تفسير سورة المدّثر

الماوردي
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ يا أيها المدَّثِّر ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يا أيها المدثر بثيابه، قاله قتادة.
الثاني : بالنبوة وأثقالها، قاله عكرمة.
﴿ قم ﴾ من نومك ﴿ فأنذر ﴾ قومك عذاب ربك.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك.
ويحتمل هذا الإنذار وجهين :
أحدهما : إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة.
الثاني : دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها.
قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت.
﴿ وثيابَك فَطِّهرْ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن المراد بالثياب العمل.
الثاني : القلب.
الثالث : النفْس.
الرابع : النساء والزوجات.
الخامس : الثياب الملبوسات على الظاهر.
فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية : وعملك فأصلح، قاله مجاهد، ومنه ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :
« يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها » يعني عمله الصالح والطالح.
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس :
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ
ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني : وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول الشاعر :
فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع.
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب، فكنى عنها بالثياب، ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون، رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد.
الثاني : ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر، من قول الوليد بن المغيرة، قاله عطاء.
الثالث : ونفسك فطهرها من الخطايا، قاله عامر.
ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف.
الثاني : الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر، وفي الطهر دون الحيض، حكاهما ابن بحر.
ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر، فلهم في تأويله أربعة أوجه :
أحدها : معناه وثيابك فأنْقِ، رواه عطاء عن ابن عباس، ومنه قول امرىء القيس :
ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان
الثاني : وثيابك فشمّر وقصّر، قاله طاووس.
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسات بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء.
الرابع : معناه لا تلبس ثياباً إلا [ من ] كسب حلال مطهرة من الحرام.
﴿ والرُّجْزَ فاهْجُرْ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني الآثام والأصنام، قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي.
346
الثاني : والشرك فاهجر، قاله ابن جبير.
الثالث : والذنب فاهجر، قاله الحسن.
الرابع : والإثم فاهجر، قال السدي.
الخامس : والعذاب فاهجر، حكاه أسباط.
السادس : والظلم فاهجر، ومنه قول رؤبة بن العجاج.
كم رامنا من ذي عديد منه حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ.
قاله السدي : الرَّجز بنصب الراء : الوعيد.
﴿ ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة، قال الضحاك : هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته.
الثاني : معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك، قاله الحسن.
الثالث : معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً، قاله ابن زيد.
الرابع : معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد.
ويحتمل تأويلاً خامساً : لا تفعل الخير لترائي به الناس.
﴿ ولِربِّك فاصْبِرْ ﴾ أما قوله « وَلِرَبِّكَ » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لأمر ربك.
الثاني : لوعد ربك.
الثالث : لوجه ربك.
وفي قوله « فاصْبِرْ سبعة تأويلات :
أحدها : فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد.
الثاني : على محاربة العرب ثم العجم، قاله ابن زيد.
الثالث : على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من احد، قاله السدي.
الرابع : فاصْبِرْ على عطيتك لله، قاله إبراهيم.
الخامس : فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله، قاله عطاء.
السادس : على انتظام ثواب عملك من الله تعالى، وهو معنى قول ابن شجرة.
السابع : على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين، حكاه ابن عيسى.
﴿ فإذا نُقِرَ في الناقُورِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني نفخ في الصور، قاله ابن عباس، وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان :
أحدهما : الأولى.
والثاني : الثانية.
- الثاني : أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب، حكاه ابن كامل.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض.
347
﴿ ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً ﴾ قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه، وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول.
وفي قوله تعالى :« وحيداً » تأويلان :
أحدهما : أن الله تفرد بخلقه وحده.
الثاني : خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد، فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان :
أحدهما : أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد.
الثاني : أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً.
﴿ وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً ﴾ فيه ثمانية أقاويل :
أحدها : ألف دينار، قاله ابن عباس.
الثاني : أربعة الآف دينار، قاله سفيان.
الثالث : ستة الآف دينار، قاله قتادة.
الرابع : مائة ألف دينار، قاله مجاهد.
الخامس : أنها أرض يقال لها ميثاق، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً.
السادس : أنها غلة شهر بشهر، قاله عمر رضي الله عنه.
السابع : أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، قاله السدي.
الثامن : أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة، قاله ابن بحر.
ويحتمل تاسعاً : أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً.
ويحتمل عاشراً : أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر.
﴿ وبَنينَ شُهوداً ﴾ اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا عشرة، قاله السدي.
الثاني : قال الضحاك : كان له سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف.
الثالث : أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً، قاله ابن جبير.
وفي قوله « شهوداً » ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم حضور معه لا يغيبون عنه، قاله السدي.
الثاني : أنه إذا ذكر ذكروا معه، قاله ابن عباس.
الثالث : أنهم كلهم رب بيت، قاله ابن جبير.
ويحتمل رابعاً : أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره.
﴿ ومَهّدْت له تَمْهيداً ﴾ فيه وجهان :
أحدها : مهدت له من المال والولد، قاله مجاهد.
الثاني : مهدت له الرياسة في قومه، قاله ابن شجرة.
ويحتمل ثالثاً : أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة.
﴿ ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ثم يطمع أن أدخله الجنة، كلاّ، قاله الحسن.
الثاني : أن أزيده من المال والولد « كلاّ » قال ابن عباس :
فلم يزل النقصان في ماله وولده.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : ثم يطمع أن أنصره على كفره.
﴿ كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً ﴾ في المراد « بآياتنا » ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن، قاله ابن جبير.
348
الثاني : محمد ﷺ، قاله السدي.
الثالث : الحق، قاله مجاهد.
وفي قوله « عنيداً » أربعة تأويلات :
أحدها : معاند، قاله مجاهد وأبو عبيدة، وأنشد قول الحارثي :
إذا نزلت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العُنَّدا
الثاني : مباعد، قاله أبو صالح، ومنه قول الشاعر :
أرانا على حال تفرِّق بيننا نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود.
الثالث : جاحد، قاله قتادة.
الرابع : مُعْرض، قاله مقاتل.
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنه المجاهر بعداوته.
﴿ سأرْهِقُه صَعُوداً ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : مشقة من العذاب، قاله قتادة.
الثاني : أنه عذاب لا راحة فيه، قاله الحسن.
الثالث : أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها، فإذا صعدها زلق منها، وهذا قول السدي.
الرابع : ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ « سأرهقه صعودا » قال :« هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده عيله ذابت، وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت ».
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً : أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.
﴿ إنه فكَّر وقَدَّر ﴾ قال قتادة : زعموا أن الوليد بن المغيرة قال : لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يُعْلَى، وما أشك أنه سحر، فهو معنى قوله « فكر وقدّر » أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة.
﴿ فقُتِلَ كيف قَدَّرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي عوقب ثم عوقب، فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى.
الثاني : أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة، وأنه سحر.
﴿ ثم نَظَرَ ﴾ يعني الوليد بن المغيرة، وفي ما نظر فيه وجهان :
أحدهما : أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن، قاله مقاتل.
الثاني : أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي ﷺ إنه ساحر، ليعلم ما عندهم.
ويحتمل ثالثاً : ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر.
﴿ ثم عَبَسَ وبَسَرَ ﴾ أما عبس فهو قبض ما بين عينينه، وبَسَرَ فيه وجهان :
أحدهما : كلح وجهه، قاله قتادة، ومنه قول بشر بن أبي خازم :
صبحنا تميماً غداة الجِفار بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ
الثاني : تغيّر، قاله السدي، ومنه قول توبة :
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها.
واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي ﷺ حين دعاه. واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره.
349
وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة.
﴿ ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة.
الثاني : أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله.
﴿ فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر ﴾ قال ابن زيد : إن الوليد بن المغيرة قال : إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه.
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر.
﴿ إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ ﴾ أي ليس من كلام الله تعالى، قال السدي : يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي ﷺ، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
﴿ سأصْليه سَقَرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم : سقرته الشمس إذا آلمت دماغه، فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها.
﴿ وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا تبقي من فيها حياً، ولا تذره ميتاً، قاله مجاهد.
الثاني : لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله، ولا تذره من العذاب، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : لا تبقيه صحيحاً، ولا تذره مستريحاً.
﴿ لوّاحَةً للبَشَرِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : مغيرة لألوانهم، قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل.
الثاني : تحرق البشر حتى تلوح العظم، قاله عطية.
الثالث : أن بشرة أجسادهم تلوح على النار، قاله مجاهد.
الرابع : أن اللواح شدة العطش، والمعنى أنها معطشة للبشر، أي لأهلها، قاله الأخفش، وأنشد :
سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً سقاها به الله الرهامَ الغواديا.
يعني باللوح شدة العطش :
ويحتمل خامساً : أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها، وأسرّ لمن سلم منها.
وفي البشر وجهان :
أحدهما : أنهم الإنس من أهل النار، قالهالأخفش والأكثرون.
الثاني : أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، قاله مجاهد وقتادة.
﴿ عليها تسعةَ عَشَرَ ﴾ هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية، وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى، وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين، فأمسك الإبهام في الثانية، وأخبر الله عنهم بهذا العدد، وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد، وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل.
وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً، وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير، لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف، والآحاد أقل الأعداد، وأكثر الآحاد تسعة، وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة، فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها، وأقل كثيرها، فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت.
350
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت، وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً، وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد، لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن، فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض، وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه، وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً، واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً، فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط، والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه.
وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً : أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر برجاً، فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة، فلذلك حفظ جهنم، وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره.
ثم نعود إلى تفسير الآية، روى قتادة أن الله تعالى لما قال :
« عليها تسعة عشر » قال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم.
قال السدي : وقال أبو الأشد بن الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزئاً.
351
﴿ وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا ﴾ وروى ابن جريج أن النبي ﷺ نعت خزنة جهنم فقال : كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون شعورهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار، ويرمي الجبل عليهم.
﴿ ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل، قاله مجاهد.
الثاني : ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة.
﴿ ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً ﴾ بذلك، قاله جريج.
﴿ وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر، قاله قتادة.
الثاني : وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة، حكاه ابن عيسى.
الثالث : وما هذه السورة إلا تذكرة للناس، قاله ابن شجرة.
{ كلا والقَمرِ ﴾
الواو في « والقمر » واو القسم، أقسم الله تعالى به، ثم أقسم بما بعده فقال :
﴿ والليلِ إذا أَدْبَرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إذ ولّى، قاله ابن عباس.
الثاني : إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر، وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب.
واختلف في أدبر ودبر على قولين :
- أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الأخفش.
- الثاني : أن معناهما مختلفان، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه دبر إذا خلقته خلفك، وأدبر إذا ولى أمامك، قاله أبو عبيدة.
الثاني : أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر، وأدبر إذا ولى مدبراً، قاله ابن بحر.
﴿ والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ ﴾ يعني أضاء وهذا قسم ثالث.
﴿ إنها لإحْدَى الكُبَرِ ﴾ فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي أن تكذيبهم بمحمد ﷺ لإحدى الكبر، أي الكبيرة من الكبائر، قاله ابن عباس.
الثاني : أي أن هذه النار لإحدى الكبر، أي لإحدى الدواهي.
الثالث : أن هذه الآية لإحدى الكبر، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل رابعاً : أن قيام الساعة لإحدى الكبر، والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد، قال الراجز :
يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ.
﴿ نذيراً للبشر ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن محمداً ﷺ نذير للبشر حين قاله له « قم فأنذر » قاله ابن زيد.
الثاني : أن النار نذير للبشر، قال الحسن : والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها.
ويحتمل ثالثاً : أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد.
﴿ لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتقدم في طاعة الله، أو يتأخر عن معصية الله، وهذا قول ابن جريج.
الثاني : أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر، قاله يحيى بن سلام.
الثالث : أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة، قاله السدي.
ويحتمل رابعاً : لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر، وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر.
﴿ كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه، إلا أصحاب اليمين، وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم، قاله عليٌّ رضي الله عنه.
الثاني : كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون، فإنهم لا يرتهنون، وهم إلى الجنة يسارعون، قاله الضحاك.
الثالث : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج.
﴿ وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نكذب مع المكذبين، قاله السدي.
الثاني : كلما غوى غاو غوينا معه، قاله قتادة.
الثالث : قولهم محمد كاهن، محمد ساحر، محمد شاعر، قاله ابن زيد.
ويحتمل رابعاً، وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين.
﴿ وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين ﴾ يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
﴿ حتى أتانا اليقين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الموت، قاله السدي.
الثاني : البعث يوم القيامة.
﴿ فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين ﴾ قال قتادة : عن القرآن.
ويحتمل ثالثاً : عن الاعتبار بعقولهم.
﴿ كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ ﴾ قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها، يعني هاربة، وأنشد الفراء :
أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ.
﴿ فَرَّتْ من قَسْورةٍ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن القسورة الرماة، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه القناص أي الصياد، ومنه قول علي :
يا ناس إني مثل قسورةٍ وإنهم لعداة طالما نفروا.
الثالث : أنه الأسد، قاله أبو هريرة، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة، قال الفرزدق :
إلى هاديات صعاب الرؤوس فساروا للقسور الأصيد.
الرابع : أنهم عصب من الرجال وجماعة، رواه أبو حمزة عن ابن عباس.
الخامس : أنه أصوات الناس، رواه عطاء عن ابن عباس.
السادس : أنه النبيل، قاله قتادة.
﴿ بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً ﴾ يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد، قاله قتادة.
الثاني : أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها، قاله أبو صالح.
الثالث : أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه، قاله مقاتل.
الرابع : أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة، فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية، قاله الفراء.
﴿ هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب، قاله قتادة.
الثاني : هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره، وأهل لمن اتقاه أن يغفر له، وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً.
الثالث : هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته.
ويحتمل رابعاً : أهل الانتقام والإنعام.
Icon