تفسير سورة النّور

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة النور من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (هذه) ﴿ سُورَةٌ ﴾ أشار المفسر إلى أن ﴿ سُورَةٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره بقوله: (هذه) والاشارة لما في علم الله لكونها في حكم الحاضر المشاهد، ويصح أن تكون ﴿ سُورَةٌ ﴾ مبتدأ وجملة ﴿ أَنزَلْنَاهَا ﴾ صفة لها والخبر قوله: ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي ﴾ والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا، والخبر محذوف، والتقيدر فيما يتلى عليكم، وهذا على قراءة الرفع، وهي لعامة القراء، وقرئ ﴿ سُورَةٌ ﴾ بالنصب بفعل مضمر يفسره ﴿ أَنزَلْنَا ﴾ فهو من با ب الاشتغال أو على الإغراء، أي دونك سورة. قوله: ﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾ أي أوجبنا ما فيها من الأحكام ايجاباً قطعياً. قوله: (مخففاً ومشدداً) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَأَنزَلْنَا ﴾ كرر الإنزال لكال الاعتناء بشأنها. قوله: ﴿ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي دلائل على وحدانية الله تعالى، وقد ذكر في أول هذه السورة أنواع من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد، فقوله: ﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾ إشارة إلى الأحكام، وقوله: ﴿ وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ إشارة إلى الأدلة. قوله: (بإدغام التاء الثانية) أي بعد قلبها دالاً فذالاً أي وبتسكينها، أي فهما قراءتان سبعيتان، وبقيت ثالثة سبعية أيضاً وهي حذف إحدى التاءين. قوله: ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي ﴾ مبتدأ، والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم أو جملة ﴿ فَٱجْلِدُواْ ﴾ ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط، وعليه درج المفسر، وقدمت المرأة في حد الزنا، وأخرت في آية حد السرقة، لأن شهوة الزنا في المرأة أقوى وأكثر، والسرقة ناشئة من الجسارة والقوة، وهي في الرجل أقوى وأكثر. قوله: (لرجمهما بالسنة) أشار بذلك إلى أن الزانية والزاني لفظ عام يشمل المحصن وغيره، فالسنة أخرجت المحصن وبينت أن حده الرجم، فصار الكلام في غيره. قوله: ﴿ فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾ الخ، أي بسوط لين له رأس واحدة، ويجرد الرجل من ثيابه، والمرأة مما يقيها ألم الضرب، وتوضع في قفة فيها تراب للستر. قوله: (والرقيق على النصف مما ذكر) أي الجلد والتغريب وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك: لا يغرب إلا الذكر الحر، وأما المرأة والرقيق فلا يغربان. قوله: ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا ﴾ قرأ العامة بالتأنيث مراعاة للفظ، وقرئى شذوذاً بالياء التحتية. قوله: ﴿ رَأْفَةٌ ﴾ بسكون الهمزة وفتحها قراءتان سبعيتان، وقرئ بالمد بوزن سحابة، والرأفة أشد الرحمة، ويقال رؤف بالضم والفتح والكسر ككرم وقطع وطرب. قوله: (بأن تتركوا شيئاً من حدهما) أي لأن إقامة الحدود فيها رضا الله لما ورد:" إقامة حد الله تعالى في الأرض، خير من أن تمطروا أربعين صباحاً ". قوله: (في هذا) أي: قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ ﴾ الخ. قوله: (تحريض) أي حث على ما قبل الشرط وهو قوله: ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ فالواجب الغضب لله واستيفاء الحدود اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال:" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ". قوله: (وهو جوابه) أي كما هو رأي الكوفيين، قوله: (أو دال) أي كما هو رأي البصريين. قوله: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ﴾ الأمر للندب، والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة. قوله: (قيل ثلاثة) الخ، القولان للشافعي، وعند مالك أقل من ذلك أربعة. قوله: (أي المناسب لكل منهما ما ذكر) أي فهذا زجر لمن يريد نكاح الزانية، والمعنى أن الزاني يرغب في نكاح الزانية أو المشركة، والزانية ترغب في نكاح الزاني أو المشرك. قوله: ﴿ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لما فيه من المفاسد، كالطعن في النسب، والتعرض للتهم، والتشبه بالفساق، فالواجب التزويج بالعفيفات لما في الحديث:" تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ". قوله: (نزل ذلك) أي الآية، وحينئذ فالمطابق لسبب النزول هو الجملة الثانية، وإنما ذكر الأولى زيادة في التنفير. قوله: (وهو موسرات) أي غنيات. قوله: (خاص بهم) أي ولم ينسخ إلى الآن. قوله:﴿ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ ﴾[النور: ٣٢] جمع أيم، وهي من ليس لها زوج، بكراً أو ثيباً، ومن ليس له زوجة، وهو يشمل الزاني والزانية وغيرهما فغاية الأمر أن نكاح الفاسق والفاسقة مكروه.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ﴾ تقدم أن الزاني الزانية، إما أن يرجما إن كانا محصنين، أو يجلدا إن لم يكونا كذلك، فتبين أن الزنا أمره عظيم شديد، لا بد وأن يثبت، إما بإقرار، أو بأربعة عدول، فإن انتفى واحد من ذلك حد المدعي، فبين هذه الآية وما قبلها شدة مناسبة، وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ.
﴿ يَرْمُونَ ﴾ صلته، والخبر ثلاث جمل: الأولى ﴿ فَٱجْلِدُوهُمْ ﴾.
الثانية قوله: ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾.
الثاثة قوله: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾، ومعنى ﴿ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ﴾ يتهمونهن، فشبه الاتهام بالرمي، بجامع التأدية للهلاك في كل، لأنه إن ثبت ذلك الأمر فقد هلك المرمي، وإن لم ثيبت فقد هلك الرامي، وقوله: ﴿ ٱلْمُحْصَنَاتِ ﴾ لا مفهوم له، بل وكذا المحصنون، وإنما خصهن بالذكر، لأن الشأن قوة شهوة النساء. قوله: (العفيفات) تفسير للمحصنات باعتبار اللغة، لأن حصان كما يطلق على العفة، يطلق على التزوج وعلى الحرية، ومفهوم قوله: (العفيفات) أنه إذا رمي غير عفيف لا يحد، ويشترط زيادة على العفة، أن يكون المرمي يتأتى منه الزنا أو اللواط بأن يكون ذا آلة، فإن رمي مجبوباً عزر ولا يحد، وأن يكون حراً مسلماً مكلفاً، فإن انتفى شرط منها لم يحد القاذف، إلا رامي الصبي باللواط به أو الصبية المطيقين، فعند مالك يحد، وعند الشافعي يعزر. قوله: (بالزنا) أي أو اللواط في آدمي مطيق، أو جني تشكل بآدمي. قوله: ﴿ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ أي عدول، وقوله: (برؤيتهم) متعلق بشهداء، أي يشهدون بأنهم رأوا الذكر في الفرج، ولا بد أن يتحدوا في الرؤية والأداء، فإن اختلفوا ولو في أي صفة حد الجميع. قوله: ﴿ أَبَداً ﴾ أي ما داموا مصرين على عدم التوبة بدليل الاستثناء، وعلى هذا درج مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادتهم ولو تابوا. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ استثناء متصل، لأن المستثنى منه الذين يرمون والتائبون من جملتهم. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ أي القذف. قوله: (فبها ينتهي فسقهم) هذا مبني على رجوع الاستثناء للجملتين الأخيرتين، وهو مذهب مالك والشافعي، فعندهما أن التائب تقبل شهادته، ويزول عنه اسم الفسق. قوله: (وقيل لا تقبل) هذا مذهب أبي حنيفة، واتفق الجميع على أن القاذف يجلد، وإن تاب، فليس الاستثناء راجعاً إلى الجملة الأولى.
قوله: ﴿ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ جمع زوج بمعنى الزوجة، وحذف التاء أفصح من إثباتها إلا في المواريث. قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ ﴾ مفهومه لو كان له بينة فلا لعان بينهما عند مالك، وقال الشافعي: له ترك البينة ويلاعن. وأجاب عن الآية بأنها خرجت على سبب النزول، فإنه لم يكن لهم بينة. قوله: ﴿ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ﴾ بالرفع بدل من شهداء. قوله: (وقع ذلك) أي قذف الزوجة بالزنا. قوله: (الجماعة من الصحابة) أي وهم هلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي. قوله: (نصب على المصدر) أي والعامل شهادة، وفي قراءة سبعية أيضاً بالرفع خبر المبتدأ. قوله: (من الزنا) أي أو النفي الحمل، لأن اللعان كما يكون في رؤية الزنا، يكون في نفي الحمل. قوله: ﴿ وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ ﴾ الخ، بالرفع لا غير باتفاق السبعة، وقوله: ﴿ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ﴾ بالنصب لا غير باتفاق السبعة، وقوله: ﴿ وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ ﴾ الخ، يجوز في السبعة رفعه ونصبه، فتحصل أن الخامسة الأولى بالرفع لا غير، وفي الثانية الوجهان، ولفظ أربع الأول فيه الوجهان، والثاني بالنصب لا غير، وحكمة تخصيص الرجل باللعنة، والمرأة بالغضب، أن اللعن معناه الطرد والبعد عن رحمة الله، وفي لعانه إبعاد الزوجة والولد، وفي لعانها إغضاب الرب والزوج والأهل إن كانت كاذبة. قوله: (وخبر المبتدأ) أي الذي قوله: ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ﴾.
قوله: (في ذلك) أي فيما رماها به.- فائدة - يترتب على لعانه دفع الحد عنه، وقطع الولد منه، وإيجاب الحد عليها، وعلى لعانها دفع الحد عنها، وتأبيد تحريمها، وفسخ نكاحها. قوله: (بالستر) متعلق بكل من فضل ورحمة. قوله: (لبين الحق في ذلك) جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ ﴾ الخ، شروع في ذكر الآيات المتعلقة بالإفك، وهي ثماني عشرة تنتهي بقوله:﴿ أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾[النور: ٢٦] ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله لما ذكر ما في الزنا من الشناعة والقبح، وذكر ما يترتب على من رمى غيره به، وذكر أنه لا يليق بآحاد الأمة، فضلاً عن زوجة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ذكر ما يتعلق بذلك. قوله: (أسوأ الكذب) أي أقبحه وأفحشه. قوله: (على عائشة) متعلق بالكذب، وقد عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهي بنت ست سنين أو سبع، ودخل عليها بالمدينة وهي بنت تسع، وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة. قوله: ﴿ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ العصبة من العشرة إلى الأربعين، وإن كان من عينتهم وذكرتهم أربعة فقط، لأنهم هم الرؤساء في هذا الأمر. قوله: (من المؤمنين) أي ولو ظاهراً، فإن عبد الله بن أبي من كبار المنافقين. قوله: (قالت) أي عائشة في تعيين أهل الإفك. قوله: (وحمنة بنت جحش) هي زوجة طلحة بن عبيد الله. قوله: ﴿ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ ﴾ المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وصفوان تسلية لهم. قوله: ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي لظهور كرامتكم على الله وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيراً. قوله: (يأجركم الله به) أي بسبب الصبر عليه. قوله: (ومن جاء معها) أي يقود بها الراحلة. قوله: (وهم صفوان) أي السلمي بن المعطل. قوله: (في غزوة) قيل هي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الرابعة، وقيل في السادسة. وسببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحرث بن ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بذلك خرج اليهم، حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم، وردها عليهم. قوله: (بعدما أنزل الحجاب) أي وهو قوله تعالى:﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾[الزخرف: ٥٣].
قوله: (وآذن) بالمد والقصر، أي اعلم. قوله: (وقضيت شأني) أي حاجتي كالبول مثلاً. قوله: (فإذا عقدي انقطع) أي وكان من جزع ظفار، وهو الخرز اليماني غالي القيمة، وكان أصله لأمها، أعطته لها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه سلم، وقيل لأختها أسماء. قوله: (ألتمسه) أي أفتش عليه. قوله: (فجلست في المنزل الذي كنت فيه) أي وهذا من حسن عقلها وجودة رأيها، فإن من الآداب، أن الإنسان إذا ضل عن رفقته، وعلم أنهم يفتشون عليه، أن يجلس في المكان الذي فقدوه فيه ولا ينتقل منه، فربما رجعوا فلم يجدوه. قوله: (فنمت) أي وكانت كثيرة النوم لحداثة سنها. قوله: (وكان صفوان قد عرس) أي وكان صاحب ساقة رسول الله لشجاعته، وكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم، فما سقط منهم شيء إلا حمله، حتى يأتي به أصحابه. قوله: (فسار منه) أي فادلج بالتشديد سار من آخر الليل، وأما دلج سار من أوله. قوله: (في منزله) أي منزل الجيش الذي مكثت فيه عائشة. قوله: (وطئ على يدها) أي الراحلة خوف أن تقوم. قوله: (موغرين) أي اتينا الجيش في وقت القيلولة. قوله: (فهلك من هلك) أي تكلم بما كان سبباً في هلاكه. قوله: (فيّ) أي بسببي. قوله: (ابن أبي ابن سلول) نسب أولاً لأبيه ثم لأمه. قوله: (انتهى قولها) هذا باعتبار ما اختصره، وإلا فحديثها له بقية كما في البخاري وهي: فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً، وهم يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجعي، أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ لا أشعر بشيء من ذلك، حتى نقهت بفتح فكسر، أي برئت من مرضي، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول، في البرية أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت رهم نمشي، فعثرت في مرطها، هو بكسر الميم، كساء من صوف، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ماقلت: أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: يا هنتاه، أي قليلة المعرفة، ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ قالت: يا بنيتي هوني على نفسك الشأن، فوالله قلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار اليه بالذي يعلم من نفسه بالود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيراً، واسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: يا بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها، هو بهمزة مفتوحة فغين معجمة فضاد مهملة، أي أعيبه وأنكره، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فيأتي الداجن، وهو بدال مهملة ثم جيم، ما يألف البيوت من الشاة والدجاج ونحو ذلك فيأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ وقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان: الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتي ويوماً، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فينما هما جالسان وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها، مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهد ثم قال: يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذتب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه، فلما قصى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي، أي انقطع جريانه حتى ما أحس منه بقطرة وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيراً من القرآن فقات: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم إني لبريئة لتصدقنني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلى أبا يوسف إذ قال:﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾[يوسف: ١٨] ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ماظننت أن ينزل في شأني وحي، ولأنا أحفر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيّ اليوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام أن برح مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء أو الشدة والكرب، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان، أي اللؤلؤ من العرق في يوم شات، فلما سري أي كشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله، قالت أمي: قومي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم اليه ولا احمد إلا الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ الآيات. فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه: والله لا أنفق على مسطح بشيء أبداً بعدما قال في عائشة، فأنزل الله عز وجل:﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ ﴾الآية إلى قوله:﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[النور: ٢٢] فقال أبو بكر: بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، قالت: وهي التي تساميني فعصمها الله بالورع. انتهى. قوله: ﴿ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ ﴾ أي من العصبة. قوله: ﴿ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ ﴾ أي جزاء ما اكتسب من الإثم في الدنيا، وهو لغير عبد الله بن أبيّ، فإنهم قد حدوا حد القذف، وعمي حسان وشلت يده في آخر عمره، وعمي مسطح أيضاً، أو في الدنيا والآخرة وهو لابن أبيّ، فعذبه الله بخزي الدنيا والخلود في النار. قوله: ﴿ لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ لما بين سبحانه وتعالى حال الخائضين في الإفك، وأنهم اكتسبوا الإثم، شرع في توبيخهم وزجرهم بتسعة زواجر: الأول هذا، والثاني ﴿ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ ﴾ الخ، والثالث﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ ﴾[النور: ١٤] الخ، والرابع﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ﴾[النور: ١٥] الخ، والخامس ﴿ لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ الخ، السادس﴿ يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ ﴾[النور: ١٧] الخ، السابع﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ﴾[النور: ١٩] الخ، الثامن﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾[النور: ٢٠] الخ، التاسع﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾- إلى -﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[النور: ٢١] ولولا هنا للتوبيخ لدخولها على الماضي، لأن لولا لها ثلاثة أحوال: إذا دخلت على ماض كان معناها التوبيخ، وإذا دخلت على مضارع كان معناها التحضيض، وإذا دخلت على جملة اسمية كانت امتناعية، وقد كررت هنا في ست مواضع: الأول والثاني والرابع توبيخية لا جواب له، والثالث والخامس والسادس شرطية، ذكر جوابها في الثالث والسادس وحذف في الخامس فتدبر، وإذا ظرف لظن، والمعنى كان ينبغي لكم بمجرد سماعه، أن تسحنوا الظن في أم المؤمنين، ولا تصروا على الأمر القبيح بعد سماعه. قوله: ﴿ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ أي بأبناء جنسهم في الايمان والصحة. قوله: (فيه التفات عن الخطاب) أي إلى الغيبة، إذ كان مقتضى الظاهر ظننتم، وحكمته التسجيل عليهم والمبالغة في توبيخهم. قوله: ﴿ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ ﴾ أي الإفك. قوله: (شاهدوه) أي عاينوا الزنا: قوله: (في حكمه) أي الشرعي لأن مداره على الشهادة والأمر الظاهر، وهذا جواب عما يقال: إنهم كاذبون عند الله مطلقاً ولو أتوا بشهداء، فأجاب: بأنهم كاذبون باعتبار حكم الشرع، ولا شك أنهم لو أتوا ببينة معتبرة، لكان حكم الله أنهم صادقون في الظاهر، فأراد الله أن يكذبهم ظاهراً وباطناً.
قوله: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ ﴿ لَوْلاَ ﴾ امتناعية وجوابها قوله: ﴿ لَمَسَّكُمْ ﴾ والمعنى امتنع مس العذاب لكم، لوجود فضل الله ورحمته عليكم. قوله: ﴿ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ ﴾ أي بسببه وما اسم موصول و ﴿ أَفَضْتُمْ ﴾ صلته أو مصدرية، أي بسبب الذي أفضتم فيه أو بسبب إفاضتكم. قوله: ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ أي لغير ابن سلول فإن عذابه محتم. قوله: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ أي تتلفظون به باللسان فقط، دون اعتقاده بالقلب فهم يعتقدون براءتها، وإنما تلفظهم بالإفك محض حسد وعناد. قوله: ﴿ وَلَوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ ﴿ لَوْلاۤ ﴾ توبيخه، و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف لقلتم، والمعنى كان الواجب عليكم حين سمعتم هذا الأمر، أن تقولوا سبحانك وفصل بالظرف بين ﴿ لَوْلاۤ ﴾ و ﴿ قُلْتُمْ ﴾ لأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها. قوله: (هو للتعجب هنا) أي مع التنزيه والمعنى تنزيهاً لك من انتهاك حرماتك، فإنه غير لائق بك ولا بأحبابك الذين قلت فيهم﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً ﴾[الأحزاب: ٣٣].
قوله: (ينهاكم) أشار بذلك إلى أن ضمن ﴿ يَعِظُكُمُ ﴾ معنى (ينهاكم) فعداه بعن. قوله: ﴿ أَبَداً ﴾ أي مدة حياتكم. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، أي فلا تعودوا لمثل. قوله: (باللسان) أي فالمراد بإشاعتها إشاعة خبرها. قوله: (بنسبها إليهم) أشار بذلك إلى أن المراد بالذين آمنوا، خصوص عائشة وصفوان. قوله: (وهم العصبة) تفسير للذين يحبون. قوله: (لحق الله) أي ذنب الإقدام، وهو محمول على عبد الله بن أبيّ، وأما غيره فقد تاب وحسنت توبته. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ عطف على ﴿ فَضْلُ ٱللَّهِ ﴾.
قوله: (لعاجلكم بالعقوبة) جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾، وخبر المبتدأ محذوف. والتقدير موجودان.
قوله: ﴿ خُطُوَاتِ ﴾ بضم الطاء وسكونها قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ شرط حذف جوابه تقديره فلا يفلح أبداً، وقوله: ﴿ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ ﴾ الخ، تعليل للجواب. قوله: (أي المتبع) هكذا بصيغة اسم المفعول وهو الشيطان، قوله (باتباعها) متعلق بيأمر. قوله: ﴿ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ هذا يفيد أنهم تابوا وطهورا، وهو كذلك، إلا عبد الله بن أبيّ، فإنه استمر على النفاق حتى هلك كافراً.
قوله: ﴿ وَلاَ يَأْتَلِ ﴾ ﴿ لاَ ﴾ ناهية، والفعل مجزوم بحذف الياء. قوله: (أي أصحاب الغنى) في تفسير الفضل بالغنى نوع تكرار مع قوله: ﴿ وَٱلسَّعَةِ ﴾ وحينئذ فالمناسب تفسير ﴿ ٱلْفَضْلِ ﴾ بالعلم والدين والإحسان، وكفى به دليلاً على فضل الصديق. قوله: ﴿ أَن ﴾ (لا) ﴿ يُؤْتُوۤاْ ﴾ أشار المفسر إلى الكلام على تقدير (لا) النافية. قوله: ﴿ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ أي القرابة، وقوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ ﴾ معطوف على ﴿ أُوْلِي ﴾ فهذه الأوصاف الثلاثة لموصوف واحد وهو مسطح قوله: (حلف أن لا ينفق على مسطح) أي فبعد ذلك تاب وجاء إلى أبي بكر واعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجلس حسان واسمع منه ولا أقول، فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، وكفر عن يمينه. لطيفة: وقع لابن المقري، أنه وقع منه هفوة، فقطع والده ما كان يجريه له من النفقة، فكتب الولد لأبيه: لا تقطعن عادة بر ولا   تجعل عقاب المرء في رزقهفإن أمر الإفك من مسطح   يحط قدر النجم من أفقهوقد جرى منه الذي قد جرى   وعوتب الصديق في حقهفكتب اليه والده: قد يمنع المضطر من ميتة   إذا عصى بالسير في طرقهلأنه يقوى على توبة   توجب إيصالاً إلى رزقهلو لم يتب مسطح من ذنبه   ما عوتب الصديق في حقهانتهى. قوله: (لما خاض في الأفك) ظرف لقوله: (حلف). قوله: ﴿ وَلْيَعْفُواْ ﴾ أي أولو الفضل قوله: ﴿ وَلْيَصْفَحُوۤاْ ﴾ أي ليعرضوا عن لومهم. قوله: (ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه) أي وحلف أن لا ينزع نفقته منه أبداً، ومسطح هو ابن اثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف، وقيل اسمه عوف، ومسطح لقبه. قوله: ﴿ ٱلْغَافِلاَتِ ﴾ (عن الفواحش) أي لسلامة صدورهن، ونقاء قلوبهن، واستغراقهن في مشاهدة الله تعالى. قوله: ﴿ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي بعدوا فيها عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وقوله: ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾ أي بالعذاب إن لم يتوبوا. قوله: (ناصبة الاستقرار) الخ أي والتقدير وعذاب عظيم كائن لهم يوم تشهد. قوله: (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ معمول ليوفيهم أو ليعلمون. قوله: (جزاءهم الواجب عليهم) أشار بذلك إلى أن المراد بالدين الجزاء لما في الحديث:" كما تدين تدان ". قوله: ﴿ هُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الثابت الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً. قوله: (ومنهم عبد الله بن أبيّ) يأتي بهذا ليصح قوله: (كانوا يشكون فيه) فالشك من بعضهم، وأما حسان ومسطح وحمنة فهم مؤمنون لا يترددون في الجزاء. قوله: (أزواج النبي) أي لأن من قذف واحدة منهن فقد قذف الجميع، لاشتراكهن في العفة والصيانة والنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (لم يذكر في قذفهن توبة) أي مثل ما ذكر فيما تقدم في قوله:﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾[النور: ٥].
قوله: (ومن ذكر) مبتدأ و(غيرهن) خبره، وهذا من باب التهويل والتعظيم لأمر الإفك، وإلا فهو كغيره من سائر المعاصي التي تمحى بالتوبة، وأما بعد نزول الآيات، فقد صار قذف عائشة رضي الله عنها بصفوان كفراً، لمصادمة القرآن العظيم، فاعتقاد براءتها شرط في صحة الإيمان.
قوله: ﴿ ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ كلام مستأنف سيق لتأكيد البراءة لعائشة، وتقبيحاً على من تكلم فيها. والمعنى أن المجانسة من دواعي الانضمام، فالخبيث لا يكاد يألف غير جنسه، والطيب كذلك، وهو بمعنى قولهم: وكل إناء بالذي فيه ينضح. قوله: ﴿ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ﴾ الإشارة بذلك لرسول الله وعائشة، أي فحيث كان رسول الله أطيب الطيبين، تبين بذلك أن عائشة من أطيب الطيبات. (من الناس ومن الكلمات) هذان قولان في تفسير ﴿ ٱلْخَبِيثَاتُ ﴾ وقوله: (مما ذكر) أي من الناس والكلمات. قوله: (أي اللائق بالخبيث مثله) أي من نساء أو كلمات. قوله: (وقد افتخرت عائشة بأشياء) منها أن جبريل عليه السلام، أتى بصورتها في سرقة حرير وقال: هذه زوجتك، ويروى أنه أتى بصورتها في راحته، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها وفي يومها، ودفن في بيتها وكان ينزل الوحي عليه وهي معه في اللحاف، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً، وفي القرطبي قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه الصلاة والسلام لما رمي بالفاحشة، برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفحشاء، برأها الله على لسان ولدها عيسى عليهما السلام، وإن عائشة لما رميت بالفحشاء، برأها الله بالقول، فما رضي لها براءة صبي ولا نبي، وحتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. انتهى.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ الخ، لما ذكر الله أحكام العفاف، وكان من جملة العفاف، عدم دخول منازل الغير إلا بإذن أهلها ذكر الاستئذان عقب ذلك. وسبب نزولها أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحالة، فنزلت. قوله: ﴿ غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ أي غير محل سكنكم، وحينئذ فقد خرج مالك ذات الدار إذا دخل على مكتريها، فيجب عليه الاستئذان، لأنه قد صدق عليه أنه غير بيته. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ من الاستئناس وهو ضد الاستيحاش، سمي بذلك لأن المستأذن مستوحش، فإذا أذن له فقد زال الاستيحاش. قوله: (فيقول الواحد السلام عليكم أأدخل) أشار بذلك إلى أن السلام مقدم على الاستئذان، وهو قول الأكثر والحق التفصيل، فإن وقع بصره على أحد في البيت قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان ثم يسلم، ويكون كل من السلام والاستئذان ثلاث مرات، يفصل بين كل مرتين بسكوت يسير، الأول إعلام، والثاني للتهيؤ، والثالث استئذان في الدخول أو الرجوع، وإذا أتى الباب، لا يستقبله من تلقاء وجهه، بل يجيء من جهة ركنه الأيمن أو الأيسر، وإذا طلب منه التعيين فليعين نفسه بصفة تميزه، ولا يكتف بقوله أنا مثلاً، لما روي عن جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ فقلت: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا، كأنه كره ذلك لعدم إفادته، فالواجب أن يفعل الشخص كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أراد الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟ قوله: (من الدخول بغير استئذان) أي ومن تحية الجاهلية، حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حييتكم صباحاً، حييتكم مساء، فربما أصاب الرجل مع امرأته في الحاف. قوله: (بإدغام التاء الثانية في الذال) أي بعد قلبها دالاً فذالاً. قوله: ﴿ أَحَداً ﴾ (يأذن لكم) السالبة تصدق بنفي الموضوع، فهو صادق بأن لا يكون فيها أحد أصلاً، أو فيها من لا يصلح للإذن، أو فيها من يصلح، لكن لم يأذن. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ أي حتى يأتيكم الإذن، ولو مع خادم يوثق به. قوله: ﴿ هُوَ أَزْكَىٰ ﴾ أي أطهر للأمن من الرذائل والدناءات. قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ هذا كالاستثناء من قوله: ﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ وسبب نزولها: أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت آية الاستئذان قال: يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والشام على ظهر الطريق والخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. قوله: ﴿ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾ أي غير معدة لسكنى طائفة مخصصة، كالربط والخانات والحمامات والحوانيت ونحوها. قوله: (باستكنان) أي طلب كن يستتر فيه من الحر والبرد، وقوله: (وغيره) كالبيع والشراء. قوله: (المسبلة) اقتصر عليها، لأن مورد سؤال أبي بكر في الخانات المسبلة التي بين مكة والشام. قوله: (وسيأتي) أي في آخر السورة في قوله:﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾[النور: ٦١] أي قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن الملائكة ترد عليكم، أي وإن كان بها أهل فسلموا عليهم.
قوله: ﴿ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الخ، شروع في ذكر أحكام تعم المستأذنين وغيرهم. قوله: ﴿ يَغُضُّواْ ﴾ أي يخفضوا قوله: (ومن زائدة) أي يغضوا أبصارهم، وحكمة دخول من في غض البصر دون حفظ الفرج، الاشارة إلى أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج. قوله: ﴿ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ﴾ أي لأنه أبعد للريبة، ولا مفهوم للبصر والفرج، بل باقي الجوارح كذلك، وخص البصر والفرج بالذكر، لأنهما مقدمتان لغيرهما من الجوارح. قوله: (فيجازيهم عليه) أي فالغاض يجازى بالحسنات، وغيره يجازى بالسيئات.
قوله: ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنات، بغض الأبصار وحفظ الفروج، وبسط الكلام في شأنهن، لأن النساء شأنهن التبرج والخيلاء والعجب لما روي: إذا أقبلت المرأة، جلس إبليس على رأسها فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن ينظر، وقد اشتملت هذه الآية على خمس وعشرين ضميراً للإناث، ما بين مرفوع ومجرور، ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الشأن. قوله: (عما لا يحل فعله بها) أي عن الأمر الذي لا يحل فعله بالفروج، كأن تمكن المرأة من فرجها غير زوجها نظراً أو فعلاً. قوله: ﴿ زِينَتَهُنَّ ﴾ أي موضع زينتهن. قوله: (فيجوز نظره لأجنبي) الخ، هذا مذهب مالك، وأحد قولين عند الشافعي. قوله: (حسماً للباب) أي سداً للذريعة. قوله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ﴾ أي يلقين خمرهن على موضع جيوبهن، وهو العنق، والجيب في الأصل طوق القميص، وكانت النساء على عادة الجاهلية، يسدلن خمرهن من خلفهن، فتبدو نحورهن وقلائدهن من جيوبهن لسعتها، فأمرن بإرسال خمرهن على جيوبهن ستراً لما يبدو منها. قوله: ﴿ زِينَتَهُنَّ ﴾، أي موضع زينتهن. قوله: ﴿ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ حاصل هذه المستثنيات اثنا عشر نوعاً آخرها أو الطفل. قوله: ﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ ﴾ أي وإن علوا. قوله: ﴿ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ ﴾ أي ولو من الرضاع وإن سفلوا. قوله: ﴿ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ﴾ جمع آخر كان من نسب أو رضاع. قوله: ﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ أي نساء جنسهن اللاتي اشتركن معهن في الايمان، فيخرج الكافرات. قوله: (فيجوز لهم نظره) أي يجوز للرجال المحارم رؤية ما عدا ما بين السرة والركبة من محارمهم النساء. ويجوز لهن نظر ذلك منهم، وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك لا يحل للرجال المحارم إلا نظر الوجه والأطراف من النساء المحارم، وأما النساء فيحل لها نظر ما عدا ما بين السرة والركبة من الرجال المحارم. قوله: (فلا يجوز للمسلمات الكشف لهن) أي باتفاق مالك والشافعي، لئلا تصفها الكافرة لأهل دينها فتحصل المفاسد. قوله: (العبيد) أي فيجوز أن يكشفن لهم، ما عدا ما بين السرة والركبة، ولكن بشرط العفة وعدم الشهوة من الجانبين، وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك يفرق بين الوغد وغيره، فالوغد يرى من سيدته الوجه والأطراف، وغيره كالحر الأجنبي يرى منها الوجه والكفين. قوله: ﴿ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ ﴾ الحق أن المراد بالتابع الشيخ الهرم الذي لا يشتهي النساء، أو الأبله الذي لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة. قوله: ﴿ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ ﴾ بالكسر الحاجة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلرِّجَالِ ﴾ حال من التابعين، أي فيجوز لمن ذكر نظر ما عدا ما بين السرة والركبة عند الشافعي، وعند مالك يحل نظر الوجه والأطراف فقط. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ اعلم أن الصبي إما لا يبلغ أن يحكي ما رأى، وهذا غيبته كحضوره، أو أن يبلغه وليس فيه ثوران شهوة وهذا كالمحرم، أو يعرف أمر الجماع والشهوة، وهذا كالبالغ باتفاق مالك والشافعي. قوله: ﴿ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾ أي فإن ذلك يورث الرجال ميلاً إليهن، وهذا من باب سد الباب وتعليم الأحوط، وإلا فصوت الخلخال مثلاً ليس بعورة. قوله: ﴿ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً ﴾ هذا حسن اختتام لهذه الآية، كأن الله يقول: لا تقنطوا من رحمتي، فمن كان قد وقع منه شيء مما نهيته عنه فليتب، فإن التوبة فيها الفلاح والظفر بالمقصود. قوله: (تغليب الذكور) أي في قوله: ﴿ وَتُوبُوۤاْ ﴾ الخ.
قوله: ﴿ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ ﴾ الخ، الخطاب للأولياء والسادات، والإنكاح تزويج الغير. قوله: (جمع أيم) أي بوزن فيعل، قيل غير مقلوب، وقيل إن الأصل أيائم فقلب. قوله: (هي من ليس لها زوج) الخ، أي فلفظ الأيم يطلق على كل من الرجل والمرأة الغير المتزوجين، سواء سبق لهما تزوج أو لا، والأمر للوجوب إن خيف الزنا على المرأة أو الرجل، أو اضطرت المرأة للنفقة، لكن المرأة يزوجها وليها، والرجل يتزوج بنفسه، إن كان رشيداً أو أذن له وليه، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة تزوج المرأة نفسها، فإن لم تخف الزنا، أو لم تضطر المرأة، كان مباحاً عند الشافعي، ومندوباً عند مالك وأبي حنيفة. واعلم أن النكاح تعتريه الأحكام الأربعة، فتارة يجب وذلك إذا خاف الزنا، ولو كان ينفق عليها من حرام، وتارة يندب إذا كان راغباً فيه ولم يخش الزنا وراجياً النسل، وتارة يحرم، كما إذا كان يقطعه عن عبادة واجبة، أن ينفق عليها من حرام من كونه لم يخش الزنا، وتارة يكره كما إذا كان يقطعه عن عبادة مندوبة. قوله: (وهذا في الأحرار) الخ، أي بقرينة قوله: ﴿ وَإِمائِكُمْ ﴾.
قوله: (أي المؤمنين) أي فالعبيد المؤمنون يزوجون وجوباً، إن خيف بتركه الزنا، وهذا عند الشافعي، وعند مالك لا يجب على السيد تزويج عبده، ولو خاف العبد الزنا، وحينئذ فالأمر عنده للندب. قوله: ﴿ مِنْ عِبَادِكُمْ ﴾ أي فيزوجه سيدة ولو بحرة، وقوله: ﴿ وَإِمائِكُمْ ﴾ أي فيزوج السيدة أمته لرقيق وكذا لحر، بشرط أن لا يجد للحرائر طولاً، وأن يخشى الزنا، ومحل الشرطين إن لم يكن عقيماً. قوله: (من جموع عبد) أي وله جموع أخر، كعبيد وأعابد وأعبد، ونحو ذلك. قوله: ﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي فإن في فضل الله كفاية عن المال، لقوله عليه الصلاة والسلام:" اطلبوا الغنى بالتزوج "فالمهم تزوج الصالحين من عباد الله نساء ورجالاً، وإن كانوا فقراء لما في الحديث:" تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها، فعليك بذات الدين تربت يداك ". قوله: ﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي ذو العطايا العظيمة التي لا تنفد. قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ (بهم) أي بحالهم فيغنيهم.
قوله: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ﴾ أي ليجتهدوا في طلب العفة وتحصيل أسبابها، وذلك يكون بالتباعد عن الغلمان والنساء، ويكون بملازمة الصوم والرياضة، لما في الحديث:" من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء، ويكون بترك استعمال العقاقير التي تقوي الشهوة واستعمال ضدها ". قوله: (أي ما ينكحون به) أي فالمصدر بمعنى اسم المفعول ككتاب بمعنى مكتوب. قوله: (عن الزنا) قدرة إشارة إلى أن متلعق يستعفف محذوف. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ أسم موصول مبتدأ و ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ صلته و ﴿ الْكِتَابَ ﴾ معمول ليبتغون، وقوله: ﴿ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ حال من فاعل ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾، وقوله: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ ﴾ الجملة خبر، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط. قوله: (بمعنى المكاتبة) أي وهي مفاعلة، لأن السيد كتب على نفسه العتق، والعبد كتب على نفسه النجوم. قوله: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ ﴾ الأمر للندب. قوله: (أي أمانة) أي في دينه. قوله: (وقدرة على الكسب) أي بحرفة وغيرها. قوله: ﴿ وَآتُوهُمْ ﴾ الأمر قيل للندب وقيل للوجوب. قوله: (حط شيء) أي وهو أفضل من الإعطاء، لأنه قد يصرفه في غير جهة الكتابة، والأفضل أن يكون ذلك الحط في آخر نجم. قوله: ﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ ﴾ جمع فتاة، ولا مفهوم للإكراه، بل الرضا بالزنا من الكبائر، وإنما عبر به لأنه سبب النزول. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْبِغَآءِ ﴾ هو مصدر بغت المرأة تبغي بغاء، أي زنت، وهو مختص بزنا النساء. قوله: ﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ لا مفهوم له، بل يحرم الإكراه على الزنا وإن لم يردن التحصن، وإنما نص على ذلك، لأنه الواقع من عبد الله بن أبي الذي نزلت في حقه الآية. قوله: (محل الإكراه) أي فلا يتحقق الإكراه إلا عند تلك الارادة، وأما عند ميلهن له فذلك باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ، فالتقييد لأجل صحة قوله: ﴿ تُكْرِهُواْ ﴾.
قوله: (كان يكره جواريه) أي وكن ستاً فشكا ثنتان منهن للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. قوله: ﴿ غَفُورٌ ﴾ (لهن) أي ما وقع منهن، لأن المكره وإن لم يكن آثماً، فلربما يحصل منه بعض ميل، والإكراه المبيح للزنا هو خوف القتل أو الضرب المؤدي له أو لتلف عضو، أما القتل فلا يباح تخوف القتل، بل يسلم نفسه ولا يقتل غيره، وأما ترك الصلاة مثلاً، فالإكراه عليه يحصل بالضرب ونحوه. قوله: (بفتح الياء وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بين فيها ما ذكر) راجع للفتح، وقوله: (أو بينة) راجع للكسر. قوله: ﴿ وَمَثَلاً ﴾ عطف على آيات. قوله: (أي من جنس أمثالهم) أشار بذلك إلى أن في الآية حذف مضافين، والأصل ﴿ وَمَثَلاً ﴾ من جنس أمثال الذين خلوا.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ اعلم أن حقيقة النور كيفية تدركها الباصرة أو لا، وتدرك بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لها، وهو بهذا المعنى مستحيل إطلاقه على الله، وحينئذ فيجاب عن الآية بأن معنى قوله: ﴿ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ خالق النور في السماوات بالشمس والقمر والنجوم والكواكب والعرش والملائكة، وفي الأرض بالمصابيح والسرج والشموع والأنبياء والعلماء والصالحين، وأفاد هذا المفسر بقوله: (أي منورهما) وقيل معنى ﴿ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ مظهرهما، لأن النور كما يطلق على الكيفية، يطلق على الظاهر في نفسه المظهر لغيره، وهو بهذا المعنى يصح إطلاقه على الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى نور بمعنى مظهر للأشياء من العدم إلى الوجود، قال ابن عطاء الله في الحكم: الكون كله ظلمة، أناره ظهور الحق فيه، فوجود العالم بوجود الله، إذ لولا وجود الله، ما وجد شيء في العام. قوله: ﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ خبر، والمثل بمعنى الصفة، والكلام على حذف مضاف، أي كمثل مشكاة. قوله: (أي صفته في قلب المؤمن) أشار بذلك إلى أن في الكلام شبه استخدام، حيث ذكر النور أولاً بمعنى، ثم ذكره ثانياً بمعنى آخر، فتحصل أنه مفسر النور أولاً بالحسيّ، وثانياً بالمعنويّ. قوله: ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ اختلف في هذه اللفظة، قيل عربية وقيل حبشية معربة. قوله: ﴿ فِي زُجَاجَةٍ ﴾ واحدة الزجاج، وفيه ثلاث لغات: الضم وبه قرأ العامة، والفتح والكسر وبهما قرئ شذوذاً. قوله: (هي القنديل) بكسر القاف. قوله: (الموقودة) صوابه الموقدة. قوله: (غير النافذة) قيد به لأنه في تلك الحالة أجمع للنور. قوله: (أي الأنبوبة) هي السنبلة التي في القنديل، وهو تفسير آخر للمشكاة. وحينئذ فكان المناسب للمفسر أن يقول أو الأنبوبة، فتحصل أنه اختلف في المشكاة، فقيل هي الطاقة الغير النافذة التي وضع فيها القنديل، وعليه فهي ظرف للقنديل، وقيل هي السنبلة التي تكون وسط القنديل توضع فيها الفتيلة وعليه فالقنديل ظرف لها. قوله: (بكسر الدال وضمها) أي مع الهمزة قراءتان سبعيتان. قوله: (وبضمها وتشديد الياء) قراءة سبعية أيضاً فتكون القراءات ثلاثاً. قوله: (بمعنى الدفع) أي وبابه قطع. قوله: (منسوب إلى الدار) أي لشدة صفائه. قوله: (بالماضي) الخ، حاصله أن القراءات ثلاث سبعيات بالماضي وبالمضارع بالتحتانية، ويكون الضمير عائداً على المصباح، وبالفوقانية ويكون الضمير عائداً على الزجاجة على حذف مضاف، أي فتيلة الزجاجة. قوله: ﴿ مِن ﴾ (زيت) ﴿ شَجَرَةٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ ابتدائية، وأشار المفسر إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ مُّبَارَكَةٍ ﴾ أي لكثرة منافعها، قال ابن عباس: في الزيتون منافع، يسرج بزيته وهو إدام ودهان ودباغ ووقود، ولس فيها شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم، وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبياً بالبركة، منهم إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. قوله: ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ بالجر صفة لشجرة، وقرئ شذوذاً بالرفع خبر لمحذوف، أي لا هي شرقية ولا هي غربية، والجملة في محل جر نعت شجرة. قوله: (بل بينهما) الخ، أشار بذلك إلى أن المراد بقوله: ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ أنها متوسطة، لا شرقية فقط ولا غربية فقط بل بينهما وهي الشام، فإن زيتونه أجود الزيتون. وفي الحديث:" لا خير في شجرة ولا نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى "والمقنأة بقاف ونون مفتوحة أو مضمومة فهمزة المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، والمضحى هو الذي تشرق عليه دائماً فتحرقه، وهو أحد قولين، وقيل معنى لا شرقية ولا غربية، أن الشمس تبقى عليها دائماً من أول النهار لآخره، لا يواريها عن الشمس شيء، كالتي تكون في الصحارى الواسعة، فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، وعلى هذا فلا يتقيد بشام ولا غيرها. قوله: (مضرين) هذا هو محل النفي وهو حال. قوله: ﴿ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه والتقدير لأضاء. قوله: ﴿ نُّورٌ ﴾ (به) أي الزيت، وقوله: ﴿ عَلَىٰ نُورٍ ﴾ أي مع نور وهو نور المصباح والزجاجة، فالأنوار المشبه بها متعددة كأنوار المشبه، فليس المقصود في الآية التثنية، بل الكثرة، وتراكم الأنوار. قوله: (ونور الله أي هداه) الخ، أي فبراهين الله تزداد في قلب المؤمن برهاناً بعد برهان، إن قلت: لم ضرب المثل بنور الزيت، ولم يضربه بنور الشمس والقمر والشمع مثلاً؟ أجيب بأن الزيت فيه منافع، ويسهل لكل أحد، كما أن المؤمن الكامل الإيمان منافعه كثيرة، واختلف في هذه التشبيه، هل هو تشبيه مركب، بأن قصد فيه تشبيه جملة بجملة، من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، وذلك بأن يراد مثل نور الله الذي هو هداه وبراهينه الساطعة، كجملة النور الذي يتخذ من هذه الهيئة، أو تشبيه جزء بجزء، بأن يشبه صدر المؤمن بالمشكاة، وقلبه بالزجاجة، ومعارفه بالزيت، وإيمانه بالمصباح. قوله: ﴿ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي من يريد هدايته، فإن الأسباب دون مشيئته لاغية، ولولا العناية ما كان الوصول لذلك النور، قوله: (أي دين الإسلام) المراد به ما يشمل الإيمان، وهو الذي ضرب له المثل المتقدم، وأظهر في مقام الإضمار اعتناء بشأنه. قوله: ﴿ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾ أي تقريباً للمعقول من المحسوس، فحيث كان نور الإيمان والمعارف مثله هكذا، فلا تدخل شبهة على المؤمن، إلا شاهدها بعين البصيرة، كما تشاهد بعين البصر، ويشهد الحق بعين البصيرة، كما يشهده بعين البصر، وفي هذا المقام تنافس المتنافسون، فأدناهم أهل المراقبة وأعلامهم أهل المشاهدة، ومن هذا المعنى قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾[الأعراف: ٢٠١] وقوله في الحديث:" اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله "وقوله في الحديث أيضاً:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ". للعارفين تفننات وضرب أمثال في هذه المقامات لا يدركها إلا من كان من أهل النور.
قوله: ﴿ فِي بُيُوتٍ ﴾ المراد بها جميع المساجد، وقيل خصوص مساجد أربع: الكعبة ومسجد المدينة وبيت المقدس وقباء، لأنه لم يبنها إلا نبي، فالكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة وقباء بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب الأول، لأن العبرة بعموم اللفظ. قوله: (يتعلق بيسبح الآتي) أي سواء قرئ ببنائه للفاعل أو المفعول، وكرر الظرف وهو قوله فيها اعتناء بشأن المساجد، لما ورد: بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض، ويصح أن يكون متعلقاً بمحذوف دل عليه قوله: ﴿ يُسَبِّحُ ﴾ والتقدير سبحوا ربكم في بيوت، وعلى هذين فالوقف على عليم، ويصح أن يكون الجار والمجرور صفة لمشكاة أو لمصباح أو لزجاجة، أو متعلق بتوقد، وعلى هذه الأربعة لا توقف على عليم. قوله: ﴿ أَذِنَ ٱللَّهُ ﴾ أي أمر، والجملة صفة لبيوت، و ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة، والتقدير أمر الله برفعها. قوله: (تعظم) أي حساً ومعنى، فالتعظيم الحسي رفعها بالبنيان المتين الحسن، مساوياً لبنيان البلد أو أعلى، ولا منافاة بين هذا، وقوله عليه الصلاة والسلام:" إذا ساء عمل قوم زخرفوا مساجدهم "لأن المنهي عنه الزخرفة والتزويق، لا حسن البنيان واتقانه، ومن التعظيم الحسي، تطهيرها من الأقذار والنجاسات، قال القرطبي: كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، لأنهم لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال:" جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينيكم وسل سيفوكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم، وجمروها في الجمع واجعلوا لها على أبوابها المطاهر ". والتعظيم المعنوي بترك اللهو واللعب الحديث الدنيوي، وغير ذل بما لا ينبغي. قوله: ﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ ﴾ أي بأي ذكر كان. قوله: (بفتح الموحدة وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعل الفتح يكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاث، والأول أولى، ولذا اقتصر عليه المفسر، و ﴿ رِجَالٌ ﴾ فاعل فعل محذوف، أو خبر لمحذوف تقديره يحسبه أو المسبح، وعليه فالوقف على ﴿ ٱلآصَالِ ﴾ وعلى الكسر، فرجال فاعله، ولا يوقف على ﴿ ٱلآصَالِ ﴾.
قوله: (أي يصلي) فسر التسبيح بالصلاة لاشتمالها عليه، واختلف في المراد بالصلاة، فقيل المراد الصبح في الغدو، وباقي الخمس في الآصال، وقد أشار لهذا المفسر بقوله: (من بعد الزوال) وقيل المراد صلاة الصبح والعصر لما قيل: إنهما الصلاة الوسطى. قوله: (مصدر) أي في الأصل، أما هنا فالمراد منه الأزمنة. قوله: (أي البكر) أي وهي أوائل النهار، وقوله: (العشايا) هي أواخر النهار. قوله: ﴿ رِجَالٌ ﴾ خصوا بالذكؤ، لأن شأنهم حضور المساجد للجمعة والجماعة. قوله: (شراء) خص التجارة بالشراء، وإن كان لفظ التجارة يقع على البيع أيضاً لذكره البيع بعده، وقيل المراد بالتجارة حقيقتها، ويكون خص البيع بالذكر، لأن الاشتغال به أعظم، لكون الربح الحاصل من البيع ناجزاً محققاً، والربح الحاصل من الشراء مشكوك فيه مستقبل فلا يكاد يشغله. قوله: ﴿ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ أي عن حقوق الله صلاة أو غيرها، فقوله: ﴿ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ ﴾ من ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنهما، فإن المواظب عليهما كامل الإيمان. قوله: ﴿ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ ﴾ أي أدائها في أوقاتها بشروطها وأركانها وآدادبها. قوله: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً ﴾ أي هؤلاء الرجال، وإن أكثروا الذكر والطاعات، فإنهم مع ذلك وجلون خائفون من الله سبحانه وتعالى، لعلمهم بأنهم ما عبدوه حق عبادته. قوله: (بين النجاة والهلاك) راجع لتقلب القلوب، وقيل معنى تقلب القلوب، ارتفاعها إلى الحناجر، فلا تنزل ولا تخرج من شدة الهول. قوله: (بين ناحية اليمين والشمال) وقيل تقلب الأبصار، شخوصها من هول الأمر وشدته.
قوله: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ اللام للعاقبة والصيرورة، أي إن مآل أمرهم وعاقبته الجزاء الحسن، وليست لام العلة، لأن هذه مرتبة عامة المؤمنين، وتلك الأوصاف إنما هي لكامل الإيمان. قوله: (وأحسن بمعنى حسن) أي فالمحترز عنه المجازاة على القبيح، فالمعنى يجازون على كل عمل حسن، قال تعالى:﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾[الكهف: ٣٠] ولا يجازون على ما سبق من العمل القبيح. قوله: ﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي فلا يقتصر في إعطائهم على جزاء أعمالهم، بل يعطون أشياء لم تخطر ببالهم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ تذييل ووعد كريم، بأنه تعالى يعطيهم فوق أجور أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب. قوله: (يقال فلان ينفق بغير حساب) الخ، أي فهو كناية عن كون الله يعطيهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بغير نهاية، فوق ما وعدهم به.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ الخ، لما ضرب الله المثل للمؤمنين بأشرف الأمثال وأعلاها، ضرب المثل للكفار بأشر الأشياء وأخسها. والحاصل أن الله ضرب للكفار مثلين: مثل لأعمالهم الحسنة بقوله: ﴿ كَسَرَابٍ ﴾ الخ، ومثل لأعمالهم السيئة بقوله: ﴿ كَظُلُمَاتٍ ﴾ الخ، والاسم المصول مبتدأ، و ﴿ كَفَرُوۤاْ ﴾ صلته.
﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾ مبتدأ ثان.
﴿ كَسَرَابٍ ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، ويصح أن يكون ﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾ بدل اشتمال، و ﴿ كَسَرَابٍ ﴾ خبر ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾.
قوله: ﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾ أي الصالحة، كصدقة وعتق وغير ذلك مما لا يتوقف على نية. قوله: ﴿ بِقِيعَةٍ ﴾ الباء بمعنى في كما يشير له المفسر بقوله: (أي في فلاة). قوله: (جمع قاع) أي كجيرة جمع جار، وقيل القيعة مفرد بمعنى القاع. قوله: (يشبه الماء الجاري) أي ويسمى آلاً أيضاً، قال الشاعر: إذا أنا كالذي يجري لورد   إلى آل فلم يدرك بلالاويسمى سراباً لأنه يتسرب أي يجري كالماء. قوله: ﴿ يَحْسَبُهُ ﴾ بكسر السين وفتحها، قراءتان سبعيتان، وماضية حسب بكسر السين، وهو من باب تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضاً. قوله: ﴿ ٱلظَّمْآنُ ﴾ أي وكذا على كل من رآه، وإنما خص ﴿ ٱلظَّمْآنُ ﴾ لأنه أحوج اليه من غيره. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ ﴾ أي جاء ما قصده وظنه ماء، وهو غاية في محذوف، أي يستمر سائراً اليه ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ ﴾ الخ. قوله: (كذلك الكافر) الخ، أشار بذلك إلى وجه الشبه، فتحصل أنه شبه حال الكافر من حيث اعتقاده، أن عمله الصالح ينفعه في الآخرة، فإذا جاء يوم القيامة، لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم، فعظمت حسرته بحال الظمآن الذي اشتدت عليه حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب تعلق به، فإذا جاء لم يجده شيئاً. قوله: ﴿ وَوَجَدَ ٱللَّهَ ﴾ أي وجد وعد الله بالجزاء على عمله، أو المعنى وجد عذاب الله له. قوله: (أي جازاه عليه في الدنيا) المعنى أن الكافر يوم القيامة يعلم ويتحقق، أن الله جازاه على أعماله الحسنة التي لم تتوقف على نية في الدنيا، بالمال والبنين والعافية، وغير ذلك من لذات الدنيا، هكذا قال المفسر، وهو وإن كان صحيحاً في نفسه، إلا أن المفسرين على خلافه، فإنهم قالوا: معنى وفاه حسابه، جازاه عليه في الآخرة بالعذاب. والحاصل أنه إن أريد مثلاً أعماله الصالحة التي تتوقف على نية، فمسلم أنه لا يجد لها جزاء في الآخرة، ولا تنفعه أصلاً، وإن أريد خصوص ما لا يتوقف على نية فقيل لا يجد لها نفعاً أصلاً، وقيل يجد نفعها، إما في الدنيا كتوستعها عليه وعافيته وغير ذلك أو في الآخرة بتخفيف عذاب غير الكفر. قوله: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ ﴾ أو للتقسيم، أي إن أعمال الكافر تنقسم قسمين، قسم كالسراب وهو العمل الصالح، وقسم كالظلمات وهو العمل السيئ، وقوله: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ كَسَرَابٍ ﴾ على حذف مضاف تقديره أو كذي ظلمات يدل عليه قوله: ﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾.
قوله: ﴿ لُّجِّيٍّ ﴾ منصوب للج أو للجة، وهو الماء الغزير. قوله: ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾ الخ، أي يعلوه، وهو إشارة إلى كثرة الأمواج وتراكمها، والمعنى أن البحر اللجي يكون باطنه مظلماً بسبب غزارة الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان مع ذلك سحاب، ازدادت الظلمة جداً، ووجه الشبه أن الله تعالى ذكر ثلاث ظلمات: ظلمة البحر والأمواج والسحاب، كذلك الكافر له ثلاث ظلمات: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة الفعل. قوله: ﴿ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾ أي قد غطى أنوار النجوم. قوله: (هذه) ﴿ ظُلُمَاتٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ ظُلُمَاتٌ ﴾ خبر لمحذوف. قوله: ﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾ خصها لأنها أقرب الأشياء اليه. قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ استفيد من هذا أن النور ليس بالحول ولا بالقوة، بل بفضل الله يعطيه لمن يشاء، ولمعنى من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب لكل عاقل، وهو توبيخ للكفار، كأن الله يقول لهم: إن تسبيحي ليس قاصراً عليكم، بل جميع من في السماوات والأرض يسجونني. قوله: (ومن التسبيح صلاة) ذكر ذلك توطئة لقوله: ﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾، فالصلاة مندرجة في عموم التسبيح. قوله: ﴿ وَٱلطَّيْرُ ﴾ بالفرع عطف على ﴿ مَن ﴾ والنصب على المعية، و ﴿ صَآفَّاتٍ ﴾ بالنصب على الحال على كل من القراءتين، وقرئ شذوذاً برفعهما على الابتداء والخبر، ومفعول ﴿ صَآفَّاتٍ ﴾ محذوف أي أجنحتها. قوله: (بين السماء والأرض) أشار بهذا إلى أن العطف مغاير، لأنه في حالة الطيران يكون بين السماء والأرض. قوله: ﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ (الله) ﴿ صَلاَتَهُ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن الضمير في علم على الله، ويصح عوده على كل، أي علم كل صلاة نفسه وتسبيحها. قوله: (فيه تغليب العاقل) أي حيث عبر بالفعل. قوله: (خزائن المطر والرزق) راجع للسماء، وقوله: (والنبات) راجع للأرض، وفي كلام المفسر إشارة إلى أن الكلام على حذف مضاف، والأصل ولله ملك خزائن السماوات والأرض، والأصح إبقاء الآية على ظاهرها كما سلكه غيره، وعلى كل فهو من أدلة تنزيه المخلوقات له. قوله: ﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ أي مرجع الخلائق كلها إلى الله، فيجازى كل أحد بعمله.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب لكل عاقل لا خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، لأن من تأمل ذلك حصل له العلم به. قوله: ﴿ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾ أي بين أجزائه، لأن كل جزء سحاب، وبهذا اندفع ما قيل: إن بين لا تدخل إلا على متعدد، وإلى هذا يشير المفسر بقوله: (بضم بعضه إلى بعض) الخ، قوله: ﴿ رُكَاماً ﴾ الركام الشيء المتراكم بعضه على بعض. قوله: ﴿ فَتَرَى ٱلْوَدْقَ ﴾ أي تبصره. بقوله: (مخارجه) أي ثقبه، فالسحاب غربال المطر، قال كعب: لولا السحاب حين ينزل المطر من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قوله: ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ أشار بذلك إلى أن السماء كما ينزل منها المطر الذي هو نفع للعباد، ينزل منها بعض الجبال التي هي البرد، وهو ضر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأ للخير والشر. قوله: (زائدة) الحاصل أن من الأولى ابتدائية لا غير. والثانية فيها ثلاثة أوجه: قيل زائدة، وقيل ابتدائية، وقيل تبعيضية، وهو الأحسن، والثالثة فيها أربعة أوجه الثلاثة المتقدمة، وقيل بيانية، وهو الأحسن، وحينئذ فيكون المعنى على ذلك، وينزل بعض جبال كائنة في السماء التي هي البرد، إنزالاً ناشئاً ومبتدأ من السماء. قوله: ﴿ فِيهَا ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لجبال. قوله: (بدل بإعادة الجار) هذا راجع لقوله: ﴿ مِن جِبَالٍ ﴾ والمناسب للمفسر أن يقول أو بدل، فيكون قولاً ثانياً، لأن هذا لا يتأتى على جعلها زائدة، بل على جعلها ابتدائية. قوله: ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ ﴾ أي بالبرد. قوله: ﴿ سَنَا بَرْقِهِ ﴾ هو بالقصر في قراءة العامة معناه الضياء، وأما بالمد فمعناه الرفعة، وليس مراداً. قوله: (أي يحفظها) أشار بذلك إلى أن الباء في الأبصار للتعدية، والمعنى يذهبها بسرعة، لأن الضوء القوي يذهب الضعيف، ومن ذلك قوله الفقهاء: إذا فعل رجل بآخر فعلاً أذهب بصره، وأريد أن يقتص منه بإذهاب بصره، فإنه يؤتى له بمرآة وتوضع في الشمس، ويجلس الشخص قبالتها، وتقلب المرأة يميناً وشمالاً، فإن ذلك يخطف بصره. قوله: (أي ويأتي بكل منها بدل الآخر) أي ويقصر هذا ويطول هذا، وفي هذا رد على من ينسب الأمور للدهر. قوله: ﴿ لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾ جمع بصيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك، حيث يتأملون فيجدون الماء والنور والنار والظلمة تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء. قوله: (على قدرة الله) متعلق بدلالة. قوله: (أي حيوان) أشار بذلك أن المراد بالدابة، ما دب على وجه الأرض، لا خصوص ذوات الأربع. قوله: (أي نطفة) هذا بحسب الغالب في الحيوانات الأرضية، وإلا فالملائكة خلقوا من النور، والجن خلقوا من النار، وآدم خلق من الطين، وعيسى خلق من النفس الذي نفخه جبريل في جيب أمه، والدود تخلق من الفاكهة والعفونات، وقيل المراد بالماء حقيقته لما ورد: أن الله خلق ماء، وجعل بعضه ريحاً ونوراً، فخلق منه الملائكة، وجعل بعضه ناراً فخلق منه الجن، وجعل بعضه طيناً فخلق منه آدم. قوله: ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾ الضمير راجع لكل باعتبار معناه، وفيه تغليب العاقل على غيره، حيث أتى بضمير جماعة الذكور العقلاء في الجميع. قوله: ﴿ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ ﴾ قدمه لغرابته وسماه شيئاً مشاكلة لما بعده، وإلا فهو زحف. قوله: (كالحيات والهوم) بالتشديد أي خشاش الأرض، وأدخلت الكاف الدود والسمك. قوله: (كالإنسان والطير) أي النعام. قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ﴾ أي ومنهم من يمشي على أكثر، كالعقارب والعنكبوت والحيوان المعروف بأم أربع وأربعين، وإنما لم يصرح بهذا القسم لندوره ولدخوله في قوله: ﴿ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي مما ذكر ومما لم يذكر. قوله: ﴿ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أي والله لقد أنزلنا، الخ، قوله: ﴿ مُّبَيِّنَاتٍ ﴾ بكسر الياء وفتحها قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الهدى بيد الله وعنايته، فلا يتهدي إلا من حفه الله بالعناية، فليس ظهور الآيات سبباً في الاهتداء دون عناية الله.
قوله: ﴿ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ ﴾ شروع في ذكر أحوال المنافقين. قوله: ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن مفعول ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ محذوف. قوله: ﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ تفصيل لما أجمل أولاً. قوله: (المبلغ عنه) جواب عما يقال: لم أفرد الضمير في ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ مع أنه تقدمه اثنان؟ فأجاب: بأن الرسول هو المباشر للحكم، وإنما ذكر الله معه تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقدرته. قوله: ﴿ إِذَا فَرِيقٌ ﴾ ﴿ إِذَا ﴾ فجائية قائمة مقام الفاء في ربط الجواب بالشرط. قوله: ﴿ مُّعْرِضُونَ ﴾ أي إن كان الحكم عليهم بدليل ما بعده. قوله: (إليه) يصح أن يكن متعلقاً بيأتوا أو بمذعنين. قوله: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن منشأ الإعراض وسببه أحد أمور ثلاثة. قوله: ﴿ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ ﴾ ﴿ أَمِ ﴾ بمعنى بل والهمزة، وكذا يقال فيما بعده، والاستفهام للتقرير. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام في هذا الأخير بمعنى النفي. والمعنى لا محل لخوفهم لاستحالة الحيف على الله ورسوله. قوله: (بالإعراض عنه) أي الحكم. قوله: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ العامة على نصف قول خبراً لكان، والاسم أن وما دخلت عليه، وقرئ شذوذاً برفعه على أنه اسمها، وأن وما دخلت عليه خبرها. قوله: (بالإجابة) أي قولاً وفعلاً. قوله: (حينئذ) أي حين إذ قالوا هذا القول. قوله: ﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ ﴾ الخ، قال بعض الأحبار: هذه الآية جمعت ما في توراة موسى وإنجيل عيسى. قوله: (يخافه) هذا حل معنى، وإلا فكان حقه أن يقول يخفه. قوله: (وكسرها) أي بإشباع ودونه فهذه ثلاثة قراءات، وبسكون القاف مع كسر الهاء بدون إشباع فتكون أربعة، وكلها سبعية. قوله: ﴿ هُمُ ٱلْفَآئِزُون ﴾ أي الظافرون بمقصودهم، الناجون من كل مكروه.
قوله: ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ الضمير عائد على المنافقين، وهو معطوف على قوله:﴿ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ ﴾[النور: ٤٧].
قوله: ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ﴿ جَهْدَ ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة. والمعنى جهدوا اليمين جهداً، حذف الفعل واقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى المفعول كضرب الرقاب، وهذه الآية نزلت لما قال المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. قوله: ﴿ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ اللام موطئة للقسم، ويخرجن فعل مضارع مؤكد بالنون، وأصله ليخرجونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان الواو ونون التوكيد، حذفت الواو لالتقائهما، وبقيت الضمة لتدل عليها. قوله: ﴿ طَاعَةٌ ﴾ مبتدأ، و ﴿ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ صفته، والخبر محذوف قدره المفسر بقوله: (خير من قسمكم) ويصح أن يكون ﴿ طَاعَةٌ ﴾ خبر المحذوف تقديره أمركم طاعة معروفة، أي الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة بالصدق وموافقة الواقع، لا مجرد القول باللسان. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ تعليل لما قبله، والمعنى لا تحلفوا باللسان، مع كون قلوبكم ليس فيها الامتثال والإخلاص، فإن الله مطلع على بواطنكم وظواهركم، لا تخفى عليه خافية. قوله: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ شرط حذف جوابه والتقدير فلا ضرر عليه، وقوله: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾ علة لذلك المحذوف. قوله: ﴿ مَا حُمِّلَ ﴾ أي كلف. قوله: ﴿ تَهْتَدُواْ ﴾ أي تصلوا للرشاد والفوز برضا الله، وهذا راجع لقوله: ﴿ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾.
وقوله: ﴿ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ راجع لقوله: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾ على سبيل اللف والنشر المشوش. قوله: (أي التبليغ البين) أي الظاهر وقد أداه، فعليكم أو تؤدوا ما حملتم من الطاعة لله ورسوله.
قوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ﴾ الخ.
﴿ وَعَدَ ﴾ فعل ماض، ولفظ الجلالة فاعله، والاسم الموصول مفعوله الأول، والمفعول الثاني محذوف تقديره الاستخلاف في الأرض، وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمناً يدل على هذا المحذوف. قوله: ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ﴾ الخ، فإن اللام موطئة لقسم محذوف تقديره أقسم الله ليستخلفنهم. قوله: ﴿ مِنْكُمْ ﴾ الجار والمجرور حال ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ والخطاب لعموم الأمة. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي جميعها، وقد حصل ذلك. قوله: ﴿ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ﴾ ما مصدرية، والمعنى استخلافاً كاستخلاف الذين من قبلهم. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ ﴾ العائد محذوف أي ارتضاء لهم والمعنى وليجعلن دينهم الذي رضيه لهم، ظاهراً وفائقاً على جميع الأديان. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بما ذكر) أي وهو ما تقدم من الأمور الثلاثة. قوله: ﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾ أي يوحدونني. قوله: ﴿ لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ حال من فاعل ﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾ أو بدل مما قبله. قوله: (هو مستأنف) أي واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم يستخلفون ويجعل دينهم ظاهراً على جميع الأديان ويؤمنون، فقيل: ﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾ الخ. قوله: ﴿ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ (الأنعام) أي بما ذكر من الأمور الثلاثة، فالمراد بالكفر كفر النعم بدليل قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ وليس المراد به ما قابل الإيمان وإلا لقال الكافرون. قوله: (وأول من كفر به) أي بالأنعام. قوله: (قتلة عثمان) أي هم جماعة من الرعية أخذوه بغتة. قوله: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ ﴾ معطوف على قوله:﴿ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ ﴾[النور: ٥٤].
قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق. قوله: (بالفوقانية والتحتانية) قراءتان سبعيتان. قوله: (والفاعل الرسول) أي على كل من القراءتين، والاسم الموصول مفعول أول، ومعجزين مفعول ثان. قوله: (بأن يفوتونا) أي يفروا من عذابنا. قوله: ﴿ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ ﴾ معطوف على جملة ﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ أو على مقدر تقديره بل هم مقهورون ومأواهم. قوله: (هي) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالذم محذوف.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ ﴾ اختلف في الأمر، فقيل للوجوب وقيل للندب، والأمر متعلق بالمخدومين لا بالخدم. وسبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو، إلى عمر بن الخطاب ليدعوه، فدعاه فوجده نائماً وقد أغلق عليه الباب، فدق الغلام عليه الباب فناداه ودخل، فاستيقظ عمر فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت، فخر ساجداً شكراً لله تعالى. قوله: (وعرفوا أمر النساء) أي ميزوا بين العورة وغيرها. قوله: (في ثلاثة أوقات) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ﴾ منصوب على الظرفية. قوله: ﴿ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ ﴾ أي لأنه وقت القيام من النوم، ولبس ثياب اليقظة. قوله: ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ ﴾ أي التي تلبس في اليقظة، تضعونها لأجل القيلولة. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ ﴾ أي من أجل الظهيرة، وهي شدة الحر. قوله: ﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ﴾ أي لأنه وقت التجرد من الثياب والنوم في الفراش. قوله: (بالرفع) أي وعليه فالوقف على قوله: ﴿ ٱلْعِشَآءِ ﴾.
قوله: (أي هي أوقات) الخ أي فالأصل أوقات ثلاث عورات، حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه. قوله: (وبالنصب) أي وعليه فالوقف على ﴿ لَّكُمْ ﴾ والقراءتان سبعيتان. قوله: (وهي لإلقاء الثياب) مبتدأ، وقوله: (تبدو فيها العورات) خبره. قوله: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ أي في تمكينكم أياهم من الدخول عليكم. قوله: ﴿ وَلاَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في الدخول لعدم تكليفهم. قوله: (هم) ﴿ طَوَٰفُونَ ﴾ خبر لمحذوف. قوله: ﴿ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر عن قوله: ﴿ بَعْضُكُمْ ﴾ قدر المفسر بقوله: (طائف). قوله: (والجملة مؤكدة لما قبلها) وقيل ليست مؤكدة، لأن المعنى الأطفال والمماليك يطوفون عليكم للخدمة، وأنتم تطوفون عليهم للاستخدام، فلو كلفتم الاستئذان في هذه الأوقات وغيره، لضاق الأمر عليكم، فقوله: ﴿ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ فيه زيادة على ما قبله. قوله: (وآية الاستئذان) أي قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، قوله: (قيل منسوخة) أي لما روي: أن نفراً من العراق قالوا لابن عباس: كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بها، ولا يعمل بها أحد؟ فقال ابن عباس: إن الله عليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستورولا حجاب، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله. فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والحجب، فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد. قوله: (وقيل لا) أي كما روي عن سعيد بن جبير حيث قال: يقولون نسخت، والله ما نسخت ولكن مما تهاون بها الناس. قوله: (ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان) أي لكثرة الغطاء والوطاء، ومع ذلك فالمناسب تعليم الاستئذان في هذه الأوقات للصبيان والمماليك، ليكونوا متخلقين بالأخلاق الجميلة. قوله: ﴿ وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ ﴾ مقابل لقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي الذين ذكروا في قوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾[النور: ٢٧] الآية. قوله: ﴿ آيَاتِهِ ﴾ أي أحكامه. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي بأمور الخلائق، فالذي ينبغي التخلق بأخلاق الشرع، ولا يعول إنسان على ما يعلمه من صيانة حريمه، ويترك آداب الشرع.
قوله: ﴿ وَٱلْقَوَاعِدُ ﴾ جمع قاعد بغير تاء، كحائض وطامث، فإن هذا الوصف مخصوص بالنساء، وكل وصف مخصوص بالنساء، فلا يحتاج لتمييز بتاء وهو مبتدأ، و ﴿ ٱلَّلاَتِي ﴾ صفته، وقوله: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ ﴾ خبره، وقرن بالفاء لعموم المبتدأ، فأن أل فيه اسم موصول، أو لكونه وصف بالاسم الموصول. قوله: (قعدن عن الحيض) أي انقطع حيضهن. قوله: ﴿ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ أي لا يطمعن فيه، لموت شهوتهن عن الرجال. قوله: ﴿ أَن يَضَعْنَ ﴾ أي ينزعن. قوله: (من الجلباب) أي وهي الملحفة التي يغطى بها جميع البدن، كالملاءة الحبرة. قوله: (والقناع) أي الذي يلبس فوق الخمار، لستر الوجه والعنق. قوله: ﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ أي متزينات، فحيث وجد الشرط جاز لهن كشف الوجه واليدين بين الأجانب لعدم الفتنة، وهو المفتى به عند مالك، وأحد قولين عند الشافعي. قوله: (بأن لا يضعنها) أي بأن يدمن الستر للوجه والكفين بين الأجانب. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ أي لما فيه من سد الذرائع، فالأفضل لهن الستر للوجه واليدين، لأن كل ساقطة لها لاقطة.
قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ ﴾ الخ، اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: لما نزل:﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾[النساء: ٢٩] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، ولا يستوفي حقه من الطعام، فنزلت هذه الآية، وعلى هذا فتكون ﴿ عَلَى ﴾ بمعنى في، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج، وقيل سبب نزولها: أن هؤلاء الجماعة، كانوا يتحرجون عن مؤاطلة الأصحاء، خوف أن يستقذروهم، وعلى هذا فعلى على بابها، وقيل إن الآية نزلت في الجهاد، والمعنى ليس على هؤلاء حرج في التخلف عن الجهاد، وقيل كانت الصحابة إذا خرجوا للغزو، دفعوا مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الجماعة ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وأصحابها غائبون، مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس، فنزلت الآية رخصة لهم، وكل صحيح. إذا علمت ذلك، فنفي الحرج عن هؤلاء في أمور مخصوصة، وليس ذلك على العموم، فإن ما كلف به الصحيح كلف به غيره. قوله: (مقابليهم) أي السالمين من هذه الثلاثة. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلأَعْمَىٰ ﴾ والمعنى ليس عليكم حرج في الأكل من بيوتكم. قوله: ﴿ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ بضم الباء وكسرها، قراءتان سبعيتان هنا وفي جميع ما يأتي. قوله: (أي بيوت أولادكم) أي ذكوراً أو إناثاً، لأن بويت الولد كبيته، لقوله عليه الصلاة والسلام:" أنت ومالك لأبيك "وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه "الحامل للمفسر على هذا التقدير، عدم توهم حرمة الأكل من بيت نفسه، وعدم ذكر الأولاد صراحة، فدل ذلك على أن المراد ببيوتكم بيوت أولادكم. قوله: ﴿ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾ أي وإن علوا. قوله: ﴿ إِخْوَٰنِكُمْ ﴾ جمع أخ ويجمع على إخوة وهو المراد هنا، لأن المراد بهم أخوة النسب، وهم من شاركوك في رحم أو صلب. قوله: ﴿ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ ﴾ جمع أخت أي مما تملكه، أو من ملك زوجها إن كان صديقاً له أو مأذونة فيه، وكذا يقال فيما يأتي. قوله: ﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ ﴾ بالتخفيف، وقرئ شذوذاً بضم الميم وتشديد اللام مكسورة، أي ملككم غيركم. قوله: ﴿ مَّفَاتِحهُ ﴾ جمع مفتح بكسر الميم في قراءة العامة، وقرئ مفاتيحه بالياء، ومفتاحه بالإفراد. قوله: (أي خزنتموه لغيركم) أي حفظتموه بأن تكونوا وكلاء عليه لقول ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه على ضيعته وماشيته، فلا بأس عليه أن يأكل من ثمرته وثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخرها. قوله: (وهو من صدقكم في مودته) أي من مكان خالصاً لكم في المحبة. قوله: (من بيوت من ذكر) أي الأصناف الأحد عشر، وخصوا بالذكر لأن الشأن التبسط بينهم. قوله: (أي إذا علم رضاهم به) أي ولو بقرينة، وهذا أحد قولين للعلماء، وقيل يجوز الأكل من بيوت من ذكر، ولو لم يعلم رضاهم به، لأن القرابة التي بينهم تقتضي العطف والسماح. فإن قلت: على الأول حيث كان مشروطاً بعلم رضاهم، فلا فرق بينهم وبين غيرهم من الأجانب. وأجيب: بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة، بل الشرط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا، بخلاف غيرهم من الأجانب، فلا بد من علم الرضا بصريح الإذن أو قرينة. قوله: (مجتمعين) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال من فاعل ﴿ تَأْكُلُواْ ﴾، وكذا قوله: ﴿ أَشْتَاتاً ﴾.
قوله: (جمع شت) هو مصدر بمعنى التفرق. قوله: (نزل فيمن تحرج) أي فهو كلام مستأنف، بيان لحكم آخر، وهم فريق من المؤمنين يقال لهم بنو ليث بن عمرو من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً، وقيل نزلت في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لا ختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. قوله: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ﴾ (لكم) أي مساكنكم. قوله: ﴿ تَحِيَّةً ﴾ منصوب على المصدر من معنى فسلموا، من باب جلست قعوداً وقمت وقوفاً. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي ثابتة بأمره. قوله: ﴿ مُبَٰرَكَةً ﴾ أي لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب. قوله: (ولكي تفهموا ذلك) أي معالم دينكم فهذا أمر إرشاد وأدب للعباد. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ الخ، المقصود من هذه الآية، مدح المؤمنين الخالصين، والتعرض بذم المنافقين، و ﴿ إِنَّمَا ﴾ أداة حصر، و ﴿ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ خبره. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾ إسناد الجمع للأمر مجاز عقلي، وحقه أن يسند للمؤمنين. قوله: (كخطبة الجمعة) أي والأعياد والحروب والحديث وغير ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾ أي يطلبوا منه الإذن فيأذن لهمه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ﴾ الخ، هذا توكيد لما تقدم، ذكر تفخيماً وتعظيماً للاستئذان. قوله: ﴿ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ﴾ أي كما وقد لسيدنا عمر بن الخطاب حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارجع فلست بمنافق، وكتخلف عثمان لتجهيز زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ماتت، والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لغزوة بدر. قوله: ﴿ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ في ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه الواسطة العظمى بين الخلق وربهم، فإذا أذن لأحد، علم من ذلك أن رضا الله في إذنه، قال العارف: وخصك بالهدى في كل أمر   فلست تشاء إلا ما يشاءقوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ ﴾ أي ليعوّضهم بدل ما فاتهم من مجالستك، من أجل العذر الذي نزل بهم
قوله: ﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ﴾ أي نداءه بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير بأن تقولوا: يا رسول الله، يا إمام المسلمين، يا رسول رب العالمين، يا خاتم النبيين، وغير ذلك، واستفيد من الآية أنه لا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم، لا في حياته ولا بعد وفاته، فبهذا يعلم أن من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة. قوله: (وخفض صوت) أي لقوله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾[الحجرات: ٢] وهذ الآداب كما تكون في حق النبي، تكون في حق حملة شريعته، فينبغي لتلاميذه الأشياخ، أن يفعلوا معهم هذه الآداب ويتخلقوا بها، ليحصل لهم الفتوح والفلاح. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ ﴾ أي يذهبون واحداً بعد واحد، لأن المنافقين كانوا يجتمعون مع الصحابة إذا رقي النبي المنبر، فإذا كثر الناس نظروا يميناً وشمالاً، ويخرجون واحداً بعد واحد، إلى أن يذهبوا جميعاً. قوله: ﴿ لِوَاذاً ﴾ حال من الواو في ﴿ يَتَسَلَّلُونَ ﴾ من التلاوذ، وهو الاستتار، بأن يغمز بضعهم بعضاً بالخروج. قوله: ﴿ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ ﴾ الخ، مرتب على ما قبله، وضمن ﴿ يُخَالِفُونَ ﴾ معنى يعرضون، فعداه بعن. قوله: ﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول يحذر، أي إصابة فتنة. قوله: ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ ﴾ ﴿ أَوْ ﴾ مانعة خلو تجوز الجمع. قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ ﴾ الخ كالدليل لما قبله. قوله: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ ﴿ قَدْ ﴾ للتحقيق، والمعنى أن الله يعلم الأمر الذي في قلوب المنافقين، من المخالفة والإعراض عن أوامر الله تعالى. قوله: ﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ معطوف على ﴿ مَآ ﴾ أي يردون إليه، وهو يوم البعث. قوله: ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ أي يخبرهم بأعمالهم، فيثيبهم على الحسنات، ويعاقبهم على السيئات.
Icon