تفسير سورة المزّمّل

الدر المصون
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿المزمل﴾ : أصلُه المتزَمِّلُ، فأُدْغِمَت التاءُ في الزاي يقال: تَزَمَّل يتزَمَّلُ تَزَمُّلاً. فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب. وقرأ عكرمةُ «المُزَمِّل» بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ، اسمَ فاعلٍ، على هذا فيكونُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ أصلَه المُزْتَمِلُ على مُفْتَعِل فأُبْدِلَتِ التاءُ ميماً وأُدْغِمَتْ، قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. والثاني: أنَّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زَمَّل مشدداً، وعلى هذا فيكون المفعولُ محذوفاً، أي: المُزَمِّل جِسْمَه. وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بفتحِ الميمِ اسمَ مفعولٍ منه، أي: المُلَفَّف. والتَّزَمُّلُ: التَّلَفُّفُ. يقال: تَزَمَّلَ زيدٌ بكساءٍ، أي: التفَّ به قال ذو الرَّمة:
509
وقال امرؤ القيس:
٤٣٦٢ - وكائِنْ تَخَطَّتْ ناقتي مِنْ مَفازةٍ ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ
٤٣٦٣ - كأنَّ ثبيراً في أفانينِ وَدْقِه كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وهو كقراءةِ بعضِهم المتقدِّمة. وفي التفسير: أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء.
510
قوله: ﴿قُمِ الليل﴾ : العامَّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السَّاكنَيْن. وأبو السَّمَّال بضمها إتباعاً لحركةِ القاف. وقُرِىءَ بفَتحِها طَلَباً للخِفَّةِ. قال أبو الفتح: «الغَرَضُ الهَرَبُ من التقاءِ الساكنَيْن، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الأولُ حَصَلَ الغَرَضُ». قلت: إلاَّ أنَّ الأصلَ الكسرُ لدليلٍ ذكره النحويون. و «الليلَ» ظرفٌ للقيامِ، وإن استغرقه الحَدَثُ الواقعُ فيه. هذا قولُ البصريين، وإمَّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوعَ مفعولاً به. /
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.
510
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
511
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:»
نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه».
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما
512
وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً».
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ،
513
والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال تعالى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه
514
قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ».
الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً
515
أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:»
أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر:
٤٣٦٤ - كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ:»
الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ»
نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
516
قوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي﴾ : هذه الجملةُ مستأنفةٌ. وقال
516
الزمخشري: «وهذه الآيةُ اعتراضٌ». ثم قال: «وأراد بهذا الاعتراضِ أنَّ ما كُلِّفَهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جُملةِ التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي وَرَدَ بها القرآنُ؛ لأنَّ الليلَ وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ، فلا بُدَّ لِمَنْ أحياه مِنْ مُضادَّةٍ لطَبْعِه ومجاهدةٍ لنَفْسِه». انتهى. يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنَّ قولَه: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ﴾ مطابِقٌ لقولِه: ﴿قُمِ الليل﴾ فكأنه شابَهَ الاعتراضَ من حيث دُخولُه بين هذَيْن المتناسِبَيْنِ.
517
قوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل﴾ : في الناشئةِ أوجهٌ، أحدها: أنها صفةٌ لمحذوفٍ، أي: النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها، للعبادة، أي: تَنْهَضُ وترتفعُ. مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ: إذا ارتفعَتْ. ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز: إذا نَهَضَ قال:
٤٣٦٥ - نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ
والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل، على أنها مصدرٌ مِنْ نَشَأَ، إذا قام ونَهَضَ، فتكونُ كالعافية، قالهما الزمخشري.
الثالث: أنها بلغةِ الحبشةِ، نَشَأَ الرجلُ: أي قامَ من الليل. قال الشيخ: «فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء، أي: قائِم»، أي: قائِم «. قلت: يعني أنها صفةٌ.
517
لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ، أي: طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة.
الرابع: أنَّ» ناشئة الليل «ساعاتُه؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء. وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ. وخَصَّصَتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنىً آخرَ: وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً.
قوله: ﴿وَطْأً﴾ قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ. والباقون بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة»
وِطْئاً «. وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال:» وِطاء بكسرِ الواو بمعنى: مُواطَأَة، وبفتحها اسمٌ للمصدر، و «وَطْئاً» على فَعْل، وهو مصدرٌ وَطِىءَ «فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل. والمعنى: أنها أشدُّ مواطَأةً، أي: يُواطِىءُ قلبُها لسانَها، إنْ أَرَدْتَ النفسَ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ، والوَطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى: أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي، من قولِه
518
عليه السلام:» اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ «وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز.
قوله: ﴿وَأَقْوَمُ﴾ حكى الزمخشري:»
أنَّ أَنَساً قرأ «وأَصْوَبُ قِيلاً» فقيل له: يا أبا حمزةَ إنما هي: وأقومُ!! «فقال:» إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ «وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ» فحاسُوا خلالَ الديارِ «بالحاءِ المهمةِ فقيل له: هي بالجيم. فقال: حاسُوا وجاسُوا واحدٌ». قلت: له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن، وهو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنىً. وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ، وهذه الحكايةُ آحادٌ. وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٤] فجعل الرجلُ يقول: اليتيم. فلمَّا تَبَرَّم به قال: طعامُ الفاجرِ يا هذا. فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه. وليس فيه دليلٌ؛ لأنَّ مقصودَ/ أبي الدرداءِ بيانُ المعنى، فجاء بلفظٍ مبينٍ.
519
قوله: ﴿سَبْحَاً﴾ : العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً «بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري:»
519
استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر:
٤٣٦٦ - فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي: خَفِّفَ. ومنه «لا تُسَبِّخي بدُعائِك»، أي: لا تُخَفِّفي. وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي: مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً:
٤٣٦٧ - فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي: «وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة» سَبْخاً «بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه». قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
520
قوله: ﴿تَبْتِيلاً﴾ : مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ
520
موقعَ التَّبَتُّل؛ لأنَّ مصدرَ تَفَعَّل نحو: تَصَرَّفَ تَصَرُّفاً، وتكرَّمَّ تكرُّماً. وأمَّا التفعيلُ فمصدرُ فَعَّل نحو: صَرَّف تَصْرِيفاً. ومثلُه قولُ الشاعر:
٤٣٦٧ - وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ... فأوقعَ الانفعالَ مَوْقِعَ التَّفَعُّل. قال الزمخشري: «لأنَّ معنى تَبَتَّل:» بَتَّلَ نفسَه، فجيْءَ به على معناه مراعاةً لحَقِّ الفواصِل «. والتبتُّل: الانقطاعُ. ومنه» امرأة بتولٌ «، أي: انقطَعَتْ عن النِّكاحِ، وبَتَلْتُ الحَبْلَ: قَطَعْتُه. قال الليث: البَتْلُ: تمييزُ الشيءِ من الشيءِ. وقالوا:» طَلْقَةٌ بَتْلَةٌ «، و» هِبَةٌ بَتْلَةٌ «يعنونَ انقطاعها عن صاحبِها، فالتبتيلُ تَرْكُ النِّكاحِ، والزهدُ فيه. والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دونَ تَرْكِ النكاحِ، وفي الحديث:» أنَّه نَهَى عن التبتُّل «، أي: الانقطاع عن النِّكاح، ومنه سُمِّي الراهبُ» مُتَبتِّلاً «لانقطاعِه عن النكاحِ. قال امرؤ القيس:
521
قوله: ﴿رَّبُّ المشرق﴾ : قرأ الأخَوان وأبو بكر
521
وابن عامر بجرِّ «ربِّ المشرق» على النعت ل «ربِّك» أو البدلِ منه أو البيانِ له. وقال الزمخشري: «وعن ابن عباس على القَسَم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك:» اللَّهِ لأفعلَنَّ «، وجوابُه ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ كما تقول:» واللَّهِ لا أحدَ في الدار إلاَّ زيدٌ «قال الشيخ:» لعلَّ هذا التخريجَ لا يَصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنَّ فيه إضمارَ الجارِّ، ولا يُجيزه البصريون إلاَّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصةً، ولأن الجملةَ المنفيَّة في جوابِ القسم إذا كانَتْ اسميةً فإنما تُنْفَى ب «ما» وحدَها، ولا تُنْفَى ب «لا» إلاَّ الجملةُ المصدرةُ بمضارعٍ كثيراً، أو بماضٍ في معناه قليلاً، نحو قولِه:
٤٣٦٨ - تُضِيْءُ الظلامَ بالعَشِيِّ كأنَّها منارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
٤٣٦٩ - رِدُوا فواللَّهِ لا ذُذْناكُمُ أبداً ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرَّادِ
والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها ب «ما» كقوله:
٤٣٧٠ - لَعَمْرُك ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ولا نَأْنَأٍ يومَ الحِفاظِ ولا حَصِرْ
قلت: قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنَّ الجملةَ المنفيَّةَ سواءً كانَتْ اسميةً أم فعلية تُتَلَقَّى ب «ما» أو «لا» أو «إنْ» بمعنى «ما»، وهذا هو الظاهر.
522
وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: وهو رَبُّ. وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ. / وقرأ زيدُ بن عليٍّ «رَبَّ» بالنصبِ على المدحِ. وقرأ العامَّةُ «المَشْرِقِ والمغربِ» موحَّدتَيْن. وعبدُ الله وابن عباس «المشارِقِ والمغارِبِ» ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ «ربَّ» في قراءةِ زيد مِنْ وجَهْينِ آخرَيْنِ، أحدُهما: أنَّه بدلٌ مِنْ «اسمَ ربِّك» أو بيانٌ له، أو نعتٌ له، قاله أبو البقاء، وهذا يَجِيءُ على أن الاسمَ هو المُسمَّى. والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدَّرٍِ، أي: فاتَّخِذْ ربَّ المشرِقِ فاتَّخِذْه، وما بينهما اعتراضٌ.
523
قوله: ﴿والمكذبين﴾ يجوزُ نصبُه على المعيَّةِ، وهو الظاهرُ، ويجوزُ على النَّسَقِ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ.
قول: ﴿أُوْلِي النعمة﴾ نعتٌ للمكَذِّبين. والنَّعْمَةُ بالفتح: التنعمُ، وبالكسرِ: الإِنعام، وبالضمِّ: المَسَرَّةُ. يقال: نُعْمُ ونُعْمَةُ عَيْنٍ.
قوله: ﴿قَلِيلاً﴾ نعتٌ لمصدرٍ، أي: تَمْهيلاً، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ، أي: زماناً قليلاً.
قوله: ﴿أَنكَالاً﴾ : جمعُ نِكْلٍ. وفيه قولان، أشهرُهما: أنه القَيْدُ. وقيل: الغُلُّ، والأولُ أَعْرَفُ. وقالت الخنساء:
523
524
قوله: ﴿ذَا غُصَّةٍ﴾ : الغُصَّةُ: الشَّجَى، وهو ما يَنْشَبُ في الحَلْقِ فلا يَنْساغُ. ويُقال: غَصَصْتَ بالكسرِ، فأنتَ غاصٌّ وغَصَّانُ قال:
٤٣٧١ - دَعاكَ فَقَطَّعْتُ أنكالَهُ وقد كُنَّ مِنْ قبلُ لا تُقْطَعُ
قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «ذَرْني»، وفيه بُعْدٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بالاستقرارِ المتعلِّقِ به «لَدَيْنا». والثالث: أنه صفةٌ ل «عذاباً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: عذاباً واقعاً يومَ تَرْجُفُ. والرابع: أنه منصوبٌ ب «أليم». والعامَّةُ «تَرْجُفُ» بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنياً للفاعلِ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنياً للمفعولِ مِنْ أَرْجَفَها.
قوله: ﴿مَّهِيلاً﴾ أصلُه مَهْيُول كمَضْروب، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ فنُقِلَتْ إلى الساكن قبلَها، وهو الهاءُ، فالتقى ساكنان. فاختلف النحاةُ في العمل في ذلك: فسيبويه وأتباعُه حذفوا الواوَ، وكانَتْ أَوْلى بالحَذْفِ؛
524
لأنها زائدةٌ، وإنْ كانَتْ القاعدةُ أنَّ ما يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنَيْن الأولُ، ثم كَسَرُوا الهاءَ لتَصِحَّ الياءُ، ووزنُه حينئذٍ مَفِعْل. والكسائيُّ والفراء والأخفش حذفوا الياءَ؛ لأنَّ القاعدةَ في التقاءِ الساكنَيْنِ إذا احْتِيج إلى حَذْفِ أحدِهما حُذِفَ الأولُ وكان ينبغي على قولِهم أَنْ يُقال: فيه: مَهُوْل، إلاَّ أنَّهَم كَسَروا الهاءَ لأجلِ الياءِ التي كانَتْ، فقُلِبت الواوُ ياءً، ووزنُه حينئذٍ مَفُوْلاً على الأصلِ، ومَفِيلاً بعد القلب.
قال مكي: «وقد أجازوا كلُّهم أَنْ يأتيَ على أصلِه في الكلامِ فتقول: مَهْيُوْل ومَبْيُوْع، وما أشبه ذلك مِنْ ذواتِ الياءِ. فإنْ كان مِنْ ذواتِ الواوِ لم يَجُزْ أَنْ يأتيَ على أصلِه عند البصريين، وأجازه الكوفيون نحو: مَقْوُوْل ومَصْوُوْغ، وأجازوا كلُّهم مَهُوْل ومَبُوْع على لغةِ مَنْ قال: بُوع المتاعُ، وقوُل القولُ، ويكونُ الاختلافُ في المحذوفِ منه على ما تقدَّم». قلت: التتميمُ في مَبْيُوع ومَهْيُوْل وبابِه لغةُ تميم، والحَذْفُ لغةُ سائرِ العربِ. ويُقال: هِلْتُ الترابَ أَهيلُه هَيْلاً فهو مَهِيل. وفيه لغةٌ: أَهْلتُه رباعياً إهالةً فهو مُهال نحو: أبَعْتُه إباعَةً فهو مُباعٌ.
والكثيبُ: ما اجتمع من الرَّمْل/ والجمعُ في القلَّة: أَكْثِبَة، وفي الكثرة: كُثْبان وكُثُب، كرَغِيف وأرْغِفَة ورُغْفان ورُغُفُ. قال ذو الرمة:
٤٣٧٣ - فقلت لها:
٤٣٧٢ - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
لا إنَّ أهليَ جيرةٌ لأكثبةِ الدَّهْنا جميعاً وماليا
والمَهيلُ: ما انهالَ تحت القَدَمَ، أي: انصَبَّ، مِنْ هِلْتُ الترابَ،
525
أي: طَرَحْتُه، قال الزمخشري: «مِنْ كَثَبْتُ الشيءَ إذا جَمَعْتَه، ومنه الكُثْبةُ من اللبن. قالت الضائنة: أُجَزُّ جُفالاً وأُحْلَبُ كُثَباً عِجالاً».
526
قوله: ﴿فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ : إنما عَرَّفه لتقدُّمِ ذِكْرِه، وهذه أل العهديةُ، والعربُ إذا قَدَّمَتْ اسماً ثم حَكَتْ عنه ثانياً أَتَوْا به مُعَرَّفاً بأل، أو أَتَوْا بضميرِه لئلا يُلْبَسَ بغيرِه نحو: «رأيتُ رجلاً فأكرَمْت الرجلَ» أو فأَكْرَمْتُه، ولو قُلْتَ: «فأكرَمْتُ رجلاً» لَتَوَهَّمَ أنه غيرُ الأولِ، وسيأتي تحقيقُ هذا عند قولِه تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً﴾ [الشرح: ٦] وقولِه عليه السلام: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن».
قوله: ﴿يَوْماً﴾ : منصوبٌ إمَّا ب «تَتَّقُون» على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً. وقال الزمخشري: «يوماً» مفعولٌ به، أي: فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ؟ «. وناقشه الشيخُ فقال:» وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم﴾ [الدخان: ٥٦]. ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ ب تَقُون أنفسَكم، لكنه ليس «تَتَّقون» بمعنى يَقُوْن، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه «انتهى.
526
ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ، أي: فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا؟ قاله الزمخشريُّ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب» كَفَرْتُمْ «إذا جُعِل» كَفَرْتُمْ «بمعنى جَحَدْتُم، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ، أي: إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ. والعامَّةُ على تنوين» يوماً «وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له. والعائدُ محذوفٌ، أي: يَجْعل الوِلْدانَ فيه. قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في» يَجْعَلُ «، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى، أي: يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه. وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ العائدُ مضمراً في» يَجْعَلُ «هو فاعلَه، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ، أي: نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا.
وقرأ زيدُ بنُ عليّ»
يومَ يَجْعَلُ «بإضافةِ الظرفِ للجملة. والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ف» شِيْباً «مفعولٌ ثانٍ، وهو جمعُ أَشْيَب. وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو: أحمر وحُمْر. قال الشاعر:
527
وقال آخر:
٤٣٧٤ - مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ
528
قوله: ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ : صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على النَّسَبِ أي: ذات انفطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء:
٤٣٧٥ -..................... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا
٤٣٧٦ - ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: ﴿جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] ﴿الشجر الأخضر﴾ [يس: ٨٠] و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن. والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال:» والباءُ في «به» مِثْلُها في قولِك: «فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به».
قوله: ﴿وَعْدُهُ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم يَجْرِ له
528
ذِكْرٌ للعِلْمِ به، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ.
529
قوله: ﴿مِن ثُلُثَيِ الليل﴾ : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ، وهو الأصلُ كالرُّبُعِ والسُّدُسِ، وقرأ هشام بإسكانِها تخفيفاً.
قوله: ﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ قرأ الكوفيون وابن كثير بنصبِهما، والباقون بجرِّهما. وفي الجرِّ إشكالٌ كما سيأتي. فالنصبُ نَسَقٌ على «أَدْنى» لأنه بمعنى: وَقْتٌ أَدْنى، أي: أقربُ. اسْتُعير الدنُوُّ لقُرْبِ المسافةِ في الزمانِ وهذا مطابقٌ لِما في أولِ السورةِ من التقسيمِ: وذلك أنَّه إذا قام أَدْنَى مِنْ ثُلُثي الليلِ صَدَقَ عليه أنه قام الليلَ إلاَّ قليلاً؛ لأنَّ الزمانَ الذي لم يَقُمْ فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثَيْن، فيَصْدُقُ عليه قولُه: «إلاَّ قليلاً». وأمَّا قولُه «ونِصْفَه» فهو مطابقٌ لقولِه أولاً «نِصْفَه» وأمَّا قولُه: «وثُلُثَه» فإنَّ قولَه: ﴿أَوِ انقص مِنْهُ﴾ قد ينتهي النَّقْصُ في القليل إلى أن يكونَ الوقتُ ثلثي الليلِ. وأمَّا قولُه: ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ فإنَّه إذا زاد على النصفِ قليلاً كان الوقتُ أقلَّ مِنَ الثلثَيْن. فيكونُ قد طابق أدْنى مِنْ ثلثي الليل، ويكون قولُه تعالى: ﴿نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾ شَرْحاً لمُبْهَمِ ما دَلَّ عليه قولُه: ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً﴾. وعلى قراءةِ النصبِ فَسَّر الحسنُ «تُحْصُوه» بمعنى تُطيقوه.
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فمعناها: أنه قيامٌ مُخْتَلِفٌ: مرةً أدنى من الثلثين،
529
ومرةً أَدْنى من النصفِ، ومرةً أَدْنى من الثلثِ؛ وذلك لتعذُّرِ معرفةِ البشرِ بمقدارِ الزمانِ مع عُذْر النومِ. وقد أوضح هذا كلَّه الزمخشريُّ فقال: «وقُرِىء نصفَه وثلثَه بالنصبِ على أنك تقومُ أقلَّ من الثلثين، وتقومُ النصفَ والثلثَ وهذا مطابِقٌ لِما مَرَّ في أولِ السورةِ من التخيير: بين قيامِ النصفِ بتامِه، وين قيام الناقصِ منه، وهو الثلثُ، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وهو الأَدْنَى من الثلثَيْن. وقُرِىء بالجرِّ، أي: تقومُ أقلَّ من الثلثَيْن وأقلَّ من النصفِ والثلثِ، وهو مطابقٌ للتخييرِ بين النَّصْفِ وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أدنى من الثلث وهو الوجهُ الأخيرُ» انتهى. يعني بالوجهِ الأخير ما قَدَّمه أولَ السورة من التأويلات.
وقال أبو عبد الله الفاسي: «وفي قراءةِ النصب إشكالٌ، إلاَّ أَنْ يُقَدَّر: نصفَه تارةً، وثلثَه تارةً، وأقلَّ من النصفِ والثلثِ تارةً، فيَصِحَّ المعنى».
قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ رُفع بالعطفِ على الضميرِ في «يقومُ»، وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالظرفِ وما عُطِفَ عليه.
قوله: ﴿والله يُقَدِّرُ الليل﴾. قال الزمخشري: «وتقديمُ اسمِه عزَّ وجلَّ مبتدأً مبنيَّاً عليه» يُقَدِّرُ «هو الدالُّ على معنى الاختصاصِ بالتقديرِ».
ونازعه الشيخُ في ذلك فقال: «لو قيل:» زيدٌ يحفظُ
530
القرآن «لم يَدُلَّ ذلك على اختصاصِه». وجَعَلَ الاختصاصَ في الآيةِ مفهوماً من السِّياقِ لا ممَّا ذكره.
قوله: ﴿أَنْ لَنْ﴾ و «أَنْ سيكونُ» كلاهما مخففةٌ من الثقيلة، والفاصلُ النفيُ وحرفُ التنفيسِ.
قوله: ﴿وَآخَرُونَ﴾ / عطفٌ على «مَرْضَى»، أي: عَلِم أَنْ سيوجَدُ منكم قومٌ مَرْضى وقومٌ آخرون مسافرون. ف «يَضْرِبون» نعتٌ ل «آخرون» وكذلك «يَبْتَغون». ويجوزُ أَنْ يكونَ «يَبْتَغون» حالاً مِنْ فاعل «يَضْرِبون»، و «آخرون» عطفٌ على «آخرون» و «يقاتِلون» صفتُه.
قوله: ﴿هُوَ خَيْراً﴾ العامَّةُ على نصب الخير، مفعولاً ثانياً. وهو: إمَّا تأكيدٌ للمفعولِ الأولِ أو فَصْلٌ. وجَوَّزَ أبو البقاء أن يكونَ بدلاً، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه كان يَلْزَمُ أن يطابقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فيقال: إياه. وقرأ أبو السَّمَّال وابن السَّمَيْفَع «خيرٌ» على أن يكونَ «هو» مبتدأً، و «خيرٌ» خبرُه. والجملةُ مفعولٌ ثانٍ ل «تَجِدوه». قال أبو زيد: «هي لغةُ تميم، يرفعون ما بعد الفصل» وأنشد سيبويه:
٤٣٧٧ - تَحِنُّ إلى ليلى وأنتَ تركتَها وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أَقْدَرُ
والقوافي مرفوعةٌ. ويُرْوَى «أقْدَارا» بالنصب. قال الزمخشري:
531
و «هو فصْلٌ» وجاز وإنْ لم يَقَعْ بينَ معرفتَيْن لأنَّ «أَفْعَلَ مِنْ» أشْبَهَ في امتناعِه من حرفِ التعريف المعرفةَ «. قلت: هذا هو المشهورُ. وبعضُهم يُجَوِّزه في غيرِ أفعلَ من النكراتِ.
532
Icon