ﰡ
(مكية حروفها أربعمائة وثمانية وخمسون)
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١ الى ٢٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤)النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
القراآت
المجيد بالجر صفة للعرش: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون:
بالرفع خبرا بعد خبر محفوظ بالرفع صفة للقرآن: نافع.
الوقوف
الْبُرُوجِ هـ لا الْمَوْعُودِ هـ وَمَشْهُودٍ هـ ط بناء على أن جواب القسم محذوف وأن معنى قتل لعن وأصحاب الأخدود هم أهل الظلم، وإن جعل قتل بمعناه الأصلي وأصحاب الأخدود هم المظلومون صح جوابا للقسم بتقدير: لقد قتل ولا وقف على الْأُخْدُودِ لأن النار بدل اشتمال منه الْوَقُودِ هـ لا قُعُودٌ هـ لا شُهُودٌ هـ ط الْحَمِيدِ هـ لا وَالْأَرْضِ ط شَهِيدٌ هـ ط الْحَرِيقِ هـ ط الْأَنْهارُ ط الْكَبِيرُ هـ ط إلا لمن جعل إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ جوابا للقسم وسائر الوقوف هاهنا لا بد منها لطول الكلام لَشَدِيدٌ هـ ك وَيُعِيدُ هـ ج لاختلاف الجملتين الْوَدُودُ هـ لا الْمَجِيدُ هـ لا يُرِيدُ هـ ج لابتداء الاستفهام الْجُنُودِ هـ لا لأن ما بعده بدل وَثَمُودَ هـ ط للإضراب تَكْذِيبٍ هـ لا لأن الواو للحال مُحِيطٌ هـ ج مَجِيدٌ هـ لا مَحْفُوظٍ هـ.
لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه ﷺ بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كأصحاب الأخدود وكفرعون وثمود. أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها. وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها. وقيل: هي منازل القمر الثمانية والعشرون. وقيل: وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها. أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور، وإما من الشهادة والصلة محذوفة أي مشهود عليه أو به. والاحتمال الأول فيه وجوه الأول:
وهو
مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن عليّ وابن المسيب والنخعي والثوري، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم: ٣٧]
ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: ١٠٣] قال جار الله: وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء. الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة.
روى أبو الدرداء أن رسول الله ﷺ قال «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود نشهده الملائكة».
الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضره من الحجاج قال الله تعالى يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الحج:
٢٧] وحسن القسم به تعظيما لأمر الحج.
يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة «انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى في ذلك اليوم من نزول الرحمة» «١»
الرابع أنه يوم النحر لأن أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة. الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه. والاحتمال الثاني فيه أيضا وجوه أحدها: أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود به هو التوحيد لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: ١٨] وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي ﷺ لقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: ٤١] وثالثها العكس لقوله وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: ٤١] ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١]
وتاسعها الحجر الأسود والحجيج
للحديث «الحجر الأسود يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره»
أو لفظ هذا معناه. وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن: ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد.
أما جواب القسم فعن الأخفش أنه قُتِلَ واللام مقدّر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وقيل: إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض. واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف. ثم اختلفوا فقال المتقدمون: المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال. وقال في الكشاف: هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلا ونحوهما بناء. ومعنى الخق والأخقوق بالخاء الفوقانية منه
الحديث «فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان»
عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله ﷺ بعد خروجه من الغار. والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما
جاء في الصحاح عن النبي ﷺ أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر. وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس، فمال قلب الغلام إلى حديثه. فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها. وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله:
من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي. فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذب الغلام حتى دل
وعن علي رضي الله عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت: إن المخرج أن تخطب الناس فتقول: إن الله عز وجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه. فخطب فلم يقبلوا منه قالت له: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا. فقالت: ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها.
وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفا. وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس. وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعا والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به.
وعن النبي ﷺ أنه كان إذا وصل إلى ذكر أصحاب الأخدود قال: نعوذ بالله من جهد البلاء.
وإِذْ ظرف لقتل وهُمْ عائد إلى الأصحاب وقُعُودٌ جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار، وإما أن يكون «على» بمعنى «عند» كقوله وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله وَهُمْ أي الظالمون عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي حضور، وفيه وصفهم بقسوة القلب، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على الحق، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم
إلى الملك القرم... وابن الهمام
والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان.
وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما
روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.
ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدّة كان نهاية. ثم أكده بقوله إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ البطش وَيُعِيدُ أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة. قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم خلقا جديدا فذلك قوله هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ والودود بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله ويحبهم [المائدة: ٥٤] وإن شئت قلت: هو بمعنى مفعول فيكون كقوله وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] وقال القفال: ويكون بمعنى الحليم من قولهم «فرس ودود» وهو المطيع القياد. قال في الكشاف فَعَّالٌ خبر مبتدأ محذوف. قلت: الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبرا آخر بعد الأخبار السابقة، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين: أحدهما قطع النسق بقوله ذُو الْعَرْشِ ولا سيما عند من يجوّز الْمَجِيدُ صفة العرش. والثاني تخصيص فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فإنه صيره مضارعا للمضاف. قال: وإنما قيل فَعَّالٌ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. قلت: ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنه يفعله البتة لا يصرفه عنه صارف. ثم ذكرهم وسلى نبيه ﷺ بقصة فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ من