّ المراد بقوله تعالى :﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ الملائكة ]٤ وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم ؛ فقال الله تعالى : إنهم " أمْواتٌ " أي : لابدَّ لهم من الموت " غَيْرُ أحْيَاءٍ " أي : غير باقيةٍ حياتهم، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي لا علم لهم بوقت بعثهم. انتهى.
قوله تعالى :" أيَّانَ " منصوب بما بعده لا بما قبله ؛ لأنَّه استفهام، وهو معلق ل " مَا يَشْعرُونَ " فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض، هذا هو الظاهر.
١ ينظر: الإملاء ٢/٧٩..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٣١٩..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٤) عن ابن عباس..
٤ سقط من : أ..
وقيل : إن " أيَّانَ " ظرف لقوله ﴿ إلهكم إله وَاحِدٌ ﴾ [ النحل : ٢٢ ] يعني : أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة، ولم يدَّع أحد [ تعدُّد ]١ الآلهةِ في ذلك اليوم، بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله " يَشْعُرونَ " إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل " أيَّانَ " عن [ موضوعها ]٢، وهو إمَّا الشرط، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده ؛ كقولك " وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ " ف " وَقْتَ " : منصوبٌ ب " مُنْطَلِقٌ " مضاف ل " يَذْهَبُ ".
١ زيادة من : ب..
٢ في ب: موضعها..
قوله تعالى: «أيَّانَ» منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام، وهو معلق ل «مَا يَشْعرُونَ» فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض، هذا هو الظاهر.
وقيل: إن «أيَّانَ» ظرف لقوله ﴿إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ [النحل: ٢٢] يعني: أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة، ولم يدَّع أحد [تعدُّد] الآلهةِ في ذلك اليوم، بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله «يَشْعُرونَ» إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل «أيَّانَ» عن [موضوعها]، وهو إمَّا الشرط، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك «وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ» ف «وَقْتَ» : منصوبٌ ب «مُنْطَلِقٌ» مضاف ل «يَذْهَبُ».
قوله
تعالى
: ﴿إلهكم
إله
وَاحِدٌ﴾
لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم، قال ﴿إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ؛ فقال: ﴿فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ جاحدة ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ مستعظمون أي: إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم، ويخافون العقاب الدائم، فإذا سمعوا الدلائل خافوا، وتأملوا، وتفكروا فيما يسمعون، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون إلى الحقِّ.
وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال.
قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾.
قد تقدم الكلام على لفظة «لا جَرمَ» في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من «أن اللهَ»، وكسرها عيسى الثقفي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيها وجهان:
أظهرهما: الاستئناف.
والثاني: جريان «لا جرمَ» مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به.
وقال بعض العرب: «لا جَرمَ واللهِ لا [فَارَقْتَُ] » وهذا يضعف كونها للقسم؛ لتصريحه بالقسم بعدها، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم.
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾، أي: أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها، بل لأجل التقليد لأسلافهم، والتَّكبُّر؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَدْخُل
40
الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ، فقال رجُلٌ: يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطرُ الحقِّ، وغَمْطُ البَاطلِ».
41
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ الآيات.
لمَّا قرر دلائل التوحيد، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما احتجَّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة؛ طعنوا فيه، وقالوا: إنه أساطير الأولين، واختلفوا في هذا القول.
فقيل: هو كلام بعضهم لبعض.
وقيل: قول المسلمين لهم.
وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا [مكَّة] ومداخل مكة؛ ينفِّرون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سألهم وفود الحاجِّ عمَّا أنزل الله على رسوله.
قوله: «مَاذَا» تقدم الكلام عليها أول البقرة.
وقال الزمخشريُّ: «أو مرفوعٌ بالابتداءِ، بمعنى أي شيء أنزله ربُّكم».
41
قال أبو حيَّان: «وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريِّين». يعني: من كونه حذف عائده المنصوب، نحو «زَيْدٌ ضَربْتُ» وقد تقدم خلاف النَّاس في هذا، والصحيح جوازه، والقائم مقام الفاعل، قيل: الجملة من قوله ﴿مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ لأنها المقولة، والبصريون يأبون ذلك، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر؛ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلة، ولا قائمة مقام الفاعل، والفاعل المحذوف: إمَّا المؤمنون، وإما بعضهم، وإمَّا المقتسمون.
وقرئ «أسَاطيرَ» بالنصب على تقدير: أنزل أساطير، على سبيل التهكُّم، أو ذكرتم أساطير.
والعامة برفعه على أنَّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير: المنزَّل أساطير على سبيل التَّهكُّم، أو المذكور أساطير، وللزمخشريُّ هنا عبارة [فظيعة].
قوله «لِيَحملُوا» لمَّا حكى شبهتهم قال: «لِيَحْمِلُوا» وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم، والصغار الموجب لهم، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله: «الأوَّلِينَ» ثم استؤنف أمرهم بذلك.
الثاني: أنها لام العاقبة، أي: كان عاقبة [قولهم] ذلك؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا؛ فهو كقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
قال: [الوافر]
٣٣٠٩ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ....................
الثالث: أنها للتعليل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه تعليل مجازي.
قال الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً؛ نحو قولك «خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ».
والثاني: أنه تعليلٌ حقيقة.
قال ابن عطيَّة بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ: «ويحتمل أن يكون صريح لام كي؛ على معنى قدِّر هذا؛ لكذا» انتهى.
لكنه لم يعلِّقها بقوله «قَالُوا» إنما قدَّر لها عاملاً، وهو «قدَّر» هذا.
وعلى قول الزمخشري يتعلق ب «قَالُوا» لأنها ليست لحقيقة العلَّة، و «كَامِلةً» حالٌ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً
42
للكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة.
قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى، فاتُّبعَ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ».
قوله: ﴿وَمِنْ أوْزَارِ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ «مِنْ» مزيدة، وهو قول الأخفش، أي: وأوزار الذين، على معنى: ومثل أوزار؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا».
الثاني: أنها غير مزيدة، وهي للتبعيض، أي: وبعض أوزار الذين، وقدَّر أبو البقاءِ: مفعولاً حذف، وهذه صفته، أي: وأوزار من أوزار، ولا بد من حذف «مثل» أيضاً.
ومنع الواحديُّ أن تكون «مِنْ» للتبعيض، قال: «لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع، وهو غير جائز، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء «لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع».
قال أبو حيان: «والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير».
قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حال وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه مفعول يُضِلُّونَ «أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ؛ قاله الزمخشريُّ.
والثاني: أنه الفاعل، ورجَّح هذا بأنَّه المحدث عنه، وتقدم الكلام في إعراب نحو:»
سَاء مَا يَزرُونَ «وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ.
فإن قيل: إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم، ولم يجب عنها، بل اقتصر على محض الوعيد، فما السبب فيه؟.
فالجواب: أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين:
43
الأول: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن، وتارة بعشر سورٍ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ، وتارة بحديثٍ واحدٍ، وعجزوا عن المعارضة؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً.
الثاني: أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله: ﴿اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥]، وأبطلها بقوله: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات﴾ [الفرقان: ٦] أي: أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات، والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرحهما مراراً؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد.
قوله تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار.
قال بعض المفسرين: المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل: فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء؛ ليقاتل أهلها، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً؛ فلذلك سمِّيت بابل، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية؛ فذلك قوله تعالى: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ أي: قصد تخريب بنيانهم من أصولها.
والصحيح: أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين.
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب، أي: أنهم لمَّا كفروا؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد، والأساس؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى: أنَّهم رتبوا منصوباتٍ؛ ليمكروا بها أنبياء الله؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً، وعمدوه بالأساطين، فانهدم ذلك البناءُ، وسقط السقف عليهم؛ كقولهم: «مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ».
وقيل: المراد منه ما دل عليه الظاهر.
قوله تعالى: ﴿مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ «مِن» لابتداءِ الغايةِ، أي: من ناحية القواعد، أي: أتى أمر الله وعذابه.
قوله «مِنْ فَوقِهِمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «خَرَّ»، وتكون «مِن» لابتداءِ الغاية، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «السَّقف» وهي حال مؤكدة؛ إذ «السَّقفُ» لا يكون تحتهم.
وقيل: ليس قوله: «مِنْ فَوقِهِمْ» تأكيدٌ؛ لأنَّ العرب تقول: «خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ» إذا كان عليه، وإن لم يقع عليه، فجاء بقوله «مِنْ فَوْقِهِم» ليخرج به هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا.
44
وهذا غير طائل، والقول بالتوكيد أظهر.
وقرأ العامة: «بُنْيَانَهُمْ»، وقوم: بُنْيَتَهُمْ، وفرقة منهم أبو جعفر: بَيْتَهُم. والضحاك: بُيوتَهُم.
والعامة: «السَّقْفُ» أيضاً مفرداً، وفرقة: بفتح السِّين، وضمِّ القاف بزنة «عَضُد» وهي لغة في «السَّقفِ» ولعلَّها مخففة من المضموم، وكثر استعمال الفرع؛ لخفَّته، كقولهم في لغة تميم «رَجُلٌ» ولا يقولون: رجَُلٌ.
وقرأ الأعرج: «السُّقُف» بضمتين، وزيد بن علي: بضم السين، وسكون القاف، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦] ثم قال: ﴿وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ إن حملنا الكلام على محض التمثيل؛ فالمعنى: أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر، فالمعنى: أن السَّقف نزل عليهم بغتة.
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر، بل الله - تعالى - يخزيهم [يومَ] القيامة، والخِزْيُ: هو العذاب مع الهوانِ؛ فإنه يقول لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾.
قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورد لفظ «الخِزْي» في القرآن على أربعة [معانٍ] :
الأول: بمعنى العذاب؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] أي: لا تُعذِّبني.
الثاني: بمعنى القَتْلِ؛ قال تعالى: ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا﴾ [البقرة: ٨٥]، أي: القتلُ.
قيل: نزلت في بني قريظة، ومثله: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ [الحج: ٩] أي: فضيحة. قيل: نزلت في النضر بن الحارث.
الثالث: بمعنى الهوان، قال تعالى: ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ﴾ [يونس: ٩٨] أي الهوان.
45
الرابع: بمعنى الفضيحة قال تعالى: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢] أي فضحته، ومثله: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] ومثله: ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ [هود: ٧٨] ومثله: ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ﴾ [المائدة: ٣٣].
قوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ مبتدأ وخبر، والعامة على «شُركَائِيَ» مدوداً، مهموزاً، مفتوح الياءِ، وفرقة كذلك تسكنها فتسقط وصلاً؛ لالتقاء الساكنين، وقرأ البزي - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء، وقد أنكر جماعة هذه القراءة، وزعموا أنها غير مأخوذ بها؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة.
وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ، حيث ذكرها في كتابه؛ مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة.
قال شهاب الدِّين: «وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص، وروي عنه - أيضاً - قصرُ» وَرائِي «في مريم، وروي عنه أيضاً قَصْرُ: ﴿أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٧] في سورة العلق، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه».
وبالجملة: قصر الممدود ضعيفٌ؛ ذكره غير واحدٍ؛ لكن لا يصلُ به على حدِّ الضرورة.
قوله: «تُشَاقُّون» قرأ نافع: بكسر النن خفيفة، والأصل: تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة.
والباقون: بفتحها، خفيفة، ومفعوله محذوف، أي: تشاقُّون المؤمنين، أو تشاقُّون الله؛ بدليل القراءة الأولى.
وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة؛ أعني: قراءة نافع، وقرأت فرقة: بتشديدها مكسورة، والأصل: تُشَاقُّوننِي؛ فأدغم، وقد تقدم تفصيل ذلك في: ﴿أتحاجواني﴾ [الأنعام: ٨٠] و ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] وسيأتي في قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا﴾ [الزمر: ٦٤].

فصل


قال الزجاج: قوله ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾، أي: في زعمكم، واعتقادكم، ونظيره: {أَيْنَ
46
شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: ٢٢] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة: «خُذْ طَرفَكَ، وآخُذُ طَرفِي» فأضاف الطَّرفَ إليهِ.
ومعنى «تُشَاقُّونَ» أي: تعادون، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، والمشاقَّة: عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ، والخصم الآخر في الشق الآخر.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ قال ابن عباسٍ: يريد الملائكة، وقال آخرون: هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة: ﴿إِنَّ الخزي اليوم والسواء﴾ العذاب ﴿عَلَى الكافرين﴾ وفائدة هذا الكلام: أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى.

فصل في احتجاج المرجئة بالآية


احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين، [قالوا:] فإن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الخزي اليوم والسواء﴾ في يوم القيامة مختص بالكافرين، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام -: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى﴾ [طه: ٤٨].
قوله: «اليَوْمَ» منصوب ب «الخِزْيَ» وعمل المصدر فيه «ألْ» وقيل: هو منصوب بالاستقرار في ﴿عَلَى الكافرين﴾ إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله؛ واغتفر ذلك؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف.
قوله: ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ﴾ يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ؛ نعتاً لما قبله، أو بدلاً منه، أو بياناً له، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبر قوله ﴿فَأَلْقَوُاْ السلم﴾ والفاء مزيدة في الخبر؛ قاله ابن عطية.
وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً؛ نحو: «زيْدٌ فقامَ»، أي: قام، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط، لم يجز دخول الفاء عليه؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع؛ كذا قاله أبو حيان، وهو ظاهر.
وعلى الأقوالِ المتقدمة، خلا القول الأخير يكون «الَّذينَ» وصلته داخلاً في القول، وعلى القول الأخير، لا يكون داخلاً فيه، وقرأ «يَتوفَّاهُمُ» بالياءِ في الموضعين حمزة، والباقون: بالتاء من فوق؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة﴾ [آل عمران: ٣٩] وناداه، وقرأت فرقة: بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وفي مصحف عبد
47
الله: «تَوفَّاهمُ» بتاء واحدة، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين.
و ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ حالٌ من مفعولٍ «تَتوفَّاهُمُ»، و «تَتوفَّاهُمُ» يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ.
قوله «فألْقوا» يجوز فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه خبر الموصول، وقد تقدم فساده.
الثاني: أن يكون عطفاً على «قَالَ الَّذِينَ».
الثالث: أن يكون مستأنفاً، والكلام قد تمَّ عند قوله: «أنْفُسهمْ» ثمَّ عاد بقوله: «فألْقَوا» إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة؛ فعلى هذا يكون قوله: ﴿قَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ إلى قوله «أنْفُسهِمْ» جملة اعتراضٍ.
الرابع: أن يكون معطوفاً على «تَتوفَّاهُم» قاله أبو البقاءِ.
وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ «تَتوفَّاهُم» بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في «تَتوفَّاهُم» سواه. قوله ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى: ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول﴾ [النحل: ٨٦] قاله أبو البقاء، ولو قال: يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين.
الثاني: أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ، أي: فألقوا السَّلم قائلين ذلك.
و «مِنْ سُوءٍ» مفعول «نَعْملُ» زيدت فيه «مِنْ»، و «بَلَى» جوابٌ ل «مَا كُنَّا نعمل» فهو إيجابٌ له.

فصل


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استسلموا، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت، وقالوا ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾، والمراد من هذا السوء الشِّرك، فقالت الملائكة تكذيباً لهم ﴿بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من التكذيب، والشرك، وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة، والمعنى: أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾ على سبيل الكذب، ثمَّ ههنا
48
اختلفوا: فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا: إنَّ قولهم: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾ لغاية الخوف، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا: المعنى: ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] هل يجوز الكذب على أهل القيامة، أم لا؟.
وقوله: ﴿بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة.
ثم يقال لهم: ﴿فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [والحزن] أعظم.
قوله: «فَلَبِئْسَ» هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء، والمخصوص بالذم محذوفٌ، أي: جهنَّم.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً﴾ الآية.
لما بين أحوال الكافرين، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين.
قال القاضي [المتقي هو:] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات.
وقال غيره: المتَّقي: هو الذي يتَّقي الشرك.
قوله: «خَيْراً» العامة على نصبه، أي: أنزل خيراً.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ رفع» أسَاطِيرُ الأولين «ونصب هذا؟.
قلت: فصلاً بين جواب المقر، وجواب الجاحد، يعني: أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف»
قَالُوا خَيْراً «أي: أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأوَّلين، وليس هو من الإنزال في شيءٍ».
وقرأ زيد بن عليٍّ: «خَيْرٌ» بالرفع، أي: المُنزَّلُ خيرٌ، وهي مُؤيِّدة لجعل «مَاذَا» موصولة، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله، وإن كان العكس جائزاً، وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ هذه الجملة يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك.
الثاني: أنَّها بدلٌ من «خَيْراً». قال الزمخشري: «هو بدلٌ من» خَيْراً «؛ حكاية لقول» الَّذينَ اتَّقوا «، أي: قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه».
49
الثالث: أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله: «خَيْراً»، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه: من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا، وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله: ﴿فِي هذه الدنيا﴾ الظاهر تعلقه ب «أحْسَنُوا»، أي: أوقعوا الحسنة في دار الدنيا، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من «حَسنةً»، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها.

فصل


قال المفسرون: إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا جاء [سائل] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر وكذاب، كذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما أنزل عليه؛ فيقولون «خَيْراً»، أي أنزل خيراً، ثم ابتدأ فقال: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ أي كرامة من الله.
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة. وقال الضحاك: هي النصرة والفتح. وقال مجاهدٌ: هي الرزقُ الحسن، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ.
وقولهم «خَيْراً» جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون: إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على «خَيْرٌ» في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾ [الأنعام: ٣٢].
ثم قال تعالى: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها.
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ برفع «جَنَّاتُ» على أنها اسم ل «نِعْمَ» كما تقول: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ.
قوله ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ:
رفعها بالابتداءِ، والجملة المتقدمة خبرها.
أو رفعها بالابتداءِ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها، وقد تقدم تحقيق ذلك.
ويجوز أن يكون «جَنَّاتُ عَدنٍ» خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم، بل يكون المخصوص [بالمدح] محذوفاً؛ تقديره: ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات.
50
وقدره الزمخشري: ﴿ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة﴾ «ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر جملة، من قوله» يَدْخُلونهَا «ويجوز أن يكون الخبر مضمراً، تقديره: لهم جنَّات عدنٍ، ودلَّ على ذلك قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾.
والعامة على رفع»
جَنَّات «على ما تقدم، وقرأ زيد بن ثابت، والسلميُّ» جَنَّاتِ «نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: بدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا، وهذا يقوي أن يكون» جَنَّاتُ «مبتدأ، و» يَدْخُلونهَا «الخبر في قراءةِ العامَّة، وقرأ زيد بن عليٍّ:» ولنِعْمَتْ «بتاءِ التأنيث، مرفوعة بالابتداء و» دَارِ «خفض بالإضافة، فيكون» نِعْمَت «مبتدأ و» جَنَّات عَدْنٍ «الخبر. و» يدخلونها «في جميع ذلك نصب على الحال، إلا إذا جعلناه خبراً ل» جنات «، وقرأ نافع في رواية:» يُدخَلُونهَا «بالياء من تحت؛ مبنياً للمفعول.
وقرأ أبو عبد الرحمن:»
تَدْخُلونهَا «بتاء الخطاب مبنياً للفاعل.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ يجوز أن يكون منصوباً على الحال من»
جَنَّاتُ «قاله ابن عطيَّة، وأن يكون في موضع الصفة ل» جنَّات «قاله الحوفيُّ، والوجهان مبنيَّان على القول في» عَدْنٍ «هل هي معرفة؛ لكونه علماً، أو نكرة؟ فقائل الحال: لحظ الأول، وقائل النَّعتِ: لحظ الثاني.
قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ﴾ الكلام في هذه الجملة، كالكلام في الجملة قبلها، والخبر إمَّا»
لَهُمْ «وإمَّا» فِيهَا «.
قوله:»
كَذلِكَ «الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر، أي: الأمر كذلك و ﴿يَجْزِي الله المتقين﴾ مستأنف.

فصل


قال الحسن: دار المتقين هي الدُّنيَا؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة.
وقال أكثرُ المفسرين: هي الجنَّة، ثم فسرها فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ فقوله»
جَنَّاتُ عدْنٍ «يدلُّ على القصور، والبساتين، وقوله:» عَدْنٍ «يدل على الدَّوامِ، وقوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها، والأنهار جارية من تحتهم، ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ﴾ من كلِّ الخيراتِ، ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين﴾ أي: هذا جزاء التَّقوى.
51
ثم وصف المتقين فقال: ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ﴾ وهذا مقابلٌ لقوله ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: ٢٨].
وقوله:» طَيِّبِينَ «كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ، واجتنابهم عن المنهيات، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة.
وأكثر المفسرين يقول: إن هذا التَّوفي قبض الأرواح.
وقال الحسن: إنه وفاةُ الحشر؛ لقوله بعد ﴿ادخلوا الجنة﴾ واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، فيكون المراد بقوله: ﴿ادخلوا الجنة﴾ أي: خاصة لكم، «يَقُولونَ»
يعني الملائكة: «سَلامٌ عَلَيْكُم» وقيل: يُبلِّغونَهم سلام الله.
قوله: ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ﴾ يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم، وإذا جعلنا «يَقُولون» خبراً فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نجعله خبراً، كان حالاً من الملائكة؛ فيكون «طَيِّبينَ» حالاً من المفعول، و «يَقُولُونَ» حالاً من الفاعل، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة، أي: كان القول واقعاً في الدنيا، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة.
ومعنى «طَيِّبينَ»، أي ظاهرين من الشرك، وقيل: صالحين، وقيل: زاكية أعمالها وأقوالهم، وقيل: طيِّبي الأنفس؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل: طيبة نفوسهم، بالرجوع إلى الله، وقيل: طيِّبين، أي: يكون وفاتهم طيبة سهلة.
و «ما» في «بِمَا» مصدرية، أو بمعنى الذي؛ فالعائد محذوف.
52
قوله " لِيَحملُوا " لمَّا حكى شبهتهم قال :" لِيَحْمِلُوا " وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم، والصغار الموجب لهم، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله :" الأوَّلِينَ " ثم استؤنف أمرهم بذلك.
الثاني : أنها لام العاقبة، أي : كان عاقبة [ قولهم ]١ ذلك ؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا ؛ فهو كقوله تعالى :﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ].
قال :[ الوافر ]
٣٣٠٩- لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
الثالث : أنها للتعليل، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه تعليل مجازي.
قال الزمخشريُّ رحمه الله : واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً ؛ نحو قولك " خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ ".
والثاني : أنه تعليلٌ حقيقة.
قال ابن عطيَّة٣ بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ :" ويحتمل أن يكون صريح لام كي ؛ على معنى قدِّر هذا ؛ لكذا " انتهى.
لكنه لم يعلِّقها بقوله " قَالُوا " إنما قدَّر لها عاملاً، وهو " قدَّر " هذا.
وعلى قول الزمخشري يتعلق ب " قَالُوا " لأنها ليست لحقيقة العلَّة، و " كَامِلةً " حالٌ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً للكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة.
قال - صلوات الله وسلامه عليه- :" أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى، فاتُّبعَ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ٤ ".
قوله :﴿ وَمِنْ أوْزَارِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ " مِنْ " مزيدة، وهو قول الأخفش، أي : وأوزار الذين، على معنى : ومثل أوزار ؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام- :" كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا٥ ".
الثاني : أنها غير مزيدة، وهي للتبعيض، أي : وبعض أوزار الذين، وقدَّر أبو البقاءِ : مفعولاً حذف، وهذه صفته، أي : وأوزار من أوزار، ولا بد من حذف " مثل " أيضاً.
ومنع الواحديُّ أن تكون " مِنْ " للتبعيض، قال :" لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع، وهو غير جائز، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه- :" مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء " لكنها للجنس، أي : ليحملوا من جنس أوزار الأتباع ".
قال أبو حيان٦ :" والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا ؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير ".
قوله تعالى :﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ حال وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه مفعول يُضِلُّونَ " أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ ؛ قاله الزمخشريُّ.
والثاني : أنه الفاعل، ورجِّح هذا بأنَّه المحدث عنه، وتقدم الكلام في إعراب نحو :" سَاء مَا يَزرُونَ " وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ.
فإن قيل : إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم، ولم يجب عنها، بل اقتصر على محض الوعيد، فما السبب فيه ؟.
فالجواب : أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين :
الأول : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن، وتارة بعشر سورٍ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ، وتارة بحديثٍ واحدٍ، وعجزوا عن المعارضة ؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً.
الثاني : أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله :﴿ اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ]، وأبطلها بقوله :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات ﴾ [ الفرقان : ٦ ] أي : أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات، والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرحهما مراراً ؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد.
١ في ب: أمرهم..
٢ تقدم..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٨٧..
٤ أخرجه بهذا اللفظ الطبري في "تفسيره" (٧/٥٧٦) عن الربيع بن أنس مرسلا وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢١٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
وله شاهد من حديث أنس أخرجه ابن ماجه (٢٠٥).
وقال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف.
وللحديث شاهد قوي من حديث أبي هريرة.
أخرجه مسلم (٤/٢٠٦٠) كتاب العلم: من سن سنة حسنة (١٦/٢٦٧٤) وابن ماجه (١/٧٥) المقدمة: باب من سن سنة حسنة أو سيئة (٢٠٦) وأبو داود (٤٦٠٩) والترمذي (٢٦٧٤).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح..

٥ انظر: الحديث السابق..
٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧٠..
قوله تعالى :﴿ قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار.
قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل : فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء ؛ ليقاتل أهلها، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي وهم تحته، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً ؛ فلذلك سمِّيت بابل، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية ؛ فذلك قوله تعالى :﴿ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد ﴾ أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها.
والصحيح : أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين.
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب، أي : أنهم لمَّا كفروا ؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد، والأساس ؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى : أنَّهم رتبوا منصوباتٍ ؛ ليمكروا بها أنبياء الله ؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً، وعمدوه بالأساطين، فانهدم ذلك البناءُ، وسقط السقف عليهم ؛ كقولهم :" مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ ".
وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر.
قوله تعالى :﴿ مِّنَ الْقَوَاعِدِ ﴾ " مِن " لابتداءِ الغايةِ، أي : من ناحية القواعد، أي : أتى أمر الله وعذابه.
قوله " مِنْ فَوقِهِمْ " يجوز أن يتعلَّق ب " خَرَّ "، وتكون " مِن " لابتداءِ الغاية، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " السَّقف " وهي حال مؤكدة ؛ إذ " السَّقفُ " لا يكون تحتهم.
وقيل : ليس قوله :" مِنْ فَوقِهِمْ " تأكيدٌ ؛ لأنَّ العرب تقول :" خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ " إذا كان عليه، وإن لم يقع عليه، فجاء بقوله " مِنْ فَوْقِهِم " ليخرج به هذا الذي في كلام العرب، أي : عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا.
وهذا غير طائل، والقول بالتوكيد أظهر.
وقرأ العامة :" بُنْيَانَهُمْ "، وقوم١ : بُنْيَتَهُمْ، وفرقة منهم٢ أبو جعفر : بَيْتَهُم. والضحاك٣ : بُيوتَهُم.
والعامة :" السَّقْفُ " أيضاً مفرداً، وفرقة : بفتح السِّين، وضمِّ القاف بزنة " عَضُد " وهي لغة في " السَّقفِ " ولعلَّها مخففة من المضموم، وكثر استعمال الفرع ؛ لخفَّته، كقولهم في لغة تميم " رَجْلٌ " ولا يقولون : رَجُلٌ.
وقرأ الأعرج٤ :" السُّقُف " بضمتين، وزيد٥ بن علي : بضم السين، وسكون القاف، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل : ١٦ ] ثم قال :﴿ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ إن حملنا الكلام على محض التمثيل ؛ فالمعنى : أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر، فالمعنى : أن السَّقف نزل عليهم بغتة.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧١، والمحرر الوجيز ٣/٤٠٠ والدر المصون ٤/٣٢١ ـ ٣٣٢..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: السابق..
٤ وقرأ بها أيضا ابن محيصن وابن هرمز ينظر: الإتحاف ٢/١٨٢، والقرطبي ١٠/٦٥، والبحر ٥/٤٧١ والدر المصون ٤/٣٢٢..
٥ وقرأ بها أيضا مجاهد ينظر: القرطبي ١٠/٦٥؛ والبحر ٥/٤٧١، والدر المصون ٤/٣٢٢..
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر، بل الله - تعالى - يخزيهم [ يومَ ] القيامة، و الخِزْيُ : هو العذاب مع الهوانِ ؛ فإنه يقول لهم :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾.
قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رحمه الله- : ورد لفظ " الخِزْي " في القرآن على أربعة [ معانٍ ]١ :
الأول : بمعنى العذاب ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ [ الشعراء : ٨٧ ] أي : لا تُعذِّبني.
الثاني : بمعنى القَتْلِ ؛ قال تعالى :﴿ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا ﴾ [ البقرة : ٨٥ ]، أي : القتلُ.
قيل : نزلت في بني قريظة، ومثله :﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ ﴾ [ الحج : ٩ ] أي : فضيحة. قيل : نزلت في النضر بن الحارث.
الثالث : بمعنى الهوان، قال تعالى :﴿ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ ﴾ [ يونس : ٩٨ ] أي الهوان.
الرابع : بمعنى الفضيحة قال تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ] أي فضحته، ومثله :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ [ الشعراء : ٨٧ ] ومثله :﴿ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ [ هود : ٧٨ ] ومثله :﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ].
قوله :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ﴾ مبتدأ وخبر، والعامة على " شُركَائِيَ " ممدوداً، مهموزاً، مفتوح الياءِ، وفرقة كذلك تسكنها٢ فتسقط وصلاً ؛ لالتقاء الساكنين، وقرأ البزي٣ - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء، وقد أنكر جماعة هذه القراءة، وزعموا أنها غير٤ مأخوذ بها ؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة.
وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ، حيث ذكرها في كتابه ؛ مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة.
قال شهاب الدِّين٥ :" وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص، وروي عنه - أيضاً - قصرُ " وَرائِي " في مريم، وروي عنه أيضاً قَصْرُ :﴿ أَن رَّآهُ استغنى ﴾ [ العلق : ٧ ] في سورة العلق، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه ".
وبالجملة : قصر الممدود ضعيفٌ ؛ ذكره غير واحدٍ ؛ لكن لا يصلُ به إلى حدِّ الضرورة.
قوله :" تُشَاقُّون " قرأ نافع٦ : بكسر النون خفيفة، والأصل : تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة.
والباقون : بفتحها، خفيفة، ومفعوله محذوف، أي : تشاقُّون المؤمنين، أو تشاقُّون الله ؛ بدليل القراءة الأولى.
وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة ؛ أعني : قراءة نافع، وقرأت فرقة٧ : بتشديدها مكسورة، والأصل : تُشَاقُّوننِي ؛ فأدغم، وقد تقدم تفصيل ذلك في :﴿ أَتُحَاجُّونِّي ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ] و﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [ الحجر : ٥٤ ] وسيأتي في قوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي ﴾ [ الزمر : ٦٤ ].

فصل


قال الزجاج : قوله ﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ﴾، أي : في زعمكم، واعتقادكم، ونظيره :﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٢ ] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة :" خُذْ طَرفَكَ، وآخُذُ طَرفِي " فأضاف الطَّرفَ إليهِ.
ومعنى " تُشَاقُّونَ " أي : تعادون، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، والمشاقَّة : عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ، والخصم الآخر في الشق الآخر.
ثم قال تعالى :﴿ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال ابن عباسٍ : يريد الملائكة٨، وقال آخرون : هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة :﴿ إِنَّ الخزي اليوم والسوء ﴾ العذاب ﴿ عَلَى الكافرين ﴾ وفائدة هذا الكلام : أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة ؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى.

فصل في احتجاج المرجئة بالآية


احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين، [ قالوا :] فإن قوله تعالى :﴿ إِنَّ الخزي اليوم والسوء ﴾ في يوم القيامة مختص بالكافرين، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام- :﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ طه : ٤٨ ].
قوله :" اليَوْمَ " منصوب ب " الخِزْيَ " وعمل المصدر فيه " ألْ " وقيل : هو منصوب بالاستقرار في ﴿ عَلَى الكافرين ﴾ إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله ؛ واغتفر ذلك ؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف.
١ في أ: أوجه..
٢ ينظر: السبعة ٣٧١، والإتحاف ٢/١٨٢، والتيسير ١٣٧، والنشر ٢/٣٠٣، والبحر ٥/٤٧١، والدر ٤/٣٢٢..
٣ ينظر: الإتحاف ٢/١٨٢، والنشر ٢/٣٠٣، والحجة لأبي علي الفارسي ٥/٦٠، والقرطبي ١٠/٦٦، والبحر ٥/٤٧١، والدر المصون ٤/٣٢٢..
٤ سقط من ب..
٥ ينظر: الدر المصون ٤/٣٢٢..
٦ ينظر: السبعة ٣٧١، والإتحاف ٢/١٨٣، والتيسير ١٣٧، والنشر ٢/٣٠٣، والبحر ٥/٤٧١، والدر المصون ٤/٣٢٢..
٧ ينظر: البحر ٥/٤٧١، والدر المصون ٤/٣٢٢..
٨ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٨) عن ابن عباس..
قوله :﴿ الذين تَتَوَفَّاهُمُ ﴾ يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ ؛ نعتاً لما قبله، أو بدلاً منه، أو بياناً له، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبر قوله ﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ ﴾ والفاء مزيدة في الخبر ؛ قاله ابن عطية.
وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش ؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً ؛ نحو :" زيْدٌ فقامَ "، أي : قام، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط ؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط، لم يجز دخول الفاء عليه ؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع ؛ كذا قاله أبو حيان، وهو ظاهر.
وعلى الأقوالِ المتقدمة، خلا القول الأخير يكون " الَّذينَ " وصلته داخلاً في القول، وعلى القول الأخير، لا يكون داخلاً فيه، وقرأ " يَتوفَّاهُمُ " بالياءِ في الموضعين حمزة، والباقون : بالتاء من فوق ؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله :﴿ فَنَادَتْهُ الملائكة ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] وناداه، وقرأت فرقة : بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وفي مصحف عبد الله :" تَوفَّاهمُ " بتاء واحدة، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين.
و ﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ حالٌ من مفعولٍ " تَتوفَّاهُمُ "، و " تَتوفَّاهُمُ " يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه ؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ.
قوله " فألْقوا " يجوز فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه خبر الموصول، وقد تقدم فساده.
الثاني : أن يكون عطفاً على " قَالَ الَّذِينَ ".
الثالث : أن يكون مستأنفاً، والكلام قد تمَّ عند قوله :" أنْفُسهمْ " ثمَّ عاد بقوله :" فألْقَوا " إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة ؛ فعلى هذا يكون قوله :﴿ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم ﴾ إلى قوله " أنْفُسهِمْ " جملة اعتراضٍ.
الرابع : أن يكون معطوفاً على " تَتوفَّاهُم " قاله أبو البقاءِ.
وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ " تَتوفَّاهُم " بمعنى المضيِّ ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في " تَتوفَّاهُم " سواه. قوله ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء ﴾ فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه ؛ لأنَّه بمعنى القول ؛ بدليل الآية الأخرى :﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول ﴾ [ النحل : ٨٦ ] قاله أبو البقاء، ولو قال : يُحْكى بما هو بمعنى القول ؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين.
الثاني : أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ، أي : فألقوا السَّلم قائلين ذلك.
و " مِنْ سُوءٍ " مفعول " نَعْملُ " زيدت فيه " مِنْ "، و " بَلَى " جوابٌ ل " مَا كُنَّا نعمل " فهو إيجابٌ له.

فصل


قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت، وقالوا ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء ﴾، والمراد من هذا السوء الشِّرك، فقالت الملائكة تكذيباً لهم ﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ من التكذيب، والشرك١، وقيل : تمَّ الكلام عند قوله :﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة، والمعنى : أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم ؛ وقالوا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء ﴾ على سبيل الكذب، ثمَّ ههنا اختلفوا : فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا : إنَّ قولهم :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء ﴾ لغاية الخوف، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] هل يجوز الكذب على أهل القيامة، أم لا ؟.
وقوله :﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٨)..
ثم يقال لهم :﴿ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب، وصرَّح بذكر الخلود ؛ ليكون الغمُّ [ والحزن ]١ أعظم.
قوله :" فَلَبِئْسَ " هذه لام التأكيد ؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء، والمخصوص بالذم محذوفٌ، أي : جهنَّم.
١ في ب: والخوف..
قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾ الآية.
لما بين أحوال الكافرين، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين.
قال القاضي [ المتقي هو :]١ تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات.
وقال غيره : المتَّقي : هو الذي يتَّقي الشرك.
قوله :" خَيْراً " العامة على نصبه، أي : أنزل خيراً.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : لِمَ رفع " أسَاطِيرُ الأولين " ونصب هذا ؟.
قلت : فصلاً بين جواب المقر، وجواب الجاحد، يعني : أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف " قَالُوا خَيْراً " أي : أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا : هو أساطير الأوَّلين، وليس هو من الإنزال في شيءٍ ".
وقرأ زيد٢ بن عليٍّ :" خَيْرٌ " بالرفع، أي : المُنزَّلُ خيرٌ، وهي مُؤيِّدة لجعل " مَاذَا " موصولة، وهو الأحسن ؛ لمطابقة الجواب لسؤاله، وإن كان العكس جائزاً، وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ هذه الجملة يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك.
الثاني : أنَّها بدلٌ من " خَيْراً ". قال الزمخشري :" هو بدلٌ من " خَيْراً " ؛ حكاية لقول " الَّذينَ اتَّقوا "، أي : قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه ".
الثالث : أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله :" خَيْراً "، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعةِ ؛ فله حسنةٌ في الدنيا، وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله :﴿ فِي هذه الدنيا ﴾ الظاهر تعلقه ب " أحْسَنُوا "، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من " حَسنةً "، إذ لو تأخر ؛ لكان صفة لها، ويضعف تعلقه بها نفسها ؛ لتقدمه عليها.

فصل


قال المفسرون : إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء [ سائل ]٣ المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون : ساحر، وكاهن، وشاعر وكذاب، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ؛ فيقولون " خَيْراً "، أي أنزل خيراً، ثم ابتدأ فقال :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ أي كرامة من الله.
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة٤. وقال الضحاك : هي النصرة والفتح٥. وقال مجاهدٌ : هي الرزقُ الحسن٦، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ.
وقولهم " خَيْراً " جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على " خَيْرٌ " في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ وَلَلدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ].
ثم قال تعالى :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت ؛ لسبق ذكرها.
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ برفع " جَنَّاتُ " على أنها اسم ل " نِعْمَ " كما تقول : نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ.
١ سقط من: ب..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧٣، الدر المصون ٤/٣٢٤...
٣ في ب: لشأن..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٦٧)..
٥ ينظر: المصدر السابق..
٦ ينظر: المصدر السابق..
قوله ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح ؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ :
رفعها بالابتداءِ، والجملة المتقدمة خبرها.
أو رفعها بالابتداءِ، والخبر محذوف ؛ وهو أضعفها، وقد تقدم تحقيق ذلك.
ويجوز أن يكون " جَنَّاتُ عَدنٍ " خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم، بل يكون المخصوص [ بالمدح ]١ محذوفاً ؛ تقديره : ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات.
وقدره الزمخشري :﴿ ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة ﴾ " ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر جملة، من قوله " يَدْخُلونهَا " ويجوز أن يكون الخبر مضمراً، تقديره : لهم جنَّات عدنٍ، ودلَّ على ذلك قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾.
والعامة على رفع " جَنَّات " على ما تقدم، وقرأ زيد٢ بن ثابت، والسلميُّ " جَنَّاتِ " نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ، تقديره : يدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا، وهذا يقوي أن يكون " جَنَّاتُ " مبتدأ، و " يَدْخُلونهَا " الخبر في قراءةِ العامَّة، وقرأ زيد٣ بن عليٍّ :" ولنِعْمَتْ " بتاءِ التأنيث، مرفوعة بالابتداء و " دَارِ " خفض بالإضافة، فيكون " نِعْمَت " مبتدأ و " جَنَّات عَدْنٍ " الخبر. و " يدخلونها " في جميع ذلك نصب على الحال، إلا إذا جعلناه خبراً ل " جنات "، وقرأ نافع٤ في رواية :" يُدخَلُونهَا " بالياء من تحت ؛ مبنياً للمفعول.
وقرأ أبو عبد الرحمن٥ :" تَدْخُلونهَا " بتاء الخطاب مبنياً للفاعل.
قوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ يجوز أن يكون منصوباً على الحال من " جَنَّاتُ " قاله ابن عطيَّة، وأن يكون في موضع الصفة ل " جنَّات " قاله الحوفيُّ، والوجهان مبنيَّان على القول في " عَدْنٍ " هل هي معرفة ؛ لكونه علماً، أو نكرة ؟ فقائل الحال : لحظ الأول، وقائل النَّعتِ : لحظ الثاني.
قوله :﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ ﴾ الكلام في هذه الجملة، كالكلام في الجملة قبلها، والخبر إمَّا " لَهُمْ " وإمَّا " فِيهَا ".
قوله :" كَذلِكَ " الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر ؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر، أي : الأمر كذلك و﴿ يَجْزِي الله المتقين ﴾ مستأنف.

فصل


قال الحسن : دار المتقين هي الدُّنيَا ؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة٦.
وقال أكثرُ المفسرين : هي الجنَّة، ثم فسرها فقال :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ فقوله " جَنَّاتُ عدْنٍ " يدلُّ على القصور، والبساتين، وقوله :" عَدْنٍ " يدل على الدَّوامِ، وقوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها، والأنهار جارية من تحتهم، ﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ ﴾ من كلِّ الخيراتِ، ﴿ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين ﴾ أي : هذا جزاء التَّقوى.
١ زيادة من: أ..
٢ ينظر: البحر ٥/٤٧٤، والمحرر ٨/٤٠٧، والدر المصون ٤/٣٢٤..
٣ ينظر: البحر ٥/٤٧٤، والدر ٤/٣٢٤..
٤ قرأ بها نافع ينظر: البحر ٥/٤٧٤، والدر ٤/٣٢٤..
٥ ينظر: السابق نفسه..
٦ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٣/١٨٧) والبغوي في "تفسيره" (٣/٦٧)..
ثم وصف المتقين فقال :﴿ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ ﴾ وهذا مقابلٌ لقوله ﴿ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ النحل : ٢٨ ].
وقوله :" طَيِّبِينَ " كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة ؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ، واجتنابهم عن المنهيات، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة.
وأكثر المفسرين يقول : إن هذا التَّوفي قبض الأرواح.
وقال الحسن : إنه وفاةُ الحشر ؛ لقوله بعد ﴿ ادخلوا الجنة ﴾ واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، فيكون المراد بقوله :﴿ ادخلوا الجنة ﴾ أي : خاصة لكم، " يَقُولونَ " يعني الملائكة :" سَلامٌ عَلَيْكُم١ " وقيل : يُبلِّغونَهم سلام الله.
قوله :﴿ الذين تَتَوَفَّاهُمُ ﴾ يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم، وإذا جعلنا " يَقُولون " خبراً فلابدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي : يقولون لهم، وإذا لم نجعله خبراً، كان حالاً من الملائكة ؛ فيكون " طَيِّبينَ " حالاً من المفعول، و " يَقُولُونَ " حالاً من الفاعل، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة، أي : كان القول واقعاً في الدنيا، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة.
ومعنى " طَيِّبينَ "، أي ظاهرين من الشرك، وقيل : صالحين، وقيل : زاكية أعمالهم وأقوالهم، وقيل : طيِّبي الأنفس ؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل : طيبة نفوسهم، بالرجوع إلى الله، وقيل : طيِّبين، أي : يكون وفاتهم طيبة سهلة.
و " ما " في " بِمَا " مصدرية، أو بمعنى الذي ؛ فالعائد محذوف.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٠/٢٢)..
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ الآية.
هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة؛ فإنهم طلبوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل الله ملكاً من
52
السماء؛ يشهد على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ فقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ في التصديق بنبوتك ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة﴾ شاهدين بذلك، ويحتمل أنَّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ الأولين﴾ وذكر أنواع التهديد، والوعيد، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنَّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد، أو أتاهم أمر ربِّك، وهو عذاب الاستئصال، وعلى كلا التقديرين قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، أي: أفعال هؤلاء، وكلامهم يشبهُ كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم، وتقدم الكلام على قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة﴾ [الأنعام: ١٥٨] في آخر الأنعام، وأنَّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت، والباقين بالتاء من فوق، وهما واضحتان؛ لكونه تأنيثاً مجازيًّا.
قوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله﴾ بتعذيبه إياهم، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ﴿ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم، وتكذيبهم الرسل.
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أي: عقاب سيئات ما عملوا، فقوله: «فأصَابَهُمْ» عطف على «فَعلَ الَّذينَ» وما بينهما اعتراضٌ، «وَحَاقَ» نزل «بِهِمْ» على وجه الإحاطة بجوانبهم، ﴿مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: عقاب استهزائهم.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا﴾ الآيات.
هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة؛ فقالوا: لو شاء الله الإيمان، لحصل لنا سواء جئت، أو لم تجئ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر، جئت أو لم تجئ، فالكلُّ من الله، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله: ﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ﴾ [الأنعام: ١٤٨].
واستدلال المعتزلة به، مثل استدلالهم بتلك الآية، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك، فلا فائدة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل، فنقول: الجواب عن هذه الشبهة هي: أنَّهم قالوا: لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً؛ فنقول: هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم: إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان، ودفع الكفر؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى -.
فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله، وذلك باطل؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يعترض عليه في أفعاله.
وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين: إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء؛ كقول قوم شعيبٍ: ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ [هود: ٨٧] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين.
قوله: ﴿فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين﴾ قالت المعتزلة: إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان، وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ.
53
وأهل السنة قالوا: معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه، ويضل من يشاء بخذلانه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم؛ آمراً بالإيمان، وناهياً عن الكفر.
ثم قال: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة﴾ أي: فمنهم من هداه الله إلى الإيمان، ومنهم من أضله عن الحق، وأوقعه في الكفر، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده، وينهى عن الشيء وييده، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ، وأجوبتهم مراراً.
والطاغوتُ: كل معبودٍ من دون الله، وقيل: اجتنبوا الطَّاغوت: أي طاعة الشيطان.
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ يجوز في «أنْ» أن تكون تفسيرية؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً، وأن تكون مصدرية، أي: بعثناه بأن اعبدوا.
قوله: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة﴾ يجوز في «مَنْ» الأولى أن تكون نكرة موصوفة، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول، وقوله «حقَّتْ» يدل على صحة مذهب أهل السنةِ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً، وهو محال؛ ويؤيده قوله: ﴿فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ [الأعراف: ٣٠]، وقوله: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] وقوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ [يس: ٧] ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ أي: مآل أمرهم، وخراب منازلهم بالعذاب، والهلاك؛ فتعتبروا، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة؛ فإنه لا يهتدي؛ فقال تعالى: ﴿إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ﴾ أي: تطلب بجهدك ذلك؛ ﴿فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾.
قوله ﴿إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ﴾ قرأ العامة بكسر الراء، مضارع حرص بفتحها، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة: «تَحْرَص» بفتح الراء، مضارع حرص بكسرها، وهي لغة لبعضهم، وكذلك النخعيُّ: إلاَّ أنه زاد واواً قبل: «إنْ» فقرأ: «وإنْتحرصْ».
قوله: «لا يَهْدِي» قرأ الكوفيون بفتح الياءِ، وكسر الدَّال، وهذه القراءة تحتمل وجهين:
54
أحدهما: أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي: لا يهدي الله من يضله؛ ف «مَنْ» مفعول «يَهْدِي» ؛ ويؤيده قراءة أبي: «فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ» وأنه في معنى قوله:
﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦].
والثاني: أن يكون الموصول هو الفاعل، أي: لا يهدي المضلين، و «يَهْدي» يجيء في معنى يهتدي، يقال: هداهُ فهدى، أي: اهتدى.
ويؤيد هذا الوجه: قراءة عبد الله «يَهِدِّي» بتشديد الدال المكسورة، والأصل يهتدي؛ فأدغم.
ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع، وتحقيقه ما تقدم في يونس، والعائد على «مَنْ» محذوف، أي: الذي يضله الله.
والباقون «لا يُهْدَى» بضمِّ الياء، وفتح الدال، مبنيًّا للمفعول، و «مَنْ» قائم مقام فاعله، وعائده محذوف أيضاً.
وجوَّز أبو البقاء: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، و «لا يَهْدِي» خبره - يعني - تقدم عليه.
وهذا خطأ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو: «زيْدٌ لا يَضْرِب»، ولو قدمت لالتبس بالفاعل.
وقرئ «لا يُهْدِي» بضم الياء وكسر الدال.
قال ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهي ضعيفة».
قال ابن حيَّان: «وإذا ثبت أن» هَدَى «لازم بمعنى اهتدى، لم تكن ضعيفة؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله».
وقوله تعالى: «ومَا لَهُمْ» حمل على معنى «مَنْ» فلذلك جمع.
وقرئ: «مَنْ يَضِلُّ» بفتح الياء من «ضَلَّ» أي: لا يهدي من ضل بنفسه ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾، أي: [ما يقيهم] من العذاب.
55
﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ﴾ أي : عقاب سيئات ما عملوا، فقوله :" فأصَابَهُمْ " عطف على " فَعلَ الَّذينَ " وما بينهما اعتراضٌ، " وَحَاقَ " نزل " بِهِمْ " على وجه الإحاطة بجوانبهم، ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي : عقاب استهزائهم.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا ﴾ الآيات.
هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة ؛ فقالوا : لو شاء الله الإيمان، لحصل لنا سواء جئت، أو لم تجئ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر، جئت أو لم تجئ، فالكلُّ من الله، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله :﴿ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
واستدلال المعتزلة به، مثل استدلالهم بتلك الآية، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك، فلا فائدة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل، فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي : أنَّهم قالوا : لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً ؛ فنقول : هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان، ودفع الكفر ؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى-.
فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله، وذلك باطل ؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يعترض عليه في أفعاله.
وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين : إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء ؛ كقول قوم شعيبٍ :﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد ﴾ [ هود : ٨٧ ] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين.
قوله :﴿ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين ﴾ قالت المعتزلة : إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان، وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ.
وأهل السنة قالوا : معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل، أو لا يحصل ؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه، ويضل من يشاء بخذلانه، ويدل عليه قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم ؛ آمراً بالإيمان، وناهياً عن الكفر.
ثم قال :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة ﴾ أي : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان، ومنهم من أضله عن الحق، وأوقعه في الكفر، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته ؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده، وينهى عن الشيء ويريده، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ، وأجوبتهم مراراً.
والطاغوتُ : كل معبودٍ من دون الله، وقيل : اجتنبوا الطَّاغوت : أي طاعة الشيطان.
قوله :﴿ أَنِ اعبدوا الله ﴾ يجوز في " أنْ " أن تكون تفسيرية ؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً، وأن تكون مصدرية، أي : بعثناه بأن اعبدوا.
قوله :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة ﴾ يجوز في " مَنْ " الأولى أن تكون نكرة موصوفة، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول، وقوله " حقَّتْ " يدل على صحة مذهب أهل السنةِ ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً، وهو محال ؛ ويؤيده قوله :﴿ فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] وقوله :﴿ لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ٧ ] ثم قال - عز وجل- :﴿ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾ أي : مآل أمرهم، وخراب منازلهم بالعذاب، والهلاك ؛ فتعتبروا، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة ؛ فإنه لا يهتدي ؛ فقال تعالى :﴿ إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ ﴾ أي : تطلب بجهدك ذلك ؛ ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾.
قوله ﴿ إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ ﴾ قرأ العامة بكسر الراء، مضارع حرص بفتحها، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة١ :" تَحْرَص " بفتح الراء، مضارع حرص بكسرها، وهي لغة لبعضهم، وكذلك النخعيُّ٢ : إلاَّ أنه زاد واواً قبل :" إنْ " فقرأ :" وإنْتحرصْ ".
قوله :" لا يَهْدِي " قرأ الكوفيون٣ بفتح الياءِ، وكسر الدَّال، وهذه القراءة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي : لا يهدي الله من يضله ؛ ف " مَنْ " مفعول " يَهْدِي " ؛ ويؤيده قراءة أبي :" فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ " وأنه في معنى قوله :
﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ].
والثاني : أن يكون الموصول هو الفاعل، أي : لا يهدي المضلين، و " يَهْدي " يجيء في معنى يهتدي، يقال : هداهُ فهدى، أي : اهتدى.
ويؤيد هذا الوجه : قراءة عبد الله " يَهِدِّي " بتشديد الدال المكسورة، والأصل يهتدي ؛ فأدغم.
ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع، وتحقيقه ما تقدم في يونس، والعائد على " مَنْ " محذوف، أي : الذي يضله الله.
والباقون " لا يُهْدَى " بضمِّ الياء، وفتح الدال، مبنيًّا للمفعول، و " مَنْ " قائم مقام فاعله، وعائده محذوف أيضاً.
وجوَّز أبو البقاء : أن تكون " مَنْ " مبتدأ، و " لا يَهْدِي " خبره - يعني - تقدم عليه.
وهذا خطأ ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو :" زيْدٌ لا يَضْرِب "، ولو قدمت لالتبس بالفاعل.
وقرئ " لا يُهْدِي " بضم الياء وكسر الدال.
قال ابن عطية٤ - رحمه الله- :" وهي ضعيفة ".
قال ابن حيَّان٥ :" وإذا ثبت أن " هَدَى " لازم بمعنى اهتدى، لم تكن ضعيفة ؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله ".
وقوله تعالى :" ومَا لَهُمْ " حمل على معنى " مَنْ " فلذلك جمع.
وقرئ٦ :" مَنْ يَضِلُّ " بفتح الياء من " ضَلَّ " أي : لا يهدي من ضل بنفسه ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، أي :[ ما يقيهم ]٧ من العذاب.
١ ينظر: المحتسب ٢/٩، والشواذ ٣، البحر ٥/٤٧٦، الدر المصون ٤/٣٢٤..
٢ ينظر: البحر ٥/٤٧٥، والدر المصون ٤/٣٢٤..
٣ ينظر في قراءاتها: السبعة ٣٧٢، النشر ٢/٣٠٤، الإتحاف ٤/١٨٤، التيسير ١٣٧، والبحر ٥/٤٧٦، والقرطبي ١٠/٦٩، والدر المصون ٤/٣٢٥..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٩٢..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧٦..
٦ ينظر: البحر ٥/٤٧٦، والدر المصون ٤/٣٢٦..
٧ في أ: مانعين..
قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً.
والثاني: أنه يقرر نبوة نفسه، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته.
فقوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ﴾.
معناه: أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم، فإنه لا يعود بعينه، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل.
وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة، فلم يصرِّحوا به، فتركوه، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال: «بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا» أي حق على الله التمييز بين المطيع، والعاصي، وبين المحق، والمبطل، وبين المظلوم، والظالم؛ وهو قوله تعالى:
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ﴾ وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة «يس» إن شاء الله تعالى، ثم بين إمكان الحشر، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء، لا يتوقف على سبق مادة، ولا مدة، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله: «كُنْ».
فقال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته.
قوله: «وأقْسَمُوا» ظاهره أنه استئناف خبر، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على «وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا» إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان، وقوله «بَلَى» إثبات لما بعد النفي. قوله «وعْداً عَليْهِ حقًّا» هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أي: وعد ذلك وعداً وحق حقًّا.
وقيل: «حقًّا» نعت ل «وعْداً» والتقدير: بلى يبعثهم، وعد بذلك وعداً حقًّا.
وقرأ الضحاك: «وعْد عَليْهِ حَقٌّ» برفعهما؛ على أنَّ «وعْدٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: بلى يبعثهم وعد على الله، و «حَقٌّ» نعت ل «وعْدٌ».
56
قوله: «لِيُبَيِّنَ» هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب، أي: بلى يبعثهم، ليبيَّن، وقوله «كُنْ فَيكُونُ» تقدم في البقرة، «واللام» في «لِشيْءٍ» وفي «لَهُ» لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما، أي: لأجل شيء أن يقول لأجله، وليس بواضح.
وقال ابن عطية: «وقوله» أنْ نَقُولَ «ينزَّل منزلة المصدر، كأنه قال: قولنا؛ ولكن» أنْ «مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: ٢٥] إلى غير ذلك».
قال أبو حيَّان: وقوله: «ولكن» أنْ «مع الفعل يعني المضارع» وقوله: «في أغلب أمرها» ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها، وقوله: «قد تجيء... إلى آخره» لم يفهم ذلك من دلالة «أنْ» وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى -.
ونظيره: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الأحزاب: ٥] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان.
قوله «قَولُنَا» مبتدأ، و «أن نقُول» خبره، و «كُنْ فَيكُونُ» :«كُنْ» من «كَانَ» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا حدوث شيء، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ.
وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكون» بنصب النون، والباقون بالرفع.
قال الفراء: ولقراءة الرفع وجهها: أن يجعل قوله «أن نقُول له» كلاماً تاماً، ثم يخبر عنه بأنه سيكون، كما يقال: «إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ» برفع قولك «فَيَفْعَلُ» على أن تجعله كلاماً مبتدأ.
وأما وجه القراءة الأولى: فأن تجعله عطفاً على «أن نَقُول» والمعنى: أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور.
وقال الزجاج: «ويجوز أن يكون نصباً على جواب» كُنْ «».
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله: إنه نصب على جواب «كُنْ».
57
فإن قيل: قوله «كُنْ» إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ.
فالجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون.

فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله


دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له: كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ.
قال ابن الخطيب: وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه:
أحدها: أنَّ كلمة «إذَا» لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته: «إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ» فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له: كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ.
وثانيها: أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ «كُنْ» وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة «كُنْ» مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة «كُنْ» يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة] للفظ: «كُنْ» فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به.
ثالثها: أنَّ الرجل إذا قال: إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه.
ورابعها: أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ﴾ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً.
الثاني: أنه علق القول بكلمة «إذَا» وهي إنَّما تدخل للاستقبال.
الثالث: أن قوله تعالى: ﴿أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال.
58
الرابع: أن قوله «كن فَيكُونُ» كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً.
الخامس: أنه معارض بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: ٣٧] و ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ [الأحزاب: ٣٨] و ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣] و ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ [الطور: ٢٤] و ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً﴾ [الأحقاف: ١٢] فإن قيل: فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه؟.
قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً.
قوله: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ الآية.
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: نزلت هذه الآية في صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، وعابس، وجبير، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: رَبِحَ البيعُ يا صهيب، وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه»، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه.
وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هم أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم، ودل عليه قوله تعالى: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله﴾ على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله، لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد.
قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار.
قوله: «حَسنَةً» فيها أوجه:
أحدها: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، أي: تبوئة حسنة.
الثاني: أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى {لَنُبَوِّئَنهُمْ «لنحسنن إليهم.
الثالث: أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم، و»
حَسَنةً «صفة لموصوف محذوفٍ، أي: داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن: دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام -.
وقيل: تقديره: منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل المشرق.
وقيل: حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف.
وقرأ أمير المؤمنين، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة:»
لنُثوينَّهُمْ «بالثاء المثلثة والياء، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من» ثَوَى بالمكان «أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و» حَسنَةً «على ما تقدم.
ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي «في حَسَنة»
والموصول مبتدأ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً.
وجوَّز أبو البقاء في: «
59
الَّذينَ» النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر، أي: لنبوأنَّ الذين.
ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً، إلا ما جاز أن يعمل، وإن قلت «زَيْداً لأضْربنَّ» لم يجز، فكذا لا يجوز «زَيْداً لأضْربنَّه».
قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين.
أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم.

فصل: الإحسان عند الإعطاء


روي أنَّ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول: خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذه الآية.
60
وقيل: المعنى: لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل: الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية.
قوله تعالى: ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين صبروا، أو نصب على تقدير أمدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً فمحله محله.
والمعنى: أنَّهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأموال، والأنفس في سبيل الله.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة، كانوا يقولون: الله أعلى، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: ﴿نوحي إِلَيْهِمْ﴾ والمعنى: أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر، وهذه العادة مستمرةٌ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال.
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ [فاطر: ١] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم قال الله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد أهل التوراة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر﴾ [الأنبياء: ١٠٥] يعني التوراة. وقال الزجاج: معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق.
واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال: لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز.
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالماً بحكمها، لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز.
والجواب: أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل.
61
قوله «بِالبَيِّناتِ» فيه ثمانية أوجه:
أحدها: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رِجَالاً» فيتعلق بمحذوفٍ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه، ذكره الزمخشريُّ.
الثاني: أنه متعلق ب «أرْسَلْنَا» ذكره الحوفي، والزمخشريُّ، وغيرهما، وبه بدأ الزمخشريُّ، فقال: «يتعلق ب» أرْسَلْنَا «داخلاً تحت حكم الاستثناء مع» رِجَالاً «أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله: ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ».
وضعفه أبو البقاء: بأن ما قبل «إلاَّ» لا يعمل فيما بعدها، إذا تم الكلام على «إلا» وما يليها، قال: إلا أنه قد جاء في الشعر: [البسيط]
٣٣١٠ - نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ
وقال أبو حيَّان: «وما أجازه الحوفي، والزمخشري، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد» إلاَّ «إلاَّ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابع لذلك، وما ظن بخلافه قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً، أو منصوباً أو مخفوضاً، نحو: ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو».
ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش، في الظرف، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي، والأخفش.
الثالث: أنه يتعلق ب «أرْسَلْنَا» أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد «إلاَّ» معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل «إلاَّ»، حكاه ابن عطية.
وأنكر الفراء ذلك وقال: «إنَّ صلة ما قبل» إلاَّ «لا يتأخر إلى ما بعد» إلا «لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل» إلاَّ «مع صلته، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه».
الرابع: أنه متعلق ب «نُوحِي» كما تقول: أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري، وأبو البقاء.
الخامس: أنَّ الباء مزيدة في «بالبَيِّناتِ» وعلى هذا؛ فيكون «البَيِّنَات» هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة.
62
السادس: أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل، وهو «إليْهِمْ» ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدًّا.
السابع: أن يتعلَّق ب «لا تَعْلَمُون» على أنَّ الشرط في معنى: التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي.
قال الزمخشريُّ: وقوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة، ويعني بقوله: «فاسْئَلُوا» الجزاء وشرطه، وأما على الوجه الأخير، فعدم الاعتراض واضحٌ.
الثامن: أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل: بِمَ أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات، والزُّبرِ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ: بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى.

فصل في تأويل «إلا»


قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إلاَّ» بمعنى «غَيْرَ»، أي: وما أرسلنا قبلك بالبينات، والزبر، غير رجالٍ يوحى إليهم، ولو لم نبعث إليهم ملائكة.
وقيل: تأويله: وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، والبينات والزبر: كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة، وهي البينات على التكاليفِ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد، وهي الزبر.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أراد بالذكر الوحي وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى.

فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين


ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمفتقر إلى [البيان] مجملٌ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية، والخبر مبين لهذه الآية، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب: بأن القرآن منه محكمٌ، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً، بل فيه المجمل.
فقوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ محمول على تلك المجملات.
63

فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله


ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين، وعند هذا قال نفاة القياس: لو كان القياس حجة، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف، والأحكام؛ هو الرسول، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ.
وأجيب عنه: بأنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قالوا: لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقع فيه اختلافٌ.
قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات﴾ الآية في «السَّيِّئاتِ» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها نعت لمصدر محذوف، أي: المكرات السيئات.
الثاني: أنه مفعول به على تضمين: «مَكرُوا» عملوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين، فقوله ﴿أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض﴾ مفعولٌ ب «أمِنَ».
الثالث: أنه منصوب ب «أمن»، أي: أمنوا العقوبات السيئات، وعلى هذا فقوله ﴿أَن يَخْسِفَ الله﴾ بدل من «السَّيِّئات».
والمكرُ في اللغة: هو السعي بالفسادِ خفية، ولا بد هنا من إضمارٍ، تقديره المكرات السيئات، والمراد أهل مكة، ومن حول المدينة.
قال الكلبيُّ: المراد بهذا المكر: اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول، وأصحابه على سبيل الخفيةِ، أي: يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية.
قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي: يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية.
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ أي: أسفارهم ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ [آل عمران: ١٩٦].
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم.
64
وقيل: في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل.
وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾ [التوبة: ٤٨]. ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل «يَأخُذهُمْ» وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل.
والتَّخَوُّفُ: تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال: خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ.
والتَّخوُّفُ: التَّنقُّص، أي: نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال: تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال: هذه لغة بني هذيل.
وقال الأعرابيِّ: تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ.
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟.
قال: نعم، قال شاعرنا: [البسيط]
٣٣١١ - تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً كمَا تَخوَّفَ [عُودَ] النَّبْعةِ السَّفن
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل: قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ [الأنبياء: ٤٤] أي: لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم.
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم.
وقال الضحاك، والكلبيُّ: من الخوف، أي: لا يأخذهم بالعذاب، أولاً؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها.
65
ثم قال: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب.
66
﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة " يس " إن شاء الله تعالى.
ثم بين إمكان الحشر، والنشر ؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء، لا يتوقف على سبق مادة، ولا مدة، ولا آلة ؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله :" كُنْ ".
فقال ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده ؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته.
قوله :" وأقْسَمُوا " ظاهره أنه استئناف خبر، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على " وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا " إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان، وقوله " بَلَى " إثبات لما بعد النفي. قوله " وعْداً عَليْهِ حقًّا " هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أي : وعد ذلك وعداً وحق حقًّا.
وقيل :" حقًّا " نعت ل " وعْداً " والتقدير : بلى يبعثهم، وعد بذلك وعداً حقًّا.
وقرأ الضحاك١ :" وعْد عَليْهِ حَقٌّ " برفعهما ؛ على أنَّ " وعْدٌ " خبر مبتدأ مضمر، أي : بلى يبعثهم وعد على الله، و " حَقٌّ " نعت ل " وعْدٌ ".
قوله :" لِيُبَيِّنَ " هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب، أي : بلى يبعثهم، ليبيَّن، وقوله " كُنْ فَيكُونُ " تقدم في البقرة، " واللام " في " لِشيْءٍ " وفي " لَهُ " لام التبليغ ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله، وليس بواضح.
وقال ابن عطية٢ :" وقوله " أنْ نَقُولَ " ينزَّل منزلة المصدر، كأنه قال : قولنا ؛ ولكن " أنْ " مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله - سبحانه وتعالى- :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ﴾ [ الروم : ٢٥ ] إلى غير ذلك ".
قال أبو حيَّان٣ : وقوله :" ولكن " أنْ " مع الفعل يعني المضارع " وقوله :" في أغلب أمرها " ليس بجيدٍ ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها، وقوله :" قد تجيء. . . إلى آخره " لم يفهم ذلك من دلالة " أنْ " وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ، والأرض بأمر الله ؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى-.
ونظيره :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٥ ] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان.
قوله " قَولُنَا " مبتدأ، و " أن نقُول " خبره، و " كُنْ فَيكُونُ " :" كُنْ " من " كَانَ " التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي : إذا أردنا حدوث شيء، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ.
وقرأ ابن٤ عامر، والكسائي " فيكون " بنصب النون، والباقون بالرفع.
قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله " أن نقُول له " كلاماً تاماً، ثم يخبر عنه بأنه سيكون، كما يقال :" إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ " برفع قولك " فَيَفْعَلُ " على أن تجعله كلاماً مبتدأ.
وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفاً على " أن نَقُول " والمعنى : أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور.
وقال الزجاج :" ويجوز أن يكون نصباً على جواب " كُنْ " ".
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب " كُنْ ".
فإن قيل : قوله " كُنْ " إن كان خطاباً مع المعدوم ؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل ؛ وهو محالٌ.
فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم ؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك ؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون.

فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله


دلت هذه الآية على قدم القرآن ؛ لأنَّ قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فلو كان قوله حادثاً ؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ.
قال ابن الخطيب٥ : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :
أحدها : أنَّ كلمة " إذَا " لا تفيد التكرار ؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته :" إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ " فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار ؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ.
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ " كُنْ " وهذا معلوم البطلان بالضرورة ؛ لأنَّ لفظة " كُنْ " مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة " كُنْ " يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الذي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ]٦ للفظ :" كُنْ " فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية ؛ فسقط التمسك به.
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً ؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله ؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية ؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف ؛ فكذلك ما قالوه.
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ ﴾ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة ؛ فيكون محدثاً.
الثاني : أنه علق القول بكلمة " إذَا " وهي إنَّما تدخل للاستقبال.
الثالث : أن قوله تعالى :﴿ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال.
الرابع : أن قوله " كن فَيكُونُ " كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد ؛ يجب أن يكون محدثاً.
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] و ﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٨ ] و ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] و ﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ الطور : ٢٤ ] و ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾ [ الأحقاف : ١٢ ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه ؟.
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً.
قوله :﴿ والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ الآية.
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين ؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات ؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة ؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - عز وجل - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عز وجل -.
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : نزلت هذه الآية في صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، وعابس، وجبير، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ؛ ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم ؛ فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : رَبِحَ البيعُ يا صهيب، وقال عمر رضي الله عنه :" نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه "، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه١.
وقال قتادة - رضي الله عنه- : هم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم ؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك ؛ فجعلها لهم دار هجرة، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم٢، ودل عليه قوله تعالى :﴿ والذين هَاجَرُواْ فِي الله ﴾ على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله، لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد.
وقوله تعالى :﴿ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار.
قوله :" حَسنَةً " فيها أوجه :
أحدها : أنها نعتٌ لمصدر محذوف، أي : تبوئة حسنة.
الثاني : أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى ؛ لأنَّ معنى { لَنُبَوِّئَنهُمْ " لنحسنن إليهم.
الثالث : أنها مفعول ثانٍ ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم، و " حَسَنةً " صفة لموصوف محذوفٍ، أي : داراً حسنة ؛ وفي تفسير الحسن : دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام-.
وقيل : تقديره : منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل المشرق.
وقيل : حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف.
وقرأ أمير المؤمنين٣، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة :" لنُثوينَّهُمْ " بالثاء المثلثة والياء، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من " ثَوَى بالمكان " أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و " حَسنَةً " على ما تقدم.
ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي " في حَسَنة " والموصول مبتدأ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره، وفيه ردٌّ على ثعلب ؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً.
وجوَّز أبو البقاء في :" الَّذينَ " النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر، أي : لنبوأنَّ الذين.
ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً، إلا ما جاز أن يعمل، وإن قلت " زَيْداً لأضْربنَّ " لم يجز، فكذا لا يجوز " زَيْداً لأضْربنَّه ".
قوله :﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين.
أو على المؤمنين، أي : لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم.

فصل : الإحسان عند الإعطاء


روي أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذه الآية٤.
وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٠/٢٨)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٨٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٤/٢٢١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ ينظر: المحتسب ٢/٩٠١ والبحر ٥/٤٧٧، والمحرر ٨/٤٢١ والدر المصون ٤/٣٢٧..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٨٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٢١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وذكره البغوي أيضا في "تفسيره" (٣/٦٩)..
قوله تعالى :﴿ الذين صَبَرُواْ ﴾ محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين صبروا، أو نصب على تقدير أمدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً فمحله محله.
والمعنى : أنَّهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأموال، و الأنفس في سبيل الله.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة، كانوا يقولون : الله أعلى، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر ؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ إلينا كان يبعث ملكاً، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام ؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله :﴿ نوحي إِلَيْهِمْ ﴾ والمعنى : أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر، وهذه العادة مستمرةٌ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال.
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى :﴿ جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً ﴾ [ فاطر : ١ ] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام-، ثم قال الله تعالى :﴿ فاسألوا أَهْلَ الذكر ﴾.
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : يريد أهل التوراة، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] يعني التوراة١. وقال الزجاج : معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق.
واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد ؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية ؛ فقال : لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم ؛ لقوله تعالى :﴿ فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فإن لم يجب ؛ فلا أقل من الجواز.
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالماً بحكمها، لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها ؛ لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة، لما وجب عليه سؤال العالم ؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية ؛ فوجب أن لا يجوز.
والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٣٠)..
قوله " بِالبَيِّناتِ " فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " رِجَالاً " فيتعلق بمحذوفٍ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أي : مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه، ذكره الزمخشريُّ.
الثاني : أنه متعلق ب " أرْسَلْنَا " ذكره الحوفي، والزمخشريُّ، وغيرهما، وبه بدأ الزمخشريُّ، فقال :" يتعلق ب " أرْسَلْنَا " داخلاً تحت حكم الاستثناء مع " رِجَالاً " أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك : ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ ؛ لأن أصله : ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ ".
وضعفه أبو البقاء : بأن ما قبل " إلاَّ " لا يعمل فيما بعدها، إذا تم الكلام على " إلا " وما يليها، قال : إلا أنه قد جاء في الشعر :[ البسيط ]
٣٣١٠- نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ١
وقال أبو حيَّان٢ :" وما أجازه الحوفي، والزمخشري، لا يجيزه البصريون ؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد " إلاَّ " إلاَّ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابع لذلك، وما ظن بخلافه قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً، أو منصوباً أو مخفوضاً، نحو : ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو ".
ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش، في الظرف، وعديله ؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي، والأخفش.
الثالث : أنه يتعلق ب " أرْسَلْنَا " أيضاً ؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً ؛ حتى لا يكون ما بعد " إلاَّ " معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل " إلاَّ "، حكاه ابن عطية.
وأنكر الفراء ذلك وقال :" إنَّ صلة ما قبل " إلاَّ " لا يتأخر إلى ما بعد " إلا " لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل " إلاَّ " مع صلته، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه ؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه ".
الرابع : أنه متعلق ب " نُوحِي " كما تقول : أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري، وأبو البقاء.
الخامس : أنَّ الباء مزيدة في " بالبَيِّناتِ " وعلى هذا ؛ فيكون " البَيِّنَات " هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنها هي الموحاة.
السادس : أن الجارَّ متعلق بمحذوف ؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل، وهو " إليْهِمْ " ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدًّا.
السابع : أن يتعلَّق ب " لا تَعْلَمُون " على أنَّ الشرط في معنى : التبكيت والإلزام ؛ كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي.
قال الزمخشريُّ٣ : وقوله تعالى :﴿ فاسألوا أَهْلَ الذكر ﴾ اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة، ويعني بقوله :" فاسْئَلُوا " الجزاء وشرطه، وأما على الوجه الأخير، فعدم الاعتراض واضحٌ.
الثامن : أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ ؛ كأنه قيل : بِمَ أرسلوا ؟ فقيل : أرسلوا بالبينات، والزُّبرِ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ : بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى.

فصل في تأويل " إلا "


قال البغوي٤ - رحمه الله- :" إلاَّ " بمعنى " غَيْرَ "، أي : وما أرسلنا قبلك بالبينات، والزبر، غير رجالٍ يوحى إليهم، ولو لم نبعث إليهم ملائكة.
وقيل : تأويله : وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، والبينات والزبر : كل ما يتكامل به الرسالة ؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة، وهي البينات على التكاليفِ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد، وهي الزبر.
ثم قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ أراد بالذكر الوحي وكان - عليه الصلاة والسلام - مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى.

فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين


ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتقر إلى [ البيان ]٥ مجملٌ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل ؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر ؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية، والخبر مبين لهذه الآية، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب : بأن القرآن منه محكمٌ، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً ؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً، بل فيه المجمل.
فقوله :﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ محمول على تلك المجملات.

فصل هل الرسول مبين لكل ما أنزل الله


ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين، وعند هذا قال نفاة القياس : لو كان القياس حجة، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام ؛ لاحتمال أن يبين المكلف ذلك الحكم بطريق القياس، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف، والأحكام ؛ هو الرسول، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ.
وأجيب عنه : بأنَّه صلى الله عليه وسلم لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس ؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صلى الله عليه وسلم. قالوا : لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع فيه اختلافٌ.
١ ينظر: أوضح المسالك ٢/١٣٠، تذكرة النحاة ص ٣٣٥، شرح التصريح ١/٢٨٤، المقاصد النحوية ٢/٤٩٢، التبيان ٢/٧٩٦، معاني الفراء ٢/١٠١، الألوسي ١٤/١٤٩، زادة ٣/١٧٩، التصريح ١/٢٨٤، العيني ٢/٤٩٢، الطبري ١٤/١١٠، البحر المحيط ٥/٤٨٩، الدر المصون ٤/٣٢٨..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧٩..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٦٠٨..
٤ ينظر: معالم التنزيل ٣/٧٠..
٥ في ب: السنة..
قوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات ﴾ الآية في " السَّيِّئاتِ " ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف، أي : المكرات السيئات.
الثاني : أنه مفعول به على تضمين :" مَكرُوا " عملوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين، فقوله ﴿ أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض ﴾ مفعولٌ ب " أمِنَ ".
الثالث : أنه منصوب ب " أمن "، أي : أمنوا العقوبات السيئات، وعلى هذا فقوله ﴿ أَن يَخْسِفَ الله ﴾ بدل من " السَّيِّئات ".
والمكرُ في اللغة : هو السعي بالفسادِ خفية، ولابد هنا من إضمارٍ، تقديره المكرات السيئات، والمراد أهل مكة، ومن حول المدينة.
قال الكلبيُّ : المراد بهذا المكر : اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى١ - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول، وأصحابه على سبيل الخفيةِ، أي : يخسف الله بهم الأرض ؛ كما خسف بالقرون الماضية.
قوله :﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي : يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم ؛ فيهلكهم بغتة ؛ كما فعل بالقرون الماضية.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٣٢)..
﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ أي : أسفارهم ﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ].
وقال ابن عباس - رضي الله عنه- : في اختلافهم١. وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم٢.
وقيل : في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل.
وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى :﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور ﴾ [ التوبة : ٤٨ ].
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٩٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
وينظر: تفسير الماوردي (٣/١٩٠) والبغوي (٣/٧٠)..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٥٩٠) وذكره الماوردي (٣/١٩٠) والبغوي (٣/٧٠)..
﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ ﴾ هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل " يَأخُذهُمْ " وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل.
والتَّخَوُّفُ : تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال : خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ.
والتَّخوُّفُ : التَّنقُّص، أي : نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال : تخوَّفته الدَّهرَ ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال : هذه لغة بني هذيل.
وقال ابن الأعرابيِّ : تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ.
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رضي الله عنه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال : هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟.
قال : نعم، قال شاعرنا :[ البسيط ]
٣٣١١- تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً*** كمَا تَخوَّفَ [ عُودَ ] النَّبْعةِ السَّفن١
فقال عمر - رضي الله عنه- : أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم٢، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي ؛ ويؤيد ذلك قول الرجل : قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ] أي : لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم.
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم.
وقال الضحاك، و الكلبيُّ : من الخوف، أي : لا يأخذهم بالعذاب، أولاً ؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة ؛ فتخاف التي يليها.
ثم قال :﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي يمهل في أكثر الأمر ؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب.
١ نسبه الجوهري لذي الرمة ورواه الزجاج والأزهري وابن منظور لابن مقبل وقال الصاغاني ليس لهما وروى صاحب الأغاني في ترجمة حماد الرواية أنه لابن مزاحم، ويروى لعبد الله بن العجلان الهندي وينسب لزهير، وغير موجود في ديوانه وقيل البيت لأبي كبير الهذلي، ينظر: اللسان (خوف)، ابن عقيل (سفن)، الصحاح (سفن)، روح المعاني ١٥٢٨٤، الكشاف ٢/٤٧٣، الطبري ١٤/١١٣، البحر المحيط ٥/٤٧٩، الدر المصون ٤/٣٢٩..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٣٢)..
قوله: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ الآية قرأ الأخوان: «تَرَوْا» بالخطاب جرياً على قوله: «فإنَّ ربّكُمْ».
والباقون: بالياء جرياً على قوله: ﴿أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ﴾ [النحل: ٤٥].
وأما قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير﴾ [الملك: ١٩] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب، ووافقه ابن عامر فيه؛ فحصل من مجموع الآيتين: أنَّ حمزة بالخطاب فيهما، والكسائي بالخطاب في الأولى، والغيبة في الثانية، وابن عامر بالعكس، والباقون: بالغيبة فيهما.
وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم، وأما الخطاب في الثانية؛ فجرياً على قوله تعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النحل: ٧٨] وأمَّا الغيبة؛ فجرياً على قوله تعالى ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ [النحل: ٧٣] إلى آخره، وأمَّا تفرقة الكسائي، وابن عامرٍ بين الموضعين؛ فجمعاً بين الاعتبارين، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح.

فصل


لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي، والسفلي؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب «غلى» ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله.
66
قوله: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ هذا بيان ل «مَا» في قوله: ﴿مَا خَلَقَ الله﴾ فإنها موصولة بمعنى الذي.
فإن قيل: كيف يبين الموصول وهو مبهم ب «شيء» وهو مبهم؛ بل أبهم ممَّا قبله؟.
فالجواب: أن شيئاً قد اتضح، وظهر بوصفه بالجملة بعده؛ وهي: «يَتفيَّؤ ظِلالهُ».
قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله ﴿مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾.
وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ».
قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله ﴿مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾.
وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ».
فظاهر هاتين العبارتين: أن جملة «يَتَفيَّؤ ظِلالهُ» صفة ل «شَيءٍ» فأما غيرهما؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة؛ فإنه قال: والمعنى: من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل، وشجر، وبناء، وجسم قائم، وقوله «يَتفيَّؤُ ظِلالهُ» إخبار من قوله «مِنْ شَيءٍ» ليس بوصف له، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره: هو له ظل. وفيه تكلف لا حاجة إليه، والصفة أبين و «مِنْ شيءٍ» في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان؛ أعني: من شيء.
والتَّفَيُّؤ: تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ، أي: رَجَعَ، و «فاء» : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٧] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ، وتَفيَّأ: مطاوع فَيَأ، فهو لازم، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله: [الكامل]
٣٣١٢ -........................... وتَفَيَّأتْ ظِلاَلَهَا مَمْدُودَا
واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلق الظل، سواء كان قبل الزوالِ، أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا.
وقيل: ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ، فالظل أعم. يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج، وأنكر بعضهم ذلك، وأنشد أبو [زيد] للنَّابغة الجعدي: [الخفيف]
67
فأوقع لفظ «الفَيءِ» على ما لم تنسخه الشمس؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس.
وقيل: بل تختصُّ الظلُّ: بما قبل الزوال، والفيء: بما بعده.
قال الأزهري: تَفيُّؤ الظِّلال: رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ، فالتفيؤ: لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداةِ، وهو ما لم تنله الشمس؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٣١٣ - فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ
٣٣١٤ - فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٣١٥ - تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارجٍ يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ
وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال: إنما يطلق على ما بعده؛ واستدل بالاشتقاق؛ فإن الفيء هو الرجوع، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [قال: وإنما يطلق على ما بعده]، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ.
وتقول العربُ في جمع فَيء: «أفْيَاء» للقليل، و «فُيُؤٌ» للكثير؛ كالبيوت، والعيون، وقرأ أبو عمرو «تَتفَيَّؤُ» بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي.
وقرأ العامة: «ظِلاله» جمع ظلٍّ، وعيسى بن عمر «ظِلَلُه» جمع ظِلَة؛ ك «غُرْفَة، وغُرَف».
قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى «ظِلَلُه» : والظَّلَّة: الغَيْمُ: وهو جسم، وبالكسر: الفيء، وهو عرض فرأى عيسى: أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ.
68
قال الواحدي: «ظِلالهُ» أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير، وإن كان واحداً في اللفظ، وهو قوله تعالى ﴿إلى مَا خَلَقَ الله﴾ إلاَّ أنه كثير في المعنى؛ كقوله تعالى ﴿لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ﴾
[الزخرف: ١٣] فأضاف الظُّهور، وهو جمع إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى، وهو قوله تعالى: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ انتهى.
قوله تعالى: ﴿عَنِ اليمين﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «يَتفيَّؤُ» ومعناها المجاوزة أي: يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل.
الثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «ظِلالهُ».
الثالث: أنها اسم بمعنى جانب، فعلى هذا يبنتصب «إلى» على الظرف.
وقوله: ﴿عَنِ اليمين والشمآئل﴾ فيه سؤالان:
أحدهما: ما المراد باليمين والشمائل؟.
والثاني: كيف أفرد الأول، وجمع الثاني؟.
وأجيب عن الأول بأجوبة:
أحدها: أنَّ اليمين يمين الفلك؛ وهو المشرق، والشمائل شماله، وهو المغرب، وخصَّ هذان الجانبان؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه؛ وهما يمينه وشماله، وجعل المشرق يميناً؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية.
الثاني: البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم.
الثالث: أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ، كالجبل، والشجر، والذي يترتب فيه الأيمان، والشمائلن إنما هو البشر فقط، ولكن ذكر الأيمان، والشمائل، هنا على سبيل الاستعارة.
الرابع: قال الزمخشريُّ: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله﴾ من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان، وشماله لجانبي الشيء، أي: يرجع من جانب إلى جانب.
وهذا قريب ممَّا قبله، وأجيب عن الثاني بأجوبة:
أحدها: أن الابتداء يقع من اليمين، وهو شيءٌ واحدٌ؛ فلذلك وحد اليمين، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمائل؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
69
والثاني: قال الزمخشريُّ: واليمين بمعنى الأيمان، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً؛ كقوله تعالى ﴿وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥] أي الأدبار.
الثالث: قال الفراء: لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها؛ لأن قوله تعالى ﴿مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ لفظه واحد، ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد؛ كقوله تعالى ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧].
الرابع: أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع.
الخامس: قال الكرمانيُّ: «يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال، والخلف، والقُدَّام؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها، فبدأ باليمين؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها، أو تيمُّناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال؛ لما بين اليمين، والشمال من التضادِّ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف».
السادس: قال ابن عطية: «وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ، ثم الآخر إلى الغروب، هي عن الشمائلِ؛ ولذلك جمع الشمائل، وأفرد اليمين؛ لتخليطٌ من القول، ومبطل من جهات».
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس، ومغربها ظلاَّ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً؛ فقبض إليه الظِّلَّ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ، فهو عن الشمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة، وظلالٌ منقطعة، فهي شمائلُ كثيرة؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ».
السابع: قال ابن الضائع رَحِمَهُ اللَّهُ: «وجمع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهة واحدة، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ، ففيه مطابقة؛ لأنَّ» سُجَّداً «جمع، فطابقه جمع الشَّمائل؛ لاتصاله به؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحفظهما معاً؛ وتلك الغاية في الإعجاز».
قوله «سُجَّداً» حال من «ظِلالهُ»، وسُجَّداً جمع ساجدٍ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع.
والسجودُ: الميل، يقال: سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٣٣١٦ -...........................
70
تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ
فالمراد بهذا السجود التواضعُ.
واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض، وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟.
فالجوابُ: أنَّا وإن سلمنا ذلك، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى، وقيل: هذا سجود حقيقة؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، قال أبو العلاء المعرِّي، في صفة وادٍ: [الطويل]
٣٣١٧ - بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ
فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين، أطلق عليه السجود، وكان الحسنُ يقول: أما ظلُّلك، فسجد لربِّك، وأما أنت، فلا تسجد له؛ بئسما صنعت.
وعن مجاهدٍ: ظلُّ الكافر يصلِّي، وهو لا يصلِّي، وقيل: ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله، سواء كان ذلك ساجداً لله، أم لا.
قوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها حال من الهاء في «ظِلالهُ». قال الزمخشريُّ: «لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل، وجمع بالواو والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب».
وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً، قال: «ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا؛ لأنَّ الظل كالجزء؛ إذ هو ناشئ عنه».
الثاني: أنها حال من الضمير المستتر في «سُجَّدًا» فهي حال متداخلة.
الثالث: أنها حال من «ظِلالهُ» فينتصب عنه حالان، ثم لك في هذه الواو اعتباران:
71
أحدهما: أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها، فهي عاطفة، وليست بواو حالٍ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي، وممن صرح بأنها عاطفة: أبو البقاءِ.
والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العامل حالين؟.
فالجواب: أنه جاز ذلك؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع، فهو بدل كل من كل، وإن أريد به [حقيقته]، فهو بدل اشتمالٍ، إذ السجود مشتمل على الدخور.
ونظير ما نحن فيه: «جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك» فقولك: «وهو شاك» يحتمل الحاليَّة من «زَيْدٍ» أو ضمير «ضَاحِكاً»، والدُّخورُ: التواضع؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٣١٨ - فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ
وقيل: هو القهر والغلبة، ومعنى «داخرون» أذلاَّء صاغرين.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ الآية قد تقدم أن السجود على نوعين:
سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض، وسجود هو انقياد وخضوع؛ فلهذا قال بعضهم: المراد بالسجود ههنا: الانقيادُ والخضوع؛ لأنه اللائق بالدابة.
وقيل: السجود حقيقة؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك [على إفادة مجموع معنيين جائز، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي؛ وهذا ضعيف؛ لأن استعمال اللفظ المشترك] في جميع مفهوماته معاً غير جائز.
قوله تعالى: ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ يجوز أن يكون بياناً ل ﴿مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ ويكون لله تعالى في سمائه خلق؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض، ويجوز أن يكون بياناً ل ﴿مَا فِي الأرض﴾ فقط.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هلاَّ جيء ب» مَنْ «دون» ما «تغليباً للعقلاءِ على غيرهم؟.
72
قلت: إنه لو جيء ب «مَنْ» لم يكن فيه دليلٌ على التغليب، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء، وغيرهم؛ إرادة للعموم «.
قال أبو حيَّان:»
وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء، وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص «مَنْ» بالعقلاءِ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون «مَنْ»، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها؛ والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب «.

فصل


قال الأخفش: قوله:»
مِنْ دَابَّةٍ «يريد من الدَّواب، وأخبر بالواحدِ؛ كما تقول: ما أتَانِي من رجلٍ مثله، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:»
يريد كل دابَّة على الأرضِ «.
فإن قيل: ما الوجه في تخصيص الملائكة، والدواب بالذكر؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
الثاني: قال حكماءُ الإسلام: الدابَّةُ: اشتقاقها من الدَّبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب؛ لقوله ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].
﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من فاعل»
يسجد «.
قوله»
يَخَافُونَ «فيها وجهان:
أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم، كأنه قيل: ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل»
لا يَسْتَكْبِرُونَ «، ومعنى» يَخافُونَ ربَّهُمْ «، أي: عقابه.
قوله:»
مِنْ فَوْقِهِمْ «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينعلق ب»
يَخَافُونَ «، أي: يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله» مِنْ فوقِهِمْ «صفة للمضاف، وهو عذابٌ، وهي صفة كاشفةٌ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق.
73
الثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من» رَبِّهمْ «، أي: يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾
[الأنعام: ١٨].

فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة


دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور، كقوله ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤]، وقوله: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧]، وكذلك قوله - جل وعز -: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قيل: هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فلم قلتم: إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟.
فالجواب: أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ، وأيضاً: فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة: ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ لإبليس ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين﴾ [ص: ٧٥] وقال: ﴿فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [الأعراف: ١٣] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر، واستكبر، فوجب أن لا يكون من الملائكة.
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ، ومن الاستكبار، فلما خالف الأمر، واستكبر، خرج من حيّز الملائكة، ولعن، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - «ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة»
.
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.
74
الثاني: أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨] وكقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنِّي لأخْشَاكُم للهِ» حين قالوا له وقد بكى: أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟.
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء.

فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم


استدل المشبهة بقوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ﴾ على أنه - تعالى - فوقهم بالذات.
والجواب: أن معناه: يخافون ربَّهم؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى؛ سقط استدلالهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة، والقهر والغلبة؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]
ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ﴾ فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وهذا التعليل، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية، القهر والقدرة؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف، وأما الفوقية بالجهة، والمكان، فلا توجب الخوف؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده.

فصل في أن الملك أفضل من البشر


تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه:
الأول: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملاائكة﴾ وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب، وكان الطرف الثاني أشرفها، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
الثاني: أن قوله ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر، وترفع، وقوله تعالى: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب، والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم، وظواهرهم، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة، والأفعال الباطلة، وأما البشر، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة.
75
وأما الخبر، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا».
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى، أو همَّ بها.
الثالث: أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة، وأزمان ممتدة، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة، والخضوع، والخشوع طول هذه المدَّة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين:
الأول: قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ» فضَّل الشيخ على الشابّ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر؛ فكان أفضل.
والثاني: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها، لزم أن يقال: إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة، وهي طاعة الخالق، والبشر إنما جاءوا بعدهم، واستنُّوا بسُنَّتهِم؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب،
76
فقد حصل مثله للملائكةِ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة؛ فوجب كونهم أفضل.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك، وبأن كل ما سواه، فهو ملكه؛ وأنه غنيٌّ عن الكل.
قوله تعالى: «اثْنَيْنِ» فيه قولان:
أحدهما: أنه مؤكد ل «إلهَيْنِ» وعليه أكثر الناس، و «لا تتَّخِذُوا» على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ، وأن تكون متعدية لاثنين، والثاني منهما محذوف، أي: لا تتخذوا اثنين إلهين، وفيه بعدٌ.
وقال أبو البقاءِ: «هو مفعولٌ ثانٍ». وهذا كالغلط؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة.
وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد؛ فإنه قال: طفإن قلت: إنَّما جمعوا بين العدد، والمعدود؛ فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة، وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص، فأمَّا رجلٌ ورجلان، وفرسٌ وفرسان؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: ﴿إلهين اثنين﴾ ؟.
قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين، على الجنسية، والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد، فدلَّ به على القصد إليه، والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: «إنَّما هُوَ إلهٌ»، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية، لا الواحدانيَّة «.
وقال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ:»
لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد، والتثنية قد يتجوَّز فيه؛ فيراد به [الجنس] ؛ نحو: نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان. وقول الشاعر: [الوافر]
٣٣١٩ - فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ
أكد الوضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهَيْنِ اثْنَينِ، وقيل: إلهٌ واحدٌ «.

فصل


قال ابن الخطيب: الفائدة في قوله:»
اثْنَيْنِ «: أن الشيء إذا كان ميتنكراً
77
مستقبحاً، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ، والعدمِ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير» اثْنَيْنِ «تأكيدُ التنفير عنه، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح، وأيضاً فقوله» إلهَيْنِ «لفظ واحد يدل على أمرين: ثُبوتِ الإلهِ، وثبوتِ التعددِ.
فإذا قيل: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين﴾ لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي، وقع عن إثبات الإله، وعن إثبات التعدد، وعن مجموعهما، فلما قال: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ ظهر أن قوله:»
لا تَتَّخِذُوا «نهيٌ عن إثبات التعدد فقط، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه:
الأول: أنَّا لو فرضنا موجودين، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب البالتعيين، وما به المشاركة، غير ما به المباينة؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين، وكل مركَّب فهو ممكنٌ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ.
الثاني: أنَّا لو فرضنا إلهين، وحاول أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد، لا يقبل القسمة أصلاً، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً.
الثالث: لو فرضنا غلهين اثنين، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر، أو لا يقدر، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ، وإن لم يقدر، فهو ضعيفٌ.
الرابع: أن أحدهما: إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه، فإن لم يقو عليه، فهو ضعيف، وإذا قوي عليه، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان.
فالمقصود من قوله ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ هو التنبيه على حصول المنافاة، والمضادة بين الإلهية، وبين الاثنينية.
ولما ذكر هذا الكلام قال: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾، أي: إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد.
ثم قال ﴿فَإيَّايَ فارهبون﴾ وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور، والتقدير: أنه لما ثبت
78
أنَّ الإله واحد، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول: ﴿فَإيَّايَ فارهبون﴾.
قوله تعالى: ﴿ {فَإيَّايَ﴾ منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده، يفسره هذا الظاهر، أي: إيَّاي ارهبوا فارهبون، وقدَّرهُ ابن عطيَّة: ارهبوا إيَّاي، فارهبون.
قال أبو حيَّان: وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً، والفعل متعدِّ لواحدٍ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز}
٣٣٢٠ - إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا وقد مرَّ تقريره أول البقرة.
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة: بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة.
وفي قوله: «إيَّاي» التفاتٌ من غيبة؛ وهي قوله «وقَالَ اللهُ» إلى تكلم، وهو قوله «فإيَّاي» ثم التفت إلى الغيبة أيضاً، في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾.

فصل


قوله «فارْهَبُونِ» يفيد الحصر، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه، ثم قال: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾.
قال ابن عطية: «والواو في قوله: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ عاطفة على قوله» إلهٌ واحدٌ «، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ».
قال أبو حيَّان: «ولا يقال: واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال».
قال شهابُ الدين: وقد يطلقون واو ابتداء، ويريدون بها واو الاستئناف؛ أي: التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك، وقد نصُّوا على ذلك؛ فقالوا: قد يؤتى بالواو أول الكلام، من غير قصدٍ إلى عطفٍ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول اشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا.
ومعنى قوله: «عاطفة على قوله: إلهٌ واحدٌ» أي: أنها عطفت جملة على مفرد، فيجب تأويلها بمفردٍ؛ لأنها عطفت على الخبر؛ فيكون خبراً، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾.
79
وكأن ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قصد بواو الابتداء هذا؛ فإنَّها استئنافيةٌ.

فصل


قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والرض، وليس المراد من كونها لله، أنَّها مفعولة لأجله، ولطاعته؛ لأنَّ فيها المباحاتِ، والمحظورات التي يؤتى بها، لغرضِ الشَّهوةِ، واللَّذةِ، لا لغرضِ الطاعة؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه.
قوله: ﴿وَلَهُ الدين وَاصِباً﴾ حال من «الدِّينُ» والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً، والواصبُ: الدَّائمُ؛ قال حسَّان: [المديد]
٣٣٢١ - غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ
وقال ابو الأسود: [الكامل]
٣٣٢٢ - لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا
والواصب: العليل لمداومةِ السقم له؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ [الصافات: ٩] أي: دائمٌ، وقيل: من الوصبِ، وهو التَّعب؛ ويكون حينئذٍ على النسب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف، ومشاقٌّ على العباد؛ فهو كقوله: [المتقارب]
٣٣٢٣ -.......................... أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي: ذا فُتونٍ، وقيل: الواصب: الخالص، ويقال: وصَب الشَّيءُ، يَصِبُ وصُوباً، إذا دام، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ، أي: بعيدة، لا غاية لها.
وقال ابن قتيبة: ليس من أحدٍ يدان له، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع.
قال ابنُ الخطيب: وأقولُ: الدين قد يعنى به الانقياد؛ يقال: يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ، أي: انقادت لذاته، أي: وله الدينُ واصِباً، أي: انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً؛
80
لأنَّ انقياد غيره له معلَّل، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب، في طرفي الوجود، والعدمِ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا، فهذه [الماهيات] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً، دائماً، واجباً، لازماً، ممتنع التَّغير.
ثم قال ﴿أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ﴾، أي: تخافون؛ استفهام على طريق الإنكارِ، أي: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه، في حدوثه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله؟!.
قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم﴾ يجوز في «مَا» وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولة، والجارُّ صلتها، وهي مبتدأ، والخبر قوله: «فَمِنَ اللهِ» والفاء زائدة في الخبر؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، تقديره: والذي استقرَّ بكم، و «مِنْ نِعْمَةٍ» بيانٌ للموصولِ.
وقدَّر بعضهم متعلق «بِكُمْ» خاصًّا، فقال: «ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ».
وليس بجيِّد؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً.
الثاني: أنها شرطية، وفعل الشرط بعدها محذوف، وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء.
قال الفرَّاء: التقدير «وما يكن بكم». وقد ردَّ هذا؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد «إنْ» خاصَّة في موضعين:
أحدهما: أن يكون من باب الاشتغال؛ نحو ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: ٦] لأن المحذوف في حكم المذكور.
الثاني: أن تكون «إن» متلوة ب «لا» النافية، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام؛ كقوله: [الوافر]
٣٣٢٤ - فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ
أي: وإلا تطلقها، فحذف؛ لدلالة قوله «فَطلِّقُهَا» عليه.
81
فإن لم توجد «لا» النافية، أو كانت الأداة غير «إنْ» لم تحذف إلا ضرورة، مثال الأول قول الشاعر: [الرجز]
٣٣٢٥ - قَالتْ بَناتُ العَمِّ: يَا سَلمَى وإنْ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً؛ قالتْ: وإنْ
أي: وإن كان فقيراً راضية؛ ومثال الثاني قول الشاعر: [الرمل]
٣٣٢٦ - صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ
وقول الآخر: [الخفيف]
_٣٣٢٧ - فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي

فصل


لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ، فهي من الله تعالى، لقوله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾.
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا: الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً: فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً: فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله.
واعلم أنَّ النعم: إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية: فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي: إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] انتهى.
قوله: ﴿إِذَا مَسَّكُمُ الضر﴾ قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة.
82
[قوله] :﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ الفاء جواب «إذَا» والجُؤارُ: رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً: [المتقارب]
٣٣٢٨ - يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ: [الكامل]
٣٣٢٩ -... - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
................... وقيل: الجُؤارُ: كالخُوارِ، جَأرَ الثَّوْرُ، وخَارَ: واحِدٌ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين، وذلك مُعتلها.
وق لالراغب: «جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات» وقرأ الزهري: «تَجَرُونَ» محذوف الهمزة، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، كما قرأ نافع: «رِداً» في ﴿رِدْءاً﴾ [القصص: ٣٤].
ومعنى الآية: أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله، فكأنه - تعالى - قال لهم: فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ، والسلامة.
قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر﴾ «إذَا» الأولى شرطية، والثانية: فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أنَّ «إذَا» الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
[وقرأ قتادة] :«كَاشِفٌ» على فاعل. قال الزمخشريُّ: «بمعنى» فعل «وهو أقوى من» كَشَف «لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة».
قوله: «مِنْكُمْ» يجوز أن يكن صفة ل «فَرِيقٌ»، و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن يكون للبيان، قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم».

فصل


بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ، وسلامة الأحوال، يفترقون: فريق منهم يبقى على ما
83
كان عليه عند الضَّراء، أي: لا يفزع إلاَّ إلى الله، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ [لقمان: ١٣].
قوله: ﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ﴾ في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون لام كي، وهي متعلقة ب «يُشْرِكُونَ»، أي: أن إشراكهم سببه كفرهم به.
الثاني: أنَّها لام الصَّيرورةِ، أي: صار أمرهم إلى ذلك.
الثالث: أنَّها لام الأمر، وإليه نحا الزمخشريُّ.
وقرأ ابو العالية، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فيُمْتَعُوا» بضمِّ الياءِ من تحت، ساكن الميم، مفتوح الياء مضارع «مُتِعَ» مبنيًّا للمفعول، «فسَوْفَ يَعْلمُونَ» بالياء من تحت أيضاً، وهذا المضارع في هذه القراءة، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه؛ إما للنصب، عطفاً على «لِيَكْفُروا» وإن كانت لام «كي»، أو للصيرورة، وإما لنصب أيضاً، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر، ويجوز أن يكون حذفها للجزم؛ عطفاً على «لِيَكْفرُوا» وإن كانت للأمر أيضاً.

فصل


قال بعض المفسرين: هذه لام العاقبة؛ كقوله تعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨] يعني: أنَّ عاقبته تلك التضرعات، ما كانت إلا هذا الكفر.
والمراد بقوله: «بِمَاءَاتَيْناهُمْ» كشف الضرِّ، وإزالة المكروه، وقيل: لمراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من النبوة والشرائع.
ثمَّ توعَّدهم فقال: «فتَمتَّعُوا»، [والمراد منه التهديد] ؛ كقوله ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] وقوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أمركم، وما ينزل بكم من العذاب.
84
قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ الآية قد تقدم أن السجود على نوعين :
سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض، وسجود هو انقياد وخضوع ؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقيادُ والخضوع ؛ لأنه اللائق بالدابة.
وقيل : السجود حقيقة ؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام.
وقيل : السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك [ على إفادة مجموع معنيين جائز، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي ؛ وهذا ضعيف ؛ لأن استعمال اللفظ المشترك ]١ في جميع مفهوماته معاً غير جائز.
قوله تعالى :﴿ مِن دَآبَّةٍ ﴾ يجوز أن يكون بياناً ل ﴿ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ ويكون لله تعالى في سمائه خلق ؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض، ويجوز أن يكون بياناً ل ﴿ مَا فِي الأرض ﴾ فقط.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : هلاَّ جيء ب " مَنْ " دون " ما " تغليباً للعقلاءِ على غيرهم ؟.
قلت : إنه لو جيء ب " مَنْ " لم يكن فيه دليلٌ على التغليب، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء، وغيرهم ؛ إرادة للعموم ".
قال أبو حيَّان٢ :" وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء، وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص " مَنْ " بالعقلاءِ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون " مَنْ "، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها ؛ والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب ".

فصل


قال الأخفش : قوله :" مِنْ دَابَّةٍ " يريد من الدَّواب، وأخبر بالواحدِ ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - :" يريد كل دابَّة على الأرضِ٣ ".
فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة، والدواب بالذكر ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة ؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة ؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب ؛ لقوله ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من فاعل " يسجد ".
قوله " يَخَافُونَ " فيها وجهان :
أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون ؟ فأجيب بذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل " لا يَسْتَكْبِرُونَ "،
١ سقط من: ب..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٣..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٣٦)..
ومعنى " يَخافُونَ ربَّهُمْ "، أي : عقابه.
قوله :" مِنْ فَوْقِهِمْ " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلق ب " يَخَافُونَ "، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله " مِنْ فوقِهِمْ " صفة للمضاف، وهو عذابٌ، وهي صفة كاشفةٌ ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق.
الثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " رَبِّهمْ "، أي : يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾
[ الأنعام : ١٨ ].

فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة


دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ؛ لأن قوله ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور، كقوله ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ [ مريم : ٦٤ ]، وقوله :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ]، وكذلك قوله - جل وعز- :﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه ؟.
فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ، فقد أمر بتركه ؛ وحينئذ يدخل في اللفظ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب، بل كان كافراً ؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة :﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، ثم قال عز وجل لإبليس ﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين ﴾ [ ص : ٧٥ ] وقال :﴿ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر، واستكبر، فوجب أن لا يكون من الملائكة.
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ، ومن الاستكبار، فلما خالف الأمر، واستكبر، خرج من حيّز الملائكة، ولعن، وطرد ؛ لأنه خالف المعهود من حاله.
قال ابن الخطيب - رحمه الله - " ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة ".
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب ؛ فقال ﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.
الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال ؛ هكذا نقل عن ابن عباس ؛ كقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنِّي لأخْشَاكُم للهِ " حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر ؟.
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء١.

فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم


استدل المشبهة بقوله تعالى :﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ﴾ على أنه - تعالى - فوقهم بالذات.
والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم ؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى ؛ سقط استدلالهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة، والقهر والغلبة ؛ لقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ]
ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال :﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ﴾ فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم ؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وهذا التعليل، إنَّما يصح إذا كان المراد بالفوقية، القهر والقدرة ؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف، وأما الفوقية بالجهة، والمكان، فلا توجب الخوف ؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده.

فصل في أن الملك أفضل من البشر


تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه :
الأول : قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة ﴾ وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب، وكان الطرف الثاني أشرفها، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل-.
الثاني : أن قوله ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر، وترفع، وقوله تعالى :﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب، والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم، وظواهرهم، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة، والأفعال الباطلة، وأما البشر، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى :﴿ قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ ﴾ [ عبس : ١٧ ] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة.
وأما الخبر، فقوله عليه الصلاة والسلام- :" مَا منَّا إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا٢ ".
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى، أو همَّ بها.
الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة، وأزمان ممتدة، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة، والخضوع، والخشوع طول هذه المدَّة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين :
الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه- :" الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ٣ " فضَّل الشيخ على الشابّ ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر ؛ فكان أفضل.
والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام- :" مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ " ٤ فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة، وهي طاعة الخالق، والبشر إنما جاءوا بعدهم، واستنُّوا بسُنَّتهِم ؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب، فقد حصل مثله للملائكةِ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ؛ فوجب كونهم أفضل.
١ سقط من: ب..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٣٨)..
٣ أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (٢/٣٦) من طريق عبد الله بن عمر بن غانم الإفريقي عن مالك عن نافع عن ابن عمر به.
قال ابن حبان: عبد الله بن عمر يروي عن مالك ما لم يحدث به قط.
ومن هذا الوجه ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (١/١٨٣) ونقل كلام ابن حبان وتعقبه السيوطي في "اللآليء" (١/١٥٤) فقال: ابن غانم روى له أبو داود وقال الذهبي في "الكاشف": مستقيم الحديث وهو قاضي إفريقية وقد ورد من حديث أبي رافع قال ابن أبي الفراتي في "جزئه" أنبأنا جدي أبو عمرو ثنا أحمد بن يعقوب القرشي الجرجاني الأموي ثنا عبد الله بن محمد بن سليمان السعدي المروزي ثنا أحمد بن عبد الملك القناطري ثنا إسماعيل بن إبراهيم شيخ لنا عن أبيه عن رافع ابن أبي رافع عن أبيه به، أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" وابن النجار في "تاريخه" وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في "تخريج الإحياء" إسناده ضعيف.
وذكره ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (١/٢٠٧) وقال عن عبد الله بن غانم: وقال الحافظ في "التقريب" وثقه ابن يونس وغيره، ولم يعرفه أبو حاتم وأفرط ابن حبان في تضعيفه.
والحديث في "تخريج الإحياء" (١/٨٣) للحافظ العراقي وقال: أخرجه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث ابن عمر وأبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي رافع بسند ضعيف.
وذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (٦٠٩) وقال: ولعل البلاء فيه من غير الإفريقي فهو جليل القدر ثقة لا ريب فيه وممن جزم بكونه موضوعا ـ أي الحديث ـ شيخنا ـ أي ابن حجر ـ ومن قبله التقي ابن تيمية..

٤ أخرجه مسلم (٢/٧٠٤ ـ ٧٠٥) كتاب الزكاة: باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (٦٩/١٠١٧) والنسائي (٥/٧٥) كتاب الزكاة: باب التحريض على الصدقة (٢٥٥٤)..
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك، وبأن كل ما سواه، فهو ملكه ؛ وأنه غنيٌّ عن الكل.
قوله تعالى :" اثْنَيْنِ " فيه قولان :
أحدهما : أنه مؤكد ل " إلهَيْنِ " وعليه أكثر الناس، و " لا تتَّخِذُوا " على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ، وأن تكون متعدية لاثنين، والثاني منهما محذوف، أي : لا تتخذوا اثنين إلهين، وفيه بعدٌ.
وقال أبو البقاءِ :" هو مفعولٌ ثانٍ ". وهذا كالغلط ؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة.
وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد ؛ فإنه قال : فإن قلت : إنَّما جمعوا بين العدد، والمعدود ؛ فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا : عندي رجال ثلاثة، وأفراسٌ أربعةٌ ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص، فأمَّا رجلٌ ورجلان، وفرسٌ وفرسان ؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد ؛ فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى :﴿ إلهين اثنين ﴾ ؟.
قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين، على الجنسية، والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد، فدلَّ به على القصد إليه، والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت :" إنَّما هُوَ إلهٌ "، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية، لا الواحدانيَّة ".
وقال أبو حيَّان١ رحمه الله :" لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد، والتثنية قد يتجوَّز فيه ؛ فيراد به [ الجنس ]٢ ؛ نحو : نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان. وقول الشاعر :[ الوافر ]
فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ٣
أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل : إلهَيْنِ اثْنَينِ، وقيل : إلهٌ واحدٌ ".

فصل


قال ابن الخطيب٤ : الفائدة في قوله :" اثْنَيْنِ " : أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول ؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ والعدمِ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير " اثْنَيْنِ " تأكيدُ التنفير عنه، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح، وأيضاً فقوله :" إلهَيْنِ " لفظ واحد يدل على أمرين : ثُبوتِ الإلهِ، وثبوتِ التعددِ.
فإذا قيل :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين ﴾ لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي وقع عن إثبات الإله، وعن إثبات التعدد، وعن مجموعهما، فلما قال :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ ظهر أن قوله :" لا تَتَّخِذُوا " نهيٌ عن إثبات التعدد فقط، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّا لو فرضنا موجودين، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته ؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب الذاتي، ومتباينين بالتعيين، وما به المشاركة، غير ما به المباينة ؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين، وكل مركَّب فهو ممكنٌ ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ، ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ.
الثاني : أنَّا لو فرضنا إلهين، وحاول أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه ؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني ؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد، لا يقبل القسمة أصلاً، ولا التفاوت أصلاً ؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني ؛ وإذا ثبت هذا، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة ؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً ؛ والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً.
الثالث : لو فرضنا إلهين اثنين، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر، أو لا يقدر، فإن قدر ؛ فذلك الآخر ضعيفٌ، وإن لم يقدر، فهو ضعيفٌ.
الرابع : أن أحدهما : إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه، فإن لم يقو عليه، فهو ضعيف، وإذا قوي عليه، فالأول المغلوبُ ضعيف ؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان.
فالمقصود من قوله ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ هو التنبيه على حصول المنافاة، والمضادة بين الإلهية، وبين الاثنينية.
ولما ذكر هذا الكلام قال :﴿ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾، أي : إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لابد للعالم من الإله، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد.
ثم قال ﴿ فَإيَّايَ فارهبون ﴾ وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور، والتقدير : أنه لما ثبت أنَّ الإله واحد، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ؛ ويقول :﴿ فَإيَّايَ فارهبون ﴾.
قوله تعالى :﴿ { فَإيَّايَ ﴾ منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده، يفسره هذا الظاهر، أي : إيَّاي ارهبوا فارهبون، وقدَّرهُ ابن عطيَّة : ارهبوا إيَّاي، فارهبون.
قال أبو حيَّان٥ : وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية ؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً، والفعل متعدِّ لواحدٍ، وجب تأخيرُ الفعل ؛ نحو :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله :[ الرجز }
إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا٦ وقد مرَّ تقريره أول البقرة.
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة : بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة.
وفي قوله :" إيَّاي " التفاتٌ من غيبة ؛ وهي قوله " وقَالَ اللهُ " إلى تكلم، وهو قوله " فإيَّاي " ثم التفت إلى الغيبة أيضاً، في قوله تعالى :﴿ وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض ﴾.

فصل


قوله " فارْهَبُونِ " يفيد الحصر، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٥..
٢ في ب: التثنية..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٥، روح المعاني ١٤/١٦٢، الدر المصون ٤/٣٣٤..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٣٩..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٥..
٦ تقدم..
ثم قال :﴿ وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض ﴾.
قال ابن عطية١ :" والواو في قوله :﴿ وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ عاطفة على قوله " إلهٌ واحدٌ "، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ ".
قال أبو حيَّان٢ :" ولا يقال : واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال ".
قال شهابُ الدين٣ : وقد يطلقون واو ابتداء، ويريدون بها واو الاستئناف ؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك، وقد نصُّوا على ذلك ؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام، من غير قصدٍ إلى عطفٍ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول أشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا.
ومعنى قوله :" عاطفة على قوله : إلهٌ واحدٌ " أي : أنها عطفت جملة على مفرد، فيجب تأويلها بمفردٍ ؛ لأنها عطفت على الخبر ؛ فيكون خبراً، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها، وهي قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾. وكأن ابن عطية - رحمه الله - قصد بواو الابتداء هذا ؛ فإنَّها استئنافيةٌ.

فصل


قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والأرض، وليس المراد من كونها لله، أنَّها مفعولة لأجله، ولطاعته ؛ لأنَّ فيها المباحاتِ، والمحظورات التي يؤتى بها، لغرضِ الشَّهوةِ، واللَّذةِ، لا لغرضِ الطاعة ؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه.
قوله :﴿ وَلَهُ الدين وَاصِباً ﴾ حال من " الدِّينُ " والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً، والواصبُ : الدَّائمُ ؛ قال حسَّان :[ المديد ]
غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ *** وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ٤
وقال ابو الأسود :[ الكامل ]
لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ *** يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا٥
والواصب : العليل لمداومةِ السقم له ؛ قال تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ [ الصافات : ٩ ] أي : دائمٌ، وقيل : من الوصبِ، وهو التَّعب ؛ ويكون حينئذٍ على النسب، أي : ذا وَصَبٍ ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف، ومشاقٌّ على العباد ؛ فهو كقوله :[ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا٦
أي : ذا فُتونٍ، وقيل : الواصب : الخالص، ويقال : وصَب الشَّيءُ، يَصِبُ وصُوباً، إذا دام، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ، أي : بعيدة، لا غاية لها.
وقال ابن قتيبة : ليس من أحدٍ يدان له، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع.
قال ابنُ الخطيب٧ : وأقولُ : الدين قد يعنى به الانقياد ؛ يقال : يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ، أي : انقادت لذاته، أي : وله الدينُ واصِباً، أي : انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً ؛ لأنَّ انقياد غيره له معلَّل، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب، في طرفي الوجود، والعدمِ، فالماهيات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا، فهذه [ الماهيات٨ ] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً، دائماً، واجباً، لازماً، ممتنع التَّغير.
ثم قال ﴿ أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ ﴾، أي : تخافون ؛ استفهام على طريق الإنكارِ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه، في حدوثه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله، أو رهبة من غير الله ؟ !.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٠٠..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٦..
٣ ينظر: الدر المصون ٤/٣٣٥..
٤ ينظر: ديوانه (٢٨١)، البحر المحيط ٥/٤٨٤، الطبري ١٤/١١٨، الدر المصون ٤/٣٣٤..
٥ ينظر: تفسير الطبري ١٤/٧٤، مجاز القرآن (٣٦١١)، البحر المحيط ٥/٤٨٣، روح المعاني ١٤٥/١٦٤، الدر المصون ٤/٨٣٣٤..
٦ عجز بيت وصدره:
رخيم الكلام قطيع القيام أمسى فؤادي
وهو لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص، وقيل: لزياد الأعجم. ينظر: اللسان والتاج والصحاح (فتن)، البحر المحيط ٥/٤٨٦، المحرر الوجيز ٤/١٩٦، ١٩٧، الدر المصون ٤/٣٣٥..

٧ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٤١..
٨ في أ: الذاتيات..
قوله تعالى :﴿ وَمَا بِكُم ﴾ يجوز في " مَا " وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة، والجارُّ صلتها، وهي مبتدأ، والخبر قوله :" فَمِنَ اللهِ " والفاء زائدة في الخبر ؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، تقديره : والذي استقرَّ بكم، و " مِنْ نِعْمَةٍ " بيانٌ للموصولِ.
وقدَّر بعضهم متعلق " بِكُمْ " خاصًّا، فقال :" ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ ".
وليس بجيِّد ؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً.
الثاني : أنها شرطية، وفعل الشرط بعدها محذوف، وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء.
قال الفرَّاء١ : التقدير " وما يكن بكم ". وقد ردَّ هذا ؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصَّة في موضعين :
أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال ؛ نحو ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ ﴾ [ التوبة : ٦ ] لأن المحذوف في حكم المذكور.
الثاني : أن تكون " إن " متلوة ب " لا " النافية، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام ؛ كقوله :[ الوافر ]
فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ٢
أي : وإلا تطلقها، فحذف ؛ لدلالة قوله " فَطلِّقُهَا " عليه.
فإن لم توجد " لا " النافية، أو كانت الأداة غير " إنْ " لم تحذف إلا ضرورة، مثال الأول قول الشاعر :[ الرجز ]
قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ *** كَانَ فَقِيراً مُعْدماً ؛ قالتْ : وإنْ٣
أي : وإن كان فقيراً راضية ؛ ومثال الثاني قول الشاعر :[ الرمل ]
صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ *** أيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ٤
وقول الآخر :[ الخفيف ]
فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي٥

فصل


لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى ؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ، فهي من الله تعالى، لقوله ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾.
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية ؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة، وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله ؛ لقوله ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح ؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل ؛ وهو محال، فلابدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته ؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله.
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاته، وإما معرفة الخير ؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد ؛ كما قال :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] انتهى.
قوله :﴿ إِذَا مَسَّكُمُ الضر ﴾ قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة٦.
[ قوله ] :﴿ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ الفاء جواب " إذَا " والجُؤارُ : رفع الصَّوت ؛ قال رؤبة يصف راهباً :[ المتقارب ]
يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ *** طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار٧
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة ؛ وأنشد الزمخشريُّ :[ الكامل ]
٣٣٢٩ *** - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ٨
. . . . . . . . . . . . . . . . *** وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ، جَأرَ الثَّوْرُ، وخَارَ : واحِدٌ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين، وذلك مُعتلها.
وقال الراغب٩ :" جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات " وقرأ١٠ الزهري :" تَجَرُونَ " محذوف الهمزة، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، كما١١ قرأ نافع :" رِداً " في ﴿ رِدْءاً ﴾ [ القصص : ٣٤ ].
ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم ؛ فإلى الله يستغيث ؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ، والسلامة.
١ ينظر: معاني القرآن للفراء ٢/١٠٤..
٢ البيت للأحوص. ينظر: ديوانه (١٩٠)، الإنصاف ٧٢، شرح التصريح ٢/٢٥٢، العيني ٤/٤٣٥، الهمع ٢/٦٢، الدرر ٢/٧٨، البحر المحيط ٥/٤٨٦، الفتوحات ٢/٥٧٦، أمالي الشجري ١/٣٤١، الإنصاف ٧٢، المغني ٧٢٠، ابن عقيل ٤/١٠٧، شواهد المغني ٧٦٧، رصف المباني ١٨٨، أوضح المسالك (٥١٦)، الكتاب ١/ ١٩٥، شذور الذهب ٣٤٣، الأشموني ٤/٢٥، الدر المصون ٤/٣٣٥..
٣ تقدم..
٤ البيت لكعب بن جعيل أو لحسام بن ضرار. ينظر: الكتاب ١/٤٥٨، المقتضب ٢/٧٥، أمالي الشجري ١/٣٣٢، الإنصاف ٦١٨، ابن يعيش ٩/١٠، الخزانة ١/٤٥٧، المؤتلف والمختلف ص ٨٤، المقاصد النحوية ٤/٤٢٤، شرح المفصل ٩/١٠، لسان العرب (حير)، همع الهوامع ٢/٥٩، الدر المصون ٤/٣٣٥..
٥ تقدم..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٤٢)..
٧ البيت للأعشى وليس لرؤبة، ينظر: ديوان الأعشى ٨٦، البحر المحيط ٥/٤٨٤، الرازي ٢٠/٥٢، الكشاف ٢/٤١٣، الألوسي ١٤/١٦٥، الطبري ١٤/١٢١، الدر المصون ٤/٣٣٦..
٨ ينظر: أساس البلاغة (جأر)، الدر المصون ٤/٣٣٦..
٩ ينظر: المفردات ١٠٣..
١٠ ينظر: المحتسب ٢/١٠، والبحر ٥/٤٨٧، والدر المصون ٤/٣٣٦..
١١ من الآية ١٤ من القصص، وينظر: السبعة ٤٩٤..
قوله :﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر ﴾ " إذَا " الأولى شرطية، والثانية : فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أنَّ " إذَا " الشرطية لا تكون معمولة لجوابها ؛ لأنَّ ما بعد " إذَا " الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
[ وقرأ١ قتادة ] :" كَاشِفٌ ٢ " على فاعل. قال الزمخشريُّ :" بمعنى " فعل " وهو أقوى من " كَشَف " لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة ".
قوله :" مِنْكُمْ " يجوز أن يكون صفة ل " فَرِيقٌ "، و " مِنْ " للتبعيض، ويجوز أن يكون للبيان، قال الزمخشريُّ٣ :" كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم ".

فصل


بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ، وسلامة الأحوال، يفترقون : فريق منهم يبقى على ما كان عليه عند الضَّراء، أي : لا يفزع إلاَّ إلى الله، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره ؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد ؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ].
١ في ب: وقرىء..
٢ قرأ بها قتادة ينظر: المحتسب ٢/١٠، والشواذ ٧٣، والبحر ٥/٤٨٧، والدر المصون ٤/٣٣٦..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٦١١..
قوله :﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون لام كي، وهي متعلقة ب " يُشْرِكُونَ "، أي : أن إشراكهم سببه كفرهم به.
الثاني : أنَّها لام الصَّيرورةِ، أي : صار أمرهم إلى ذلك.
الثالث : أنَّها لام الأمر، وإليه نحا الزمخشريُّ.
وقرأ١ أبو العالية، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيُمْتَعُوا " بضمِّ الياءِ من تحت، ساكن الميم، مفتوح الياء مضارع " مُتِعَ " مبنيًّا للمفعول، " فسَوْفَ يَعْلمُونَ " بالياء من تحت أيضاً، وهذا المضارع في هذه القراءة، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه ؛ إما للنصب، عطفاً على " لِيَكْفُروا " وإن كانت لام " كي "، أو للصيرورة، وإما لنصب أيضاً، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر، ويجوز أن يكون حذفها للجزم ؛ عطفاً على " لِيَكْفرُوا " وإن كانت للأمر أيضاً.

فصل


قال بعض المفسرين : هذه لام العاقبة ؛ كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] يعني : أنَّ عاقبته تلك التضرعات، ما كانت إلا هذا الكفر.
والمراد بقوله :" بِمَا ءَاتَيْناهُمْ " كشف الضرِّ، وإزالة المكروه، وقيل : المراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع.
ثمَّ توعَّدهم فقال :" فتَمتَّعُوا "، [ والمراد منه التهديد ]٢ ؛ كقوله ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ] وقوله :﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ أمركم، وما ينزل بكم من العذاب.
١ ينظر: المحتسب ٢/١١، والشواذ ٧٣، والبحر ٥/٤٨٧..
٢ في أ: وهو تهديد..
قوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً﴾ الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم.
قوله: ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ الضمير في قوله: «يَعْلمُونَ» يجوز أن يعود للكفار، أي: لما يعلم، ومعنى «لا يَعْلمُونَ» أنهم يسمُّونها آلهة، ويعتقدون أنَّها تضرُّ، وتنفع، وتشفع؛ وليس الأمر كذلكز
ويجوز أن تكون للآلهة، وهي الأصنام، أي: الأشياء غير موصوفةٍ بالعلمز
قال باضهم: والأوَّل أولى؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ، وعن الجمادِ مجازٌ، وأيضاً: الضمير في «ويَجْعَلُونَ» عائدٌ غلى المشركين، فكذلك في قوله ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾، وأيضاً فقوله: ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ جمعٌ بالواو والنون؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام.
وقيل: الثاني أولى؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين؛ افتقرنا إلى إضمار؛ فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا، وإذا اعدناه إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار؛ لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها.
وأيضاً: لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين، لفسد المعنى؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم، لما لا يعلمونه.
فإذا قلنا بالقول الأول، احتجنا إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهاً:
أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا، ولا يعلمون في طاعته [نَفْعاً]، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا.
قال مجاهدٌ: يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم، ويضرُّهم نصيباً.
وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها.
وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها ىلهة معبودة.
85
قوله «نَصِيباً» هو المفعول الأول للجعل، والجارُّ قبله هو الثاني، أي: ويصيِّرون الأصنام.
[وقوله:] ﴿مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ يجوز أن يكون نعتاً ل «نَصِيباً» وأن يتعلق بالجعل؛ ف «مِنْ» على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.

فصل


في المراد بالنصيب احتمالات:
أحدها: أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ، والأنعامِ؛ يتقرَّبون به إلى الله، ونصيباً للأصنام؛ يتقربون به إليها، كما تقدم في آخر سورة الأنعام.
والثاني: قال الحسنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بهذا النصيب: البَحِيرةُ، والسَّائبةُ، والوَصِيلةُ، والحَامِ.
والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة، فيقولون: لرجلٍ كذا وكذا من المعادن، والنبات، والحيوان، وللمشتري أشياء أخرى.
ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب، قال: ﴿تالله لَتُسْأَلُنَّ﴾ وهذا في هؤلاء الاقوام خاصة بمنزلة قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: ٩٢، ٩٣]، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسسألهم، وهذا تهديد شديد؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ، وتهديدٍ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان:
الأول: أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت، ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: في الآخرةِ.
الثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة، فهو إلى الوعيد أولى.
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة: قوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات﴾ ونظيره قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩] كانت خزاعة، وكنانة تقول: الملائكة بنات الله.
قال ابن الخطيب: «أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون، أشبهوا النساء في الاستتار، فأطلقوا عليهم البنات».
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات.
86
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال: «سُبْحَانهُ» والمراد: تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه.
وقيل: تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى: معاذ الله.
قوله: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا الجملة من مبتدأ، وخبر، أي: يجعلون لله البنات، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون.
وجوَّز الفرَّاء، والحوفيُّ، والزمخشري، وأبو البقاء - رحمهة الله عليهم - أن تكون «مَا» منصوبة المحلّ؛ عطفاً على «البَناتِ» و «لَهُمْ» عطف على الله، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال أبو حيَّان: وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب «ظنَّ» وفي «عَدمَ» و «فَقَد» ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه، أو بحرف الجرِّ؛ فلا يجوز: زَيْدٌ ضربه، أي: ضرب نفسهُ، ولا «زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ»، أي: مر بنفسه، ويجوز: «زيد ظنه قائماً»، و «زيد فقده وعدمه» أي: [ظن نفسه قائماً، وفقد] نفسه، وعدمها. إذا تقرَّر هذا، فجعل «مَا» منصوبة عطفاً على «البَناتِ» يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل، وهو واو «يَجْعلُونَ» إلى ضميره المتَّصل، وهو «هُمْ» في «لَهُمْ» انتهى.
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل، إلا في باب «ظنَّ» وأخواتها من أفعال القلوب، وفي «فَقَد» و «عَدمَ» فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ، أي: ضَربَ نفسه، ويجوز: زَيْدٌ ظنَّه قَائماً، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر، في باب من الأبواب، لا يجوز: زيدٌ ضربَ نَفسَهُ، وفي قولنا «غلى ضميرها المتصل» قيدان:
أحدهما: كونه ضميراً، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع، نحو: زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد.
والثاني: كونه متَّصلاً، فلو كان منفصلاً؛ جاز، نحو: زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو.
وقال مكي: «وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يجوز: جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً، فلو كان لفظ القرآنِ: ولأنفسهم ما يشتهون، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل، وبسطٍ كثيرٍ».
87
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ «مَا» في موضع نصبٍ عن الفرَّاء، ومن تبعه -: وقال أبو البقاءِ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ.
قال شهابُ الدِّين: «وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه، إنَّما جعله في تضعيفه، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني، فإنه قال:» وضعَّف قومٌ هذا الوجه، وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ «فجعل النظر في تضعيفه لا فيه».
وقد يقال: وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل، أي: وقوعه على ما جر بالحرف، نحو: «زيد مرَّ بِهِ» فإن المرور واقعٌ ب «زيدٍ»، وأمَّا ما نحن فيه، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين، بل ما يشتهون.
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٥] ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ [القصص: ٣٢].
والجواب عنهما ما تقدَّم، وهو أنَّ الهزَّ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر، وإنَّما أعدته لصعوبته، وخصوصيته، هذا بزيادة فائدة، وأراد بقوله: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل: ٥٧] أي: الشيء الذي يشتهونه، وهو السَّترُ.
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى﴾.
التَّبْشيرُ في عرف اللغة: مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين، ويؤكِّده قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]. وقيل: المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار.
قوله: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً﴾ يجوز أن تكون «ظلَّ» ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها، وأن تكون بمعنى: «صَارَ» وعلى التقديرين هي ناقصة، و «مُسْودًّا» خبرها.
وأما «وجهه» ففيه وجهان:
أشهرهما، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها.
والثاني: أنه بدلٌ من الضمير المستتر في «ظلَّ» : بدل بعضٍ من كلٍّ، أي: ظلَّ أحدهم وجهه، أي: ظل وجه أحدهم.
قوله: «كَظِيمٌ» يجوز أن يكون بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله: {وَهُوَ
88
مَكْظُومٌ} [القلم: ٤٨]، والجملة حالٌ، وبجوز أن يكون: «وهُوَ كَظيمٌ» حالاً من الضَّمير في «ظلَّ» أو من «وَجْههِ» أو من الضمير في: «مُسْودًّا».
وقال أبو البقاءِ: «فلو قرئ هنا» مُسْوَدٌّ «يعني بالرفع، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم» ظل «مضمراً فيها، والجملة خبرها».
وقال في سورة الزخرف [الآية: ١٧] :«ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ، وخبر في موضع خبر ظلَّ».
قوله: ﴿يتوارى﴾ يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا «وجْههُ» فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في: «كَظِيمٌ».
قوله ﴿مِنَ القوم مِن سواء﴾ تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلَّة، أي: من أجل سوء ما بشِّر به.
قوله: «أيُمْسِكهُ» قال أبو البقاء: «في موضع الحال، تقديره: يتوارى، أي: مُتردِّداً هل يمسكه أم لا؟».
وهذا خطأٌ عند النحويين؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال، لا تقع جملة طلبيَّة، والذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل «يَتوارَى»، ليتم الكلام، أي: يتوارى ناظراً، أو متفكِّراً:
«أيُمسِكهُ على هُونٍ أمْ يدُسُّه» على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ «مَا».
وقرأ الجحدريُّ: أيُمْسِكُها، أم يدسُّها مراعاة للأنثى، أو لمعنى «مَا».
وقرئ: أيمسكهُ أم يدسُّها، والجحدري، وعيسى - رحمهما الله - على «هَوان» بزنة فدان، وفرقة على «هَوْنٍ» وهي قلقة؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء: الرِّفقُ، واللينُ، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهوان فمعنى «هُونٍ» المضموم.
قوله: ﴿على هُونٍ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإنه قال: أيمسكه مع [رضاء] بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه.
والثاني: أنه حالٌ من المفعول، أي: يمسكها ذليلة مهانة.
والدَّس: إخفاء الشيء، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ.

فصل


معنى الآية: أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه
89
غمًّا، وحزناً، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل البدن، ووصل إلى الأطراف، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه، وتلألأ، واستنار، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه، فلا جرم يصفرُّ الوجه، ويسودُّ، ويظهر فيه أثر الأرضية، والكآبة؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه، وإشراقه، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه، وغبرته، وسواده، فلهذا قال: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي ممتلئ غمًّا «يتوارى» به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر.
قال المفسِّرون: كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ﴾، أي: أيحتبسه؟ والإمساك هنا: الحبس، كقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧] والهُونُ: الهَوان.
قال النضر بن شميلٍ: يقال: إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى: ﴿عَذَابَ الهون﴾ [الأنعام: ٩٣].
﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب﴾ والدَّسُ: إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ.
قال قيس بن عاصم: يا رسول الله: «إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة»، فقال: يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً».
وروي «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت: يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ «.
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ.
90
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخراً به: [المتقارب]
٣٣٣٠ - وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ
﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات.
أولها: أنه يُسوِّدُّ وجهه.
ثانيها: أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها.
وثالثها: يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾ [النجم: ٢١، ٢٢].

فصل


قال القرطبيُّ: ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ».
وعن أنس بن مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن، وضمَّ أصَابعهُ» أخرجهما مسلم.

فصل


قال القاضي: «دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه، والتَّباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين، بل أعظم؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى -».
وجوابه: لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه، وعبيده، وبالغ في تحسين صورهم، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم
91
وفيهن، ثم جمع بين الكل، وأزال الحائل، والمانع، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية.
وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر.
ثم قال: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء﴾ والمثلُ السُّوءِ: عبارة عن الصِّفةِ السوء، وهي احتياجهم إلى الولدِ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾، أي: الصِّفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: مثل السُّوءِ: النَّار، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾.
فإن قيل: كيف جاء ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ مع قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال﴾ [النحل: ٧٤].
فالجواب: أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ، والذي يذكره غيره باطل.
قال القرطبي في الجواب: «إن قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال﴾، أي: الأمثال التي توجب الأشباه، والنَّقائص، أي: لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق، والمثل الأعلى: وصفه بما لا شبيه له ولا نظير».
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ﴾ الآية لما حكى عن القوم عئم كفرهم، وقبيح قولهم، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل، والرحمة، والكرمِ.
قالت المعتزلة: هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى، بل تكون أفعالاً للعباد؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم، فقال - عزَّ وجلَّ - ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ﴾، وأيضاً: لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى؛ ولأنَّ قوه تعالى: «بِظُلمهِمْ» الباء فيه تدلُّ على العليَّة، كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: ٤]. وقد تقدَّم الجواب مراراً.

فصل


ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس؟.
92
وأجيب بوجهين:
أحدهما: أنَّا لا نسلم أن قوله: ﴿مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ يتناول جميع الدَّوابِّ.
قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر، ومعصية لعجَّل هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب، وإذا هلكوا؛ فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس، وإذا [هلكوا]، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد، وهذا وجهٌ حسن.
الثاني: أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً، وفي حق [غيرهم امتحاناً]، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
الثالث: أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة.
عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع رجُلاً يقول: إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال: «لا والله، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم».
وعن ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب.
والجواب الثاني: أنَّ المراد بالدَّابة الكافر، قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤].
قوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾، أي: البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى: «
93
ويجعلون» : يصفون الله بذلك، ويحكمون به له، كقولك: جعلتُ زيداً على النَّاس، أي: حكمت بهذا الحكم.
وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣].
قوله: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب﴾ بسكون التَّاء تخفيفاً، وهي تشبه تسكين لام ﴿بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠]، وهمزة ﴿بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] ونحوه.
والألسنةُ: جمع لسان مراداً به التذكير، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو: «حِمَار وأحْمِرَة»، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل، كذِرَاعٍ، وأذْرُع.
وقرأ معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الكُذُبُ» بضم الكافِ والذَّال، ورفع الباء، على أنَّه جمع كذُوب، كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ.
وقيل: هو جمع كاذب، نحو «شَارِف وشُرُف» ؛ كقول الشاعر: [الوافر]
٣٣٣١ - ألاَ يَا حَمْزَ للشَّثرفِ النِّواءِ................
وهو حينئذٍ صفة ل: «ألْسِنتُهمُ»، وحينئذ يكون «أنَّ لهُم الحُسْنَى» مفعولاً به والمراد بالحسن: البَنُونَ.
وقال يمانُ: يعني بالحسنةِ: الجنة في المعادِ.
فإن قيل: كيف يحكمُون بذلك، وهم منكُرونَ القيامة؟.
فالجواب: أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة، فقد قيل: إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون: إنَّ ذلك الميت إذا حشر؛ يحشر معه مركوبه.
وقيل: إنهم كانوا يقولون: إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه.
قيل: وهذا القول أولى، لقوله بعد: «لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ» فردّ عليهم قولهم، وأثبت لهم النَّار؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة.
قوله: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾، أي: حقًّا. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نعم إن لهم النَّار.
94
قال الزجاج: «لا» رد لقولهم، أي: ليس الأمر كما وصفوا، «جرم» [فعلهم] أي: كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا اللفظ «أنَّ» في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه.
وقال قطربٌ: «أنَّ» في موضع رفع، والمعنى: وجب أن لهم النَّار، وكيف كان الإعراب، فالمعنى: أنه يحق لهم النَّار، ويجبُ.
قوله: ﴿وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ﴾ قرأ نافعٌ بكسر الراء، اسم فاعل من أفرط، إذا تجاوز فالمعنى: أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط، فأفعل هنا قاصر.
وقال الفارسيُّ: كأنه من أفرط، أي: صار ذا فرطٍ، مثل: أجرب، أي: صار ذا جرب، والمعنى: أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار.
والباقون بفتحها، اسم مفعولٍ من: أفرطته، وفيه معنيان:
أحدهما: أنه من أفرطته خلفي، أي: تركته ونسيته، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً، أي: خلفتهم، والمعنى: أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار.
والثاني: أنه من أفرطته، أي: قدمته إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قاله ابو حيان، وأنشد للقطامي: [البسيط]
٣٣٣٢ - واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فجعل «فَرَطَ» قاصراً، و «أفْرَطَ» منقولاً.
وقال الزمخشريُّ: «بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ».
فجعل «فَعَلَ»، و «أفْعَل» بمعنى؛ لأنَّ «أفْعَلَ» منقولٌ من «فَعَل» والقولان محتملان، ومنه الفرطُ، أي: المتقدم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ»، أي: سابقكم، ومنه «جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً»، أي: متقدماً بالشَّفاعة، وبتثقيل الموازين، والمعنى على هذا: أنهم قدموا إلى النَّار، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم.
95
وقرأ أبو جعفر في رواية «مُفرِّطُونَ» بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا، أي: قصَّر، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف؛ أي من «فرط» بالتخفيف أي: تقدَّم، وسبق.
وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم» بكسر «إن» فيهما على أنهما جواب قسم، أغنت عنه: «لا جرم».
ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم -.
فقال: ﴿تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة، وهذا تسليةٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ:
أحدها: أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى -، فلا فائدة في التَّزيينِ.
والثاني: أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه.
والثالث: أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً، فلم يكن التَّزيينُ داعياً.
والرابع: أنَّ على قولهم: الخالق لذلك العمل، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه.
الخامس: أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً.
والجواب: إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر؛ لزم التَّسلسل، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ.
قوله: ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية، أي: فهو ناصرهم، أو آتية.
ويرادُ باليوم يوم القيامةِ، والمعنى: فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم، ولا ناصر لهم؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم: «هذا وليُّكم اليوم» على وجْه السُّخريةِ.
96
وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية، ولا آتية، والمعنى: أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن المم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة، وسمَّاه ولياً لهم؛ لطاعتهم له، ولهم عذاب أليم في الآخرة.
وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على «أممٍ»، ولكن على حذف مضاف تقديره: فهو ولي أمثالهم اليوم.
واستبعده أبو حيان، وكأن الذي حمله على ذلك قوله: «اليَوْمَ» فإنه ظرف خالٍ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية، أو الآتية.
ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد، قد أقام الحجَّة، وأزاح العلَّة فقال تعالى: ﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ﴾، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل، والنحل، والأهواء، مثل التوحيد، والشرك، والجبر، والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل: تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة.

فصل


قالت المعتزلة: واللام في «لتُبَيِّنَ» تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض، كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس﴾ [إبراهيم: ١] وقوله عزَّ وجلَّ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
والجواب: أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل، وجب صرفه إلى التَّأويل.
قوله: ﴿وَهُدًَى وَرَحْمَةً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما؛ والناصب: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ ولما اتحد الفاعل في العلَّة، والمعلول؛ وصل الفعل إليهما بنفسه، ولما لم يتَّحد في قوله: ﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ﴾، أي: لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى، وهي كون مجرورها «أنْ»، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال: «معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام على:» لتُبيِّنَ «؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل».
قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «قوله: معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «ليس بصحيح؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً، فيعطف منصوب، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل».
97
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات ﴾، ونظيره قوله :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ]، كانت خزاعة، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله.
قال ابن الخطيب١ :" أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون، أشبهوا النساء في الاستتار، فأطلقوا عليهم البنات ".
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات.
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال :" سُبْحَانهُ "، والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه.
وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله.
قوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ وخبر، أي : يجعلون لله البنات، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون.
وجوَّز الفرَّاء، والحوفيُّ، والزمخشري، وأبو البقاء - رحمة الله عليهم - أن تكون " مَا " منصوبة المحلّ ؛ عطفاً على " البَناتِ " و " لَهُمْ " عطف على الله، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال أبو حيَّان٢ : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي " عَدمَ " و " فَقَد " ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه، أو بحرف الجرِّ ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه، أي : ضرب نفسهُ، ولا " زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ "، أي : مر بنفسه، ويجوز :" زيد ظنه قائماً "، و " زيد فقده وعدمه " أي :[ ظن نفسه قائماً، وفقد ]٣ نفسه، وعدمها. إذا تقرَّر هذا، فجعل " مَا " منصوبة عطفاً على " البَناتِ "، يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل، وهو واو " يَجْعلُونَ "، إلى ضميره المتَّصل، وهو " هُمْ " في " لَهُمْ " انتهى.
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ؛ وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل، إلا في باب " ظنَّ " وأخواتها من أفعال القلوب، وفي " فَقَد " و " عَدمَ " فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ، أي : ضَربَ نفسه، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر، في باب من الأبواب، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ، وفي قولنا " إلى ضميرها المتصل " قيدان :
أحدهما : كونه ضميراً، فلو كان ظاهراً كالنَّفس، لم يمتنع، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ، وضَرَب نفسه زيد.
والثاني : كونه متَّصلاً، فلو كان منفصلاً ؛ جاز، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو.
وقال مكي٤ :" وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً، إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون، جاز ما قال الفرَّاء٥ عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل، وبسطٍ كثيرٍ ".
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ " مَا " في موضع نصبٍ عن الفرَّاء، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ، وقد حكاهُ ؛ وفيه نظرٌ.
قال شهابُ الدِّين٦ :" وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه، إنَّما جعله في تضعيفه، بكونه يؤدِّي إلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني، فإنه قال :" وضعَّف قومٌ هذا الوجه، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم، وفيه نظرٌ " فجعل النظر في تضعيفه، لا فيه ".
وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل، أي : وقوعه على ما جر بالحرف، نحو :" زيد مرَّ بِهِ " فإن المرور واقعٌ ب " زيدٍ "، وأمَّا ما نحن فيه، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين، بل ما يشتهون.
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى :﴿ وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة ﴾ [ مريم : ٢٥ ] ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ [ القصص : ٣٢ ].
والجواب عنهما ما تقدَّم، وهو أنَّ الهزَّ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر، وإنَّما أعدته لصعوبته، وخصوصيته، هذا بزيادة فائدة، وأراد بقوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ] أي : الشيء الذي يشتهونه، وهو السَّترُ.
١ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٤٤..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٨٨..
٣ زيادة من: أ..
٤ ينظر: المشكل ٢/١٦..
٥ ينظر: معاني القرآن للفراء ٢/١٠٥..
٦ ينظر: الدر المصون ٤/٣٣٨..
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه، فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ﴾.
التَّبْشيرُ في عرف اللغة : مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة، فكذلك الحزن يوجبه ؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين، ويؤكِّده قوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]. وقيل : المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار.
قوله :﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾، يجوز أن تكون " ظلَّ " ليست على بابها ؛ من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها، وأن تكون بمعنى :" صَارَ "، وعلى التقديرين هي ناقصة، و " مُسْودًّا " خبرها.
وأما " وجهه " ففيه وجهان :
أشهرهما، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها.
والثاني : أنه بدلٌ من الضمير المستتر في " ظلَّ " : بدل بعضٍ من كلٍّ، أي : ظلَّ أحدهم وجهه، أي : ظل وجه أحدهم.
قوله :" كَظِيمٌ " يجوز أن يكون بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله :﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ [ القلم : ٤٨ ]، والجملة حالٌ، وبجوز أن يكون :" وهُوَ كَظيمٌ " حالاً من الضَّمير في " ظلَّ "، أو من " وَجْههِ "، أو من الضمير في :" مُسْودًّا ".
وقال أبو البقاءِ :" فلو قرئ هنا " مُسْوَدٌّ "، يعني بالرفع، لكان مستقيماً، على أن يجعل اسم " ظل " مضمراً فيها، والجملة خبرها ".
وقال في سورة الزخرف [ الآية : ١٧ ] :" ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ، وخبر في موضع خبر ظلَّ ".
قوله :﴿ يتوارى ﴾، يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه، إلا " وجْههُ "، فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في :" كَظِيمٌ ".
قوله ﴿ مِنَ القوم مِن سوء ﴾، تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما، فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلَّة، أي : من أجل سوء ما بشِّر به.
قوله :" أيُمْسِكهُ "، قال أبو البقاء :" في موضع الحال، تقديره : يتوارى، أي : مُتردِّداً، هل يمسكه أم لا ؟ ".
وهذا خطأٌ عند النحويين ؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال، لا تقع جملة طلبيَّة، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل " يَتوارَى "، ليتم الكلام، أي : يتوارى ناظراً، أو متفكِّراً :" أيُمسِكهُ على هُونٍ. . . أمْ يدُسُّه " على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " مَا " .
وقرأ الجحدريُّ١ : أيُمْسِكُها أم يدسُّها، مراعاة للأنثى، أو لمعنى " مَا ".
وقرئ٢ : أيمسكهُ أم يدسُّها، والجحدري، وعيسى - رحمهما الله - على " هَوان "، بزنة " فدان "، وفرقة على " هَوْنٍ " وهي قلقة ؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ واللينُ، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهوان فمعنى " هُونٍ " المضموم.
قوله :﴿ على هُونٍ ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه٣ مع [ رضاه ] بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه.
والثاني : أنه حالٌ من المفعول، أي : يمسكها ذليلة مهانة.
والدَّس : إخفاء الشيء، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ.

فصل


معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا وحزناً، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه، انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل البدن، ووصل إلى الأطراف، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار، وإذا قوي غمُّ الإنسان، احتقن الروحُ في داخل القلب، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه، فلا جرم يصفرُّ الوجه ويسودُّ ويظهر فيه أثر الأرضية والكآبة ؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه، وإشراقه، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه، وغبرته، وسواده، فلهذا قال :﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾، أي : ممتلئ غمًّا، " يتوارى " به من القوم : يتنحى عنهم ويتغيَّب، من سوء ما بشِّر.
قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته، توارى واختفى عن القوم، إلى أن يعلم ما يولد له ؛ فإن كان ذكراً ابتهج به، وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً، يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله :﴿ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ ﴾، أي : أيحتبسه ؟ والإمساك هنا : الحبس، كقوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، والهُونُ : الهَوان.
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى :﴿ عَذَابَ الهون ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ].
﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب ﴾، والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ.
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله :" إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة "، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً " ٤.
وروي " أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت، قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ، فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال صلى الله عليه وسلم " مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ " ٥.
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ.
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخراً به :[ المتقارب ]
وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ٦
﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات.
أولها : أنه يُسوِّدُّ وجهه.
ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم، من شدَّة نفرته عنها.
وثالثها : يقدم على قتلها، مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟.
ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١، ٢٢ ].

فصل


قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ، فأحْسنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ " ٧.
وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن، وضمَّ أصَابعهُ " أخرجهما مسلم٨.

فصل


قال القاضي :" دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر ؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ والفواحش، ما إذا أضيف إلى أحدهم، أجهد نفسه في البراءة منه، والتَّباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين، بل أعظم ؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - ".
وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله، أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى -، ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه، وعبيده، وبالغ في تحسين صورهم، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل، وأزال الحائل، والمانع، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف، إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية.
وأمَّا أفعال العباد، فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر.
١ القرطبي ١٠/٧٨، والبحر ٥/٤٨٨، والدر المصون ٤/٣٣٩..
٢ ينظر: السابق نفسه..
٣ في أ: رجاءه..
٤ أخرجه البيهقي (٨/١١٦) والطبري في "الكبير" (١٨/٣٣٨) والبزار (٢٢٨٠ ـ كشف).
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٣٧) وقال: رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح غير حسين بن مهدي الأيلي وهو ثقة..

٥ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/ ٤٥ ـ ٤٦)..
٦ ينظر: الديوان ١/١٧٣، القرطبي ١٠/٧٨، البغوي ٤/٩٧، مجاز القرآن ٢/٢٨٧، الخازن ٤/٩٧، الكشاف ٢/١٠٢، أمالي المرتضى ٢/٢٨٢، اللسان (وأد) الإصابة ٣/١٨٦..
٧ أخرجه البخاري ١٠/٤٤٠، كتاب الأدب: باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (٥٩٩٥) ومسلم ٤/٢٠٢٧، كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل الإحسان إلى البنات (١٤٧ ـ ٢٦٢٩)..
٨ أخرجه مسلم في ٤/٢٠٢٨، كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل الإحسان إلى البنات ١٤٩ ـ ٢٦٣١، والترمذي ٤/٢٨١، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات ١٩١٤..
ثم قال :﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء ﴾، والمثلُ السُّوءِ : عبارة عن الصِّفةِ السوء، وهي احتياجهم إلى الولدِ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار. ﴿ وَلِلَّهِ المثل الأعلى ﴾، أي : الصِّفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد. قال ابن عباس - رضي الله عنه- : مثل السُّوءِ : النَّار، والمثل الأعلى : شهادة أن لا إله إلا الله. ﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾١.
فإن قيل : كيف جاء، ﴿ وَلِلَّهِ المثل الأعلى ﴾، مع قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال ﴾ [ النحل : ٧٤ ]. فالجواب : أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ، والذي يذكره غيره باطل.
قال القرطبي٢ في الجواب :" إن قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال ﴾، أي : الأمثال التي توجب الأشباه، والنَّقائص، أي : لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق، والمثل الأعلى : وصفه بما لا شبيه له ولا نظير ".
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٧٣)..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٠/٧٩..
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ ﴾ الآية، لما حكى عن القوم عظيم كفرهم، وقبيح قولهم، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل، والرحمة، والكرمِ.
قالت المعتزلة : هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى، بل تكون أفعالاً للعباد ؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم، فقال - عزَّ وجلَّ - ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ ﴾، وأيضاً : لو كان خلقاً لله ؛ لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى ؛ ولأنَّ قوله تعالى :" بِظُلمهِمْ "، الباء فيه تدلُّ على العليَّة، كما في قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ [ الحشر : ٤ ]. وقد تقدَّم الجواب مراراً.

فصل


ظاهر الآية يدلُّ على : أنَّ إقدام الناس على الظُّلم ؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب، وذلك غير جائزٍ ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس ؟.
وأجيب بوجهين :
أحدهما : أنَّا لا نسلم أن قوله :﴿ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾، يتناول جميع الدَّوابِّ.
قال الجبائي - رحمه الله- : إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر، ومعصية لعجَّل هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب، وإذا هلكوا ؛ فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس، وإذا [ هلكوا ]١، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً ؛ لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد، وهذا وجهٌ حسن.
الثاني : أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً، وفي حق [ غيرهم امتحاناً ]٢، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عليه الصلاة والسلام.
الثالث : أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمع رجُلاً يقول : إن الظَّالم لا يضُرُّ إلاَّ نفسه، فقال :" لا والله، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم٣ ".
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه : كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم ؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ : لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب٤.
والجواب الثاني : أنَّ المراد بالدَّابة : الكافر، قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ]، والكناية في قوله :" عَلَيْهَا " عائدة إلى الأرض، ولم يسبق لها ذكر، إلا أن ذكر الدابة يدل على الأرض، فإن الدابة إنَّمَا تدبُّ على الأرض.
قوله ﴿ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى ﴾، كي يتوالدوا.
قال عطاءٌ عن ابن عبَّاس _رضي الله عنه_ : يريد أجل يوم القيامة.
وقيل : منتهى العمر :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ].
١ في ب: بطلوا..
٢ في ب: غير الظلمة مجازا..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٠١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٢٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا والبهيقي في "شعب الإيمان"..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٠١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٢٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان"..
قوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾، أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم، ومعنى :" ويجعلون " : يصفون الله بذلك، ويحكمون به له، كقولك : جعلتُ زيداً على النَّاس، أي : حكمت بهذا الحكم. وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ].
قوله :﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب ﴾، العامة على أن " الكذب " مفعول به، و " أن لهم الحسنى "، بدل منهم، بدل كل من كل، أو على إسقاط الخافض، أي : بأن لهم الحسنى.
وقرأ١ الحسن " ألسنتهم " بسكون التَّاء تخفيفاً، وهي تشبه تسكين لام ﴿ بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ]، وهمزة ﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ] ونحوه.
والألسنةُ : جمع لسان مراداً به التذكير، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو :" حِمَار وأحْمِرَة "، وإذا أريد به التَّأنيث، جمع جمع أفعل، كذِرَاعٍ، وأذْرُع.
وقرأ٢ معاذ بن جبل رضي الله عنه :" الكُذُبُ " بضم الكافِ والذَّال، ورفع الباء، على أنَّه جمع كذُوب، كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ.
وقيل : هو جمع كاذب، نحو " شَارِف وشُرُف " ؛ كقول الشاعر :[ الوافر ]
ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرفِ النِّواءِ . . . . . . . . . . . . . ٣
وهو حينئذٍ صفة ل :" ألْسِنتُهمُ "، وحينئذ يكون " أنَّ لهُم الحُسْنَى "، مفعولاً به. والمراد بالحسن : البَنُونَ. وقال يمانُ : يعني بالحسنةِ : الجنة في المعادِ. فإن قيل : كيف يحكمُون بذلك، وهم منكُرونَ القيامة ؟. فالجواب : أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة، فقد قيل : إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ، ويتركونه إلى أن يموت ويقولون : إنَّ ذلك الميت إذا حشر ؛ يحشر معه مركوبه. وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه. قيل : وهذا القول أولى، لقوله بعد :" لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ " فردّ عليهم قولهم، وأثبت لهم النَّار ؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة.
قوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾، أي : حقًّا. قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - نعم إن لهم النَّار٤.
قال الزجاج :" لا " رد لقولهم، أي : ليس الأمر كما وصفوا، " جرم " [ فعلهم ]٥ أي : كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا اللفظ " أنَّ " في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه. وقال قطربٌ :" أنَّ " في موضع رفع، والمعنى : وجب أن لهم النَّار، وكيف كان الإعراب، فالمعنى : أنه يحق لهم النَّار، ويجبُ.
قوله :﴿ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ﴾ قرأ نافعٌ بكسر٦ الراء، اسم فاعل من أفرط، إذا تجاوز، فالمعنى : أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط، فأفعل هنا قاصر. وقال الفارسيُّ : كأنه من أفرط، أي : صار ذا فرطٍ، مثل : أجرب، أي : صار ذا جرب، والمعنى : أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار، كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار. والباقون بفتحها، اسم مفعولٍ من : أفرطته، وفيه معنيان :
أحدهما : أنه من أفرطته خلفي، أي : تركته ونسيته، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً، أي : خلفتهم، والمعنى : أنَّهم مَنْسيُّونَ، مَترُوكونَ في النَّار.
والثاني : أنه من أفرطته، أي : قدمته إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا، أي : تقدَّم إليه، كذا قاله أبو حيان٧، وأنشد للقطامي :[ البسيط ]
واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ٨
فجعل " فَرَطَ " قاصراً، و " أفْرَطَ " منقولاً.
وقال الزمخشريُّ :" بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ ".
فجعل " فَعَلَ "، و " أفْعَل " بمعنى ؛ لأنَّ " أفْعَلَ " منقولٌ من " فَعَل "، والقولان محتملان، ومنه الفرطُ، أي : المتقدم، قال صلى الله عليه وسلم :" أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ٩ "، أي : سابقكم، ومنه " جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً "، أي : متقدماً بالشَّفاعة، وبتثقيل الموازين، والمعنى على هذا : أنهم قدموا إلى النَّار، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم.
وقرأ١٠ أبو جعفر في رواية " مُفرِّطُونَ " بتشديد الرَّاءِ مكسورة، من فرَّط في كذا، أي : قصَّر، وفي رواية مفتوحة، من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف ؛ أي من " فرط " بالتخفيف أي : تقدَّم، وسبق.
وقرأ عيسى١١ بن عمر والحسن - رضي الله عنهما - " لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم "، بكسر " إن " فيهما، على أنهما جواب قسم، أغنت عنه :" لا جرم ".
١ ينظر: البحر ٥/٤٩٠، والدر المصون ٤/٣٣٩..
٢ ينظر: البحر ٥/٤٩ والمحتسب ٢/١١، والدر المصون ٤/٣٣٩..
٣ تقدم..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٠٢) وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٧٤)..
٥ في ب: أن لهم النار..
٦ ينظر: السبعة ٣٧٤، والإتحاف ٢/١٨٥، والنشر ٢/٣٠٤ والحجة ٣٩١، والتيسير ١٣٨، والبحر ٥/٤٩٠، والدر المصون ٤/٣٣٩..
٧ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٩٠..
٨ ينظر: اللسان والتاج والصحاح (فرط)، البحر المحيط ٥/٤٩١، الطبري ١٤/١٢٨، روح المعاني ١/١٧٣، الدر المصون ٤/٣٣٩..
٩ تقدم..
١٠ ينظر: النشر ٢/٣٠٤، والإتحاف ٢/١٨٥، والقرطبي ١/٨٠ والبحر ٥/٤٩١، والدر المصون ٤/٣٤٠..
١١ ينظر: البحر ٥/٤٩٠، الدر المصون ٤/٣٤٠..
ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم- فقال :﴿ تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ ﴾، أي : كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة، وهذا تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم، بسبب جهالات القوم.
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو : الله - تعالى-، فلا فائدة في التَّزيينِ.
والثاني : أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه.
والثالث : أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً، فلم يكن التَّزيينُ داعياً.
والرابع : أنَّ على قولهم : الخالق لذلك العمل، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه.
الخامس : أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً.
والجواب : إن كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر ؛ لزم التَّسلسل، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ.
قوله :﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ﴾، يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية، أي : فهو ناصرهم، أو آتية.
ويرادُ باليوم، يوم القيامةِ، والمعنى : فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ، وأطلق اسم اليوم، على يوم القيامةِ لشهرته، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم، ولا ناصر لهم ؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه، كما لا مخلص لهم منه ؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم :" هذا وليُّكم اليوم "، على وجْه السُّخريةِ.
وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ، فيكون حكاية حال في الحال، لا ماضية، ولا آتية، والمعنى : أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن الأمم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة، وسمَّاه ولياً لهم ؛ لطاعتهم له، ولهم عذاب أليم في الآخرة.
وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على " أممٍ "، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم.
واستبعده أبو حيان، وكأن الذي حمله على ذلك قوله :" اليَوْمَ "، فإنه ظرف خالٍ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية، أو الآتية.
ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد، قد أقام الحجَّة، وأزاح العلَّة فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ ﴾، أي : وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها، يعني : أهل الملل، والنحل، والأهواء، مثل التوحيد، والشرك، والجبر، والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل : تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة.

فصل


قالت المعتزلة : واللام في " لتُبَيِّنَ " تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض، كقوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس ﴾ [ إبراهيم : ١ ]، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
والجواب : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل، وجب صرفه إلى التَّأويل.
قوله :﴿ وَهُدى وَرَحْمَةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما، والناصب :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾، ولما اتحد الفاعل في العلَّة، والمعلول، وصل الفعل إليهما بنفسه، ولما لم يتَّحد في قوله :﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ ﴾، أي : لأن تبين، على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى، وهي كون مجرورها " أنْ "، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال :" معطوفان على محل " لتُبيِّنَ "، إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما ؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام على :" لتُبيِّنَ " ؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل ".
قال أبو حيَّان١ - رحمه الله - :" قوله : معطوفان على محل " لتُبيِّنَ " ليس بصحيح ؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً، فيعطف منصوب، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز ؛ لاختلافِ الفاعل ".
قال شهابُ الدِّين٢ :" الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه، إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاً، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير، يعني : أنهما علَّتان، كما أنَّ " لتُبيِّنَ " علة، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل، فلا يضر ذلك، وقوله :" لأنَّ محله ليس نصباً " ممنوع، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار، والمجرور النصب ؛ لأنه فضلة، إلا أن تقوم مقام مرفوع، ألا ترى إلى تخريجهم قوله :" وأرْجُلكُمْ " في قراءة النصب على العطف على محل " برءُوسِكمْ "، ويجيزون : مررت بزيد وعمرو، على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس وعدمه، لا في أصل المسألة، وهذا بحثٌ حسنٌ ".

فصل


قال الكلبيُّ : وصف القرآن بكونه هدى، ورحمة لقوم يؤمنون، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ، لقوله في أوَّل البقرة :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]، وإنَّما خص المؤمنين بالذّكر ؛ لأنهم هم المنتفعون به، كقوله :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٥ ] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط٣.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٩١..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٣٤٠..
٣ ينظر: تفسير الرازي (٢/٥١)..
قال شهابُ الدِّين: «الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاص، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير، يعني: أنهما علَّتان، كما أنَّ» لتُبيِّنَ «علة، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل، فلا يضر ذلك، وقوله:» لأنَّ محله ليس نصباً «ممنوع، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار، والمجرور النصب؛ لأنه فضلة، إلا أن تقوم مقام مرفوع، ألا ترى إلى تخريجهم قوله:» وأرْجُلكُمْ «في قراءة النصب على العطف على محل» برءُوسِكمْ «، ويجيزون: مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس، وعدمه لا في أصل المسالة، وهذا بحقُ حسنٌ».

فصل


قال الكلبيُّ: وصف القرآن بكونه هدى، ورحمة لقوم يؤمنون، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ، لقوله في أوَّل البقرة: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، وإنَّما خص المؤمنين بالذ١كر؛ لأنهم هم المنتفعون به، كقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط.
قوله
تعالى
: ﴿والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول اربعة: الإلهيَّات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة: تقرير الإلهيَّات، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فقال: ﴿والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع إنصاف وتدبُّر؛ والمراد: سماع القلوب لا سماع الآذان.
والنوع الثاني من الدَّلائلِ: الاشتدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ﴾ والعِبرةُ: العِظةُ.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي «نُسْقِيكمْ» بضمِّ
98
النون هنا، وفي المؤمنين، والباقون بفتح النون فيهما.
وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم من بين فرثٍ، ودم لبناً خالصاً، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ، [مضمر]، والجملة جواب لذلك السؤال، أي: هي، أي: العبرة نسقيكم، ويكون كقوله: «تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ».
واختلف النَّاس: هل سَقَى، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ، أم بينهما فرقٌ؟.
خلافٌ مشهورٌ، فقيل: هما بمعنى واحد، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال: [الوافر]
٣٣٣٣ - سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال
دعى للجميع بالسقي، والخصب، و «نُمَيْراً» هو المفعول الثاني، أي: ما نميراً، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها: أسقى فقط.
وقال الأزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام، ومن السَّماء، أو نهر يجري أسقيته، أي: جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى، فإذا كان للمنفعة قالوا: «سَقَى»، ولم يقولوا: «أسْقَى».
وقال الفارسيُّ: «سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً».
وقيل: سقاهُ إذا ناوله الإناء؛ ليشرب منه، ولا يقال من هذا أسقاه.
وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيكُمْ» بضمِّ الياء من أسفل، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: هو الله - تعالى -.
والثاني: أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام، أي: نعماً يجعل لكم سقياه.
وقرئ: «تَسْقِيكُمْ» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطيَّة: وهي ضعيفةز
قال أبو حيَّان: «وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في:» نُسقِيكُم «وذكر في
99
قوله:» ممَّا في بطُونهِ «، ولا ضعف من هذه الجهة؛ لأنَّ التَّذكير، والتَّأنيث باعتبارين».
قال شهابُ الدِّين: وضعفها عنده من حيث المعنى، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام.
قوله: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ يجوز أن تكون «مِنْ» للتبعيض، وأن تكون لابتداء الغاية وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً.
قال الزمخشريُّ: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم «ثَوْب أسْمَال»، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأمَّا ﴿فِي بُطُونِهَا﴾ [المؤمنون: ٢١] في سورة المؤمنين، فلأنَّ معناه الجمع، ويجوز أن يقال في «الأنعام» وجهان:
أحدهما: أن يكون جمع تكسير: «نَعَم» كأجْبَال في جَبَل.
وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ، فإذا ذكر، فكما يذكر «نَعَم» في قوله: [الرجز]
٣٣٣٤ - في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ
وإذا أنَّث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع.
قال أبو حيَّان: أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه، ففي كتابه في هذا الباب، ما كان على مثال مفاعل، ومفاعيل ما نصُّه: «وأمَّا أجمال، وفلوس فإنَّها تنصرف، وما أشبهها؛ لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقْوَال، وأقَاوِيل، وأعْرَاب، وأعَارِيب، وأيْدٍ، وأيَادٍ فهذه الأحرف تخرج إلى مثال: مفَاعِل، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد، إذا كسر الجمع، وأما مفاعل، ومفاعيل، فلا يكسر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت».
ثمَّ قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل كما تقول: جَدُود، وجَدائِد، ورَكُوب، ورَكائِب، وركاب.
ولو فعلت ذلك بمفاعل، ومفاعيل، لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول: «أُتي» للواحد فيضم الألف، وأمَّا أفعال؛ فقد تقع للواحد، من العرب من يقول: «هو الأنعامُ»، قال - الله عزَّ وجلَّ -: ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾. وقال أبو الخطَّاب:
100
سمعت من العرب من يقول: هذا ثوب أكياش.
قال: والذي ذكره سيبويه: هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إنَّ مفاعل، ومفَاعِيل لا يجمعان، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا، ولم ينصرف «مفاعل» و «مفاعيل» لشبه ذينك بالمفرد من حيث إنه يمكن جمعها وامتناع هذين من الجمع، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد بأن بعض العرب يقول في «أَتى» «أُتى» بضم الهمزة، يعني أنه قد جاء نادراً فعول، من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير فيقول: هو الأنعامُ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم والنَّعَم يفرد؛ كحما قال الشاعر: [الوافر]
٣٣٣٥ - تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعََ المفدَّى... وقُلْنَا للنِّساءِ بها: أقِيمِي
ولذلك قال سيبويه: طوأمَّا أفعال فقد يقع للواحد «فقوله:» قد يقع للواحد «دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع، فقول الزمخشريُّ:» إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال «تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدلُّ على ما قلناه: أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنَّ أفعالاً ليس من أبنيتها.
قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة:»
وليس في الكلام أفعيل، ولا أفْعَول، ولا أُفْعَال، ولا أفْعِيل، ولا أفعالُ إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع «، قال:» فهذا نصٌّ منه على أنَّ أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة «.
قال شهاب الدِّين: الَّذي ذكره الزمخشريَّ، وهو ظاهر عبارة سيبويه، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده، ولم يحرِّف لفظه، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده.
وقيل: إنَّما ذكر الضمير؛ لنه يعود على البعض، وهو الإناثُ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها، والعبرة إنَّما هي في بعض الانعام.
وقال الكسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:»
أي في بطون ما ذُكِر «.
قال المبرِّد: وهذا سائغ في القرآن، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١، ١٢] اي: هذا الشيء الطَّالع، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي.
101
ولا يجوز: جاريتك ذهب، وغلامك ذهبت، وعلى هذا خرج قوله: [الرجز]
٣٣٣٦ - فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ
أي: كأن المذكور.
وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع.
ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين، اعتبر معنى الجماعة، ومن الأوَّل قول الشَّاعر: [الرجز]
٣٣٣٧ - مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه... وقيل: لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد يُفهم الجمع فإنه يسد مسده نعم، ونعم يفهم الجمع؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز]
٣٣٣٨ - وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد لأنه يسد مسدَّها» لبن «.
ومثله قولهم هو أحسن الفتيان، وأجمله أي: أحسن فتى إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه.
وذكر أبو البقاء ستَّة أوجهٍ تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة، والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة، فأصل اللَّبن من الفحل.
قال:» وهذا ضعيف؛ لأنَّ اللبن، وإن نسب إلى الفحل، فقد جمع البطون وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً، ولا للواحد بطون، فإن قيل: أراد الجنس، فقد ذكر «.
يعني أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ المراد به الجنس، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يعقبه بنكير.
قال القرطبي: واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير أن لبن الفحل يقبل التَّحريم.
وقال: إنَّما جيءَ به مذكَّراً؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النِّعم؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب
102
ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في حديث: «أفْلحَ أخي أبِي القعيس فلِلمَرْأةِ السَّقيُ وللرَّجُلِ اللِّقاحُ».
أحدها: أنَّه متعلق بالسّقي على أنَّها لابتداء الاية، فإن جعلنا ما قبلها كذلك، تعين أن يكون مجرورها بدلاً من مجرور «من» الأولى، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [بمعمول] واحد، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر.
الثاني: أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من «لَبناً»، إذ لو تأخَّرت، لكانت مع مجرورها نعتاً. قال الزمخشريُّ: «وإنَّما قدِّم؛ لأنه موضع العِبرة، فهو قمنٌ بالتَّقدم».
الثالث: أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها.
والفَرْثُ: فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء، ويقال: فرث كبده، أي: فتَّتها، وأفرث فلانٌ فلاناً؛ أونقعه في بليَّة يجرى مجرى الفرث.
روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه قال: «إذا استقرَّ العلف في الكرش، صار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لبناً، فيجري الدَّمُ في العروقِ واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث كما هو».
قوله: «لَبَناً» هو المفعول الثاني للسَّقي.
وقرئ: «سَيِّغاً» بتشديد الياءِ، بزنة «سَيِّد» وتصريفه كتصريفه. وخفف عيسى بن عمر، نحو «مَيْتٍ»، و «هَيْنٍ»، ولا يجوز أن يكون فعلاً، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول.
ومعنى: «سَائغاً للشَّاربينَ»، أي هنيئاً يجري بسهولة في الحلق، وقيل: إنه لم [يشرق] أحدٌ باللَّبن قطُّ.

فصل


قال ابن الخطيب: اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان ألبتَّة في الكرشِ، والدَّليلُ عليه الحسُّ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً، ولا لبناً، ولو كان تولد الدَّم، واللَّبن في الكرش؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده؛ لم يجز المصير إليه، بل الحق أنَّ الحيوان إذا
103
تناول الغذاء، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن ك ان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ، وحصل الهضمُ الأول فيه، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً، نزل إلى الأمعاء، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها، ويصير دماً، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ، والسَّوداء، وزيادة المادة المائية، أمَّا الصفراء، فتذهب إلى المرارة، والسَّوداءُ إلى الطحالِ، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث، وبين الكبد، وبين الضَّرع عروق كثيرة، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع والضرع لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
فإن قيل: هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ؟ قلنا: الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين:
الأول: أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد.
والثاني: أنَّ الولد إذا كبر، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد؛ حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم، كان بدنها قابلاً للتَّمدد؛ فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطجوبات لهذه الحكمة، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين، تنصب إلى الثَّدي، والضرع، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر، فظهر الفرقُ.
وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسطِ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة.
واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول
104
الإنسان غذاء، أو شربة رقيقة؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد، ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة، والانفتاح أخرى، بحسب الحاجة، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم.
الثاني: أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول، والمشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتَّة، ولو كان الأمر بالعكس، لاختلفت مصلحة البدن، ولفسد نظامُ هذا التركيب.
الثالث: أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة؛ تنطبخُ في الكبد، وتنقلب دماً، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم.
الرابع: أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد، وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم، ولا إلى الثدي، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
الخامس: أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة، ولما كانت هذه المسامُّ ضيِّقة جدًّا، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء، واللَّطافة، وأمَّا الأجزاء الكثيفة فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة فتبقى في الدَّاخل، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة؛ لكي تكون كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وما كان كثيفاً؛ احتبس في الدَّاخلِ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً موافقاً لبدن الصَّبي «سَائِغاً للشَّاربين».
السادس: أنه - تعلى - ألهم ذلك الصبي إلى المص؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي.
105
السابع: أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب، وتولَّد منه الدم، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً، وما فيه من المائيَّة يكون بارداً رطباً، وما كان فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة، فظهر بهذين أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة غلى صفة، ومن حالة إلى حالة، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً، ولا يشاكل بعضه بعضاً، وعند ذلك فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ.
قال المحققون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: اعتبار حدوث اللَّبن كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان إنَّما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر، فقلب ذلك العشب دماً، ثم دبَّر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا الاستقرار يجل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة غلى حالة، وإذا كان كذلك، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء ابدان الموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فبهذا الاعتبار يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ البعث والقيامة أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع.
قوله: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بمحذوف، فقدَّره الزمخشري: ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب، أي: من عصيرها؛ وحذف لدلالة «نُسْقِيكُمْ» قبله عليه قال: «وتتَّخِذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء».
وقدَّره ابو البقاء: خلق لكم أو جعل لكم وما قدَّره الزمخشري أليقُ.
لا يقال: لا حاجة إلى تقدير نسقيكم، بل قوله: «ومِنْ ثَمراتِ» عطف على قوله: «ممَّا في بُطونهِ» فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض؛ كما تقول: سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك: من العسل.
لا يقال ذلك؛ لن «نُسْقِيكُمْ» الملفوظ به وقع تفسير ل «عِبْرَة» الأنعام، فلا يليق تعلُّق هذا به؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام.
قال أبو حيان: وقيل: متعلق ب «نُسْقِيكُمْ» فيكون معطوفاً على ممَّا في بُطونهِ «أو: ب» نسقيكم «محذوفة دلَّ عليها» نُسْقِيكُمْ «انتهى.
ولم يعقبه تنكير، وفيه ما تقدَّم.
106
الثاني: أنه متعلق ب» تتَّخذُونَ «، و» مِنْهُ «تكرير للظرف توكيداً؛ نحو: زيْدٌ في الدَّار فيها، قاله الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وعلى هذا فالهاء في» مِنْهُ «فيها ستَّة أوجه:
أحدها: أنها تعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير؛ كما رجع في قوله تعالى:
﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] إلى الأهل المحذوف.
الثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأنها بمعنى الثَّمر.
الثالث: أنها تعود على النَّخيل.
الرابع: أنها تعود على الجنس.
الخامس: أنها تعود على البعض.
السادس: أنها تعود على المذكور.
الوجه الثالث من الأوجه الأول: أنه معطوف على قوله: «فِي الأنعَام»
فيكون في المعنى خبراً عن اسم إنَّ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً﴾ التقدير: وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة، ويكون قوله: «تَتَّخِذُون» بياناً وتفسيراً للعبرة، كما وقع «نُسْقِيكُمْ» تفسيراً لها أيضاً.
الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، فقدَّره الطبري: ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون.
قال أبو حيان: «وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين».
قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليست «ما» هذه موصولة، بل نكرة موصوفة، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة؛ لأنَّ في الكلام «مِنْ»، ومتى كان في الكلام «مِنْ» اطرد الحذف، نحو: «مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ» ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى -: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، أي: إلاَّ من له مقام معلوم، قال: فحذفت «مَنْ» لدلالة «مِنْ» عليها في قوله: «ومَا منَّا إلاَّ لهُ».
ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف، قدره: «ثمر تتَّخذون منه» ؛ ونظَّره بقول الشاعر: [الرجز]
٣٣٣٩ - يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ... تقديره: بكفَّي رجلٍ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ؛ لعدم «مِنْ».
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه؛ قال: «وقيل: هو صفة لمحذوفٍ تقديره: شيئاً تتخذون منه بالنصب، أي: وإن من ثمرات النَّخيل وإن شئت» شيءٌ «- بالرفع - على الابتداء، و» مِنْ ثمراتِ «خبره».
107
قال الواحدي: «و» الأعْنابِ «عطف على الثَّمرات لا على» النَّخيل «؛ لنَّه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى».
والسَّكرُ: بفتحتين فيه أقوال:
أحدها: أنه من أسماء الخمر؛ كقول الشاعر: [البسيط]
٣٣٤٠ - بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم... إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ
الثاني: أنه في الأصل مصدر، ثم سمِّي به الخمر، يقال: سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً؛ نحو: رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣٣٤١ - وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا... فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي
قاله الزمخشري.
الثالث: أنه اسم للخلِّ بلغة الحبشة؛ قاله ابن عبَّاس.
الرابع: أنه اسم للعصير ما دام حلواً؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمىله لذلك لو ترك.
الخامس: أنه اسم للطعم، قاله ابو عبيدةح وأنشد: [الرجز}
٣٣٤٢ - جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا... أي: تنقلتُ بأعراضهم.
وقيل في البيت بأنه من الخمر، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس كان يخمر بها.
وقال الضحاك والنَّخعي ومن يبيحُ شرب النبيذ: السَّكر هو النبيذ؛ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ، والمطبوخ من العصير.
ومن حرَّمه يقول: المراد من الآية: الإخبار لا الإحلال.
قوله: ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ يجوز أن يكون من عطف المتغايرات، وهو الظاهر؛ كما قال المفسرون: إنه كالزَّبيب والخلِّ والدِّبس ونحو ذلك وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: تتَّخذون منه ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن؛ كقوله: [المتقارب]
٣٣٤٣ -... -
108
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام
...................... فصل
ذهب ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد إلى أن السَّكر الخمر، والرزق الحسن الخلُّ والربُّ والتَّمر والزَّبيب.
قالوا: وهذا قبل تحريم الخمر؛ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة.
قال بعضهم: ولا حاجة إلى التزام النَّسخ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها؛ لأنها من أشربتهم، فهي منفعة في حقِّهم.
ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة، فوجب أن يقال: بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة.
ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر - قال - جل ذكره -: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي: من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى -، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم.
109
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ ﴾، والعِبرةُ : العِظةُ.
قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي :" نُسْقِيكمْ "، بضمِّ النون هنا، وفي المؤمنين. والباقون١ : بفتح النون فيهما.
وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة، كأنه قيل : كيف العبرة ؟ فقيل : نسقيكم من بين فرثٍ، ودم لبناً خالصاً، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ، [ مضمر ]٢، والجملة جواب لذلك السؤال، أي : هي، أي : العبرة نسقيكم، ويكون كقوله :" تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ ".
واختلف النَّاس : هل سَقَى، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ، أم بينهما فرقٌ ؟.
خلافٌ مشهورٌ، فقيل : هما بمعنى واحد، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال :[ الوافر ]
سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال٣
دعى للجميع بالسقي، والخصب، و " نُمَيْراً "، هو : المفعول الثاني، أي : ما نميراً، وقال أبو عبيدة : من سقى الشفة :" سقى " فقط، ومن سقى الشجر والأرض :" أسقى "، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها : أسقى فقط.
وقال الأزهري٤ - رحمه الله- : العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام، ومن السَّماء، أو نهر يجري أسقيته، أي : جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى، فإذا كان للمنفعة قالوا :" سَقَى "، ولم يقولوا :" أسْقَى ".
وقال الفارسيُّ٥ :" سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً، جَعَلتهُ لَهُ شرباً ".
وقيل : سقاهُ، إذا ناوله الإناء ؛ ليشرب منه، ولا يقال من هذا أسقاه.
وقرأ أبو٦ رجاء :" يُسْقِيكُمْ "، بضمِّ الياء من أسفل، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : هو الله - تعالى-.
والثاني : أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام، أي : نعماً يجعل لكم سقياه.
وقرئ٧ :" تَسْقِيكُمْ "، بفتح التاء من فوق. قال ابن عطيَّة : وهي ضعيفة.
قال أبو حيَّان٨ :" وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في :" نُسقِيكُم "، وذكر في قوله :" ممَّا في بطُونهِ "، ولا ضعف من هذه الجهة ؛ لأنَّ التَّذكير، والتَّأنيث باعتبارين ".
قال شهابُ الدِّين : وضعفها عنده من حيث المعنى، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام.
قوله :﴿ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾، يجوز أن تكون " مِنْ "، للتبعيض، وأن تكون لابتداء الغاية، وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً.
قال الزمخشريُّ : ذكر سيبويه، الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم " ثَوْب أسْمَال "، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأمَّا ﴿ فِي بُطُونِهَا ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ] في سورة المؤمنين، فلأنَّ معناه الجمع، ويجوز أن يقال في " الأنعام " وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع تكسير :" نَعَم "، كأجْبَال في جَبَل.
وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ، فإذا ذكر، فكما يذكر " نَعَم " في قوله :[ الرجز ]
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ٩
وإذا أنَّث، ففيه وجهان : أنه تكسير " نعم "، وأنه في معنى الجمع.
قال أبو حيَّان : أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه، ففي كتابه في هذا الباب، ما كان على مثال مفاعل، ومفاعيل ما نصُّه :" وأمَّا أجمال، وفلوس فإنَّها تنصرف، وما أشبهها ؛ لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول : أقْوَال، وأقَاوِيل، وأعْرَاب، وأعَارِيب، وأيْدٍ، وأيَادٍ، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال : مفَاعِل، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد، إذا كسر الجمع، وأما مفاعل، ومفاعيل، فلا يكسر ؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء ؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت ".
ثمَّ قال : وكذلك الفعول لو كسرت، مثل الفلوس ؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل، كما تقول : جَدُود، وجَدائِد، ورَكُوب، ورَكائِب، وركاب.
ولو فعلت ذلك بمفاعل، ومفاعيل، لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول :" أُتي "، للواحد فيضم الألف، وأمَّا أفعال ؛ فقد تقع للواحد، من العرب من يقول :" هو الأنعامُ "، قال - الله عزَّ وجلَّ- :﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾. وقال أبو الخطَّاب : سمعت من العرب من يقول : هذا ثوب أكياش.
قال : والذي ذكره سيبويه١٠ : هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع، من حيث إنَّ مفاعل، ومفَاعِيل لا يجمعان، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا، ولم ينصرف " مفاعل " و " مفاعيل " ؛ لشبه ذينك بالمفرد، من حيث إنه يمكن جمعها، وامتناع هذين من الجمع، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد، بأن بعض العرب يقول في :" أَتى " " أُتى "، بضم الهمزة، يعني : أنه قد جاء نادراً فعول، من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير، فيقول : هو الأنعامُ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز ؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم، والنَّعَم يفرد ؛ كما قال الشاعر :[ الوافر ]
تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعَمَ المفدَّى *** وقُلْنَا للنِّساءِ بها : أقِيمِي١١
ولذلك قال سيبويه :" وأمَّا أفعال فقد يقع للواحد " فقوله :" قد يقع للواحد "، دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع، فقول الزمخشريُّ :" إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال "، تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدلُّ على ما قلناه : أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة، نص على أنَّ " أفعالاً " ليس من أبنيتها.
قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة :" وليس في الكلام أفعيل، ولا أفْعَول، ولا أُفْعَال، ولا أفْعِيل، ولا أفعالُ، إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع "، قال :" فهذا نصٌّ منه على أنَّ : أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة ".
قال شهاب الدِّين١٢ : الَّذي ذكره الزمخشريَّ، وهو ظاهر عبارة سيبويه، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده، ولم يحرِّف لفظه، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده.
وقيل : إنَّما ذكر الضمير ؛ لأنه يعود على البعض، وهو الإناثُ ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها، والعبرة إنَّما هي في بعض الأنعام.
وقال الكسائي - رحمه الله - :" أي في بطون ما ذُكِر ".
قال المبرِّد : وهذا سائغ في القرآن، قال تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ [ عبس : ١١، ١٢ ]، أي : هذا الشيء الطَّالع، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي.
ولا يجوز : جاريتك ذهب، وغلامك ذهبت، وعلى هذا خرج قوله :[ الرجز ]
فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ١٣
أي : كأن المذكور.
وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل، يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع.
ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين، اعتبر معنى الجماعة، ومن الأوَّل قول الشَّاعر :[ الرجز ]
مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه١٤ ***، وقيل : لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد، يُفهم الجمع فإنه يسد مسده " نعم "، ونعم يفهم الجمع ؛ ومثله قول الشاعر :[ الرجز ]
وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد١٥ ؛ لأنه يسد مسدَّها " لبن ".
ومثله قولهم : هو أحسن الفتيان، وأجمله، أي : أحسن فتى، إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه.
وذكر أبو البقاء١٦ ستَّة أوجهٍ، تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة، والسادس : أنه يعود على الفحل ؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة، فأصل اللَّبن من الفحل.
قال :" وهذا ضعيف ؛ لأنَّ اللبن، وإن نسب إلى الفحل، فقد جمع البطون، وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً، ولا للواحد بطون، فإن قيل : أراد الجنس، فقد ذكر ".
يعني : أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ، المراد به الجنس، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رحمه الله -، ولم يعقبه بنكير.
قال القرطبي١٧ : واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير : أن لبن الفحل يقبل التَّحريم.
وقال : إنَّما جيءَ به مذكَّراً ؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النَّعم ؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم، بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رضي الله عنها - في حديث :" أفْلحَ أخي أبِي القعيس، فلِلمَرْأةِ السَّقيُ، وللرَّجُلِ اللِّقاحُ ".
قوله :﴿ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ﴾، يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنَّه متعلق بالسّقي، على أنَّها لابتداء الغاية، فإن جعلنا ما قبلها كذلك، تعين أن يكون : مجرورها بدلاً من مجرور " من " الأولى، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [ بمعمول ]١٨ واحد، وهو ممتنع، إلا في بدل الاشتمال ؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر.
الثاني : أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من " لَبناً "، إذ لو تأخَّرت، لكانت مع مجرورها نعتاً. قال الزمخشريُّ :" وإنَّما قدِّم ؛ لأنه موضع العِبرة، فهو قمنٌ بالتَّقدم ".
الثالث : أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها.
والفَرْثُ : فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء، ويقال : فرث كبده، أي : فتَّتها، وأفرث فلانٌ فلاناً ؛ أوقعه في بليَّة، يجرى مجرى الفرث.
روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال :" إذا استقرَّ العلف في الكرش، صار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لبناً، فيجري الدَّمُ في العروقِ، واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث كما هو " ١٩.
قوله :" لَبَناً " هو المفعول الثاني للسَّقي.
وقرئ٢٠ :" سَيِّغاً "، بتشديد الياءِ، بزنة " سَيِّد "، وتصريفه كتصريفه. وخفف عيسى بن عمر، نحو " مَيْتٍ "، و " هَيْنٍ "، ولا يجوز أن يكون فعلاً، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول.
ومعنى :" سَائغاً للشَّاربينَ "، أي : هنيئاً يجري بسهولة في الحلق، وقيل : إنه لم [ يشرق ]٢١ أحدٌ باللَّبن قطُّ.

فصل :


قال ابن الخطيب٢٢ : اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان البتَّة في الكرشِ، والدَّليلُ عليه الحسُّ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً، ولا لبناً، ولو كان تولد الدَّم، واللَّبن في الكرش ؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده ؛ لم يجز المصير إليه، بل الحق أنَّ الحيوان إذا تناول الغذاء، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ، وحصل الهضمُ الأول فيه، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً، نزل إلى الأمعاء
١ ينظر: السبعة ٣٧٤، والنشر ٢/٣٠٤، والحجة ٣٩١، والإتحاف ٢/١٨٦، والقرطبي ١٠/٢٨٢، والبحر ٥/٤٩٢، والدر المصون ٤/٣٤١..
٢ في ب: محذوف..
٣ تقدم..
٤ ينظر: تهذيب اللغة ٩/٢٢٨..
٥ ينظر: الحجة ٥/٧٤ ـ ٧٥..
٦ ينظر: البحر ٥/ ٤٩٢، والدر المصون ٤/٣٤١..
٧ وهي قراءة أبي جعفر ينظر: الإتحاف ٢/١٨٦، والنشر ٢/٣٠٤، والبحر ٥/٤٩٢ والقرطبي ١٠/٨٢. والدر المصون ٤/٣٤١..
٨ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٩٢..
٩ البيت لقيس بن حصين الحارثي.
ينظر: الكتاب ١/٦٥، الخزانة ١/١٩٦، اللسان (نعم)، العيني ١/٥٢٨، إعراب القرآن للنحاس ٢/٤٠٢، الإنصاف ١/٦٢، مجاز القرآن ١/٣٦٢، المخصص ١٧/١٩، الكشاف ٢/٦١٥، الطبري ١٤/١٣٢، التهذيب ١٣/١٣، حاشية الشهاب ٥/٣٤٦ البحر المحيط ٥/٤٩٣، الدر المصون ٤/٣٤٢..

١٠ ينظر: الكتاب ٢/١٦..
١١ ينظر: شرح الجمل لابن عصفور ٢/٣٩٦، المقرب ١/٣٠٣، روح المعاني ١٤/١٧٦، الدر اللقيط بهامش البحر ٥/٥٠٨، البحر المحيط ٥/٤٩٣، الألوسي ١٤/١٧٦، الدر المصون ٤/٣٤٢..
١٢ ينظر: الدر المصون ٤/٣٤٢..
١٣ تقدم..
١٤ ينظر: معاني الفراء ١/١٣٠، ٢/١٠٩، ١٣٠، رسالة الغفران ٢/٤١٦، الألوسي ١٤/١٧٧، المحتسب ٢/١٥٣، شواهد المغني للبغدادي ٨/٤٨، المسائل البصريات ١/٣٦٨، مجالس ثعلب ١٠٣ البحر المحيط ٥/٤٩٢، القرطبي ١٠/٨٢، تفسير الطبري ١٣/١٣٢، الدر المصون ٤/٣٤٣..
١٥ تقدم..
١٦ ينظر: الإملاء ٢/٨٣..
١٧ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٠/٨٢..
١٨ في ب: بعامل..
١٩ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٥٢ ـ ٥٣)..
٢٠ ينظر: المحتسب ٢/١١، والشواذ ٧٣، والمحرر ٨/٤٥٧، والبحر ٥/٤٩٤، والدر المصون ٤/٣٤٣..
٢١ في أ: يغص..
٢٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٥٣..
قوله :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل ﴾، فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوف، فقدَّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب، أي : من عصيرها ؛ وحذف لدلالة " نُسْقِيكُمْ "، قبله عليه قال :" وتتَّخِذون : بيان وكشف عن كيفية الإسقاء ".
وقدَّره أبو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم. وما قدَّره الزمخشري أليقُ.
لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم، بل قوله :" ومِنْ ثَمراتِ "، عطف على قوله :" ممَّا في بُطونهِ "، فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض ؛ كما تقول : سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك : من العسل.
لا يقال ذلك ؛ لأن " نُسْقِيكُمْ " الملفوظ به، وقع تفسير ل " عِبْرَة " الأنعام، فلا يليق تعلُّق هذا به ؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام.
قال أبو حيان١ : وقيل : متعلق ب " نُسْقِيكُمْ "، فيكون معطوفاً على " ممَّا في بُطونه " " أو : ب " نسقيكم "، محذوفة دلَّ عليها :" نُسْقِيكُمْ " انتهى.
ولم يعقبه تنكير، وفيه ما تقدَّم.
الثاني : أنه متعلق ب " تتَّخذُونَ "، و " مِنْهُ " تكرير للظرف توكيداً ؛ نحو : زيْدٌ في الدَّار فيها، قاله الزمخشري٢ - رحمه الله تعالى - وعلى هذا، فالهاء في :" مِنْهُ "، فيها ستَّة أوجه :
أحدها : أنها تعود على المضاف المحذوف، الذي هو : العصير ؛ كما رجع في قوله تعالى :﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ]، إلى الأهل المحذوف.
الثاني : أنها تعود على معنى الثمرات ؛ لأنها بمعنى : الثَّمر.
الثالث : أنها تعود على النَّخيل.
الرابع : أنها تعود على الجنس.
الخامس : أنها تعود على البعض.
السادس : أنها تعود على المذكور.
الوجه الثالث من الأوجه الأول : أنه معطوف على قوله :" فِي الأنعَام "، فيكون في المعنى خبراً عن اسم " إنَّ " في قوله - عز وجل- :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً ﴾، التقدير : وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة، ويكون قوله :" تَتَّخِذُون "، بياناً وتفسيراً للعبرة، كما وقع :" نُسْقِيكُمْ "، تفسيراً لها أيضاً.
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، فقدَّره الطبري : ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون.
قال أبو حيان٣ :" وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين ".
قال شهاب الدين٤ : وفيه نظر ؛ لأنَّ له أن يقول : ليست " ما " هذه، موصولة، بل نكرة موصوفة، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة ؛ لأنَّ في الكلام " مِنْ "، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطرد الحذف، نحو :" مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ " ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى - :﴿ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الصافات : ١٦٤ ]، أي : إلاَّ من له مقام معلوم، قال : فحذفت :" مَنْ "، لدلالة " مِنْ " عليها في قوله :" ومَا منَّا إلاَّ لهُ ".
ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف، قدره :" ثمر تتَّخذون منه " ؛ ونظَّره بقول الشاعر :[ الرجز ]
يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ٥ *** تقديره : بكفَّي رجلٍ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ ؛ لعدم " مِنْ ".
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه ؛ قال :" وقيل : هو صفة لمحذوفٍ تقديره : شيئاً تتخذون منه بالنصب، أي : وإن من ثمرات النَّخيل، وإن شئت " شيءٌ "، - بالرفع - على الابتداء، و " مِنْ ثمراتِ "، خبره ".
قال الواحدي :" و " الأعْنابِ " عطف على الثَّمرات، لا على " النَّخيل " ؛ لأنَّه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة، وليس له ثمرة أخرى ".
والسَّكرُ : بفتحتين فيه أقوال :
أحدها : أنه من أسماء الخمر ؛ كقول الشاعر :[ البسيط ]
بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم *** إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ٦
الثاني : أنه في الأصل مصدر، ثم سمِّي به الخمر، يقال : سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ؛ نحو : رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا *** فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي٧
قاله الزمخشري.
الثالث : أنه اسم للخلِّ، بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عبَّاس.
الرابع : أنه اسم للعصير، ما دام حلواً ؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمى له لذلك لو ترك.
الخامس : أنه اسم للطعم، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد :[ الرجز }
جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا٨ *** أي : تنقلتُ بأعراضهم.
وقيل في البيت بأنه من الخمر، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس، كان يخمر بها.
وقال الضحاك، والنَّخعي، ومن يبيحُ شرب النبيذ : السَّكر، هو : النبيذ ؛ وهو : نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ، والمطبوخ من العصير٩.
ومن حرَّمه، يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال.
قوله :﴿ وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾، يجوز أن يكون من عطف المتغايرات، وهو الظاهر ؛ كما قال المفسرون : إنه كالزَّبيب، والخلِّ، والدِّبس، ونحو ذلك، وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي : تتَّخذون منه، ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن ؛ كقوله :[ المتقارب ]
٣٣٤٣ *** - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام١٠
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فصل
ذهب ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد إلى أن السَّكر : الخمر، والرزق الحسن : الخلُّ، والربُّ، والتَّمر، والزَّبيب١١.
قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر ؛ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة.
قال بعضهم : ولا حاجة إلى التزام النَّسخ ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها ؛ لأنها من أشربتهم، فهي منفعة في حقِّهم.
ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها ؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً ؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة، فوجب أن يقال : بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة.
ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه، الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر، - قال - جل ذكره- :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، أي : من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى -، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٩٤..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٦١٦..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٩٤..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٣٤٤..
٥ تقدم..
٦ البيت للأخطل. ينظر: ديوانه ١١٠، القرطبي ١٠/٨٥، تفسير الماوردي ٢/٣٩٨، التهذيب ١٣/١٧٦، روح المعاني ١٤/١٧٩، اللسان والتاج والصحاح (سكر)، الأغاني ١٠/٤، البحر المحيط ٥/٤٩٥، الدر المصون ٤/٣٤٥..
٧ البيت لغني بن مالك العقيلي. ينظر: اللسان (سكر)، شواهد الكشاف ٤/٤١٧، البحر المحيط ٥/٤٨٥، الألوسي ١٤/١٧٩، الدر المصون ٤/٣٤٥..
٨ وروي البيت: جعلت عيب الأكرمين سكرا.
والبيت لجندل بن المثنى الطهوي. ينظر: مجاز القرآن ١/٣٦٣، اللسان (سكر)، زادة ٣/١٨٧، البيضاوي ٣/١٨٧، إعراب القرآن للزجاج ٣/٢٠٩، الخازن ٤/١٠٠، التاج (سكر)، البحر المحيط ٥/٤٩٥، الكشاف ٢/٤١٧، الطبري ١٤/٨٤، القرطبي ١٠/٨٥، الدر المصون ٤/٣٤٥..

٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦١١) عن مجاهد والشعبي..
١٠ تقدم..
١١ ينظر: تفسير البغوي (٣/٧٥)..
قوله تعالى ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ الآية لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً
109
مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود.
اعلم أنه - تعالى - قال: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ يقال: وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام، والمعنى: أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه:
الأول: أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل: المسطرة والبيكار.
الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة باشكال سوى المسدَّسات، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب.
الثالث: أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه، وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع: أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة، ليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾.

فصل


قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الوحي يردُ على ستَّة أوجه:
الأول: الرِّسالة؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٣]، أي: أرسلنا إليك.
الثاني: الإلهام؛ قال - تعالى -: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨].
الثالث: الإيماءُ، قال - تعالى -: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ﴾ [مريم: ١١] أي: أومأ إليهم.
الرابع: الكتابة، قال - تعالى -: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] أي: يكتبون إليهم.
الخامس: الأمر، قال - تعالى -: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥]، أي: أمرها.
السادس: الخلق، قال - تعالى -: ﴿وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: ١٢]، أي: خلق.
110
قال القرطبي: الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ؛ قال - تعالى -: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧، ٨] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها، واجتناب مضارِّها، وتدبير معاشها، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال:
﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٤، ٥].
واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١]، وفي حقِّ الأولياء؛ قال - تعالى -: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين﴾ [المائدة: ١١١] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر؛ قال - تعالى -: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ.
قال الزجاج: يجوز أن يقال: سمِّي هذا الحيوان نحلاً؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقال غيره: النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس، فالتأنيث فيها لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء.
وقرأ ابن وثَّاب: «النَّحَل» بفتح الحاء، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة، وأن يكون إتباعاً.
قوله «أن اتَّخذِي» يجوز أن تكون مفسِّرة، وأن تكون مصدريَّة.
واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة، قال: لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه.
وفيه نظر؛ لأن القول لكل شيء بحسبه.
و «مِنَ الجِبَالِ» «من» فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر، وتقدَّم القول في «يَعْرِشُون» ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف.
والمراد ب «ممَّا يَعْرِشُونَ» ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها، وقرئ: «بِيُوتاً» بكسر الباء.

فصل


اعلم أن النَّحل نوعان:
أحدهما: ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس.
والثاني: ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس، فالأول هو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر﴾.
111
والثاني هو المراد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ وهو خلايا النحل، واختلفوا فيه.
فقال بعضهم: لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه.
وقال آخرون: المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى -: ﴿يا أيها النمل﴾ [النمل: ١٨] إن شاء الله - تعالى -.
ثم قال - تعالى -: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات﴾ «مِنْ» هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٢٣] أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب: رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول: هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل.
ومنهم من يقول: إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبداناه عسلاً، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى؛ فذلك هو العسل.
والأول أقربُ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، فكذلك ههنا، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء، وإذا كان ذلك، فقوله: «مِنْ كلِّ الثَّمراتِ» أن «مِنْ» هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض.
قوله: ﴿فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ﴾ أي: إذا أكلت من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك.
قوله تعالى: «ذُلُلاً» جمع ذَلُول، ويجوز أن يكون حالاً من السبل، أي: ذلَّلها لها
112
الله - تعالى -؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً﴾ [الملك: ١٥] وأن يكون حالاً من فاعل «اسْلُكِي»، أي: مطيعة منقادة، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.
وانتصاب «سُبُل» يجوز أن يكون على الظرفية، أي: فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا، وأن يكون مفعولاً به أي: اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل.
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا﴾ التفات وإخبار بذلك، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره.
واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ، فذلك هو العسل فظاهرٌ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه، فالمراد من قوله: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا﴾، أي: من أفواهها، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، كقولهم: بُطونُ الدِّماغِ، أي: تجاويف الدماغ، فكذا قوله - تعالى - ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا﴾ أي: من أفواهها.
قوله: ﴿شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ أنَّه تارة يشرب وحده، وتارة نتَّخذ منه الأشربة، و ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ أبيض وأحمر وأصفر.
وقوله - تعالى -: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾، أي: في العسل.
روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسْقِه عَسَلاً، فَسَقاهُ، ثمَّ جَاءَ فقال: إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً، رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ اخِيك، فَسقاهُ فَبَرأ «.
وقال عبد الله بن مسعود:»
العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ «.
فإن قيل: كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار؟.
فالجواب: أنه - تعالى - لم يقل: إنه شفاءٌ لكلِّ الناس وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة: أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما
113
يحصل بالعجن بالعسل، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع.
وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بقوله - تعالى -: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾ القرآن؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -:» عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ: العَسلِ والقُرآنِ «.
وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله: ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾، ثم ابتدأ وقال: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾ أي: في هذا القرآن.
وهذا القول ضعيف؛ لما تقدم من الحديث؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وهو الشَّراب، وأما عوده إلى غير مذكور، فلا يناسب.
فإن قيل: ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:»
وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ «
؟. فالجواب: لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة.
قوله - تعالى -: ﴿والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية.
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب:
أولها: سنُّ النشوء والنَّماء.
وثانيها: سن الوقوف وهو سنُّ الشباب.
وثالثها: سن الانحطاط القليل، وهو سنُّ الكهولة.
114
ورابعها: الانحطاط الكبير، وهو سن الشيخوخة.
فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال: ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ عند قضاء آجالكم صبياناً، أو شباباً، أو كهولاً أو شيوخاً.
﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾، أي: أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١] وقوله - تعالى -: ﴿إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ [هود: ٢٧].
قال مقاتل: يعني الهرم. وقال قتادة: تسعون سنة.
وقيل: ثمانون سنة.
قيل: هذا مختصٌّ بالكافر؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر؛ لقوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [التين: ٥، ٦]، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين.
وقال عكرمة: من قرأ القرآن، لم يردَّ إلى ارذل العمر.
قوله: «لِكَيْلا» في هذه اللاَّم وجهان:
أحدهما: أنَّها لام التعليل، و «كَيْ» بعدها مصدرية ليس إلا وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام، واللام متعلقة ب «يُرَدُّ».
قال الحوفيُّ: إنها لام «كَيْ»، و «كَيْ: للتأكيد.
وفيه نظر؛ لأنَّ اللام للتَّعليل و»
كَيْ «بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه، وأيضاً فعملها مختلف.
والثاني: أنها لام الصَّيرورة.
قوله:»
شَيْئاً «يجوز فيه التنازع؛ لأنه تقدمه عاملان: يعلمُ وعِلْم، أي: الفعل والمصدر، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب» عِلْمٍ «وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب» يَعْلمَ «.
وهو مردود؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني، فيقال: لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً.
ومعنى الآية: لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً، إن الله عليم قدير.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه،»
قَدِيرٌ «على ما يريد.
115

فصل


هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً، ثمَّ أوجده الله، ثم أعدمه مرَّة ثانية، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً، وأيضاً: كان ميّتاً حين كان نطفة، ثم صار حيًّا، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً، كان عود الموت جائزاً؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية، وأيضاً الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً، ثم صار عالماً عاقلاً، فلما بلغ أرذل العمر، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده، وعود حياته، وعود عقله مرَّة أخرى، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ.
قوله
: ﴿والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق﴾ الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسَّر له ذلك، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ينفتح عليه أبواب الدنيا، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله، فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام؛ كما قال - تعالى -: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ [الزخرف: ٣٢] وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك.
قوله: ﴿فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ فيه قولان:
الأول: أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى -، والمعنى: إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم.
والحاصل: أن الرَّزاق هو الله - تعالى -، وأن المالك لا يرزق العبد؛ وتحقيق القول فيه: أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً، وأقوى جسماً، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله؛ كما قال
116
جل ذكره -: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٢٦].
الثاني: أن المراد من الآية: الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ -، وعلى هذا القول ففيه وجهان:
الأول: أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام؛ كأنه قيل: إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية.
والثاني: قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران، حين قالوا: إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله»، والمعنى: أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية؟.
قوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ في هذه الجملة أوجه:
أحدها: أنَّها على حذف أداة الاستفهام، تقديره: أفهم فيه سواء، ومعناه النفي، أي: ليسوا مستوين فيه.
الثاني: أنها إخبار بالتَّساوي، بمعنى أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواءٌ.
الثالث: قال ابو البقاء: إنَّها واقعة موقع الفعل، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين:
أحدهما: أنه منصوب في جواب النَّفي، تقديره: فما الَّذين فضَّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم، فيستووا.
الثاني: أنه معطوفٌ على موضع «بِرَادِّي» فيكون مرفوعاً، تقديره: فما الذين فضِّلوا يردُّون، فما يستوون.
قوله: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾ [فيه وجهان:
أحدهما: لا شبهة في أن المراد من قوله ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾ الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
الثاني] : الباء في قوله: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله﴾ يجوز أن تكون زائدة؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء؛ كما تقول: خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر، فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «تَجْحَدُونَ» بالخطاب؛ لقوله: «بَعضَكُم»
117
و «خَلقَكُمْ»، والباقون بالغيبة؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ﴾ وقوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لقرب المخبر عنه، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة، وهذا إنكار على المشركين.
فإن قيلك كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله - تعالى -، فالمثبت له شريكاً، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات، فكان جاحداً لكونها من عند الله، وأيضاً فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله.
الثاني: قال الزجاج: إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند ذلك قال: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾ في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات «يَجْحدُونَ».
قوله: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ الآية هذا نوع آخ رمن أحوال الناس استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم، وهذا الخطاب للكلِّ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل، والمعنى: أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور، ومعنى «مِنْ أنْفُسِكُمْ» كقوله - تعالى -:
﴿فاقتلوا
أَنفُسَكُمْ﴾
[البقرة: ٥٤] وقوله: ﴿فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، أي: بعضكم بعضاً؛ ونظيره: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ [الروم: ٢١].
قال الأطباء وأهل الطبيعة: المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان الولدُ ذكراً تامًّا، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور.
وحاصل كلامهم: أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة، وهذه العلَّة ضعيفة، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك، لامتنع ذلك؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم.
قوله: «وَحفَدةً» فيه أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على «بَنِينَ» بقيد كونه من الأزواج، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد.
118
الثاني: أنه من عطف الصفات لشيء واحد، أي: جعل لكم بنين خدماً، والحفدة: الخدم.
الثالث: أنه منصوب ب «جَعَلَ» مقدَّرة، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار، وإنما احتيج إلى تقدير «جَعَلَ» ؛ لأن «جَعَلَ» الأولى مقيَّدة بالأزوا، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج، والحفدة: جمع حافدٍ؛ كخادمٍ وخَدم.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويقال في جمعه: الحفد بغير هاءٍ؛ كما يقال: الرَّصد، ومعنى الحفدة في اللغة: الأعوان والخدم».
وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة، واشتقاقهم من قولهم: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطَّاعة، وفي الحديث: «وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ»، أي: نُسرع في طَاعتِكَ؛ وقال الآخر: [الكامل]
٣٣٤٤ - حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ
ويستعمل «حَفَدَ» أيضاً متعدياً؛ يقال: حَفدنِي فهو حافدٌ؛ وأنشد أيضاً: [الرمل]
٣٣٤٥ - يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال: أحفد رباعيًّا، وقال بعضهم: الحَفدةُ الأصهارُ؛ وأنشد: [الطويل]
٣٣٤٦ - فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ
ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ عَيُوفٌ لإصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ
ويقال: سَيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع؛ وقال الأصمعي: أصل الحفد مقاربة الخُطَى.
قوله: ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات﴾ ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية، و «مِنْ» في «مِنَ الطَّيباتِ» للتبعيض.
ثم قال ﴿أفبالباطل يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني: بالأصنام وقال
119
مقاتل: يعني: بالشيطان، وقال عطاء: يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً.
﴿وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ أي: بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله، وقيل: يكفرون بالتَّوحيد والإسلام.
وقيل: يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم؛ مثل: البَحيرَة والسَّائبةِ والوَصِيلَة والحَامِ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم، وهي الميتة ولحم الخنزير ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣]، أي: يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة.
قوله - تعالى -: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً﴾ الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام؛ قال ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات﴾ يعني: المطر والأرض، ويعني النَّبات والثِّمار.
قوله تعالى: ﴿مِّنَ السماوات﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «يَمْلِكُ»، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب «شَيْئاً».
الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رِزْقاً».
الثالث: أن يتعلق بنفس «رِزْقاً» إن جعلناه مصدراً.
وقال ابن عطية - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً -: والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق؛ لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر: [المتقارب]
٣٣٤٧ - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ......................
وقوله: [الطويل]
٣٣٤٨ -................................ فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا
120
قال أبو حيَّان: أما قوله: «باتِّفاقٍ» إن عنى به من البصريين، فصحيحٌ، وإن عنى به من النَّحويين، فليس بصحيح؛ إذْ قد ذهب بعضهم غلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً، وأما قوله: «في تقدير الانفصال» فليس كذلك، إلا أن تكون إضافته غير محضة؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان، ومذهبهما فاسد؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة، وقوله: «لا يعمل... إلى آخره» ناقضه بقوله: «وقد جاء عاملاً... إلى آخره».
قال شهاب الدِّين: فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره، وأمَّا المناقضة، فليست صحيحة؛ لأنه عنى أولاً أنَّه لا يعمل في السَّعة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: «في قول الشَّاعر».
قوله: «شَيْئاً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: انه منصوبٌ على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك.
والثاني: أنه بدلٌ من «رِزْقاً» أي: لا يملك لهم رزقاً شيئاً، وهذا غير مقيَّد؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء، ويؤيِّد ذلك أن اببدل يأتي لأحد معنيين: البيان أو التَّأكيد، وهذا ليس فيه بيان؛ لأنه أعمٌّ، ولا تأكيد.
الثالث: أنه منصوب ب «رِزْقاً» على أنه اسمُ مصدر، واسم المصدر يعمل عمل المصدر، على خلاف في ذلك.
ونقل مكِّي: أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين؛ فمنهم من نقل المنع، ومنهم من نقل الجواز.
وقد ذكر الفارسي انتصابه ب «رِزْقاً» كما تقدَّم.
ورد عليه ابن الطراوة: بأن الرِّزق اسم المرزوق، كالرِّعي، والطحن. وردَّ على ابن الطراوة؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر، وقد سمع فيه ذلك، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ يجوز في الجملة وجهان:
العطف على صلة «مَا»، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف، ويكون قد جمع الضمير العائد على «مَا» باعتبار معناها؛ إذ المراد بذلك آلهتهم.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين.
فإن قيل: قال - تعالى -: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ﴾ فعبَّر عن الأصنام بصيغة «ما» وهي لغير العاقل، ثم جمع بالواو والنون فقال: «ولا يَسْتَطِيعُون»، وهو مختص بأولي العلم.
121
فالجواب: أنه عبَّر عنها بلفظ «مَا» اعتباراً باعتقادهم أنَّا آلهة، والفائدة في قوله: «ولا يَسْتَطِيعُونَ» أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك.
ثم قال - تعالى -: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال﴾ يعني: الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى -.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ يعني: أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال، وحذف مفعول العلم اختصاراً أو اقتصاراً.
122
ثم قال - تعالى - :﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات ﴾ " مِنْ " هنا للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات ؛ فهو كقوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النحل : ٢٣ ]، أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول : هو الذي ألهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل.
ومنهم من يقول : إنَّ النَّحل تأكل من الأزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلاً، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى ؛ فذلك هو العسل.
والأول أقربُ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، فكذلك ههنا، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل ؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار ؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء، وإذا كان ذلك، فقوله :" مِنْ كلِّ الثَّمراتِ "، أن " مِنْ " هنا ؛ لابتداء الغاية لا للتبعيض.
قوله :﴿ فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ﴾، أي : إذا أكلت من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك.
قوله تعالى :" ذُلُلاً " جمع ذَلُول، ويجوز أن يكون حالاً من السبل، أي : ذلَّلها لها الله - تعالى - ؛ كقوله - عز وجل - :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً ﴾ [ الملك : ١٥ ] وأن يكون حالاً من فاعل " اسْلُكِي "، أي : مطيعة منقادة، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت.
وانتصاب " سُبُل " يجوز أن يكون على الظرفية، أي : فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا، وأن يكون مفعولاً به، أي : اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل.
قوله :﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا ﴾، التفات وإخبار بذلك، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره.
واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ، فذلك هو العسل فظاهرٌ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه، فالمراد من قوله :﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا ﴾، أي : من أفواهها، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، كقولهم : بُطونُ الدِّماغِ، أي : تجاويف الدماغ، فكذا قوله - تعالى - ﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا ﴾ أي : من أفواهها.
قوله :﴿ شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، أنَّه تارة يشرب وحده، وتارة نتَّخذ منه الأشربة، و ﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، أبيض وأحمر وأصفر.
وقوله - تعالى- :﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾، أي : في العسل.
روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :" جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِه عَسَلاً، فَسَقاهُ، ثمَّ جَاءَ فقال : إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْقِه عَسَلاً ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اسقه عسلا، فقال : قد سَقَيْتُهُ فَلَمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطْلاقاً، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :" صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ أخيك، فَسقاهُ فَبَرأ " ١.
وقال عبد الله بن مسعود :" العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ " ٢. فإن قيل : كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار ؟. فالجواب : أنه - تعالى - لم يقل : إنه شفاءٌ لكلِّ الناس، وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة : أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع.
وقال مجاهد - رحمه الله- : المراد بقوله - تعالى - :﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾ القرآن٣ ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس : ٥٧ ]. وقال - صلوات الله وسلامه عليه- :" عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ : العَسلِ والقُرآنِ٤ ". وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله :﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، ثم ابتدأ وقال :﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾ أي : في هذا القرآن. وهذا القول ضعيف ؛ لما تقدم من الحديث ؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور، وهو الشَّراب، وأما عوده إلى غير مذكور، فلا يناسب. فإن قيل : ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه- :" وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ " ؟. فالجواب : لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة و السلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى- :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، أي : ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة ؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة.
١ أخرجه البخاري (١٠/١٣٩) كتاب الطب: باب الدواء بالعسل (٥٦٨٤) ومسلم (٤/١٧٣٦) كتاب السلام: باب التداوي بسقي العسل حديث (٩١/٢٢١٧) وأحمد (٣/١٩، ٩٢) والبغوي في "شرح السنة" (٦/٢٤٩) والبيهقي (٩/٣٤٤) من طريق قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦١٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٣٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦١٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٣٠.) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم..
٤ أخرجه ابن ماجه (٢/١١٤٢) رقم (٣٤٥٢) والحاكم (٤/٢٠٠) والخطيب (١١/٣٨٥) من طريق زيد بن الحباب عن سفيان عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال البوصيري في "الزوائد" (٣/١٢٠): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (٩/٣٤٤) وقال: رفعه غير معروف والصحيح موقوف ورواه وكيع عن سفيان موقوفا.
والموقوف أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦١٤) والحاكم (٤/٤٠٣) والبيهقي (٩/٣٤٥) وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" (٤/٢٣٠)..

قوله - تعالى - :﴿ والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾، الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية.
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب :
أولها : سنُّ النشوء والنَّماء.
وثانيها : سن الوقوف، وهو : سنُّ الشباب.
وثالثها : سن الانحطاط القليل، وهو : سنُّ الكهولة.
ورابعها : الانحطاط الكبير، وهو : سن الشيخوخة.
فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال :﴿ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ عند قضاء آجالكم صبياناً، أو شباباً، أو كهولاً أو شيوخاً.
﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر ﴾، أي : أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ- :﴿ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] وقوله - تعالى- :﴿ إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ [ هود : ٢٧ ].
قال مقاتل : يعني : الهرم١. وقال قتادة : تسعون سنة٢.
وقيل : ثمانون سنة.
قيل : هذا مختصٌّ بالكافر ؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر ؛ لقوله - تعالى- :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ التين : ٥، ٦ ]، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين.
وقال عكرمة : من قرأ القرآن، لم يردَّ إلى أرذل العمر.
قوله :" لِكَيْلا "، في هذه اللاَّم وجهان :
أحدهما : أنَّها لام التعليل، و " كَيْ "، بعدها مصدرية ليس إلا، وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام، واللام متعلقة ب " يُرَدُّ ".
قال الحوفيُّ : إنها لام " كَيْ "، و " كَيْ : للتأكيد.
وفيه نظر ؛ لأنَّ اللام للتَّعليل، و " كَيْ " بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه، وأيضاً فعملها مختلف.
والثاني : أنها لام الصَّيرورة.
قوله :" شَيْئاً " يجوز فيه التنازع ؛ لأنه تقدمه عاملان : يعلمُ وعِلْم، أي : الفعل والمصدر، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب " عِلْمٍ "، وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب " يَعْلمَ ". وهو مردود ؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني، فيقال : لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً.
ومعنى الآية : لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً، إن الله عليم قدير.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه، " قَدِيرٌ " على ما يريد٣.

فصل


هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة ؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً، ثمَّ أوجده الله، ثم أعدمه مرَّة ثانية، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً ؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً، وأيضاً : كان ميّتاً حين كان نطفة، ثم صار حيًّا، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً، كان عود الموت جائزاً ؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية، وأيضاً : الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً، ثم صار عالماً عاقلاً، فلما بلغ أرذل العمر، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة ؛ وهو عدم العقل والفهم، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده، وعود حياته، وعود عقله مرَّة أخرى، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٧٦)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٦٣)..
قوله :﴿ والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق ﴾ الآية، هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان ؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً، يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا، ولا يتيسَّر له ذلك، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً، ينفتح عليه أبواب الدنيا، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله، فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله ؛ لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام ؛ كما قال - تعالى- :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]، وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، وغير ذلك.
قوله :﴿ فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، فيه قولان :
الأول : أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى -، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم. والحاصل : أن الرَّزاق، هو : الله - تعالى -، وأن المالك لا يرزق العبد ؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً، وأقوى جسماً، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى ؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله ؛ كما قال جل ذكره- :﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ].
الثاني : أن المراد من الآية : الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ-، وعلى هذا القول ففيه وجهان :
الأول : أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام ؛ كأنه قيل : إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية.
والثاني : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- :" نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران، حين قالوا : إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله "، والمعنى : أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية ؟.
قوله :﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾، في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أنَّها على حذف أداة الاستفهام، تقديره : أفهم فيه سواء، ومعناه النفي، أي : ليسوا مستوين فيه.
الثاني : أنها إخبار بالتَّساوي، بمعنى : أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم، فهم فيه سواءٌ.
الثالث : قال أبو البقاء١ : إنَّها واقعة موقع الفعل، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين :
أحدهما : أنه منصوب في جواب النَّفي، تقديره :﴿ فما الَّذين فضِّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم ﴾، فيستووا.
الثاني : أنه معطوفٌ على موضع :" بِرَادِّي "، فيكون مرفوعاً، تقديره : فما الذين فضِّلوا يردُّون، فما يستوون.
قوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : لا شبهة في أن المراد من قوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
الثاني٢ : الباء في قوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله ﴾، يجوز أن تكون زائدة ؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء ؛ كما تقول : خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر، فعدي بالباء ؛ لكونه بمعنى : الكفر.
وقرأ عاصم٣ في رواية أبي بكر :" تَجْحَدُونَ "، بالخطاب ؛ لقوله :" بَعضَكُم " و " خَلقَكُمْ "، والباقون بالغيبة ؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ- :﴿ فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ ﴾ وقوله :﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لقرب المخبر عنه، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة، وهذا إنكار على المشركين.
فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات، هو : الله - تعالى-، فالمثبت له شريكاً، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات، فكان جاحداً لكونها من عند الله، وأيضاً : فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم، يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله.
الثاني : قال الزجاج : إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند ذلك قال :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، في تقرير هذه البيانات، وإيضاح هذه البينات " يَجْحدُونَ ".
١ ينظر: الإملاء ٢/٨٤..
٢ سقط من: أ..
٣ ينظر: السبعة ٣٧٤، والنشر ٢/٣٠٤، والإتحاف ٢/١٨٦، والحجة ٣٩٢، والبحر ٥/٤٩٩، والدر المصون ٤/٣٤٧..
قوله :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ الآية، هذا نوع آخر من أحوال الناس، استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم، وهذا الخطاب للكلِّ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل، والمعنى : أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور، ومعنى :" مِنْ أنْفُسِكُمْ "، كقوله - تعالى- :﴿ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ]، وقوله :﴿ فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ [ النور : ٦١ ]، أي : بعضكم بعضاً ؛ ونظيره :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ [ الروم : ٢١ ].
قال الأطباء وأهل الطبيعة : المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان الولدُ ذكراً تامًّا، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور.
وحاصل كلامهم : أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة، وهذه العلَّة ضعيفة، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك، لامتنع ذلك ؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم.
قوله :" وَحفَدةً "، فيه أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على " بَنِينَ "، بقيد كونه من الأزواج، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد.
الثاني : أنه من عطف الصفات لشيء واحد، أي : جعل لكم بنين خدماً، والحفدة : الخدم.
الثالث : أنه منصوب ب " جَعَلَ " مقدَّرة، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار، وإنما احتيج إلى تقدير " جَعَلَ " ؛ لأن " جَعَلَ " الأولى مقيَّدة بالأزواج، والأعوانُ، والأصهارُ ليسوا من الأزواج، والحفدة : جمع حافدٍ ؛ كخادمٍ وخَدم.
قال الواحدي - رحمه الله- :" ويقال في جمعه : الحفد بغير هاءٍ ؛ كما يقال : الرَّصد، ومعنى الحفدة في اللغة : الأعوان والخدم ".
وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة، واشتقاقهم من قولهم : حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً، أي : أسرع في الطَّاعة، وفي الحديث :" وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ "، أي : نُسرع في طَاعتِكَ ؛ وقال الآخر :[ الكامل ]
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ١
ويستعمل " حَفَدَ " أيضاً متعدياً ؛ يقال : حَفدنِي فهو حافدٌ ؛ وأنشد أيضاً :[ الرمل ]
يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ٢
وحكى أبو عبيدة أنه يقال : أحفد رباعيًّا، وقال بعضهم : الحَفدةُ الأصهارُ ؛ وأنشد :[ الطويل ]
فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ
ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ عَيُوفٌ لأصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ٣
ويقال : سَيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي : سريعُ القطع ؛ وقال الأصمعي : أصل الحفد مقاربة الخُطَى.
قوله :﴿ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات ﴾، ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح، وما فيه من المنافع والمصالح، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية، و " مِنْ "، في " مِنَ الطَّيباتِ "، للتبعيض.
ثم قال ﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - يعني : بالأصنام وقال مقاتل : يعني : بالشيطان، وقال عطاء : يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً.
﴿ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾، أي : بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله، وقيل : يكفرون بالتَّوحيد والإسلام.
وقيل : يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم ؛ مثل : البَحيرَة، والسَّائبةِ، والوَصِيلَة، والحَامِ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم، وهي : الميتة ولحم الخنزير، ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ﴾ [ المائدة : ٣ ]، أي : يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة.
١ البيت لجميل بن عبد الله الحارثي العذري ونسب إلى الفرزدق وليس في ديوانه. ينظر: الجمهرة ٢/١١٢٣، معاني الأخفش ١/٤٦٤، الكشاف ٢/٤١٩، اللسان والتاج (حفد) الدر اللقيط ٥/٥١٤، مجاز القرآن ١/٣٦٤، الطبري ١٤/١٤٤، البحر المحيط ٥/٤٨٤، الدر المنثور ٤/١٢٤، القرطبي ١٠/٩٤١، الدر المصون ٤/٣٤٧..
٢ البيت لطرفة وليس في ديوانه. ينظر: تفسير الماوردي ٢/٤٠٢، البحر المحيط ٥/٤٨٤، الألوسي ١٤/١٩٠، الدر المصون ٤/٣٤٨..
٣ البيت لجميل وليس في ديوانه. ينظر: اللسان (حفد)، البحر المحيط ٥/٤٨٤، الألوسي ١٤/١٩٠، فتح القدير ٣/١٧٨، الدر المصون ٤/٣٤٧..
قوله - تعالى- :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً ﴾، الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام ؛ قال :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات ﴾، يعني : المطر والأرض، ويعني النَّبات والثِّمار.
قوله تعالى :﴿ مِّنَ السماوات ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب " يَمْلِكُ "، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب " شَيْئاً ".
الثاني : أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة ل " رِزْقاً ".
الثالث : أن يتعلق بنفس " رِزْقاً " إن جعلناه مصدراً.
وقال ابن عطية١ - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً- : والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق ؛ لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم ؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر :[ المتقارب ]
ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
وقوله :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***. . . . . . . . . . فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا٣
قال أبو حيَّان : أما قوله :" باتِّفاقٍ "، إن عنى به من البصريين، فصحيحٌ، وإن عنى به من النَّحويين، فليس بصحيح ؛ إذْ قد ذهب بعضهم إلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً، وأما قوله :" في تقدير الانفصال "، فليس كذلك، إلا أن تكون إضافته غير محضة ؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان، ومذهبهما فاسد ؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة، وقوله :" لا يعمل. . . إلى آخره " ناقضه بقوله :" وقد جاء عاملاً. . . إلى آخره ".
قال شهاب الدِّين٤ : فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره، وأمَّا المناقضة، فليست صحيحة ؛ لأنه عنى أولاً : أنَّه لا يعمل في السَّعة، وثانياً : أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال :" في قول الشَّاعر ".
قوله :" شَيْئاً "، فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على المصدر، أي : لا يملك لهم ملكاً، أي : شيئاً من الملك.
والثاني : أنه بدلٌ من " رِزْقاً "، أي : لا يملك لهم رزقاً شيئاً، وهذا غير مقيَّد ؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء، ويؤيِّد ذلك أن البدل يأتي لأحد معنيين : البيان أو التَّأكيد، وهذا ليس فيه بيان ؛ لأنه أعمٌّ، ولا تأكيد.
الثالث : أنه منصوب ب " رِزْقاً "، على أنه اسمُ مصدر، واسم المصدر يعمل عمل المصدر، على خلاف في ذلك.
ونقل مكِّي : أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين ؛ فمنهم من نقل المنع، ومنهم من نقل الجواز.
وقد ذكر الفارسي انتصابه ب " رِزْقاً " كما تقدَّم.
ورد عليه ابن الطراوة : بأن الرِّزق اسم المرزوق، كالرِّعي، والطحن. وردَّ على ابن الطراوة ؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر، وقد سمع فيه ذلك، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾، يجوز في الجملة وجهان :
العطف على صلة " مَا "، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف، ويكون قد جمع الضمير العائد على " مَا " باعتبار معناها ؛ إذ المراد بذلك آلهتهم.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين.
فإن قيل : قال - تعالى - :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ ﴾، فعبَّر عن الأصنام بصيغة " ما "، وهي لغير العاقل، ثم جمع بالواو والنون فقال :" ولا يَسْتَطِيعُون "، وهو مختص بأولي العلم. فالجواب : أنه عبَّر عنها بلفظ " مَا " اعتباراً باعتقادهم أنَّها آلهة، والفائدة في قوله :" ولا يَسْتَطِيعُونَ " : أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق. فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك، وليس لها استطاعة تحصيل الملك.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٠٩..
٢ تقدم..
٣ تمام البيت:
لقد علمت أولى المغيرة أنني لحقت...............................
نسب إلى مالك بن زغبة الباهلي أو للمرار الأسدي. ينظر: ديوانه ص ٤٦٤، شرح أبيات سيبويه ١/٦٠، الكتاب ١/١٩٣، شرح شواهد الإيضاح ص ١٣٦، شرخ المفصل ٦/٦٤، المقاصد النحوية ٣/٤٠، ٥٠١، خزانة الأدب ٨/١٢٨، الدرر ٥/٢٥٥، شرح الأشموني ١/٢٠٢، شرح ابن عقيل ص ٤١٢، المقتضب ١/١٤، همع الهوامع ٢/٩٣، الجمل ١٣٦، العيني ٣/٤٠، الدر اللقيط ٥/٥١٦. البحر المحيط ٥/٥٠٠، الدر المصون ٤/٣٤٨..

٤ ينظر: الدر المصون ٤/٣٤٨..
ثم قال - تعالى - :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال ﴾، يعني : الأشباه، فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً ؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى-.
ثم قال :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني : أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال، وحذف مفعول :" العلم "، اختصاراً، أو اقتصاراً.
ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر؛ فقال - تعالى -: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً.
قوله: ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ﴾ يجوز في «مَنْ» هذه أن تكون موصولة، وأن تكون موصوفة، واختاره الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ، قال: «كأنه قيل: وحرًّا رزقناه ليطابق عبداً» ومحلها النصب على «عَبْداً»، وقد تقدَّم الكلام [إبراهيم: ٢٤] في المثل الواقع بعد «ضَرَب».
وقوله: ﴿سِرّاً وَجَهْراً﴾ يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، أي: إنفاق سرْ وجهر، ويجوز أن يكون حالاً.
وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالاً، فعمل فيه بطاعةِ الله وأنفقه في رضاه سرًّا وجهراً، فأثابه الله عليه الجنَّة.
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ إنَّما جميع الضمير وإن تقدَّمه ثنان؛ لأنَّ المراد: جنس العبيد والأحرار المدلول عليهما ب «عَبْداً» وب «مَن رزقنَاهُ».
وقيل: على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضاً، وقيل: اعتباراً بمعنى «مَنْ» فإنَّ معناها جمع فراعى معناها بعد أن راعى لفظها.

فصل


قيل: المراد بقوله: ﴿عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ هو الصَّنم؛ لأنَّه عبد بدليل
122
قوله: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾ [مريم: ٩٣] وهو مملوك لا يقدر على شيء، والمراد بقوله: ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً﴾ : عابد الصَّنم؛ لأن الله - تعالى - رزقه المال، فهو ينفقُ منه على نفسه وعلى أتباعه سرًّا وجهراً فهما لا يتساويان في بديهة العقل، بل صريح العقل شاهدٌ بأن عابد الصَّنم أفضل من الصَّنم، فكيف يجوز الحكم بأنه مساوٍ لربِّ العالمين في المعبوديَّة؟.
وقيل: المراد بالعبد: المملوك عبد معيَّن، قيل: أبو جهل، وب ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقيل: عامٌّ في كل عبد بهذه الصفة، وفي كل حرٍّ بهذه الصفة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً.
فإن قيل: دلَّت الآية على أنَّ عبداً من العبيد لا يقدر على شيءٍ، فلم قلتم: إن كل عبد كذلك؟.
فالجواب: أنه ثبت في أصول الفقه: أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلُّ على كون ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم، وكونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذلِّ والمقهورية وقوله: ﴿لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ حكم مذكور عقيبه، وهذا يقتضي أنَّ العلَّة لعدم القدرة على شيءٍ، هو كونه عبداً، وأيضاً قال بعده: ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ [فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول، وهو العبد بهذه الصفة، وهو أنه رزقه رزقاً حسناً] فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد، حتَّى يحصل الامتيازُ بين الثاني وبين الأوَّل، ولو ملك العبد، لكان الله قد آتاهُ رزقاً حسناً؛ لن الملك الحلال رزق حسن.
ثم اختلفوا؛ فروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وغيره التشدد في ذلك، حتى قال: لا يملك الطَّلاق أيضاً.
وأكثر الفقهاء على أنَّه يملك الطلاق، واختلفوا في أنَّ المالك إذا ملكه شيئاً، هل يملكه ام لا؟ وظاهر الآية ينفيه.
فإن قيل: لم قال: ﴿عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ وكل عبدٍ فهو مملوك وغير قادر على التصرُّف؟.
فالجواب: ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرِّ؛ لأنَّ الحر قد يقال: إنه عبد الله، وأما قوله: ﴿لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ للتَّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون؛ لأنهما يقدران على التصرُّف.
قوله ﴿الحمد لِلَّهِ﴾ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتَّوحيد.
123
وقيل: المعنى أنَّ الحمد كلّه لله، وليس شيءٌ من الحمد للأصنام؛ لأنها لا نعمة لها على أحدٍ.
وقوله عزَّ وجلَّ -: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: أنهم لا يعلمون أنَّ كل الحمد لي، وليس شيء منه للأصنام.
وقال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال للرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه -: ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ [النمل: ٥٩].
وقيل: هذا خطاب لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول: الحمد لله على أن ميَّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف.
وقيل: لما ذكر هذا المثل مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود، قال بعده: ﴿الحمد لِلَّهِ﴾ يعني: الحمد لله على قوَّة هذه الحجَّة وظهور هذه البيِّنة.
ثم قال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: أنَّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها، لا يعلمونها هؤلاء الجهَّال.
قوله - تعالى -: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ الآية وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام؛ وتقريره: أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى.
قال الواحدي: قال أبو زيد: الأبكم هو العَيِيُّ المفحم، وقد بكم بكماً وبكامةً وقال أيضاً: الأبكمُ: الأقطع اللسان، وهو الذي لا يحسن الكلام.
روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يعقل. وقال الزجاج: الأبكم المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر.
ثم قال: ﴿لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ إشارة إلى العجز التَّام والنُّقصان الكامل.
وقوله: ﴿كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ الكلُّ الثَّقيلُ، والكلُّ العيال، والجمع: كلُول، والكلُّ: من لا ولد لهُ ولا وَالِد، والكلُّ أيضاً: اليَتيمُ. سمِّي بذلك؛ لثقله على كافله؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٣٤٩ - أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ
قال أهل المعاني: «أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة، يقال كلَّ السِّكينُ: إذا غلظت شفرته فلم تقطع، وكلَّ اللسانُ: إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكلَّ
124
فلانٌ عن الأمْرِ: إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فمعنى» كلٌّ على مولاهُ «، أي: غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته».
قوله: ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ﴾ شرط وجزاؤه، وقرأ ابن مسعود، وابن وثَّاب، وعلقمة: «يُوَجِّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: ضمير الباري - تعالى -، ومفعوله محذوف؛ [تقديره كقراءة العامة].
والثاني: أنه ضمير الأبكم، ويكون «يُوجِّهْ» لازماً بمعنى «يَتوَجَّهُ».
يقال: وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك، إلاَّ أنه بضم الهاءِ، وفيها أوجه:
أحدها: أنَّ «أيْنَمَا» ليست هنا شرطيَّة، و «يُوَجِّهُ» خبر مبتدأ مضمر، أي: أيْنَمَا هو يوجه، أي: الله - تعالى -، والمفعول محذوف، وحذفت الياء من قوله: «لا يَأتِ» تخفيفاً؛ كما حذفت في قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ [هود: ١٠٥] و ﴿إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤].
والثاني: أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف، وهذه الهاء هي الضمير، فلم يحلها جزم، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي.
الثالث: أن «أيْنَمَا» أهملت حملاً على «إذَا» ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط؛ كما حملت «إذا» عليها في الجزم في بعض المواضع، وحذفت الباء من «يَأتِ» تخفيفاً أو جزم على التوهُّم، ويكون «يُوجِّهُ» لازماً بمعنى: «يَتوجَّهُ» كما تقدَّم.
وقرأ عبد الله أيضاً: «تُوَجِّههُ» بهاءين بتاء الخطاب، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة -: «إنَّ هذها لقراءة ضعيفة؛ لأن الجزم لازم» وكأنه لم يعرف توجيهها، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً: «يُوجَّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، والفِعْل مبني للمفعول؛ وهي واضحة.
وقرأ ابن مسعود أيضاً: «تُوَجِّههُ» كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب، وفيه التفاتٌ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل؛ لقوله: ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ كأنه قيل: والآخر ناطقٌ متصرف في ماله، وهو خفيف على مولاه ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾، ودلَّ على ذلك ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾.
ونقل أبو البقاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قرئ: «أيْنَمَا تَوجَّه» بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً فاعله ضمير الأبكم.
125
قوله: ﴿وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ الرَّاجح أن يكون مرفوعاً؛ عطفاً على الضمير المرفوع في «يَسْتَوِي»، وسوَّغه الفصل بالضمير، والنصب على المعيَّة مرجوح، والجملة من قوله: ﴿وَهُوَ على صِرَاطٍ﴾ إمَّأ استئنافٌ أو حال.

فصل


لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع، وهذه صفات الأصنام وهو أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ، أي: عاجز كلٌّ على مولاه، ثقيل، أينما يرسله لا يأت بخير؛ لأن أبكم لا يفهم، قال: هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه، ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ يعني: الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد، ﴿وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
وقيل: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: كِلا المثلين للمؤمن والكافر، يرويه عطيَّة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال عطاء: الأبكم: أبيُّ بن خلف، ﴿وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ : حمزة، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
وقال مقاتل: نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي، وكان قليل الخير، يعادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه، كان مولاه يكره الإسلام.
وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا أولى من القول الول؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله - تعالى -.
قوله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ الآية لما مثَّل الكافر بالأبكم العاجز، ومثَّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومعلومٌ أنه لا يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم إلاّ إذا كان كاملاً في العلمِ والقدرةِ فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة.
126
أمَّا بيان كمال العلم، فقوله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى -.
وأما بيان كمال القدرة، فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر﴾ والسَّاعة: هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سمِّيت ساعة؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] والمراد ب «لَمْحِ البَصرِ» : طرفةُ العين وهو النظر بسرعة، يقال: لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً، وقيل: أصله من لَمحَانِ البَرْق، وقولهم: لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً، أي: أمْراً وَاضِحاً، والمراد بيان كمال القدرة.
وقوله: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ ليس المراد منه الشَّك، بل المراد: بل هو أقرب.
قال الزجاج: المراد به: الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر، أو بما هو أسرع؛ لأنَّ لمح البَّصر عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان؛ فلهذا قال - تعالى -: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ تنبيهاً على ذلك، فقوله: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾، أي: أمره، فالضمير للأمر، والتقدير: أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر.
﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً.
قوله
127
قوله - تعالى - :﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ ﴾ الآية، وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام ؛ وتقريره : أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكاملظ، مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى.
قال الواحدي : قال أبو زيد : الأبكم، هو : العَيِيُّ المفحم، وقد بكم بكماً وبكامةً، وقال أيضاً : الأبكمُ : الأقطع اللسان، وهو الذي لا يحسن الكلام.
روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم : الذي لا يعقل. وقال الزجاج : الأبكم : المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر.
ثم قال :﴿ لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ ﴾، إشارة إلى العجز التَّام، والنُّقصان الكامل.
وقوله :﴿ كَلٌّ على مَوْلاهُ ﴾، الكلُّ : الثَّقيلُ، والكلُّ : العيال، والجمع : كلُول، والكلُّ : من لا ولد لهُ ولا وَالِد، والكلُّ أيضاً : اليَتيمُ. سمِّي بذلك ؛ لثقله على كافله ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ١
قال أهل المعاني :" أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة، يقال : كلَّ السِّكينُ : إذا غلظت شفرته فلم تقطع، وكلَّ اللسانُ : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكلَّ فلانٌ عن الأمْرِ : إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فمعنى :" كلٌّ على مولاهُ "، أي : غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته ".
قوله :﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ ﴾، شرط وجزاؤه، وقرأ ابن مسعود٢، وابن وثَّاب، وعلقمة :" يُوَجِّهْ "، بهاء واحدة ساكنة للجزم، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : ضمير الباري - تعالى -، ومفعوله محذوف ؛ [ تقديره كقراءة العامة ]٣.
والثاني : أنه ضمير الأبكم، ويكون " يُوجِّهْ " لازماً بمعنى :" يَتوَجَّهُ ".
يقال : وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك، إلاَّ أنه بضم٤ الهاءِ، وفيها أوجه :
أحدها : أنَّ " أيْنَمَا " ليست هنا شرطيَّة، و " يُوَجِّهُ " خبر مبتدأ مضمر، أي : أيْنَمَا هو يوجه، أي : الله - تعالى-، والمفعول محذوف، وحذفت الياء من قوله :" لا يَأتِ " تخفيفاً ؛ كما حذفت في قوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِ ﴾ [ هود : ١٠٥ ] و ﴿ إِذَا يَسْرِ ﴾ [ الفجر : ٤ ].
والثاني : أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف، وهذه الهاء هي الضمير، فلم يحلها جزم، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي.
الثالث : أن " أيْنَمَا " أهملت حملاً على " إذَا " ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط ؛ كما حملت " إذا " عليها في الجزم في بعض المواضع، وحذفت الباء من :" يَأتِ " تخفيفاً، أو جزم على التوهُّم، ويكون :" يُوجِّهُ " لازماً بمعنى :" يَتوجَّهُ " كما تقدَّم.
وقرأ٥ عبد الله أيضاً :" تُوَجِّههُ "، بهاءين بتاء الخطاب، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة- :" إنَّ هذه القراءة ضعيفة ؛ لأن الجزم لازم "، وكأنه لم يعرف توجيهها، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً :" يُوجَّهْ "، بهاء واحدة ساكنة للجزم، والفِعْل مبني للمفعول ؛ وهي واضحة.
وقرأ ابن٦ مسعود أيضاً :" تُوَجِّههُ "، كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب، وفيه التفاتٌ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل ؛ لقوله :﴿ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ﴾، كأنه قيل : والآخر ناطقٌ متصرف في ماله، وهو خفيف على مولاه ﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾، ودلَّ على ذلك :﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾.
ونقل أبو البقاءِ - رحمه الله - أنه قرئ٧ :" أيْنَمَا تَوجَّه "، بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً، فاعله ضمير الأبكم.
قوله :﴿ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾، ٠٠. الرَّاجح أن يكون مرفوعاً ؛ عطفاً على الضمير المرفوع في :" يَسْتَوِي "، وسوَّغه الفصل بالضمير، والنصب على المعيَّة مرجوح، والجملة من قوله :﴿ وَهُوَ على صِرَاطٍ ﴾، إمَّأ استئنافٌ أو حال.

فصل


لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع، وهذه صفات الأصنام، وهو : أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ، أي : عاجز كلٌّ على مولاه، ثقيل، أينما يرسله لا يأت بخير ؛ لأن أبكم : لا يفهم، قال : هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه، ﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾، يعني : الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد، ﴿ وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
قال الكلبي : يدلكم على صراط مستقيم.
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : كِلا المثلين للمؤمن والكافر، يرويه عطيَّة، عن ابن عباس رضي الله عنه.
قال عطاء : الأبكم : أبيُّ بن خلف، ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾ : حمزة، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رضي الله عنهم٨-.
وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي، وكان قليل الخير، يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم٩.
وقيل : نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه، كان مولاه يكره الإسلام١٠.
وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين، يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله - تعالى-.
١ ينظر: اللسان والتاج (كلل)، التهذيب (كل)، الألوسي ١٤/١٩٧، المحرر ٤/٧٠١، الدر المصون ٤/٣٤٩. البحر ٥/٥٠٢..
٢ ينظر: المحتسب ٢/١١، والشواذ ٧٣، والبحر ٥/٥٠٤، والدر المصون ٤/٣٥٠..
٣ في ب: لدلالة المعنى عليه..
٤ ينظر: البحر ٥/٥٠٤، والدر المصون ٤/٣٥٠..
٥ ينظر: القرطبي ١٠/٩٩، والدر المصون ٤/٣٥٠، وقد تقدمت قراءة عبد الله بن مسعود في أول الآية يوصه..
٦ ينظر: السابق..
٧ ينظر: الدر المصون ٤/٣٥٠..
٨ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٧٨)..
٩ ينظر: المصدر السابق..
١٠ هو مروي عن ابن عباس ذكره الماوردي في "تفسيره" (٣/٢٠٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٣٥ ـ ٢٣٦) وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري في "تاريخه" وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس..
قوله - تعالى- :﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾، الآية لما مثَّل الكافر بالأبكم العاجز، ومثَّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومعلومٌ أنه لا يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم إلاّ إذا كان كاملاً في العلمِ والقدرةِ فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة.
أمَّا بيان كمال العلم، فقوله - تعالى - :﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾، أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى-.
وأما بيان كمال القدرة، فقوله - عز وجل- :﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر ﴾، والسَّاعة : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سمِّيت ساعة ؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة، أي : إذا قال له :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، والمراد ب " لَمْحِ البَصرِ " : طرفةُ العين، وهو النظر بسرعة، يقال : لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً، وقيل : أصله من لَمحَانِ البَرْق، وقولهم : لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً، أي : أمْراً وَاضِحاً، والمراد بيان كمال القدرة.
وقوله :﴿ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، ليس المراد منه الشَّك، بل المراد : بل هو أقرب.
قال الزجاج : المراد به : الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر، أو بما هو أسرع ؛ لأنَّ لمح البَّصر : عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان ؛ فلهذا قال - تعالى - :﴿ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، تنبيهاً على ذلك، فقوله :﴿ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، أي : أمره، فالضمير للأمر، والتقدير : أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر.
﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً.
- تعالى
-: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ لما بين كمال القدرة والعلم، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
قرأ حمزة والكسائي: «إمَّهاتِكُمْ» بكسر الهمزة، والباقون بضمِّها، وأصل «
127
أمَّهاتِكُم» : إمَّاتكُم، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في «أراق» فقيل: أهراق، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله: [الرجز]
٣٣٥٠ - أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي... والجملة من قوله: ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ حالٌ من مفعول «أخْرَجَكُمْ» غير عالمين و «شَيْئاً» إمَّا مصدر، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان، وتقدَّم الكلام في «أمَّهَاتِكُمْ» في النِّساء.

فصل


خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى -: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ والمعنى: أن النَّفس الإنسانية ك انت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم، وتحقيق الكلام فيه أن يقال: التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة.
فإن قيل: هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال: كانت حاصلة منذ خلقنا، أو ما كانت حاصلة؛ ولأول باطل؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ ن النَّفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني: فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وذلك محال.
فالجواب: أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً، ثم إنها حدثت، وحصلت، أما قوله: فيلزم أن تكون كسبية، فهذه المقدمة ممنوعة، بل نقول: إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل.
128
ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين:
أحدهما: ما يكون حضوره مزجباً تاماً في جرم الذِّهن، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصلف الاثنين، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة.
والقسم الثاني: ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النَّظريَّة؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث، بل لا بدَّ فيه من [دليل] منفصل وعلوم سابقة.
والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها، وتصوُّر محمولاتها، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس.
فلهذا قال - تعالى -: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور.
وقال المفسرون: «وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ» لتسمعوا مواعظ الله تعالى، «والأبْصَارَ» لتبصروا دلائل [آلاء] الله، «والأفْئِدةَ» لتعقلوا عظمة الله.
و «الأفْئِدَة» جمع فُؤادِ؛ نحو: أغْرِبة وغُراب، قال الزجاج: ولم يجمع «فُؤاد» على أكثر العددِ، وما قيل: «فِئْدَان» كما قيل: «غُرَاب وغِرْبَان».
ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران، وأن الفؤاد قليلٌ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة، والعلوم اليقينيَّة، وأكثر الخلق ليسوا كذلك، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب.
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة، ولم يسمع فيها غير القلَّة، نحو:» شُسُوع «، فإنَّها للكثرة، وتستعمل في القلَّة، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم» أشساع «فكان ينبغي أن يقال: غلب» شسوع «.
فإن قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار﴾، عطف على قوله:»
129
أخْرَجَكُم «وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن؛ وليس كذلك.
فالجواب: أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية، زال السؤال، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى -:»
وجَعلَ «معطوفاً على» أخْرَجَكُم «فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفاً.

فصل


قيل: معنى الكلام: لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، وقيل: لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة، وقيل: لا تعلمون شيئاً، أي: من منافعكم.
قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «تمَّ الكلام عند قوله - تعالى -: ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ ثمَّ ابتدأ فقال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج»
.
وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى -.
وقوله - تعالى -: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع﴾، أي لتسمعوا به الأمر والنهي، «والأبْصَارَ» أي: لتبصروا بها آثار منفعة الله، «والأفْئِدةَ» لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، أي: نِعَمه.
قوله - تعالى -: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ﴾ الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: «ألَمْ تَروْا» بالتاء من فوق، والباقون: بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار.
قوله: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في «مُسخَّراتٍ»، ويجوز أن تكون حالاً من الطير، ويجوز أن تكون مستأنفة.
ومعنى «مُسخَّراتٍ» : مذللات، «في جوِّ السَّماءِ» وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض؛ قال: [الطويل]
٣٣٥١ - فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
وقيل: الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه.
130
قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله﴾ تعالى، أي: في حال القبض، والبسط، والاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها.

فصل


جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى -، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى -.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة.
والجواب: هذا تركٌ للظاهر من غير دليل.
قوله - تعالى -: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد.
قوله: «سَكَناً» يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء.
وقد يقال: إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة: إن السكن «فَعْل» بمعنى «مَفْعُول» : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض؛ وأنشد الفراء فقال: [البسيط]
٣٣٥٢ - جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
والسَّكنُ: ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري: «السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ».
131
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين:
أحدهما: البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني: البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
قوله: ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح العين، والباقون بإسكانها، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر.
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق؛ كالشَّعْر والشعَر «.
والظَّعنُ مصدر ظعن، أي: ارتحل، والظَّعينةُ: الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة: ظعينة.

فصل


والمعنى: جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني: الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم: ،»
تَسْتَخِفُّونَها «أي: يخف عليكم حملها ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ: سير [البادية] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً: الهَوْدَج؛ قال: [الهزج]
٣٣٥٣ - ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ
﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و»
مِنْ «راجعة إلى الحالتين ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ يعني: أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
قوله:»
أثَاثاً «فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب عطفاً على»
بُيُوتًا «أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.
وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -:»
وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار
132
والمجرور، وهو قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾ وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، وتقديم مفعول على مفعول قياس «.
وفيه نظر؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله.
والثاني: أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره: وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
والأثاث: متاع البيت إذا كان كثيراً، وأصله: مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ؛ إذا كشفا وتكاثرا؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٣٥٤ - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ
ونساءٌ أثائِثُ، أي: كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثاً، وفلان كثر أثاثهُ. وقال الزمخشري: الأثاث ما جدَّ من فرش البيت، والخُرثيُّ: ما قدم منها؛ وأنشد: [البسيط]
٣٣٥٥ - تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا، وقال أبو زيد: واحده أثاثة وجمعه في القلَّة: أثثة؛ ك «بَتَات»
و «أبتَّة»، وقال أبو حيَّان: وفي الكثير على أثث، وفيه نظر؛ لأن «فعالاً» المضعَّف يلزم جمعة على أفعلة في القلَّة والكثرة، ولا يجمع على «فُعُل» إلا في لفظتين شذَّتا، وهما: عُيُن وحُجُج جمع عيَّان وحجَّاج، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما، فلا يجوز: زمام وزُمُم بل أزمَّة وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما؛ كقوله: [الوافر]
٣٣٥٦ -..................... وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
٣٣٥٧ -..................... وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل: متاعاً: بلاغاً ينتفعون به، «إلى حين» يعني: الموت، وقيل: إلى حين البِلَى.
قوله - تعالى -: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾ الآية فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا.
فالقسم الأول أشار إليه بقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾، وأشار إلى القسم
133
الثاني بقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً﴾ وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾ فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها، فإنَّه لا بد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ؛ كما قال - سبحانه -: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام﴾ [الأعراف: ١٦٠].
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً﴾ جمع «كِنّ» ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ، وهو في الجبل: الغار، وقيل: كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً، ويقال: اسْتكن وأكَنّ، إذا صار في كنٍّ.
واعلم أبلاد العرب شديدة الحرِّ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال، كما قال - تعالى -: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج. وقال ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ وما يَقِي من البرد أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ.
ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن، ذكر بعده أمر الملبُوسِ؛ فقال - جل ذكره -: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ والسَّرابيل: القُمص واحدها سربال.
قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «كل ما لبسته فهو سِرْبال، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره» ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين:
أحدهما: ما يقي الحرَّ والبرد. والثاني: ما يتقى به من البأسِ والحروب.
فإن قيل: لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد؟.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال عطاء الخراساني: المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارَّة [يابسة]، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد: كما قال - سبحانه وتعالى - ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر.
والثاني: قال المبرِّد: ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر؛ كقوله: [الطويل]
٣٣٥٨ - كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا
لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر، فإنَّ
134
الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض.
الثالث: قال الزجاج: «وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر».
فإن قيل: هذا بالضدِّ أولى؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف.
فالجواب: أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.
قوله: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ﴾، أي: مثل ذلك الإتمام السابق، ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ في المستقبل.
وقرأ ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تَتِمُّ» بفتح التاء الأولى، «نِعْمَتُهُ» بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً: «نِعَمَهُ» جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ أيضاً: «لعلكم تَسْلَمُونَ» بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله: «تَقِيكُم بَأسكُمْ» ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
قوله: «فإنْ تَولَّوا» يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، ولأصل: تتولَّوا، قحذف نحو: «تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ» ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق.
ومعنى الكلام: فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي: فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء ب طثُمَّ «هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه:
قال القاضي: هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم:
135
أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا: إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.
وقيل: المراد بالنِّعمة هنا: نُبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها، ونبوته نعمة عظيمة؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
وقيل: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾، أي: لا يستعملونها في طلب رضوان الله، ثم قال جل ذكره: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾.
فإن قيل: ما معنى قوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾ مع أنَّهم كلهم كافرون؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: إنما قال - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾ ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة؛ كالصَّبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء.
والثاني: أن المراد بالكافر: الجاحد المعاند، فقال: «وأكْثَرهُم» ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله.
الثالث: ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل؛ كقوله: ﴿الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: ٢٥].
136
قوله - تعالى- :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ ﴾، الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته.
قرأ ابن عامر١ وحمزة والكسائي :" ألَمْ تَروْا "، بالتاء من فوق. والباقون : بالياء، على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار.
قوله :﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾، يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في " مُسخَّراتٍ "، ويجوز أن تكون حالاً من الطير، ويجوز أن تكون مستأنفة.
ومعنى :" مُسخَّراتٍ " : مذللات، " في جوِّ السَّماءِ "، وهو : الهواءُ بين السَّماء والأرض ؛ قال :[ الطويل ]
فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ٢
وقيل : الجوُّ : ما يلي الأرض في سمت العلوِّ، واللوح والسُّكاك أبعد منه.
قال كعب الأحبار - رضي الله عنه- : إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله ﴾٣ تعالى، أي : في حال القبض، والبسط، و الاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته.
﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين ؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها.

فصل


جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى-، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى-.
قال القاضي٤ - رحمه الله- : إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه ؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة.
والجواب : هذا تركٌ للظاهر من غير دليل.
١ ينظر: الحجة ٣٩٣، والإتحاف ٢/١٨٧، والنشر ٢/٣٠٤، والقرطبي ١٠/١٠٠، والبحر ٥/٥٠٦..
٢ تقدم..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٧٩)..
٤ ينظر الفخر الرازي ٢٠/٧٣..
قوله - تعالى- :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾، الآية، وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد.
قوله :" سَكَناً "، يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير، والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ، فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن ؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء.
وقد يقال : إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح، إلا أن أبا حيَّان منع كونه مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن " فَعْل "، بمعنى :" مَفْعُول " : كالقَبْضِ والنقْضِ، بمعنى : المَنْقُوض والمَقْبُوض ؛ وأنشد الفراء فقال :[ البسيط ]
جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ١
والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري :" السَّكن : ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ ".
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين :
أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾، وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾، وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
قوله :﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾، قرأ نافع، وابن٢ كثير، وأبو عمرو : بفتح العين، والباقون : بإسكانها، وهما لغتان، كالنَّهْر والنَّهَر.
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق ؛ كالشَّعْر والشعَر ".
والظَّعنُ مصدر ظعن، أي : ارتحل، والظَّعينةُ : الهودج فيه المرأة، وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة.

فصل


والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني : الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم، " تَسْتَخِفُّونَها "، أي : يخف عليكم حملها، ﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾ : رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ : سير [ البادية ]٣ ؛ لنجعة، أو لحضور ماء، أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج ؛ قال :[ الهزج ]
ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ٤
﴿ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾، في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و " مِنْ "، راجعة إلى الحالتين. ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾، يعني : أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتان ؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
قوله :" أثَاثاً " فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب عطفاً على " بُيُوتًا "، أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.
وقال أبو البقاء٥ - رحمه الله- :" وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور، وهو قوله عز وجل :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾، وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، و تقديم مفعول على مفعول قياس ". وفيه نظر ؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله.
والثاني : أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل بالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيراً، وأصله : مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ ؛ إذا كثفا وتكاثرا ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ٦
ونساءٌ أثائِثُ، أي : كثيرات اللحم، كأنّ عليهن أثاثاً، وفلان كثر أثاثهُ. وقال الزمخشري : الأثاث : ما جدَّ من فرش البيت، والخُرثيُّ : ما قدم منها ؛ وأنشد :[ البسيط ]
تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا٧
وهل له واحدٌ من لفظه ؟ فقال الفراء : لا، وقال أبو زيد : واحده أثاثة، وجمعه في القلَّة : أثثة ؛ ك " بَتَات " و " أبتَّة "، وقال أبو حيَّان : وفي الكثير على أثث، وفيه نظر ؛ لأن " فعالاً "، المضعَّف، يلزم جمعه على أفعلة في القلَّة والكثرة، ولا يجمع على " فُعُل " إلا في لفظتين شذَّتا، وهما : عُيُن وحُجُج، جمع عيَّان وحجَّاج، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما، فلا يجوز : زمام وزُمُم، بل أزمَّة، وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما ؛ كقوله :[ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا٨
وقوله :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ٩
وقيل : متاعاً : بلاغاً ينتفعون به، " إلى حين " يعني : الموت، وقيل : إلى حين البِلَى.
١ وروي بلفظ:
جاء الشتاء ولم أتخذ ربضا يا ويح كفي من حفو القراميص
ينظر: اللسان والتاج والصحاح (قرفص)، (ربص)، زادة ٣/١٩٣، البحر المحيط ٥/٥٠٧، الرازي ٢٠/٩٣، الدر المصون ٤/٣٥١..

٢ ينظر: السبعة ٣٧٥، والنشر ٢/٣٠٤، والإتحاف ٢/١٨٧، والحجة ٣٩٣ والبحر ٥/٥٠٧ والدر المصون ٤/٣٥١..
٣ في ب: الدابة..
٤ ينظر: القرطبي ١٠/١٠١..
٥ ينظر: الإملاء ٢/٨٤..
٦ تقدم..
٧ البيت للحسن بن علي الطوسي.
ينظر: الكشاف ٢/٥٢١، شواهد الكشاف ٥٦٤، أمالي ابن الشجري ١/٩٩، الدر المصون ٤/٣٥٢..

٨ تقدم..
٩ تقدم..
قوله - تعالى- :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾ الآية، فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا.
فالقسم الأول أشار إليه بقوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾، وأشار إلى القسم الثاني بقوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً ﴾، وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾، فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها، فإنَّه لابد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ ؛ كما قال - سبحانه- :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام ﴾ [ الأعراف : ١٦٠ ]. قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً ﴾، جمع " كِنّ " ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ، وهو في الجبل : الغار، وقيل : كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً، ويقال : اسْتكن وأكَنّ، إذا صار في كنٍّ.
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحرِّ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة ؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال، كما قال - تعالى- :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾ ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر، كما قال - عز وجل- :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ [ النور : ٤٣ ]، وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج. وقال :﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾، وما يَقِي من البرد أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ.
ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن، ذكر بعده أمر الملبُوسِ ؛ فقال - جل ذكره- :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾، والسَّرابيل : القُمص، واحدها سربال.
قال الزجاج - رحمه الله- :" كل ما لبسته فهو سِرْبال، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره " ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين :
أحدهما : ما يقي الحرَّ والبرد. والثاني : ما يتقى به من البأسِ والحروب.
فإن قيل : لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد ؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارَّة [ يابسة ]١، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد : كما قال - سبحانه وتعالى - ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾، وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر٢.
والثاني : قال المبرِّد : ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر ؛ كقوله :[ الطويل ]
كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا٣
لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر، فإنَّ الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً، وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض.
الثالث : قال الزجاج :" وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر ".
فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى ؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف.
فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ ﴾، أي : مثل ذلك الإتمام السابق، ﴿ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾، في المستقبل. وقرأ٤ ابنُ عباس- رضي الله عنهما - :" تَتِمُّ "، بفتح التاء الأولى، " نِعْمَتُهُ " بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً٥ :" نِعَمَهُ "، جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ٦ أيضاً :" لعلكم تَسْلَمُونَ " بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله :" تَقِيكُم بَأسكُمْ " ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحرب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
قوله :" فإنْ تَولَّوا "، يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، والأصل : تتولَّوا، فحذف نحو :" تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ " ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق.
ومعنى الكلام : فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام.
١ زيادة من: ب..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٠) والرازي (٢٠/٧٦)..
٣ تقدم..
٤ ينظر: البحر ٥/٥٠٨، والقرطبي ١٠/١٠٦، وفيه نسبها إلى ابن محيصن وحميد..
٥ ينظر: البحر ٥/٥٠٨، والدر المصون ٤/٣٥٣..
٦ ينظر: القرطبي ١٠/١٠٦، والبحر ٥/٥٠٨، والدر المصون ٤/٣٥٣..
قوله :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾، هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي : فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب ؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب،
ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء ب " ثُمَّ " هنا ؛ للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة ؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه :
قال القاضي١ : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم : أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.
وقيل : المراد بالنِّعمة هنا : نُبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها، ونبوته نعمة عظيمة ؛ كما قال - تعالى- :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
وقيل :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾، أي : لا يستعملونها في طلب رضوان الله، ثم قال جل ذكره :﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾.
فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾، مع أنَّهم كلهم كافرون ؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : إنما قال - عز وجل - :﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾ ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة ؛ كالصَّبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر ؛ البالغين الأصحاء.
والثاني : أن المراد بالكافر : الجاحد المعاند، فقال :" وأكْثَرهُم " ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله.
الثالث : ذكر الأكثر وأراد الجميع ؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل ؛ كقوله :﴿ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ الآية لما بيَّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمَّ أنكروها، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد؛ فذكر حال يوم القيامة.
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ فيه أوجه:
أحدها: منصوب بإضمار «اذْكُرْ».
الثاني: بإضمار «خوفهم».
الثالث: تقديره: ويوم نبعث، وقعوا في أمر عظيم.
الرابع: أنه معطوف على ظرف محذوف، أي: ينكرونها اليوم ويوم نبعث.
والمراد بأولئك الشهداء: الأنبياء - صلوات الله عليهم؛ كما قال - سبحانه
136
وتعالى -: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١].
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى» ثُمَّ «هذه؟ قلت: معناه: أنهم يُمْنَعُونَ بعد شهادة الأنبياء عليه السلام بما هو أطمّ منه، وهو أنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [إدلاء] حجة:. انتهى.
ومفعول الإذن محذوف، أي: لا يؤذن لهم في الكلام؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] أي: في الرُّجوع إلى الدنيا.
وقيل: لا يؤذنُ لهم في الكلام أصلاً، ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي: لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى: أعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْبَاه، و»
اسْتَفْعَل «بمعنى:» أفْعَلَ «غير مستنكرٍ، قالوا: اسْتدنَيتُ فلاناً وأدْنَيتهُ بمعنًى واحد.
وقيل: السِّين على بابها من الطَّلب، ومعناه: أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدُّنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم.
وقال الزمخشري»
ولا هم يسترضون، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل «. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله - تعالى - في سورة حم السجدة؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه. ثم إنَّه - تعالى - أكَّد هذا الوعيد فقال: ﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب﴾ أي: أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ ولا يؤخِّرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير موجودة.
قوله:»
فَلا يُخَفَّفُ «هذه الفاء وما حيِّزها جواب» إذَا «، ولا بدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء، أي: فهو لا يخفف؛ لأن جواب» إذا «متى كان مضارعاً، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ﴾ [الحج: ٧٢] أم منفيًّا؛ نحو:» إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك «.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ وهذا من بقيَّة وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان:
الأول: أن الله - تعالى -: يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم.
والثاني: أن المراد بالشركاء: الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر؛ قاله الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وإنَّما ذهب إلى هذا القول؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار، والأصنام جمادات فلا يصحُّ منهم هذا القول.
وهذا بعيد؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنُّطق فيها.
137
قوله: ﴿وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾ العامة على فتح السين واللام.
وقرأ أبو عمرو في رواية بسكون اللام، ومجاهد بضمِّ السين واللام، وكأنَّه جمع سلام؛ نحو: قُذال وقُذُل، والسَّلَمُ واحد، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء.

فصل


والمعنى: أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء، ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك﴾، وفائدة هذا القول من وجهين:
الأول: قال أبو مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله، أو ينقص من عذابهم، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام».
قال القاضي: «هذا بعيدٌ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة».
والثاني: أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام، مع أنه لا ذنب لها، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها.
ثم حكى - تعالى - انَّ الأصنام يكذبونهم، فقال: ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، والمعنى: أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم، أي: يقولون لهم: «إنَّكُم لكَاذِبُونَ».
فإن قيل: إن المشركين لم يقولوا، بل أشاروا إلى اًنام، فقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك، فكيف قالت الأصنام طإنَّكم لكَاذبُونَ «؟.
فالجواب من وجوه:
أصحها: أن المراد من قولهم:»
هؤلاء شُركاؤنَا «، أي: أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة.
وقيل: المراد: إنَّهم لكاذبون في قولهم: إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ [مريم: ٨٢].
ثم قال: ﴿وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾ قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد.
138
وقيل: استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً، ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله، وقيل: ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً.
وقوله: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر» زِدنَاهُم «وهو واضح، وجوَّز ابن عطية أن يكون» الَّذينَ كَفروا «بدلاً من فاعل» يَفْترُونَ «، ويكون» زِدْناهُم «مستأنفاً.
ويجوز أن يكون «الَّذينَ كَفرُوا»
نصباً على الذَّمِّ أو رفعاً عليه، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً.

فصل


لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه ب «وعيد» من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله، وهو منعهم عن طريق الحقِّ.
وقيل: صدهم عن المسجد الحرام، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾ ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا
»
. «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[ومقاتل] :» المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذابٍ؛ تسيل من تحت العرش، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنَّهار «.
وقال سعيد بن جبير: زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت، وعقارب كالبغال تلسعهم، وقيل: يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير.
وقيل: يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون، أي: بذلك الصَّد.
139
﴿ وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب ﴾، أي : أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك :﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾، ولا يؤخِّرون ولا يمهلون ؛ لأن التوبة هناك غير موجودة.
قوله :" فَلا يُخَفَّفُ "، هذه الفاء وما حيِّزها جواب " إذَا "، ولابدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء، أي : فهو لا يخفف ؛ لأن جواب " إذا " متى كان مضارعاً، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً ؛ كقوله - تعالى - :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ ﴾ [ الحج : ٧٢ ] أم منفيًّا ؛ نحو :" إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك ".
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ ﴾، وهذا من بقيَّة وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان :
الأول : أن الله - تعالى- : يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم.
والثاني : أن المراد بالشركاء : الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر ؛ قاله الحسن - رضي الله عنه -، وإنَّما ذهب إلى هذا القول ؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار، والأصنام جمادات، فلا يصحُّ منهم هذا القول.
وهذا بعيد ؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام، وعلى خلق العقل والنُّطق فيها.
قوله :﴿ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم ﴾، العامة على فتح السين واللام.
وقرأ أبو عمرو١ في رواية : بسكون اللام، ومجاهد : بضمِّ السين٢ واللام، وكأنَّه جمع سلام ؛ نحو : قُذال وقُذُل، والسَّلاَمُ والسَّلَمُ واحد، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء.

فصل


والمعنى : أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء، ﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك ﴾، وفائدة هذا القول من وجهين :
الأول : قال أبو مسلم - رحمه الله- :" مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام ؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله، أو ينقص من عذابهم، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام ".
قال القاضي٣ :" هذا بعيدٌ ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة ".
والثاني : أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام، مع أنه لا ذنب لها، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها.
ثم حكى - تعالى - أنَّ الأصنام يكذبونهم، فقال :﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾، والمعنى : أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم، أي : يقولون لهم :" إنَّكُم لكَاذِبُونَ ".
فإن قيل : إن المشركين لم يقولوا، بل أشاروا إلى الأصنام، فقالوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك، فكيف قالت الأصنام " إنَّكم لكَاذبُونَ " ؟. فالجواب من وجوه : أصحها : أن المراد من قولهم :" هؤلاء شُركاؤنَا "، أي : أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول : إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة. وقيل : المراد : إنَّهم لكاذبون في قولهم : إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ [ مريم : ٨٢ ]. ثم قال :﴿ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم ﴾، قال الكلبي : استسلم العابد والمعبود، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد. وقيل : استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم، ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً. ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله، وقيل : ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً.
١ ينظر: البحر ٥/٥١٠، والمحرر ٨/٤٩١، والدر ٤/٣٥٤..
٢ ينظر: البحر ٥/٥١٠، والدر المصون ٤/٣٥٤..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٧٨..
وقوله :﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾، يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر :" زِدنَاهُم "، وهو واضح، وجوَّز ابن عطية١ أن يكون :" الَّذينَ كَفروا "، بدلاً من فاعل " يَفْترُونَ "، ويكون :" زِدْناهُم " مستأنفاً.
ويجوز أن يكون :" الَّذينَ كَفرُوا "، نصباً على الذَّمِّ، أو رفعاً عليه، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً.

فصل


لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه ب :" وعيد " من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله، وهو منعهم عن طريق الحقِّ.
وقيل : صدهم عن المسجد الحرام، ﴿ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب ﴾ ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان.
قال - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً، فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا ". " قال ابن عباس - رضي الله عنه - [ ومقاتل ]٢ :" المراد بتلك الزيادة : خمسة أنهار من صفر مذابٍ، تسيل من تحت العرش، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل، واثنان بالنَّهار " ٣.
وقال سعيد بن جبير : زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت، وعقارب كالبغال تلسعهم، وقيل : يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير٤.
وقيل : يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون، أي : بذلك الصَّد.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤١٥..
٢ زيادة من: أ..
٣ أخرجه أبو يعلى (٥/٦٦) (رقم ٢٦٦٠) ثنا سريج ثنا إبراهيم بن سليمان عن الأعمش عن الحسن عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/٣٩٠) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح:
قلت: وفي سماع الحسن من ابن عباس كلام. فقد نفى سماعه علي بن المديني وأحمد وأبو حاتم ويحيى ابن معين ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص (٣٣، ٣٤) وجامع التحصيل ص (١٦٣)..

٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨١)..
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
139
وهذا نوع آخر من التَّهديد، والأمة عبارة عن القرن والجماعة، والمراد أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم.
وقيل: المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا، فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣] وقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء﴾.
وقال الأصم: المراد بالشَّهيد هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه، وهي: الأذنان، والعينان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان.
قال: والدَّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم.
وأجاب القاضي عنه: بأنه - تعالى - قال: ﴿شَهِيداً عَلَيْهِمْ﴾، أي: على الأمَّة، فيجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال: «مِنْ كل أمةٍ» فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً﴾ يجوز أن يكون «تِبْيَاناً» في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، وهو مصدر ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان: هذا والتِّلقاء، وفي الأسماء كثيراً، نحو «التِّمساح والتِّمثال» وأما المصادر فقياسها فتح الأول؛ دلالة على التكثير ك «التَّطوافِ» و «التَّجْوالِ».
وقال ابن عطية: إنَّ «التِّبْيَان» اسمٌ وليس بمصدر والنحويُّون على خلافه.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده، عن الزجاج أنه قال: «التِّبيان» اسمٌ في ممعنى البيان.
وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله: أنه - تعالى - قال: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء﴾ أي: أنه أزاح علتهم فميا كلِّفوا، فلا حجَّة لهم ولا معذرة.
وقال نفاةُ القياس: دلَّت هذه الآية على أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ، والعلوم إمَّا دينية، أو غير دينية، فالتي ليست دينية، لا تعلُّق لها بهذه الآية؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، وأمَّا غير ذلك، فلا التفاتَ إليه، وأما علومُ الدِّين: فإمَّا الأصول، وإما الفروع.
140
فأما علم الأصول: فهو بتمامه موجوٌ في القرآن.
وأما علم الفروع: فالأصل براءة الذِّمَّة، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان القول بالقياس باطلاً، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام.
قال الفقهاء: إنَّما كان القرآن «تِبياناً لكل شَيْءٍ» ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ، وبر الواحد، والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف.
قال المفسرون: «تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه الأمرِ، والنهيِ والحلالِ، والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، «وهُدًى» من الضَّلالةِ، «ورحْمَةٌ» و «بشرى» وبشارة «للمسلمين»، قوله: «للمسلمين» متعلق ب «بشرى»، وهو متعلق من حيث المعنى ب «هدى ورحمة» أيضاً.
وفي جواز كون هذا من التنازع، نظر، من حيث لزوم الفصل بين المصدر، ومعموله بالظرف، حال إعمالك غير الثالث؛ فتأمَّلهُ.
وقياس من جوَّز [التنازع] في فعل التعجب، والتزام إعمال الثاني؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوم هذا على هذه الحالة.
141
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ الآية لما شرح الوعد، والوعيد، والتَّرغيب، والتَّرهيب، أتبعه بقوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ فجمع في هذه الآية ما
141
يتصل بالتكاليف؛ فرضاً، ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق، والآداب: عموماً وخصوصاً.
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال: ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدِّثني، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال: «بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينل عن يميني، فقال: يا محمد، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: القيام بالفرائض، وإيتاء ذي القربى، أي: صلة القربى، وينهى عن الفحشاء: الزِّنا، والمنكرِ: ما لا يعرف في شريعة، ولا سنة، والبغي: الاستطالة». قال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي، فأتيت أبا طالب؛ فأخبرته، فقال: يا معشر قريش، أتَّبعُوا ابن أخي؛ ترشدوا، ولئن كان صادقاً أو كاذباً، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، فلما رأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عمه اللِّين قال: يا عمَّاه، أتأمر الناس أن يتَّبعوني، وتدع نفسك! وجهد عليه؛ فأبى أن يسلم؛ فنزل: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية».
وعن قتادة: ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ، كان في الجاهلية يعمل، ويستحسن، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية، وليس من خلقٍ سيِّءٍ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: طأمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ فخرج، وأنا معه وأبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ، فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ممَّن القوم؟ فقالوا: من شيبان، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الشهادتين إلى أن ينصروه؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه، فقال مقرون بن عمرو: إلام تدعونا، أخا قريش؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ الآية فقال
142
مقرون: دعوت والله، إلى مكارم [الأخلاق] ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك، وظاهروا عليك «.

فصل


قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: العدلُ: التوحيدُ، والإحسانُ: أداءُ الفرائضِ، وعنه: العدلُ: الإخلاصُ في التوحيد، وهو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراهُ»
وسمِّي هذا إحساناً؛ لأنه محسن إلى نفسه.
وقيل: العدلُ: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال؛ فلا تفعل إلاَّ ما هو عدلٌ، ولا تقل إلاَّ ما هو إحسانٌ.
قوله: ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، ولم يذكر متعلقات العدلِ والإحسان والبغي؛ ليعمَّ جميع ما يعدل فيه، ويحسن به وإليه ويبغي فيه، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء، ونصَّ على الأول حضًّا عليه؛ لإدلائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءه صدقة وصلة. قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إنَّ أعجلَ الطَّاعةِ ثَواباً صِلةُ الرَّحمِ».
وقوله: ﴿وينهى عَنِ الفحشاء﴾ قيل: الزِّنا، وقيل: البُخل، وقيل: كل [ذنب] صغيرة كانت أو كبيرة، وقيل: ما قبح من القول أو الفعل، وأما المنكر فقيل: الكفر بالله، وقيل: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، والبغي: التَّكبر والظُّلم.

فصل


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - كلاماً حاصله: «إنَّ في المأمورات كثرة، وفي المنهيَّات كثرة، وإنتما يحسن في تفسير لفظ بمعنًى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة، وألا يكون ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسَّرنا العدل بشيء مثلاً، وجب أن يتبيَّن مناسبة العدل لذلك المعنى، وألاَّ يكون مجرَّد تحكم، فنقول: إنه - تعالى - أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء؛ وهي: العدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى، ونهى عن ثلاثة أشياء؛ وهي: الفحشاء والمنكر والبغي، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة؛ لأن العطف
143
يوجب المغايرة، فنقول: العدل عبارة عن الأمور المتوسِّطة بين طرفي الإفراط والتَّفريط، وذلك واجب الرِّعاية في جميع الأشياء، فنقول: التَّكليف إمَّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح.
أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة:
أحدها: ما قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إن العدل هو قولنا: لا إله إلاَّ الله، وتحقيقه: أنَّ نفي الإله تعطيلٌ محضٌ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه، وهما مذمومان، والعدل هو إثبات إلهٍ واحد.
وثانيها: أن القول بأنَّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محضٌ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيِّز تشبيه محضٌ، والعدل: إثبات إلهٍ واحدٍ موجودٍ منزَّه عن الجسميَّة والأجزاء والمكان.
وثالثها: أن القول بأنَّ الإله غير موصوف بالصِّفات من العلم والقدرة تعطيل محضٌ، والقول بأنَّ صفاته حادثة متغيِّرة تشبيه محض، العدل: إثبات أن الإله عالم قادرٌ حيٌّ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة - سبحانه وتعالى -.
ورابعها: أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محضٌ، والقول بأن العبد مستقلٌّ بأفعاله قدر محضٌ؛ وهما مذمومان، والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه.
وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة:
أحدها: قال قوم: لا يجب على العبد شيء من الطَّاعات، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي، ونفورا التَّكاليف أصلاً.
وقال المانويَّة وقوم من الهند: إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه، ويبالغ في تعذيب نفسه، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب، والهند يحرقون أنفسهم، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والعدل هو شرعنا.
وثانيها: قيل: إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو، وأمَّا في شرعنا: فإن شاء استوفى القصاص، وإن شاء عفا عن الدِّية، وإن شاء عفا مطلقاً.
وقيل: كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار، وفي شرع عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلُّ وطئها، والعدل ما حكم به شرعنا؛ وهو تحريم وطئها فقط.
وثالثها: قال - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: ١٤٣] وقال - جل
144
ذكره -: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧] وقال - جل ذكره -: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط﴾ [الإسراء: ٢٩]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا».
ورابعها: أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه: أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس، فلو بقيت القلفة، لبقي العضو على كمال قوَّته، فيعظم الالتذاذ، أمَّا إذا قطعت الجلدة، بقي العضو عارياً، فيلقى الثياب وسائر الأجسام، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع، فتقلُّ الرغبة فيه، فأمرت الشريعة بالختان؛ سعياً في تقليل تلك اللذة، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع.
فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم؛ لأنه إفراطٌ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الختانُ.
واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً، وقد تكون إساءة؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ، فهي من جملة الإحسانِ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان: «أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ».
وسمِّي هذا المعنى بالإحسان؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلق الله، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة، وأعظمها: صلة الرحم؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر، فقال - تعالى -: ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها؛ وهي: «الفحشاء والمنكر والبغي» فنقول: إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة؛ وهي: الشَّهوانيَّة البهيميَّة، والغضبية والسبعيَّة، والوهميَّة الشيطانية، والعقلية الملكية.
فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها؛ لأنه من جوهر الملائكة.
وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة؛ فقال - جل ذكره -: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢]، وقوله - تعالى -: ﴿وينهى عَنِ الفحشاء﴾ المراد منه: المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة.
وأما القوَّة الغضبية السبعية: فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس، وهذا ممَّا ينكره الناس، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة.
وأما القوة الوهمية الشيطانية: فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس، والترفع
145
وإظهار الرِّياسة والتكبُّر، وذلك هو المراد من البغي؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم.
قوله: «يَعِظُكمْ» يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم، أي: أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في «يَنْهَى».
وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل «يَأمرُ» أيضاً، بل أولى؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي، فلا خصوصية له بالنَّهي.
ثم قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قال الكعبي: دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه:
الأول: أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه، لكان كأنَّه - تعالى - قال: إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، وذلك باطلٌ في بديهة العقل.
الثاني: أنه - تعالى - أمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة، ثم إنه - تعالى - ما فعلها، لدخل تحت قوله - تعالى -: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤]، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢، ٣].
الثالث: أن قوله - تعالى -: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى -، فوجب أن يكون معناه: أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ.
الرابع: أنه - تعالى - لو صرَّح وقال: إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه، ولا يمكن العبد منه، ثم قال - تعالى -: ﴿وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي﴾، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى، وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح.
والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي.

فصل


اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون؛ فإن كان له شعور به، فذلك الذِّكر حاصلٌ، والحاصل لا يطلب تحصيله، وإن لم يكن له به شعور، فكيف يطلبه بعينه؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال.
146
إذا ثبت هذا، فقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ معناه: أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه.
قوله - تعالى -: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.
قال الزمخشري: عهد الله: هي البيعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإسلام؛ لقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠]، ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ وقيل: كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والوَعْدُ من العهد.
وقال ميمون بن مهران: من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى -.
وقال الأصم: المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل: عهد الله هو اليمين بالله.
قال الشعبي: العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ».
واعلم أن قوله - تعالى -: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذلك: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾، وأيضاً: يجب ألا يحمل العهد على اليمين؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك: ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ تكرار؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك؛ إلاَّ إذا قلنا: إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف.
قوله: «بَعْدَ تَوكِيدهَا» متعلق بفعل النَّهي، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى: أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز، ومعناه: التقوية؛ وهذا كقولهم: أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ،
147
وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك، ثم قال: طولا يحسن أن يقال: الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال ذلك في «أحد»، إذ أصله «وحَد» فالهمزة بدلٌ من الواو «يعني: أنه لا قائل [بالعكس].
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً، و»
تَوْكيدِهَا «مصدر مضافٌ لمفعوله، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء، ولا ثاني له في القرآن، أعني: أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله﴾ الجملة حال: إمَّا من فاعل»
تَنْقضُوا «، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً.

فصل


المعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها، و ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ : شهيداً عليكم بالوفاء.
﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ قالت الحنفيَّة: يمين اللَّغو هي يمين الغموس؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث، فوجب ألا يكون من الأيمان.
وقال غيرهم: هي قول الإنسان في معرض حديثه: لا والله، وبلى والله؛ لأن قوله - تعالى - ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد، وبين غيرها.
واعلم أن قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ عامٌّ دخله التخصيص؛ لما تقدَّم من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:»
مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ «.
ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد، فقال - جل ذكره -: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾، أي: من بعد إبرامه وإحكامه.
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى -: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم، وتلقب ب»
جعراء «، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنَّارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة
148
على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواربها، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار، فإذا انتصف النَّهار، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها.
والمعنى: أنَّها لم تكلَّ عن العمل، ولا حين عملت كفَّت عن النقض، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد، ولا حين [عهدتم] وفيتم به.
وقيل: المراد بالمثل: الوصف دو التَّعيين؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم دون التَّعيين.
قوله تعالى: «أنكاثاً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه حال من «غَزلِهَا»، والأنْكَاثُ: جمع نِكْث بمعنى منكُوث، أي: منقوض.
والثاني: أنه مفعول ثان لتضمين «نَقضَتْ» معنى صيَّرت؛ كما تقول: فرقته أجزاء.
وجوَّز الزجاج فيه وجهاً ثالثاً، وهو النصب على المصدرية؛ لأنَّ معنى نكثت: نقضت، ومعنى نقضت: نكثت؛ فهو ملاق لعامله في المعنى.
قيل: وهذا غلط منه؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث، وهو اسمٌ لا مصدر، فكيف يكون قوله: «أنْكَاثاً» بمعنى المصدر؟.
والأنْكَاث: الأنقاض، واحدها نِكْث؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً.

فصل


قال ابن قتيبة: هذه الآية متَّصلة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنَّكم إن فعلتم ذلك، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً.
قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ﴾ يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو «تكونوا»، أو من الضمير المستتر في الجارِّ؛ إذ المعنى: تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله: «دَخَلاً بَيْنكُمْ» هو المفعول الثاني ل «تَتَّخِذُونَ»، والدَّخلُ: الفساد والدَّغل.
وقيل: «دَخَلاً» مفعول من أجله، وقيل: الدَّخل: الدَّاخل في الشيء ليس منه.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «الدَّخلُ والدَّغلُ: الغِشُّ والخِيانةُ».
وقيل: الدَّخل: ما أدخل في الشيء على فسادٍ، وقيل: الدَّخل والدَّغل: أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض.
149
وقوله تعالى: «أنْ تَكُونَ» أي: بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون، و «تكون» يجوز أن تكون تامة؛ فتكون «أمَّةٌ» فاعلها، وأن تَكُونَ ناقصة، فتكون «أمَّةٌ» اسمها وهي مبتدأ، و «أرْبَى» خبره، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول، وفي موضع الجر على الوجه الثاني، وجوَّز الكوفيون أن تكون «أمَّةٌ» اسمها، و «هِيَ» عماد، أي: ضمير فصل، و «أرْبَى» خبر «تَكونُ»، والبصريُّون لا يجيزون ذلك؛ لأجل تنكير الاسم، فلو كان الاسم معرفة، لجاز ذلك عندهم.

فصل


قال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ، نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر، فالمعنى: طلبتم العز بنقص العهدِ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك.
ومعنى «أرْبَى من أمَّةٍ» ؛ أي: أزيدُ في العدد، والقوَّة، والشَّرف.
ثم قال - جل ذكره -: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ﴾، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد.
والضمير في «به» يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من «أنْ تَكُونَ»، تقديره: إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة، أي: يختبركم بذلك.
وقيل: يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله: «هي أرْبَى».
وقيل: على الكثرة؛ لأنَّها في معنى الكثير.
قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ملا كان تأنيثها غير حقيقي، حملت على معنى التَّذكير؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى: ﴿هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾.
ثم قال: ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الدُّنيا، فيميِّز المحقَّ من المبطل.
قوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء.
والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء، أي: لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى
150
الكفر، لقدر عليه، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك.
وروى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عزيراً قال: ربِّ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير، أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً، فقال: يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ديوان] النبوَّة.
قالت المعتزلة: ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى -، لكان سؤالهم عنها عبثاً، وتقدَّم جوابه.
قوله تعالى -: ﴿وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.
فلهذا قال المفسرون: المراد: نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده؛ لأن قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمان به وبشرائعه.
وقوله - تعالى -: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ منصوب بإضمار «أنْ» على جواب النهي.
وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ، أو سقط في ورطة بعد سلامة، أو محنة بعد نعمة.
قوله: ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله﴾ «مَا» مصدرية، و «صَددتُّمْ» يجوز أن يكون من الصُّدود، وأن يكون من الصدِّ، ومفعوله محذوف، ونكِّرت «قدم» ؛ قال الزمخشري «فإن قلت: لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت؟.
قلت: لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟»
.
قال أبو حيَّان: «الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً، فيجمع ما أسند إليه، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد؛ كقوله: ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ﴾ [يوسف: ٣١] لما كان
151
لوحظ في قوله:» لَهُنَّ «معنى لكل واحدة، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة أو على الكثير في الوجه الثاني، لجمع المتَّكأ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر: [الطويل]
٣٣٥٩ - فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا
أي: رأيت كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفرد الضمير في»
يَموتُ ويَفْنَى «، ولمَّا كان المعنى: لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء» فتَزلَّ قدَمٌ «مراعاةً لهذا المعنى.
ثم قال:»
وتَذُوقُوا السوء «مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير، إذا قلنا: إنَّ الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع، وباعتبار كل فرد فرد، ودلَّ على ذلك بإفراد» قَدمٌ «وبجمع الضمير في» وتَذُوقُواْ «.
قال شهاب الدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير»
قَدمٌ «وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى: يَموتُ من ثم ومن ذكر، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر.

فصل


المعنى: وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله، وقيل: معناه: سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد، ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، أي: ذلك السوء الذي تذوقونه»
عَذابٌ عَظيمٌ «.
ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره -: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي: لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء ﴿هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فضل ما بين العوضين.
ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾، أي الدنيا وما فيها تفنى، ﴿وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ فقوله: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ﴾ مبتدأ وخبر، والنَّفادُ: الفَناءُ والذهاب، يقال:»
نَفِدَ «بكسر العين» يَنْفَدُ «بفتحها نفَاداً ونُفوداً، وأما نقذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ الفتح ينفذُ بالضمِّ، وسيأتي.
ويقال: أنفد القوم إذا فَنِيَ زادهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ لينفد حجة صاحبه، يقال: نافدته فنفدته.
وقوله: «بَاقٍ»
تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد، وهذه الآية حجة عليه.
152
قوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا﴾ قرأ ابن كثيرٍ، وعاصم وابن ذكوان: «وَلنَجْزينَّ» بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم، وتقدم تقرير الالتفات.
والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى -؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾.
قوله: ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ﴾ يجوز أن يكون [ «أفعل» ] على بابها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسن، فلأن يجازيهم بالحسن أولى.
وقيل: ليست للتَّفضيل، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن، وهو وهمٌ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى، والمعنى: ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام؛ فقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وفيه سؤالٌ: وهو أن لفظة «مَنْ» في قوله: «مَن عَملَ» تفيد العموم، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى؟.
والجواب: أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد، وإزالة الوهم بالتخصيص.
قوله: «مِنْ ذَكرٍ» «مِنْ» للبيان، فتتعلق بمحذوف، أعني: من ذكرٍ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «عَمِلَ»، وقوله: «وهُوَ مُؤمِنٌ» جملة حاليَّة أيضاً.
وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيشء.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، وظاهر قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه.
فالجواب: أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان.

فصل


قال سعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعطاء: «الحياة الطَّيِّبة: هي الرِّزقُ الحلال»
153
وقال الحسن: هي القناعة، وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة.
قال القاضي: الأقرب أنها تحصل في الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ والمراد: ما [لا] يكون في الآخرة.
قوله: «ولنَجْزِينَّهُمْ» راعى معنى «مَنْ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها، فأفرد في» لنحيينه «وما قبله، وقرأ العامة:» ولنجزينه «بنون العظمة؛ مراعاة لما قبله، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها، حذفتا وبقي جوابهما، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب؛ لإفضائه إلى [إخبار] المتكلم عن نفسه إخبار الغائب، ولا يجوز؛ لو قلت:» زيد قال: والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ «لم يجز، فإن أضمرت قسماً آخر، جاز، أي: وقال: والله لينفينَّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه، ومنه ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ [التوبة: ١٠٧] وأن يحكي معناه، ومنه ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾ [التوبة: ٧٤] ولو جاء على اللفظ، لقيل ما قلنا.
154
قوله - تعالى - :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ الآية، لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.
قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ؛ لقوله - تعالى - :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ]، ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد١.
وقال ميمون بن مهران : من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّما وفاء العهد لله - تعالى-٢.
وقال الأصم : المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل : عهد الله، هو اليمين بالله.
قال الشعبي : العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه٣ ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها، فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ، وليكفرْ عن يَمينهِ " ٤.
واعلم أن قوله - تعالى - :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾، يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك :﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ تكرار ؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك ؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر ؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات، والمؤكدات بالحلف.
قوله :" بَعْدَ تَوكِيدهَا "، متعلق بفعل النَّهي، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو، وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ، وليست الهمزة بدلاً من واو، كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك، ثم قال :" ولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال ذلك في :" أحد "، إذ أصله :" وحَد "، فالهمزة بدلٌ من الواو "، يعني : أنه لا قائل [ بالعكس ]٥.
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً، و " تَوْكيدِهَا " مصدر مضافٌ لمفعوله، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء، ولا ثاني له في القرآن، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف.
قوله تعالى :﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله ﴾، الجملة حال : إمَّا من فاعل " تَنْقضُوا "، وإمَّا من فاعل المصدر، وإن كان محذوفاً.

فصل


المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها، و ﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾ : شهيداً عليكم بالوفاء.
﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾، قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، فنهى عن نقض الأيمان، فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث، فوجب ألا يكون من الأيمان.
وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله، وبلى والله ؛ لأن قوله - تعالى - :﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد، وبين غيرها.
واعلم أن قوله - تعالى - :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، عامٌّ دخله التخصيص ؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ، وليُكفر عن يَمينهِ ".
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٨٦)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٦)..
٤ تقدم..
٥ في ب: بذلك..
ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد، فقال - جل ذكره- :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾، أي : من بعد إبرامه وإحكامه.
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى - : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم، وتلقب ب " جعراء "، وكانت بها وسوسة، وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنَّارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواريها، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار، فإذا انتصف النَّهار، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها١.
والمعنى : أنَّها لم تكفَّ عن العمل، ولا حين عملت كفَّت عن النقض، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد، ولا حين [ عهدتم ]٢ وفيتم به.
وقيل : المراد بالمثل : الوصف دون التَّعيين ؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم دون التَّعيين.
قوله تعالى :" أنكاثاً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه حال من " غَزلِهَا "، والأنْكَاثُ : جمع نِكْث بمعنى منكُوث، أي : منقوض.
والثاني : أنه مفعول ثان لتضمين " نَقضَتْ " معنى صيَّرت ؛ كما تقول : فرقته أجزاء.
وجوَّز الزجاج٣ فيه وجهاً ثالثاً، وهو النصب على المصدرية ؛ لأنَّ معنى نكثت : نقضت، ومعنى نقضت : نكثت ؛ فهو ملاق لعامله في المعنى.
قيل : وهذا غلط منه ؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث، وهو اسمٌ لا مصدر، فكيف يكون قوله :" أنْكَاثاً " بمعنى المصدر ؟.
والأنْكَاث : الأنقاض، واحدها نِكْث ؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً.

فصل


قال ابن قتيبة : هذه الآية متَّصلة بما قبلها، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنَّكم إن فعلتم ذلك، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً.
قوله تعالى :﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾، يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو " تكونوا "، أو من الضمير المستتر في الجارِّ ؛ إذ المعنى : تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله :" دَخَلاً بَيْنكُمْ "، هو المفعول الثاني ل " تَتَّخِذُونَ "، والدَّخلُ : الفساد والدَّغل.
وقيل :" دَخَلاً "، مفعول من أجله، وقيل : الدَّخل : الدَّاخل في الشيء ليس منه.
قال الواحدي - رحمه الله تعالى - :" الدَّخلُ والدَّغلُ : الغِشُّ والخِيانةُ ".
وقيل : الدَّخل : ما أدخل في الشيء على فسادٍ، وقيل : الدَّخل والدَّغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض.
وقوله تعالى :" أنْ تَكُونَ "، أي : بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون، و " تكون " يجوز أن تكون تامة ؛ فتكون " أمَّةٌ " فاعلها، وأن تَكُونَ ناقصة، فتكون :" أمَّةٌ " اسمها، وهي مبتدأ، و " أرْبَى " خبره، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول، وفي موضع الجر على الوجه الثاني، وجوَّز الكوفيون أن تكون :" أمَّةٌ " اسمها، و " هِيَ " عماد، أي : ضمير فصل، و " أرْبَى " خبر " تَكونُ "، والبصريُّون لا يجيزون ذلك ؛ لأجل تنكير الاسم، فلو كان الاسم معرفة، لجاز ذلك عندهم.

فصل


قال مجاهد - رحمه الله - : كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ، نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر، فالمعنى : طلبتم العز بنقص العهدِ ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك٤.
ومعنى :" أرْبَى من أمَّةٍ " ؛ أي : أزيدُ في العدد، والقوَّة، والشَّرف.
ثم قال - جل ذكره- :﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ ﴾، أي : يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد.
والضمير في :" به " يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من :" أنْ تَكُونَ "، تقديره : إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة، أي : يختبركم بذلك.
وقيل : يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله :" هي أرْبَى ".
وقيل : على الكثرة ؛ لأنَّها في معنى الكثير.
قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى : لما كان تأنيثها غير حقيقي، حملت على معنى التَّذكير ؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح، ولم يتقدم للكثرة للفظ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى :﴿ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾.
ثم قال :﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ في الدُّنيا، فيميِّز المحقَّ من المبطل.
١ ينظر: البغوي (٣/٨٦)..
٢ في أ: عملتم..
٣ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٣/٢١٧..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٣٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٤٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
قوله - تعالى- :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الآية، لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء.
والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء، أي : لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر، لقدر عليه، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك.
وروى الواحدي رحمه الله : أنَّ عزيراً قال : ربِّ، خلقت الخلق، فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء، فقال : يا عزير، أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً، فقال : يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ ديوان ]١ النبوَّة.
قالت المعتزلة٢ : ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده :﴿ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى-، لكان سؤالهم عنها عبثاً، وتقدَّم جوابه.
١ زيادة من: أ..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٨٨..
قوله تعالى- :﴿ وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ الآية، لما حذر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان مطلقاً، قال في هذه الآية :﴿ وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.
فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده ؛ لأن قوله :﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه.
وقوله - تعالى- :﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ منصوب بإضمار " أنْ " على جواب النهي.
وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ، أو سقط في ورطة بعد سلامة، أو محنة بعد نعمة.
قوله :﴿ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله ﴾، " مَا " : مصدرية، و " صَددتُّمْ " : يجوز أن يكون من الصُّدود، وأن يكون من الصدِّ، ومفعوله محذوف، ونكِّرت " قدم " ، قال الزمخشري :" فإن قلت : لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت ؟.
قلت : لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة ؟ ".
قال أبو حيَّان١ :" الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً، فيجمع ما أسند إليه، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد ؛ كقوله :﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ ﴾ [ يوسف : ٣١ ]، لما كان لوحظ في قوله :" لَهُنَّ " معنى لكل واحدة، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة، أو على الكثير في الوجه الثاني، لجمع المتَّكأ ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر :[ الطويل ]
فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا٢
أي : رأيت كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفرد الضمير في " يَموتُ ويَفْنَى "، ولمَّا كان المعنى : لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء " فتَزلَّ قدَمٌ " مراعاةً لهذا المعنى.
ثم قال :" وتَذُوقُوا السوء "، مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير، إذا قلنا : إنَّ الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع، وباعتبار كل فرد فرد، ودلَّ على ذلك بإفراد " قَدمٌ "، وبجمع الضمير في " وتَذُوقُواْ ".
قال شهاب الدين٣ - رضي الله عنه - : وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير " قَدمٌ " وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى : يَموتُ من ثم ومن ذكر، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر.

فصل


المعنى : وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله، وقيل : معناه : سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد، ﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، أي : ذلك السوء الذي تذوقونه " عَذابٌ عَظيمٌ ".
ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره- :
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٥١٥..
٢ ينسب البيت إلى منظور الدبيري، ويروى:
فإني رأيت الباخلين متاعهم يذم ويفنى فارضخي من وعائيا
ينظر: اللسان (حظل)، أمالي المرتضى ٢/١٥٩، الدر اللقيط ٥/٥٣٢، البحر المحيط ٥/٥١٦، الألوسي ١٤/٢٢٤، الدر المصون ٤/٣٥٦..

٣ ينظر: الدر المصون ٤/٣٥٧..
﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، أي : لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء ﴿ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فضل ما بين العوضين.
ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾، أي : الدنيا وما فيها تفنى، ﴿ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾، فقوله :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ﴾، مبتدأ وخبر، والنَّفادُ : الفَناءُ والذهاب، يقال :" نَفِدَ " بكسر العين، " يَنْفَدُ "، بفتحها، نفَاداً ونُفوداً، وأما نفذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ بالفتح، ينفذُ بالضمِّ، وسيأتي.
ويقال : أنفد القوم : إذا فَنِيَ زادهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ ؛ لينفد حجة صاحبه، يقال : نافدته فنفدته.
وقوله :" بَاقٍ "، تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد، وهذه الآية حجة عليه. قوله تعالى :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا ﴾، قرأ ابن كثيرٍ١، وعاصم وابن ذكوان :" وَلنَجْزينَّ "، بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم، وتقدم تقرير الالتفات.
والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى - ؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾.
قوله :﴿ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ ﴾، يجوز أن يكون [ " أفعل " ]٢ على بابها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسن، فلأن يجازيهم بالحسن أولى.
وقيل : ليست للتَّفضيل، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل ؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن، وهو وهمٌ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى، والمعنى : ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء ﴿ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
١ ينظر: السبعة ٣٧٥، والحجة ٣٩٣، والحجة للقراء السبعة للفارسي ٥/٧٨ والقرطبي ١٠/١١٤، والدر المصون ٤/٣٥٧..
٢ في ب: أحسن..
ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام ؛ فقال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، وفيه سؤالٌ : وهو أن لفظة :" مَنْ " في قوله :" مَن عَملَ "، تفيد العموم، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى ؟.
والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد، وإزالة الوهم بالتخصيص.
قوله :" مِنْ ذَكرٍ "، " مِنْ "، للبيان، فتتعلق بمحذوف، أعني : من ذكرٍ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل :" عَمِلَ "، وقوله :" وهُوَ مُؤمِنٌ "، جملة حاليَّة أيضاً.
وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح ؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، وظاهر قوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧ ]، يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه.
فالجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة، وهو تخفيف العذاب ؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان.

فصل


قال سعيد بن جبير - رحمه الله - وعطاء :" الحياة الطَّيِّبة : هي الرِّزقُ الحلال " ١، وقال الحسن : هي القناعة٢، وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة٣.
قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا ؛ لقوله تعالى :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، والمراد : ما [ لا ]٤ يكون في الآخرة.
قوله :" ولنَجْزِينَّهُمْ "، راعى معنى :" مَنْ "، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها، فأفرد في :" لنحيينه " وما قبله، وقرأ العامة :" ولنجزينه "، بنون العظمة ؛ مراعاة لما قبله، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها، حذفتا وبقي جوابهما، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب ؛ لإفضائه إلى [ إخبار ]٥ المتكلم عن نفسه إخبار الغائب، ولا يجوز ؛ لو قلت :" زيد قال : والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ " لم يجز، فإن أضمرت قسماً آخر، جاز، أي : وقال : والله لينفينَّها، فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه، ومنه :﴿ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] وأن يحكي معناه، ومنه :﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ ﴾ [ التوبة : ٧٤ ]، ولو جاء على اللفظ، لقيل ما قلنا.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٤١) عن ابن عباس والضحاك وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٣) عن سعيد بن جبير وعطاء وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٤٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٤٢)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٤٢) وذكره البغوي (٣/٨٤)..
٤ زيادة من: أ..
٥ في ب: جواب..
قوله - تعالى - ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ الآية لما قال - تعالى -: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس، فقال - جل ذكره -: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ أي: فإذا أردت، فأضمر الإرادة.
قال الزمخشري: «لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل، على حسبه، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة».
وقال ابن عطيَّة: «» فإذَا «وصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن، فاستعذ».
وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ومن الأئمة: مالكوابن سيرين وداود، ومن القرَّاء حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم؛ قالوا: لأنَّ الفاء في قوله: ﴿فاستعذ بالله﴾ للتعقيب، والفائدة فيه: أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً، فإذا لم يأت بالاستعاذة، وقعت الوسوسة في قلبه، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة، فإذا استعاذ بعد القراءة، اندفعت تلك الوساوس، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط.
وذهب الأكثرون: إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة، والمعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ؛ كقوله: إذَا أكلت، فقل: بِسْم الله، وإذا سافرت، فتأهَّب، وقوله - تعالى - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وأيضاً: قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ بدليل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢]، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة؛ لدفع تلك الوساوس، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة.
وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن، كانت في الصَّلاة أو غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد.
واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، والمراد منه الكلُّ؛ لأن الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ، فغيره أولى، والمراد بالشيطان في هذه الآية: قيل: إبليس، وقيل: الجنس؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة.
155
ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة؛ فقال - تعالى -: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يطيعونه، يقال: توليته، أي: أطعته، وتولَّيت عنه، أي: أعرضت عنه.
قوله: ﴿والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ الضمير في»
بِهِ «الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، والمعنى: والذين هم به مشركون بسببه؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر: كفرت بهذه الكلمة، أي: من أجلها؛ فكذلك قوله: ﴿والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ والمعنى: من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين.
وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على»
ربِّهِمْ «.
قوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ والتَّبدِيل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ.
قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه.
والثاني: أنَّها حاليَّة؛ فعلى الأول يكون المعنى: والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم:»
إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ «، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم:» إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ «نسبوا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر
156
والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار، ومفعول» لا يعلمون «محذوف للعلم به، أي: لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة.
قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس﴾ تقدَّم تفسيره في البقرة.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ:»
رُوحُ القدس: جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر؛ كما تقول: حاتم الجُودِ، وزيد الخَيْرِ، والمراد: الرُّوح المقدس، وحاتم الدواد، وزيد الخيِّر «.
و»
مِنْ «في قوله:» مِن رَّبِّكَ «صلة للقرآن، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك؛ ليثبِّت الذين آمنوا، أي: ليبلوهم بالنسخ، حتَّى إذا قالوا فيه: هو الحقُّ من ربِّنا، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
قوله تعالى: ﴿وَهُدًى وبشرى﴾ يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ»
لِيُثبِّتَ «فينصبان، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل؛ فيجران، والتقدير: تثبيتاً لهم، وإرشاداً وبشارة، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه.
وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو هدى، والجملة حال وقرئ: «لِيُثبتَ»
مخففاً من «أثْبَت».

فصل


قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة، فقال: المراد ههنا: وإذا بدَّلنا آية مكان آية، أي: في الكتب المتقدمة؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الككعبة، قال المشركون: أنت مفترٍ في هذا التبديل، وأكثر المفسرين على خلافه، وقالوا: إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة.

فصل


قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القرآن لا ينسخ بالسنة؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ، وأيضاً: فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.
قوله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وذلك لأنهم ك انوا يقولون: إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه.
157
واختلفوا في ذلك البشر: فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلِّم فتى بمكة اسمه «بلْعَام»، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له: أبو ميسرة، وكان يتكلم بالروميَّة، فكان المشركون يرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون: إنما يعلمه «بلعام».
وق لعكرمة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقرئ غلاماً لبني المغيرة، يقال له: «يَعِيش»، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش: إنما يعلمه «يَعِيش».
وقال الفراء: كان اسمه «عائش» مملوك لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أجميًّا، وقيل: اسمه «عدَّاس» غلام «عتبة بن ربيعة».
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي، يقال له: «جَبْر»، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر، يقال لهما: يسار ويكنى: أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهما يقرآن، فيقف ويسمع.
قال الضحاك: وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما، فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية.
وقيل: سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فكذبهم الله - تعالى - بقوله: ﴿لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿لِّسَانُ الذي﴾ العامة على إضافة «لِسانُ» إلى ما بعده، والمراد باللسان هنا: القرآن، والعرب تقول للغة: لسان.
وقرأ الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اللِّسان معرفاً ب «أل»، و «الَّذِي» نعت له وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، قاله الزمخشري.
والثاني: أنَّها حال من فاعل «يَقُولونَ»، أي: يقولون ذلك والحال هذه؛ أي: علمهم بأعجميَّة هذا البشر، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك
158
المقالة؛ كقولك: تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ، أي: وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه، قاله أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثم قال: «وإنَّما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لا إلى الحال؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء».
و «أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين، والإلحاد في اللغة: الميل، يقال: لَحَدَ وألْحَدَ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ: مُلِْد.
وقرأ حمزة والكسائي:»
يَلْحَدُونَ «بفتح الايء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والألى ضم الياء؛ لأنه لغة القرآن، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥] وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف.
والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة؛ ومنه يقال: الْحَدت له لَحْداً؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود، ومنه المُلْحِد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين.
قال الفراء: يَمِيلُون من المَيْلِ. وق لالزجاج: يَمِيلُونَ من الإمالةِ، أي: لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي.
والأعجمي: قال أبو الفتح الموصلي:»
تركيب «» ع ج م «وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضدُّه البيان والإيضاح؛ ومنه قولهم: رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء؛ إذا كانا لا يفصحان، والأعجمي: من لم يتكلم بالعربية. وقال الراغب: العجم خلاف العرب، والعجم منسوب إليهم، والأعجم: من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة.
والأعجمي منسوب إليه، ومنه قيل للبهيمة: عجماء؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها، وصلوات النَّهار عجماء، أي: لا يجهر فيها، والعجَمُ: النَّوى لاختفائه.
قال بعضهم: معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على م اتدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ، وأعجمتهُ: أزلت عمتهُ؛ كأشْكَيتهُ: أزلتُ شِكايَتهُ.
قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم: هو الذي في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي: الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي: الذي لا
159
يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم؛ ألا ترى أنهم قالوا: زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في «الشعراء»، و «حم السجدة».
وق لبعضهم: العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً.

فصل


المعنى: إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي، وهذا القرآن عربي فصيح، فتقرير هذا الجواب كأنه قال: هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة.
ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب، أردفه بالتهديد؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله﴾ قال القاضي: لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: أنهم لما تركوا الإيمان بالله، لا يهديهم الله إلى الجنَّة، بل يسوقهم إلى النَّار، ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول، فقال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون﴾ والمقصود منه أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ، وهم كذبوا فيه، والدليل على كذبهم وجوه:
أحدها: أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون، وإذا كان الأمر كذلك، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم.
وثانيها: أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة، وإذا كان كذلك، اشتهر فيما بين [الخلق] أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان.
وثالثها: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟
وإذا كان الأمر كذلك، فالطَّعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ
160
على أن الحجة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت ظاهرة باهرة، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش؛ لأن كلمة «إنَّما» للحصر، والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى -.
فإن قيل: قوله ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله﴾ فعل، وقوله تعالى: ﴿وأولئك هُمُ الكاذبون﴾ اسم وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح فما السَّبب في حصولها ههنا؟.
فالجواب: الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاص، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥] ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم.
وقال فرعون لموسى: ﴿لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ [الشعراء: ٢٩] ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام، وقالوا في قوله - تعالى -: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١] لا يجوز أن يقال: إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه - عاصٍ وغاوٍ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام، وصيغة الاسم تفيده.
إذا عرفت هذه المقدمات، فقوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله﴾ تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر.
ثم قال - جل ذكره - ﴿وأولئك هُمُ الكاذبون﴾ ؛ تنبيهاً على أن صفة [الكذب] فيهم ثابتة [راسخة] دائمة؛ كما تقول: كذبت، وأنت كاذب، فيكون قولك: «وأنت كاذب» زيادة في الوصف بالكذب، ومعناه: إنَّ عادتك أن تكون كاذباً.
واعلم أن الآية تدلُّعلى ان الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله، والأمر كذلك؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء، ولا معنى لهذا الإنكار.
روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل له: هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ؟ قال: «لاَ» ثم قرأ هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بالله﴾ يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أن يكون بدلاً من «الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ»، أي: إنَّما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت الافتراء.
الثاني: أنه بدل من «الكَاذبُونَ».
الثالث: أنه بدلٌ من «أوْلئِكَ»، قاله الزمخشري.
فعلى الأول يكون قوله: ﴿وأولئك هُمُ الكاذبون﴾ جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه.
161
واستضعف ابو حيَّان الأوجه الثلاثة؛ فقال: «لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ؛ بل الأكثر الثاني، وهو المفتري.
قال: وأما الثاني: فيؤول المعنى إلى ذلك؛ إذ التقدير: وأولئك، أي: الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث: فكذلك؛ إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون «.
الوجه الرابع: قال الزمخشري:»
أن ينتصب على الذَّمِّ «.
قال ابن الخطيب: وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف.
الخامس: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ.
السادس: أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: فعليهم غضب؛ لدلالة ما بعد»
مَنْ «الثانية عليه.
السابع: أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها وخبر»
مَنْ «الثانية قوله:» فَعَليْهم غَضب «.
قال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ:»
إذ هو واحد بالمعنى؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى -: ﴿مَن كَفَرَ بالله﴾ إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر «.
قال أبو حيَّان:»
وهذا وإن كان كما ذكر، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى -: ﴿فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين﴾ [الواقعة: ٩١] وقوله - جل ذكره -: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ [الواقعة: ٨٩] جواب ل «أمَّا» و «إنْ»، هذا، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى «.
الثامن: أن تكون»
مَنْ «شرطية، وجوابها مقدَّر، تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالة ما بعد» مَنْ «الثانية عليه، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً، وتقدم الكلام معه فيه.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مستثنى مقدم من قوله:»
فأولئك عليهم غضب «وهذا يكون فيه منقطعاً؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً.
وقال أبو البقاء: وقيل: ليس بمقدَّم؛ فهو كقول لبيد: [الطويل]
162
٣٣٦٠ - ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ.....................
فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه، وليس كذلك؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا.
الثاني: أنه مستثنى من جواب الشرط، أو من خبر المبتدأ المقدَّر، تقديره: لعليهم غضب من الاه إلا من أكره، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد، فاستثنى الصنف الأول.
﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾ جملة حاليَّة ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ في هذه الحالة، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب، والذي [محله] القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النَّفس؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة: إما عن المعرفة، وإما عن التصديق بكلام النَّفس.
قوله تعالى: ﴿ولكن مَّن شَرَحَ﴾ الاستدراك واضح؛ لأن قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً، فاستدرك هذا، وقوله: ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾ لا ينفي ذلك الوهم، و» مَنْ «إما شرطية أو موصولة، ولكن متى جعلت شرطية، فلا بدَّ من إضمار مبتدأ قبلها، لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة، قاله أبو حيَّان؛ ثم قال: ومثله: [الطويل]
٣٣٦١ -....................... ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ
أي: ولكن أنا متى يسترفد القوم.
وإنَّما لم تقع الشرطية بعد «لكِنْ»
؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط، هكذا قيل، وهو ممنوع.
وانتصب «صَدْراً» على أنه مفعول للشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة، والمراد بقوله: ﴿مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾، أي: فتحه ووسعه لقبُول الكفر.

فصل


قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم.
وأما سميَّة: فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ في قُبُلها بحربة، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
163
وقال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر، وخبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، وسميَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
أما الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فمنعه قومه، وأخذ الآخرون، وألبسوا الدروع الحديد، ثم أجلسوهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة، ثم طعنها في فرجها بحربة.
وقال آخرون: ما نالوا منهم غير بلال؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه، ويقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى ملوه فتركوه.
وقال خبَّاب: ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي، أكرهه سيِّده على الكفر، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما، وهاجر جبر مع سيِّده.

فصل


الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر: هو أن يعذِّب بعذابٍ لا طاقة له به؛ مثل: التَّخويف بالقتل؛ ومثل الضَّرب الشَّديد، والإتلافات القويَّة، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه عن الرِّضا، وأن يقتصر على التَّعريضات؛ مثل أن يقول: إن محمداً كذَّاب، ويعني عند الكفار أو يعني به محمَّداً آخر، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار، وهنا بحثان:
الأول: أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع.
البحث الثاني: لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل، فمن الناس من قال: يباح له الكذب ههنا، ومنهم من قال: ليس له ذلك، وهو الذي اختاره القاضي؛ قال: لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى -.

فصل


أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن بلالاً صبر على العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
164
بئس ما صنعت، بل عظَّمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر.
وثانيها: ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمَّد؟ فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضاً فتركه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصمُّ، فأعاد عليه ثلاثاً، فأاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني: فقد صدع بالحقِّ، فهنيئاً له فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل.
وثالثها: أن بذل [النفس] في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا» أي: أشقُّها.
ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل.

فصل


الإكراه له مراتب:
أحدها: أن يجب الفعل المكروه عليه؛ كما لو أكره على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا، يجب الأكل؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل، وليس في هذا
165
الأكل ضررٌ على حيوان، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله، فوجب أن يجب؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: ١٩٥].
المرتبة الثانية: أن يصير ذل كالفعل مباحاً ولا يصير واجباص؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر، فههنا يباح له ذلك، ولكنه لا يجب.
المرتبة الثالثة: أنه لا يجب ولا يباح، بل يحرم؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أحد قوليه: يجب القصاص؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً، فوجب عليه القصاص؛ لقوله - تعالى -: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ [البقرة: ١٧٨]، وأيضاً: أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان يوهم إقدامه على القتل، أوجب إهداء دمه، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى.

فصل


من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنها ما لا يقبل الإكراه، قيل: وهو الزِّنا؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة، فحيث دخل الزِّنا في الوجود، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
وقيل: الإكراه على الزِّنا مقصور؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة، أو كان به مرض الانتصاب، فلا يزال منتشراً، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار.

فصل


قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزِّنا، أو شرب الخمر، أو أكل الرِّبا، روي ذلك عن الحسن البصري، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم -.

فصل


قال القرطبي: وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان:
الأول: أن يبيع ماله في حق وجوب عليه، فذلك ماضٍ سائغ لا رجوع فيه؛ لأنَّه
166
يلزمه أداء الحقِّ من غير المبيع، وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً، فذلك لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثَّمن ذلك الظالم فإنْ فات المتاع، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم لظلمه، وأما يمين المكره فغير لازمةٍ عند مالك والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وأكثر العلماء، قال ابن العربي: «واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا؟».
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأي فرقٍ بين الإكراه على اليمين في أنَّها لا تلزم، وبين الحنث في أنه لا يقع».

فصل


إذا أكره الرَّجل على أن يحلف وإلاَّ أخذ ماله، فقال مالك: لا تقيَّة في المال، فإنَّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه.
وقال ابن الماجشون: «لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضاً».
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل، أنَّه يكون أعظم أجراً عند الله ممَّن اختار الرخصة «.

فصل


قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لا يقع طلاق المكره، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يقع.
واستدلَّ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله - تعالى -: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ [البقرة: ٢٥٦]، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته؛ لأن ذاته موجودة؛ فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «رُفِعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيَانُ وما اسْتكْرِهُوا عليْهِ»
.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا طَلاقَ في إغلاقٍ»، أي: إكراه.
فإن قالوا طلقها، فيدخل تحت قوله - تعالى -: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠].
فالجواب: لمَّا تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا.

فصل


قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وأما نكاح المكره: فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنَّه لم ينعقد، فإن وطئها المكره على النِّكاح، لزمه المسمَّى من الصَّداق ولا حد عليه».
167
قوله: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله﴾ أي: إنه - تعالى - حكم عليهم بالعذاب، ثم وصف ذلك العذاب فقال - تعالى -: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمُ﴾ مبتدأ وخبره؛ كما تقدم، والإشارة ب «ذلك» إلى ما ذكر من الغضب والعذاب؛ ولذلك وحَّد، كقوله: «بين ذلك» و: [الرجز]
٣٣٦٢ - كَأنَّهُ في الجِلْدِ.................
قوله: ﴿استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ أي: ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة، ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي: ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان، وما عصمهم عن الكفر.
قال القاضي: المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة، وهذا ضعيف؛ لأن قوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ معطوف على قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ فوجب أن يكون قوله: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة، بل كسباً عنه ولا معلولاً له، فبطل هذا التَّأويل.
ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ قال القاضي: الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه:
الأول: أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه.
الثاني: أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع، والبصر، والقلب في هذا الطبع، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب.
الثالث: وصفهم بالغفلة، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة.
ثم قال - تعالى -: ﴿وأولئك هُمُ الغافلون﴾ قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أي: عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون﴾، أي: المغبونون، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة:
168
أولها: أنهم استوجبوا غضب الله.
وثانيها: أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ.
وثالثها: أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.
ورابعها: أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ.
وخامسها: أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وسادسها: أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة، عظم خسرانه؛ فلهذا قال - تعالى -: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون﴾ أي هم الخاسرون لا غيرهم.
قوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر [بعده] حال من هاجر من بعد ما فتن.
في خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله - تعالى -: ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، و «إنَّ ربَّكَ» الثانية، واسمها تأكيد للأولى واسمها؛ فكأنه قيل: ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في قوله: «للَّذِينَ» وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع، أو بمحذوف على سبيل البيان؛ كأنه قيل: الغفران والرحمة للَّذين هاجروا.
الثاني: أن الخبر هو نفس الجار بعدها؛ كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هو لك لا عليك، بمعنى: هو ناصرهم لا خاذلهم، قال معناه الزمخشري، ثم قال: «كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ».
قال شهاب الدِّين: «قد يتوهَّم أن قوله:» مَنْفُوعاً «استعمال غير جائز؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني: إنَّه لا يقال: مَنْفُوع» اسم مفعول من نفعته، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي «.
الثالث: أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر القانية، يعني: أنه محذوف لفظاً؛ لدلالة ما بعده عليه، وهذا معنى قول أبي البقاء:»
وقيل: لا خبر ل «إنَّ» الأولى في اللَّفظ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه «.
وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله: «وهذا ليس بجيّد؛ لأنه ألغى حكم الأولى، وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدَّم، وهو لا يجوز»
.
169
قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ قرأ ابن عامر: «فَتَنُوا» مبنيًّا للفاعل، أي: فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين، فكأنهم فتنوا أنفسهم.
وإن عاد على المشركين، فهو واضح، أي: فتنوا المؤمنين.
والباقون «فُتِنُوا» مبنياً للمفعول، والضمير في «بَعْدهَا» للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة، أي: من بعد الفتنة، والهجرة، والجهاد.
وقال ابن عطيَّة: «عائدٌ على الفتنة، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة».

فصل


وجه القراءة الأولى أمور:
الأول: أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا، فإنَّ الله يقبل توبتهم.
والثاني: أن «فَتَن» و «أفْتنَ» بمعنى واحد؛ كما يقال: مَانَ وأمَان بمعنى واحد.
والثالث: أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.
وأما وجه القراءة الثانية فظاهر؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر.

فصل


يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ: هو وأنهم عذِّبوا، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب، ويحتمل أن يكون المراد: أن أولئك المسلمين ارتدُّوا.
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا، ونزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح مكَّة بقتله، فاستجار له عثمان، وكان أخاهُ
170
لأمه، فأجاره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية؛ قاله الحسن وعكرمة.
وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة، ويحتمل أن يكون المراد: أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة، فقوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين.
وإذا كان كذلك، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب، ويحصل له الغفران والرحمة.
قوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ يجوز أن ينتصب «يَوْمَ» ب «رَحِيمٌ» ولا يلزم من ذلك [تقييد] رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم، فرحمته في غيره أحرى وأولى.
وأن ينتصب ب «اذكُر» مقدَّرة، وراعى معنى «كل» فأنث الضمائر في قوله «تُجَادلُ... إلى آخره» ؛ ومثله قوله: [الكامل]
٣٣٦٣ - جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ
إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى، وقد تقدَّم أول الكتاب.
وقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ حملاً على المعنى؛ فلذلك جمع.
فإن قيل: النَّفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله: «تُجادِلُ عن نَفْسِهَا» ؟.
فالجواب: أن النَّفْس قد يراد بها بدن [الإنسان] الحيّ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن، والثانية: عينها وذاتها؛ فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه شأن غيره، قال - تعالى -: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٧].
روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال لكعب الأحبار: خوِّفنا، قال يا أمير المؤمنين: والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسلٌ غلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول: يا ربِّ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي، وأن تصديق
171
ذلك الذي أنزل عليكم: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: ﴿هؤلاء أَضَلُّونَا﴾ [الأعراف: ٣٨]، وكقولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
﴿وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ فيه محذوف، أي: جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان، ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقصون.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في هذه الآية قال: «ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الرُّوح الجسد، فتقول الرُّوح: يا رب، لم تكن لي يدٌ أبطش بها، ولا رجلٌ أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني، ويقول الجسد: يا ربِّ، أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، وليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشُعَاع النُّور، فيه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، وسمعت أذني، فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلاً؛ أعمى ومقعداً دخلا [بستاناً] فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثَّمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، [فغشيهما] العذاب».
172
ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة ؛ فقال - تعالى- :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾، ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله _تعالى_، ولهذا المعنى قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله :﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾، والاستعاذة بالله : هي الاعتصام به.
ثم قال :﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- :" يطيعونه، يقال : توليته، أي : أطعته، وتولَّيت عنه، أي : أعرضت عنه.
قوله :﴿ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾، الضمير في " بِهِ " : الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، والمعنى : والذين هم به مشركون بسببه ؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر : كفرت بهذه الكلمة، أي : من أجلها ؛ فكذلك قوله :﴿ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾، والمعنى : من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين.
وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على " ربِّهِمْ ".
قوله :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾، اعلم أنه _سبحانه جل ذكره_ شرع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس _رضي الله عنه_ : كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها يقولون : إن محمداً يسخر بأصحابه ؛ يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله _تعالى_ :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾١، والتَّبدِيل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ.
قوله :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾، في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه.
والثاني : أنَّها حاليَّة ؛ فعلى الأول يكون المعنى : والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي : هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم :" إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ "، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء ؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، أي : لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم :" إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ "، نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار، ومفعول :" لا يعلمون " ن محذوف للعلم به، أي : لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٩٣)..
قوله :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس ﴾، تقدَّم تفسيره في البقرة.
قال الزمخشري١ رحمه الله :" رُوحُ القدس : جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس : وهو الطُّهْر ؛ كما تقول : حاتم الجُودِ، وزيد الخَيْرِ، والمراد : الرُّوح المقدس٢، وحاتم الجواد، وزيد الخيِّر ".
و " مِنْ " في قوله :" مِن رَّبِّكَ " : صلة للقرآن، أي : أن جبريل نزَّل القرآن من ربك ؛ ليثبِّت الذين آمنوا، أي : ليبلوهم بالنسخ، حتَّى إذا قالوا فيه : هو الحقُّ من ربِّنا، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
قوله تعالى :﴿ وَهُدًى وبشرى ﴾، يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ " لِيُثبِّتَ "، فينصبان، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل ؛ فيجران، والتقدير : تثبيتاً لهم، وإرشاداً وبشارة، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما، وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه.
وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف، أي : وهو هدى، والجملة حال وقرئ٣ :" لِيُثبتَ "، مخففاً، من " أثْبَت ".

فصل


قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة، فقال : المراد ههنا : وإذا بدَّلنا آية مكان آية، أي : في الكتب المتقدمة ؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون : أنت مفترٍ في هذا التبديل، وأكثر المفسرين على خلافه، وقالوا : إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة.

فصل


قال الشافعي - رضي الله عنه - : القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله - تعالى- :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾، وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف ؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ، وأيضاً : فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.
١ ينظر: الكشاف ٢/٦٣٤..
٢ في أ: المقدس..
٣ نسبها ابن خالويه في الشواذ ٧٤ إلى أبي حيوة، ينظر: البحر ٥/٥١٨ والدر المصون ٤/٣٥٩..
قوله - تعالى- :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ الآية، هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه.
واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس - رضي الله عنه- : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم فتى بمكة اسمه " بلْعَام "، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة، وكان يتكلم بالروميَّة، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون : إنما يعلمه " بلعام " ١.
وقال عكرمة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرئ غلاماً لبني المغيرة، يقال له :" يَعِيش "، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش : إنما يعلمه " يَعِيش " ٢.
وقال الفراء : كان اسمه :" عائش "، مملوك لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أعجميًّا، وقيل : اسمه " عدَّاس "، غلام " عتبة بن ربيعة ".
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي، يقال له :" جَبْر "، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن، فيقف ويسمع٣.
قال الضحاك : وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما، فيستروح بكلامهما، فقال المشركون : إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية٤.
وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه، فكذبهم الله - تعالى - بقوله :﴿ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾.
قوله تعالى :﴿ لِّسَانُ الذي ﴾، العامة على إضافة " لِسانُ " إلى ما بعده، والمراد باللسان هنا : القرآن، والعرب تقول للغة : لسان.
وقرأ الحسن٥ - رضي الله عنه- : اللِّسان معرفاً ب " أل "، و " الَّذِي "، نعت له وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها، قاله الزمخشري.
والثاني : أنَّها حال من فاعل " يَقُولونَ "، أي : يقولون ذلك والحال هذه ؛ أي : علمهم بأعجميَّة هذا البشر، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك المقالة ؛ كقولك : تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ، أي : وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه، قاله أبو حيان٦ رحمه الله.
ثم قال :" وإنَّما ذهب الزمخشري٧ إلى الاستئناف لا إلى الحال ؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء ".
و " أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين، والإلحاد في اللغة : الميل، يقال : لَحَدَ وألْحَدَ ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ : مُلْحِد.
وقرأ٨ حمزة والكسائي :" يَلْحَدُونَ "، بفتح الياء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء.
قال الواحدي - رحمه الله- : والأولى ضم الياء ؛ لأنه لغة القرآن، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف.
والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ؛ ومنه يقال : ألْحَدت له لَحْداً ؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود، ومنه المُلْحِد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين.
قال الفراء : يَمِيلُون من المَيْلِ. وقال الزجاج : يَمِيلُونَ من الإمالةِ، أي : لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي.
والأعجمي : قال أبو الفتح الموصلي :" تركيب " :" ع ج م "، وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضدُّه البيان والإيضاح ؛ ومنه قولهم : رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء ؛ إذا كانا لا يفصحان، والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية. وقال الراغب : العجم خلاف العرب، والعجم منسوب إليهم، والأعجم : من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي ؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة.
والأعجمي منسوب إليه، ومنه قيل للبهيمة : عجماء ؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها، وصلوات النَّهار عجماء، أي : لا يجهر فيها، والعجَمُ : النَّوى لاختفائه.
قال بعضهم : معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ، وأعجمتهُ : أزلت عجمتهُ ؛ كأشْكَيتهُ : أزلتُ شِكايَتهُ.
قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم : هو الذي في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي : الذي أصله من العجم، قال أبو علي الفارسي : الذي لا يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم ؛ ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم ؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا ؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في " الشعراء "، و " حم السجدة ".
وقال بعضهم : العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً.

فصل


المعنى : إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي، وهذا القرآن عربي فصيح، فتقرير هذا الجواب كأنه قال : هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود ؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٤٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٤٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وقال: بسند ضعيف..
٢ أخرجه الطبري (٧/٦٤٨) وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٥)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٥)..
٤ ينظر: المصدر السابق..
٥ ينظر: المحتسب ٢/١٢، والشواذ ٧٤، والبحر٥/٥١٩، والدر المصون ٤/٣٥٩..
٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٥١٩..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٦٣٥..
٨ ينظر: الإتحاف ٢/١٨٩، الحجة ٣٩٤، والحجة للقراء السبعة للفارسي ٥/٧٨، والبحر ٥/٥١٩..
ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب، أردفه بالتهديد ؛ فقال - عز وجل- :﴿ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله ﴾، قال القاضي : لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، أي : أنهم لما تركوا الإيمان بالله، لا يهديهم الله إلى الجنَّة، بل يسوقهم إلى النَّار،
ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول، فقال - تعالى- :﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون ﴾، والمقصود منه : أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ، وهم كذبوا فيه، والدليل على كذبهم وجوه :
أحدها : أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون، وإذا كان الأمر كذلك، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم.
وثانيها : أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة، وإذا كان كذلك، اشتهر فيما بين [ الخلق ]١ أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان.
وثالثها : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان ؟
وإذا كان الأمر كذلك، فالطَّعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش ؛ لأن كلمة " إنَّما " للحصر، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى-.
فإن قيل : قوله :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله ﴾ فعل، وقوله تعالى :﴿ وأولئك هُمُ الكاذبون ﴾، اسم، وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح، فما السَّبب في حصولها ههنا ؟.
فالجواب : الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - :﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾ [ يوسف : ٣٥ ]، ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم.
وقال فرعون لموسى :﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ]، ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام، وقالوا في قوله - تعالى - :﴿ وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ﴾ [ طه : ١٢١ ]، لا يجوز أن يقال : إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه- عاصٍ وغاوٍ ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام، وصيغة الاسم تفيده.
إذا عرفت هذه المقدمات، فقوله - تعالى- :﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله ﴾، تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر.
ثم قال - جل ذكره - ﴿ وأولئك هُمُ الكاذبون ﴾ ؛ تنبيهاً على أن صفة [ الكذب ]٢ فيهم ثابتة [ راسخة ]٣ دائمة ؛ كما تقول : كذبت، وأنت كاذب، فيكون قولك :" وأنت كاذب "، زيادة في الوصف بالكذب، ومعناه : إنَّ عادتك أن تكون كاذباً.
واعلم أن الآية تدلُّ على أن الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله، والأمر كذلك ؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء، ولا معنى لهذا الإنكار.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ ؟ قال :" لاَ " ثم قرأ هذه الآية.
١ في ب: الناس..
٢ في أ: الكفر..
٣ في ب: واضحة..
قوله تعالى :﴿ مَن كَفَرَ بالله ﴾، يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون بدلاً من " الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ "، أي : إنَّما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت الافتراء.
الثاني : أنه بدل من " الكَاذبُونَ ".
الثالث : أنه بدلٌ من " أوْلئِكَ "، قاله الزمخشري.
فعلى الأول يكون قوله :﴿ وأولئك هُمُ الكاذبون ﴾ جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه.
واستضعف أبو حيَّان الأوجه الثلاثة ؛ فقال :" لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ ؛ بل الأكثر الثاني، وهو المفتري.
قال : وأما الثاني : فيؤول المعنى إلى ذلك ؛ إذ التقدير : وأولئك، أي : الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث : فكذلك ؛ إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون ".
الوجه الرابع : قال الزمخشري :" أن ينتصب على الذَّمِّ ".
قال ابن الخطيب١ : وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف.
الخامس : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ.
السادس : أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره : فعليهم غضب ؛ لدلالة ما بعد " مَنْ " الثانية عليه.
السابع : أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها وخبر " مَنْ " الثانية قوله :" فَعَليْهم غَضب ".
قال ابن عطية رحمه الله :" إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى- :﴿ مَن كَفَرَ بالله ﴾ إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر ".
قال أبو حيَّان٢ :" وهذا وإن كان كما ذكر، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلابدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى - :﴿ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين ﴾ [ الواقعة : ٩١ ] وقوله - جل ذكره- :﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ﴾ [ الواقعة : ٨٩ ] جواب ل " أمَّا " و " إنْ "، هذا، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى ".
الثامن : أن تكون " مَنْ " شرطية، وجوابها مقدَّر، تقديره : فعليهم غضبٌ ؛ لدلالة ما بعد " مَنْ " الثانية عليه، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً، وتقدم الكلام معه فيه.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مستثنى مقدم من قوله :" فأولئك عليهم غضب "، وهذا يكون فيه منقطعاً ؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً.
وقال أبو البقاء : وقيل : ليس بمقدَّم ؛ فهو كقول لبيد :[ الطويل ]
ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٣
فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه، وليس كذلك ؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا.
الثاني : أنه مستثنى من جواب الشرط، أو من خبر المبتدأ المقدَّر، تقديره : فعليهم غضب من الله إلا من أكره، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء، وهو استثناء متصل ؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد، فاستثنى الصنف الأول.
﴿ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ﴾، جملة حاليَّة، ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾ في هذه الحالة، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب، والذي [ محله ]٤ القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النَّفس ؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة : إما عن المعرفة، وإما عن التصديق بكلام النَّفس.
قوله تعالى :﴿ ولكن مَّن شَرَحَ ﴾، الاستدراك واضح ؛ لأن قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾، قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً، فاستدرك هذا، وقوله :﴿ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ﴾، لا ينفي ذلك الوهم، و " مَنْ " إما شرطية أو موصولة، ولكن متى جعلت شرطية، فلابدَّ من إضمار مبتدأ قبلها ؛ لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة، قاله أبو حيَّان، ثم قال : ومثله :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ٥
أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم.
وإنَّما لم تقع الشرطية بعد " لكِنْ " ؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط، هكذا قيل، وهو ممنوع.
وانتصب " صَدْراً " على أنه مفعول للشرح، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير ؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره ؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة، والمراد بقوله :﴿ مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ﴾، أي : فتحه ووسعه لقبُول الكفر.

فصل


قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر ؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم.
وأما سميَّة : فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ في قُبُلها بحربة، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام - رضي الله عنهما٦-.
وقال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وخبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، وسميَّة - رضي الله عنهم-.
أما الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر - رضي الله عنه - فمنعه قومه، وأخذ الآخرون، وألبسوا الدروع الحديد، ثم أجلسوهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة، ثم طعنها في فرجها بحربة٧.
وقال آخرون : ما نالوا منهم غير بلال ؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه، ويقول : أحَدٌ أحَدٌ، حتى ملوه فتركوه.
وقال خبَّاب : ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي، أكرهه سيِّده على الكفر، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما، وهاجر جبر مع سيِّده.

فصل


الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر : هو أن يعذَّب بعذابٍ لا طاقة له به، مثل : التَّخويف بالقتل، ومثل الضَّرب الشَّديد، والإتلافات القويَّة، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه عن الرِّضا، وأن يقتصر على التَّعريضات ؛ مثل أن يقول : إن محمداً كذَّاب، ويعني عند الكفار، أو يعني به محمَّداً آخر، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار، وهنا بحثان :
الأول : أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع.
البحث الثاني : لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل، فمن الناس من قال : يباح له الكذب ههنا، ومنهم من قال : ليس له ذلك، وهو الذي اختاره القاضي ؛ قال : لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده ؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى -.

فصل


أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أن بلالاً صبر على العذاب، وكان يقول : أحد أحد، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما صنعت، بل عظَّمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر.
وثانيها : ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما : ما تقول في محمَّد ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما تقول فيَّ ؟ قال : أنت أيضاً، فتركه، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله، فقال : ما تقول فيَّ ؟ قال : أنا أصمُّ، فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني : فقد صدع بالحقِّ، فهنيئاً له، فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل.
وثالثها : أن بذل [ النفس ]٨ ٩ في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً ؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه- :" أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا " ١٠ أي : أشقُّها.
ورابعها : أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة ؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل.

فصل


الإكراه له مراتب :
أحدها : أن يجب الفعل المكروه عليه ؛ كما لو أكره على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا، يجب الأكل ؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل، وليس في هذا الأكل ضررٌ على حيوان، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله، فوجب أن يجب ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ].
المرتبة الثانية : أن يصير ذلك كالفعل مباحاً ولا يصير واجباً ؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر، فههنا يباح له ذلك، ولكنه لا يجب.
المرتبة الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح، بل يحرم ؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا ؟.
قال الشافعي - رضي الله عنه - في أحد قوليه : يجب القصاص ؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً، فوجب عليه القصاص ؛ لقوله - تعالى - :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، وأيضاً : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان يوهم إقدامه على القتل، أوجب إهدار دمه، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى.

فصل


من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنها ما لا يقبل الإكراه، قيل : وهو الزِّنا ؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة، فحيث دخل الزِّنا في الوجود، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
وقيل : الإكراه على الزِّنا مقصور ؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة، أو كان به مرض الانتصاب، فلا يزال منتشراً، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار.

فصل


قال القرطبي١١ - رحمه الله تعالى - : ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه ؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزِّنا، أو شرب الخمر، أو أكل الرِّبا، روي ذلك عن الحسن البصري، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم-.

فصل


قال القرطبي : وأما بيع المكره والمضغ
١ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٩٧..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٥٢٠ ـ ٥٢١..
٣ تقدم..
٤ في ب: في..
٥ تقدم..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٦)..
٧ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/٩٧)..
٨ في أ: الحق..
٩ زيادة من: أ..
١٠ ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" رقم (١٩٣) وقال:
قال المزي: هو من غرائب الأحاديث ولم يرو في شيء من الكتب الستة انتهى، وهو منسوب في النهاية لابن الأثير لابن عباس بلفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال أحمزها، وهو بالمهلة والزاي أي أقواها وأشدها، وفي الفردوس مما عزاه لعثمان بن عفان مرفوعا: أفضل العبادات أخفها، فيجمع بينهما على تقدير ثبوتهما بأن القوة والشدة بالنظر لتبين شروط الصحة ونحوها فيها، والخفة بالنظر لعدم الإكثار بحيث تمل، ولكن الظاهر أن لفظ الثاني العيادة بالتحتانية لا بالموحدة ويروى عن جابر رفعه: أفضل العيادة أجرا سرعة القيام من عند المريض، وفي فضائل العباس لابن المظفر من حديث هود بن عطاء سمعت طاوسا يقول: أفضل العيادة ما خف منها، ومن الآثار في تخفيف العيادة ـ مما هو في سادس المجالسة للدينوري من جهة شيبان ـ عن أبي هلال قال عاد قوم بكربن عبد الله المزني فأطالوا الجلوس، فقال لهم بكر: إن المريض ليعاد والصحيح يزار، ومن جهة الأصمعي قال: عاد قوم مريضا في بني يشكر فأطالوا عنده فقال لهم: إن كان لكم في الدار حق فخذوه، ومن جهة الأصمعي أيضا قال: مرض أبو عمرو بن العلاء فأتى أصحابه إلا رجلا منهم ثم جاءه بعد ذلك، فقال إني أريد أن أسامرك الليلة فقال: أنت معافى وأنا مبتلى فالعافية لا تدعك تسهر، والبلاء لا يدعني أنام، والله أسأل أن يسوق إلى أهل العافية الشكر، وإلى أهل البلاء الصبر..

١١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٠/١٢٠..
قوله :﴿ ذلك بِأَنَّهُمُ ﴾، مبتدأ وخبره ؛ كما تقدم، والإشارة ب :" ذلك "، إلى ما ذكر من الغضب والعذاب ؛ ولذلك وحَّد، كقوله :" بين ذلك " و :[ الرجز ]
كَأنَّهُ في الجِلْدِ . . . . . . . . . . . . . . ١
قوله :﴿ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ﴾، أي : ذلك الارتداد، وذلك الإقدام على الكفر ؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة، ﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾، أي : ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان، وما عصمهم عن الكفر.
قال القاضي٢ : المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله - تعالى- :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾، معطوف على قوله :﴿ ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ﴾، فوجب أن يكون قوله :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾، علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة، بل كسباً عنه ولا معلولاً له، فبطل هذا التَّأويل.
١ تقدم..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٠/٩٩..
ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان ؛ فقال - عز وجل - :﴿ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾، قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه :
الأول : أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه.
الثاني : أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع والبصر والقلب في هذا الطبع، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب.
الثالث : وصفهم بالغفلة، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة.
ثم قال - تعالى - :﴿ وأولئك هُمُ الغافلون ﴾، قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : أي : عما يراد بهم في الآخرة١.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٠٠) عن ابن عباس..
ثم قال :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون ﴾، أي : المغبونون، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة :
أولها : أنهم استوجبوا غضب الله.
وثانيها : أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ.
وثالثها : أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.
ورابعها : أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ.
وخامسها : أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وسادسها : أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا ؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة، عظم خسرانه ؛ فلهذا قال - تعالى - :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون ﴾، أي : هم الخاسرون لا غيرهم.
قوله - تعالى - :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ الآية، لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر، ذكر [ بعده ] حال من هاجر من بعد ما فتن.
في خبر " إنَّ " هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله - تعالى - :﴿ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، و " إنَّ ربَّكَ " الثانية، واسمها تأكيد للأولى واسمها ؛ فكأنه قيل : ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في قوله :" للَّذِينَ " وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالخبرين على سبيل التنازع، أو بمحذوف على سبيل البيان ؛ كأنه قيل : الغفران والرحمة للَّذين هاجروا.
الثاني : أن الخبر هو نفس الجار بعدها ؛ كما تقول : إنَّ زيداً لك، أي : هو لك لا عليك، بمعنى : هو ناصرهم لا خاذلهم، قال معناه الزمخشري، ثم قال :" كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ ".
قال شهاب الدِّين :" قد يتوهَّم أن قوله :" مَنْفُوعاً " استعمال غير جائز ؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني : إنَّه لا يقال : مَنْفُوع " اسم مفعول من نفعته، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي ".
الثالث : أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر الثانية، يعني : أنه محذوف لفظاً ؛ لدلالة ما بعده عليه، وهذا معنى قول أبي البقاء :" وقيل : لا خبر ل " إنَّ " الأولى في اللَّفظ ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه ".
وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله :" وهذا ليس بجيّد ؛ لأنه ألغى حكم الأولى، وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدَّم، وهو لا يجوز ".
قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾، قرأ١ ابن عامر :" فَتَنُوا " مبنيًّا للفاعل، أي : فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين، فكأنهم فتنوا أنفسهم.
وإن عاد على المشركين، فهو واضح، أي : فتنوا المؤمنين.
والباقون " فُتِنُوا " مبنياً للمفعول، والضمير في " بَعْدهَا " للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة، أي : من بعد الفتنة، والهجرة، والجهاد.
وقال ابن عطيَّة٢ :" عائدٌ على الفتنة، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة ".

فصل


وجه القراءة الأولى أمور :
الأول : أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا، فإنَّ الله يقبل توبتهم.
والثاني : أن " فَتَن " و " أفْتنَ " بمعنى واحد ؛ كما يقال : مَانَ وأمَان بمعنى واحد.
والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة ؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم ؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.
وأما وجه القراءة الثانية فظاهر ؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر.

فصل


يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ : هو وأنهم عذِّبوا، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب، ويحتمل أن يكون المراد : أن أولئك المسلمين ارتدُّوا.
وقال الحسن - رضي الله عنه- : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا، ونزلت هذه الآية فيهم٣.
وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكَّة بقتله، فاستجار له عثمان، وكان أخاهُ لأمه، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية ؛ قاله الحسن وعكرمة٤.
وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة، ويحتمل أن يكون المراد : أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة، فقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾، يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين.
وإذا كان كذلك، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب، ويحصل له الغفران والرحمة.
١ ينظر: السبعة ٣٧٦، والإتحاف ٢/١٩٠، والتيسير ٣٩٥، والبحر ٥/٥٢٢، والحجة ٣٩٥، والنشر ٢/٣٠٥، والوسيط ٣/٨٧..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٢٥..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٠١)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٦٥٤) عن عكرمة والحسن وذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٠١)..
قوله :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ﴾، يجوز أن ينتصب " يَوْمَ " ب :" رَحِيمٌ "، ولا يلزم من ذلك [ تقييد ]١ رحمته بالظرف ؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم، فرحمته في غيره أحرى وأولى.
وأن ينتصب ب " اذكُر " مقدَّرة، وراعى معنى " كل "، فأنث الضمائر في قوله :" تُجَادلُ. . . إلى آخره " ؛ ومثله قوله :[ الكامل ]
جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ٢
إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى، وقد تقدَّم أول الكتاب.
وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾، حملاً على المعنى ؛ فلذلك جمع.
فإن قيل : النَّفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله :" تُجادِلُ عن نَفْسِهَا " ؟.
فالجواب : أن النَّفْس قد يراد بها بدن [ الإنسان ]٣ الحيّ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن، والثانية : عينها وذاتها ؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه شأن غيره، قال - تعالى - :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ].
روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار : خوِّفنا، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسلٌ إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمان - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول : يا ربِّ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي، وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار ؛ كقولهم :﴿ هؤلاء أَضَلُّونَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وكقولهم :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾٤ [ الأنعام : ٢٣ ].
﴿ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ فيه محذوف، أي : جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾، لا ينقصون.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هذه الآية قال :" ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الرُّوح الجسد، فتقول الرُّوح : يا رب، لم تكن لي يدٌ أبطش بها، ولا رجلٌ أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني، ويقول الجسد : يا ربِّ، أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، وليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشُعَاع النُّور، فبه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، وسمعت أذني، فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني منه، قال : فيضرب الله لهما مثلاً ؛ أعمى ومقعداً دخلا [ بستاناً ]٥ فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثَّمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، [ فغشيهما ]٦ العذاب " ٧.
١ في ب: نصب..
٢ تقدم..
٣ زيادة من: أ..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٧) والرازي (٢٠/١٠١)..
٥ في أ: حائطا..
٦ في أ: فعليها..
٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٨٧) والرازي (٢٠/١٠١)..
قوله - تعالى -: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً﴾ الآية.
اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا، وهي الوقوع في الجوع والخوف؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية.
واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.
فعلى الأول، قيل: إنها مكَّة، كانت آمنة، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها، مطمئنة
172
قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ يحمل إليها من البرِّ والبحر، ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله﴾ جمع النِّعمة، وقيل: جمع نُعمى، مثل: بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة، والجيف، والكلاب الميَّتة والعلهز: وهو الوبر يعالج بالدَّم.
قال ابن الخطيب: والأقرب أنَّها غير مكَّة؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة.
وهذا مثل أهل مكة؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فسلَّط الله عليهم البلاء، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه - تعالى - وصف القرية بصفات:
أحدها: كونها آمنة، والمراد: أهلها، لأنها مكان الأمن، ثم قال «مُطْمَئنَّةٌ»، والاطمئنان هو الأمن، فلزم التَّكرار.
والجواب: أن قوله: «آمِنَ"ً» إشارة إلى الأمن، وقوله: «مُطْمَئِنَّةً» إشارة إلى الصحَّة؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه؛ قال العقلاء: [الرجز]
٣٣٦٤ - ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ
السؤال الثاني: الأنعم جمع قلَّة، فكان المعنى: أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله، فعذبها الله، وكان اللائقُ أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى، فاستوجبوا العذاب، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة؟.
والجواب: أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
و «أنْعُم» فيها قولان:
أحدهما: أنها جمع «نِعْمة» ؛ نحو: «شِدَّة وأشُدّ». قال الزمخشري: «جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء؛ كدِرْع وأدْرُع».
وقال قطرب: هي جمع «نُعْم»، والنُّعم: النَّعيم؛ يقال: «هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا».
173
السؤال الثالث: نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس، فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لِبَاس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع.
والجواب: من وجوه:
الأول: أن ما أصابهم من الهزال والشحوب، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم.
الثاني: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان:
أحدهما: المذوق هو الطَّعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.
والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ، فأشبه اللِّباس.
فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين، فقال: ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف﴾.
الثالث: أن التقدير: عرفها الله لباس الجوع والخوف، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذَّوق بالفم، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم، تقول: ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٣٦٥ - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا
ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول: تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان.
الرابع: أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال - تعالى -: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد تكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله: ﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] ولم يقل: قائلة.
وتحقيق الكلام: أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت
174
بأنعم الله، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية، فلذلك قال: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
قوله: «والخَوْفِ» العامة على جرِّ «الخَوْفِ» نسقاً على «الجُوعِ»، وروي عن أبي عمرو نصبه، وفيه [أوجه] :
أحدها: أنه يعطف على «لِباسَ».
الثاني: أنه يعطف على موضع الجوع؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر، التقدير أي: ألبسهم الجوع والخوف، قاله أبو البقاء.
وهو بعيد؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة.
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعل؛ قاله أبو الفضل الرَّازي.
الرابع: أ، يكون على حذف مضافٍ، أي: ولباس الخوف، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟.
قلت: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان، والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في هذا طريقان:
أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة: [الكامل]
٣٣٦٦ - غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعار الرداء للمعروف، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له.
والثاني: أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله: [الوافر]
175
٣٣٦٧ - يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ
أراد بردائه: سيفه، ثم قال:» فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ «فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً» انتهى.
وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية: لمَّا باشرهم، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
٣٣٦٨ - إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا
ومثله قوله - تعالى -: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] ؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]
٣٣٦٩ - وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم، كأنهم لبسوه.
وقوله: «فأذَاقَهَا» نظير قوله ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩] ؛ ونظيره قول الشاعر: [الرجز]
٣٣٧٠ - دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ... وفي قراءة عبد الله: «فأذاقها الله الخوف والجوع» وفي مصحف أبيّ: «لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ».
قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ يجوز أن تكون «مَا» مصدريَّة أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه.
والواو في «يَصْنعُونَ» عائدة على «أهْل» المقدَّر قبل «قَرْيةٍ»، ونظيره قوله: {أَوْ هُمْ
176
قَآئِلُونَ} [الأعراف: ٤] بعد قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤].
قوله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ﴾ الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: «ولقَدْ جَاءَهُم» يعني: أهل مكة، «رسُولٌ مِنهُمْ»، أي: من أنفسهم يعني: محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني الجوع.
وقيل: القتل يوم بدر، والأول أولى؛ لقوله - تعالى - بعده: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، أي: إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا.
وقوله: ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ [المائدة: ٨٨]، أي من [الغنائم] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه -.
وقال الكلبي: «إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جهدوا، وقالوا: عاديت الرِّجال، فما بال النِّساء والصِّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأذن بحمل الطعام إليهم».
قوله تعالى: ﴿واشكروا نِعْمَةَ الله﴾ صرَّح هنا بالنِّعمة؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها، ولم يجئ ذلك في البقرة، بل قال: ﴿واشكروا للَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] لما تقدَّم ذلك، وتقدَّم نظير ما هنا.
177
قوله - تعالى - :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ﴾ الآية، لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال :" ولقَدْ جَاءَهُم "، يعني : أهل مكة، " رسُولٌ مِنهُمْ "، أي : من أنفسهم، يعني : محمَّداً صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب ﴾، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : يعني : الجوع.
وقيل : القتل يوم بدر، والأول أولى ؛ لقوله - تعالى - بعده :
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، أي : إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا.
وقوله :﴿ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله ﴾ [ المائدة : ٨٨ ]، أي : من [ الغنائم ]١ ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه-.
وقال الكلبي :" إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا، وقالوا : عاديت الرِّجال، فما بال النِّساء والصِّبيان ؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بحمل الطعام إليهم " ٢.
قوله تعالى :﴿ واشكروا نِعْمَةَ الله ﴾، صرَّح هنا بالنِّعمة ؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها، ولم يجئ ذلك في البقرة، بل قال :﴿ واشكروا للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ]، لما تقدَّم ذلك، وتقدَّم نظير ما هنا.
١ في أ: الغنيمة..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٠٤)..
قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم﴾ الآية وقد تقدَّم الكلام عليها في سورة البقرة، وحصر المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام؛ عند قوله - تعالى -: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً﴾ [الأنعام: ١٤٥]، وفي سورة المائدة في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١]، وأجمعوا على أن المراد بقوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ هو قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ [البقرة: ١٧٣] وقوله - تعالى -: ﴿والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: ٣] فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال - تعالى -: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ [البقرة: ١٧٣]، فثبت أن هذه السُّور الأربعة دالَّة على حصر المحرَّمات، فيها سورتان مكِّيتان، وسورتان مدنيَّتان، فإن البقرة مدنيّة، وسورة المائدة
177
من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة ك ان في محلِّ أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة.
قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة، بالغ في تأكيد زيادة الحصر، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام، وكانوا يقولون: ﴿مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَ﴾ [الأنعام: ١٣٩] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات؛ لأنهم حلَّلوا الميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، وما أهلَّ به لغير الله، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب.
قوله: «الكَذِبَ» العامة على فتح الكاف، وكسر الذَّال، ونصب الباء، وفيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه منصوب على المفعول به، وناصبه: «تَصِفُ»، و «مَا» مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله: ﴿هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾، و «لِمَا تَصفُ» علّة للنَّهْي عن قول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب، وإلى هذا نحا الزجاج [رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى] والكسائي.
والمعنى: لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة.
فإن قيل: حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله: ﴿لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب﴾ ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.
الثاني: أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله: «هذَا حَلالٌ» بدلاً من «الكَذِب» ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي: فيقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و «لِمَا تَصِفُ» علَّة أيضاً، والتقدير: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، اي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم، وفيه نظر.
الثالث: أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على «مَا»، إذا قلنا: إنَّها بمعنى
178
الذي، والتقدير: لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى.
الرابع: أن ينتصب بإضمار أعني؛ ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة: «الكَذبِ» بالخفض، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من الموصول، أي: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب، جعله نفس الكذب؛ لأنَّه هو.
والثاني: - ذكره الزمخشري -: أن يكون نعتاً ل «مَا» المصدرية.
ورده أبو حيَّان: بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من «أنْ» والفعل لا ينعت؛ لا يقال: يُعْجِبني أن تخرج السريع، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين «أنْ» في النَّعت.
وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله -: بضمِّ الكاف والذَّال، ورفع الباء صفة للألسنة، جمع كذوب؛ كصَبُور وصُبُر، أو جمع كَاذِب، كشَارِف وشُرُف، أو جمع كَذَّاب؛ نحو «كتَّاب وكُتُب»، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك، إلا أنه نصب الباء، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري:
أحدها: أن تكون منصوبة على الشَّتم، يعني: وهي في الأصل نعت للألسنة؛ كما في القراءة قبلها.
الثاني: أن تكون بمعنى الكلم الكواذب، يعني: أنها مفعول بها، والعامل فيها إما «تَصِفُ»، وإمَّا القول على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب.
الثالث: أن يكون جمع الكذاب، من قولك: كذب كذاباً، يعني: فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه من معنى وصف الألسنة، فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتَاب.
وقد قرأ الكسائي: «ولا كِذَاباً» بالتخفيف، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى -.
واعلم أن قوله: ﴿تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب﴾ من فصيح الكلام وبليغه، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب، ويوذِّح ماهيته، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ: [الوافر]
179
المعنى: إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال، فكذا هاهنا.

فصل


وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال: «ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلالاً ولا حراماً، ولكن كان يقول: كانوا يتكرَّهون، وكان يستحبُّون» وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، ولكن يقولوا: إيَّاكم كذا وكذا، لم أكن لأصنع هذا، ومعنى هذا: أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عَزَّ وَجَلَّ - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه، فأما ما يئول إليه اجتهاده، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك، بل يقول: إني أكره كما كان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يفعل.
قوله: «لِتَفْتَرُوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه:
أحدها: قال الواحدي: إنه بدلٌ من «لِما تَصِفُ» ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [على الله].
قال أبو حيَّان: «وهو على تقدير جعل» ما «مصدرية، أما إذا كانت بمعنى الذي، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل، فيبدل منها ما يفهم التعليل، وإنَّما اللام في» لِمَا «متعلِّقة ب» لا تَقُولوا «على حدِّ تعلقها في قولك: لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام، أي: لا تسمُّوا الحلال حراماً، وكما تقول: لا تقل لزيد: عمرو أي: لا تطلق عليه هذا الاسم».
قال شهاب الدين: وهذا وإن كان ظاهراً، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي.
الثاني: أنها للصَّيرورة؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم.
والمعنى: أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون: إن الله أمرنا بذلك.
قال ابن الخطيب: فعلى هذا تكون لام العاقبة؛ كقوله - تعالى -: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا﴾ [القصص: ٨].
الثالث: أنها للتعليل الصريح، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك. ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال: ﴿إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ﴾ ثم بيَّن أن ما هم فيه من [متاع] الدنيا يزول عنهم عن قربٍ، فقال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ قال الزجاج: معناه: متاعهم
180
قليلٌ. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل، ثم يردُّون إلى عذاب أليم.
وفي «متاعٌ» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، و «قَليلٌ» خبره.
وفيه نظر؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ، فإن ادُّعي إضافة نحو: متاعهم قليلٌ، فهو بعيد جدًّا.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: بقاؤهم، أو عيشهم، أو منفعتهم فيما هم عليه.
181
قوله - تعالى - :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ ﴾ الآية، لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة، بالغ في تأكيد زيادة الحصر، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى ؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام، وكانوا يقولون :﴿ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ]، فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات ؛ لأنهم حلَّلوا الميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، وما أهلَّ به لغير الله، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب.
قوله :" الكَذِبَ " العامة على فتح الكاف، وكسر الذَّال، ونصب الباء، وفيه أربعة أوجه : أظهرها : أنه منصوب على المفعول به، وناصبه :" تَصِفُ "، و " مَا " مصدرية، ويكون معمول القول الجملة من قوله :﴿ هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ ﴾، و " لِمَا تَصفُ " علّة للنَّهْي عن قول ذلك، أي : ولا تقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب، وإلى هذا نحا الزجاج [ رحمه الله تعالى ] والكسائي.
والمعنى : لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة.
فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار ؛ لأن قوله :﴿ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب ﴾ عين ذلك.
فالجواب : أن قوله :﴿ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ ﴾، ليس فيه بيان أنه كذب على الله تعالى، فأعاد قوله :﴿ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب ﴾، ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد ؛ ونظائره في القرآن كثيرة، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.
الثاني : أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله :" هذَا حَلالٌ " بدلاً من " الكَذِب " ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي : فيقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و " لِمَا تَصِفُ " علَّة أيضاً، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه ؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و " تَصِفُ " أيضاً يطلبه، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، وفيه نظر.
الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على " مَا "، إذا قلنا : إنَّها بمعنى الذي، والتقدير : لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى.
الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني ؛ ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه.
وقرأ١ الحسن، وابن يعمر، وطلحة :" الكَذبِ " بالخفض، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الموصول، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب، جعله نفس الكذب ؛ لأنَّه هو.
والثاني :- ذكره الزمخشري- : أن يكون نعتاً ل " مَا " المصدرية.
ورده أبو حيَّان : بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من " أنْ " والفعل لا ينعت ؛ لا يقال : يُعْجِبني أن تخرج السريع، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين " أنْ " في النَّعت.
وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله٢- : بضمِّ الكاف والذَّال، ورفع الباء صفة للألسنة، جمع كذوب ؛ كصَبُور وصُبُر، أو جمع كَاذِب، كشَارِف وشُرُف، أو جمع كَذَّاب ؛ نحو " كتَّاب وكُتُب "، وقرأ مسلمة٣ بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك، إلا أنه نصب الباء، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري :
أحدها : أن تكون منصوبة على الشَّتم، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة ؛ كما في القراءة قبلها.
الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب، يعني : أنها مفعول بها، والعامل فيها إما " تَصِفُ "، وإمَّا القول على ما مرَّ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب.
الثالث : أن يكون جمع الكذاب، من قولك : كذب كذاباً، يعني : فيكون منصوباً على المصدر ؛ لأنه من معنى وصف الألسنة، فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتَاب.
وقد قرأ الكسائي٤ :" ولا كِذَاباً " بالتخفيف، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى -.
واعلم أن قوله :﴿ تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب ﴾ من فصيح الكلام وبليغه، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب، ويوضِّح ماهيته، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً ؛ ونظيره قول أبي العلاء المعريِّ :[ الوافر ]
٣٣٧١ - سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا
سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا٥
المعنى : إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال، فكذا هاهنا.

فصل


وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال :" ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلالاً ولا حراماً، ولكن كان يقول : كانوا يتكرَّهون، وكان يستحبُّون " ٦ وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، ولكن يقولوا : إيَّاكم كذا وكذا، لم أكن لأصنع هذا٧، ومعنى هذا : أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عز وجل - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه، فأما ما يئول إليه اجتهاده، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك، بل يقول : إني أكره كما كان مالك - رضي الله عنه - يفعل.
قوله :" لِتَفْتَرُوا " في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الواحدي : إنه بدلٌ من " لِما تَصِفُ " ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [ على الله ].
قال أبو حيَّان :" وهو على تقدير جعل " ما " مصدرية، أما إذا كانت بمعنى الذي، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل، فيبدل منها ما يفهم التعليل، وإنَّما اللام في " لِمَا " متعلِّقة ب " لا تَقُولوا " على حدِّ تعلقها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام، أي : لا تسمُّوا الحلال حراماً، وكما تقول : لا تقل لزيد : عمرو أي : لا تطلق عليه هذا الاسم ".
قال شهاب الدين : وهذا وإن كان ظاهراً، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي.
الثاني : أنها للصَّيرورة ؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض ؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم.
والمعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون : إن الله أمرنا بذلك.
قال ابن الخطيب : فعلى هذا تكون لام العاقبة ؛ كقوله - تعالى - :﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا ﴾ [ القصص : ٨ ].
الثالث : أنها للتعليل الصريح، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك. ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال :﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ ﴾، ثم بيَّن أن ما هم فيه من [ متاع ]٨ الدنيا يزول عنهم عن قربٍ، فقال :
١ ينظر: الإتحاف ٢/١٩٠، المحتسب ٢/١٢، والقرطبي ١٠/١٢٨، والبحر ٥/٥٢٦ والدر المصون ٤/٣٦٤..
٢ ينظر: المحتسب ٢/١٢، والقرطبي ١٠/١٢٨، والبحر ٥/٢٧ والدر المصون ٤/٣٦٤..
٣ ينظر: البحر ٥/٥٢٧، والمحرر ٨/٥٣٦، والدر المصون ٤/٣٦٥..
٤ ينظر: السبعة ٦٦٩، الدر المصون ٤/٣٦٥..
٥ ينظر: الرازي ٢٠/١٠٦..
٦ أخرجه الدارمي في "سننه" (١/١٦٤) عن الأعمش..
٧ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٠/١٢٩)..
٨ في ب: نعيم..
﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾، قال الزجاج : معناه : متاعهم قليلٌ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل، ثم يردُّون إلى عذاب أليم.
وفي " متاعٌ " وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ، و " قَليلٌ " خبره.
وفيه نظر ؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ، فإن ادُّعي إضافة نحو : متاعهم قليلٌ، فهو بعيد جدًّا.
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : بقاؤهم، أو عيشهم، أو منفعتهم فيما هم عليه.
قوله تعالى -: ﴿وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ الآية لما بيَّن ما يحلُّ وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما خصَّ اليهودية من المحرَّمات، فقال: ﴿وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ وهو المذكور في سورة الأنعام عند قوله - تعالى -: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦].
وقوله: «مِنْ قَبْلُ» متعلق ب «حَرَّمْنَا» أو ب «قَصَصْنَا» والمضاف إليه قبل تقديره: من قبل تحريمنا على أهل ملتك.
«ومَا ظَلمْنَاهُمْ» بتحريم ذلك عليهم ﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فحرَّمنا عليهم ببغيهم، وهو قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ [النساء: ١٦٠].
قوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ﴾ الآية بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، ولفظ «السُّوء» يتناول كل ما لا ينبغي، وهو الكفر والمعاصي، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلاً، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقًّا، فإنَّه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشَّهوة غالبة للعقل، فثبت أن كلَّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي: من بعد تلك السَّيئة.
وقيل: من بعد تلك الجهالة، ثم إنَّهم بعد التوبة عن تلك السَّيِّئات أصلحوا، أي: آمنوا وأطاعوا الله.
قوله: «من بعدها» أي: من بعد عمل السوء والتوبة، والإصلاح، وقيل: على الجهالة، وقيلك على السوء، لأنه في معنى المعصية.
«بجهالة» حال من فاعل «عملوا»، ثم أعاد قوله: «إن ربك من بعدها» على سبيل
181
التأكيد، «لغَفُورٌ رَّحيمٌ» لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة.
182
قوله - تعالى- :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بِجَهَالَةٍ ﴾ الآية، بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، ولفظ " السُّوء "، يتناول كل ما لا ينبغي، وهو الكفر والمعاصي، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلاً، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً ؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقًّا، فإنَّه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشَّهوة غالبة للعقل، فثبت أن كلَّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي : من بعد تلك السَّيئة.
وقيل : من بعد تلك الجهالة، ثم إنَّهم بعد التوبة عن تلك السَّيِّئات أصلحوا، أي : آمنوا وأطاعوا الله.
قوله :" من بعدها "، أي : من بعد عمل السوء والتوبة، والإصلاح، وقيل : على الجهالة، وقيل : على السوء ؛ لأنه في معنى المعصية.
" بجهالة "، حال من فاعل :" عملوا "، ثم أعاد قوله :" إن ربك من بعدها "، على سبيل التأكيد، " لغَفُورٌ رَّحيمٌ "، لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة.
قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً﴾ الآية.
لما زيَّف مذاهب المشركين في مواضع من هذه السورة، وهب إتيانهم الشُّركاء والأنداد لله تعالى، وطعنهم في نبوَّة الأنبياء عليهم السلام، وقولهم: لو أرسل الله إليهم رسولاً، لكان من الملائكة، وتحليل الأشياء المحرَّمة، وتحريم الأشياء المحللة، وبالغ في إبطال مذاهبهم، وكان إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رئيس الموحِّدين، وهو الذي دعا النَّاس إلى التوحيد والشرائع، وإبطال الشرك، وكان المشركون يفتخرون به ويعترفون بحسن طريقته، [ويقرون] بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى على طريقته بالتوحيد؛ ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك.
قوله تعالى: «أمَّةً» تطلق الأمة على الرَّجل الجامع لخصالٍ محمودة؛ قال ابن هانئ: [السريع]
٣٣٧٢ - ولَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أنْ يَجْمعَ العَالمَ في واحِدِ
وقيل: «فُعْلَة» تدلُّ على المبالغة، «فُعْلَة» بمعنى المفعول، كالدُّخلة والنُّخبة، فالأمة: هو الذي يؤتم به؛ قال - تعالى -: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: ١٢٤] قال مجاهد: كان مؤمناً وحده، والنَّاس كلهم كانوا كفَّاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمَّة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يَبْعثهُ الله أمَّةً وحْدَهُ».
وقيل: إنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - هو السَّبب الذي لأجله جعلت أمَّته ممتازين عمَّن سواهم بالتَّوحيد والدِّين الحقِّ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمَّاها الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السَّبب.
وعن شهر بن حوشب: لم تبق أرض إلاَّ وفيها أربعة عشر، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض، إلاَّ زمن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - فإنَّه كان وحده.
182
والأمة تطلق على الجماعة؛ لقوله - تعالى -: ﴿أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ﴾ [القصص: ٢٣] وتطلق على أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، كقولك: نحن من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتطلق على الدِّين والملَّة؛ كقولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٣] وتطلق على الحين والزمان؛ كقوله - تعالى -: ﴿إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ [هود: ٨] وقوله - جل ذكره -: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥] أي: بعد حين، وتطلق على القامة، يقال: فلانٌ حسن الأمة، أي: حسن القامة، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُبْعَثُ زيْدُ بنُ عَمْرو بْنِ نُفيْلٍ يَوْمَ القِيامَةِ أمَّة وحْدَهُ».
وتطلق على الأم، يقال: هذه أمة فلان يعني: أمَّه، وتطلق أيضاً على كل جنس من أجناس الحيوان؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ من الأمَمِ لأمَرْتُ بِقتْلِهَا».
وقال ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر.
قوله تعالى: ﴿قَانِتاً لِلَّهِ﴾ القانت: هو القائم بأمر الله تعالى. وقال ابن عبَّاس: مطيعاً لأمر الله تعالى.
قوله تعالى: «حَنِيفاً» :[مائلاً] إلى ملَّة الإسلام ميلاً لا يزول عنه، وقيل حنيفاً: مستقيماً على دين الإسلام. وقيل: مخلصاً.
قال ابن عباس: إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج، وهذه صفة الحنيفيَّة.
﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين﴾ أي: أنَّه كان من الموحِّدين في الصِّغر والكبر، أما في حال صغره: فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها، وأما في كبره: فمناظرته لملك زمانه، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار.
قوله تعالى: «شَاكِراً» يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، أو حالاً من أحد الضميرين في «قَانِتاً» و «حَنِيفاً».
183
قوله: «لأنْعُمِهِ» يجوز تعلقه ب «شَاكِراً» أو ب «اجْتَبَاهُ»، و «اجْتَبَاهُ» إما حال وإما خبر آخر ل «كان» و «إلى صِراطٍ» يجوز تعلقه ب «اجْتَبَاهُ» وب «هَدَاهُ» على [قاعدة] التنازع.
فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلَّة، ونعم الله على إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كانت كثيرة فلم قال: «شَاكِراً لأنْعُمِهِ» ؟.
فالجواب: أنه كان شاكراً لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة، فكيف الكثيرة؟.
ومعنى «اجْتبَاهُ» : اختاره واصطفاه للنبوة، والاجتباء: هو أن يأخذ الشيء بالكليَّة، وهو «افْتِعَال» من «جَبَيْتُ» وأصله جمع الماء في الحوض، والجابية هي الحوض، ﴿وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ إلى دين الحقِّ.
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ يعني: الرِّسالة والخلَّة. وقيل: لسان صدق، وقال مقاتل بن حيان: هو قول المصلي: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على إبْراهِيمَ.
وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن الله حبَّبه إلى كل الخلق. وقيل: أولاداً أبراراً على الكبر. ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ : في أعلى مقامات الصَّالحين في الجنة.
قوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية.
لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة، قال - جل ذكره - ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾. قال الزمخشري في «ثُمَّ» هذه: إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإجلال محله، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ، وأجل ما أولي من النِّعمة: اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملَّته، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها.
قوله تعالى: ﴿أَنِ اتبع﴾ يجوز أن تكون المفسرة، وأن تكون المصدرية، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء.
قوله تعالى: «حَنِيفاً» حال، وتقدم تحقيقه في البقرة [الآية: ١٣٥].
وقال ابن عطية: قال مكِّي: ولا يكون - يعني: «حَنِيفاً» - حالاً من «إبْراهِيمَ» عليه السلام؛ لأنه مضاف إليه.
وليس كما قال؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ، إذا عملت في ذي الحال؛ كقولك: مَرَرْتُ بهِ قَائِماً.
184
وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه، فليس على إطلاقه؛ كما تقدم تفصيله في البقرة.
وأما قول ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن العامل الخافض، فليس كذلك؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض، وكذلك إذا حذف الخافض، نصب مخفوضه.

فصل


قال قوم: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن، بل المقصود من بعثته: إحياء [شرع] إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الآية، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال ﴿أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، كان المراد ذلك.
فإن قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية، وإذا كان كذلك، لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله: «أن اتَّبعْ» على هذا المعنى؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
فالجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق، والسهولة، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول؛ لما يؤدِّي إلى الثواب، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم؛ فقال - تعالى -: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠]، وقال - تعالى - هنا: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾.
185
قوله تعالى :" شَاكِراً "، يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، أو حالاً من أحد الضميرين في " قَانِتاً " و " حَنِيفاً ". قوله :" لأنْعُمِهِ " يجوز تعلقه ب " شَاكِراً " أو ب " اجْتَبَاهُ "، و " اجْتَبَاهُ " إما حال وإما خبر آخر ل " كان " و " إلى صِراطٍ " يجوز تعلقه ب " اجْتَبَاهُ " وب " هَدَاهُ " على [ قاعدة ]١ التنازع.
فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلَّة، ونعم الله على إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كانت كثيرة فلم قال :" شَاكِراً لأنْعُمِهِ " ؟.
فالجواب : أنه كان شاكراً لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة، فكيف الكثيرة ؟.
ومعنى " اجْتبَاهُ " : اختاره واصطفاه للنبوة، والاجتباء : هو أن يأخذ الشيء بالكليَّة، وهو " افْتِعَال " من " جَبَيْتُ " وأصله جمع الماء في الحوض، والجابية هي الحوض، ﴿ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، إلى دين الحقِّ.
١ في أ: طريقة..
﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً ﴾، يعني : الرِّسالة والخلَّة. وقيل : لسان صدق، وقال مقاتل بن حيان : هو قول المصلي : اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على إبْراهِيمَ.
وقال قتادة - رضي الله عنه - : إن الله حبَّبه إلى كل الخلق١. وقيل : أولاداً أبراراً على الكبر. ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ﴾ : في أعلى مقامات الصَّالحين في الجنة٢.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٨٩)..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٠/١٠٨)..
قوله - تعالى - :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية.
لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة، قال - جل ذكره - :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾. قال الزمخشري في " ثُمَّ " هذه : إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ، وأجل ما أولي من النِّعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملَّته، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها.
قوله تعالى :﴿ أَنِ اتبع ﴾، يجوز أن تكون المفسرة، وأن تكون المصدرية، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء.
قوله تعالى :" حَنِيفاً " حال، وتقدم تحقيقه في البقرة [ الآية : ١٣٥ ].
وقال ابن عطية١ : قال مكِّي : ولا يكون - يعني :" حَنِيفاً " - حالاً من " إبْراهِيمَ " عليه السلام ؛ لأنه مضاف إليه.
وليس كما قال ؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ، إذا عملت في ذي الحال ؛ كقولك : مَرَرْتُ بهِ قَائِماً.
وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه، فليس على إطلاقه ؛ كما تقدم تفصيله في البقرة.
وأما قول ابن عطية٢ - رحمه الله- : إن العامل الخافض، فليس كذلك ؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض، وكذلك إذا حذف الخافض، نصب مخفوضه.

فصل


قال قوم : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن، بل المقصود من بعثته : إحياء [ شرع ]٣ إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، وهذا ضعيف ؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال :﴿ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾، كان المراد ذلك.
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد ؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية، وإذا كان كذلك، لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله :" أن اتَّبعْ " على هذا المعنى ؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
فالجواب : أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد ؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق، والسهولة، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ؛ لما يؤدِّي إلى الثواب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم ؛ فقال - تعالى - :﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ]، وقال - تعالى - هنا :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٣١..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٣١..
٣ في ب: ملة..
قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ﴾ الآية.
لما أمر محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - بمتابعة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة
185
وَالسَّلَام ُ - وكان محمَّد اختار يوم الجمعة، وهذه المتابعة إنَّما تحصل إذا قلنا: إن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا القائل أن يقول: فلم اختار اليهود يوم السبت؟.
فأجاب الله - تعالى - عنه بقوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ﴾، وفي الآية قولان:
الأول: روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «أمرهم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - بالجمعة، وقال: تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يفعلوا ذلك، وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل الله - تعالى - السبت لهم، وشدَّد عليهم فيه، ثمَّ جاءهم عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أيضاً بالجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، واتخذوا الأحد».
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «إنَّ الله كَتَبَ يَوْمَ الجُمعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلنَا، فاخْتلَفُوا فِيهِ وهَدَانَا الله إلَيْهِ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبعٌ، اليَهُود غَداً والنَّصارَى بَعد غدٍ».
واعلم أن أهل الملل اتَّفقوا على أنه - تعالى - خلق العالم في ستَّة أيام، وبدأ - تعالى - بالخلق والتكوين في يوم الأحد، وتمَّ في يوم الجمعة، وكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعيَّنوا يوم السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيداص لنا.
وأما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؛ فلأنه يوم كمال الخقل وتمامه، وحصول التَّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسُّرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى.
والقول الثاني: اختلافهم في السبت هو أنهم أحلُّوا الصيد فيه تارة وحرَّموه [تارة].
قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ﴾ العامة على بنائه للمفعول، وأبو حيوة على بنائه للفاعل، و «السَّبْتُ» مفعول به.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، أي: يحكم للمحقِّين بالثواب، وللمبطلين بالعقاب.
قوله - تعالى -: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ الآية لما أمر محمداً -
186
صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة ا﴾.
واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي: ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾، والمجادلة بالطريق الأحسن، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى، فقال - تعالى -: ﴿وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة.
واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة، والمقصود من ذكر تلك الحجة: إما تقرير ذلك المذهب، وذلك على قسمين: لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض، أو لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر، والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة:
أولها: الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة، وذلك هو المسمَّى بالحكمة.
وثانيها: الأمارات الظنية، والدلائل الإقناعية، وهي الموعظة الحسنة.
وثالثها: الدلائل التي يكون المقصود منها: إلزام الخصوم وإقحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين:
أحدهما: أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
والقسم الثاني: أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين، بالسَّفاهة والشَّغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل [الفضل]، إنما اللائق بهم القسم الأول، وهو المراد بقوله: ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾.

فصل


قال المفسرون: قوله: «بالحِكْمَةِ» أي: بالقرآن، «والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ» يعني: مواعظ القرآن. وقيل «المَوعِظَة الحَسنَة» هو الدعاء إلى الله - تعالى - ب التَّرغيب والتَّرهيب، وقيل: بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف.
﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ناظرهم بالخصومة، «الَّتي هِيَ أحْسَنُ» أي: أعرض عن
187
أذاهم، أي: ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة، والدعاء غلى الحقِّ، والآية نسختها آية القتال.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾، أي: إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين.
قوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ﴾ العامة على «المُفَاعلة» وهي بمعنى: «فَعَلَ» ؛ كَسافَرَ، وابن سيرين: «عَقَّبْتُم» بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ [بالانتصار فقفُّوا] بمثل ما فعل بكم.
وقيل: تتبَّعتم، والباء معدِّية، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة.

فصل


قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به، قال:
«والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ» فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل، فكفَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمسك عما أراد؛ وعلى هذا قالوا: سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات.
والقول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا﴾ [البقرة: ١٩٠] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد، ونسخت هذه الآية، قاله ابن عبَّاس والضحاك.
والقول الثالث: أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد، والنخعي، وابن سيرين.
وقال ابن الخطيب: وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال: إنه - تعالى - أمر محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم
188
بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يشوش قلوبهم، ويوحش صدورهم، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانياً، وبالشَّتْم ثالثاً، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء؛ تارة بالقتل، وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف، وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟.
قلنا: لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية؛ لأنا نقول: تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى -.

فصل


في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها، ومن قتل بحجرٍ، قتل بمثله، ولا يتعدى قدر الواجب، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟.
فقال ابن سيرين، والنخعي، وسفيان، ومجاهد: له ذلك لعموم هذه الآية.
وقال مالك وجماعة: لا يجوز؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ»
رواه الدارقطني.
وقال القرطبي: «ووقع في مسند ابن إسحاق: أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة ىخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأمرِ، فقال له:» أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ «وعلى هذا يقوى قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك».
189

فصل


اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب:
الأولى: قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته، وفي قوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ دليل على أن الأولى ألاّ يفعل؛ كما يقول الطبيب للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، فإن معناه: الأولى بك ألاّ تأكله، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [على] أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التَّصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والانتفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة: وهو الأمر بالجزم بالتَّرك، وهو قوله: «واصْبِرْ» ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام، ولمَّا ك ان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا، ذكر بعده ما يفيد سهولته؛ فقال - تعالى -: ﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ أي: بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.
ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب؛ فقال - جل ذكره -: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى [إنزال] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين:
أحدهما: فوات نفع كان حاصلاً في الماضي، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ قيل: معناه: ولا تحزن على قتلى «أحدٍ»، أي: ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل: ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.
والسبب الثاني: أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾، ومن وقف على هذه اللَّطائف، عرف أنَّه لا يمكن كلام [أدخل] في الحسن والضبط من هذا الكلام.
قوله: «للصَّابِرينَ» يجوز أن يكون عامًّا، أي: الصبر خير لجنس الصَّابرين، وأن
190
يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر، أي: صبركم خير لكم.
قوله: «إلاَّ بالله» أي: بمعونته، فهي للاستعانة.
قوله: «في ضَيْقٍ» قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل: بكسر الضاد، والباقون: بالفتح، فقيل: هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر؛ كالقول والقِيل.
وقيل: المفتوح مخفَّف من «ضَيِّق» ؛ ك «مَيْت» في «مَيِّت»، أي: في أمر ضيِّق، فهو مثل هَيْن في هيِّن، و «لَيْن» في «لَيِّن»، قاله ابن قتيبة.
وردَّه الفارسي: بأن الصفة غير خاصة بالموصوف، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز: مررت بكاتب، وامتنع بآكلٍ.
وأما وجه القراءة بالفتح، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن، وما كان في القلب، فإنه الضَّيْق.
وقال أبو عمرو: «الضِّيقُ بالكسر: الشدَّة، والضَّيقُ بالفتح: الغمُّ».
قوله تعالى: ﴿مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ متعلق ب «ضَيْقٍ» و «مَا» مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف.

فصل


هذا من الكلام المقلوب؛ لأن الضَّيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة، فيكون المعنى: فلا يكن الضيق فيك؛ لأن الفائدة في قوله: ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى.
المرتبة الرابعة: قوله: ﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا﴾ المناهي، ﴿والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ وهذا يجري مجرى التهديد؛ لأنه في المرتبة الأولى: رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية: عدل عن الرمز إلى التصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾، وفي المرتبة الثالثة: أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة: كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام، فقال: ﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا﴾ عن استيفاء الزيادة، ﴿والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ : في ترك أصل الانتقام؛ فكأنه قال: إن أردت أن أكون
191
معك، فكن من المتَّقين ومن المحسنين، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية.
وقوله - تعالى -: ﴿الذين اتقوا﴾ إشارة غلى التعظيم لأمر الله، وقوله - جل ذكره - ﴿والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله - تعالى -.
قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته: أوص، فقال: إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، قال بعضهم: إن قوله - جل ذكره -: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -، وترك التَّعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده.
روى أبو أمامة، عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة».
192
سورة الإسراء
193
قوله - تعالى - :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ الآية، لما أمر محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه ؛ فقال - عز وجل- :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة ﴾.
يجوز أن يكون مفعول " ادع " مراداً، أي : ادع الناس، وألا يكون مراداً، أي : افعل، و " بِالحِكْمَةِ " حال، أي : ملتبساً بها.
واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي :﴿ بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾، والمجادلة بالطريق الأحسن، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى، فقال - تعالى- :﴿ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ]، ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة.
واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لابد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة، والمقصود من ذكر تلك الحجة : إما تقرير ذلك المذهب، وذلك على قسمين ؛ لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض، أو لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر، والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة :
أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة، وذلك هو المسمَّى بالحكمة.
وثانيها : الأمارات الظنية، و الدلائل الإقناعية، وهي الموعظة الحسنة.
وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود منها : إلزام الخصوم وإقحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين :
أحدهما : أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
والقسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين، بالسَّفاهة والشَّغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل [ الفضل ]١، إنما اللائق بهم القسم الأول، وهو المراد بقوله :﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.

فصل


قال المفسرون : قوله :" بالحِكْمَةِ "، أي : بالقرآن، " والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ "، يعني : مواعظ القرآن. وقيل :" المَوعِظَة الحَسنَة " هو الدعاء إلى الله - تعالى - بالتَّرغيب والتَّرهيب، وقيل : بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف.
﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، ناظرهم بالخصومة، " الَّتي هِيَ أحْسَنُ "، أي : أعرض عن أذاهم، أي : ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحقِّ، والآية نسختها آية القتال.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾، أي : إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين.
١ في أ: العقل..
قوله - تعالى- :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ ﴾، العامة على " المُفَاعلة " وهي بمعنى :" فَعَلَ " ؛ كَسافَرَ، وابن سيرين١ :" عَقَّبْتُم " بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ [ بالانتصار فقفُّوا ]٢ بمثل ما فعل بكم.
وقيل : تتبَّعتم، والباء معدِّية، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة.

فصل


قال الواحدي رحمه الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رضي الله عنهم- : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به، قال :
" والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ "، فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد٣ ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات.
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم، ويدلُّ عليه قوله - تعالى- :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ]، وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله، نزلت " براءة " وأمروا بالجهاد، ونسخت هذه الآية، قاله ابن عبَّاس والضحاك.
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد، والنخعي، وابن سيرين.
وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه - تعالى - أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يشوش قلوبهم، ويوحش صدورهم، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانياً، وبالشَّتْم ثالثاً، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات، لابد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل، وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف، وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟.
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى -.

فصل


في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها، ومن قتل بحجرٍ، قتل بمثله، ولا يتعدى قدر الواجب، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه ؟.
فقال ابن سيرين، والنخعي، وسفيان، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية.
وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " ٤
رواه الدارقطني.
وقال القرطبي٥ :" ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمرِ، فقال له :" أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ ". وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك ".

فصل


اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب :
الأولى : قوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته، وفي قوله - تعالى - :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، دليل على أن الأولى ألاّ يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح، وهو قوله - عز وجل- :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والانتفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك، وهو قوله :" واصْبِرْ " ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام، ولمَّا كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال - تعالى- :
١ ينظر: المحتسب ٢/١٣ والبحر ٥/٥٣١، والدر المصون ٤/٣٦٧..
٢ زيادة من: ب..
٣ أخرجه أحمد (٥/٥٣١) والترمذي (٣١٢٨) وابن حبان (١٦٩٦ ـ موارد) والحاكم (٢/٣٥٨ ـ ٣٥٩) والبيهقي في "الدلائل" (٣/٢٨٩) من حديث أبي بن كعب.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..

٤ أخرجه أبو داود (٣٥٣٤) والترمذي (١٢٦٤) وأحمد (٣/٤١٤) والدارقطني (٣/٣٥) والحاكم (٢/٤٦) وابن الجوزي في "العلل" (٢/١٠٢) من حديث أبي هريرة.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الدارقطني (٣/٣٥) والحاكم (٢/٤٦) والطبراني في "الكبير" (٧٦٠) وابن الجوزي في "العلل" (٢/١٠٢ ـ ١٠٣) من حديث أنس بن مالك..

٥ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٣٢..
﴿ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾، أي : بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السبب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.
ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب ؛ فقال - جل ذكره- :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى [ إنزال ]١ الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :
أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى " أحدٍ "، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.
والسبب الثاني : أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله :﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾، ومن وقف على هذه اللَّطائف، عرف أنَّه لا يمكن كلام [ أدخل ] في الحسن والضبط من هذا الكلام.
قوله :" للصَّابِرينَ "، يجوز أن يكون عامًّا، أي : الصبر خير لجنس الصَّابرين، وأن يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر، أي : صبركم خير لكم.
قوله :" إلاَّ بالله "، أي : بمعونته، فهي للاستعانة.
قوله :" في ضَيْقٍ "، قرأ ابن كثير٢ هنا وفي النَّمل : بكسر الضاد، والباقون : بالفتح، فقيل : هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر ؛ كالقول والقِيل.
وقيل : المفتوح مخفَّف من " ضَيِّق " ؛ ك " مَيْت " في " مَيِّت "، أي : في أمر ضيِّق، فهو مثل هَيْن في هيِّن، و " لَيْن " في " لَيِّن "، قاله ابن قتيبة.
وردَّه الفارسي٣ : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز : مررت بكاتب، وامتنع بآكلٍ.
وأما وجه القراءة بالفتح، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن، وما كان في القلب، فإنه الضَّيْق.
وقال أبو عمرو :" الضِّيقُ بالكسر : الشدَّة، والضَّيقُ بالفتح : الغمُّ ".
قوله تعالى :﴿ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾، متعلق ب " ضَيْقٍ " و " مَا " مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف.

فصل


هذا من الكلام المقلوب ؛ لأن الضَّيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك ؛ لأن الفائدة في قوله :﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ﴾، هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى.
المرتبة الرابعة : قوله :
١ في ب: ترك..
٢ ينظر: السبعة ٣٧٦، والحجة ٣٩٥، والنشر ٢/٣٠٥، والإتحاف ٢/١٩١، والقرطبي ١٠/١٣٣. والبحر ٥/٥٣١، والدر المصون ٤/٣٦٧.
ونسبت هذه القراءة إلى نافع، ولا يصح هذا..

٣ ينظر: الحجة ٥/٨٠..
﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا ﴾ المناهي، ﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ وهذا يجري مجرى التهديد ؛ لأنه في المرتبة الأولى : رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية : عدل عن الرمز إلى التصريح، وهو قوله - عز وجل- :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام، فقال :﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا ﴾، عن استيفاء الزيادة، ﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ : في ترك أصل الانتقام ؛ فكأنه قال : إن أردت أن أكون معك، فكن من المتَّقين ومن المحسنين، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية.
وقوله - تعالى- :﴿ الذين اتقوا ﴾، إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وقوله - جل ذكره - :﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾، إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله - تعالى -.
قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته : أوص، فقال : إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، قال بعضهم : إن قوله - جل ذكره- :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد ؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، وترك التَّعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده.
Icon