ﰡ
إن قلتَ : الكتاب المبين هو القرآن، فكيف عطفه عليه، مع أن العطف يقتضي المغايرة ؟ !
قلتُ : المغايرة تصْدُق بالمغايرة لفظا ومعنا، وباللفظ فقط، وهو هنا من الثاني، كما في قوله تعالى :﴿ أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ].
أو المراد : بالكتاب المبين : هو اللوح المحفوظ، فهو هنا من الأول.
فإن قلتَ : لم قدّم القرآن هنا على الكتاب، وعكس في الحِجر( ١ ) ؟
قلتُ : جريا على قاعدة العرب، في تفنّنهم في الكلام.
فإن قلتَ : كيف قال هنا ذلك، وفي طه ﴿ لعلي آتيكم ﴾ [ طه : ١٠ ] وأحدها قطع، والآخر ترجّ، والقضية واحدة ؟ !
قلتُ : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه عدم الجزم.
قاله هنا بدون ذكر " أن " وفي القصص( ١ ) بذكرها.
لأن ما هنا تقدَّمه فعل بعد " أنْ " وهو " بورك " فحسن عطف الفعل عليه، وما هناك لم يتقدمه فعل بعد " أنْ " فذكرت " أنْ " لتكون جملة ﴿ وأنْ ألق عصاك ﴾ معطوفة على جملة ﴿ أن يا موسى إني أنا الله ربّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ١١٧ ].
قوله تعالى :﴿ يا موسى لا تخف إني لا يخاف لديّ المرسلون ﴾ [ النمل : ١٠ ].
قال ذلك هنا، وقال في القصص ﴿ يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ﴾ [ القصص : ٣١ ] بزيادة " أقبل "، لأن ما هنا بُني عليه كلام يناسبه، وهو ﴿ إني لا يخاف لديّ المرسلون ﴾ [ النمل : ١٠ ] فناسبه الحذف، وما هناك لم يُبن عليه شيء، فناسبه زيادة " أقبل " جبرا له، وليكون في مقابلة " مدبرا " أي أقبلْ آمنا غير مدبر، ولا تخف.
قوله تعالى :﴿ إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم... ﴾ الآية [ النمل : ١٠ ].
إن قلتَ : كيف وجه صحة الاستثناء فيه، مع أن الأنبياء معصومون من المعاصي ؟ !
قلتُ : الاستثناء منقطع، أي لكن من ظلم من غير الأنبياء فإنه يخاف، فإن تاب وبدّل حُسنا بعد سوء، فإني غفور رحيم، أو متصل بحمل الظلم على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، أو " إلا " بمعنى " ولا " كما في قوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجّة إلا الذين ظلموا ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ].
وإنما خصّ : المرسلين بالذكر، لأن الكلام في قصة موسى –وكان من المرسلين- وإلا فسائر الأنبياء كذلك، وإن لم يكن بعضهم رسلا.
قاله هنا بلفظ " أَدْخِلْ " وفي القصص بلفظ " أُسْلُكْ " لأن الإدخال أبلغ من السلوك، لأن ماضيه أكثر حروفا من ماضي السلوك، فناسب " أَدْخِلْ " كثرة الآيات، وفي قوله :﴿ تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات ﴾ [ طه : ٢٢ ] أي معها، مرسلا إلى فرعون، وناسب أسلك قلّتها، وهي سلوك اليد، وضمّ الجناح، والمعبّر عنهما بقوله :﴿ فذلك برهانان من ربّك إلى فرعون وملائه ﴾ [ القصص : ٣٢ ].
قوله تعالى :﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ [ النمل : ١٢ ].
قاله هنا بلفظ " وقومه " وفي القصص( ١ ) بلفظ " وملائه " لأن الملأ أشراف القوم، ولم يوصفوا ثَمَّ بما وُصف به القوم هنا، من قوله :﴿ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها... ﴾ الآية [ النمل : ١٢، ١٤ ] فناسب ذكر ( القوم ) هنا، وذكر ( الملأ ) ثَمَّ.
النون نون الجمع، عنى " سليمان " نفسه وأباه، أو نون العظمة، مراعاة لسياسة الملك، لأنه كان ( مَلِكاً ) مع كونه نبيا.
فإن قلتَ : كيف سوّى بينه في قوله :﴿ من كلّ شيء ﴾ وبين بلقيس في قول الهدهد :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ [ النمل : ٢٣ ] ؟ !
قلتُ : الفرق بينهما، أنها أوتيت من كلّ شيء من أسباب الدنيا فقط، لعطف ذلك على " تمْلِكُهم " وسليمان أوتي من كل شيء من أسباب الدين والدنيا، لعطف ذلك على المعجزة، وهي " منطق الطير ".
إن قلتَ : إذا تولّى عنهم كيف يعلم جوابهم ؟ !
قلت : معناه ثم تولّ عنهم يسيراً، حيث لا يرونك، فانظر ماذا يرجعون ؟
قدّم " سليمان " اسمه على اسم الله تعالى، مع أن المناسب عكسُه، لأنه عرف أنّ " بلقيس " تعرف اسمه، دون اسم الله تعالى، فخاف أن تستخفّ باسم الله تعالى، أوّل ما يقع نظرها عليه، أو كان اسمه على عنوان الكتاب، واسم الله في باطنه.
القائل : كاتب سليمان، واسمه " آصف " ( ١ ).
فإن قلتَ : كيف قدر مع أنه غير نبيّ، على ما لم يقدر عليه سليمان مع أنه نبي ؟ من إحضار عرش بلقيس في طرفة عين ؟ !
قلتُ : يجوز أن يُخصّ غير النبي بكرامة، لا يشاركه فيها النبي، كما خُصّت " مريم " بأنها كانت تُرزق من فاكهة الجنة، و " زكريا " لم يُرزق منها، ولم يلزم من ذلك فضلُها على " زكريا "، وقد نُقل أن " سليمان " عليه السلام، كان إذا أراد الخروج إلى الغزاة، قال لفقراء المهاجرين والأنصار، أُدعوا لنا بالنُّصرة، فإن الله ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه، مع أن كرامة التَّبع، من جملة كرامة المتبوع.
ويُحكى أن العلم الذي كان عند " آصف " هو اسم الله الأعظم، فدعا به فأُجيب به في الحال.
وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجيّ : اسم الله، وقيل : يا حيّ، يا قيّوم.
وقيل : يا ذا الجلال والإكرام، وقيل : يا الله، يا رحمن، وقيل : يا إلهنا وإله كل شيء، إلها واحدا، لا إله إلا أنت.
قاله هنا بلفظ " أنجينا " وفي حم السجدة بلفظ " ونجّينا " موافقة لما بعده هنا، ولما قبله وبعده ثَمّ، فيما وزنه " أفعل " و " فعل " ثَمَّ، حيث قال هنا بعد ﴿ فأنجيناه وأهله... وأمطرنا ﴾ [ النمل : ٥٧، ٥٨ ] وقال ثَمَّ قبله " وَزَينّا " وبعده " وقَيّضنا "
ذُكر هنا في خمسة مواضع متتالية :
وختم الأولى بقوله :﴿ بل هم قوم يعدلون ﴾ [ النمل : ٦٠ ].
والثانية بقوله :﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ النمل : ٦١ ].
والثالثة بقوله :﴿ قليلا ما تذّكرون ﴾ [ النمل : ٦٢ ].
والرابعة بقوله :﴿ تعالى الله عما يشركون ﴾ [ النمل : ٦٣ ].
والخامسة بقوله :﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ [ النمل : ٦٤ ].
أي عدلوا، وأول الذنوب العدول عن الحقّ، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكّروا فيعلموا بالنظر والاستدلال، فأشركوا من غير حجة وبرهان، قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
تجوّز " بحكمه " عما يحكم به، وهو العدل، وإلا فالقضاء والحكم واحد.
قاله هنا بلفظ " فَزَعَ " وفي الزمر بلفظ " صَعِقَ " موافقة هنا لما بعده، وهو ﴿ وهم من فزع يومئذ آمنون ﴾ [ النمل : ٨٩ ] وفي الزمر لما قبله، وهو ﴿ إنك ميّت ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] إذ معنى الصّعْقِ : الموت، وعبّر فيهما بالماضي، دون المضارع مع أنه أنسب، للإشعار بتحقق الفزع والصعق ووقوعهما، إذِ الماضي أدلّ على ذلك من المضارع.
قوله تعالى :﴿ وكلٌّ أتَوه داخرين ﴾( ١ ) [ النمل : ٨٧ ].
إن قلتَ : كيف قال " داخرين " أي صاغرين أذلاّء بعد البعث، مع أن " النبيّين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين " يأتون معزّزين( ٢ ) مكرّمين ؟ !
قلتُ : المراد صَغَار العبودية والرّق وذلُّهما، لا ذلّ المعاصي والذنوب، وذلك يعمّ الخلق كلهم، كما في قوله تعالى :﴿ إن كل من السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ﴾ [ مريم : ٩٣ ].
٢ - في المخطوطة هكذا وردت "عزيزين" والظاهر أنها "معزّزين" لأنها قوبلت بقوله "مكرّمين" والله أعلم..