أهداف سورة البروج
( سورة البروج مكية، وآياتها ٢٢ آية، نزلت بعد سورة الشمس ).
هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني، وتمجّد الثبات على الحق، وتبشّر المؤمنين بنصر الدنيا ونعيم الآخرة، وتهدد الجبارين المعتدين بنقمة الله ولعنته في الدنيا والآخرة.
أصحاب الأخدود
الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود قوم كافرون ذوو بأس وقوة، رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر فأبوا، فشقوا لهم شقّا في الأرض وحشوه بالنار، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق.
فقرات السورة
١- تبدأ الفقرة الأولى بالقسم، وتربط بين السماء ويوم القيامة وبين حادث الأخدود، ونقمة الله على أصحابه. ( الآيات ١-٤ ).
٢- ثم تعرض الفقرة الثانية المشهد المفجع في لمحات خاطفة، تودع المشاعر بشاعة الحادث، بدون تفصيل ولا تطويل، مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها. ( الآيات ٥-١٠ ).
٣- ثم يجيء التعقيب بعد ذلك بفوز المؤمنين، وبشدة بطش الله بالمجرمين، وبقدرته وهيمنته على الكون، ثم إشارة سريعة إلى سوابق ممن أخذ من الطغاة كفرعون وثمود. ( الآيات ١١-٢٢ ).
مع آيات السورة
١-٣- يقسم الله سبحانه بالسماء ذات الكواكب، والنجوم الكثيرة التي تنتشر في أرجائها، ويقسم بيوم القيامة، ويقسم بالشاهد والمشهود، والشاهد هم الملائكة تشهد على الناس يوم القيامة، والمشهود عليه هم الخلائق، أو الأنبياء تشهد على أممهم يوم القيامة، أو بجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس، ويرونه رأي العين.
وقصارى ذلك أنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها، ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة.
٤- قتل أصحاب الأخدود. أي : أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
وقصة ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن، رجل ممن كانوا على دين عيسى ابن مريم، فدعا أهلها إلى دينه، وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم، وكان يتمسك باليهودية، فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذهم خيّرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار، وصار يؤتى بالرجل منهم فيخيّره فمن جزع من النار، وخاف العذاب، ورجع عن دينه، ورضى باليهودية تركه، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء، ألقاه في النار.
ثم بين من هم أصحاب الأخدود، فقال :
٥- النار ذات الوقود. أي أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار، التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، فلا جرم يكون حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا.
٦- إذ هم عليها قعود. أي : قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم، وهم يعذّبون ويحرقون فيها.
٧- وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وهو تعبير يصوّر قسوة قلوبهم، وتمكّن الكفر منهم، فإن التعذيب كان يتم بأمرهم، وكانوا يقعدون على مقربة من النار، ويشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع.
٨، ٩- وما أنكر أصحاب الأخدود على هؤلاء الذين أحرقوهم بالنار إلا أنهم آمنوا بربهم، الموصوف بالغلبة والقهر، والمحمود على نعمه وأفضاله، الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وهو رقيب على الجميع شاهد على أعمالهم وأحوالهم.
١٠- إن هناك جزاء عادلا في الآخرة، وهؤلاء الذين عذبوا المؤمنين وحرقوهم في الدنيا، ولم يندموا على ما فعلوا، سيلقون عقابهم في جهنم، وفي حريق شديد، لقد أحرقوا المؤمنين بنار الدنيا، وهي جزء يسير من نار الآخرة، إذ نارها شديدة ومعها غضب الله على العصاة.
١١- وهؤلاء المؤمنون الصادقون يلقون جزاءهم في جنات تجري من تحتها الأنهار، مع رضوان الله، وذلك هو الفوز الكبير.
وبهذا يتم الأمر، وينال كل طرف جزاءه العادل، فالظالمون الطغاة يلقون عذاب الحريق، والمؤمنون الصادقون يلقون الجنة ورضوانا من الله أكبر، ذلك هو الفوز الكبير.
١٢-١٦- إن انتقام الله من الظالمين لشديد، فهو يمهلهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال، فقال :
١- وهو الغفور. لمن يرجع إليه بالتوبة.
٢- الودود. كثير الود والعطاء والمحبة لمن أخلصوا له.
٣- ذو العرش. ذو السلطان الكبير والقدرة الكاملة.
٤- المجيد. العظيم الكرم والفضل.
٥- فعّال لما يريد. سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار.
وهو صاحب الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث، ووراء الحياة ووراء كل شيء في الوجود.
١٧، ١٨- هل أتاك حديث الجنود. الجنود : تطلق تارة على العسكر، وتطلق تارة أخرى على الأعوان، والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، هل أتاك حديثهم ؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد ؟
فرعون وثمود. لقد أهلك الله فرعون وجنده، ونجّى موسى ومن آمن معه، وقصة ثمود مع صالح معروفة، فقد عقرت الناقة التي جعلها الله لهم آية، وقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم، ونجّى صالحا ومن معه من المؤمنين.
وخلاصة ذلك : أن الكفار في كل عصر متشابهون، وأن حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل، فهم في عنادهم سواء، ولكن العاقبة دائما للمتقين، وبطش الله شديد بالطغاة الظالمين.
١٩-٢٢- وفي الختام تقرر السورة أن الكفار في كل عصر يكذبون الرسالات، وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وقدرته، وهو سبحانه محيط بهم وعالم بجميع أحوالهم، وسوف يؤاخذهم على عملهم، وهذا الذي كذّب به قومك كتاب شريف، متفرد في النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل.
مقاصد السورة
١- إظهار عظمة الله وجليل صفاته.
٢- قصة أصحاب الأخدود.
٣- عاقبة المتقين الجنة والرضوان، ونهاية المعتدين الهلاك والحريق.
٤- يبيد الله الأمم الطاغية في كل حين، ولاسيما الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
٥- القرآن مجيد شريف، وكفى شرفا أنه كلام الله.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج ١ واليوم الموعود ٢ وشاهد ومشهود ٣ قتل أصحاب الأخدود ٤ النار ذات الوقود ٥ إذ هم عليها قعود ٦ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ٧ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ٨ الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ٩ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ١٠ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ١١ ﴾
المفردات :
والسماء : أقسم الله بها وبما بعدها.
ذات البروج : ذات المنازل المعروفة للكواكب.
التفسير :
١- والسماء ذات البروج.
أي : أقسم بالسماء البديعة ذات البروج.
والبروج جمع برج، وهو القصر العظيم، أو الحصن.
قال تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة... ( النساء : ٧٨ ).
وتطلق البروج على النجوم والشمس والقمر، فهي مخلوقات ضخمة، وكأنها بروج السماء الضخمة، أي قصورها المبنية، كما قال سبحانه : والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون. ( الذاريات : ٤٧ ).
وإما أن تكون البروج هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء.
قال القرطبي :
قوله : والسماء ذات البروج.
قسم أقسم الله عز وجل به، وفي البروج أربعة أقوال :
أحدها : ذات النجوم، الثاني : ذات القصور، الثالث : ذات الخلق الحسن، الرابع : ذات المنازل الخاصة بالكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة، وهي اثنا عشر منزلا :
الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت. اه.
وخلاصة المعنى :
أقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها.
قال المفسرون : سميت هذه المنازل بروجا لظهورها، وشبّهت بالقصور لعلوّها وارتفاعها، لأنها منازل الكواكب السيارة.
اليوم الموعود : يوم القيامة.
التفسير :
٢- واليوم الموعود.
وأقسم باليوم الموعود، وهو يوم القيامة، الذي وعد الله أن يجمع فيه الخلائق للحساب والجزاء.
قال تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه... ( النساء : ٨٧ ).
شاهد : من يشهد على غيره.
مشهود : من يشهد عليه غيره.
التفسير :
٣- وشاهد ومشهود.
والشاهد هم الملائكة الحفظة والكتبة، الذين يشهدون على الإنسان، والمشهود عليه هو الإنسان، وقيل : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته، والمشهود عليه سائر الأمم.
وقيل : الشاهد كل رسول يشهد على أمّته أنه بلّغها رسالة السماء، ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد أنه بلّغ أمّته، والمشهود عليه هم أمم الرسل.
قال تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. ( النساء : ٤١ ).
وروي عن الحسن في تفسير قوله تعالى : وشاهد ومشهود. أنه قال : ما من يوم إلى وينادى : أنا يوم جديد، وإني على ما يعمل فيّ شهيد، فاغتنمني فلو غابت شمسي لم يدركني إلى يوم الوعيد.
وقيل : الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
وقيل : الشاهد هو جوارح الإنسان، والمشهود عليه هو ابن آدم.
وقيل : الشاهد هو الإنسان المشاهد ليوم القيامة وأهواله وعجائبه، والمشهود هو أحوال اليقامة التي يشيب لها الولدان.
قال الصاوي في حاشيته على الجلالين :
والأحسن أن يراد ما هو أعمّ، ولذلك نكّرهما ليعمّ كل شاهد ومشهود.
قتل : لعن أشد اللعن ( جواب القسم ).
الأخدود : الشقّ المستطيل في الأرض، ويجمع على أخاديد.
التفسير :
٤- قتل أصحاب الأخدود.
أي : لعن أصحاب الأخدود، وأصابهم القتل جزاء ما فعلوا بالمؤمنين من تقتيل وتعذيب.
٥- النار ذات الوقود.
تشرح هذه الآية أفعالهم، حين شقّوا أخدودا في الأرض، وأضرموا فيه النار مشتعلة مرتفعة.
إذ هم عليها قعود : إذ هم على حافة النار وحولها قعود.
التفسير :
٦- إذ هم عليها قعود.
لقد أضرموا النار، وجلسوا حولها ينظرون إلى القتلى والمعذّبين.
٧- وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
جلسوا يشاهدون ألوان العذاب بالمؤمنين : صياح القتلى، وآلام الحريق بالمؤمنين، بدون أن ترقّ قلوبهم، بل كانوا يتلذذون بآلامهم.
وقيل : كان يشهد كل فريق على صاحبه أمام الملك أنهم لم يقصروا في تحريق المؤمنين.
وما نقموا منهم : وما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم، وما كرهوا منهم.
التفسير :
٨- وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
ما كان لهؤلاء المؤمنين ذنب أو عيب، أو جريمة تستحق العقاب، سوى إيمانهم بالله القوي الغالب، المحمود على جميع أفعاله.
فالمؤاخذة أو العقاب سببه الإيمان بالله الذي يستحق الإيمان والحمد، وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذمّ، مثل قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وتنتهي قصة أصحاب الأخدود عند هذا الحد من الآيات، لكن المعاني التي ترشد إليها لا تنتهي إلى قيام الساعة، ذلك أنها تفيد أن هناك صراعا بين الباطل والحق، فالباطل هنا يملك القوة والأخدود والنار والمشاهدة والاستعلاء والجبروت. أما المؤمنون فكانوا يملكون الثبات واليقين ورجاء ما عند الله، وقد صمدوا وصبروا وقتلوا، وثبتوا على إيمانهم.
لكن الدنيا لها نهاية، والآخرة دار الجزاء العادل، وسيلقى أهل الباطل والكفر جزاءهم، وسيلقى أهل الإيمان والثبات على الحق جزاءهم، والأعمال بالخواتيم.
قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى. ( الأعلى : ١٦، ١٧ ).
٩- الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد.
إن إيمان هؤلاء المؤمنين كان لله المتصف بالعزة والحمد، وهذا الإله له ملك السماوات والأرض، خلقا ورعاية وحفظا، وهو سبحانه بيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، وهو سبحانه مطّلع وشاهد على ما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين من القتل والتحريق، وهو أيضا الحكم العدل الذي يمهل ولا يهمل.
والله على كل شيء شهيد. أي : والله تعالى على كل شيء مطµلع وشاهد، وهذه أكبر شهادة.
قال تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكمi وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ... ( الأنعام : ١٩ ).
فتنوا : ابتلوا وامتحنوا.
عذاب الحريق : هو عذاب جهنم، ذكر تفسيرا وبيانا له.
التفسير :
١٠- إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق.
الفتنة والفتن : الاختبار والامتحان، تقول : فتنت الذهب بالنار، أي : اختبرته لأعلم جيده من رديئه.
والمراد هنا : عذبوا المؤمنين والمؤمنات بألوان العذاب، والآية تشمل أصحاب الأخدود شمولا أوليّا، وتشمل أهل مكة الذي فتنوا المؤمنين بمكة، وتشمل كل من فتن مؤمنا وعذّبه ولم يتب إلى الله تعالى إلى يوم القيامة. وأنا أكتب هذه السطور تطالعنا الصحف بأن أحد جنرالات فرنسا كتب في مذكّراته عن حرب الجزائر أنه تلقى تعليمات بتعذيب فدائيين جزائريين في زنزانات منفردة حتى يعترفوا على زملائهم، وأن أبطال الجزائر كانوا يموتون تحت العذاب دون أن يعترفوا على زملائهم، ونشرت هذه الاعترافات في فرنسا وفيها أن آلافا من المحاربين ماتوا في الزنزانات تحت العذاب.
وخلاصة معنى الآية :
إن الذين عذّبوا المؤمنين والمؤمنات وفتنوهم في دينهم، طالبين رجوعهم عن الحق إلى الكفر، ثم لم يتوبوا إلى الله بالندم والإقلاع والرجوع إلى الله، فلهم عذاب جهنم، وما فيه من حميم وغسّاق، ونار مستعرة أوقدها الجبار سبحانه، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار الآخرة.
ولما كان أصحاب الأخدود قد أحرقوا المؤمنين في نار الأخدود، نصّ على أن هؤلاء القساة الغلاظ المعتدين ينتظرهم عذاب جهنم.
ولهم عذاب الحريق. أي : كما حرّقوا المؤمنين بنار الدنيا، فسيحترقون هم بنار الآخرة، لكن شتان بين النارين، ونار الدنيا أوقدها العبيد، ونار الآخرة أوقدها الخالق المجيد، فالجزاء من جنس العمل.
قال الحسن البصري :
انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
وهذا يدل على أن الآية توجيه لأهل مكة، ولكل كافر أن أقلعوا عن كفركم وظلمكم، وتوبوا إلى ربكم قبل فوات الأوان.
الفوز الكبير : أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده، بما فيها من رغائب لا تفنى.
التفسير :
١١- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير.
هذا هو التعقيب على عذاب المؤمنين، أي : بينما الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم يصطلون بعذاب جهنم وعذاب الحريق، نجد الذين آمنوا بالله ربا، وعملوا أعمالا صالحة، وامتثلوا أوامر ربهم، وهدى نبيهم، ونفّذوا أحكام دينهم، يتمتعون بجنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ألوان النعيم ورضوان من الله أكبر.
ذلك الفوز الكبير. ذلك هو الفوز الأكبر، والنجاح الأعظم، والخاتمة الناجحة للمؤمنين.
لقد كانت هناك معركة بين الكفار المعتدين والمؤمنين الذين آمنوا بالله الذي له ملك السماوات والأرض، وقد حرّق المؤمنون في الأخدود أمام أعين الظالمين، لكن المعركة لم ننته بعد، لقد أدخل الكفار عذاب جهنم وعذاب الحريق، وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. ذلك الفوز الكبير.
قال صاحب الظلال :
والفوز : النجاة والنجاح، والنجاة من عذاب الآخرة فوز، فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار، بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه، وهي الخاتمة الحقيقية للموقف، فلم يكن ما وقع في الأرض إلا طرفا من أطرافه، لا يتم به تمامه... وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث، لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة، وفي قلوب كل فئة مؤمنة، تتعرض للفتنة على مدار القرون. ii.
﴿ إنّ بطش ربك لشديد ١٢ إنه هو يبدئ ويعيد ١٣ وهو الغفور الودود ١٤ ذو العرش المجيد ١٥ فعّال لما يريد ١٦ هل أتاك حديث الجنود ١٧ فرعون وثمود ١٨ بل الذين كفروا في تكذيب ١٩ والله من ورائهم محيط ٢٠ بل هو قرآن مجيد ٢١ في لوح محفوظ ٢٢ ﴾
المفردات :
بطش ربك : أخذه الجبابرة والظلمة بالعذاب.
التفسير :
تمهيد :
في أعقاب قصة أصحاب الأخدود، ونهاية الظالمين إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق، وفوز المؤمنين بالجنة ورضوان الله، تأتي هذه الآيات تبيّن قدرة الله على الظالمين، فكما أهلك الأوّلين فهو قادر على إهلاك كفار مكة، وكل ظالم يأتي إلى يوم الدين.
وفي الآيات تهديد للظالمين، وتثبيت للمؤمنين، فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
التفسير :
١٢- إنّ بطش ربك لشديد.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إيناس له صلى الله عليه وسلم وبيان لعظيم قدرة الله.
والبطش هو الأخذ بقوة وعنف، فإذا أضيف إلى الشدة كما هنا، كان المعنى : إن أخذ ربك للظالمين الكافرين أخذ بالغ في الشدة وفي العنف، لأنه بطش القادر على كل شيء.
هو يبدئ : يخلق ابتداء بقدرته.
يعيد : يبعث الموتى يوم القيامة بقدرته.
التفسير :
١٣- إنه هو يبدئ ويعيد.
فهو سبحانه الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيد البعث والحشر والنشر.
قال تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده... ( الأنبياء : ١٠٤ ).
وفي كل لحظة من لحظات هذه الحياة الدنيا نجد البدء والإعادة، والخلق والأمر، والفقر والغنى، والارتفاع والانحدار، والعز والذل، والكون كله والخلق كله بين أصبعين من أصابع الرحمان، يقلب ذلك كيف يشاء.
قال تعالى : كل يوم هو في شأن. ( الرحمان : ٢٩ ).
وهي شئون يبديها ولا يبتديها، يشفي مريضا ويمرض سليما، يعافي مبتلى ويبتلي معافى، يغني فقيرا ويفقر غنيا، يرفع وضيعا ويضع رفيعا.
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. ( آل عمران : ٢٦ ).
الودود : المتودد إلى أوليائه بالكرامة.
التفسير :
١٤- وهو الغفور الودود.
وهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب، هو خالق الخلق وهو أعلم بهم، لذلك فتح باب التوبة للتائبين، وغفر للمستغفرين، ورحم المسترحمين، ولم يغلق بابه في وجه قاصد، ومهما عظم الذنب وكبرت الخطيئة، إذا صحّ الندم، وعظم الألم، وصدقت نية العبد في التوبة، فإن الله لا يردّ من قصد بابه.
قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ( النساء : ١١٦ ).
وقال عز شأنه : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم* وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له... ( الزمر : ٥٣، ٥٤ ).
لقد سبقت رحمة الله غضبه، قال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء... ( الأعراف : ١٥٦ ).
وقال سبحانه وتعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ( يوسف : ٨٧ ).
وفي السنة الصحيحة أن رجلا قتل مائة نفس، ثم ندم ورغب في التوبة، فتطهر وانتقل من أرض المعصية إلى أرض فيها عبّاد الله، ليعبد الله معهم، وفي الطريق أدركته منيته فمات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إليهم : انظروا هذا الذي مات، إن كان قريبا من أرض الطاعة فلتقبض روحه ملائكة الرحمة، وإن كان قريبا من أرض المعصية فلتقبض روحه ملائكة العذاب، فوجدوه قريبا من أرض الطاعة شبرا أو ذراعا، فقبضته ملائكة الطاعة.
قال علماء الحديث :
فلو أن الرجل طاف الأرض كلها دون ندم أو توبة أو رغبة صادقة في التوبة ما نفعه ذلك، لكن لما صدقت النية والرغبة في التوبة والندم قبله الله، ويسر له باب التوبة وحسن الخاتمة.
واسم الله الودود. يفتح أبوابا من هذه الرحمة والمودة والرضا والمحبة، الودود. الذي يبشّ للطائعين، ويهشّ للمتبتلين، ويرحم عباده، ويكرم أولياءه، ويرضى عن المؤمنين.
قال ابن عباس : الودود. يودّ أولياءه كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة.
فيا للفضل الإهلي، ويا للجلال والكمال والرضا والمودة من الله العلي القدير للعبد المخلوق الفاني، إذا صحت نيته، وصدقت عقيدته، وعظمت رغبته فيما عند الله، حيث يجد مودة الله.
قال تعالى : يحبهم ويحبونه... ( المائدة : ٥٤ ).
قوال سبحانه : رضي الله عنهم ورضوا عنه... ( البينة : ٨ ).
وقال عز شأنه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودّا. ( مريم : ٩٦ ).
وفي سورة الكهف نجد عناية الله تمتد لأصحاب الكهف، ونجد في قصة موسى والخضر جانبا من هذه المودة، حين رأينا الخضر يخرق السفينة، ويقتل الغلام، ويبني الجدار تحقيقا لجانب من رحمة الله ومودته بالصالحين، وامتداد المودة إلى ذرية الصالحين، حيث يقول الخضر –كما حكى القرآن الكريم :
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك... ( الكهف : ٨٢ ).
ذو العرش : صاحب العرش وخالقه ومالكه.
المجيد : العظيم الجليل المتعالي.
التفسير :
١٥- ذو العرش المجيد.
ذو العرش. ذو الملك والسلطان.
المجيد. العظيم في ذاته وصفاته، تام القدرة، كامل الحكمة.
وفي الحديث الصحيح :( العرش لا يقدر قدره إلا الله ).
قال ابن كثير :
ذو العرش. أي : صاحب العرش، العظيم العالي على جميع الخلائق.
المجيد. المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها. اه.
وقال ابن القيم : المجد في لغة العرب : كثرة أوصاف الكمال، وكثرة أفعال الخير، وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد.
كما قالت الملائكة : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. ( هود : ٧٣ ).
وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الله تعالى بأنه حميد مجيد، وشرع لنا في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول :( ربنا ولك الحمد، أهل الثناء والمجد ).
فالحمد والمجد على الإطلاق لله الحميد المجيد، المستحق لجميع صفات الكمال. المجيد. العظيم الواسع، القادر الغني، ذو الجلال والإكرام.
١٦- فعّال لما يريد.
كثير الفعل لما يريده، لا رادّ لمشيئته، ولا معقّب لأمره، إذا أراد شيئا فعله، لا يعجزه شيء، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته.
كما روي عن أبي بكر الصديق أنه قيل له، وهو في مرض الموت : هل نظر إليك الطبيب ؟ قال : نعم، قالوا : فما قال لك ؟ قال : قال لي : إني فعّال لما أريد.
يريد أن الطبيب في الحقيقة هو الله، وهو سبحانه فعال لما يريد، إذا أراد أمرا فعله طبق إرادته.
قال الإمام الطحاوي :
وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفّذ لا مشيئة العباد.
وقال ابن القيّم :
اشتملت هذه السورة على اختصارها، من التوحيد على وصفه سبحانه بصفات الكمال والجلال، فهو الودود. لكونه حبيبا إلى عباده ومحبّا لهم.
وكونه فعالا لما يريد، المتضمن لحياته وعلمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، وغير ذلك من أوصاف كماله. اه.
فهذه السورة كتاب مستقل في أصول الدين، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.
المراد بالجنود : القوم والجماعات الذين تجنّدوا على أنبياء الله، واجتمعوا على أذاهم.
والمعنى :
هل بلغك يا محمد، خبر الأمم والجماعات التي كذّبت رسلها، واستحقت عقاب السماء، وفي هذا الاستفهام تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار والمتجبّرين في كل مكان وزمان.
عن عمر بن ميمون قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : هل أتاك حديث الجنود. فقال :( نعم قد جاءني ).
١٨- فرعون وثمود.
وخص فرعون وثمود من بين المكذبين لوضوح الطغيان والظلم فيهما.
وقصة فرعون مع موسى مشهورة معلومة، وكان أهل مكة على علم بها، وقد أغرق الله فرعون، ونجّى بني إسرائيل من قبضته، لحكمة إلهية تنفذ فيها مشيئته.
وثمود هم قوم صالح الذين عقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستحقوا ما نزل بهم من هلاك.
قال تعالى : كذّبت ثمود بطغواها* إذ انبعث أشقاها* فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فكذّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها* ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١- ١٥ ).
لقد كان أولى بقومك أن يتعظوا بما أصاب الجنود، مثل فرعون وجنده الذين أغرقوا في مياه البحر، ومثل ثمود قوم صالح الذين حاق بهم سوء أعمالهم، لكن قومك بدل أن يفكّروا في دعوتك وشريعتك، ويتأمّلوا في القرآن وأحكامه وهدايته، استغرقهم التكذيب بالإسلام ورسالته، وأصبحوا وأمسوا ولا همّ لهم إلا تكذيب الإسلام والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم.
محيط : عالم بأحوالهم، وقادر عليهم، وهم لا يعجزونه.
التفسير :
٢٠- والله من ورائهم محيط.
والله عالم بهم، مطّلع على أفعالهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، وبأس الله لا يرد عن القوم الظالمين.
هذا القرآن مجيد شريف، عالي القدر، رفيع المنزلة، مصدّق للكتب السماوية السابقة عليه، ومهيمن عليها، فيه قصص الأنبياء والمرسلين، وأخبار السابقين، وفيه حكم وتشريع، وبيان وآداب، ومواعظ وهداية، وفيه أخبار القيامة، وأنباء اليوم الآخر، وفيه صفات الله وكمالاته، فهو سبحانه متصف بكل كمال ومنزّه عن كل نقص، وهذا القرآن ليس شعرا ولا كهانة ولا أساطير الأولين، ولكنه تنزيل من رب العالمين.
هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل، ونحن نؤمن بأن القرآن كلام الله، أودعه الله في اللوح المحفوظ.
وقد حفظ الله كتابه على مر القرون، وتكفّل الله بحفظه، وبأن يظل دائما أصل أصول الدين، وأساس الإسلام وكلّي الشريعة.
( فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الجدّ ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، لم تسمعه الجن حتى قالت : إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا ).
وقال الحسن البصري :
إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه.
آمنا بالله وحده لا شريك له، وبأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبأن القرآن كلام الله تعالى، منزه عن النظير والمثيل، محفوظ من التغيير والتبديل.
كما قال سبحانه وتعالى : إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون. ( الحجر : ٩ ).
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.