تفسير سورة غافر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة غافر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم، وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهاره للآيات، وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات؛ لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحي على من يشاء من عباده؛ لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاق.. أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة، تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة.. أردفه بتخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم، ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاؤوهم بالبينات.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك: أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾: اسم (٢) للسورة، ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هذه السورة مسماة بحم، نزلت منزلة الحاضر المشار إليه؛ لكونها على شرف الذكر والحضور.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: حمَ اسم الله الأعظم، وعنه قال: ﴿حم (١)﴾ اسم الله الأعظم، وعنه قال: ﴿آلر﴾ و ﴿حم (١)﴾ و ﴿نَ﴾: حروف، اسمه الرحمن مقطعة، وقيل الحاء: افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنَّان،
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
116
والميم: افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل: ﴿حم (١)﴾ معناه: حم بضم الحاء؛ أي: قضي وبين ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقرأ الجمهور (١): بفتح الحاء مشبعًا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بإمالته إمالةً محضةً، وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش: بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: ﴿حم (١)﴾ بسكون الميم، كسائر الحروف المقطعة، وقرأ الزهري: بضمها، على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: بفتحها، على أنه منصوب بفعل مقدر؛ أي: اقرأ حم، وإنما منعت من الصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية وشبه المعجمة، وذلك أنه ليس في الأوزان العربية وزن فاعيل، بخلاف الأعجمية، نحو قابيل وهابيل، أو على أنها حركة بناء تخفيفًا، كأين وكيف، وعلة البناء فيه: الشبه الوضعي، وقرأ أبو السمال: بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم، وقرأ الجمهور: بوصل الحاء بالميم، وقرأ أبو جعفر؛ بقطعها.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿حم (١)﴾ تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغني عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك: أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام، نحو ﴿ألا﴾ و ﴿يا﴾ وينطق بأسمائها، فيقال: حاميم بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجوالقي والحريري وابن الجوزي، وقالوا: لا يقال ذلك، بل يقال: آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب "الصحاح": نقل عن الفراء أن قول العامة: الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم.. فقد وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِيْ آلِ حَم آيَةً تَأَوَّلَهَا منَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ
يريد بذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. انتهى.
وقال الشوكاني: وقد اختلف في معناه، فقيل هو اسم من أسماء الله تعالى،
(١) الشوكاني.
117
وقيل: اسم من أسماء القرآن، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ووقع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وجعلاه بمعنى حم؛ أي: قضي ووقع، وقيل: معناه حم أمر الله؛ أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه، وهذا تكلف لا موجب له، وتعسف لا مُلجِىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله سبحانه بعلم معناه، كما قدمنا تحقيقه في أول سورة البقرة. انتهى.
٢ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ هو خبر لـ ﴿حم (١)﴾ على تقدير أنه مبتدأ؛ أي: سورة حم الكتاب المنزل ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ إلخ. فالمصدر بمعنى اسم المفعول، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ والمصدر على معناه، وهذا أولى الوجوه؛ أي: تنزيل هذا الكتاب الكريم كائن من الله تعالى، لا كما يقول الكفار ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب القاهر على ما أراد ﴿الْعَلِيمِ﴾ بكل المعلومات، ولعل تخصيص هذين الوصفين لما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلم الدالين على القدرة الكاملة والعلم البالغ، وفي "فتح الرحمن": العزيز الذي لا مثل له، العليم بكل المعلومات، أو الكثير العلم بخلقه، وبما يقولونه ويفعلونه.
والمعنى: أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب، القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه وبما يقولون وما يفعلون، وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقول ولا مما يجوز أن يكذب به
٣ - ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ صفة أخرى للجلالة، والإضافة حقيقيّة؛ لأنه لم يرد به زمان مخصوص؛ لأن صفات الله تعالى أزلية منزهة عن التجدد والتقيد بزمان دون زمان، وإن كان تعلقها حادثًا بحسب حدوث المتعلقات كالذنب في هذا المقام، واسم الفاعل يجوز أن يراد به الاستمرار، بخلاف الصفة المشبهة، والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره، ولم يقل: غافر الذنوب بالجمع، إرادةً للجنس، كما في الحمد لله.
والمعنى: ساتر جميع الذنوب، صغائرها وكبائرها، بتوبة وبدونها، ولا يفضح صاحبها يوم القيامة، كما يقتضيه مقام المدح العظيم ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ والقابل في الأصل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، والتوب مصدر، كالتوبة: وهو ترك الذنوب على أحد الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت، وأقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا
118
الثالث هو التوبة، والتوبة في الشرع: هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربعة.. فقد كملت شرائط التوبة، فالتوبة هي الرجوع عما كان مذمومًا في الشرع إلى ما هو محمود في الدين، والاستغفار: عبارة عن طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية والإعراض عنها، فالتوبة مقدمة على الاستغفار، والاستغفار لا يكون توبة بالإجماع، ما لم يقل معه: تبت وأسأت ولا أعود إليه أبدًا، فاغفر لى يارب.
وتوسيط الواو بين الغافر والقابل؛ لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة في موصوف واحد بالنسبة إلى طائفة هي طائفة المذنبين التائبين، فالمغفرة بمحو الذنوب بالتوبة، والقبول بجعل تلك التوبة طاعة مقبولًا يثاب عليها، فقبول التوبة كناية عن أنه تعالى يكتب تلك التوبة للتائب طاعة من الطاعات، وإلا لما قبلها؛ لأنه لا يقبل إلا ما كان طاعة، أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهم الاتحاد، بأن يذكر الثاني لمجرد الإيضاح والتفسير، أو لتغاير موقع الفعلين ومتعلقهما؛ لأن الغفر: هو الستر مع بقاء الذنب، وذلك لمن لم يتب من أصحاب الكبائر، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والقبول بالنسبة إلى التائبين عنها.
وفي "الأسئلة المقحمة": قدم المغفرة على التوبة؛ ردًا على المعتزلة، ليعلم أنه تعالى ربما يغفر من غير توبة ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾؛ أي: مشدد العقاب لمن مات على الشرك، فهو اسم فاعل، كما قبله، فصح جعله نعتًا للمعرفة، حيث يراد به الدوام والثبوت، وليس بصفة مشبهة، حتى تكون الإضافة لفظية، بأن يكون من إضافة الصفة إلى فاعلها، ولئن سلم.. فالمراد الشديد عقابه باللام فحذفت للازدواج مع ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ في الخلو عن الألف واللام ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾؛ أي: صاحب الفضل والإحسان على من آمن به بترك العقاب المستحق، وذي الغنى على من لم يؤمن به، والطول بالفتح: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول؛ أي: زيادة وفضل، وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر؛ لأنه إذا كان طويلًا.. ففيه كمال وزيادة، كما أنه إذا كان قصيرًا.. ففيه قصور ونقصان، وسمي الغني أيضًا طولًا؛ لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر، كما أنه بالطول ينال ما لا ينال بالقصر، كذا في "تفسير الإِمام" في سورة النساء، والمراد هنا:
119
الفضل بترك العقاب المستحق، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات الرحمة: دليل سبقها ورجحانها.
والمعنى: أي وهو سبحانه الإله الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعثا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم، التي لا يطيقون القيام بشكرها، ولا شكر واحدة منها، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
وذكر: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾؛ لترغيب عباده العاصين، وذكر: ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحث على فعل المراد من تنزيل الكتاب، وهو التوحيد والإيمان بالبعث، والإخلاص لله في العمل، والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه، كقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)﴾ ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ ليبقى العبد بين الخوف والرجاء ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه، فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى فحسب، لا إلى غيره، لا استقلالًا ولا اشتراكًا ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع والمآب؛ أي: رجوع الخلق إليه سبحانه في الآخرة، فيجازي كلا من المطيع والعاصي.
٤ - ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله، أنزله ليهتدى به في الدين.. ذكر أحوال من يجادل فيه بقصد إبطاله، فقال: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: ما يخاصم وينازع في دفع آيات الله وإبطالها. وتكذيبها؛ أي: ما يخاصم في آيات الله تعالى التنزيلية، أو التكوينية بالطعن فيها، بأن يقول في حقها سحرًا أو شعرًا أو أساطير الأولين أو نحو ذلك، وباستعمال المقدمات الباطلة لإدحاضه وإزالته وإبطاله، لقوله تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ فحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وأريد بالجدال المذكور هنا: الجدال بالباطل، أما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم.. فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، ومن أفضل الطاعات، كالجهاد في سبيل الله تعالى.
120
﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بها، وأما الذين آمنوا.. فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها، فضلًا عن الطعن فيها، ولما حكم سبحانه وتعالى على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾ يا محمد ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾؛ أي: تنقلهم ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ للتجارات النافقة، والمكاسب المربحة، سالمين غانمين بمراداتهم، فإنهم يمهلون ولا يهلون، و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾: واقعة في جواب شرط محذوف، والغرة: غفلة في اليقظة، والتقلب: التنقل في البلاد والتصرف فيها بالتجارة.
والمعنى: فإذا علمت يا محمد أنهم محكوم عليهم بالكفر.. فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم، وتقلبهم في بلاد الشام واليمن للتجارات المربحة، وهي رحلة الشتاء والصيف.
وقرأ الجمهور: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾ بالفك، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير: ﴿فلا يغرك﴾ بالإدغام مفتوح الراء، وهي لغة تميم.
ومعنى الآية: أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه، كقولهم مرة: أنه شعر، وأخرى: أنه سحر، وثالثة: أنه أساطير الأولين، إلى أشباه ذلك من سخيف المقال، إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره، وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الإشارة بقوله - ﷺ -: "لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر". أما الجدل لتقرير الحق، وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن.. فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى عن قوم نوح لنوح ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنه - قال: هاجرت إلى رسول الله - ﷺ - يومًا، فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". رواه مسلم.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علي ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. وقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - أن
121
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾؛ أي: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة في البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمن، ورحلة الصيف في الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا.. فإنهم لا يهملون، قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
وقال في "عين المعاني": فلا يغررك أيها المغرور، والمراد غيره - ﷺ - خطاب للمقلدين من المسلمين. انتهى.
وفي هذا تسلية له - ﷺ -، ووعيد لهم،
٥ - ثم قال مسليًا رسول الله - ﷺ - على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوةً في سلفه الأنبياء، فان أقوامهم كذبوهم، وما آمن منهم إلا قليل، فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل قريش ﴿قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ﴾؛ أي: القبائل من الكفار الذين تحزبوا على الرسل وعادوهم وحاربوهم ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد قوم نوح، مثل عاد وثمود وأضرابهم، وبدأ بقوم نوح إذ كان أول رسول في الأرض؛ أي: لأن آدم إنما أرسل إلى أولاده.
أي: كذبت (١) قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم، كما هي سنتنا في أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك. ﴿وَهَمَّتْ﴾؛ أي: قصدت وعزمت ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾ من تلك الأمم المكذبة أن يوقعوا الشر ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾ الذي أرسل إليهم، والهم كما سيأتي: تصميم القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، قال في "الأسئلة المقحمة": لم يقل: برسولها؛ لأنه أراد بالأمة هاهنا الرجال دون النساء، وبذلك فسروه، وقال في "عين المعاني": برسولهم تغليب للرجال ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾؛ أي: ليأسروه ويحبسوه فيعذبوه أو يقتلوه، من الأخذ بمعنى الأسر.
وفيه (٢): إشارة إلى أن كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد له من أرباب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الجحود والإنكار وأهل الاعتراض، كما كانوا في عهد كل نبي ورسول، وقال قتادة والسدي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ والعرب تسمي الأسير الأخيذ.
وقرأ الجمهور: ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾، وقرأ عبد الله: ﴿برسولها﴾، عاد الضمير إلى لفظ أمة.
والمعنى: أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه ﴿وَجَادَلُوا﴾؛ أي: وخاصموا رسولهم ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ من القول الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلًا. قال في "فتح الرحمن": الباطل: ما كان فائت المعنى من كل وجه، مع وجود الصورة، إما لانعدام الأهلية، أو لانعدام المحلية، كبيع الخمر وبيع الصبي، انتهى. ﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾؛ أي: ليزيلوا بذلك الباطل، الحق الذي لا محيد عنه، كما فعل هؤلاء المشركون من قومك؛ أي: وخاصموا رسولهم بالباطل، بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها، كقولهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله تعالى، وليطفئوا النور الذي أوتيه.
قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا الإيمان ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ بالإهلاك جزاء لهمّهم بالأخذ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾؛ أي: عقابي الذي عاقبتهم به، فإن آثار دمارهم ترونها حين تمرون على ديارهم عبرة للناظرين، ولآخذنّ هؤلاء أيضًا لاتحادهم في الطريقة، واشتراكهم في الجريمة.
والاستفهام فيه (١) استفهام تعجيب من استئصالهم، واستعظام لما حل بهم، وليس استفهامًا عن كيفية عقابهم، واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة؛ لأنها فاصلة، والأصل: عقابي.
والمعنى (٢): فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم، فلم أبق منهم ديارًا ولا نافخ نار، وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين، كما قال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾
٦ - وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
123
الأمم المكذبة، المتحزبة على رسلهم، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به.. وجب أيضًا ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك؛ أي: كفروا ربك، وتحزبوا عليك، وهموا بما لم ينالوا، فالموصول عبارة عن كفار قومه - ﷺ -، وهم قريش، لا عن الأمم المهلكة.
وقوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ في حيز النصب بحذف لام التعليل، وإيصال الفعل؛ أي: كذلك حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من قومك؛ لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها، التي هي عذاب النار، وملازموها أبدًا لكونهم كفارًا معاندين، متحزبين على الرسول - ﷺ -، كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة، فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقًا، وأحق استيجابًا، فعلة واحدة تجمعهم، وهي أنهم أصحاب النار.
والمعنى (١): أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها، أن يحل بها عقابي.. وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك؛ لأن الأسباب واحدة، والعلة متحدة، وهي كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء، لإصلاح نظم العالم وسعادته في دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية، والسمو بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعًا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله تعالى.
وقيل: هو؛ أعني قوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ في محل الرفع على أنه بدل من ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ بدل الكل.
والمعنى عليه: أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار؛ أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال، كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة، فالتشبيه واقع بين حالتيهم، والجامع للطرفين: إيجاب العذاب، ومحل الكاف على كلا التقديرين، النصب، على أنه نعت لمصدر محذوف، وفي الآية إشارة إلى أن الإصرار مؤد إلى الأخذ والانتقام في الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يرجع إلى الله، ويتوب ويتعظ بغيره، قبل أن يتعظ الغير به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه.
(١) روح البيان.
124
به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه.
وفي مصحف عبد الله (١): ﴿وكذلك سبقت﴾ وهو تفسير معنى، لا قراءة، وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر: ﴿كلمات﴾ على الجمع، وأبو رجاء وقتادة وباقي السبعة: على الإفراد.
٧ - ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله، فقال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ والموصول: مبتدأ، ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾: معطوف على ﴿الَّذِينَ﴾: وخبر المبتدأ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن تكون من في محل نصب عطفًا على ﴿الْعَرْشَ﴾، والأول أولى. ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل، متلبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: بربهم إيمانًا حقيقًا بحالهم، والتصريح به مع إغناء ما قبله عن ذكره، لإظهار فضيلة الإيمان، وإبراز شرف أهله، وقد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.
وقال بعضهم (٢): أشار بالإيمان إلى أنهم في مرتبة الإدراك بالبصائر، محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار، كحال البشر ما داموا في موطن الدنيا، وأما في الجنة.. فقيل: لا يراه الملائكة، وقيل: يراه منهم جبريل خاصة مرةً واحدة، ويراه المؤمنون من البشر في الدنيا بالبصائر، وفي الآخرة بالأبصار؛ لأن قوله ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ قد استثني منه المؤمنون، فبقي على عمومه في الملائكة والجن، وذلك لأن استعداد الرؤية إنما هو لمؤمني البشر؛ لكمالهم الجامع ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ استغفارهم: شفاعتهم وحملهم على التوبة، وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم، وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة، وإن تخالفت الأجناس؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
وقال أبو حيان: فإن قلت: ما فائدة قوله: ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟
قلت: فائدته: إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه، كما وصف
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
125
الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك. انتهى.
والمعنى (١): إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله، ينزهون الله تعالى متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو، ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به، من توحيد الله، والبراءة من كل معبود سواه.
ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم، من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته، ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة، فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذي العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه وتوسطهم في نفاذ أمره.
ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين، فقال حاكيًا عنهم: ﴿رَبَّنَا﴾ فهو على (٢) تقدير القول على أنه بيان لاستغفارهم؛ أي: يقولون: ربنا، أو على أنه حال؛ أي: يستغفرون للذين آمنوا قائلين: ربنا ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ نصب كل من ﴿رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ على التمييز المحول عن الفاعل؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، والمراد: أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وتقديم الرحمة على العلم، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقًا من الرحمة؛ لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي "عين المعاني": ملأت كل شيء نعمةً وعلمًا به، قال بعضهم: دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه؛ لأن كل موجود له رحمة دنيوية ألبتة، وأقلها الوجود، وللشيطان إنظار إلى يوم الدين، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك. ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ عن الشرك والمعاصي ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾؛ أي: تمسكوا بدينك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. و ﴿الفاء﴾ فيه: لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، فما بعد ﴿الفاء﴾ مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم، إذ المعنى: فاغفر للذين علمت منهم التوبة من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
126
الكفر والمعاصي، واتباع سبيل الإيمان والطاعة.
وفيه: إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى. ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: واحفظهم من عذاب جهنم، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد، وذلك لأن معنى الغفران: إسقاط العذاب، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة، فلا بدّ من الثبات عليها، وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة، وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.
والمعنى (١): فاصفح عن المسيئين إذا تابوا، وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية، بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدل القول لديك، قال مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية.
قيل (٢): هذا الاستغفار في مقابلة قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فلما صدر هذا منهم أولًا.. تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم، وهو كالتنبيه لغيرهم، على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه، أن يستغفر له، وعلى كل مَنْ آذى غيره، أن يَجْبُرَهُ بإيصال نفع إليه، ذكره في "المراح".
٨ - ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ﴾ عطف على ﴿وَقِهِمْ﴾ وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار، وهو رفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾؛ أي: بساتين إقامةٍ وخلودٍ ﴿الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ إياها، وقد وعد الله تعالى بأن يدخل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، جنات عدن، إما ابتداءً، أو بعد أن يعذبهم بقدر عصيانهم.
وروي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة، يدخلها النبيون وأئمة العدل، فعلى هذا
(١) المراغي.
(٢) المراح.
127
يكون ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: موضع أهل الخصوص لا أهل العموم، ومثلها: الفردوس، إذ لكل مقام عمل يخص به، فإذا كان العمل أخص وأرفع.. كان المقام أرقى وأعلى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿جَنَّاتِ﴾ جمعًا، وزيد بن علي والأعمش ﴿جنة عدن﴾ بالإفراد، وكذا في مصحف عبد الله.
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ في محل النصب عطفًا على الضمير في ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾.
والمعنى: وأدخل معم من صلح من هؤلاء صلاحًا مصححًا لدخول الجنة في الجملة، وإن كان دون صلاح أصولهم، وذلك ليتم سرورهم، ويتضاعف ابتهاجهم، وفيه إشارة إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته؛ لينالوا بها الجنة ونعيمها.
وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿صلح﴾ بضم اللام، يقال: صلح فهو صليح، وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى: ﴿وذريتهم﴾ بالإفراد، والجمهور: بالجمع.
والمعنى (٢): أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية؛ لتقر بهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور، يكون أكمل للبهجة وأتم للانس.
قال سعيد بن جبير: يدخل المؤمن الجنة فيقول: يا رب، أين أبي وجدي وأمي، وأين ولدي وولد ولدي. وأين زوجاتي؟ فيقال: إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؟ فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم تلا: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ ويقرب من هذه الآية قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا كان يوم القيامة.. نودي في أطفال المسلمين: أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، فينادى فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: يا ربنا، ووالدينا معنا، فينادى فيهم الثانية: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: ووالدينا معنا، فيبتسم
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
128
الرب تعالى، فيقول: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم".
﴿إِنَّكَ﴾ يا ربنا ﴿أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ما ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة، من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد والوفاء به
٩ - ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي (١): واحفظهم عما يسوْءُهم يوم القيامة، وادفع عنهم العقوبات؛ لأن جزاء سيئة سيئة، فتسميتها سيئة. إما لأن السيئة اسم للملزوم، وهو الأعمال السيئة، فأطلق على اللازم، وهو جزاؤها، أو المعنى: قهم جزاء السيئات، على حذف المضاف، على أن ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ بمعنى الأعمال السيئة، وهو تعميم بعد تخصيص، لقوله: ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أو عذاب القبر وموقف القيامة والحساب والسؤال والصراط ونحوها، أو مخصوص بمن صلح من الأتباع، والأول دعاء للأصول، قال أبو السعود: والضمير في ﴿وَقِهِمْ﴾: راجع للمعطوف، وهو الآباء والأزواج والذرية.
﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم القيامة ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ ونجيته من عذابك؛ لأن (٢) المعافى من العذاب مرحوم، ويجوز أن يكون المراد بـ ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ الأولى: المعاصي في الدنيا، فمعنى قوله: ﴿وَمَنْ تَقِ....﴾ إلخ؛ أي: ومن تقه المعاصي في الدنيا.. فقد رحمته في الآخرة، كأنهم طلبوا لهم السبب بعدما سألوا المسبب ﴿وَذَلِكَ﴾ المذكور من الرحمة والوقاية ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز أجمل منه، والظفر الجسيم الذي لا مطمع وراءه لطامع؛ إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكًا لا تصل العقول إلى كنه جلاله.
١٠ - ولما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار.. ذكر أحوالهم بعد دخول النار، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسله ﴿يُنَادَوْنَ﴾؛ أي: تناديهم الملائكة، وهم خزنة جهنم من مكان بعيد، تنبيهًا على بعدهم عن الحق: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾ جواب قسم محذوف، والمقت: البغض
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
129
الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء، ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ لدلالة المقت الثاني عليه، والمعنى: والله لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء ﴿أَكبَرُ﴾ وأشد ﴿مِنْ مَقْتِكُمْ﴾ وبغضكم ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ الأمارة بالسوء، وذلك أن الكفار يمقتون في جهنم أنفسهم الأمارة بالسوء، التي وقعوا بها فيما وقعوا فيه من العذاب المخلد باتباع هواها؛ أي: يغضبون عليها حتى يأكلوا أناملهم، ويبغضونها أشد البغض، وينكرونها أشد الإنكار، ويظهرون ذلك على رؤوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة من مكان بعيد.
والظرف في قوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ في الدنيا من جهة الأنبياء ﴿إِلَى الْإِيمَانِ﴾ فتأبون قبوله ﴿فَتَكْفُرُونَ﴾ بالله تعالى وتوحيده، اتباعًا لأنفسكم، ومسارعة إلى هواها.. متعلق بالمقت الأول، ولا يقدح فيه وجود الخبر في "العين"؛ لأنَّ في الظروف اتساعًا.
والمعنى: إن الذين كفروا تناديهم الملائكة يوم القيامة، وهم يتلظون النار، ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيء الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار، والله إن مقت الله إياكم في الدنيا حين تدعون إلى الإيمان، فتكفرون، أشد من مقتكم أنفسكم اليوم، وأنتم على هذه الحال.
وقال الأخفش: ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾: لام الابتداء، دخلت على معمول خبر ﴿إنَّ﴾. وقيل: الظرف في قوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: اذكروا إذ تدعون في الدنيا.
والخلاصة (١): أن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الايمان في الدنيا فتركوه، وأبو أن يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة. قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.
(١) المراغي.
130
١١ - ثم ذكر ما يقولونه حين ينادون بهذا النداء، فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الكفرة حين خوطبوا بهذا الخطاب: ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا ربنا ويا مالك أمرنا ﴿أَمَتَنَا﴾ إماتتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾؛ أي: جعلتنا نطفًا لا حياة لنا في أصلاب آبائنا، وجعلتنا أمواتًا بانقضاء آجالنا ﴿وَأَحْيَيْتَنَا﴾ إحياءَتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾؛ أي: إحياءةً بنفخ الروح فينا في بطن أمهاتنا، وإحياءةً بالبعث من قبورنا، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾. ووجه هذا القول: أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، ولا يلزم منه أن لا عذاب في القبر، ولا حياة ولا موت، فإنهم إنما لم يذكروها؛ لأن حياة القبر ليست كحياة الدنيا، ولا كحياة الآخرة، كما في "الأسئلة المقحمة". وقد ذهب إلى هذا المعنى جمهور السلف.
وقيل المعنى (١): أمتنا إماتتين اثنتين: مرةً بقبض أرواحنا، ومرةً بعدما سألنا منكر ونكير في القبور، وأحيَيتنا إحياءَتين اثنتين مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور ومرةً عند البعث، وهذا أنسب بحالهم، فإنَّ مقصودهم تعديد أوقات البلاء، وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة، فهذه الأربعة أوقات المحنة؛ فأما الحياة في الدنيا، فليست من أقسام أوقات البلاء، فلهذا السبب لم يذكروها.
وقال ابن زيد: المراد بالآية: أنهم خلقهم في ظهر آدم، واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم.
وحاصل المعنى على القول الأول: أي قالوا: ربنا خلقتنا أمواتًا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أولًا بنفخ الأرواح فينا، ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث. نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -، وجعلوا ذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا...﴾ الآية.
ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا، فقال حاكيًا عنهم: ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾ التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل،
(١) المراح.
والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ﴾ لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ أي: من طريق؛ أي: فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ فإنك قادر على ذلك، وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيرًا أو تعللًا: عسى أن يتاح لهم الفرج، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)﴾ وقوله: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)﴾
١٢ - فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض البات مع ذكر السبب، فقال: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي أنتم فيه من العذاب، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿بِأَنَّهُ﴾؛ أي: بسبب أن الشأن ﴿إِذَا دُعِيَ اللَّهُ﴾ في الدنيا؛ أي: عبد ﴿وَحْدَهُ﴾ أي: حال كونه منفردًا، فهو في موضع الحال من الجلالة.. ﴿كَفَرْتُمْ﴾ بتوحيده؛ أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب كائن بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره.. كفرتم به وتركتم توحيده ﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ﴾ غيره من الأصنام أو غيرها ﴿تُؤْمِنُوا﴾ بالإشراك به، وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهذه الجملة علة لمحذوف، تقديره: فأجيبوا بأنه لا سبيل إلى رجوعكم إلى الدنيا، ولا إلى خروجكم من النار؛ لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه؛ لأنكم كنتم فيها إذا دعي الله وحده... كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصةً، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا، كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم، فقال: ﴿فَالْحُكْمُ﴾ حينئذ ﴿لِلَّهِ﴾ وحده دون غيره الذي لا يحكم إلا الحق، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها ﴿الْعَلِيِّ﴾؛ أي: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا في صفاته ﴿الْكَبِيرِ﴾ الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك، إذ ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ولا نهاية لعقوبته، فلا سبيل لكم إلى الخروج من النار أبدًا، إذ أشركتم به سواه.
وكأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذه الآية (١)، وقيل للخوارج: حرورية؛ لتجليتهم بحروراء واجتماعهم فيها، وهي كحلولاء، وقد تقصر، قرية بالكوفة، والخوارج: قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن طاعة علي - رضي الله عنه - عند التحكيم بينه وبين معاوية، وذلك أنه لما طالت محاربة على ومعاوية.. اتفق الفريقان على التحكيم إلى أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - في أمر الخلافة، وعلي - رضي الله عنه - ارتضى بما يريانه، فقال القوم المذكور: إن الحكم إلا لله، فقال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل، وكانوا اثني عشر ألف رجلٍ أنكروا الخلافة، واجتمعوا ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الداء وقطعوا السبيل، ، فخرج إليهم علي - رضي الله عنه - وأمرهم بالرجوع فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان، هي كزعفران، بليدة قديمة بالقرب من بغداد، فقتلهم واستأصلهم ولم ينج منهم إلا قليل، وهم الذي قال - ﷺ - في حقهم: "يخرج قوم من أمتي في في آخر الزمان، يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم، وصومه في جنب صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم".
والحاصل: أن الخوارج من الفرق الضالة لفسادهم في الاعتقاد، وبإنكار الحق وفساد الاعتقاد، ساء حال أكثر العباد في أكثر البلاد، خصوصًا في هذه الأعصار، فعلى العاقل أن يجيب دعوة الله ودعوة رسوله قولًا وعملًا وحالًا واعتقادًا، حتى يفوز بالمرام، ويدخل دار السلام، ولا يكون كالذين أرادوا أن يتداركوا الحال بعد مضي الفرصة.
١٣ - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كبريائه وعظمته، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: دلائل قدرته وشواهد وحدته في الأنفس والآفاق، رعايةً لمصالح أديانكم، وفيه إشارة إلى أن ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق الأشياء، إلا بإراءة الحق تعالى إياه.
﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾؛ أي: سبب رزق، وهو المطر مراعاةً لمصالح أبدانكم، فإن آيات الحق بالنسبة إلى حياة الأديان بمنزلة الأرزاق بالنسبة إلى حياة
(١) روح البيان.
الأبدان.
والمعنى: أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في العالم العلويّ والسفلي من الآيات العظام، الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرّده بالألوهية، كما قال:
وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ تدلُّ على أنَّه واحدُ
ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو المطر فقال: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾؛ أي: وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشته بأبدع الحلي والمناظر.
وقرأ الجمهور: ﴿يُنَزِّلُ﴾ بالتشديد من نزل المضاعف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتخفيف، من أنزل الرباعي.
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ﴾ ويتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة، فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد ﴿إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ ويرجع إلى طاعة الله وتوحيده عن الإنكار به، ويتفكَّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونعمته الشاملة، الظاهرة والباطنة، الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى، ومن ليس كذلك وهو المعاند، فهو بمعزل من التذكر والاتعاظ.
والخلاصة: أن دلائل التوحيد مركوزة في العقول، لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه.. زال الغِطاء وظفر بالفوز، وظهرت له سبيل النجاة.
١٤ - ولما ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد.. أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له، فقال: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾ والفاء: فيه للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه أيها المؤمنون، واعبدوه وحده حال كونكم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾؛ أي: مخلصين له دينكم وطاعتكم وعبادتكم التي أمركم بها، من الشرك، والالتفات إلى ما سواه بموجب إنابتكم إليه، وإيمانكم به، وخالفوا
المشركين في مسلكهم ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ إخلاصكم وغاظهم إنابتكم إلى ربكم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
وقد ثبت في "الصحيح" عن عبد الله بن الزبير - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - ﷺ - كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاهٍ".
١٥ - وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق.. ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته، فقال:
١ - ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾؛ أي: هو سبحانه أرفع الموجودات وأعظمها شأنًا؛ لأن كل شيء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وأنه أزلي أبدي، ليس لوجوده أول ولا آخر، وأنه العالم بكل شيء.
٢ - ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر ثان عن المبتدأ المتقدم؛ أي: هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات، وكذلك قوله:
٣ - ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ خبر ثالث، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، والرفيع: صفة مشبهة، أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور، وتفسيره بالرافع؛ ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، بعيد في الاستعمال كما في "الإرشاد".
والمعني: رفيع الصفات والأفعال عن كل ما لا يليق به ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ العظيم أي: مالك العرش وخالقه ومدبره، فهو مستول على معالم الأجسام، وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح، وهي مسخرة له، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ﴾ وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك.. فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ
135
مِنْ أَمْرِهِ} في محل رفع على أنها خبر رابع للمبتدأ المتقدم، أو هي خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وسبحانه وتعالى يلقي الوحي بقضائه وإرادته ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه، وسمي الوحي روحًا؛ لأن القلوب تحيا به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالروح.
والمعنى (١): ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد، فكما أن الروح سبب لحياة الأجسام، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب، فإن حياة القلوب إنما هي بالمعارف الإلهية الحاصلة بالوحي، فاستعير الروح للوحي؛ لأنه يحيى به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة، وقوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾، و ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء، أو لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف على أنه حال من الروح؛ أي: حال كونه ناشئًا، ومبتدأ من أمره تعالى.
وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ﴾: غاية للإلقاء؛ أي: لينذر الله تعالى، أو الملقى عليه أو الروح، والإنذار: دعوة إبلاغ مع تخويف.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لِيُنْذِرَ﴾ مبنيًا للفاعل ونصب اليوم، والفاعل: هو الله سبحانه، أو الرسول، أو من يشاء، والمنذر به: محذوف تقديره: لينذر العذاب الواقع ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ وقرأ أبي وجماعة: كذلك، إلا أنهم رفعوا ﴿يَوْمَ﴾ على الفاعلية مجازًا، وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب "اللوامح": ﴿ليُنذَر﴾ مبنيًا للمفعول، ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ الرفع، وقرأ ابن عباس والحسن واليماني: فيما ذكر ابن خالويه ﴿لتنذر﴾ بالتاء، فقالوا: الفاعل: ضمير الروح؛ لأنها تؤنث أو فيه ضمير المخاطب وهو الرسول، وقرىء: ﴿التَّلَاقِ﴾ و ﴿اْلتَّنَادِ﴾ بياء وبغير ياء، و ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: هو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد، وأهل السموات وأهل الأرض، والعابدون والمعبودون، والعاملون والأعمال، والأولون والأخرون، والظالمون والمظلومون، وأهل النار مع الزبانية.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
136
والمعنى: لينذر الله سبحانه، أو الرسول الموحى إليه الناس العذاب يوم القيامة.
١٦ - وقوله: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾؛ أي: لينذر الرسول الناس عذاب يوم هم خارجون من قبورهم، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ مستويةً، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون كما في الحديث: "يحشرون حفاةً عراةً غرلًا"؛ أي: لينذر الناس عذاب يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون يوم هم ظاهرون، لا يكنهم شيء ولا يسترهم شيء ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أعيانهم وأعمالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة ﴿شَيْءٌ﴾ ما مع كثرتهم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)﴾ وكانوا في الدنيا يتوهمون أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب.. فإن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم يومئذ لا يتوّهمون ذلك أصلًا، وهذه الجملة مستأنفة، مبنية لبروزهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ﴿بَارِزُونَ﴾ ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا للمبتدأ؛ أي: لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ يعني: يوم القيامة، جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال: لمن الملك اليوم؛ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ وقيل: ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟ فيجيب ذلك المنادي بعينه ويقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أو يجيبه أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم؛ لحصول العلم الضروري بالوحدانية للكافر أيضًا، لكن الكافر يقوله صغارًا وهوانًا وعلى سبيل التحسر والندامة، والمؤمن ابتهاجًا وتلذذًا.
وهذا يسمى سؤال التقرير، فإن قلت: كيف خص ذلك بيوم مخصوص، والملك لله في جميع الأيام والأوقات.
قلت: هو وإن كان لله في جميع الأيام، إلا أنه سبحانه ملك عباده في الدنيا،
ثم تكون دعاويهم منقطعة يوم القيامة، لا يدعي مدع مُلكًا ومِلكًا يومئذ، ولذا قال - سبحانه وتعالى -: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾.
والمعنى على الأول: أي يقول الرب تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه، فيقول ﴿لِلَّهِ﴾؛ أي: هو ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله، الذي لا مثل له ولا ند ﴿الْقَهَّارِ﴾ لكل شيء سواه بقدرته، الغالب بعزته.
١٧ - وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم.. أردفها ببيان صفات عدله وفضله، فقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ من تمام الجواب على القول: بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم، فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم؛ أي: يقول الله سبحانه في هذا اليوم الرهيب: تجزى كل نفس من النفوس المكلفة، برةً أو فاجرةً بما كسبت من خير أو شر، لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص ثواب، أو زيادة عذاب.
والمعنى: أي اليوم يثاب كل عامل بعمله فيلاقي أجره، ففاعل الخير يجزى الخير، وفاعل الشر يجزى بما يستحق، ولا يبخس أحد ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا، فينقص منه إن كان محسنًا، ولا يحمل على مسيء إثم ذنب لم يعمله.
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ -، فيما يحكيه عن ربه - عزَّ وجلَّ -: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظَّالموا" إلى أن قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا.. فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك.. فلا يلومن إلا نفسه".
ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاءٍ، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسًا واحدة، لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، ويصل إليهم ما يستحقونه سريعًا، فالجملة: تعليل لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ إلخ. فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاق ويوم البروز، ربما يوهم استبعاد وقوع الكل فيه.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يعصَ الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿الْحِسَابِ﴾، ونحو الآية قوله ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾.
١٨ - ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: وخوف يا محمد مشركي قومك ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾؛ أي: عذاب يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب و ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: منصوب على أنه مفعول به لـ ﴿أنذرهم﴾؛ لأنه المنذر به، و ﴿الْآزِفَةِ﴾: فاعلة من أزف الأمر على وزن علم، إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة؛ لأزوفها، وهو القرب؛ لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده.
وفي الحديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين، إن كادت لتسبقني" والإشارة بهاتين: إلى السباسة والوسطى؛ يعني أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان، مقدار فضل الوسطى على السبابة، شبه القرب الزماني بالقرب المساحي؛ لتصوير غاية قرب الساعة.
وجملة قوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ فإن القلوب ترتفع عن أماكنها من شدة الفزع، فتكون عند الحناجر، جمع حنجرة، وهي: الحلقوم؛ أي: وأنذرهم يوم الآزفة، إذ تزول القلوب عن أماكنها، وترتفع من شدة الفزع إلى الحلقوم، فتلتصق بها، فلا تعود إلى أماكنها، فيستروحوا ويتنفّسوا ولا تخرج فيستريحوا بالموت، وقيل: ينتفخ السحر؛ أي: الرئة؛ خوفًا، فيرتفع القلب إلى الحنجرة حال كون أصحاب تلك القلوب ﴿كَاظِمِينَ﴾؛ أي: مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويظهروا خوفهم، فهو حال من أصحاب القلوب على المعنى، إذ الأصل إذ قلوبهم لدى حناجرهم، بناء على أن التعريف اللامي بدل من التعريف الإضافي، يقال: كظم غيظه: إذا ردّ غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر.
والمعنى: حال كونهم كاظمين صابرين على الغم والكربة، ساكتين حال
امتلائهم بهما؛ يعني لا يمكنهم أن ينطقوا ويصرّحوا بما عندهم من الحزن والخوف من شدة الكربة وغلبة الغمّ عليهم، فقوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾: تقرير للخوف الشديد، وقوله: ﴿كَاظِمِينَ﴾: تقرير للعجز عن الكلام، فإن الملهوف إذا قدر على الكلام، وبث الشكوى.. حصل له نوع خفة وسكون، وإذا لم يقدر عظم اضطرابه واشتدّ حاله.
والخلاصة: أن ذلك اليوم يعظم فيه الخوف، حتى يخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هي ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم، فيموتوا.
ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد، فقال: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: ما للكافرين في ذلك اليوم ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: قريب مشفق ﴿وَلَا﴾ من ﴿شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾؛ أي (١): ولا من شفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معًا، وعلى أن يطاع مجاز عن يجاب وتقبل شفاعته؛ لأن المطيع في الحقيقة يكون أسفل حالًا من المطاع، وليس في الوجود من هو أعلى حالًا من الله تعالى، حتى يكون مطاعًا له تعالى، وفي الآية بيان أن لا شفاعة في حق الكفار؛ لأنها وردت في ذمهم، وإنما قال: ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ موضع للكافرين، وإن كان أعم منهم ومن غيرهم من العصاة بحسب الظاهر، تسجيلًا لهم بالظلم، ودلالة على اختصاص انتفاء كل واحد من الحميم والشفيع المشفع بهم، فثبت أن لعصاة المسلمين حميمًا وشفيعًا، وهو النبي - ﷺ - وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين والملائكة أجمعين.
والمعنى (٢): أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطّعت بهم الأسباب من كل خير.
١٩ - ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء، فقال: ﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾؛ أي: النظرة الخائنة للأعين، وإسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر، أو المعنى: يعلم سبحانه خائنة الأعين؛ أي: خيانة الأعين واستراقها النظر على أنها مصدر كالعافية، كقوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: خيانة منهم، والخيانة: مخالفة الحق، بنقض العهد في السر، ونقيضها الأمانة، والمراد هنا: استراق النظر إلى غير المَحْرم، كفعل أهل الريب والنظرة الثانية إليه.
وفي الخبر: "يا ابن آدم، لك النظرة الأولى معفوة" لوقوعها مفاجأةً دون الثانية، لكونها مقارنة للقصد وهي منْ قبيل زنى النظر، وذلك لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنةً.
والمعنى: أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده، وما نظرت به إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب.
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: في الآية هي الرجل يكون في القوم، فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غضوا.. نظر إليها، وإذا نظروا.. غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها. أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.
وقال الشوكاني: ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ (١): هي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهذه الجملة خبر آخر لقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ﴾؛ قال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير؛ أي: يعلم الأعين الخائنة، وقال قتادة: ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: الغمز بالعين فيما لا يحب الله، وقال الضحاك: هو قول الإنسان: ما رأيت وقد رأى، ورأيت وما رأى، وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة، والأول: أولى، وبه قال مجاهد. اهـ.
﴿و﴾ يعلم سبحانه ﴿مَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ والقلوب من الضمائر وتسره من معاصي الله؛ أي: لا يخفى عليه شيء من أمورهم، حتى ما يحدّثون به أنفسهم، وتضمره قلوبهم خيرًا كان أو شرًا، فقوله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
٢٠ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يَقْضِي﴾؛ أي: يحكم ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، ففيه تشديد لخوف المكلف.
والمعنى (٢): أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
الصدور من النوايا، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزي الذين رددوا النظر وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾؛ أي: يعبدونهم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى، وهم الأصنام والأوثان ﴿لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا، ولا يقدرون على شيء. وفي "الإرشاد": هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال في حقه: يقضي ولا يقضي.
والمعنى: أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك، لا يقضون بشيء؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا ولا يقدرون على شيء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَدْعُونَ﴾ بياء الغيبة؛ لتناسب ضمائر الغيبة قيل: يعني: يدعو الظالمون، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وشيبة وهشام: بالفوقية على الخطاب لهم؛ أي: قل لهم يا محمد والذين تدعون من دونه ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿العَلِيمُ﴾ بأحوالهم وأفعالهم، فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية؛ أي: إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل شيء ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعًا يوم الجزاء، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله تعالى، وهذا تقرير (٢) لعلمه تعالى بخائنة الأعين، وقضائه بالحق، فإن من يسمع ما يقولون ويبصر ما يفعلون، إذا قضى.. قضى بالحق، ووعيد لهم على ما يفعلون ويقولون، وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فإنهم عارون عن التلبس بهاتين الصفتين، فكيف يكونون معبودين؟
٢١ - ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة.. أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿الهمزة﴾: فيه: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن شدة
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
بأس الله، ولم يسيروا في نواحي الأرض وأرجائها ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ يجوز أن يكون مجزومًا بالعطف على ﴿يَسِيرُوا﴾ وأن يكون منصوبًا على أنه جواب الاستفهام ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كيف كان حال من قبلهم، ومآلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد وثمود وأضرابهم، وكانت ديارهم ممر تجار قريش ﴿كَانُوا﴾؛ أي: كان الذين من قبلهم ﴿هُمْ أَشَدَّ﴾ وأكثر ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من مشركي مكة ﴿قُوَّةً﴾؛ أي: قدرةً وتمكنًا من التصرفات.
وإنما (١) جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه.
وقرأ الجمهور: ﴿أَشَدُّ مِنْهُمْ﴾ بالغيبة، وقرأ ابن عامر ﴿أشد منكم﴾ على الالتفات.
﴿و﴾ أكثر ﴿آثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ مثل: القلاع الحصينة والمدن المتينة ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: عاقبهم وأهلكهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: للأمم المكذبة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من عذاب الله تعالى ﴿مِنْ وَاقٍ﴾ يقيهم وحافظ يحفظهم ودافع يدفع عنهم العذاب. وقرأ ابن كثير: ﴿واقي﴾ بالياء في الوقف
٢٢ - ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من الأخذ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة والحجج الواضحة ﴿فَكَفَرُوا﴾ بما جاؤوهم به وكذّبوا رسلهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى أخذًا عاجلًا ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿قَوِيٌّ﴾؛ أي: متمكن مما يريد غاية التمكن ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لأهل الشرك، لا يعتبر عقاب دون عقابه، فهؤلاء المشركون من أهل مكة قد شاهدوا مصارعهم وآثار هلاكهم، فباي وجه أمنوا أن يصيبهم مثل ما أصابهم من العذاب، أو المعنى: أنه قوي على الانتقام من الأعداء للأولياء، شديد العقاب في الانتقام من الأعداء. وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ...﴾ الآية. فإن قلت: لم قال هنا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ بضمير الجمع، وفي التغابن: بإفراده، حيث قال هناك: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا....﴾ الآية؟
(١) روح البيان.
143
قلت: جمع الضمير هنا؛ موافقة لما قبله في قوله: ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وأفرده ثم؛ لأنه ضمير الشأن، زيد توصلًا إلى دخول ﴿أن﴾ على ﴿كان﴾.
والحال: أن الله سبحانه (١) حذّر هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارًا، كعاد وثمود، والسعيد من وعظ بغيره، فقال واعظًا ومذكّرًا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد، فيروا عاقبة الذي كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشدّ منهم بطشًا، وأبقى في الأرض أثرًا، فلم تنفعهم شدة قواهم وعظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي، واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعًا، وصارت مساكنهم خاويةً بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم.
فائدة: وفي "شرح الأسماء" للزورقي: القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يمسّه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام، ومن عرف أن الله تعالى هو القوي.. رجع إليه عن حوله وقوته، وخاصيته: ظهور القوة في الوجود، فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة، ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك، ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة.. كان له ذلك، وكفي أمره.
الإعراب
﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤)﴾.
﴿حمَ (١)﴾ تقدم القول في إعراب فواتح السور، وأيسر ما فيها: أنها خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مسماة بـ ﴿حم (١)﴾، والخبر؛ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف على قراءة السكون، أو ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الزهري، والجملة: مستأنفة
(١) المراغى.
144
استئنافًا نحويًا. ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، خبره، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿الْعَزِيزِ﴾: صفة أولى للجلالة. ﴿الْعَلِيمِ﴾: صفة ثانية لها. ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾: صفة ثالثة. ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾: معطوف على ﴿غَافِرِ﴾. فإن قلت: لم زيدت الواو في هذه الصفة دون باقيها؟ قلت: زيدت هنا لإفادة الجمع بين رحمتي: مغفرة الذنب وقبول التوب. ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾: صفة رابعة. ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾: صفة خامسة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿إلَهَ﴾: اسمها، وخبرها: محذوف، تقديره: موجود. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُو﴾: بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة، أو حال لازمة من لفظ الجلالة. ﴿إليه﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل النصب حال من ضمير ﴿هُوَ﴾، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يُجَادِلُ﴾ فعل مضارع. ﴿فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المجادلين في آيات الله كفار.. فلا يغررك إمهالهم وتقلبهم في أسفارهم للتجارة المربحة، فإنهم مأخوذون بكفرهم. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَغرُرْكَ﴾: فعل مضارع ومفعول به، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾: فاعل. ﴿فِي الْبِلَادِ﴾: متعلق بـ ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض. ﴿قَبْلَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل. ﴿وَالْأَحْزَابُ﴾: معطوف على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: حال من ﴿الْأَحْزَابُ﴾، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿همت﴾. ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يأخذوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿همت﴾؛ أي: وهمت كل أمة برسولها إيقاعه
145
في الشر لأخذهم إياه وقتله. ﴿وَجَادَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿همت﴾ ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: متعلق بـ ﴿جادلوا﴾. ﴿لِيُدْحِضُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يدحضوا﴾: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يدحضوا﴾. ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جادلوا﴾؛ أي: جادلوا بالباطل لدحضهم الحق بالباطل. ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أخذتهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿جادلوا﴾، ﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كيف﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر كان مقدم عليها وجوبًا. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عِقَاب﴾: اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿كاَنَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أخذتهم﴾. ﴿وَكَذَلِكَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: حقًا مثل ما حق قضاءه، وحكمه بالتعذيب على الأمم المكذبة المذكورة ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾، ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿حَقَّتْ﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أنّ﴾: في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلًا من ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: بدل كل من كل؛ أي: حق على الذين كفروا كونهم من أصحاب النار.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧)﴾.
﴿اَلَذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ صلة الموصول. ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾: معطوف على الموصول، ﴿حَوْلَهُ﴾: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿يُسَبِّحُونَ﴾؛ أي: ملابسين بحمده تعالى. ﴿وَيُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُسَبِّحُونَ﴾، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يومنون﴾، ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف
146
منصوب حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء: في محل النصب مقول لقول محذوف، وقع حالًا من فاعل ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾؛ أي: حال كونهم قائلين ﴿رَبَّنَا﴾، ﴿وَسِعْتَ﴾: فعل وفاعل، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به. ﴿رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾: تمييزان محولان من فاعل ﴿وَسِعْتَ﴾؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف. ﴿فَاغفِر﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كانت رحمتك واسعةً، وعلمك واسعًا.. فنقول لك: ﴿اغفر﴾، (اغفر): فعل دعاء وفاعل مستتر، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق به، والجملة الدعائية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول للقول المحذوف، وجملة ﴿تَابُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿تَابُواْ﴾، ﴿وَقِهِمْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به أول معطوف على ﴿فَاغفِر﴾. ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾: مفعول ثان.
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، كرره للمبالغة في الجؤار. ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول. ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: مفعول ثان، والجملة: معطوفة على جملة ﴿قِهِمْ﴾ ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتِ﴾. ﴿وَعَدتهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة ﴿الَّتِي﴾، والعائد: محذوف، تقديره: إياها. ﴿وَمَن﴾، في قوله: ﴿وَمَنْ صَلَحَ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ضمير ﴿أدخِلْهُم﴾ أو على ضمير ﴿وَعَدْتَهُمْ﴾ والأول: أرجح، كما قاله الفراء. ﴿صَلَحَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿مِنْ آبَائِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿صَلَحَ﴾. ﴿وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾: معطوفان على ﴿آبَائِهِمْ﴾. ﴿إنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَنْتَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول للقول المحذوف.
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)﴾.
147
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿تَقِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿السَّيِّئَاتِ﴾: مفعول به. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿تَقِ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: مضاف. ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين. ﴿فَقَد﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿رَحِمْتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: مقول للقول المحذوف. ﴿وَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْفَوْزُ﴾: خبر. ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على ما قبلها، على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿يُنَادَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة. ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، أو لام قسم. ﴿مقت الله﴾: مبتدأ، ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر لفاعله، والمعفول به محذوف؛ أي: إياكم. ﴿أَكبَرُ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِنْ مَقْتِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَكبَرُ﴾ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: مفعول ﴿مَقْتِكُمْ﴾: وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يُنَادَوْنَ﴾ أو جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يُنَادَوْنَ﴾. ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿مقت الله﴾. ﴿تُدْعَوْنَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذْ﴾. ﴿إِلَى الْإِيمَانِ﴾: متعلق بـ ﴿تُدْعَوْنَ﴾. ﴿فَتَكْفُرُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿تكفرون﴾: فعل وفاعل
148
معطوف على ﴿تُدْعَوْنَ﴾. ﴿قَالُواْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَمَتَّنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول قالوا على كونها جواب النداء. ﴿اثْنَتَيْنِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مما ناب فيه العدد عن المصدر؛ أي: إماتتين اثنتين. ﴿وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة أيضًا؛ أي: إحياءَتين اثنتين. ﴿فَاعْتَرَفْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اعترفنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أحييتنا﴾، ﴿بِذُنُوبِنَا﴾: متعلق به. ﴿فَهَل﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿هل﴾: حرف استفهام. ﴿إِلَى خُرُوجٍ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾: ﴿من﴾ حرف جر زائد. ﴿سَبِيلٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿اعترفنا﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)﴾.
﴿ذَلكُم﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. ﴿أنه﴾: ناصب واسمه، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿دُعِيَ اللَّهُ﴾: فعل ماض ونائب فاعل، ﴿وَحْدَهُ﴾: حال من الجلالة، والجملة الفعلة: في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿كَفَرْتُمْ﴾: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: من فعل شرطها وجوابها: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾: وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلكم كائن بسبب كفرانكم توحيد الله تعالى وقت دعائه. ﴿وَإِن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿يُشْرَكْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط له. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يشُرَك﴾، ﴿تُؤْمنُواْ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾، ﴿فالحكم﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة؛ لأن هذا الكلام من جملة ما يقال لهم. ﴿الحكم﴾: مبتدأ. ﴿لله﴾: خبره، ﴿الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾: صفتان للجلالة، والجملة معطوفة على جملة قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ...﴾ إلخ؛ لأنها من جملة ما يقال لهم في الآخرة.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣)
149
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥)}.
﴿هُوَ اْلَذِى﴾: مبتدأ وخبر ﴿يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأنه من رأي البصرية، تعدى بالهمزة إلى مفعولين، والجملة: صلة الموصول، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتعليل كون الحكم لله تعالى. ﴿وَيُنَزِّلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يُرِيكُمْ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿ينزل﴾ وكذلك ﴿لَكمُ﴾. ﴿رِزْقًا﴾: مفعول به. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَتَذَكَّرُ﴾: فعل مضارع. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية أو حال من ضمير المخاطبين، وجملة ﴿يُنِيبُ﴾: صلة الموصول، ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم ﴿ادْعُوا اللَّهَ﴾. ﴿ادْعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به. ﴿مُخْلِصِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادعوا﴾. ﴿لَه﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾. ﴿الدِّينَ﴾: مفعول ﴿مُخْلِصِينَ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف، تقديره: إخلاصكم أو دعوتكم، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجوابها محذوف دل عليه السياق، تقديره: ولو كره الكافرون فادعوه: وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: معطوفة على جملة شرط محذوف، تقديرها: إن رضي الكافرون دعوتكم.. فادعوه وإن كره الكافرون.. فادعوه والجملة المحذوفة: في محل النصب حال من فاعل: فادعوا؛ أي: ﴿فَادْعُوُه﴾ حال كونكم سواء عليكم رضاؤهم وكراهتهم. ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو سبحانه رفيع الدرجات، والجملة: مستأنفة. ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿يُلْقِي الرُّوحَ﴾ خبر ثالث ﴿يُلْقِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿الرُّوحَ﴾: مفعول به، والمراد بـ ﴿الرُّوحَ﴾ هنا: الوحي ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾: حال من ﴿الرُّوحَ﴾؛ أي: حال كونه ناشئًا ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾. ﴿عَلَى مَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: على من يشاؤه
150
﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: حال من العائد المحذوف. ﴿لِيُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿ينذر﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، أو على الرسول، ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: مفعول به على التوسع ومضاف إليه، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لإنذاره الناس عذاب ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾. والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾.
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: بدل كل من كل منصوب على المفعولية. ﴿هُمْ بَارِزُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل الجر بإضافة ﴿يَوْمَ﴾ إليه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَخْفَى﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من ﴿شَيْءٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَيْءٌ﴾: فاعل ﴿يَخْفَى﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير ﴿بَارِزُونَ﴾. ﴿لِمَنِ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر. ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الجر بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور: خبر مقدم. ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿الْمُلْكُ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الرب سبحانه لهم ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ وجملة القول المحذوف: مستأنفة، أو حال من الجلالة؛ أي: لا يخفي على الله منهم شيء حال كون الله قائلًا لهم: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ ﴿لِلَّهِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الملك كائن لله سبحانه. ﴿الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾: صفتان للجلالة، والجملة الاسمية: مقول لقول محذوف، تقديره: ويقول الرب أيضًا في الجواب: الملك ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ وجملة القول المحذوف: معطوفة على القول المحذوف قبله، وقال الزمخشري: ينادي منادٍ فيقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فيجيبه أهل المحشر: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تُجْزَى﴾، ﴿تُجْزَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية من تتمة المقول للقول المحذوف سابقًا. ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: موصولة أو مصدرية، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُجْزَى﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: بما كسبته أو لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: بكسبها، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: جزاء ما
151
كسبته. ﴿لا﴾: نافية للجنس. ﴿ظُلْمَ﴾: اسمها. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف خبر ﴿لَا﴾، تقديره: لا ظلم كائن اليوم، وجملة ﴿لَا﴾: من اسمها وخبرها من تتمة القول المحذوف. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل عدم الظلم؛ أي: إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب، فهو سريع في حسابه، عادل في حكمه.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨)﴾.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أنذرهم﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿إِذِ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: بدل كل من كل. ﴿الْقُلُوبُ﴾: مبتدأ ﴿لَدَى﴾: منصوب على الظرفية بفتحة مقدرة. ﴿الْحَنَاجِرِ﴾: مضاف إليه، والظرف: متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: إذ القلوب مرتفعة لدى الحناجر، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذِ﴾، ﴿كَاظِمِينَ﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر، وعوملت ﴿الْقُلُوبُ﴾ في جمعها بالياء والنون معاملة أصحابها؛ أي: حال كون أصحابها ﴿كَاظِمِينَ﴾. ﴿مَا﴾: نافية، تميمية أو حجازية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: خبر مقدم أو خبر لـ ﴿مَا﴾ الحجازية مقدم على اسمها. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿حَمِيمٍ﴾: مبتدأ مؤخر أو اسمها مؤخر. ﴿وَلَا شَفِيعٍ﴾: معطوف على ﴿حَمِيمٍ﴾ وجملة ﴿يُطَاعُ﴾: صفة لـ ﴿شَفِيعٍ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب حال من أصحاب ﴿الْقُلُوبُ﴾ أيضًا، وقوله: ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ إظهار في مقام الإضمار؛ أي: حالة كونهم عادمي ﴿حَمِيمٍ﴾ ينفعهم وعادمي ﴿شَفِيعٍ﴾ يقبل في حقهم.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: مفعول به، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الأعين الخائنة، والجملة الفعلية: خبر رابع للمبتدأ المحذوف الذي أخبر عنه بـ ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ وما بعده، أو هو خبر من أخبار ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ﴾ أو حال لازمة من ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. ﴿وَمَا﴾: اسم
152
موصول في محل النصب معطوف على ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾. ﴿تُخْفِي الصُّدُورُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: تخفيه الصدور ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿اللهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَقْضِي﴾: خبره. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضِي﴾ أو حال من فاعل ﴿يَقْضِي﴾. والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمُ﴾ عطف اسمية على فعلية. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَدْعُونَ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يدعونهم. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، وجملة ﴿لَا يَقْضُونَ﴾: خبر المبتدأ. ﴿بِشَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضُونَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾: خبران لـ ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن انتقام الله سبحانه من الأمم المكذبة للرسل، ولم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَسِيرُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، و ﴿الواو﴾: فاعل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ينظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: اسمها، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب ساد مسد مفعول ﴿ينظروا﴾: معلق عنها باسم الاستفهام. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانُوا﴾: وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة الموصول. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿هُمْ﴾ ضمير فصل ﴿أَشَدَّ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَشَدَّ﴾، ﴿قُوَّةً﴾: تمييز محول عن اسم ﴿كَانَ﴾، ﴿وَآثَارًا﴾: معطوف على ﴿قُوَّةً﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة لـ ﴿آثارا﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة، وجاز دخول ضمير الفصل بين معرفة ونكرة، وهو لا يقع إلا بين معرفتين؛ لأن النكرة هنا وهي ﴿أَشَدَّ﴾ بمثابة المعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها؛ لأن اسم التفضيل
153
المقرون بـ ﴿مِنَ﴾ لا تدخل عليه أل. ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أخذهم الله﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَانُوا﴾. ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أخذهم﴾ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَهُمْ﴾: خبر كان مقدم. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَاقٍ﴾. ﴿مِنَ﴾: زائدة ﴿وَاقٍ﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿كَانَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أخذ﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿أنهم﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَتْ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على الرسل. ﴿تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿تَأْتِيهِمْ﴾ والجملة الفعلية: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مجرور بالياء، والتقدير: ذلك الأخذ والعذاب كائن بسبب إتيان رسلهم بالبينات وكفرهم بها. ﴿فَكَفَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كفروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَانَتْ﴾. ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره الأول، ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره.
﴿قابل التوب﴾ والقابل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، وقبلتُ عذره وتوبته وغير ذلك، والتوب: مصدر، كالتوبة وهو ترك الذنب على أحد الوجوه كما مر. وفي "المختار": التوبة: الرجوع عن الذنب، وبابه: قال، يقال: تاب يتوب توبًا وتوبة أيضًا، وقال الأخفش: والتوب: جمع توبة، كدوم ودومة، اهـ.
﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ والطول: الفضل والزيادة والإنعام الواسع، وفي "الصحاح": والطول بالفتح: المن، يقال منه: طال يطول - من باب قال - إذا امتن عليه. وقال
154
الماوردي: الفرق بين المن والفضل: أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق، والطَّول: مأخوذ من الطَّول، كأنه طال بإنعامه على غيره، وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. اهـ.
﴿الْمَصِيرُ﴾: المرجع، وأصله: المصير، بوزن المفعل بكسر العين؛ لأنه من يفعِل المكسور العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: من جدلت الحبل، أحكمت فتله، فإن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ والغرة: غفلة في اليقظة، قال في "المفردات": التقلب: التصرف، وقال الراغب: البلد: المكان المحدود، المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه: بلاد وبلدان.
﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾ قصدت، والهم: عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر.
﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ من الأخذ بمعنى الأسر، والأخيذ: الأسير؛ أي: ليأسروه ويحبسوه. كما مر.
﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾؛ أي: ليزيلوا الحق. ﴿حَقَّتْ﴾؛ أي: وجبت. ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾؛ أي: حكمه بالإهلاك. ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ أمر من وقى يقي وقايةً، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، وفيه إعلالان، حذف فاء الكلمة وهي الواو، إذ قياس مضارعه: يوقي، حذفت الواو التي هي فاء الكلمة؛ لوقوعها بين عدوّتَيها الياء والكسرة، وحذف لام الكلمة؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، فلم يبق إلا عين الكلمة. ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾ أصله: توقي، حذفت فاء الكلمة التي هي الواو للعلة السابقة، ثم حذفت لام الكلمة وهي الياء للجازم، فلم يبق من الكلمة إلا عينها فصار الفعل على وزن "تع".
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ﴾ من المناداة، وهي وكذا النداء: الدعوة ورفع الصوت، أصله: يناديون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان،
155
فحذفت الألف دالة عليها.
﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾ والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ أي: مقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء. ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ أصله: تدعوون، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
﴿أَمَتَّنَا﴾ من أمات الرباعي، أصله: أموت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار أمات، ثم أسند الفعل إلى تاء الفاعل فسكن آخره، وهو التاء لام الكلمة، فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف لبقاء دالها، فصار أمتْتَنا، فأدغمت التاء الأولى التي هي لام الكلمة في تاء الفاعل فصارت ﴿أَمَتَّنَا﴾.
﴿إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: دعو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة.
﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ أصله: العليو، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنةً فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء.
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: ينوب، نقلت حركة الواو إلى النون فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مد. ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ والرفيع: إما صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور بمعنى عظيم الصفات، أو صيغة مبالغة محولة عن اسم الفاعل، فيصح فيه الوجهان. كما في "السمين".
﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ التلاقي: مصدر تلاقى الخماسي، وقياسه: أن يكون ما قبل آخره مضمومًا، لكنه كسر لمناسبة الياء. ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ يقال: برز بروزًا: خرج إلى البراز؛ أي: الفضاء، كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر. ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ أصله: تجزى، بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ هو يوم القيامة، سميت بذلك لأزوفها؛ أي: لقربها من أزف الرحيل؛ أي: قرب. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزفًا من باب تعب وأزوفًا: دنا وقرب، وأزفت الآزفة: القيامة. وفي "الأساس": أزف الرحيل: دنا وعجل، ومنه
156
أقبل يمشي الأزفى بوزن الجمزى، وكأنه من الوزيف، و ﴿الهمزة﴾: بدل عن واو. وفي "الروح": الآزفة فاعلة من أزف الأمر على وزن علم: إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة لأزوفها، وهو القرب، لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده.
﴿لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾ جمع حنجرة، وهي الحلقوم، وفي "القاموس": والحنجور: السِقط الصغير، وقارورة للذريرة، والحلقوم كالحنجرة، والحناجر جمعه. ﴿كَاظِمِينَ﴾ يقال: كظم غيظه؛ أي: رد غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر. ﴿وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: يطوع، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: خاونة؛ لأنه من خان يخون، واوي العين، قلبت الواو في الوصف همزةً حملًا له في الإعلال على فعله خان، حيث أعل بقلب الواو عينه ألفًا لتحركها بعد فتح، ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾: أصله يدعوون بواوين: الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، فاستثقلت الضمة على الواو لام الكلمة فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة وبقيت واو الجماعة، فوزنه يَفعون. ﴿لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ أصله: يقضيون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضمت الضاد لمناسبة الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿الذَّنْبِ﴾ و ﴿التَّوْبِ﴾، وبين ﴿أَمَتَّنَا﴾ ﴿وَأَحْيَيْتَنَا﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: المقابلة في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾ فقد قابل بين التوحيد والإشراك، والكفر والإيمان.
157
ومنها: إيراد ﴿إِذَا﴾ وصيغتي الماضي في الشرطية الأولى، و ﴿إِنَّ﴾ وصيغتي المضارع في الشرطية الثانية؛ للدلالة على كمال سوء حالهم، كما في "أبي السعود".
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ...﴾ إلخ. في كلا الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، كما في "أبي السعود".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ فإنه من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأنه أطلق الرزق وأراد المطر؛ لأن الماء سبب في جميع الرزق.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ﴾ فإنه كناية عن الوحي؛ لأنه كالروح للجسد، فهو مجاز مرسل، علاقته: السببية، وجعله الزمخشري استعارة تصريحية، وليس ببعيد.
ومنها: الإسجال بغير مغالطة في قوله: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ وهو فن طريف من فنون البلاغة، وهو أن يقصد المتكلم غرضًا من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض إسجالًا منه على الممدوح به، وبيان ذلك: أن يذكر شرطًا يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يخبر بوقوعه وإن لم يكن قد وقع بعد ليقع المشروط، اهـ "درويش".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾؛ لأن المراد بالإماتتين الإثنتين: خلقهم أمواتًا أولًا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ثانيًا، وقد أوضح ذلك بقوله في آية أخرى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ففي تسمية خلقهم أمواتًا إماتة مجاز مرسل؛ لأنه باعتبار ما كان، اهـ "درويش".
ومنها: الاستفهام بمعنى اليأس في قوله تعالى: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ففي هذا الاستفهام يأس مقنط، واستحالة مفرطة، كأنهم لفرط ما يكابدونه يتمنون الخروج من هذا الأسى المطبق من الهول المستحكم.
ومنها: تنكير ﴿خُرُوجٍ﴾ للدلالة على أي خروج كان، سواء أكان سريعًا أم بطيئًا، وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا.
158
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ﴾ لتجسيد الهول في ذلك اليوم الذي تكون فيه مشارفتهم للنار، فعند ذلك ترفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا ويستريحوا، ولا هي ترجع إلى مواطنها فيتنفسوا الصعداء ويتروّحوا، ولكنها معترضة كالشَّجا.
ومنها: عكس الظاهر في قوله: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ إذ لا شفيع لهم أصلًا، فضلًا عن أن يكون مطاعًا، وكان الظاهر أن يقال: ولا يطاع فيهم شفيع.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾؛ لأن إسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾؛ لأن هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال فيه: يقضي ولا يقضي.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا...﴾ إلخ. وفيه تهديد للمشركين بذكر عاقبة من كانوا قبلهم من الأمم المكذبة للرسل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
159
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
160
لما قبلها: أن الله سبحانه لما سلى (١) رسوله - ﷺ - بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الرسل قبله، بمشاهدة آثارهم.. سلاه أيضًا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتي من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه، وأمروا بقتل أبناء بني إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفًا أن يبدل دينهم، أو يعيث في الأرض فسادًا، فتعوذ موسى بربه ورب بني إسرائيل من كل جبار متكبر، لا يؤمن بالجزاء والحساب.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن ذلك المؤمن لما سمع رأي فرعون في موسى، وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك.. أعاد النصح مرةً أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم، ويتوبون إلى رشدهم، فذكرهم بأس الله سبحانه وسننه في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل، من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلًا في الأخرين، وكان لسان حاله يقول: هاأناذا قد أسمعت ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون. اهـ.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته.. أبان هنا أنه بلغ من عتوِّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى - عليه الصلاة والسلام - أن أمر وزيره هامان أن يبني له قصرًا شامخًا من الآجر؛ ليصعد به إلى السماء ليطلع إلى إله موسى - عليه الصلاة والسلام -، ومقصده من ذلك الاستهزاء به، ونفي رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى (٢) عن موسى أنه ما زاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله على أن استعاذ بالله من شره.. أردف ذلك ببيان أن الله
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
161
قيض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم، ويذب عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد في إزالة ذلك الشر.
التفسير وأوجه القراءة
٢٣ - ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا بها، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران حال كونه متلبسًا ومؤيدًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ وهي المعجزات التسع ﴿و﴾ بـ ﴿سُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: وبحجةٍ قاهرةٍ ظاهرة واضحة، وهي العصا، وأفردها بالذكر مع اندراجها تحت الآيات، تفخيمًا لشأنها، فهو من قبيل عطف الخاص على العام.
وقيل (١): هو التوراة.
٢٤ - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ أعظم عمالقة مصر ﴿وَهَامَانَ﴾ وزيره وخصهما بالذكر؛ لأن الإرسال إليهما إرسال إلى القوم؛ لكونهم تحت تصرف الملك والوزير تابعين لهما، والناس على دين ملوكهم. ﴿وَقَارُونَ﴾ ابن عم موسى، خصه (٢) بالذكر؛ لكونه بمنزلة الملك من حيث كثرة أمواله وكنوزه، ولا شك أن الإرسال إلى قارون متأخر عن الإرسال إلى فرعون وهامان، لأنه كان إسرائيليًا ابن عم موسى، مؤمنًا في الأوائل، أعلم بني إسرائيل، حافظًا للتوراة، ثم تغير حاله بسبب الغنى، فنافق كالسامري، فصار ملحقًا بفرعون وهامان في الكفر والهلاك، فاحفظ هذا ﴿فَقَالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء الثلاثة وأتباعهم في حق ما أظهره موسى من المعجزات خصوصًا في أمر العصا: إنه ﴿سَاحِرٌ﴾ وقالوا فيما ادعاه عليه السلام من رسالة رب العالمين: إنه ﴿كَذَّابٌ﴾ والكذاب: الذي عادته الكذب، بأن يكذب مرة بعد أخرى، ولم يقولوا: سحار؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر، وأن سحرتهم أسحرُ منه، كما قالوا: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾.
وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ -، وبيان عاقبة من هو أشد من قريش، بطشًا، وأقربهم زمانًا،
٢٥ - ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة.. لجؤوا إلى استعمال القوة، ما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ موسى ﴿بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
162
﴿قَالُوا﴾ لاستكمال شقاوتهم ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾؛ أي: تابعوه في الإيمان والتوحيد، والقائل فرعون وذوو الرأي من قومه، أو فرعون وحده؛ لأنه بمنزلة الكل، كما قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ﴿وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾؛ أي: أبقوا بناتهم أحياءً لخدماتنا فلا تقتلوهن.
والمعنى (١): أعيدوا عليهم القتل، وذلك أنه قد أمر بالقتل قُبيل ولادة موسى عليه السلام بإخبار المنجمين بقرب ولادته، ففعله زمانًا طويلًا ثم كف عنه؛ مخافة أن تفنى بنو إسرائيل، وتقع الأعمال الشاقة على القبط، فلما بعث موسى وأحسّ فرعون بنبوته.. أعاد القتل غيظًا وحنقًا، ظنًا منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى.. أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبةً لهم، فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتدّ عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ﴾ فرعون وقومه أو غيرهم؛ أي (٢): وما مكرهم وسوء صنيعهم بالأنبياء والمؤمنين ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: في ضياع وبطلان وخسران لا يغني عنهم شيئًا، وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم.
وفي "التأويلات النجمية": عزم على إهلاك موسى وقومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، إتمامًا لاستحقاقهم العذاب، ولكن من حفظ الحق تعالى كان كما قال: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: في ازدياد ضلالتهم بربهم، يشير إلى أن من حفر بئرًا لولي من أوليائه.. ما يقع فيه إلا حافره، وبذلك أجرى الحق سنته. انتهى.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
163
والمعنى (١): أي وما مكر الكافرين وقصدهم وهو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب سدًى وباطلًا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان، وإن فعل بهم ما فعل، وأن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بد واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
والخلاصة: أن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة، ويذهب هباءً أمام تلك القوة القاهرة، وسيكون النصر للمتقين.
٢٦ - ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بني إسرائيل، بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ اللعين لملئه: ﴿ذَرُونِي﴾؛ أي: اتركوني ﴿أَقْتُلْ مُوسَى﴾ إنما قال هذه لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى؛ مخافة أن ينزل بهم العذاب، أو كانوا يكفونه عن قتله؛ تهوينًا لأمره، واستصغارًا لشأنه؛ أي: أتركوني أقتله ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك؛ أي: لا يهولنكم شأنه؛ لأنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، وكان إذا هم بقتله.. كفوه، وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه، وهو أضعف ن ذلك شأنًا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته.. أدخلت الشبهة في نفوس الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويدارونه حتى يكف عن قتله.
وربما يكون قد قال ذلك تمويهًا على قومه، وإيهامًا أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفّه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ فإن ظاهره الاستعانة به بدعائه ربه سبحانه، كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به، مظهرًا أنه لا يبالي بدعائه ربه، كما يقول القائل ذروني أفعل كذا وما كان فليكن.
(١) المراغي.
164
ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله، فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾ إن لم أقتله ﴿أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾؛ أي: أن يغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادة فرعون وعبادة الأصنام لتقربهم إليه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر ﴿الْفَسَادَ﴾؛ أي: يوقع بين الناس ما يفسد دنياهم من التخالف والتجارب والتهارج، إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية.
فمعنى (١): ﴿أو﴾ وقوع أحد الشيئين، جَعَلَ اللعين ظهور ما دعا إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادًا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه، وبدأ فرعون بذكر الدين أولًا لأن حبّ الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم اهـ. "خطيب" وفي الآية إشارة إلى أن فرعون من عمى قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوّته، أو يذره قومه، ولم يعلم أن الله يهلكه ويهلك قومه، وينجي موسى وقومه، وقد خاف من تبديل الدين أو الفساد في الأرض، ولم يخف هلاك نفسه وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين.
والمعنى: أي (٢) إني أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله سبحانه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشرد، ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر، وتعدم المكاسب.
والخلاصة: أنه يقول: إنّي أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مر.
وقرأ الكوفيون ويعقوب (٣): ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ﴾ بأو التي للإبهام وترديد الخوف بين تبديل الدين وظهور الفساد، وقرأ باقي السبعة ﴿وأن يظهر﴾ بدون ألفٍ، على معنى وقوع الأمرين جميعًا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء من ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾، وقرأ أنس بن مالك وابن المسيب ومجاهد وقتادة وأبو رجاء والحسن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر والشوكاني.
165
والجحدري ونافع وأبو عمرو وحفص: ﴿يُظْهِرَ﴾ بضم الياء وكسر الهاء، من أظهر الرباعي، وفاعله: ضمير ﴿مُوسَى﴾ و ﴿الْفَسَادَ﴾: منصوب على أنه مفعول به، وقرأ باقي السبعة والأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى: ﴿يَظهَر﴾ بفتح الياء والهاء من ظهر الثلاثي، مبنيًا للفاعل ورفع ﴿الفساد﴾ على الفاعلية، وقرأ زيد بن علي: ﴿يُظهَر﴾ بضم الياء وفتح الهاء، مبنيًا للمفعول ﴿الفساد﴾ رفعًا على النيابة عن الفاعل، وقرأ مجاهد: ﴿يظّهّرَ﴾ بشد الظاء والهاء ﴿الفساد﴾ رفعًا.
٢٧ - ولما سمع موسى عليه السلام بمقالة فرعون.. استعاذ بالله من شر كل متكبر عن الإيمان به منكر بالبعث والنشور، فصانه من كل بلية، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ عليه السلام لقومه حين سمع بما يقوله اللعين من حديث قتله عليه السلام: ﴿إِنِّي عُذْتُ﴾ واستجرت ﴿بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي هنا وفي الدخان (١): ﴿عذتُّ﴾ بإدغام الذال في التاء، وقرأ الباقون: بالإظهار، وخص (٢) اسم الرب؛ لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وإضافته إليه وإليهم للحث على موافقته في العياذ به تعالى، والتوكل عليه، فإن في تظاهر النفوس تأثيرًا قويًا. في استجلاب الإجابة، وهو السبب الأصلي في اجتماع الناس لأداء الصلوات الخمس والجمعة والأعياد والاستسقاء ونحوها.
﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾؛ أي: من شر كل متعظم عن الإيمان بالله سبحانه، والتكبر: تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته. ﴿لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ والجزاء صفة لما قبله، عقب به لأن طبع المتكبر القاسي وشأنه إبطال الحق، وتحقير الخلق، لكنه قد ينزجر إذا كان مقرًّا بالجزاء، وخائفًا من الحساب، وأما إذا اجتمع التكبر والتكذيب بالبعث.. كان أظلم وأطغى، فلا عظيمة إلا ارتكبها، فيكون بالاستعاذة أولى وأحرى.
وصدر (٣) الكلام بـ ﴿إنّ﴾ تأكيدًا وإشعارًا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، والمسلم إذا قال عند القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساس شياطين الجن، فكذلك إذا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
166
قال: أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس.
والمعنى (١): أي إني استجرت بالله ربي وربكم، واستعصمت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء؛ لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب.. لم يكن للثواب على الإحسان راجيًا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفًا، وإنما لم يسم فرعون باسمه، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من جبابرة أركانه وغيرهم؛ لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله، وهي التكبر وما يليه من عدم الإيمان بالبعث، وإنما قال: ﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ ولم يقل منه سلوكًا لطريق التعريض، وتحاشيًا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه، فهو واف بالغرض، ومبين للعلة
التي لأجلها أبى واستكبر.
فائدة: سئل أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أي ذنب أخوف على سلب الإيمان؟ قال: ترك الشكر على الإيمان، وترك خوف الخاتمة، وظلم العباد، فإن من كان فيه هذه الخصال الثلاث.. فالأغلب أن يخرج من الدنيا كافرًا إلا من أدركته السعادة.
وفي الخبر: "إن الله سخر الريح لسليمان عليه السلام فحملته وقومه على السرير، حتى سمعوا كلام أهل السماء، فقال ملك - لآخر إلى جنبه -: لو علم الله في قلب سليمان مثقال ذرة من كبر.. لأسفله في الأرض مقدار ما رفعه مِنَ الأرض إلى السماء".
وفي الحديث: "ما من أحد إلا وفي رأسه سلسلتان: إحداهما إلى السماء السابعة، والأخرى إلى الأرض السابعة، فإذا تواضع.. رفعه الله بالسلسلة التي في السماء السابعة، وإذا تكبر.. وضعه الله بالسلسلة التي في الأرض السابعة" فالمتكبر
(١) المراغي.
167
أيًا كان مقهور لا محالة، ما يقال (١): إن أول ما خلق درة بيضاء، فنظر إليها بالهيبة فذابت وصارت ماء، وارتفع زبدها، فخلق الله منه الأرض فافتخرت الأرض وقالت: من مثلي، فخلق الله الجبال فجعلها أوتادًا في الأرض، فقهر الأرض بالجبال، فتكبرت الجبال فخلق الحديد، وقهر الجبال به، فتكبر الحديد فقهره بالنار، فتكبرت النار فخلق الماء فقهرها به، فتكبر الماء فخلق السحاب، ففرق الماء في الدنيا فتكبر السحاب فخلق الرياح، ففرقت السحاب فتكبرت الرياح، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتًا وكنًا من الحر والبرد والرياح، فتكبر الآدمي فخلق النوم فقهره به، فتكبر النوم فخلق المرض فقهره به، فتكبر المرض فخلق الموت فقهره به، فتكبر الموت فقهره بالذبح يوم القيامة، حيث يذبح بين الجنة والنار، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ يعني إذا ذبح الموت.. فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة بالسوء، فلا بد من إزالته
٢٨ - ولما استعاذ موسى عليه السلام بالله، واعتمد على فضله ورحمته.. فلا جرم صانه الله تعالى من كل بلية، وأوصله إلى كل أمنية، وقيض له إنسانًا أجنبيًا، حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة، كما حكى الله تعالى عنه بقوله: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ﴾ كائن ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ فهو صفة ثانية لـ ﴿رَجُلٌ﴾ وقوله: ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾: صفة ثالثة، قدم الأول؛ أعني مؤمن، لكونه أشرف الأوصاف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود، وذلك لأنه لو أخر عن ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾.. لتوهم أن ﴿من﴾ صلته، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون، وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون؛ أي: ابن عمه، وهو منذر موسى عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾، كما سبق في سورة القصص، واسمه شمعان بالشين المعجمة بوزن سلمان، وهو أصح ما قيل فيه، قاله الإِمام السهيلي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَجُلٌ﴾ بضم الجيم، وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون الجيم، وهي لغة تميم ونجد،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
168
وقرىء: بكسر الجيم، وفي "تاريخ الطبري": اسمه جبر، وقيل: حبيب النجار، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم، وهو غير حبيب النجار صاحب يس، وقيل: خربيل بن نوحائيل أو حزقيل، ويدل عليه قوله - ﷺ -: "سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو - رضي الله عنه - أفضلهم" كما في "إنسان العيون" نقلًا عن "العرائس".
وقال ابن الشيخ في "حواشيه": روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، والثالث: أبو بكر الصديق وهو أفضلهم" انتهى. وقال صاحب "روح البيان": يمكن أن يقال لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية، وتفضيل علي في السبق، وعدم صدور الكفر عنه، ولو لحظةً، فأفضلية كل منهما من جهة أخرى.
ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطيًا، لا إسرائيليًا، وأيضًا أن فرعون أصغى إلى كلامه واستمع منه، ولو كان إسرائيليًا لكان عدوًا له، ولم يكن ليصغي إليه.
قال في "التكملة": فإن قلت: الآل قد يستعمل في غير القرابة بدليل قوله تعالى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم؟
فالجواب: أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون وإنما كان مؤمنًا، فإذا لم يكن من أهل دينه.. فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته. انتهى، وقيل: كان إسرائيليًا ابن عم قارون، أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل، وقيل: كان عربيًا موحدًا ينافقهم لأجل المصلحة، ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾؛ أي: يستره ويخفيه من فرعون وملثه، لا خوفًا بل ليكون كلامه بمحل من القبول، وقيل: خوفًا، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمئة سنة، وكتمه، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى.. قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا﴾؛ أي: أتقصدون قتله ظلمًا بلا دليل، والاستفهام إنكاري، ﴿أَنْ يَقُولَ﴾؛ أي: لأن يقول أو كراهة أن يقول: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾
169
وحده لا شريك له، وهو في موضع نصب بنزع الخافض، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة، مثل: صديقي زيد لا غير ﴿و﴾ الحال أنه ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ والمعجزات الظاهرة الواضحة التي شاهدتموها ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لم يقل من ربه، لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم.. دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره، والاعتراف به وترك المكابرة معه؛ لأن ما كان من قِبَلِ رَبِّ الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه.
وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - ﷺ -، قال: أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله يصلي عند الكعبة، أو لقيه في الطواف، فأخذ بمجامع ردائه - ﷺ -، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقًا شديدًا، وقال له: أنت الذي تنهانا عما يعبد آباؤُنا، فقال النبي - ﷺ -: "أنا ذاك"، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ بمنكبيه - ﷺ - والتزمه من ورائه، ودفعه عن رسول الله - ﷺ - وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ رافعًا صوته، وعيناه تسفحان دمعًا أي: تجريان حتى أرسلوه، أخرج البخاري بمعناه. وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى، لأنه كان يظهر إيمانه، وكان بمجمع طغاة قريش، وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر، وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه، فقال:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه، وخصهم بمشاهدته، وتلقى الروح عنه؟ وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأَسرَّهُ، فجعله في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -! إذ جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرًا بعد اليوم، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه.
والمعنى (١): أي وقال رجل من آل فرعون بكتم إيمانه منهم، خوفًا على
(١) المراغي.
170
نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلًا ما زاد على أن قال: ربي الله، وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه، ومثل هذه المقالة لا تستدعي قتلًا، ولا تستحق عقوبةً، فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله، وتوقف عن قتله.
وخلاصة ذلك: أترتكبون هذه الفعلة، القبيحة الشنعاء وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله، وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله، ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط، بإيراده في صورة الاحتمال من الظن بعد القطع يكون قتله منكرًا، فقال: ﴿وَإِنْ يَكُ﴾ الرجل الذي تريدون قتله ﴿كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فيحتاج في دفعه إلى قتله؛ يعني: أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره، كالزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته، وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين، لكون طباع الناس آبية عن قبوله، ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾ في قوله فكذبتموه وقصدتم له بسوء ﴿يُصِبْكُمْ﴾ ويحل بكم ﴿بَعْضُ﴾ العذاب ﴿الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ ويخبركم بوقوعه عليكم، وهو عذاب الدنيا، فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيًا.
والحاصل: أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله، بل يكفيكم أن تعرضوا عنه، وأن تمنعوه عن إظهار دينه.
أي (١): إن لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه، وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وحذفت النون من يكن في الموضعين؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، كما قاله سيبويه، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم من شِقَّي الترديد كونه كاذبًا، وصرح بإصابة البعض دون الجميع، مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله، وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون، ويجوز أن يكون المعنى: يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض ما يعدهم، لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، كأنه خوّفهم بما هو ظهر احتمالًا عندهم. وفي "عين المعاني":
(١) روح البيان.
171
لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر، وقد يكون البعض بمعنى الكل، كما في قوله:
قَدْ يُدَرِكُ الْمُتَأَنِّيْ بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُوْنُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
إِنَّ الأُمُوْرَ إِذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا دُوْنَ الشُّيُوْخِ تَرَى فِيْ بَعْضِهَا خَلَلاَ
وكما في قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾؛ أي: جميعه، وفي قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بكلها، كما في "كشف الأسرار" وقال أبو الليث: ﴿بَعْضُ﴾ هنا: صلة يريدُ يُصِبْكم الذي يعدم.
وعبارة "فتح الرحمن" هنا: وإن قلت: كيف قال المؤمن ذلك في حق موسى عليه السلام، مع أنه صادق عنده وفي الواقع، ويلزم منه أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟.
قلت: كلمة ﴿بَعْضُ﴾: صلة، أو هي بمعنى كل، كما قيل به في البيتين السابقين وفي الآيتين، أو ذكر البعض تنزلًا وتلطفًا بهم، مبالغًا في نصحهم، لئلا يتهموه بميل ومحاباة، أو هي باقية على معناها، لأنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فهلاكهم في الدنيا بعض ما وعدهم به.
والمعنى: أي إن كان كاذبًا في قيله: أن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه.. فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقًا في قيله ذلك.. أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطًا على الكفر، وسخطًا على قتل رسوله، وفي قوله: ﴿بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ مبالغة في التحذير، فإنه إذ حذرهم من بعض العذاب.. أفاد أنه مهلك مخوف، فما بال كله إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وهذا من تمام كلام الرجل المؤمن، والمسرف: هو الذي يتجاوز الحد في المعصية، أو هو السفاك للدم بغير حق، والكذاب: هو الذي يكذب مرةً بعد أخرى، وقيل: هو الكذاب على الله سبحانه، لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وهو احتجاج آخر ذو وجهين:
172
أحدهما: أنه لو كان مسرفًا كذابًا.. لما هداه الله تعالى إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيهما: أنه إن كان كذلك.. خذله الله تعالى وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم، وقد عرّض به لفرعون، لأنه ﴿مُسْرِفٌ﴾ حيث قتل الأبناء بلا جرم ﴿كَذَّابٌ﴾ حيث ادعى الألوهية، لا يهديه الله سبيل الصواب، ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره،
٢٩ - ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى.. خوفهم في ذلك بعذاب الله تعالى فقال: ﴿يَا قَوْمِ﴾؛ أي: يا قومي ﴿لَكُمُ الْمُلْكُ﴾ والسلطان ﴿الْيَوْمَ﴾ حال كونكم ﴿ظَاهِرِينَ﴾ أي غالبين عالين على بني إسرائيل والعامل في الحال وفي قوله: ﴿الْيَوْمَ﴾ ما تعلق به لكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أرض مصر، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت، ومعنى الظهور: الاستعلاء على الناس والغلبة عليهم.
﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا﴾ ويمنعنا ويحفظنا ﴿مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾؛ أي: من سطوته وأخذه وعذابه، ويحول بيننا وبينه ﴿إِنْ جَاءَنَا﴾ وحل بنا، وفي هذا (١) تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، والاستفهام فيه: إنكاري؛ أي: لا ناصر لنا؛ أي: فلا تفسدوا أمركم، ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله، فإنه إن جاءنا.. لم يمنعنا منه أحد.
وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصةً، ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوْءُهم من مجيء بأس الله سبحانه؛ تطييبًا لقلوبهم، وإيذانًا بأنه ناصح لهم، ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه.
ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح.. جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكًا يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم، كما حكى سبحانه عنه بقوله: {قَالَ
(١) روح البيان.
فِرْعَوْنُ} بعدما سمع نصحه، إضرابًا عن المجادلة ﴿مَا أُرِيكُمْ﴾؛ أي: ما أشير عليكم ﴿إِلَّا مَا أَرَى﴾ وأستصوبه من قتله، قطعًا لمادة الفتنة ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ﴾ بهذا الرأي ﴿إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ وطريق الصواب، فهو من الرأي، ويجوز أن يكون من الرؤية بمعنى العلم؛ أي: لا أعلمكم إلا ما أعلم، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره، ولقد كذب حيث كان مستشعرًا للخوف الشديد، ولكنه كان يظهر الجلادة وعدم المبالاة، ولولاه لما استشار أحدًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿الرَّشَادِ﴾ بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل: بتشديدها، على أنه صيغة مبالغة، كضراب، وقال النحاس: هي لحن ولا وجه لذلك، وقال أبو الفتح: هو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي، يقال: رشد فهو رشّاد كعبّاد من عبد، وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم.
والمعنى (٢): أي قال فرعون مجيبًا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأي سوى ما ذكرته، من وجوب قتله حسمًا للفتنة، وإني لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أَعدُّ غير هذا صوابًا.
٣٠ - ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكيًا عنه: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ﴾ من آل فرعون، مخاطبًا لقومه واعظًا لهم.
وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وذلك من أجل علة الخوف والقهر، ولأن الجهاد بالحجة والبرهان أكبر من الجهاد بالسيف والسنان ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ في تكذيب موسى عليه السلام، والتعرض له بسوء، كالقتل والأذى ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾؛ أي: مثل عذاب أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم العظيمة، وعقوباتهم الهائلة، على طريق ذكر المحل وإرادة الحال.
فإن قلت: الظاهر أن يقال: مثل أيام الأحزاب، إذ لكل حزب يوم على حدة.
قلت: جمع الأحزاب مع تفسيره بالطوائف المختلفة المتباينة الأزمان
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
والأماكن، أغنى عن جمع اليوم، إذ بذلك ارتفع الالتباس، وتبين أن المراد الأيام لا اليوم الواحد،
٣١ - ثم فسر الأحزاب فقال: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ بدل من المثل الأول، والمراد بالدأب واليوم واحد، إذ المعنى: إني أخاف عليكم مثل حال قوم نوح وشأنهم في العذاب، حيث أغرقوا بالطوفان الذي استأصل كل ما على وجه الأرض؛ أي: أخاف عليكم مثل عذاب قوم نوح ﴿وَ﴾ مثل عذاب ﴿عَادٍ﴾ قوم هود، حيث أهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَ﴾ مثل عذاب ﴿ثَمُودَ﴾ قوم صالح، حيث أهلكوا بالصيحة الطاغية ﴿وَ﴾ مثل عذاب الأقوام ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد هؤلاء المذكورين من كفار الأمم المكذبة لرسلها، كقوم لوط وشعيب عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
والحاصل: أن حزقيل خوفهم بعذاب معجل في الدنيا.
والمعنى: أي وقال ذلك المؤمن ناصحًا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم إن كذبتم موسى، وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيًا ولا عاصمًا، وهذه سنة الله في المكذبين جميعًا، فحذار حذار أيها القوم، إني لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم، وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي، وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم، ولا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام؛ أي: وما أهلك الله سبحانه هذه الأمم المذكورة ظلمًا لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم وتكذيبهم رسله، بعد أن جاؤوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره وحكمه، وأحلّ بهم وعيده وانتقامه، حيث استأصلهم وقطع دابرهم كالأمس الدابر.
٣٢ - وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي، خوفهم العذاب الأخروي فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢)﴾؛ أي: عذاب يوم التناد، وهو يوم القيامة، لما فيه من العذاب على المصرين والمؤذين للرسل والأنبياء، فهو منصوب على المفعولية به، ولكنه على حذف مضاف كما قدرنا، سمي يوم التناد؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة، كقولهم: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا﴾ أو يتصايحون بالويل
والثبور، بنحو قولهم: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الجنة والنعيم المقيم حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من عذاب النار حقًا؟ قالوا: نعم، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله.
وقرأ الجمهور (١): ﴿التَّنَادِ﴾ بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل: التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم؛ أي: نادى بعضهم بعضًا، وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس والضحَّاك وعكرمة: بتشديد الدال؛ أي: يوم فرار بعضهم من بعض، قال بعض أهل اللغة: هو لحن؛ لأنه من ند يندّ: إذا مرّ على وجهه هاربًا، قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنةٌ على معنى التنافي، قال الضحاك: معناه: أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم.. ندّوا هربًا فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفًا من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾.
والمعنى على قراءة الجمهور: يوم ينادي بعضهم بعضًا، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، أو ينادى فيه بسعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادى فيه: كل أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني.
٣٣ - وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ﴾ بدل من يوم التناد، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم يولّي بعضكم بعضًا دبره، حال كونكم ﴿مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: منصرفين من الموقف إلى النار، أو فارّين منها، لأنهم إذ سمعوا زفير النار.. ندّوا هاربين، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكةُ صفوفًا، فبينما هم يموج بعضهم في بعض.. إذا سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، وحال كونكم ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾؛ أي: ما لكم من عاصم يعصمكم من عذابه تعالى، ويحفظكم في فراركم حتى تعذَّبوا في النار، والجملة: حال أخرى من ضمير ﴿تُوَلُّونَ﴾.
(١) الشوكاني.
176
والمعنى: أي إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضًا ليستغيث به من شدّة الهول، أو حين ينادي أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قالوا: نعم، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله، قالوا: إن الله حرّمهما على الكافرين يوم تولّون مدبرين هربًا من زفير النار وشهيقها، فلا يُجْديكم ذلك شيئًا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب فتردّون إليه، ونالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.
ولما يئس الرجال المؤمن من إيمانهم.. نبّه إلى شدّة ضلالتهم وعظيم جهالتهم، فقال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يهديه إلى طريق النجاة، ويوفّقه إلى الخلاص، وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.
وفي الآيات (١): إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهارًا لفضله ومنته، يخرج الحيّ من الميّت، كما أخرج من آل فرعون مؤمنًا حيًّا قلبه بالإيمان، من بين كفارٍ أموات قلوبهم بالكفر، ليتحقق قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ وإذا شاء إظهارًا لعزته وجبروته يعمي ويصمّ الملوك، والعقلاء مثل: فرعون وقومه، لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة، ولا يسمعوا الحجج الباهرة، مثل: ما ناصحهم با مؤمن آل فرعون ليتحقّق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ قوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي...﴾ الآية. كما في "التأويلات النجمية".
وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه خالق الضلالة، وإنما الشيطان ونحوه من الوسائط، فالجاهل يرى القلم مسخّرًا للكاتب، والعارف أنه مسخر في يده لله تعالى؛ لأنه خالق الكاتب والقلم وكذا فعل الكاتب.
وفي قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ إشارة (٢) إلى أنّ التوفيق والاختيار للواحد القهار، فلو كان لآدم.. لاختار قابيل، ولو كان لنوح.. لاختار كنعان، ولو كان لإبراهيم.. لاختار آزر، ولو كان لموسى.. لاختار فرعون، ولو كان لمحمد - ﷺ -..
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
177
لاختار عمّه أبا طالب.
ويقال: سبعة أمور عامة، وسبعة في جنبها خاصة، الأمر عام والتوفيق خاص، والنهي عام والعصمة خاص، والدعوة عام والهداية خاص، والموت عام والبشارة خاص، والحشر يوم القيامة عام والسعادة خاص، وورود النار عام والنجاة منها خاص، والخلق عام والاختيار خاص؛ يعني: ليس كل من خلقه الله تعالى اختاره، بل خص منه قومًا، وكذا خلق أمورًا وأشياء فخصّ منها البعض ببعض الخواص.
ثم العجب أنّ مثل موسى عليه السلام يكون وسط قومه لا يهتدون به، وذلك لأنّ صاحب المُرة لا يجد حلاوة العسل، والضرير لا يرى الشمس، وليس ذلك إلا من سوء المِزاج وفساد الحال وفقدان الاستعداد.
٣٤ - ثم قال مؤمن آل فرعون موبّخًا لهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ﴾؛ أي: وعزة الله وجلاله لقد جاءكم يا أهل مصر ﴿يُوسُفُ﴾ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان قد أقام فيهم نبيًا عشرين سنةً، وقيل: المراد بيوسف هنا: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، وحكى النقاش عن الضحاك: أن الله بعث إليهم رسولًا من الجن، يقال له: يوسف، والأول أولى.
أي: ولقد جاء أيها القبطيون آباءَكم الأقدمين يوسف بن يعقوب ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل موسى ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الواضحة التي من جملتها تعبير الرؤيا وشهادة الطفل على براءة ذمته، وقد كان بعث إلى القبط قبل موسى بعد موت الملك، وكان فرعون موسى قد أدرك أيام يوسف بن يعقوب، فعاش إلى زمانه، وذلك لأنّ فرعون موسى قد عُمّر أكثر من أربع مئة سنة.
وكان (١) بين إبراهيم وموسى تسع مئة سنة على ما رواه ابن قتيبة في كتابه "المعارف"، فيجوز أن يكون بين يوسف وموسى مدة عمر فرعون تقريبًا، فيكون الخطاب لفرعون، وجُمع لأنّ المجيء إليه بمنزلة المجيء إلى قومه، وإلا فأهل
(١) روح البيان.
178
عصر موسى لم يروا يوسف بن يعقوب، والأظهر أنه على نسبة أحوال الآباء إلى الأبناء، وتوبيخ المعاصرين بحال الماضين ﴿فَمَا زِلْتُمْ﴾؛ أي: فما برحتم مستمرين ﴿فِي شَكٍّ﴾ وريب ﴿مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾؛ أي: في حقية الذي جاءكم به من الدين الحق، الذي هو التوحيد ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ﴾ ومات يوسف ﴿قُلْتُمْ﴾ ضمًّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد موت يوسف ﴿رَسُولًا﴾ أصلًا فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أنَّ ذلك لا يحدد عليهم الحجة، وقرىء (١): ﴿ألن يبعث﴾ بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا على نفي البعثة.
والمعنى (٢): أي ولقد جاء آباءَكم يوسفُ من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولًا من بعده يدعو إليه، ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائِكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم لما تقدم من أنّ الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها إذا تواطؤوا واتفقوا عليه، كما جاء في قصص ثمود حين كذب قدار فعقر الناقة، فنسب التكذيب والعقر إلى ثمود جميعها، كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾. وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهِّي والتمنِّي من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارًا منهم برسالته، بل هو ضمّ إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده.
وفي الآية (٣): إشارة إلى أنَّ في الإنسان ظلوميةً وجهوليةً لو خلّي وطبعه.. لا يؤمن بنبّي من أنبياء الله ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى، وهذه طبيعة المتقدّمين والمتأخرين منهم، وإنما المهتدي من يهديه الله تعالى بفضله وكرمه، ومن إنكارهم الطبعيّ: أنهم ما آمنوا بنبوّة يوسف، فلما هلك.. أنكروا أن يكون بعده رسول الله، وذلك من زيادة شقاوة الكافرين، كما أن من كمال سعادة المؤمنين أن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
179
يؤمنوا بالأنبياء قبل نبيهم.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: أضلالًا مثل ذلك الإضلال الفظيع الواقع لهم ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ سبحانه ويصد عن سبيل الحق وقصد السبيل ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ منهمك في المعاصي متجاوز الحد فيها، مستكثر منها ﴿مُرْتَابٌ﴾ شاك في وحدانيته ووعده ووعيده؛ لغلبة الوهم عليه وانهماكه في التقليد.
٣٥ - والموصول في قوله (١): ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾: بدل من ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجمع باعتبار معناها؛ إذ لا يريد مسرفًا واحدًا بل كل مسرف، أو عطف بيان لها، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، أو مبتدأ وخبره ﴿يَطْبَعُ﴾. والمراد بالمجادلة: ردّ الآيات والطعن فيها ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾؛ أي: بغير حجة وبرهان صالحة للتمسك بها ﴿أَتَاهُمْ﴾ صفة لسلطان ﴿كَبُرَ﴾؛ أي: عظم من هو مسرف مرتاب أو الجدال، ففاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾. وقيل: ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، وهذا أولى كما في "الشوكاني"؛ أي: عظم الجدال ﴿مَقْتًا﴾؛ أي: من جهة البغض الشديد والنفور القوي ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه، متعلق بـ ﴿كَبُرَ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن، يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وقيل: ابتداء كلام من الله سبحانه.
والمعنى (٢): أي إنّ هؤلاء المسرفين المرتابين هم الذين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسّكون بتقليد الآباء والأجداد ويتمسَّكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأي، كبر ذلك الجدال بغضًا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
180
ثم بيَّن أنّ هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما طبع الله سبحانه على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم وختم عليها ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ سبحانه، ويختم ﴿عَلَى كُلِّ قَلْبِ﴾ شخص ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ عن الإيمان ﴿جَبَّارٍ﴾ عن قبول الحق والهدى، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل.
أي (١): يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبو أن يوحدوا الله تعالى ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف وغيره مما مرّ قريبًا.
قال صاحب "الروح": واعلم (٢): أنّ الطابع هو الله تعالى، والمطبوع هو القلب، وسبب الطبع هو التكبّر والجبارية، وحكمه أن لا يخرج من القلب ما فيه من الكفر والنفاق والزيغ والضلال، فلا يدخل فيه ما في الخارج من الإيمان والإخلاص والسداد والهدى، وهو أعظم عقوبة من الله سبحانه، فعلى العاقل أن يتشبّث بالأسباب المؤدّية إلى شرح الصدر لا إلى طبع القلب، قال إبراهيم الخوَّاص: - رحمه الله -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبّر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقرأ الجمهور (٣): بإضافة ﴿قَلْبِ﴾ إلى ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وعليها ففي الكلام حذف تقديره: كذلك يطبع الله على كل قلب كل شخص متكبر جبار، فحذف كل الثاني لدلالة الأول عليه.
والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام، والأعرج بخلاف عنه: بتنوين ﴿قلب﴾ على أنّ ﴿متكبّر﴾ صفة له فيكون القلب مرادًا به الجملة، ونسب التكبر إلى القلب؛ لأنه هو الذي يتكبَّر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي - ﷺ -: "إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
181
الجسد كله ألا وهي القلب". وقال مقاتل: المتكبّر: المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبّار: المسلّط على خلق الله، وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.
قال في "الكواشي": وكل على كلا القراءَتين لعموم الطبع جميع القلب لا لعموم جميع القلوب. انتهى. وقرأ ابن مسعود: (على قلب كل متكبر). وفي الآية ذم للمتكبر والجبار، وقال - ﷺ -: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطأهم الناس لهوانهم على الله" وذلك لأنّ الصورة المناسبة لحال المتكبر الجبار صورة الذر، كما لا يخفى على أهل القلب.
٣٦ - ثمّ لمّا سمع فرعون هذا.. رجع إلى تكبّره وتجبّره، معرضًا عن الموعظة، نافرًا من قبولها ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ اللعين لوزيره، قصدًا إلى صعود السموات لغاية تكبره وتجبره: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي﴾ أمر من بني يبني بناء، ﴿صَرْحًا﴾؛ أي: قصرًا مشيدًا بالآجر؛ أي: بناء عاليًا رفيعًا مكشوفًا ظاهرًا لا يخفى على الناطرين، وإن بعد من الآجر وهو الطوب المحروق، كما قال في سورة القصص: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾ ولهذا كره الآجر في القبور، كما في "عين المعاني"؛ أي: لأنّ فرعون أول من اتخذه.
قال في "كشف الأسرار": كان هامان وزير فرعون، ولم يكن من القبط ولا من بني إسرائيل؛ يقال: إنه لم يغرق مع فرعون وعاش بعده زمانًا شقيًا محزونًا يتكفف الناس. ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ﴾ وأصعد من ذلك الصرح ﴿الْأَسْبَابَ﴾ والطرق العلوية
٣٧ - ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: طرقها وأبوابها، وهو بيان للأسباب؛ لأن الشيء إذا أبهم ثم فسّر.. كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقيل: أسباب السموات: الأمور التي يستمسك بها، وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: ما فائدة التكرار هنا؟.
قلت: فائدته: أنه إذا أبهم ثم أوضح.. كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات.. أبهمها ثم أوضحها. اهـ.
﴿فأطلع﴾ وأنظر ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ بفتح الهمزة ونصب العين على جواب الترجي، وقرأ الجمهور ﴿فأطلع﴾ بالرفع عطفًا على ﴿أبلغ﴾، فهو على هذا داخل
182
في حيّز الترجي، وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى بن عمر وحفص وأبو حيوة وزيد بن علي والزعفراني وابن مقسم ﴿فَأَطَّلِعَ﴾ بالنصب على جواب الترجي، كما قاله أبو عبيد وغيره، أو على جواب الأمر في قوله: ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ نظير قوله:
يَا نَاقُ سِيْرِيْ عَنَقًا فَسِيْحَا إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيْحَا
قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأنّ معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ ولعلي أطلع بذلك، وفي هذا دليل على أنّ فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾؛ أي: أظن موسى ﴿كَاذِبًا﴾ في ادعائه بأن له إلهًا، أو فيما يدّعيه من الرسالة.
يقول الفقير: لم يقل: كذّابًا، كما قال عند إرساله إليه لأن القائل هنا هو فرعون وحده وحيث قال كذّاب. رجعت المبالغة إلى فرعون وهامان وقارون، فافهم.
والمعنى: أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن، وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان، ابن لي قصرًا منيفًا عالي الذرا، رفيع العماد، علَّني أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها.. رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكُّم وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.
والخلاصة: أن هذا نفي لرسالته من عند ربه، ثم أكّد هذا النفي الضمني بالتصريح به بقوله: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ فيما يقول ويدعي من أنّ له في السماء ربًا أرسله إلينا، وقد قال هذا (١) تمويهًا وتلبيسًا على قومه، توصلًا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أنّ الإله ليس في السماء فحسب، وكأنه يقول: لو كان الإله موجودًا لكان له محل، ومحله إما الأرض، وإما السماء، ولم نره في الأرض فإذًا هو في السماء، والسماء لا يتوصّل إليها إلا بسلّم، فيجب أن يبني الصرح لنصل إليه.
(١) روح البيان.
183
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط ﴿زُيِّنَ﴾ وحسَّن ﴿لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾؛ أي: عمله السيء فانهمك فيه انهماكًا بليغًا لا يرعوي عنه بحال ﴿وَصُدَّ﴾؛ أي: صرف فرعون ومنع ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن سبيل الرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، وبالتوسط هو الشيطان، ولذا قال في آية أخرى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ وهذا عند أهل السنة، وأما عند المعتزلة فالمزيّن والصاد هو الشيطان.
أي (١): ومثل ذلك التزيين المذكور من بناء الصلاح والإطلاع إلى إله موسى، زيّن الشيطان لفرعون عمله السيىء من الشرك والتكذيب، فتمادى في غيّه واستمرّ في طغيانه، ولم يرعو عنه بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا بسوء استعداده وتدسيته نفسه، والسير بها قدمًا في شهواتها، دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيّها، ويثوب بها إلى رشدها.
والنفسُ كالطِّفلِ إِنْ تهملْهُ شبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإِنْ تفطمْهُ يَنفَطِمِ
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَصُدَّ﴾ بفتح الصاد والدال؛ أي: صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون: ﴿وصدَّ﴾ بضم الصاد مبنيًا للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في ﴿زُيِّنَ﴾ من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثّاب وعلقمة: ﴿صدّ﴾ بكسر الصاد وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منوّنًا على أنه مصدر معطوف على ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾؛ أي: زين له الشيطان سوء العمل والصدّ.
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدًى، وأنّ الله ناصرٌ أولياءَهُ ومهلكٌ أعداءَهُ، متَبّرُ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾ واحتياله الذي يحتال به ليطلع على إله موسى ﴿إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾؛ أي: إلا في خسار وهلاك وذهاب مال؛ لأنها نفقة تذهب باطلًا سُدًى، دون أن يصل إليه شيء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
184
٣٨ - ثم إنّ ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير، كما حكى الله عنه بقوله: ﴿وَقَالَ﴾ الرجل ﴿الَّذِي آمَنَ﴾ من آل فرعون ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ فيما دلَلْتكم عليه، أصله: يا قومي اتبعوني ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾؛ أي: أدلُّكم سبيلًا يصل إلى المقصود والرشد، والرشاد: الاهتداء لمصالح الدين والدنيا، وفيه تعريض بأن ما سلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال، وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء، وللوليّ أن يهدي سبيل الرشاد بتبعيّة النبي عليه السلام، كما يهدي النبي إليه؛ أي: اقتدوا بي في الدين، أهدكم سبيل الرشاد وهو الجنة.
وقرأ معاذ بن جبل (١): ﴿الرشّاد﴾ بتشديد الشين، ما تقدم قريبًا الكلام على هذه القراءة، والرد على من جعلها في كلام فرعون، ووقع في المصحف ﴿اتبعون﴾ بدون ياء، كذلك قرأ أبو عمرو ونافع: بحذفها في الوقف، وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب وابن كثير: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأ الباقون: بحذفها وصلًا ووقفًا، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف.
والمعنى (٢): أي يا قوم إن اتبعتموني فقبلتم منّي ما أقول لكم.. سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى،
٣٩ - ثم زهّدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدّوا عن التصديق برسول الله فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ يتمتّع بها أيامًا، ثم تنقطع وتزول؛ أي: تمتّع يسيرٌ وانتفاعٌ قليل لسرعة زوالها؛ لأنَّ الدنيا بأسرها ساعة، فكيف عمر إنسان واحدٍ، قال محمد بن علي الترمذي - رحمه الله -: لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم، ولم يزل طالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أُمة إلا حذّر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال: ﴿اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، كأنهم قالوا: وما سبيل الرشاد؟، فقال: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ...﴾ إلخ. يعني: لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبّة للدنيا وطلب لها ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾؛ أي: الاستقرار؛ لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرّة لا تزول لخلودها ودوام ما فيها، فالدائم خير من المنقضي، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا، والآخرة خزفًا باقيًا.. لكانت الآخرة خيرًا من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
الدنيا، فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ، والآخرة ذهب باقٍ.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله لو أمرتنا أن لنبسط لك لنفعل، فقال: "ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثمّ راح وتركها" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...﴾ الآية. قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنّ الحياة الدنيا متاع، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها.. سرّتك، وإذا غبت عنها.. حفظتك في نفسها ومالها". وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ النبي - ﷺ - قال: "يا بنيّ أكثر ذكر الموت، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت.. زهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وإنّ الآخرة دار قرار، والدنيا غرّارة، والمغرور من اغْترّ بها".
والمعنى (١): أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجِّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى، تستمتعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هي دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيمْ وإما عذاب أليم.
٤٠ - ثم بيّن كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار إلى أنّ جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب، فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ في هذه الدار الدنيا ﴿سَيِّئَةً﴾؛ أي: معصيةً من المعاصي كائنةً ما كانت ﴿فَلَا يُجْزَى﴾ في الآخرة ﴿إِلَّا مِثْلَهَا﴾ ولا يعذب إلا بقدرها، عدلًا من الله سبحانه، فخلود الكافرين في النار مثل لكفره ولو ساعةً لأَبديّة اعتقاده، وأما المؤمن العاصي فعقابه منقطع، إذ ليس على عزم أن يبقى مصرًّا على المعصية.
والظاهر: شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك، وفي الآية دليل على أنّ الجنايات سواء كانت في النفوس
(١) المراغي.
186
أو الأعضاء أو الأموال تغرم بأمثالها، والزائد على الأمثال غير مشروع ﴿وَمَنْ عَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ وهو (١) كل ما طلب به رضي الله تعالى أيّ عملٍ كان من الأعمال المشروعة، سواء كان ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ﴾ كان من ﴿أُنْثَى﴾ ذكرهما ترغيبًا لهما في الصالحات ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنه ﴿مُؤْمِنٌ﴾ بالله وبما جاءت به رسله جعل العمل عمدة، والإيمان حالًا للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدون الإيمان، إذ الأحوال مشروطة على ما تقرّر في علم الأصول ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ حالة كونهم ﴿يُرْزَقُونَ فِيهَا﴾؛ أي: يُعطَون فيها من نعيمها ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: بغير تقدير وموازنة بعملهم، بل أضعافًا مضاعفة، فضلًا من الله ورحمة.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: مما لم يكن في حساب العبد أن يرزق مثله، قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير، وقيل: العمل الصالح هو لا إله إلا الله، وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأخوان - حمزة والكسائي - والصاحبان نافع وابن عامر وحفص (٢): ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى: بضمها مبنيًا للمفعول.
والمعنى: أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي، كائنةً ما كانت فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره وانتهى عمّا نهى عنه، ذكرًا كان أو أنثى وهو مؤمن بربّه، مصدق بأنبيائه ورسله.. فأولئك يدخلون الجنة، ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل، بل يجازون أضعافًا مضاعفةً بلا انقضاء ولا نفاد.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥)﴾.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
187
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى﴾: مفعول به، والجملة الفعلية، جواب لقسم محذوف، تقديره: والله لقد أرسلنا موسى، وجمله القسم: مستأنفة. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿مُوسَى﴾؛ أي: حالة كونه مؤيّدًا بآياتنا التكوينية والتنزيلية ﴿وَسُلْطَانٍ﴾: معطوف على ﴿آياتنا﴾ ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿وَسُلْطَانٍ﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ ﴿وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾: معطوفان على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ وكل من الثلاثة مجرور بالفتحة، لأنها من الأسماء الأعجمية. ﴿فَقَالُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾: خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ساحر كذاب، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾. ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لما﴾ في محل جر بالإضافة ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بجاء�