تفسير سورة الفرقان

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة الفرقان
مكية وآياتها سبع وسبعون
هذه السورة مكية في قول الجمهور، وقال الضحاك : هي مدنية، وفيها آيات مكية، قوله :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ﴾ الآيات١.
١ وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي: ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر﴾ إلى قوله: ﴿وكان الله غفورا رحيما﴾..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفرقان
هذه السورة مكية في قول الجمهور وقال الضحاك هي مدنية وفيها آيات مكية قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: ٦٨] الآيات.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
تَبارَكَ وزنه تفاعل وهو مطاوع بارك من البركة، وبارك فاعل من واحد معناه زاد، وتَبارَكَ فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره، ولذلك لم يصرف منه مستقبل ولا اسم فاعل، وهو صفة فعل أي كثرت بركاته ومن جملتها إنزال كتابه الذي هو الْفُرْقانَ بين الحق والباطل، وصدر هذه السورة إنما هو رد على مقالات كانت لقريش، فمن جملتها قولهم إن القرآن افتراه محمد ﷺ وإنه ليس من عند الله فهو ردّ على هذه المقالة، وقرأ الجمهور «على عبده»، وقرأ عبد الله بن الزبير «على عباده».
والضمير في قوله لِيَكُونَ يحتمل أن يكون وهو عبده المذكور وهذا تأويل ابن زيد، ويحتمل أن يكون ل الْفُرْقانَ، وأما على قراءة ابن الزبير فهو ل الْفُرْقانَ لا يحتمل غير ذلك إلا بكره، وقوله لِلْعالَمِينَ عام في كل إنسي وجني عاصره أو جاء بعده وهو متأيد من غير ما موضع من الحديث المتواتر وظاهر الآيات، و «النذير» المحذر من الشر والرسول من عند الله نذير، وقد يكون نَذِيراً ليس برسول كما روي في ذي القرنين وكما ورد في رسل الله إلى الجن فإنهم نذر وليسوا برسل الله.
وقوله الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ الآية هي من الرد على قريش في قولهم إن لله شريكا، وفي قولهم اتخذ البنات، وفي قولهم في التلبية إلا شريك هو لك، وقوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، هو عام في كل مخلوق وتقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان، ثم عقب تعالى ذكر هذه الصفات التي هي للألوهية بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لهم هذه الصفات، فالعقل يعطي أنهم ليسوا بآلهة وقوله، وَهُمْ يُخْلَقُونَ، يحتمل أن يريد يخلقهم الله بالاختراع والإيجاد، ويحتمل أن يريد يخلقهم
البشر بالنحت والنجارة وهذا التأويل أشد إبداء لخساسة الأصنام، وخلق البشر تجوز ولكن العرب تستعمله ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
وهذا من قولهم خلقت الجلد إذا عملت فيه رسوما يقطع عليها والفري هو أن يقطع على ترك الرسوم، وقوله، مَوْتاً وَلا حَياةً يريد إماتة ولا إحياء، و «النشور» بعث الناس من القبور.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
المراد ب الَّذِينَ كَفَرُوا قريش وذلك أن بعضهم قال هَذا إِفْكٌ وكذب افْتَراهُ محمد واختلف المتأولون في «القوم» المعينين على زعم قريش، فقال مجاهد أشاروا إلى قوم من اليهود، وقال ابن عباس أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين وجبر ويسار وعداس وغيرهم، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم ما جاؤُ إلا إفكا وَزُوراً أي ما قالوا إلا باطلا وبهتانا، و «الزور» تحسين الباطل هذا عرفه وأصله التحسين مطلقا، ومنه قول عمر رضي الله عنه: فأردت أن أقدم بين يدي أبي بكر مقالة كنت زورتها. وقوله. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قال ابن عباس يعني بذلك قول النضر بن الحارث، وذلك أن كل ما في القرآن من ذكر أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإنما هو بسبب قول النضر ابن الحارث حسب الحديث المشهور في ذلك ثم رموا محمدا ﷺ بأنه اكْتَتَبَها وقرأ طلحة بن مصرف «اكتتبها» بضم التاء الأولى وكسر الثانية على معنى اكتتبت له، ذكرها أبو الفتح، وقرأ طلحة «تتلى» بتاء بدل الميم، ثم أمره تعالى أن يقول إن الذي أنزله هو الله الَّذِي يَعْلَمُ سر جميع الأشياء التي فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم أعلم بأنه غفور رحيم ليرجي كل سامع في عفوه ورحمته مع التوبة والإنابة، والمعنى أن الله غفور رحيم في إبقائه على أهل هذه المقالات.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
الضمير في قوله قالُوا لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله ﷺ مجلس
مشهور، ذكره ابن إسحاق في السير وغيره، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله ﷺ رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق، أي إن من كان رسول الله مستغن عن جميع ذلك، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك أو يلقي إليك كنزا تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهبا أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم «ما ل» هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن». وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يأكل منها» بالياء، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها» بالنون وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران، ثم أخبر تعالى عنهم وهم الظَّالِمُونَ الذين أشير إليهم أنهم قالوا حين يئسوا من محمد ﷺ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي قد سحر فهو لا يرى مراشده، ويحتمل مَسْحُوراً أن يكون من السحر وهي الرؤية فكأنهم ذهبوا إلى تحقيره، أي رجلا مثلكم في الخلقة، ذكره مكي وغيره، ثم نبّهه الله تعالى مسليا عن مقالتهم فقال انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والساحر وغيره فَضَلُّوا أي أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال، وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي الآية رجوع بأمور محمد ﷺ إلى الله تعالى، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك، والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا، وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق، وقال الطبري والأول أظهر.
قال القاضي أبو محمد: لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [الفرقان: ١١] والكل محتمل، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «ويجعل» بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله جَعَلَ لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل». وقرأ أبو بكر عن عاصم أيضا وابن كثير وابن عامر «ويجعل» بالرفع والاستئناف، وهي قراءة مجاهد، ووجوه العطف على المعنى في قوله جَعَلَ لأن جواب الشرط هو موضع الاستئناف، ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط، وقرأ عبد الله بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعل» بالنصب وهو على تقدير «أن» في صدر الكلام، قال أبو الفتح هي على جواب الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة، وأدغم الأعرج وَيَجْعَلْ لَكَ وروي ذلك عن ابن محيصن، و «القصور» البيوت المبنية بالجدرات قاله مجاهد وغيره، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب بيتا، وتسمي ما كان بالجدرات قصرا لأنه قصر عن الداخلين والمستأذنين.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
المعنى ليس بهم في تكذيبك ومشيك في الأسواق بل إنهم كفرة لا يفقهون الحق، فقوله بَلْ ترك لنفس اللفظ المتقدم لا لمعناه على ما تقتضيه «بل» في مشهور معناها، وَأَعْتَدْنا جعلنا معدا، والعتاد ما يعد من الأشياء، و «السعير» طبق من أطباق. جهنم، وقوله إِذا رَأَتْهُمْ يريد جهنم، إِذا اقتضاها لفظ السعير ولفظ رَأَتْهُمْ يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز على معنى صارت منهم على قدر ما يرى الرائي من البعد إلا أنه ورد حديث يقتضي الحقيقة، ويحتمل المجاز، في هذا ذكر الطبري وهو أن رسول الله ﷺ قال: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعده من النار»، فقيل يا رسول الله أو لجهنم عينان؟ فقال: «اقرؤا إن شئتم إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ الآية، وروي في بعض الآثار أن البعد الذي تراهم منه مسيرة خمسمائة سنة، وقوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً لفظ فيه تجوز وذلك أن التغيظ لا يسمع وإنما المسموع ألفاظ دالة على التغيظ، وهي لا شك احتدامات في النار كالذي يسمع في نار الدنيا إذا اضطربت، ونسبة هذا المسموع الذي في الدنيا من ذلك نسبة الإحراق من الإحراق وهي سبعون درجة كما ورد في الصحيح، و «الزفير» صوت ممدود كصوت الحمار المرجع في نهيقه، قال النقاش «الزفير» آخر صوت الحمار عند نهيقه، قال عبيد بن عمير إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خرّ ثم ترعد فرائصه، «والمكان الضيق» منها، هو يقصد إلى التضييق عليهم في المكان من النار وذلك نوع من التعذيب، قال ﷺ «إنهم ليكرهون في النار كما يكره الوتد في الحائط» أي يدعون لزا وعنفا، وقال ابن عباس تضيق عليهم كما يضيق الزج على الرمح، وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو «ضيقا» بتخفيف الياء والباقون يشدّدون ومُقَرَّنِينَ معناه مربوط بعضهم إلى بعض، وروي أن ذلك بسلاسل من نار، والقرينان من الثيران ما قرنا بحبل للحرث ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا لم يزل حبل القرينين يلتوي فلا بد يوما من قوى أن تجدما
وقرأ أبو شيبة المهري صاحب معاذ بن جبل رحمه الله «مقرنون» بالواو وهي قراءة شاذة، والوجه قراءة الناس، وقوله ثُبُوراً مصدر وليس بالمدعو، ومفعول دَعَوْا محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم أو نحو هذا من التقديرات، ويصح أن يكون «الثبور» هو المدعو كما تدعى الحسرة والويل، والثبور قال ابن عباس هو الويل، وقال الضحاك هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعرى: [الخفيف]
إذا أجاري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور
وقوله لا تَدْعُوا إلى آخر الآية معناه يقال لهم على معنى التوبيخ والإعلام بأنهم يخلدون أي لا تقتصروا على حزن واحد بل أحزنوا كثيرا لأنكم أهل لذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
المعنى قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفرة هم بسبيل مصير إلى هذه الأحوال من النار، أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ، ومن حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظ التفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاورة على ما يشاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما يمنع سيبويه وغيره من التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما في المعنى الذي فيه تفضيل إذا كان الكلام خبرا لأنه فيه محالية، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ، وقيل الإشارة بقوله أَذلِكَ إلى الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وإلى القصور التي في قوله تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ [الفرقان: ١٠]، وهذا على أن يكون الجعل في الدنيا وقيل الإشارة بقوله أَذلِكَ خَيْرٌ إلى الكنز والجنة التي ذكر الكفار.
قال الفقيه الإمام القاضي: والأصح إن شاء الله أن الإشارة بقوله أَذلِكَ إلى النار كما شرحناه آنفا، والْمُتَّقُونَ في هذه الآية من اتقى الشرك فإنه داخل في الوعد، ثم تختلف المنازل في الوعد بحسب تقوي المعاصي، وقوله وَعْداً مَسْؤُلًا يحتمل معنيين وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وابن زيد إنه مسؤول لأن المؤمنين سألوه أو يسألونه، وروي أن الملائكة سألت الله نعيم المتقين فوعدهم بذلك، قال محمد بن كعب هو قول الملائكة ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، والمعنى الثاني ذكره الطبري عن بعض أهل العربية أن يريد وعدا واجبا قد حتمه فهو لذلك معد أن يسأل ويقتضي وليس يتضمن هذا التأويل أن أحدا سأل الوعد المذكور.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
المعنى واذكر يوم، والضمير في يَحْشُرُهُمْ للكفار، وقوله وَما يَعْبُدُونَ يريد به كل شيء عبد من دون الله فغلب العبارة عما لا يعقل من الأوثان لأنها كانت الأغلب وقت المخاطبة، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص والأعرج وأبو جعفر «يحشرهم» «فيقول» بالياء، وفي قراءة عبد الله «وما يعبدون من دونك»، وقرأ الأعرج «نحشرهم» بكسر الشين وهي قليل في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين، وهذه الآية تتضمن الخبر عن أن الله يوبّخ الكفار في القيامة بأن يوقف المعبودين على هذا المعنى ليقع الجواب بالتبري من الذنب فيقع الخزي على الكافرين، واختلف الناس في الموقف المجيب في هذه الآية، فقال جمهور المفسرين هو كل من ظلم بأن عبد ممن
203
يعقل كالملائكة وعزير وعيسى وغيرهم، وقال الضحاك وعكرمة الموقف المجيب الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله تعالى يومئذ على هذه المقالة ويجيء خزي الكفرة لذلك أبلغ، وقرأ جمهور الناس «نتخذ» بفتح النون وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل وأن هذه الآية بمعنى التي في سورة سبأ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: ٤٠- ٤١]، وكقول عيسى عليه السلام وما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة: ١١٧]، ومِنْ أَوْلِياءَ في هذه القراءة في موضع المفعول به، وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وحفص بن حميد «نتخذ» بضم النون، وتذهب هذه مذهب من يرى أن الموقف المجيب الأوثان ويضعف هذه القراءة دخول مِنْ في قوله مِنْ أَوْلِياءَ، اعترض بذلك سعيد بن جبير، وغيره، قال أبو الفتح مِنْ أَوْلِياءَ في موضع الحال ودخلت مِنْ زائدة لمكان النفي المتقدم كما تقول ما اتخذت زيدا من وكيل، وقرأ علقمة «ما ينبغي» بسقوط «كان» وثبوتها أمكن في المعنى، لأنهم أخبروا على حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه، وفسّر هذا المجيب بحسب الخلاف فيه الوجه في ضلال الكفار كيف وقع، وأنه لما متعهم الله تعالى بالنعم الدنياوية وأدرها لهم ولأسلافهم الأحقاب الطويلة نَسُوا الذِّكْرَ أي ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء، وبُوراً، معناه هلكا، والبوار الهلاك واختلف في لفظة بور، فقالت فرقة هو مصدر يوصف به الجمع والواحد ومنه قول ابن الزبعرى: [الخفيف]
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
وقالت فرقة هي جمع بائر وهو الذي قد فارقه الخير فحصل بذلك في حكم الهلاك باشره الهلاك بعد أو لم يباشر، قال الحسن البائر الذي لا خير فيه، وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ الآية خطاب من الله تعالى بلا خلاف، فمن قال إن المجيب الأصنام كان معنى هذه إخبار الكفار أن أصنامهم قد كذبوهم، وفي هذه الأخبار خزي وتوبيخ، والفرقة التي قالت إن المجيب هو الملائكة وعزير وعيسى ونحوهم اختلفت في المخاطب بهذه الآية، فقالت فرقة المخاطب الكفار على جهة التقريع والتوبيخ وقالت فرقة المخاطب هؤلاء المعبودون أعلمهم الله تعالى أن الكفار بأفعالهم القبيحة قد كذبوا هذه المقالة وزعموا أن هؤلاء هم الأولياء من دون الله، وقالت فرقة خاطب الله تعالى المؤمنين من أمة محمد ﷺ أي كذبوكم أيها المؤمنون الكفار فيما تقولونه من التوحيد والشرع، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «بما يقولون فما يستطيعون» بالياء فيهما، وقرأ حفص عن عاصم «بما تقولون فما تستطيعون» بالتاء فيهما، وقرأ الباقون وأبو بكر أيضا عن عاصم والناس «تقولون» بالتاء من فوق «فما يستطيعون» بالياء من تحت، ورجحها أبو حاتم، وقرأ أبو حيوة «يقولون» بالياء، من تحت «فما تستطيعون» بالتاء من فوق، وقال مجاهد الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين، قال الطبري وفي مصحف ابن مسعود، «فما يستطيعون لك صرفا»، وفي قراءة أبي بن كعب «لقد كذبوك فما يستطيعون لك»، قال أبو حاتم في حرف عبد الله «لكم صرفا» على جمع الضمير، وصَرْفاً معناه ردّ التكذيب أو العذاب أو ما اقتضاه المعنى بحسب الخلاف المتقدم، وقوله وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ، ، قيل هو خطاب للكفار، وقيل للمؤمنين، والظلم هنا الشرك قاله الحسن وابن جريج
وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي، وفي حرف أبي «ومن يكذب منكم نذقه عذابا كبيرا».
204
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
هذه الآية رد على كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: ٧] فأخبر الله تعالى محمدا ﷺ وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبيا إلا بهذه الصفة، والمفعول ب أَرْسَلْنا محذوف يدل عليه الكلام تقديره رجالا أو رسلا، وعلى هذا المحذوف المقدر يعود الضمير في قوله إِلَّا إِنَّهُمْ وذهبت فرقة إلى أن قوله لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ كناية عن الحدث، وقرأ جمهور الناس «ويمشون» بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين، وقرأ علي وعبد الرحمن وابن مسعود «يمشّون» بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى يمشون ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أمشي بأعطان المياه وأبتغي قلائص منها صعبة وركوب
ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد فِتْنَةً لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب، والتوقيف ب أَتَصْبِرُونَ خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد ﷺ كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختبارا ثم وقفهم هل يصبرون أم لا، ثم أعرب قوله وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين، ثم أخبر عن مقالة الكفار لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ الآية، وقوله يَرْجُونَ قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبدا برجائه، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل، وَعَتَوْا، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا، ويقال عتو وعتي على الأصل، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
المعنى في هذه الآية أن الكفار لما قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: ٢١]، أخبر الله تعالى أنهم يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ إنما هو يوم القيامة، وقد كان أول الآية يحتمل أن يريد يوم تفيض أرواحهم، لكن آخرها يقتضي أن الإشارة إلى يوم القيامة، وأمر العوامل في هذه الظروف بين إذا تأمل فاختصرناه لذلك، ومعنى هذه الآية أن هؤلاء الذين تمنّوا نزول الملائكة لا يعرفون ما قدر الله في ذلك فإنهم يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ هو شر لهم ولا بُشْرى لهم بل لهم الخسار ولقاء المكروه ويَوْمَئِذٍ، خبر لا بُشْرى لأن الظروف تكون إخبارا عن المصادر.
الضمير في قوله وَيَقُولُونَ، قال الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد هو «للملائكة»، المعنى وتقول الملائكة للمجرمين حِجْراً مَحْجُوراً عليكم البشرى، أي حراما محرما. والحجر الحرام ومنه قول المتلمس جرير بن عبد المسيح: [البسيط]
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام الا تلك الدهاريس
وقال مجاهد أيضا وابن جريج إن الضمير في قوله وَيَقُولُونَ هو للكفار المجرمين قال ابن جريج كانت العرب إذا كرهوا شيئا قالوا حجرا، قال مجاهد حِجْراً عوذا، يستعيذون من الملائكة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن يكون المعنى ويقولون حرام محرم علينا العفو، وقد ذكر أبو عبيدة أن هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا المعنى هو مقصد بيت المتلمس الذي تقدّم، أي هذا الذي حننت إليه ممنوع. وقرأ الحسن وأبو رجاء «حجرا» بضم الحاء، والناس على كسرها، ثم أخبر تعالى عما يأتي عليه قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة وَقَدِمْنا أي قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، وقيل هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة قَدِمْنا لأن القادم على شيء مكروه لم يقدره ولا أمر به مغير له مذهب، وأما قول الراجز:
وقدم الخوارج الضلال... إلى عباد ربنا فقالوا:
إن دماءكم لنا حلال فالقدوم فيه على بابه، ومعنى الآية وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئا إذ لا نية
206
معها فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئا وصيرناها هَباءً مَنْثُوراً أي شيئا لا تحصيل له، والهباء هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة أو نحوها، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو الهباء، ووصفه في هذه الآية ب «منثور»، ووصفه في غيرها ب «منبث»، فقالت فرقة هما سواء، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره كسنابك الخيل والرياح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك، والمنبث كأنه هو انبث من دقته، وقال ابن عباس الهباء المنثور، ما تسفي به الرياح وتبثه، وروي عنه أنه قال أيضا الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا بثثته وقال الشاعر [الحارث بن حلزة اليشكري] :[الخفيف]
وترى خلفها من الربع والوق... ع منينا كأنه أهباء
ومعنى هذه الآية جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة، ثم أخبر عز وجل بأن مستقر أهل الجنة خَيْرٌ من مستقر أهل النار، وجاءت خَيْرٌ، هاهنا للتفضيل بين شيئين لا شركة بينهما، فذكر الزجاج وغيره في ذلك أنه لما اشتركا في أن هذا مستقر وهذا مستقر فضل الاستقرار الواحد.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن هذه الألفاظ التي فيها عموم ما يتوجّه حكمها من جهات شتى، نحو قولك أحب وأحسن وخير وشر يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما، فتقول السعد في الدنيا أحب إليّ من الشقاء إذ قد يوجد بوجه ما من يستحب الشقاء كالمتعبد والمغتاظ وكذلك في غيرها، فإذا كانت أفعل في معنى بين أن الواحد من الشيئين لا حظ له فيه بوجه فسد الإخبار بالتفضيل به، كقولك الماء أبرد من النار، ومن هذا إنك تقول في ياقوتة ومدرة وتشير إلى المدرة هذه أحسن وخير وأحب وأفضل من هذه، ولو قلت هذه ألمع وأشد شراقة من هذه لكان فاسدا، وقوله مَقِيلًا ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فالمقيل من القائلة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة، فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل لأن وقت القائلة يبدو فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسنا جاز الفضل ومن ذلك قول الأسود بن يعفر الإيادي: [الكامل]
أرض تخيرها لطيب مقيلها... كعب بن مامة وابن أم دواد
وقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ يريد يوم القيامة عند انفطار السماء ونزول الملائكة ووقوع الجزاء بحقيقة الحساب، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «تشّقّق» بشد الشين والقاف، وقرأ الباقون بتخفيف الشين، وقوله بِالْغَمامِ أي يشقق عنه، والغمام سحاب رقيق أبيض جميل لم يره البشر بعد إلا ما جاء في تظليل بني إسرائيل، وقرأ جمهور القراء «ونزّل الملائكة» بضم النون وشدّ الزاي المكسورة ورفع «الملائكة» على مفعول لم يسم فاعله، وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوهاب «ونزل» بتخفيف الزاي المكسورة، قال أبو الفتح وهذا غير معروف لأن «نزل» لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا «للملائكة»، ووجهه أن يكون مثل زكم
207
الرجل وجن فإنه لا يقال إلا أزكمه الله وأجنه وهذا باب سماع لا قياس، وقرأ أبو رجاء «ونزّل الملائكة» بفتح النون وشدّ الزاي وقرأ الأعمش، «وأنزل الملائكة» وكذلك قرأ ابن مسعود، وقرأ أبي بن كعب «ونزلت الملائكة»، وقرأ ابن كثير وحده «وننزل الملائكة» بنونين وهي قراءة أهل مكة، فرويت عن أبي عمرو «ونزل الملائكة» بإسناد الفعل إليها، وقرأت فرقة «وتنزل الملائكة»، وقرأ أبي بن كعب أيضا «وتنزلت الملائكة»، ثم قرّر أن «الملك الحق هو يومئذ للرحمن»، إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك وعسره عَلَى الْكافِرِينَ توجه بدخول النار عليهم فيه وما في خلال ذلك من المخاوف، وقوله عَلَى الْكافِرِينَ، دليله أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله ليهون القيامة على المؤمنين حتى أخف عليهم من صلاة مكتوبة صلوها».
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
قوله وَيَوْمَ ظرف العامل فيه فعل مضمر، وعض اليدين هو فعل النادم الملهوف المتفجّع، وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين الظَّالِمُ في هذه الآية عقبة بن أبي معيط وذلك أنه كان أسلم أو جنح إلى الإسلام وكان أبي بن خلف الذي قتله رسول الله ﷺ بيده يوم أحد خَلِيلًا لعقبة فنهاه عن الإسلام فقبل نهيه فنزلت الآية فيهما ف الظَّالِمُ عقبة. و «فلان» أبي وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن الظَّالِمُ أبي فإنه كان يحضر النبي ﷺ فنهاه عقبة فأطاعه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومن أدخل في هذه الآية أمية بن خلف فقد وهم إلا على قول من يرى الظَّالِمُ اسم جنس، وقال مجاهد وأبو رجاء الظالم اسم جنس و «فلان» الشيطان.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر أن الظَّالِمُ عام وأن مقصد الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنه يوم تندم فيه الظلمة وتتمنى أن لو لم تطع في دنياها خلانها الذين أمروهم بالظلم، فلما كان خليل كل ظالم غير خليل الآخر وكان كل ظالم يسمي رجلا خاصا به عبر عن ذلك ب «فلان» الذي فيه الشياع التام ومعناه واحد من الناس، وليس من ظالم إلا وله في دنياه خليل يعينه ويحرضه، هذا في الأغلب ويشبه أن سبب الآية وترتب هذا المعنى كان عقبة وأبيا، وقوله مَعَ الرَّسُولِ يقوي ذلك بأن يجعل تعريف الرَّسُولِ للعهد والإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التأويل الأول التعريف بالجنس، وكلهم قرأ «يا ليتني» ساكنة الياء غير أبي عمرو فإنه حرك الياء في «ليتني اتخذت» ورواها أبو خليد عن نافع مثل أبي عمرو، و «السبيل» المتمناة هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نهية تنبيه على تجنب قرين
السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، وقوله يا وَيْلَتى التاء فيه عوض من الياء في يا ويلي والألف هي التي في قولهم يا غلاما وهي لغة، وقرأت فرقة بإمالة يا وَيْلَتى قال أبو علي وترك الإمالة أحسن لأن أصل هذه اللفظة الياء يا وَيْلَتى فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فر منه أولا، والذِّكْرِ، هو ما ذكر به الإنسان أمر آخرته من قرآن أو موعظة ونحوه، وقوله: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يحتمل أن يكون من قول الظَّالِمُ ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالى على جهة الدلالة على وجه ضلالتهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ، وقوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ، حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه، هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة هو حكاية عن قول ذلك في الآخرة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «قومي» بتحريك الياء والباقون بسكونها، ومَهْجُوراً يحتمل أن يريد مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء وهذا قول ابن زيد، ويحتمل أن يريد مقولا فيه الهجر بضم الهاء إشارة إلى قولهم شعر وكهانة وسحر وهذا قول مجاهد وإبراهيم النخعي.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد منبه للمؤمنين على ملازمة المصحف وأن لا يكون الغبار يعلوه في البيوت ويشتغل بغيره، وروى أنس عن النبي ﷺ أنه قال «من علق مصحفا ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا به يقول هذا اتخذني مَهْجُوراً افصل يا رب بيني وبينه»، ثم سلاه عن فعل قومه بأن أعلمه أن غيره من الرسل كذلك امتحن بأعداء في زمنه، أي فاصبر كما صبروا وعَدُوًّا يراد به الجمع، تقول هؤلاء عدو لي فتصف به الجمع والواحد والمؤنث ثم وعده تعلق بقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً والباء في بِرَبِّكَ للتأكيد على الأمر إذ المعنى اكتف بربك.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
روي عن ابن عباس وغيره أن كفار قريش قالوا في بعض معارضتهم لو كان هذا القرآن من عند الله لنزل جُمْلَةً كما نزل التوراة والإنجيل وقوله كَذلِكَ يحتمل أن يكون من قول الكفار إشارة إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى ومعناه كما نزل أردناه فالإشارة إلى نزوله متفرقة وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقا تثبيت فؤاد محمد عليه السلام وليحفظه، وقال مكي والرماني من حيث كان أميا لا يكتب وليطابق الأسباب المؤقتة فنزل في نيف على عشرين سنة، وكان غيره من الرسل يكتب فنزل إليه جملة، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليثبت» بالياء، والترتيل التفريق بين الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة، وأراد الله تعالى أن ينزل القرآن في النوازل والحوادث التي قدرها وقدر نزوله فيها، ثم أخبر تعالى نبيه أن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة
منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن بِالْحَقِّ في ذلك بالجلية ثم هو أَحْسَنَ تَفْسِيراً وأفصح بيانا وتفصيلا، ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور، إلى أن هذا المشي على الوجوه حقيقة، وروي في ذلك من طريق أنس بن مالك حديث أن النبي ﷺ قال له رجل يا رسول الله كيف يقدرون على المشي على وجوههم، وقال إن الذي أقدرهم على المشي على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، وقالت فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي وقوله تعالى: شَرٌّ مَكاناً القول فيه كالقول في قوله خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: ٢٤].
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
هذه الآية التي ذكر فيها الأمم هي تمثيل لهم وتوعد أن يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين، والْكِتابَ التوراة، والوزير المعين، وهو من تحمل الوزر أي ثقل الحال أو من الوزر الذي هو الملجأ، والْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا هم فرعون وملؤه من القبط، ثم حذف من الكلام كثير دل عليه ما بقي، وتقدير المحذوف فأديا الرسالة فكذبوهما فدمرناهم. وقرأ علي بن أبي طالب ومسلمة بن محارب «فدمرانهم» أي كونا سبب ذلك، قال أبو الفتح ألحق نون التوكيد ألف التثنية كما تقول اضربان زيدا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وروي عن علي رضي الله عنه «فدمراهم»، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «فدمرناهم» بكسر الميم خفيفة، قال وروي عنه «فدمروا بهم» على الأمر لجماعة وزيادة باء، والذي فسر أبو الفتح وهم وإنما القراءة «فدمرا بهم» بالباء، وكذلك المهدوي، ونصب قوله وَقَوْمَ نُوحٍ بفعل مضمر يدل عليه أَغْرَقْناهُمْ، وقوله الرُّسُلَ وهم إنما كذبوا نوحا فقط معناه أن الأمة التي تكذب نبيا واحدا ففي ضمن ذلك تكذيب جميع الأنبياء فجاءت العبارة بما يتضمنه فعلهم تغليظا في القول عليهم، وقوله آيَةً أي علامة على سطوة الله تعالى بكل كافر بأنبيائه، وعاد وثمود يصرف، وجاء هاهنا مصروفا، وقرأ ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى «وعادا» مصروفا «وثمود» غير مصروف، واختلف الناس في أَصْحابَ الرَّسِّ فقال ابن عباس هم قوم ثمود، وقال قتادة هم أهل قرية من اليمامة يقال لها الرَّسِّ والفلج، وقال مجاهد هم أهل قرية فيها بير عظيمة إلخ... يقال لها الرَّسِّ، وقال كعب ومقاتل والسدي الرَّسِّ بير بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين، وقال الكلبي أَصْحابَ الرَّسِّ قوم بعث إليهم نبي فأكلوه، وقال قتادة أَصْحابَ الرَّسِّ وأصحاب ليكة قومان أرسل إليهما
شعيب عليه السلام، وقاله وهب بن منبه وقال علي رضي الله عنه في كتاب الثعلبي أَصْحابَ الرَّسِّ قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، رسوا نبيهم في بير حفروه له في حديث طويل، والرَّسِّ في اللغة كل محفور من بير أو قبر أو معدن ومنه قول الشاعر [النابغة الجعدي] :[المتقارب]
سبقت إلى فرط بأهل... تنابلة يحفرون الرساسا
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي ﷺ أن أهل الرس المشار إليهم في هذه الآية قوم أخذوا نبيهم فرسوه في بير وأطبقوا عليه صخرة، قال فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البير فيعينه الله على تلك الصخرة إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل، قال الطبري فيمكن أنهم كفروا به بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية، وقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل وقد تقدّم شرح القرن وكم هو، ومن هذا اللفظ قال رسول الله ﷺ فيما يروى، ويروى أن ابن عباس قاله، «كذب النسابون من فوق عدنان لأن الله تعالى أخبر عن كثير من الخلق والأمم ولم يحد»، ثم قال تعالى إن كل هؤلاء «ضرب له الأمثال»، ليهتدي فلم يهتد، «فتبره» الله أي أهلكه، والتبار الهلاك ومنه تبر الذهب أي المكسر المفتت، وكذلك يقال لفتات الرخام والزجاج تبر، وقال ابن جبير إن أصل الكلمة نبطي ولكن العرب قد استعملته.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
قال ابن عباس وابن جريج والجماعة الإشارة إلى مدينة قوم لوط وهي سدوم بالشام، ومَطَرَ السَّوْءِ حجارة السجيل، وقرأ أبو السمال «السّوء» بضم السين المشددة، ثم وقفهم على إعراضهم وتعرضهم لسخط الله بعد رؤيتهم العبرة من تلك القرية، ثم حكم عليهم أنهم إذا رأوا محمدا ﷺ استهزؤوا به واستحقروه وأبعدوا أن يبعثه الله رسولا، فقالوا على جهة الاستهزاء أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وفي بَعَثَ ضمير يعود على الذي حذف اختصارا وحسن ذلك في الصلة، ثم أنس النبي ﷺ عن كفرهم بقوله أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية، والمعنى لا تتأسف عليهم ودعهم لرأيهم ولا تحسب أنهم على ما يجب من التحصيل والعقل بل هم كالأنعام في الجهل بالمنافع وقلة التحسس للعواقب، ثم حكم بأنهم أَضَلُّ سَبِيلًا من حيث لهم الفهم وتركوه، و «الأنعام» لا سبيل لهم
إلى فهم المصالح، ومن حيث جهالة هؤلاء وضلالتهم في أمر أخطر من الأمر الذي فيه جهالة الأنعام، وقوله اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ معناه جعل هواه مطاعا فصار كالإله والهوى قائد إلى كل فساد لأن النفس أمارة بالسوء وإنما الصلاح إذا ائتمرت للعقل، وقال ابن عباس الهوى الإله يعبد من دون الله ذكره الثعلبي، وقيل الإشارة بقوله إِلهَهُ هَواهُ إلى ما كانوا عليه من أنهم كانوا يعبدون حجرا فإذا وجدوا أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الثاني الذي وقع هواهم عليه، قال أبو حاتم وروي عن رجل من أهل المدينة قال ابن جني هو الأعرج إِلهَهُ هَواهُ والمعنى اتخذ شمسا يستضيء بها هواه إذ الشمس يقال لها إلهة وتصرف ولا تصرف، و «الوكيل» القائم على الأمر الناهض به.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
أَلَمْ تَرَ معناه انتبه، والرؤية هاهنا رؤية القلب، وأدغم عيسى بن عمر رَبِّكَ كَيْفَ، قال أبو حاتم والبيان أحسن، ومَدَّ الظِّلَّ بإطلاق هو بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس ومن بعد مغيبها مدة يسيرة فإن في هذين الوقتين على الأرض كلها ظل ممدود على أنها نهار، وفي سائر أوقات النهار ظلال متقطعة والمد والقبض مطرد فيها وهو عندي المراد في الآية والله أعلم، وفي الظل الممدود ما ذكر الله في هواء الجنة لأنها لما كانت لا شمس فيها كان ظلها ممدودا أبدا.
وتظاهرت أقوال المفسرين على أن مَدَّ الظِّلَّ هو من الفجر إلى طلوع الشمس وهذا معترض بأن ذلك في غير نهار بل في بقايا الليل لا يقال له ظل، وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشَّمْسَ ونسخها إياه وطردها له من موضع إلى موضع دَلِيلًا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه، حكى الطبري أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها وقوله قَبْضاً يَسِيراً يحتمل أن يريد لطيفا أي شيئا بعد شيء لا في مرة واحدة ولا بعنف، قال مجاهد، ويحتمل أن يريد معجلا وهذا قول ابن عباس ويحتمل أن يريد سهلا قريب المتناول، قال الطبري ووصف اللَّيْلَ باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها، و «السبات» ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا، فشبه النائم به، والسبت الإقامة في المكان فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، و «النشور» في هذا الموضع الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة والتوفي اللذين يتضمنهما النوم والسبات ويحتمل أن يريد ب «النشور» وقت انتشار وتفرق لطلب المعايش وابتغاء فضل الله، وقوله النَّهارَ نُشُوراً وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
212
قرأت فرقة «الرياح»، وقرأت فرقة «الريح» على الجنس، فهي بمعنى الرياح وقد نسبنا القراءة في سورة الأعراف وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح، لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة من هاهنا وهاهنا، وشيئا إثر شيء، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما تأتي جسدا واحدا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه، قال الرماني جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والشمال وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور.
قال القاضي أبو محمد: يرد على هذا قول النبي ﷺ إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، واختلف القراء في «النشر»، في النون والباء وغير ذلك اختلافا قد ذكرناه في سورة الأعراف، ونَشْراً معناه منتشرة متفرقة و «الطهور» بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضته في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهرا مطهرا وفيما كثرت فيه التغايير، كماء الورد وعصير العنب أن يكون طاهرا ولا مطهرا، ووصف «البلدة» ب «الميت» لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤنث وجاز ذلك من حيث البلدة بمعنى البلد، وقرأ طلحة بن مصرف «لننشىء به بلدة ونسقيه» بضم النون وهي قراءة الجمهور ومعناه نجعله لهم سقيا، هذا قول بعض اللغويين في أسقى قالوا وسقى معناه للشفة، وقال الجمهور سقى وأسقى بمعنى واحد وينشد على ذلك بيت لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني نجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقرأ أبو عمرو «ونسقيه» بفتح النون وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة وأبي حيوة، ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَأَناسِيَّ، قيل هو جمع إنسان والياء المشددة بدل من النون في الواحد قاله سيبويه، وقال المبرد هو جمع إنسي وكان القياس أن يكون أناسية كما قالوا في مهلبي ومهالبة، وحكى الطبري عن بعض اللغويين في جمع إنسان أناسين بالنون كسر حان وبستان، وقرأ يحيى بن الحارث «أناسي» بتخفيف الياء، والضمير في صَرَّفْناهُ قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد، وقاله ابن مسعود، وقوله على هذا التأويل فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة، وقيل كُفُوراً على الإطلاق لما تركوا التذكر، وقال ابن عباس الضمير في صَرَّفْناهُ للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك، وَجاهِدْهُمْ بِهِ، وعلى التأويل الأول الضمير في بِهِ يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه، وقال ابن زيد يراد به الإسلام، وقرأ عكرمة «صرفنا» بتخفيف الراء، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذكروا»
213
بسكون الذال، وقرأ الباقون «ليذكّروا» بشد الذال والكاف، وفي قوله وَلَوْ شِئْنا الآية اقتضاب يدل عليه ما ذكر تقديره ولكنا أفردناك بالنذارة وحملناك فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
اضطرب الناس في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس أراد بحر السحاب والبحر الذي في الأرض، ورتبت ألفاظ الآية على ذلك، وقال مجاهد البحر العذب هو مياه الأنهار الواقعة في البحر «الأجاج» وقوعها فيه هو مرجها. قال و «البرزخ» و «الحجر» هو حاجز في علم الله لا يراه البشر، وقاله الزجاج، وقالت فرقة معنى مَرَجَ أدام أحدهما في الآخر، وقال ابن عباس خلى أحدهما على الآخر ونحو هذا من الأقوال التي تتداعى مع بعض ألفاظ الآية، والذي أقول به في الآية إن المقصد بها التنبيه على قدرة الله تعالى وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة من أنهار وعيون وآبار، وجعلها خلال الأجاج وجعل الأجاج خلالها، فتلقى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، وتلقى الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج فبثها هكذا في الأرض هو خلطها، وهو قوله مَرَجَ ومنه مريج أي مختلط مشتبك، ومنه مرجت عهودهم في الحديث المشهور، و «البحران» يريد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الأجاج، كأنه قال مرج نوعي الماء والبرزخ والحجر هو ما بين الْبَحْرَيْنِ من الأرض واليبس، قاله الحسن، ومنه القدرة التي تمسكها مع قرب ما بينهما في بعض المواضع، وبكسر الحاء قرأ الناس كلهم هنا والحسن بضم الحاء في سائر القرآن، و «الفرات» الصافي اللذيذ المطعم، و «البرزخ» الحاجز بين الشيئين، وقرأ الجمهور «هذا ملح» وقرأ طلحة بن مصرف «هذا ملح» بكسر اللام وفتح الميم، قال أبو حاتم هذا منكر في القراءة، قال ابن جني أراد مالحا وحذف الألف كبرد وبرد، و «الأجاج» أبلغ ما يكون من الملوحة، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ الآية، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر، وقوله مِنَ الْماءِ إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة، والأول أفصح وأبين، و «النسب والصهر» معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين، ف «النسب» هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد، و «الصهر» تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج ثم الأحماء والأصهار يقع عاما لذلك كله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «النسب» ما لا يحل نكاحه «والصهر» ما يحل نكاحه وقال الضحاك «الصهر» قرابة الرضاع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس، وفي رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [النساء: ٢٣]، فهذا هو من النسب. ثم يريد ب «الصهر» قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: ٢٣]، ثم ذكر المحصنات، ومجمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر لأن الرضاع صهر وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه، ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي الأزواج، وحكى الزهراوي قولا أن «النسب» من جهة البنين «والصهر» من جهة البنات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا حسن وهو في درج ما قدمته، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي ﷺ وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. وقوله وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً هي كانَ التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضيا فقط، ثم ذكر تعالى خطأهم في عبادتهم أصناما لا تملك لهم ضرا ولا نفعا وقوله وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فيه تأويلان: أحدهما أن «الظهير» المعين فتكون الآية بمعنى توبيخهم على ذلك من أن الكفار يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة والشيطان بأن يطيعوه ويظاهروه، وهذا هو تأويل مجاهد والحسن وابن زيد، والثاني ذكره الطبري أن يكون «الظهير» فعيلا، من قولك ظهرت الشيء إذا طرحته وراء ظهرك واتخذته ظهريا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل احتقار الكفرة، والْكافِرُ في هذه الآية اسم الجنس وقال ابن عباس بل هو معين أراد به أبا جهل بن هشام.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن أبا جهل سبب الآية ولكن اللفظ عام للجنس كله. وقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ الآية تسلية لمحمد ﷺ أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك حسرات حرصا عليهم فإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة النار ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين، ثم أمره تعالى بأن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي، وقوله إِلَّا مَنْ شاءَ الظاهر فيه أنه استثناء منقطع، والمعنى مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة، قال الطبري المعنى لا أسألكم أجرا إلا إنفاق المال في سبيل الله فهو المسئول وهو السبيل إلى الرب.
قال الفقيه الإمام القاضي: فالاستثناء على هذا كالمتصل، وكأنه قال إلا أجر من شاء والتأويل الأول أظهر.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
215
المعنى قل لهم يا محمد هذه المقالة التي لا ظن يتطرق إليك معها ولا تهتم بهم وبشّر وأنذر وَتَوَكَّلْ عَلَى المتكفل بنصرك وعضدك في كل أمرك، ثم وصف تعالى نفسه الصفة التي تقتضي التوكل في قوله الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ إذ هذا المعنى يختص بالله تعالى دون كل ما لدينا مما يقع عليه اسم حي، وقوله وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ قل سبحان الله وبحمده أي تنزيهه واجب وبحمده أقول.
قال القاضي أبو محمد: وقال رسول الله ﷺ من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، فهذا معنى وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان، الحديث، وقوله وَكَفى بِهِ توعد وإزالة كل عن محمد ﷺ في همه بهم، وقوله وَما بَيْنَهُما مع جمعه السَّماواتِ قبل سائغ من حيث عادل لفظ الْأَرْضَ لفظ السَّماواتِ ونحوه قول عمرو بن شييم: [الوافر]
ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
من حيث عادلت جبالا جبالا، ومنه قول الآخر: [الكامل]
إن المنية والحتوف كلاهما يوفي المخارم يرقبان سواد
وقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اختلفت الرواية في اليوم الذي ابتدأ الله فيه الخلق، فأكثر الروايات على يوم الأحد، وفي مسلم وفي كتاب الدلائل يوم السبت، وبين بكون ذلك فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وضع الإناءة والتمهل في الأمور لأن قدرته تقضي أنه يخلقها في طرفة عين لو شاء لا إله إلا هو، وقد تقدّم القول في الاستواء، وقوله الرَّحْمنُ يحتمل أن يكون رفعه بإضمار مبتدأ أي هو الرَّحْمنُ ويحتمل أن يكون بدلا من الضمير في قوله اسْتَوى وقرأ زيد بن علي بن الحسين «الرحمن» بالخفض، وقوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه تأويلان: أحدهما فَسْئَلْ عنه وخَبِيراً على هذا منصوب إما بوقوع السؤال عليه والمعنى، اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة، والثاني أن يكون المعنى كما تقول لو لقيت فلانا لقيت به البحر كرما أي لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر، وخَبِيراً على هذا منصوب إما بوقوع السؤال وإما على الحال المؤكدة كما قال وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: ٩١]، وليست هذه بحال منتقلة إذ الصفة العلية لا تتغير، ولما ذكر في هذه الآية «الرحمن» كانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله، وكان مسيلمة كذاب اليمامة تسمى ب «الرحمن» فغالطت قريش بذلك وقالت إن محمدا يأمر بعبادة «الرحمن» اليمامة فنزل قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ الآية، وقولهم وَمَا الرَّحْمنُ استفهام عن مجهول عندهم ف مَا على بابها المشهور، وقرأ جمهور القراء «تأمرنا» بالتاء أي أنت يا محمد، وقرأ حمزة والكسائي والأسود بن يزيد وابن مسعود «يأمرنا» بالياء من تحت إما على إرادة محمد والكناية عنه بالغيبة، وإما على إرادة رحمان اليمامة، وقوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي أضلهم هذا اللفظ ضلالا لا يختص به حاشى ما تقدم منهم.
216
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته، و «البروج» هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: ٣٩] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجا تشبيها ببروج السماء. ومنه قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: ٧٨]. وقال الأخطل: [البسيط]
كأنها برج روميّ يشيده... لز بجص وآجور وأحجار
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها «البروج» القصور في الجنة، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «في السماء قصورا»، وقيل «البروج» الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وقرأ الجمهور «سراجا» وهي الشمس، وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش «سرجا» وهو اسم جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش «سرجا» بسكون الراء، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن «وقمرا» بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد إلا أن يكون عنى جمعا كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي، وقوله خِلْفَةً أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، ومن هذا المعنى قول زهير: [الطويل]
بها العين والأرآم يمشين خلفة... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا [يزيد بن معاوية] :[المديد]
ولها بالماطرون إذا... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت... سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة... حولها الزيتون قد ينعا
وقال مجاهد خِلْفَةً من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، وما قدمناه أقوى، وقال مجاهد وغيره من النظار لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر،
217
وقال عمر بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وقرأ الباقون «يذّكر» بشد الذال، وفي مصحف أبي بن كعب «يتذكر» بزيادة تاء، ثم قال تعالى لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور، و «العباد» والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وعبد الرحمن»، ذكره الثعلبي، وقوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال، هَوْناً، بمعنى أمره كله هون أي لين، قال مجاهد، بالحلم والوقار، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن حلما إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن هَوْناً مرتبط بقوله يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أي المشي هو هون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هَوْناً مناسبة لمشية فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش هَوْناً رويدا وهو ذئيب أطلس. وقد كان رسول الله ﷺ يتكفا في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية. وقوله ﷺ «من مشى منكم في طمع فليمش رويدا» إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم [أبي جعفر المنصور] :[مجزوء الرمل]
كلهم يمشي رويدا... كلهم يطلب صيدا
وقال الزهري سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه.
قال القاضي أبو محمد: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم كنت أسأل عن تفسير قوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فما وجدت في ذلك شفاء، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا تفسير في الخلق، وهَوْناً معناه رفقا وقصدا، ومنه قول النبي ﷺ «أجب حبيبك هونا ما» الحديث وقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما بهذا اللفظ أي سلمنا سلاما وتسليما ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين، والذي أقول إن قالُوا هو العامل في سَلاماً لأن المعنى قالُوا هذا اللفظ، وقال مجاهد معنى سَلاماً قولا سديدا، أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين ف قالُوا على هذا التأويل عامل في قوله سَلاماً على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولا، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية مكية فنسختها آية السيف.
218
قال الفقيه الإمام القاضي: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوما بمحضر المأمون وعنده جماعة: كنت أرى عليا في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال: فكان يقول لي سلاما سلاما، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة صحيحة.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
هذه آية فيها تحريض على القيام بالليل للصلاة، قال الحسن لما فرغ من وصف نهارهم وصف في هذه ليلهم، وقال بعض الناس من صلى العشاء الآخرة وشفع وأوتر فهو داخل في هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: إلا أنه دخول غير مستوفى، وقرأ أبو البرهسم «سجودا وقياما»، ومدحهم تعالى بدعائه في صرف عَذابَ جَهَنَّمَ من حيث ذلك دليل على صحة عقدهم وإيمانهم ومن حيث أعمالهم بحسبه، وغَراماً معناه ملازما، وقيل مجحفا ومنه غرام الحب ومنه المغرم ومنه قول الأعشى:
[الخفيف]
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقول بشر بن أبي حازم: [المتقارب]
ويوم النسار ويوم الجفار كانا عناء وكانا غراما
وقرأ جمهور الناس «مقاما» بضم الميم من الإقامة، ومنه قول الشاعر: «حيوا المقام وحيوا ساكن الدار»، وقرأت فرقة «مقاما» بفتح الميم من قام يقوم فجهنم ضد مقام كريم والأول أفصح وأشهر.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
اختلف المفسرون في هذه الآية التي في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في
219
الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف» أن تنفق مال غيرك.
ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا وأن لا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول الله ﷺ أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للذة، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يقتروا» بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم «يقتروا» بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وفتح التاء، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء، وقرأ أبو عمرو «والناس قواما» بفتح القاف، أي معتدلا، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغا وسدادا وملاك حال، وقَواماً خبر كانَ واسمها مقدر أي الإنفاق، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله بَيْنَ ذلِكَ. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحا، وفي نحو هذه الآية قال عبد الله بن مسعود: قلت يوما يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك، ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر ذلك، «والحق» الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان، و «الزنا» بعد الإحصان، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين، و «الأثام» في كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر: [الوافر]
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن أَثاماً واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقابا للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يضاعف ويخلد» جزما، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن «يضعّف» بشد العين وطرح الألف وبالجزم في «يضعف ويخلد»، وقرأ طلحة بن سليمان
220
«نضعّف» بضم النون وكسر العين المشددة «العذاب» نصب «ويخلد» جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يضاعف ويخلد» بالرفع فيهما، وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن أبي عمرو «ويخلّد» بضم الياء من تحت وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية «ويضاعف» بالجزم بدل من يَلْقَ قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر:
«متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا». البيت وقوله إِلَّا مَنْ تابَ الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: ٤٨] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقاله سعيد بن جبير، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت إِلَّا مَنْ تابَ الآية، ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣]، فما رأينا رسول الله ﷺ فرح فرحه بها وبسورة الفتح، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت، ورواه أيضا سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى كرم العفو، وقرأ ابن أبي عبلة «يبدل» بسكون الباء وتخفيف الدال.
قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)
أكد بهذه الألفاظ أمر التوبة والمعنى وَمَنْ تابَ فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا، كما تقول لمن
221
تستحسن قوله في أمره لقد قلت يا فلان قولا، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما، ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، ويَشْهَدُونَ في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون، والزُّورَ كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب.
قال الفقيه الإمام القاضي: والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى، و «اللغو» كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، وكِراماً معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لقد أصبح ابن أم عبد كريما، وقرأ الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير، وحدود التغيير معروفة وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً يحتمل تأويلين: أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجدا وبكيا، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعا أي إنما خرج جريئا مقدما. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق، أو الشاك، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك، وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا، ولكن أصله أنه على غير ترتيب، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية، و «قرة العين» يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، و «قرة العين» في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمان أحبابهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن «ذرياتنا»، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى «ذريتنا» بالإفراد. وقوله تعالى: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قيل هو جمع، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
قوله عز وجل:
222

[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
قرأ أبي كعب «يجازون» بألف، والْغُرْفَةَ من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال: [الهزج]
ولولا الحبة السمراء... لم نحلل بواديكم
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ويلقّون» بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي ﷺ «ويلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختلف عن عاصم وقوله حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً معادل لقوله في جهنم ساءَتْ وقوله: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ الآية أمر لمحمد ﷺ أن يخاطب بذلك، وما تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ خطابا لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي فيهم، وقرأ ابن الزبير وغيره «فقد كذب الكافرون» وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو محمد: والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل ويَعْبَؤُا مشتق من العبء، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش، وقرأ ابن الزبير «وقد كذبت الكافرون فسوف»، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس إلخ... «فقد كذب الكافرون»، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن «اللزام» المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس أيضا «اللزام» الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفا فهو ضعيف، وقرأ جمهور الناس «لزاما» بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: [الوافر]
فإمّا ينجوا من حتف أرض... فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقرأ أبو السمال «لزاما» لفتح اللام من لزم والله المعين.
Icon