تفسير سورة يونس

فتح البيان
تفسير سورة سورة يونس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة يونس عليه السلام
وهي مائة وتسع آيات وهي مكية قال الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، إلا ثلاث آيات ﴿ فإن كنت في شك ﴾ إلى آخرهن قاله ابن عباس وبه قال قتادة. وقال مقاتل إلا آيتين ﴿ فإن كنت في شك ﴾ إلى آخرهما أو ثلاث. وقال الكلبي إلا قوله ﴿ ومنهم من يؤمن به ﴾ الآية فإنها نزلت بالمدينة.
وقالت فرقة من أولها نحو من أربعين آية مكي وباقيها مدني.
قال القرطبي. وقال ابن سيرين : كانت هذه السورة بعد السابعة وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله أعطاني الرائيات أي الطواسين مكان الإنجيل.
وعن الأحنف قال : صليت خلف عمر غداة فقرأ يونس وهود وغيرهما : قال الصاوي : سميت السورة بذلك لذكر اسمه فيها وقصته وقد جرت عادة الله بتسمية السورة ببعض أجزائها.

(الر) قال الجلال: الله أعلم بمراده بذلك، قال الصاوي: هذا أحد الأقوال: وهو أتمها واسلمها. اهـ.
وقد تقدم الكلام مستوفى على هذه الحروف الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة فلا نعيده ففيه ما يغني عن الإعادة.
وقد قيل إن معنى (الر) أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب، وقال الحسن وعكرمة (الر) قسم، وقال قتادة (الر) اسم للسورة، وقيل غير ذلك مما فيه تكلف لعلم ما استأثر الله بعلمه.
وقد اتفق القراء على أن (آلر) ليس بآية وعلى أن (طه) آية، وفي مقنع أبي عمرو والداني أن العادّين لـ " طه " آية هم الكوفيون فقط، ولعل الفرق أن (الر) لا تشاكل مقاطع الآي التي بعدها.
(تلك) أي ما تضمنته السورة من الآيات والتبعيد للتعظيم، وقيل الآيات المتقدمة على هذه السورة، وقال مجاهد وقتادة: أراد التوارة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث، وقيل تلك بمعنى هذه أي هذه (آيات الكتاب الحكيم) وهو القرآن، ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره، والإضافة بمعنى من لأن هذه السورة بعض القرآن، والحكيم المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره.
وقيل الحكيم معناه الحاكم فهو فعيل بمعنى فاعل، كقوله (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس) وقيل بمعنى المحكوم، أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان قال الحسن وغيره. وقيل الحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها، وقيل الحكيم المنظوم نظماً متقناً لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه، وقيل الممتنع من الفساد، فيكون المعنى لا تغيره الدهور والمراد براءته من الكذب والتناقض.
9
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣)
والاستفهام في قوله
10
(أكان الناس عجباً أن أوحينا) لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ، أي أكان إيحاؤنا عجباً للناس، والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وقيل العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة، يعني قريشاً.
(إلى رجل منهم) أي من جنسهم، وليس في هذا ما يقتضي العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من إنسهم أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان.
هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغاً في كمال الصفات إلى جد يقصر عنه من كان غنياً أو غير يتيم، وقد كان لرسول الله ﷺ قبل أن يصطفيه الله بالرسالة من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار حتى كانوا يسمون الأمين (أن أنذر الناس) أي خوفهم قيل: أن هي المفسرة لأن في الايحاء معنى القول، وقيل مصدرية والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور.
10
(وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد، وفائدة هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله مقعد صدق ومدخل صدق.
واختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقيل منزل صدق، وقال الزجاج: درجة عالية، وقال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم صدق وقدم خير وقدم شر.
وقال ثعلب: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء، وقال قتادة: سلف صدق، وقال الربيع والضحاك: ثواب صدق، وقال الحسن: هو محمد ﷺ يشفع لهم، ونحوه عن زيد بن أسلم وهو قول قتادة.
وقال الحكيم الترمذي: قدمه ﷺ في المقام المحمود، وقال مجاهد: الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، وقيل عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. قاله الحسن.
وقال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة أي سبق لهم عند الله خير، وقال مقاتل: أعمالاً قدموها واختاره ابن جرير. قال ابن عباس: ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول يعني اللوح المحفوظ. وقال أيضاً: أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم.
وعن ابن مسعود قال: القدم هو العمل الذي قدموه، قال الله سبحانه (سنكتب ما قدموا وآثارهم) والآثار ممشاهم، قال: مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اسطوانتين من مسجده ثم قال: هذا أثر مكتوب، وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده والروايات من التابعين وغيرهم في هذا كثيرة وقد قدمنا أكثرها، والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن
11
السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطي باليد.
(قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) قرئ لساحر على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم الإشارة وقرئ لسحر على أنهم أرادوا القرآن، وقد تقدم معنى السحر في البقرة، والجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب؛ وقال القفال: فيه إضمار والتقدير فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك.
ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم فقال (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثمَّ شمس ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التأني والتمهل في الأمور، وتخصيص الستة بالذكر مع أن التثبت يتأتى بأقل منها وبأزيد عليها قد استأثر الله بعلمه.
والمعنى أن من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسوله إلى الناس من جنسهم محلاًّ للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة لهذا الرسول.
(ثم استوى على العرش) استواء يليق به وهذه طريقة السلف المفوضين وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف بما فيه كفاية فلا نعيده هنا، قال الكرخي: إن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف. انتهى فهذه الصفة يجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وطريقة الخلف المؤولين محجوجة بنصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض لأن كلمة ثم للتراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل العرش غنياً عنه، فلما خلقه امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته عن الاستغناء إلى
12
الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عنه، ولكن لما قال هو سبحانه وتعالى باستوائه عليه وجب الإيمان به على ما يليق لجلاله.
ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه مع ما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام فقال (يدبر الأمر) وترك العاطف لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول والشكل المحمود، وقال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده على الوجه الأتم الأكمل، وقيل يبعث الأمر، وقيل ينزل الأمر، وقيل يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب؛ واشتقاقه من الدبر، والأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق من الجزئيات الحادثة شيئاً فشيئاً على أطوار شتى لا تكاد تحصى.
(ما من شفيع) يشفع عنده يوم القيامة (إلا من بعد إذنه) له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم، قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون أن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب، وله التصرف المطلق في العالم، وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى.
(ذلكم) أي فاعل هذه الأشياء العظيمة من الخلق والتدبير (الله ربكم) أي سيدكم لا رب لكم سواه، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله
13
(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) (فاعبدوه) أمرهم بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره فكيف تعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر.
والاستفهام في قوله (أفلا تذكرون) للإنكار والتوبيخ والتقريع لأن من له أدنى تذكر وأقل اعتبار يعلم بهذا ولا يخفى عليه.
13
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
ثم بين لهم ما يكون آخر أمرهم بعد الحياة الدنيا فقال
14
(إليه مرجعكم جميعاً) وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى، والمراد بالمرجع الرجوع إليه سبحانه إما بالموت أو بالبعث أو بكل واحد منهما، وانتصاب (وعد الله) على المصدر أو هو منصوب بفعل مقدر.
ثم أكد ذلك الوعد بقوله (حقاً) فهو تأكيد للتأكيد، فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك وقرئ وعدُ الله حق على الاستئناف.
ثم علل سبحانه ما تقدم بقوله (إنه) بالكسر استئنافاً (يبدأ الخلق) أي إن هذا شأنه يبتدئ خلقه من التراب (ثم يعيده) إليه والخلق بمعنى المخلوق والمضارع بمعنى الماضي، وعبر به استحضاراً للصورة الغريبة أو معنى الإعادة الجزاء يوم القيامة، قال مجاهد ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث، وقيل ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال.
وقرئ أنه بالفتح وهي شاذة أي وعدكم الله انه يبدأ الخلق ثم يعيده أو التقدير لأنه يبدأ الخلق، قال أحمد بن يحيي: التقدير حقاً إبداؤه الخلق، وفي الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه، ورد على منكري البعث.
ثم ذكر غاية ما يترتب على الإعادة فقال (ليجزي الذين آمنوا وعملوا
14
الصالحات بالقسط) أي بالعدل الذي لا جور فيه أي يجزيهم متلبساً بالقسط أو متلبسين به أو بسبب قسطهم، والمراد به هنا الإيمان بدليل المقابلة في قوله بما كانوا يكفرون.
(والذين كفروا) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مرفوعاً بالابتداء وجملة (لهم شراب من حميم وعذاب أليم) خبره والثاني أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله وتكون الجملة بعده مبينة لجزائهم، وقيل الجملة في محل نصب على الحال أي حال كونهم لهم هذا الشراب وهذا العذاب المؤلم.
ولكن يشكل على ذلك إن هذا الشراب وهذا العذاب الأليم هما من الجزاء والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، وكل مسخن عند العرب فهو حميم، وتغيير الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة والعذاب وقع بالعرض وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم (بما كانوا يكفرون) أي بسبب كفرهم.
15
(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً) ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين وهو مما يستدل به على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته باتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام بعد ما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض واستواءه على العرش وغير ذلك.
والضياء قيل جمع ضوء كالسياط والسوط والحياض والحوض والأولى أن يكون ضياء مصدراً لا جمعاً ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة كأنهما جعلا نفس الضياء والنور قيل الضياء أقوى من النور، وقيل هو ما كان بالذات والنور ما كان بالعرض، فما قام
15
بالشمس يقال له ضياء وما قام بالقمر يقال له نور.
ومن هنا قال الحكماء إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس، والشعاع الفائض من الشمس قيل جوهر، وقيل عرض، قال الصاوي: والحق أنه عرض لقيامه بالأجرام، وضياء مفعول ثان إن جعل الجعل بمعنى التصيير، وحال أن جعل بمعنى الخلق، قال السدي: لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار وهو قوله (فمحونا آية الليل) الآية، قال ابن عباس: وجوههما إلى السموات وأقفيتهما إلى الأرض، وعن ابن عمرو مثله.
(وقدره) أى قدر مسير القمر في (منازل) أو قدره ذا منازل وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك إن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي القمرية لا الشمسية، ومنازله هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة منقسمة على اثني عشر برجاً لكل برج منزلان وثلث منزل ينزل القمر في كل ليلة منزلاً منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين لا يتخطاه، فيبدو صغيراً في أول منازله ثم يكبر قليلاً قليلاً حتي يبدو كاملاً، وإذا كان في آخر منازله رق واستقوس ثم يستتر ليلتين لا يبصر ولا يرى إذا كان الشهر كاملاً أو ليلة إذا كان الشهر ناقصاً.
والكلام في هذا يطول وقد جمع الشوكاني فيه رسالة مستقلة جواباً عن سؤال أورده عليه بعض الأعلام، وقيل إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر كما قيل في قوله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) وقوله (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده كما في قوله تعالى (والقمر قدرناه منازل).
ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير فقال (لتعلموا) بذلك التقدير
16
(عدد السنين والحساب) أي حساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها ووقت دخولها وانقضائها، فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى. ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم، والسنة تتحصل من اثني عشر شهراً، والشهر يتحصل من ثلاثين يوماً إن كان كاملاً، ومن تسع وعشرين يوماً إن كان ناقصاً واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف ذكرناه في لقطة العجلان وحجج الكرامة.
(ما خلق الله ذلك) بين سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر واختلاف تلك الأحوال (إلا بالحق) والصواب دون الباطل والعبث، والإشارة بقوله (ذلك) إلى المذكور قبله من جعل الشمس ضياء والقمر نوراً أو تقديره منازل والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.
(يفصل الآيات لقوم يعلمون) معنى التفصيل تبيينها والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، ويدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولاً أولياً في ذلك، قرئ يفصل بالياء والنون وهما سبعيتان، وعلى الثانية فيه التفات.
17
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧)
ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض من تلك المخلوقات فقال
18
(إن في اختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما وكون كل منها خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها أو في تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما وانتقاص الآخر باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قرباً وبعداً بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسها فإن كروية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلاً وفي مقابله نهاراً.
(وما خلق الله في السماوات) من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك (والأرض) من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها (لآيات) دلالات على قدرته تعالى (لقوم يتقون) الله سبحانه ويجتنبون معاصيه، خصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذراً منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه، ونظراً لعاقبة أمرهم وما يصلحهم في معادهم.
قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلابد من أمر ونهي.
18
عن خليفة العبدي قال: لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل اذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء وفي مجيء سلطان النهار اذا جاء فمحا سلطان الليل، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض، وفي النجوم وفي الشتاء والصيف، فو الله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم، وقد تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها.
19
(إن الذين لا يرجون لقاءنا) شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به، وقدم الطائفة التي لم تؤمن لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه، ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مساعد لكل حي طول حياته فيتسبب عن إهمال النظر والتفكر الصادق عدم الإيمان بالمعاد.
ومعنى الرجاء هنا الخوف وقيل الطمع، فالمعنى على الأول لا يخافون عقاباً وعلى الثاني لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته، فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى لا يخافون رؤيتنا أو لا يطمعون في رؤيتنا، وقيل المراد بالرجاء هنا التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع فيكون المعنى لا يتوقعون لقاءنا فهم لا يخافونه ولا يطمعون فيه.
(ورضوا بالحياة الدنيا) عوضاً عن الآخرة فعملوا لها (واطمأنوا بها) أي وقد سكنت نفوسهم إليها وفرحوا بها (والذين هم عن آياتنا غافلون) العطف إنما هو لتغاير الصفات أي غفلوا عن آياتنا الكونية والشرعية لا يعتبرون بها ولا يتفكرون فيها قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد وقيل محمد والقرآن.
19
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
20
(أولئك) أي المتصفون بالصفات السابقة من عدم الرجاء وحصول الرضا والاطمئنان والغفلة (مأواهم النار) أي مثواهم ومكان إقامتهم (بما كانوا) أي بسبب ما كانوا (يكسبون) من الكفر والتكذيب بالمعاد، فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد.
وأما حال الذين يؤمنون به فقد بينه سبحانه بقوله
(إن الذين آمنوا) أي فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار فيما تقدم ذكره من الآيات (وعملوا الصالحات) التي يقتضيها الإيمان وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين (يهديهم ربهم بإيمانهم) أي يرزقهم الهداية بسبب هذا الايمان المضموم إليه العمل الصالح فيصلون بذلك إلى الجنة.
وعبارة أبي السعود يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها وانسياق النفس إليها. قال القاضي: ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله بإيمانهم على استقلال الإيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له: انتهى.
وهذا رد لما في الكشاف من أن الآية دلت على أن المعتبر في الهداية إلى الجنة هو المقيد بالعمل الصالح لا المطلق، قال الخفاجي: وقد رد هذا بأن الجمع بين العمل الصالح والإيمان ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق، لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه فلا استدراك ولا دلالة على استقلاله ثم إن النزاع إنما هو في سبب الهداية إلى طريق الجنة لا إلى
20
الاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب وأن من لا يكون مهتدياً إلى الجنة لا يدخل الجنة مطلقاً ومنعه مكابرة فتدبر. اهـ
وعبارة أبي السعود: وفي النظم الكريم إشعار بأن مجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفي في الوصول إلى الجنة، بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفر والمعاصي كافية في دخول النار، ثم أنه لا نزاع في أن المراد بالإيمان الذي جعل سبباً لتلك الهداية هو إيمانهم الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا الإيمان المجرد عنها ولا ما هو أعم منهما، إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة، على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار، فإن منطوق الآية الكريمة أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه قطعاً، كيف لا وقوله عز وجل (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) مناد بخلافه فإن المراد بالظلم هو الشرك كما أطبق عليه المفسرون، والمعنى لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
ولئن حمل على ظاهره أيضاً يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب. اهـ
وقال النسفي في المدارك: وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال: بإيمانهم ولم يضم إليه العمل الصالح.
ولفظ الخازن والمهايمي بإيمانهم وبأعمالهم، وقال الصاوي: أي وبسبب أعمالهم أيضاً، فالإيمان والأعمال الصالحة سببان موصلان لدار السعادة، أو المراد بالإيمان الكامل ليشمل الأعمال، والمسألة من المعارك ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
(تجري من تحتهم الأنهار) مستأنفة أو خبر ثان لأن أو في محل النصب على الحال والمعنى من تحت بساتينهم أو من بين أيديهم لأنهم على سرر مرفوعة (في جنات النعيم) خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجري.
21
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠)
(دعواهم فيها سبحانك اللهم) أي دعاؤهم ونداؤهم وطلبهم لما يشتهونه في الجنة هذا اللفظ وهو من باب الإسناد اللفظي، وقيل هذا من باب الإسناد المعنوي فلا يلزم أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه أو ما يؤدي معناه من جميع صفات التنزيه والتقديس.
قيل الدعاء العبادة كقوله (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) وقيل معنى دعواهم هنا الادعاء الكائن بين المتخاصمين، والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعائب والإقرار له بالإلهية، وقيل قولهم وكلامهم.
قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه طريقتهم وسيرتهم وذلك إن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله سبحانك اللهم دعوى ولا دعاء وقيل معناه تمنيهم كقوله (ولهم ما يدعون) وكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
فهذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في إحضار الطعام، فإذا أرادوه قالوا سبحانك اللهم فيأتوهم به في الوقت على حسب ما يشتهون واضعين له على
22
الموائد في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضه بعضاً فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم كما يأتي فترفع الموائد عند ذلك..
قال الزجاج: أعلم الله إن أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكر الله والثناء عليه وقيل أنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث والمعنى نسبحك يا الله تسبيحاً.
(وتحيتهم فيها سلام) أي تحية بعضهم للبعض فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أو تحية الله أو الملائكة لهم فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول، والتحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك الله حياة طيبة، والسلام السلامة من كل مكروه وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء.
(وآخر دعواهم) أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح في كل مجلس (أن) يقولوا (الحمد لله رب العالمين) وليس معناه انقطاع الحمد فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها والدعوى مشهورة في الادعاء لكنها وردت بمعنى الدعاء أيضاً وهو المراد هنا بقرينة ما بعده لأنه من جنس الدعاء، وتكون أيضاً بمعنى العبادة، وقد جوز إرادته هنا وإن كانت الجنة ليست دار تكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول، والأول أظهر، والثاني أدق أو المراد أنه عبادة لهم تلذذاً لا تكليفاً ذكره الخفاجي؛ قال أبو السعود ولا يساعده تعيين الخاتمة اهـ.
قال النحاس: مذهب الخليل أن (أنْ) هذه مخففة من الثقيلة والمعنى أنه الحمد لله، وقال المبرد يجوز إن تعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف، قال أبو الهذيل: الحمد أول الكلام وآخر الكلام ثم تلا هذه الآية.
23
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)
ولما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا فقال
24
(ولو يعجل الله للناس الشر) أي إجابة دعائهم بالشر مما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال، والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته، وقال القفال: لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب، فبين الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشر إليهم فلعلهم يتوبون أو يخرج من أصلابهم من يؤمن.
قيل ومعناه لو عجل الله للناس العقوبة (استعجالهم بالخير) أي كما
يستعجلون بالثواب والخير أي استعجالاً مثل استعجالهم قال مكي: وهذا مذهب سيبويه أو تعجيلاً مثل استعجالهم، وهذا تقدير أبي البقاء وهو الطاهر، وقال الزمخشري: أصله تعجيله لهم بالخير وهو ضعيف جداً، وقيل منصوب على إسقاط كاف التشبيه أي كاستعجالهم، والاستعجال طلب العجلة.
(لقضي إليهم أجلهم) أي لأهلكهم، وقيل معناه لأميتوا، قال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء المسؤول،
24
يقول لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لفرغ من إهلاكهم، ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي في الخير ولا يستجب له في الشر، وقال مجاهد: في الآية هو قول الإنسان لولده وأهله عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم، وقال سعيد بن جبير: هو قول الرجل للرجل اللهم العنه اللهم اخزه وهو يحب أن يستجاب له، وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه.
وقيل الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث وما يترتب عليه، وقيل نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الأية.
وقرئ لقضي على البناء للفاعل وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله (ولو يعجل الله) وصورة القياس هكذا لو يعجل الله الشر للناس لأهلكهم لكنه لم يهلكهم بل أمهلهم فلم يعجل لهم الشر، ويدل على هذا القول قوله (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يتوقعونه فالفاء للعطف على مقدر، يدل عليه الكلام فكأنه قيل لكن لا يعجل لهم الشر، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم أي فيتركهم ويمهلهم (في طغيانهم) أي الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة، والطغيان التطاول وهو العلو والارتفاع (يعمهون) يعني يتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً.
ثم بين سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع فقال
25
(وإذا مس الإنسان الضر) أي هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به كالمرض والفقر (دعانا لجنبه) اللام للوقت أو بمعنى على أي دعانا مضطجعاً (أو قاعداً أو قائماً) كأنه قال دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها، وخص المذكورة بالذكر لأنها الغالب على
25
الإنسان ولا يخلو عنها عادة وما عداها نادر كالركوع والسجود.
ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود، وقاعداً غير قادر على القيام وقائماً غير قادر على المشي والأول أولى، قال الزجاج: أن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرة لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب.
وعن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك.
وأقول أنا أكثر من شكر الله على السراء ليدفع عني الضراء فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة، اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان ومكان.
(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضر. ونسي حالة الجهد والبلاء والضيق والفقر، وأهمل جانب الله أو مضى عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضر إلى كشف ذلك الضر الذي مسه.
وقيل معنى مر، استمر على كفره مشبهاً بمن لم يدعنا ولم يشكر ولم يتعظ، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنتهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم، فاذا كشفه الله عنهم غفلوا عن التضرع والدعاء وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه.
26
وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان. اللهم أوزعنا شكر نعمك وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه ولئن شكرتم لأزيدنكم.
(كذلك) أي مثل ذلك التزيين العجيب أي كما زين له الدعاء عند الضرر والإعراض عند الرخاء (زين للمسرفين ما كانوا يعملون) أي عملهم، والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريق التخلية وعدم اللطف بهم أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء، والمعنى إنه زين لهم الإعراض عن الدعاء والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات.
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر عما صنعه هؤلاء فقال
27
(ولقد أهلكنا القرون) يعني الأمم الماضية (من قبلكم) أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي ﷺ يعني أهلكناهم من قبل زمانكم، وقيل الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر.
(لما ظلموا) أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتجارؤ على الرسل والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم كما أخرنا إهلاككم. وقيل الظلم هنا الشرك أي لما أشركوا.
(وجاءتهم رسلهم) الذين أرسلناهم إليهم (بالبينات) أي بالآيات الواضحات الدالة على صدق الرسل (وما كانوا ليؤمنوا) الجملة اعتراضية واللام لتأكيد النفي، أي وما صح لهذه الأمم وما استقام أن يؤمنوا برسلهم لعدم استعدادهم لذلك وسلب الإلطاف عنهم.
(كذلك نجزي القوم المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار أو لكفار مكة على الخصوص.
27
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)
ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ فقال
28
(ثم جعلناكم خلائف) أي استخلفناكم (في الأرض) بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها، والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام.
(لننظر كيف تعملون) اللام لام كي أي لكي ننظر أي عمل تعملونه من أعمال الخير والشر، أو على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف وقيل النظر هنا بمعنى العلم أي لنختبر أعمالكم كقوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ذكره الواحدي والرازي، وقيل لنعامل معاملة من ينظر فهي استعارة تمثيلية والأول أولى.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: " إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء (١) ". أخرجه مسلم. ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآياته فقال
_________
(١) مسلم ٢٧٤٢.
(وإذا تتلى عليهم) فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم (آياتنا) التي في الكتاب العزيز، أي وإذا تلا التالي عليهم
28
آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها (بينات) أي واضحات الدلالة على المطلوب (قال الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يخافون البعث وهم المنكرون للمعاد. وقال قتادة: هم مشركو مكة، وقد تقدم تفسيره قريباً، أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) طلبوا منه ﷺ لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله؛ وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم.
قال الرازي: إقدامهم على هذا الالتماس إما على سبيل السخرية والاستهزاء أو على سبيل التجربة والامتحان، حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كاذب في قوله إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله تعالى.
فأمره الله أن يقول في جوابه (قل ما يكون) أي ما ينبغي ولا يحل (لي أن أبدله من تلقاء نفسي) فنفى عن نفسه أحد القسمين وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس بوسعه ولا يقدر عليه.
وقيل أنه ﷺ نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وهذا منه ﷺ من باب مجازاة السفهاء. إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة.
قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور، وقيل سألوه
29
أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وقيل سألوه أن يحول الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً.
ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله ﷺ على اتباع ما يوحى إليه، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي (- ﷺ -) بأن القرآن كلامه، وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له.
ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها واليوم العظيم هو يوم القيامة، أي إني أخاف إن عصيت ربي بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة.
ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وإنه ﷺ إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك فقال
30
(قل لو شاء الله) أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه (ما تلوته عليكم) فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء (ولا أدراكم به) أي ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن أي ما أعلمكم به على لساني، يقال دريت الشيء وأدراني الله به، هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه، أعلمه يعلمه، وقرأ ابن كثير: ولأدراكم به بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى لأعلمكم به على لسان غيري من غير أن أتلوه عليكم، فيكون اللام لام تأكيد دخلت على ألف أفعل.
وقد قرئ أدرأكم بالهمزة فقيل هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته دارياً، والمعنى لا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني، وقرأ ابن عباس
30
والحسن ولا أدرأتكم به قال أبو حاتم: أصله ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا، قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمزة.
(فقد لبثت فيكم عمراً من قبله) تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي ﷺ إلا التبليغ، أي أقمت فيما بينكم زماناً طويلاً من قبل القرآن وهو أربعون سنة تعرفونني بالصدق والأمانة لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب (أفلا تعقلون) الهمزة للتقريع والتوبيخ أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة لي المدة الطويلة بالصدق والأمانة وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه.
ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة، المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم.
أخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة (١) وعن السدي نحوه.
قال النووي: ورد في عمره ﷺ ثلاث روايات: إحداها أنه توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهي أصحها وأشهرها، رواه مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس، واتفق العلماء عليها؛ وتأولوا الباقي عليه، فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضا بأنها حصل فيها اشتباه.
_________
(١) البخاري كتاب مناقب الأنصار باب ٤٥.
31
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
32
(فمن أظلم) استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم (ممن افترى على الله كذباً) زيادة كذباً مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، وذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره.
قيل وهذا من جملة رده ﷺ على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو يبدله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل المفتري على الله الكذب هم المشركون.
(أو كذب بآياته) وهم أهل الكتاب (إنه) أي أن الشأن (لا يفلح المجرمون) تعليل لما قبله، أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير، قال عكرمة: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله هذه الآية.
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال
(ويعبدون من دون الله) أي متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وضم عبادة الغير إليها للتقرب والشفاعة.
32
(ما لا يضرهم ولا ينفعهم) أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه، معاقباً لمن عصاه، ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات وإثباتهما لها في الحج في قوله (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) باعتبار السبب فلا منافاة بينهما.
(ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) أي زعموا أنهم يشفعون في الآخرة فلا يعذبهم الله بذنوبهم؛ قاله ابن جريج، وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وقيل أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، قاله الحسن، أي لإنكارهم البعث وما يترتب عليه. ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ بأن يجيب عنهم فقال (قل) لهم تبكيتاً (اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) والمعنى أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سماواته وفي أرضه، وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلاً وفي هذا من التهكم بالكفار ما لا يخفى.
(سبحانه وتعالى عما يشركون) بالياء والتاء سبعيتان، نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب به عليهم ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي ﷺ أن يقوله لهم جواباً عليهم.
33
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
34
(وما كان الناس) قد تقدم تفسيره في البقرة والمعنى أن الناس جميعاً ما كانوا (إلا أمة واحدة) موحدة لله سبحانه مؤمنة به من لدن آدم إلى نوح، وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحي لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة اجتمعت عليه الناس قاطبة فطرة وتشريعاً، وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة.
(فاختلفوا) أي فصار البعض كافراً، وبقي البعض الآخر مؤمناً فخالف بعضهم بعضاً، وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك وقال: كل مولود يولد على الفطرة فاختلفوا عند البلوغ والأول أظهر؛ وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا، وقال ابن مسعود: كانوا على هدى، وروي أنه قرأ هكذا.
وعن مجاهد قال: آدم وحده فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه، وعن السدي قال: أهل دين واحد على دين آدم فكفروا وقيل ليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج، وقيل كانوا في الكفر وهو منقول عن جماعة من المفسرين والأول أولى.
(ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة (لقضي بينهم) في الدنيا بنزول العذاب وتعجيل
34
العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلاً بينهم (فيما فيه يختلفون) لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل المعنى لقضى بينهم بإقامة الساعة عليهم، وقيل لفرغ من هلاكهم، وقيل: الكلمة أن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا قاله الكلبي.
وقيل الكلمة أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقيل الكلمة قوله سبقت رحمتي غضبي وعبر بالمضارع عن الماضي حكاية للحال الماضية.
35
(ويقولون) ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه، قيل والقائلون هم أهل مكة كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسوله - ﷺ - من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلاً بيناً ومصدقاً قاطعاً.
(لولا) أي هلا (أنزل عليه آية) من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهباً ونحو ذلك (من ربه) كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد؛ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: (فقل إنما الغيب لله) أي أن نزول الآية غيب والله هو المحيط بعلمه المستأثر به لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته وإنما علي التبليغ.
(فانتظروا) نزول ما اقترحتموه من الآيات (إني معكم من المنتظرين) لنزولها وقيل المعنى انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل، وقال الربيع: خوفهم عذابه وعقوبته إن لم يؤمنوا.
35
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)
36
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله.
والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق وأدرَّ عليهم النعم بالمطر والخصب وصلاح الثمار بعد أن مسهم الضر بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها. بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة وهو معنى المكر فيها وإذا الأولى شرطية وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه، ويستفاد منه السرعة لأن المعنى أنهم فاجؤوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وقال مجاهد: في الآية استهزاء وتكذيب. وهذا تفسير مراد، وإلا فأصل المكر إخفاء الحيل والمكايد، وقال مقاتل: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: (قل الله أسرع مكراً) أي أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء من سرعة مكرهم، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً ولكن مكر الله أسرع منه، وتسمية
36
عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز.
(إن رسلنا) أي الملائكة (يكتبون ما تمكرون) قرئ بالتاء والياء، والأولى سبعية والثانية عشرية أي لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة فكيف يخفى على العليم الخبير؛ وفي هذا وعيد لهم شديد وتحقيق للانتقام منهم.
وهذه الجملة تعليل للتي قبلها فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى فعقوبة الله كائنة لا محالة ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي إذا مس الإنسان الضر، وفي هذه الآية زيادة وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.
37
(هو الذي يسيركم في البر والبحر) ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً، وهو كلام مستأنف ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لينتفعوا بها ويركبون على ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ومعنى تسييرهم في البحر أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر، ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك.
وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البر والبحر بالنون من النشر كما في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء.
(حتى) غاية للسير في البحر والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها (إذا كنتم في الفلك) يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث والحركات فيه بينها تغاير اعتباري (وجرين) أي السفن (بهم) أي بالراكبين عليها والفائدة
37
في صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح، قاله الزمخشري.
وقيل أن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب، وقيل هذا الالتفات فيه امتنان وإظهار نعمة المخاطبين، والمسيرون في البحر مؤمنون وكفار والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة.
ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق، قاله السمين، وقيل إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب.
وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله إياك نعبد دليل الرضا والتقريب.
بريح طيبة أي ساكنة لينة الهبوب إلى جهة المقصد، والباء للسببية أو للحال (وفرحوا بها) أي ريح السفينة فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة أولها الكون في الفلك والثاني جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة وثالثها فرحهم والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة.
الأول (جاءتها) أي جاءت الفلك وعارضته وقابلته أو جاءت الريح
الطيبة أي تلقتها (ريح عاصف) أي ذات عصف وهو من باب النسب كلابن وتامر وهو مما يستوى فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به والعصوف شدة هبوب
38
الريح وهي الهواء بين السماء والأرض، والجمع أرواح ورياح، وقيل أرياح على لفظ الواحد، وغلطه أبو حاتم وهي مؤنثة على الأكثر، وقد تذكر على معنى الهواء نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر، وراح اليوم يروح روحاً من باب قال، وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه فهو رائح.
والثاني (وجاءهم) أي ركبان السفينة (الموج من كل مكان) أي من جميع الجوانب للفلك، والموج ما ارتفع من غوارب الماء وعلا فوق البحر، وقيل هو شدة حركة الماء واختلاطه.
(و) الثالث (ظنوا أنهم أحيط بهم) أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو، كما هنا وهو استعارة تبعية، وقيل الظن هنا اليقين أي أيقنوا أنه الهلاك، وقيل بل المراد المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه.
وقوله (دعوا الله) بدل من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، وممكن أن يكون جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا فقيل دعوا الله.
(مخلصين له الدين) أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم إلا الله سبحانه.
وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وإن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها.
39
فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع.
فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واللام في (لئن أنجيتنا) هي الموطئة للقسم المحذوف على إرادة القول أي دعوا قائلين ذلك، ويجوز أن يجري دعوا الله مجرى قالوا لأن الدعاء بمعنى القول إذ هو نوع من أنواعه فتحكى به الجملة، وهو مذهب كوفي والأول هو الأولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائهم على ذلك فقط.
(من هذه) أي ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر من الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لنكونن) في كل حال (من الشاكرين) أي ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا منها هذه المحنة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وهذا جواب القسم وفيه من المبالغة في الدلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكرن.
40
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
(فلما أنجاهم) الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر (إذا هم يبغون) أي فأجاؤا البغي والفساد وسارعوا إليه، والبغي هو الفساد من قولهم بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وقيل هو الشرك، وزيادة (في الأرض) للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق بل لا يكون إلا بالباطل لكن زيادة.
(بغير الحق) إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم بل تمرداً وعناداً لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة.
وقيل البغي: مجاوزة الحد وهو محمود إن كان من العدل إلى الإحسان ومن الفرض إلى التطوع، ومذموم إن كان من الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة، وقال الزمخشري: البغي قد يكون بحق وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله ﷺ ببني قريظة، وهذا فائدة تقييده بغير الحق.
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) لما ذكر
سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته، قرئ بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف، أي بغيكم وبال على أنفسكم تتمتعون متاع الحياة الدنيا؛ وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل على أنه
41
مفعول له، أي لأجل متاع الحياة الدنيا.
وقيل منصوب على نزع الخافض كمتاع، وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول أي ممتعين، وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر، أي تبغون متاع الحياة الدنيا.
وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب، والحق الذي تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الوجه الأول، أما من قرأ برفع متاع فيجعله خبراً لمبتدأ، أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ويكون على أنفسكم متعلقاً بالمصدر، والتقدير إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس استعارة لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة.
وقيل ارتفاع متاع على أنه خبر ثان وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع كما في قوله تعالى: (إلا ساعة من نهار بلاغ) أي هذا بلاغ.
وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل، والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم فالمعنى أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وأن جعل الخبر متاعاً فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال قريب الاضمحلال كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قريب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بغيكم على
42
أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
وعن مكحول: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر والبغي والنكث.
أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها " الخدع " فإن الله يقول: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - عليه وسلم: " لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي منهما " (١).
ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال: (ثم إلينا مرجعكم) تقديم الخبر للدلالة على الثبات والقصر، والمعنى أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله سبحانه فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه.
(فننبئكم بما كنتم تعملون) في الدنيا من خير وشر، والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء سأخبرك بما صنعت وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد.
ثم لما ذكر سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يتضمن بيان حالها وسرعة تقتضيها وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود به، بعد أن تملأ الأعين برونقها وتخلب النفوس ببهجتها، وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً ويهتكوا حرمهم، حباً لها وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب العجيب البديع المثال المنتظم في سلك الأمثال فقال.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٤٨١٣.
43
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
44
(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) أي إن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنواع نوره وحاكت الزهر أنواع زهره، وإنما ليست للحصر لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله كماء بل ما يفهم من الكلام.
(فاختلط به) أي بسببه (نبات الأرض) بأن اشتبك بعضه ببعض لكثرته حتى بلغ إلى حد الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز، ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز، وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض (مما يأكل الناس والأنعام) أي كائناً من الحبوب والثمار والكلأ والتبن والعشب.
(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) قال في الصحاح: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور. اهـ.
وفي القاموس الزخرف بالضم الذهب وكمال حسن الشيء، ومن القول
44
حسنه، ومن الأرض ألوان نباتها، والمعنى أن الأرض استوفت واستكملت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب وبعضه للون الفضة وبعضه للون الياقوت وبعضه للون الزمرد وحتى غاية لمحذوف، أي ما زال ينمو ويزهر حتى أخذت حسنها ونضارتها وبهجتها، وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وغير ذلك.
(وازينت) أي تزينت به، وقرئ أزينت على وزن أفعلت أي ازينت بالزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة ففي الكلام استعارة مكنية.
(وظن أهلها) أي أهل تلك الأرض الآخذة زخرفها (إنهم قادرون عليها) أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها متمكنون على جدادها وقطافها، والضمير في عليها للأرض والمراد النبات الذي هو عليها.
(أتاها) أي جاءها (أمرنا) بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات (ليلاً أو نهاراً) أو للتنويع أي تارة يأتي قضاؤنا وعذابنا ليلاً، وتارة يأتي نهارا (فجعلناها حصيداً) أي جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل وقيل المقطوع بالمناجل.
(كأن لم تغن بالأمس) أي كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس مخضراً طرداً، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام، قال البيضاوي: أي لم تلبث أي لم تقم ولم تمكث.
وقيل لم تكن ولم توجد، وفي القاموس ما يقتضي أن غني يأتي بمعنى كان ووحد كقوله غنيت دارنا بتهامة أي كانت بها.
45
والمراد بالأمس الوقت القريب والزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، قاله الكرخي، والمغاني في اللغة المنازل، وقال قتادة: كأن لم ينعم، وقرأ " لم يَغْنَ " بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف، قرأ من عده " تغن " بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض.
(كذلك) أي مثل ذلك التفصيل البديع (نفصل الآيات) القرآنية التي من جملتها هذه الآية المنبهة على أحوال الدنيا، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية (لقوم يتفكرون) فيما اشتملت عليه، عن أبي مجلز قال: كان مكتوباً في سورة يونس إلى جنب هذه الآية (ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثاً ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) فمحيت.
قال النسفي في الآية: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، والتنبيه على حكمة التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها، كما أن صفو الماء في أعلى الإناء:
ألم تر أن العمر كأس سلافة فأوله صفو وآخره كدر
وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة الزهد وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة وشقائق الطريقة.
والخبيثة تخرج خلاف الخلف؛ وثمام الإثم وشوك الشرك، وشيح الشح وحطب العطب ولعاع اللعب.
ثم يدعوه معاده، كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج
46
النبات مصفراً، فتغيب جثته في الرمس كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث.
وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله، ويهلك كثيره ولا بد من ترك ما زاد، كما لا بد من أخذ الزاد، وأخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه، تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح ماء؛ يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة وعمارتها بذل الصلاة، فمتى اختلت القنطرة غرقته أمواج القناطير المقنطرة. وكذا المال يساعد الأوغاد، دون الأمجاد، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذلك المال لا يجتمع إلا بكد البخيل، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف انتهى.
47
(والله يدعو إلى دار السلام) لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو الله تعالى وداره الجنة، وقال الزجاج: والمعنى والله يدعو إلى دار السلامة، ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة.
وقيل أراد دار السلام الذي هو التحية لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله: (تحيتهم فيها سلام) وقيل السلام اسم لأحد الجنان السبع (أحدها) دار السلام (والثانية) دار الجلال (والثالثة) جنة عدن (والرابعة) جنة المأوى (والخامسة) جنة الخلد (والسادسة) جنة الفردوس (والسابعة) جنة النعيم.
وقيل المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة،
47
وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام.
(ويهدي من يشاء) هدايته، قال أبو العالية: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات (إلى صراط مستقيم) دين الإسلام، جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه.
أخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً، فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها (١) " وقد روي معنى هذا من طرق.
_________
(١) المستدرك كتاب تجبير الرؤيا ٤/ ٣٩٣. وفي رواية: أكل منها مما فيها ثم تلا -يعني رسول الله ﷺ (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
48
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦)
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال: (للذين أحسنوا) بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الإيمان والأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي، وقيل للذين شهدوا أن لا إله إلا الله (الحسنى) أي المثوبة الحسنى وإن كان معه ذنوب، فعصاة المؤمنين داخلون في هذا، وقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها ولذلك ترك موصوفها، وقيل المراد بالحسنى الجنة.
(وزيادة) قيل المراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) وقيل الزيادة النظر إلى وجهه الكريم، وبه قال جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت، وبه قال الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي.
وقيل الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقيل الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، قاله علي بن أبي طالب، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان قاله مجاهد، وقيل هي ما يعطيهم سبحانه في الدنيا من فضله لا يحاسبهم عليه يوم القيامة، قاله ابن زيد، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية ثم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال
49
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم " (١).
وفي لفظ من حديث أبي موسى مرفوعاً: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن، أخرجه الدارقطني وابن جرير وغيرهما، وروي مثله عن جماعة من الصحابة مرفوعاً بطرق، وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه، وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله ﷺ فلم يبق حينئذ لقائل مقال ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم والله المستعان.
(ولا يرهق) الرهق الغشيان، وقيل أصله المقاربة، وقيل معناه يلحق ومنه قيل غلام مراهق إذا لحق بالرجال، وقيل يعلو والمعاني متقاربة والمعنى لا يغشى (وجوههم قتر) هو غبار معه سواد، وقيل سواد الوجه واحده قترة وقيل هو الدخان ومنه غبار القدر، وقيل التقليل ومنه ولم يقتروا، ومنه على المقتر قدره، وقيل الكآبة.
(ولا ذلة) هي ما يظهر على الوجه من الخضوع والانكسار والهوان، يعني لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان، وقال مجاهد في الآية: خزي، وعن صهيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذا بعد نظرهم إليه عز وجل، أخرجه أبو الشيخ، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال، قاله أبو البقاء.
وهذا ليس بجائز لأن المضارع متى وقع حالاً منفياً بلا امتنع دخول واو الحال عليه كالمثبت أو في محل الرفع نسقاً على الحسنى، والتقدير وأن لا يرهق أي وعدم رهقهم.
(أولئك أي المتصفون بالصفات السابقة هم (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) أي المتنعمون بأنواع نعمها لا يخرجون منها أبداً.
_________
(١) الإمام أحمد، ٤/ ٣٣٣.
50
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨)
51
(والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها) أي يجازى سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة؛ وهذا أولى مما عداه وفيه سبعة أوجه قررها السمين لا نطول بذكرها، والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان: الباء زائدة والمعنى جزاء سيئة مثلها وقيل جزاء سيئة كائن بمثلها.
وقيل التقدير فلهم جزاء سيئة، وفيه التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه سبحانه وتكرماً، وأما السيئات فإنه يجازي فاعلها عليها بمثلها عدلا منه سبحانه.
(وترهقهم) أي تغشاهم (ذلة) أي هوان وخزي، وقال ابن عباس: ذلة وشدة (ما لهم من الله من عاصم) أي لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين والأول أولى.
(كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً) القطع بفتح الطاء جمع قطعة وبإسكانها جزء وهما قراءتان سبعيتان، قال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل وقيل ظلمة آخر الليل، وقال الأخفش: سواد الليل، والجملة حالية أو مستأنفة أي أغشيت وألبست وجوههم قطعاً وسواداً من الليل في حال ظلمته.
51
(أولئك) أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة (أصحاب النار هم فيها خالدون) إطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين.
52
(ويوم نحشرهم جميعاً) الحشر الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد وقال مجاهد: الحشر الموت، ويوم منصوب على المفعولية بمضمر أي أنذرهم يوم نحشرهم لموقف الحساب، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة، والمعنى أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم يوم القيامة.
(ثم نقول) في حالة الحشر ووقت الجمع (للذين أشركوا) تقريعاً لهم على رؤوس الأشهاد وتوبيخاً لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة وحضور معبوداتهم (مكانكم) أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم، ولا تنفكوا منه ولا تبرحوا عنه حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم، ونصب مكانكم على أنه في الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأي الفارسي، قاله أبو السعود.
قال الخفاجى: وهذا كله تكلف، قال الدماميني: لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازماً وإما متعدياً، وهلا جعلوه ظرفاً على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي اثبت مكانك انتهى وفيه بحث.
والضمير في قوله (أنتم) تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسده مسد الزموا (وشركاؤكم) عطف عليه وقرىء بالنصب على المفعول معه، وفي هذا وعيد وتهديد للعابدين والمعبودين، والمراد بالشركاء هنا الملائكة وقيل الشياطين وقيل الأصنام وأن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت وقيل المسيح وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان.
52
(فزيلنا) أي فرقنا وقطعنا ما كان (بينهم) من التواصل في الدنيا يقال زيلته فتزيل أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة والتزايل التباين، قال السيوطي: ميزنا بينهم وبين المؤمنين، كما في آية (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) انتهى. وفيه مسامحة.
قال القرطبي: هذا التفسير بعيد من سابقه ولاحقه إذ هما في الكلام على المشركين ومعبوداتهم فالأولى القول الآخر الذي جرى عليه غيره كالبيضاوي والخازن ونص الخطيب: بينهم، أي بين المشركين وشركائهم، وذلك حين يتبرأ كل معبود عمن عبده، وهذا أنسب بقوله.
(وقال شركاؤهم) الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية، وقيل لكونهم شركاءهم في هذا الخطاب والإضافة لأدنى ملابسة.
(ما كنتم إيّانا تعبدون) في الحقيقة ونفس الأمر، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم، لأنها الآمرة لكم بالإشراك على حد قوله (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) الآية. وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة وتقديم المفعول للفاصلة.
53
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
54
(فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم) إن كنا أمرناكم بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) القائل لهذا الكلام هم المعبودون قالوا لمن عبدهم من المشركين، والمراد بالغفلة هنا عدم الرضاء بما فعله المشركون من العبادة لهم، أو عدم علمهم بها، أو كل من الأمرين.
وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، قال أبو السعود: هذا من كلام الأصنام كما علمت. انتهى.
قلت: ويمكن أن يكونوا من الشياطين ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجيروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها.
(هنالك) أي في ذلك المكان الدهش أو في ذلك الموقف الدحض أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان (تبلو) أي تختبر وتذوق (كل نفس) مؤمنة كانت أو كافرة، سعيدة أو شقية جزاء (ما أسلفت) من العمل وتعاينه بكنهه متتبعة لآثاره من نفع أو ضر، وخير أو شر، فمعنى تبلو تذوق وتختبر، وقيل تعلم وقيل تتبع فهو من التلو، وهذا على القراءة بالفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس.
وأما على القراءة بالنون فالمعنى أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها وأنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها، ويجوز أن يراد يصيب بالبلاء أي
54
العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر، والبلية والبلاء والبلوى واحد، والجمع البلايا ومعنى الكل الاختبار.
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونهم حتى يؤدوهم النار ثم تلا رسول الله ﷺ (هنالك تبلو) الآية.
وعن ابن زيد قال: تعاين كل نفس ما عملت، وقرئ تتلو من التلاوة، أي تقرأ كل نفس صحيفة عملها من خير أو شر.
(وردوا) أي الذين أشركوا (إلى الله) أي إلى جزائه وما أعد لهم من عقابه والرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه (مولاهم) ربهم ومالكهم (الحق) صفة له، أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وقرئ بالنصب على المدح كقولهم الحمد لله أهل الحمد (وضل عنهم) أي ضاع وبطل وذهب في الموقف (ما كانوا يفترون) عليه من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة تشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه.
والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ويعترفون به ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً، ولكن حين لا ينفعهم ذلك. وعن السدي قال: نسخها قوله (بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).
ثم لما بين الله سبحانه فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد والهدى، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس فقال:
55
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)
56
(قل) يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك؛ وهذه أسئلة ثمانية، جواب الخمسة الأولى منها منهم، وجواب الاثنين بعدها منه ﷺ بتعليم الله إياه لعدم قدرتهم عليه، وجواب الأخير لم يذكر لشهرته والعلم به.
(من يرزقكم من السماء) بالمطر (والأرض) بالنبات والمعادن فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو من كل واحدة منهما توسعة عليكم، ومن لابتداء الغاية فإن اعترفوا حصل المطلوب وإن لم يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما فقل.
(أم من يملك السمع والأبصار) أم هي المنقطعة بمعنى بل وفي هذا إضراب انتقال، انتقال من سؤال إلى سؤال على القاعدة المقررة في القرآن لا إضراب إبطال، أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء وحقيقة الملك معروفة ويلزمها الاستطاعة لأن المالك لشيء يستطيع التصرف فيه والحفظ له والحماية، لذلك تجوّز به عن كل منهما وخصهما بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين، ثم انتقل إلى حجة ثالثة فقال (ومن يخرج الحي من الميت) أي الإنسان من النطفة والطير من البيضة والنبات من الحبة أو المؤمن من الكافر، والأول أقرب إلى الحقيقة (ويخرج الميت من الحي) أي النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن، أو البيضة من الطائر الحي، والمراد
56
بهذا الاستفهام عمن يحيي ويميت، وهذه حجة رابعة ثم انتقل إلى حجة خامسة فقال:
(ومن يدبر الأمر) بين الخلائق أي يقدره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عم ما تقدم وغيره (فسيقولون الله) أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات الخمس إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم، والمعنى الله يفعل ذلك.
(فقل) أمره أن يقول لهم ذلك وعظاً وتذكيراً بعد أن يجيبوا بهذا الجواب (أفلا تتقون) الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال، وتعبدون هذه الأموات والأصنام التي لا تقدر على شيء من هذه الأمور بل ولا تعلم به، وفي البيضاوي أفلا تتقون عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
57
(فذللكم) الذي يفعل هذه الأفعال (الله) وهو (ربكم) المتصف بأنه (الحق) لا ما جعلتموهم شركاء له في الموتى والأصنام، والاستفهام في قوله (فماذا بعد الحق إلا الضلال) للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام، والمعنى أي شيء بعد الحق إلا الضلال فإن ثبوت ربوبية الرب سبحانه حق بإقرارهم وكان غيره باطلاً لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته.
(فأنى تصرفون) أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب.
57
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)
58
(كذلك) أي كما ثبت أن الحق ليس بعده إلا الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك (حقت كلمة ربك) أي حق حكمه وقضاؤه (على الذين فسقوا) خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عناداً ومكابرة، قال الزمخشري: أي مثل ذلك الحق حقت، وقال الزجاج: أي حقت عليهم هذه الكلمة ووجبت وهي (أنهم لا يؤمنون) أي عدم إيمانهم بدل كل من كل، أو المعنى لأنهم لا يؤمنون فيكون تعليلاً لحقيتها عليهم.
(قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) أورد سبحانه في هذا حجة سادسة على المشركين وأمر نبيه ﷺ أن يقولها لهم وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيّناً وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ولم يكابر كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه.
والمعنى هل من هذه الأصنام والأموات التي تزعمون أنها آلهة من يقدر على أن ينشئ الخلق من العدم على غير مثال سبق ثم يعيده بعد الموت في القيامة كهيئته أول مرة للجزاء.
وهذا السؤال استفهام إنكار، وإنما لم يعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوب، وعبارة أبي السعود هذا احتجاج آخر على حقية التوحيد
58
وبطلان الإشراك بإظهار كون شركائهم بمعزل عن استحقاق الألوهية ببيان اختصاص خواصها من بدء الخلق وإعادته به تعالى. اهـ
والحاصل أنه لا يقال إن الكفار ينكرون الإعادة والبعث فكيف يحتج عليهم بها لأن إلزام الخصم كما يصح بما يعترف به يصح أيضاً بما تبينت وثبتت حقيته لقوة برهانه، فلذا جعل الإعادة كالبدء في الإلزام لظهور برهانها وإن لم يعترفوا بها.
ولذلك أمر الرسول أن ينوب عنهم في الجواب كما قال سبحانه (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره، وهذا القول الذي قاله النبي ﷺ عن أمر الله سبحانه له نيابة عن المشركين في الجواب كما تقدم، إما عن طريق التلقين لهم وتعريفهم كيف يجيبون وإرشادهم إلى ما يقولون، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ومعرفة ما لديه، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة أو أن يسجل عليهم بالمكابرة إن حادوا عن الحق.
(فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره، والمراد التعجب من أحوالهم.
ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سابعة فقال
59
(قل هل من شركائكم) الاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة (من يهدي إلى الحق) الإستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله (الذي خلقني فهو يهدين) وقوله (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقوله (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى وهما بمعنى واحد، روى ذلك عن الزجاج.
وقيل كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء باللام للدلالة على أن المنتهى
59
غاية الهداية والمعنى متقارب، وقد يحذف الحرف تخفيفاً وقد جمع بين المتعديين هنا بحرف الجر، فعدى الأول والثالث بإلى والثاني باللام والتعدية بهذين الحرفين من باب التفنن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: والمراد بالحق في المواضع الثلاثة ضد الباطل.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله رسوله ﷺ أن يجيب بقوله (قل) لهم (الله) الذي له الإحاطة الكاملة (يهدي للحق) من يشاء دون غيره ممن زعمتموهم شركاء، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات وإرساله للرسل وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار.
والاستفهام في قوله (أفمن) للتقرير وإلزام الحجة والفاء لترتيبه على ما سبق وهو برهان ثامن لم يذكر جوابه في الآية، والمعنى أفمن (يهدي) الناس (إلى الحق) وهو الله سبحانه (أحق أن يتبع) ويقتدي (أم من لا يهدي) أي أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه (إلا أن يهدى) الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدى الغير إياه، وكان مقتضى المقابلة أن يقال أم من لا يهدي، وإنما خولف إشارة إلى أنه إذا لم يهتد بنفسه لا يهدي غيره.
وقال النحاس: الاستثناء منقطع كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع أي لكنه يحتاج أن يسمع، فمعنى إلا أن يهدى أي لكنه يحتاج أن يهدى (فما لكم كيف تحكمون) هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين أي أيُّ شيء يثبت لكم في هذه الحالة؟ فهذه جملة مستقلة، وكيف تحكمون لي باتخاذ هؤلاء شركاء لله؟ وهي جملة أخرى مستقلة، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ.
60
ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم وعلى أي شيء بنوه وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل وهو الشرك فقال
61
(وما يتبع أكثرهم إلا ظناً) هذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة، والمعنى ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أنداداً إلا مجرد الظن والتخمين والتحدس، ولم
يكن ذلك عن بصيرة والتفات إلى فرد من أفراد العلم، فضلاً عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق المبنية على المقدمات اليقينية الصادقة فيفهموا مضمونها ويقفوا على مقتضاها وبطلان ما يخالفها، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله وأنها تشفع لهم.
ولم يكن ظنه هذا لمستند قط بل مجرد خيال مختل وحدس باطل فقلدوا فيه آباءهم ولعل تنكير الظن هنا للتحقير، أي إلا ظناً ضعيفاً واهياً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون.
وقيل المراد بالآية أنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً والأول أولى، وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميعهم يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم، قال الكرخي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز، وقيل المراد بالأكثر الرؤساء.
ثم أخبرنا الله سبحانه (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) لأن أمر الدين إنما ينبني على العلم وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم ولا يدرك به الحق ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء، والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه ومن بمعنى عن والحق بمعنى العلم (إن الله عليم بما يفعلون) من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان فيندرج تحتها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة والاتباع للظنون الفاسدة اندراجاً أولياً.
61
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)
62
(وما كان هذا القرآن أن يفترى) قيل إن بمعنى اللام أي ليفترى، وقيل بمعنى لا أي لا يفترى.
لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوة أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة مفترى من الخلق (من دون الله) وإنما هو من عند الله عز وجل، وكيف يصح أن يكون مفترى على سبيل الافتعال والاختلاق وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم إذهاناً.
قال الفراء: ومعنى الآية وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله (وما كان لنبي أن يغل وكقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) يعني ليس وصف القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب.
(ولكن) كان هذا القرآن، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ هي بين نقيضين وهما الكذب والصدق المضمن للتصديق، وفيه أوجه (أحدها) العطف على خبر كان (الثاني) أنه خبر لكان مضمرة وتقدم تقديره وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج وهذا كالذي قبله في المعنى (الثالث) تقديره وما كان هذا القرآن أن يفترى ولكن أنزل للتصديق (والرابع) تقديره ولكن يصدق الذي، قاله السمين.
(تصديق الذي بين يديه) أي أمامه من الكتب الإلهية المنزلة على
62
الأنبياء قبله، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدقاً لها، ونفس هذا
التصديق معجزة مستقلة، لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة مع أن النبي ﷺ لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك، وقيل المعنى ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن وهو محمد (- ﷺ -) لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن.
(وتفصيل الكتاب) التفصيل التبيين، أي بين ما في كتب الله المتقدمة، والألف واللام في الكتاب للجنس، وقيل أراد ما بين في القرآن من الأحكام فيكون المراد بالكتاب القرآن وقيل اللوح المحفوظ (لا ريب فيه) الضمير عائد إلى القرآن وهو داخل في حكم الاستدراك وهو خبر ثالث أو حال من الكتاب أي منتفياً عنه الريب أو مستأنف أو معترض بين تصديق وبين (من رب العالمين) أي كائن منه خبر رابع أو حال ثانية أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو التقدير أنزل للتصديق من رب العالمين.
63
(أم يقولون افتراه) الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجة وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أيقولون افتراه واختلقه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون، وقيل الميم زائدة أي أيقولون والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار والاستبعاد، أي هذا القول منهم في غاية البعد والشناعة، وقيل التقدير أيقرون به أم يقولون.
ثم أمره الله سبحانه أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال (قل) تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان مقالتهم الفاسدة (فأتوا) أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء (بسورة مثله) في البلاغة وجودة الصناعة فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن، وحسن النظم وبلاغة الكلام، والمراد مثل هذه السورة لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا قال الرازي وهي مكية والأولى التناول لجميع السور، فإنهم
63
لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة.
(وادعوا) بمظاهريكم ومعاونيكم (من استطعتم) دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ومن آلهتكم التي تجعلونها شركاء لله (من دون الله) أي من سوى الله من خلقه (إن كنتم صادقين) في دعواكم إن هذا القرآن مفترى، فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله، وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه.
وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها وأظهرها للعقول، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية قال: لهم هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجَمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم، أو من غيرهم من بني آدم ومن الجن أو من الأصنام، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ والصقتموه بي.
فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزل البالغ بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة، بل كاعوا عن الجواب وتشبثوا بأذيال العناد البارد والمكابرة المجردة عن الحجة، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل.
ومراتب تحدي رسول الله ﷺ بالقرآن أربعة: أولها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن)
ثانيها: أنه تحداهم بعشر سور. قال تعالى (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات).
ثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال تعالى (فأتوا بسورة مثله)
رابعها: أنه تحداهم بحديث مثله كما قال تعالى (فليأتوا بحديث مثله)
فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله في إثبات إن القرآن معجز.
64
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
ثم إن الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن وأتى به عقب هذا التحدي البالغ فقال
65
(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فأضرب عن الكلام الأول وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه كما تراه عياناً، وتعلمه وجداناً.
والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلاً إنما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب، منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوته ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء.
ما يبلغ الأعداء من جاهل... ما يبلغ الجاهل من نفسه (ولما يأتهم تأويله) أي بل كذبوا بما لم يحييطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم ولا وصلت أذهانهم معانيه الرائقة المُنبئة عن علو شأنه.
والمعنى أن التكذيب وقع منهم قبل الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما
65
يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين، والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم، فإنهم لو تدبروه كل التدبر لفهموه كما ينبغي، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله.
وعلى هذا فمعنى تأويله ما يئول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول، والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم ومن جهة المعنى من حيث الإخبار بالغيب.
(كذلك) أي مثل ذلك التكذيب (كذب الذين من قبلهم) من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم، كما حكى ذلك القرآن عنهم واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم، والخطاب لرسول الله ﷺ أو لكل فرد من الناس والجملة في قوة فأهلكناهم.
66
(ومنهم) أي ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن (من يؤمن به) في نفسه ويعلم أنه صدق وحق ولكنه كذَّب مكابرة وعناداً، وقيل المراد ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال (ومنهم من لا يؤمن به) ولا يصدقه في نفسه بل كذب به جهلاً وتقليداً، أو لا يؤمن به في المستقبل بل يبقى على جحوده وإصراره؛ وقيل الضمير في الموضعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قيل أن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل عام في جميع الكفار (وربك أعلم بالمفسدين) فيجازيهم بأعمالهم والمراد بهم المصرون المعاندون.
66
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣)
67
(وإن كذبوك فقل) أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يقول لهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه (لي) جزاء (عملي ولكم عملكم) أي جزاؤه فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه وليس علي غير ذلك، ثم أكد بقوله (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أوخذ بعملكم، وفيه توكيد لما أفادته لام الاختصاص من عدم تعدي أجر العمل إلى غير عامله.
وقد قيل أن هذا منسوخ بآية السيف لما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم كما ذهب إليه جماعة من المفسرين منهم مقاتل والكلبي، وعن ابن زيد قال: أمره الله بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم.
قال الرازي: وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، بل هو باق فكان القول بالنسخ باطلاً.
(ومنهم من يستمعون إليك) بين الله سبحانه في هذا إن في أولئك الكفار من بلغت حاله، في النفرة والعداوة إلى هذا الحد وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه، وجمع الضمير في يستمعون حملاً على معنى من وأفرده في ومنهم من ينظر حملاً على لفظه، قيل والنكتة كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لان
67
الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع والنور الموافق لنور البصر، والتقدير في قوله ومنهم من يستمعون ومنهم من ينظر ومنهم ناس يستمعون ومنهم بعض ينظر.
(أفأنت تسمع الصم) الهمزة للإنكار يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم والصمم مانع من سماعهم فكيف يطمع منهم في ذلك مع حصول المانع وهو الصمم، فكيف إذا انضم إلى ذلك (ولو كانوا لا يعقلون) فإن من كان أصمَّ غير عاقل لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له، والفاء عاطفة.
وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مريضة بمعارضة الوهم ومتابعة الإلف والتقليد، تعذر أفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
والكلام في
68
(ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) كالكلام فيما تقدم لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر، وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهماً يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم العاقل قد يتحدس تحدساً يفيده بعض فائدة بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك، وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل فقد انسد علبيه باب الهدى.
والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه واستراح من الاشتغال به والهمزة للإنكار.
68
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
69
(إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية *فعلى نفسها براقش تجني*
قيل والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة اليقين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة.
(و) اذكر (يوم نحشرهم) أي المشركين المنكرين للبعث لموقف الحساب، وأصل الحشر إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم أي إحياؤهم من القبور (كأن) أي كأنهم (لم يلبثوا) أي مشبهين بمن لم يلبث (إلا ساعة من النهار) أي شيئاً قليلاً.
والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا وقيل في القبور، استقلوا المدة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم أو استقصروها للدهش والحيرة أو لطول وقوفهم في المحشر أو لشدة ما هم فيه من العذاب، نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ومثل هذا قولهم (لبثنا يوماً أو بعض يوم) أو لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جداً.
69
والمقصود من هذا التشبيه كما قاله أبو السعود بيان كمال سهولة الحشر بالنسبة إليه تعالى ولو بعد دهر طويل، وإظهار بطلان استعبادهم وإنكارهم له بقولهم (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكال والصور فإن اللبث اليسير يلزمه عدم التبدل والتغير.
والمراد بالساعة الزمن القليل فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالاً من ساعات الليل.
(يتعارفون بينهم) أي يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً، بيان وتقرير لما سبق وذلك يقع في الحشر الذي هو الاجتماع أي في ابتدائه وينقطع في أثنائه وقيل عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام، وأما البعث فلا تعارف فيه لعدم الاجتماع الذي هو لازمه.
وهذا أحد وجهين في المقام ذكره البيضاوي وأبو البقاء، وغالب المفسرين على خلافه وهو تفسير الحشر بالبعث من القبور وجرى على هذا أبو السعود والخازن والقرطبي، وقيل أن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع يقول بعضهم لبعض أنت أضللتني وأغويتني، لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى (ولا يسأل حميم حميماً) وقوله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) فيجمع بأن المراد بالتعارف هو تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول) وقوله تعالى (كلما دخلت أمة) الآية وقوله (ربنا إنا أطعنا سادتنا) الآية، قال القرطبي: وهو الصحيح.
وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر.
(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم
70
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
بالخسران وتعجيب منه ولذا أتى بحرف التحقيق، والمراد باللقاء يوم القيامة عند الحساب والجزاء أي من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه آثر الفاني على الباقي، والجملة مستأنفة أو في محل نصب بإضمار قول أي قائلين قد خسر (وما كانوا مهتدين) نفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم ويصلحهم.
71
(وإما نرينك بعض الذي نعدهم) أصله إن نُرِكَ وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ولأجله زيدت نون التأكيد خلافاً لسيبويه، والمعنى أن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه أو فذاك.
وجملة (أو نتوفينك) معطوفة على ما قبلها، المعنى أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك (فإلينا مرجعهم) فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها، وجواب أو نتوفينك محذوف أيضاً والتقدير أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة، وقيل أنه جواب للشرط وما عطف عليه إذ معناه صالح لذلك، وإلى هذا ذهب العوفي وابن عطية.
وقيل أن جواب أو نتوفينك هو قوله فإلينا مرجعهم لدلالته على ما هو
71
المراد من إراءة النبي ﷺ تعذيبهم في الآخرة وقيل العدول في الموضعين إلى صيغة المستقبل لاستحضار الصورة، والأصل أريناك أو توفيناك وفيه نظر فان إراءة ﷺ ببعض ما وعد المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة.
وحاصل معنى هذه الآية: إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً، وقد أراد الله قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن فلله الحمد.
(ثم الله شهيد على ما يفعلون) من تكذيبهم وكفرهم فيعذبهم أشد العذاب وجاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري.
وفي السمين (ثم) هنا ليست للترتيب الزماني بل هي لترتيب الأخبار لا لترتيب القصص في نفسها كقولك زيد عالم ثم هو كريم.
قال الزمخشري: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قيل ثم الله معاقب على ما يفعلون، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد.
72
(ولكل أمة) من الأمم الخالية في وقت من الأوقات (رسول) يرسله الله إليهم يبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة (فإذا جاء رسولهم) إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً (قضى بينهم) أي بين الأمة ورسولها (بالقسط) أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له، فيكون ما يعذبون به عدلاً لا ظلماً كما قال سبحانه (وما
72
كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقوله تعالى (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
ويجوز أن يراد بالضمير في (بينهم) الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر فيهلك المكذبون وينجو المصدقون، وفي وقت هذا القضاء قولان أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الأخرة، والأول أولى.
(وهم لا يظلمون) في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى (وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم) وقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) والمراد المبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد.
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار
73
(و) ذلك إن النبي ﷺ كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا (يقولون متى هذا الوعد) والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد، والقدح في النبوة لا طلباً لتعيين وقت مجيئه على وجه الإلزام كما في سورة الملك فإن المطلوب هناك تعيين الوقت.
(إن كنتم صادقين) خطاباً منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال
(قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً) أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدم الضر لأن السياق لإظهار العجز عن ظهور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه.
73
والاستثناء في قوله (إلا ما شاء الله) منقطع كما ذكره أئمة التفسير، وبه قال الزمخشري أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان فكيف اقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً، وقيل متصل تقديره إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، والأول أولى.
وفي هذا أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله ﷺ والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وذلك من صار يطلب من الرسول ﷺ ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين رزقهم وإحياهم ويميتهم فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه، ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع.
وحسبك في هذه الآية موعظة فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره.
فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا به من الشرك ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول قل هو الله أحد.
وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى بل إلى ما هو أشد
74
منها. فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه ومظهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر.
ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حداً محدوداً لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال (لكل أمة) ممن قضى بينهم وبين رسولهم أو بين بعضهم لبعض (أجل) أي وقت خاص ومدة مضروبة يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله والأجل يطلق على مدة العمر، وعلى آخر جزء منه، والمراد هنا الثاني كما يؤخذ من التفاسير.
(فإذا جاء أجلهم) أي أجل كل أمة، قال أبو السعود: أن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان فمعنى مجيئه ظاهر، وأن أريد به ما امتد من الزمان فمجيئه عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه (فلا يستأخرون) عن ذلك الأجل المعين (ساعة) أي شيئاً قليلاً من الزمان (ولا يستقدمون) منه، ومثله قوله تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) والسين زائدة فيهما، والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده.
75
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)
76
(قل أرأيتم إن أتاكم عذابه) هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأول، أي أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه وليس شيء من العذاب يستعجله العاقل، إذ العذاب كله مر المذاق، موجب لنفار الطبع منه.
فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم، والتنبيه لهم على أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل، أو جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب، أي أيُّ شيء شديد تستعجلون منه، أي ما أشد وما أهول ما تستعجلون من العذاب. قاله أبو حيان.
(بياتاً) أي وقت بيات، والمراد به الوقت الذي يبيتون فيه وينامون ويغفلون عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله (أو نهاراً) أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والاستفهام في قوله (ماذا يستعجل منه المجرمون) للإنكار المتضمن للنهي كما في قوله (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)
ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم إن العذاب مكروه تنفر منه القلوب وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له، وضمير منه راجع إلى العذاب، وقيل إلى الله، والجملة جواب الشرط بحذف الفاء وقيل أن الجواب محذوف.
والمعنى أن أتاكم عذابه تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ منكم فيه، وقيل أن الجواب قوله
(أثُّمَّ إذا ما وقع) ويكون جملة ماذا يستعجل اعتراضاً، والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، والأول أولى.
76
قال الحفناوي: ولم يقل يستعجلون منه للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال وهو الإجرام لأن من حق المجرم أن يخاف من العذاب على إجرامه وأن يهلك فزعاً من مجيئه وأن ابطأ فكيف يستعجله.
ودخول الهمزة الاستفهامية في (أَثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به) لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم وتفظيع ما فعلوه في غير وقته مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به، وجيء بكلمة ثم التي للتراخي دلالة على الاستبعاد، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك استجهال لهم.
والمعنى أبعد ما وقع عذاب الله عليكم وحل بكم سخطه وانتقامه آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً ولا يدفع عنكم ضراً، وقيل أن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم وإزراء عليهم، والأول أولى، وقيل ثم هنا بفتح الثاء بمعنى هناك والأول أولى.
(آلآن) بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة ال المعرفة إذا اجتمع هاتان الهمزتان وجب في الثانية أحد أمرين: تسهيلها من غير ألف بينها وبين الأولى وإبدالها مداً بقدر ثلاث ألفات، وقد وقع في القرآن الكريم من هذا القبيل ستة مواضع اثنان في الأنعام وهما (آلذكرين) مرتين، وثلاثة في هذه السورة فقط آلآن هنا وفيما سيأتي ولفظ (آلله أذن لكم) وواحد في النمل (آلله خير) فلا يجوز في هذه المواضع الستة تحقيق الهمزتين، بل يجب أحد الأمرين اللذين قد عرفتهما، قيل هو استئناف بتقدير للقول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله ﷺ أن يقوله لهم، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به (و) الحال أنكم (قد كنتم به) أي العذاب (تستعجلون) يعني تكذبون لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء ويكون المقصود بأمره ﷺ أن يقول لهم هذا القول على سبيل التوبيخ لهم والازراء عليهم.
77
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤)
78
(ثم قيل للذين ظلموا) أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان (ذوقوا عذاب الخلد) أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع وهو عطف على ما قدر قبل آلآن، والمراد منه التقريع والتوبيخ لهم يوم القيامة على سبيل الإهانة، أي قيل لهم أن هذا الذي تطلبونه ضرر محض عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، والقائل لهم هذه المقالة قيل هم خزنة جهنم، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص أو المؤمنون على العموم.
(هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) في الحياة الدنيا من الكفر والمعاصي والأعمال والاستفهام للتقرير، والاستثناء مفرغ وكأنه يقال لهم هذا القول عند استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة بهم.
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذا البيانات البالغة والجوابات عن أقوالهم الباطلة أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب فقال
(ويستنبئونك) أي يستخبرونك على جهة الاستهزاء منهم والإنكار (أحق هو) أي ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له.
وقيل المراد بهذا الاستخبار منهم هو عن حقية القرآن.
(قل) أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يقول لهم في جواب استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء، أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى
78
ما هو مقصودهم من الاستهزاء (إي) أي نعم (وربي إنه) أي أن ما أعدكم به من العذاب (لحق) ثابت كائن لا محالة.
ْوفي هذا الجواب تأكيد من وجوه (الأول) القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم (الثاني) دخول إن المؤكدة (الثالث) اللام في لحق (الرابع) اسمية الجملة وذلك يدل على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
ثم توعدهم بأشد توعد ورهبهم بأعظم ترهيب فقال (وما أنتم بمعجزين) أي فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً بل هو مدرككم ولا بد، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم عن عذاب الله بوجه من الوجوه.
ثم زاد في التأكيد فقال
79
(ولو) امتناعية على ما هو الكثير فيها (أن لكل نفس) من الأنفس المتصفة بأنها (ظلمت) نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به (ما في الأرض) من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة (لافتدت به) أي جعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة لا ينفعها الفداء ولا يقبل منها، ومثله قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به)
ويجوز أن يكون الافتداء متعدياً وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً لمتعد كان قاصراً، تقول فديته فافتدى وإن لم يكن مطاوعاً يكون بمعنى فدى فيتعدى لواحد، والفعل يحتمل الوجهين فإن جعلناه متعدياً فمفعوله محذوف تقديره لافتدت به نفسها وهو من المجاز كقوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها).
(وأسروا الندامة) الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم،
79
وقيل راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس وإن كان المراد خصوص الرؤساء منهم.
ومعنى أسروا أخفوا، أي لم يظهروا الندامة على ترك الإيمان بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون.
وقيل أسرها الرؤساء فيما بينهم دون اتباعهم خوفاً من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام، وقيل معنى أسروا أظهروا لأن أسر من الأضداد ومعنى الأول هو الشهور في اللغة وهو في الآية يحتمل الوجهين؛ وقيل وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم لأن الندامة لا يمكن إظهارها.
وذكر المبرد في ذلك وجهين: الأول: أنها بدت في وجوهم أسرة الندامة وهي الانكسار واحدها سرار وجمعها أسارير والثاني: ما تقدم وقيل معنى أسروا الندامة أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها، قيل أنه ماض على بابه قد وقع، وقيل بل هو بمعنى المستقبل.
(لما) ظرف بمعنى حين أي حين (رأوا العذاب) أي وقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب ومعاينته، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا.
(وقضي بينهم بالقسط) أي العدل مستأنفة وهو الظاهر أو معطوفة على رأوا أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين بالعدل، وقيل معنى القضاء بينهم إنزال العقوبة عليهم (وهم لا يظلمون) أي لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا.
80
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
وجملة
81
(ألا إن لله ما في السماوات والأرض) مسوقة لتقرير كمال قدرته لأن من ملك ما في السماوات والأرض يتصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لأنهم أكثر المخلوقات، قيل لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به.
وقيل لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يصحب من ذلك بدليل البرهان البين، بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه يتصرف به كيف يشاء وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه انتباه للغافلين وإيقاظ للذاهلين.
ثم أكد ما سبق بقوله (ألا إن وعد الله حق) أي كائن لا محالة وهو عام يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندارجاً أولياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين وتقرير ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضار المحافظة عليه (ولكن أكثرهم) أي أكثر الناس يعني الكفار (لا يعلمون) ما فيه صلاحهم فيعملون به وما فيه فسادهم فيجتنبونه لقصور عقلهم واستيلاء الغفلة عليهم.
(هو يحيي ويميت) أي يهب الحياة ويسلبها (وإليه ترجعون) في الدار الآخرة فيجازي كلاًّ بما يستحقه ويتفضل على من يشاء من عباده.
81
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
82
(يا أيها الناس) قيل أراد قريشاً وقيل هو على العموم وهو الأولى واختاره الطبري وفيه التفات ورجوع إلى استمالتهم عقب تحذيرهم من غوائل الضلال وشروع في بيان أدلة الرسالة بعد بيان أدلة التوحيد (قد جاءتكم موعظة) يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه والوعظ في الأصل هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب، ينهى المريض عما يضره وقيل الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
(من ربكم) من لابتداء الغاية وهو مجاز، أو للتبعيض أي موعظة كائنة من مواعظ ربكم (وشفاء لما في الصدور) من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة.
عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أشتكي صدري، فقال: اقرأ القرآن، يقول الله: (شفاء لما في الصدور) أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع أن رجلاً شكا إلى النبي ﷺ وجع حلقه قال: >>عليك بقراءة القرآن والعسل فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء<< والشفاء في الأصل مصدر جعل وصفاً مبالغة أو هو اسم لما يشفى به أي يتداوى فهو كالدواء لما
82
يداوى به، وإنما خص الصدر بالذكر لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه، وداء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن، والقرآن مزيل لأمراض القلب كلها.
(وهدى ورحمة للمؤمنين) بأنجائهم من الضلال، نزل بالعطف تغاير الصفات منزلة تغاير الذات، والهدى والإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم بها عباده فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور جامع لهذه الأشياء كلها.
قال الكرخى: والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين، وهي النبوة فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره إ-هـ.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم فقال
83
(قل بفضل الله وبرحمته) المراد بالفضل من الله سبحانه تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحييط به الحصر والرحمة رحمة لهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام؛ وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة إن فضل الله الإيمان ورحمته القرآن.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: فضل الله القرآن ورحمته: أن جعلكم من أهله. رواه أبو الشيخ وابن مردويه، وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدمة، والأولى حمل الفضل والرحمة على العموم، ولدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أولياً.
وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة
83
سبب مستقل في الفرح، وأصل الكلام قل بفضل الله وبرحمته فيفرحوا ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني عليه في قوله (فبذلك فليفرحوا) وقيل أن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح وهو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب وتقديم الظرف على الفعل لإفادة الحصر والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا وفي هاتين الفائين أوجه ذكرها في الجمل.
وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) وجوَّزه في قوله (فرحين بما آتاهم الله من فضله) وكما في هذه الآية وقيل التقدير جاءتكم موعظة بفضل الله ورحمته فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا (هو خير) أي إن هذا خير لهم (مما يجمعون) من حطام الدنيا ولذاتها الفانية قرئ بالياء والتاء وهما سبعيتان.
ثمِ أشار سبحانه بقوله
84
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً) إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
والمعنى أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق أي زرع وضرع وغيرهما فجعلتم بعضه حراماً كالبحيرة والسائبة وبعضه حلالاً كالميتة وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام والحرث حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في سورة الأنعام من الكتاب العزيز، وقيل ما استفهامية، وإليه ذهب الحوفي والزمخشري والظاهر أنها موصولة كما تقدم لأن فيه إبقاء أرأيت على بابها، ومعنى إنزال الرزق كون المطر ينزل من جهة العلو.
84
وقال الزجاج: أنزل بمعنى خلق كما قال (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية ازواج وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (قل آلله أَذِنَ لكم) في هذا التحليل والتحريم والهمزة للإنكار (أم على الله تفترون) أم منقطعة بمعنى بل كما في الكشاف، والظاهر أنها متصلة كما قال السفاقسي: أي آلله اذن لكم أم تكذبون عليه في نسبة الإذن إليه.
قال الكرخي: وكفى به زاجراً لمن أفتى بغير إتقان كبعض فقهاء هذا الزمان اهـ. وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال قبح الافتراء.
قلت وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم وجعلوه شارعاً مستقلاً، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو العمول به عندهم وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه فهو في حكم المنسوخ عندهم، المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبداً بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها كما هم محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ودليلاً معمولاً به.
وقد أخطأوا في هذا خطأً بيّناً وغلطوا غلطاً فاحشاً فان الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقويم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به الحق والباطل فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
قال النسفي: الآية زاجرة عن التجوز فيما يسئل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيه وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديّان.
85
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)
ثم قال
86
(وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) أي أيُّ شيء ظنهم في هذا اليوم وما يصنع بهم فيه، أي لا ينبغي هذا الحسبان ولا صحة له بوجه من الوجوه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله، وذكر الكذب بعد الافتراء مع إن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد.
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بأنواع النعيم في الدنيا والآخرة ومنه بعثة الرسل وإنزال الكتب لبيان الحلال والحرام وإبقاء الكتاب والسنة إلى آخر الدهر والزمان (ولكن أكثرهم لا يشكرون) الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات وطرفة من الطرفات، ولا يصرفون مشاعرهم إلى ما خلقت له.
(وما تكون في شأن) الخطاب لرسول الله ﷺ وما نافية والشأن الأمر بمعنى القصد وجمعه شئون، قال الأخفش: تقول العرب ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وما قصدت قصده فهو مصدر بمعنى المفعول.
(وما تتلو منه من قرآن) قال الفراء والزجاج: الضمير يعود على الشأن والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن، وقال ابن
86
جرير الطبري: الضمير في منه عائد إلى الكتاب أي ما يكون من كتاب الله من قرآن وأعاده تفخيماً له كقوله (إني أنا الله) وقيل ما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، فمن الثانية زائدة والأولى إما تعليلية أو ابتدائية بحسب الوجهين المتقدمين.
والخطاب في (ولا تعملون من عمل) لرسول الله وللأمة، وقيل الخطاب لكفار قريش (إلا كنا عليكم شهوداً) استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له، يقال شهدت على الشيء اطلعت عليه فأنا شاهد وشهيد، والجمع أشهاد وشهود.
والضمير في (إذ تفيضون فيه) عائد إلى العمل يقال أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه، وقال الضحاك الضمير في (فيه) عائد إلى القرآن والمعنى إذ تشيعون في القرآن الكذب، والإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه.
قال ابن الأنباري: إذ تدفعون فيه وتبسطون في ذكره، وقيل الإفاضة الدفع بكثرة، وقال الزجاج: تنشرون فيه، وقيل تخوضون فيه، وقيل تأخذون أي تشرعون فيه والمعاني متقاربة.
(وما يعزب) أي يغيب ويخفى، وقيل يبعد، وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، قرئ بضم الزاي وبكسرها سبعيتان وهما لغتان فصيحتان (عن ربك) أي عن علمه، ومن في (من مثقال ذرة) زائدة للتأكيد أي وزن ذرة أي نملة حمراء وهي خفيفة الوزن جداً (في الأرض ولا في السماء) أي في دائرة الوجود والإمكان، وإنما عبر عنها بهما مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات؛ وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم، فهم يشاهدون ما فيها من قرب.
87
(ولا أصغر من ذلك) أي من مثقال ذرة كلام برأسه مقرر لما قبله، ولا نافية للجنس (ولا أكبر) منها (إلا) وهو (في كتاب مبين) فكيف يغيب عنه وهو الكتاب الذي عند الله، يعني اللوح المحفوظ، قاله السدي. وقد أورد على توجيه النصب والرفع في أصغر وأكبر على العطف على لفظ مثقال ومحله أو على لفظ ذرة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسماوات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في السلسلة العلية عن مرتبة الأول.
فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات.
وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع أي لكن هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو أي وهو أيضا في كتاب مبين، والعرب قد تضع إلا موضع الواو، ومنه قوله تعالى: (إنى لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم) يعني ومن ظلم، وقوله: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا) أي والذين ظلموا، وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله (وقولوا حطة) أي هي حطة.
قال الكرخي: وهذا الوجه فيه تعسف، ومثله قوله: (ولا تقولوَا ثلاثة) (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
وجوّز الكواشي كونه متصلاً مستثنى من " يعزب " على أن معناه يبين
88
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
ويصدر، والمعنى لا يصدر عن الله شيء بعد خلقه له إلا وهو في كتاب؛ وقال الكلبي: قد حاول الرازي جعله متصلاً بعبارة طويلة محصلها أنه جعله استثناء مفرغاً وهو حال من أصغر وأكبر، وهو في قوة المتصل، ولا يقال فيه متصل ولا منقطع.
ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين فقال:
89
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) الولي في اللغة ضد العدو فهو المحب، ومحبة العباد لله طاعتهم له، ومحبته لهم إكرامه إياهم، وعلى الأول يكون فعيل بمعنى فاعل، وعلى الثاني بمعنى مفعول فهو مشترك بينهما، وتركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولي كل شيء هو الذي يكون قريباً منه.
والمراد بالأولياء خُلَّص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته، والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم وانتهوا عن العاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم.
وكذلك (ولا هم يحزنون) على فوت مطلب من المطالب لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة وجوارحهم نشطة وقلوبهم مسرورة.
89
وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله:
90
(الذين آمنوا وكانوا يتقون) أي يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه قال أبو السعود: والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك التي يفيدها الإيمان أيضاً، ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك، أعني تنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق، والتبتل إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقي المأمور به في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) وبه يحصل الشهود والحضور والقرب الذي عليه يدور إطلاق الاسم عليه فملاك أمر الولاية هو التقوى المذكور فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
وعن سعيد بن جبير قال: هم الذين إذا رُؤوا ذكر الله. وعن ابن عباس قال: إذا رُؤوا يذكر الله لرؤيتهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي، قال النووي: وذلك في العالم العامل بعلمه.
وقد أكثر أهل العلم من المتكلمين والصوفية وغيرهم في تعريف الولي ووصفه وأطالوا المقالات في ذلك بما لا حاجة إليه، وهذه الآية تغني عنها، فإنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
والحاصل أن ولي الله من كان آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، وبالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به السنة المطهرة، لأن الإيمان مبني على العقيدة والعمل، ومقام التقوى هو أن يتقي العبد كل ما نهى الله عنه.
وعن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي ﷺ يقول: " لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض
90
لله فقد استحق الولاية من الله وأن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم " (١) " أخرجه أحمد وغيره.
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي ﷺ " خيار عباد الله الذين إذا رُؤوا ذكر الله، وشرار عباده المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البراء العنت " (٢).
وعن ابن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خياركم من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه ورغبكم في الآخرة عمله " (٣) أخرجه الحكيم الترمذي، وعن ابن عمر مرفوعاً: إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه، فجثى أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، قال قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل تصافوا في الله وتحابوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (٤) أخرجه الحاكم وصححه.
وأخرج أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر ابن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ فذكر نحوه، قال ابن كثير: (٥) وإسناده جيد، وروي بطريق عن جماعة من الصحابة، وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية.
_________
(١) الإمام أحمد ٣/ ٤٣٠.
(٢) الإمام أحمد ٦/ ٤٥٩.
(٣) ضعيف الجامع الصغير ٢٨٧٣.
(٤) المستدرك كتاب البر والصلة ٤/ ١٧٠.
(٥) ابن كثير ٢/ ٤٢٢.
91
(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) تفسير لمعنى كونهم أولياء الله
91
أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه وينزله في كتبه من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم.
وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة. قاله الزهري وقتادة.
وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب، والبشرى مصدر أريد به المبشر به، والمراد حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن معنى قوله: (لهم البشرى) فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله ﷺ فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت عليَّ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له فهي بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة " وفي إسناده هذا الرجل المجهول. وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً مثله عند أحمد والدارمي والترمذي وابن ماجة. وأخرج أحمد والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها " (١) الحديث، وفي الباب أحاديث وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات، وأنها جزء من أجزاء النبوة ولكنها لم تقيد بتفسير هذه الآية.
_________
(١) الإمام أحمد ٢/ ٢١٩.
92
وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) وعنه أنها قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) وقيل البشرى في الحياة الدنيا هي الثناء الحسن وفي الآخرة الجنة.
وعن أبي ذر قال: قيل لرسول الله ﷺ أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن " (١) أخرجه مسلم، قال أهل العلم وهي دليل للبشرى المؤخرة في الأخرة، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء الله عنه؛ وقيل غير ذلك واللفظ أوسع من ذلك.
(لا تبديل لكلمات الله) أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده على العموم فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أولياً (ذلك) أي المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين (هو الفوز العظيم) الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره، والجملتان اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، والأولى اعتراضية والثانية تذييلية.
_________
(١) مسلم ٢٦٤٢.
93
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦)
94
(ولا يحزنك قولهم) نهى النبي ﷺ عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن عليه وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود تسلية له ﷺ عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئة عن مقالاتهم الموحشة، وتبشير له بأنه تعالى ينصره.
ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله ﷺ معللاً لما ذكره من النهي فقال: (إن العزة لله جميعاً) أي الغلبة والقدرة والقهر له في مملكته وسلطانه، ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً، ولا ينافي هذا ما في سورة المنافقين (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) لأن كل عزة بالله فهي كلها لله حقيقة لكن قد يظهرها على يد رسوله ﷺ وعلى أيدي المؤمنين تكريماً وتعظيماً لهم؛ ومنه قوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إنّا لننصر رسلنا) (هو السميع) لما يقولون (العليم) بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك.
(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله ﷺ بما لا يأذن الله به، و (ألا) كلمة تنبيه معناه أنه لا ملك لأحد فيهما إلا لله عز وجل فهو يملك ما فيهما.
94
وقال في الآية الأولى (ما) وفي هذه (من) فمجموعهما دل على أن الله يملك جميع كل شيء فيهما من العقلاء وغيرهم، أو غلب العقلاء على غيرهم لكونهم أشرف: وفي الآية نعي على عباد البشر والملائكة، والجمادات لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله:
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) ما نافية وشركاء مفعول يتبع وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، يعني أنهم وأن سموا معبوداتهم شركاء لله فليس شركاء له على الحقيقة لأن ذلك محال (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
وقيل ما استفهامية أي أيُّ شيء يتبع الذين يدعون؛ وعلى هذا شركاء منصوب بيدعون والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم.
وقيل موصولة، والمعنى أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السماوات ومن في الارض.
ثم زاد سبحانه في تأكيد الرد عليهم والدفع لأقوالهم فقال: (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظناً ويظنون أنهم آلهة تشفع لهم، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً (وإن هم إلا يخرصون) أصل معنى الخرص الحزر بتقديم الزاي على الراء أي التخمين والتقدير، ويستعمل بمعنى الكذب لغلبته في مثله، والاسم الخرص بالكسر أي يقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً وكذباً بحتاً وقد تقدمت هذه الآية في الأنعام.
95
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩)
ثم ذكر سبحانه طرقاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه فقال:
96
(هو الذي جعل لكمٍ الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً) الجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرًا حال، وإن كان بمعنى التصيير فهو المفعول الثاني أي جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين أحدهما مظلم وهو الليل لأجل أن يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ويريحون أنفسهم عن الكد والكسب، والآخر مبصر لأجل أن يسعوا فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير لا يخفى عليهم كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز.
والمعنى أنه مبصر صاحبه كقولهم نهاره صائم وقال قطرب: تقول العرب أظلم الليل وأبصر النهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء، وفي الكلام شبه احتباك حيث حذف من كل ما أثبته أو مقابله في الآخر فحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه وحذف لتتحركوا لدلالة لتسكنوا عليه، وهذا أفصح الكلام.
(إن في ذلك) الجعل المذكور (لآيات) عجيبة كثيرة (لقوم يسمعون) ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون ويعلمون أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المتفرد بالوحدانية في الوجود فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.
(قالوا اتخذ الله ولداً) هذا نوع آخر من أباطيل المشركين أو أهل الكتاب التي كانوا يتكلمون بها وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ وتبنى ولداً فرد ذلك عليهم بقوله: (سبحانه) فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين وكلمتهم الحمقاء، وبين أنه (هو الغني) عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب لأجل الحاجة، والغنى المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك، وقد تقدم تفسير الآية في البقرة.
ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال: (له ما في السماوات وما في الأرض) وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة.
ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال (إن) أي ما (عندكم من سلطان) حجة وبرهان (بهذا) القول الذي تقولونه ومن زائدة للتأكيد؛ ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء (أتقولون على الله ما لا تعلمون) استفهام توبيخ ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ليس هو من العلم في شيء بل من الجهل المحض.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم قولاً يدل على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح فقال:
(قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) أي كل مفتر هذا شأنه ويدخل فيه قائل هذا القول دخولاً أوّلياً؛ وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز والمعنى أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب، ولا يسعدون وإن اغتروا بطول السلامة والبقاء في النعمة
97
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١)
ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة فهو
98
(متاع) قليل (في الدنيا) ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبداً، والجملة مستأنفة لبيان إن ما يحصل للمفتري بافترائه وما يتراءى فيه بحسب الظاهر من نيل المطالب والحظوظ الدنيوية بمعزل أن يكون من جنس الفلاح وليس بفائدة يعتد بها، بل هو متاع يسير في الدنيا يتعقبه الموت والعذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله، وليس بنافع في الآخرة، وقال الأخفش: إن التقدير لهم متاع في الدنيا، وقال الكسائي: ذلك متاع أو هو متاع.
(ثم إلينا مرجعهم) بعد الموت (ثم نذيقهم العذاب الشديد بما) أي بسبب ما (كانوا يكفرون) أي يجحدون في الدنيا من نعمة الله عليهم ويصفونه بما لا يليق بجلاله.
ولما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبه المنهارة شرع في ذكر قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأسوة بمن سلف من الأنبياء، ولما كان قوم نوح أول الأمم هلاكاً وأعظمهم كفراً وجحوداً ذكر الله قصتهم وأنه أهلكهم بالغرق ليصير ذلك موعظة وعبرة لكفار قريش فقال:
(واتل عليهم) أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة (نبأ نوح) أي خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن؛
98
والمراد بعض ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثالهم.
(إذ) أي وقت أن (قال لقومه) اللام لام التبليغ (يا قوم إن كان كبر) أي عظم وثقل (عليكم مقامي) من باب الإسناد المجازي كقولهم ثقل عليّ ظله، والمقام بفتح الميم الموضع الذي يقام فيه، وبالضم مكان الإقامة أو الإقامة نفسها، وقد اتفق القراء هنا على الفتح.
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وابن الجوزي بالضم، قال ابن عطية: ولم يقرأ هنا بالضم، وكأنه لم يطلع على قراءة هؤلاء، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان أي لأجله، ومنه (ولمن خاف مقام ربه) أي خاف ربه، ويجوز أن يراد بالمقام المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويجوز أن يراد بالمقام القيام لأن الواعظ يقوم حال وعظه.
والمعنى أن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم (و) كبر عليكم (تذكيري) لكم (بآيات الله) التكوينية والتنزيلية (فعلى الله توكلت) أي دمت على تخصيص التوكل به تعالى، وهذه الجملة جواب الشرط، والمعنى أني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً، ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل، ويجوز أن يكرن جواب الشرط فأجمعوا كما يأتي، قاله الأكثرون، والجملة اعتراض كقولك إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي وثقتي.
وقيل (فأجمعوا أمركم) عطف على الجواب، وجزم السفاقسي بأن جوابه محذوف أي فافعلوا ما شئتم، والمعنى اعزموا عليه، من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء، وروي عنه أجمع الشيء أعده وقال مؤرج السدوسي: أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، وتفرقه أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً.
99
فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم والتصميم، يقال أجمع في المعاني وجمع في الأعيان وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر، وفي التنزيل (فجمع كيده) قال ابن الأنباري: المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم ومكرهم فالتقدير لا تدعو من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه.
(وشركاءكم) أي ادعوهم لنصرتكم، قاله الكسائي والفراء، وقال الزجاج والفارسي: والمعنى مع شركائكم، ولم يذكر الزمخشري غير هذا، وقيل أجمعوا شركاءكم، وفي مصحف أُبَي: وادعوا شركاءكم، قال النحاس وغيره: وقراءة الرفع بعيدة، وقال المهدوي: يجوز رفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها.
(ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) أي خفياً، والغمة التغطية من قولهم غم الهلال إذا استتر أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً قاله الزجاج، وقال الهيثم: معناه لا يكن أمركم مبهماً، وقيل أن الغمة ضيق الأمر، كذا روي عن أبي عبيدة.
والمعنى لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه، وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول، وعلى الثالث يكون المراد غيره، وإنما نسب عدم الستر الذي هو عدم الغمة إلى الأمر مبالغة.
(ثم اقضوا إليّ) ذلك الأمر الذي تريدونه بي؛ وأصل اقضوا من القضاء وهو الأحكام، والمعنى احكموا ذلك الأمر.
قال الأخفش والكسائي: هو مثل " وقضينا إليه ذلك الأمر " أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وقيل معناه ثم امضوا إليّ، قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة ومنه قضى الميت مضى. وعن بعض القراء ثم افضوا بالفاء أي توجهوا (ولا تنظرون) أي ثم لا تمهلوني ولا تؤخروني، بل عجلوا أمركم ونفذوا واصنعوا ما بدا لكم.
100
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه، ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم من الأعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ليس هو لطمع دنيوي ولا لغرض خسيس فقال
101
(فإن توليتم) أي إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم وتذكيري إياكم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
(فما سألتكم) في مقابلة ذلك عليه (من أجر) تؤدونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به والفاء جزائية (إن أجري) أي ما ثوابي في النصح والتذكير (إلا على الله) سبحانه فهو يثيبني آمنتم أو توليتم (وأمرت أن أكون من المسلمين) المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل أو من المستسلمين لكل ما يصعب من البلاء.
(فكذبوه) أي استمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك. وليس المراد أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن.
(فنجيناه) أي نوحاً عليه السلام (ومن معه) أي من قد أجابه وصار على دينه، وكانوا ثمانين: أربعين رجلاً وأربعين امرأة (في الفلك) أي السفينة، والمفرد على وزن قفل والجمع على وزن أسد والمراد هنا المفرد.
(وجعلناهم) أي الذين نجاهم معه في الفلك حملاً على معنى من (خلائف) جمع خليفة، والمعنى أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض
101
التي كانت للمهلكين بالغرق ويخلفونهم فيها (وأغرقنا) بالطوفان (الذين كذبوا بآياتنا) من الكفار المعاندين لنوح الذين لم يؤمنوا به، تأخيره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف حسبما وقع في قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً) الآية لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) من إهلاكهم، فكذلك نفعل بمن كذبك، فيه تسلية لرسول الله ﷺ وتهديد للمشركين وتهويل عليهم.
102
(ثم بعثنا من بعده) أي من بعد نوح عليه السلام (رسلاً إلى قومهم) لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب (فجاؤوهم بالبينات) أي بالمعجزات الباهرات والدلالات الواضحات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها لقوم كل نبي (فما كانوا ليؤمنوا) أي فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه.
والمعنى أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات (بما كذبوا به من قبل) أي من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجئ الرسل إليهم، والمعنى أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم، لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا مبني على أن الضمير في (كانوا) و (كذبوا) راجع إلى القوم المذكورين في قوله (إلى قومهم) وقيل ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح، أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، وقيل المعنى بما كذبوا به من قبل أي في عالم الذر.
(كذلك) أي مثل ذلك الطبع العظيم المحكم (نطبع) بنون العظمة، وقرئ بالياء على أن الضمير لله (على قلوب المعتدين) أي المتجاوزين للحدود
102
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦)
المعهودة في الكفر والعناد المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم، لانهماكهم في الغي والضلال، وقد تقدم تفسير هذا في غير موضع.
103
(ثم بعثنا من بعدهم) أي بعد الرسل المتقدم ذكرهم وخص (موسى وهارون) بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون (إلى فرعون وملئه) المراد بالملأ الأشراف، هكذا قرره بعض المفسرين؛ وقرر بعضهم أن المراد بالملأ هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام وهو ظاهر صنيع السيوطي في الجلالين.
(بآياتنا) أي مصحوبين بالمعجزات وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز (فاستكبروا) عن قبولها ولم يتواضعوا لها ولم يذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق من جاء بها، والاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فصيحة، وقيل عن الإيمان بموسى وهارون، والأول أولى.
(وكانوا قوماً مجرمين) أي كانوا ذوي إجرام عظام وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترؤوا على ردها لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب، قيل وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.
(فلما جاءهم) أي فرعون وملأه (الحق) أي المعجزات التسع (من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين) أي لم يؤمنوا بها، بل حملوها على السحر مكابرة منهم.
103
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
104
(قال موسى) أي جملاً ثلاثاً: الأولى (أتقولون للحق لما جاءكم) قيل في الكلام حذف والتقدير أتقولون للحق سحر، فلا تقولوا ذلك.
ثم استأنف إنكاراً آخر من جهة نفسه فقال: (أسحر هذا) وهي الثانية والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله أسحر هذا بل هم قوم قاطعون بأنه سحر لأنهم قالوا إن هذا إلا سحر مبين، فحينئذ لا يكون قوله (أسحر هذا) من قولهم. وقال الأخفش: هو قولهم، وفيه نظر لما قدمنا.
وقيل معنى أتقولون أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له ثم قال (أسحر هذا) منكراً لما قالوه؛ والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة، والمعنى أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين، وهو أبعد شيء من السحر.
ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال: (أسحر هذا) فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار وتوبيخ بعد توبيخ وتجهيل بعد تجهيل. والثالثة (ولا يفلح الساحرون) أي والحال كذا فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة، وحاصل السحر تمويه وتخييل وصاحب ذلك لا يفلح أبداً.
(قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) مستأنفة، قال مجاهد:
104
لتلوينا وتصرفنا، وقال السدي: لتصدنا عن آلهتنا، وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة، ولم يجدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم، بل لجؤوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة، وهو الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا.
وكم بقي على الباطل وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت. قال أبو السعود: استئناف بياني مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه ﷺ فضلاً عن الجواب الصحيح، واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل عاند لدود. انتهى.
واللفت والفتل أخوان وكلاهما من باب ضرب، يقال لفته لفتاً إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه، وفي السمين: اللفت الليَّ والصرف، يقال لفته عن رأيه إذا صرفه، ولواه عنه إلى ذات اليمين أو الشمال.
وقال الأزهري: لفت الشيء وفتله لواه وهذا من المقلوب.
قلت ولا يدعي فيه قلب حتى يرجح أحد اللفظين في الاستعمال على الآخر. أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا وهو عبادة الأصنام.
(وتكون لكما) أي لموسى وهارون (الكبرياء) مصدر على وزن فعلياء ومعناها العظمة والملك والسلطان (في الأرض) أي مصر، وفيه خمسة أوجه جوزها أبو البقاء.
105
" أحدها " أن يكون متعلقاً بنفس الكبرياء " الثاني " أن يتعلق بنفس تكون " الثالث " أن يتعلق بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً " الرابع " أن يكون حالاً من الكبرياء " الخامس " أن يكون حالاً من الضمير في لكما لتحمله إياه.
قال الزجاج: سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا، وقيل سمي بذلك لأن الملك يتكبر، والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد للآباء والحرص على الرياسة الدنيوية، لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه، ولم يبق للملك رياسة تامة لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات.
ثم قالوا (وما نحن لكما بمؤمنين) تصريحاً منهم بالتكذيب وقطعاً للطمع في إيمانهم، وقد أفردوا الخطاب لموسى في قولهم أجئتنا لتلفتنا ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطابين الأخيرين، ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم، ولكن ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون، وقد مرت القصة في الأعراف.
106
(وقال فرعون) لما رأى اليد البيضاء والعصا (ائتوني بكل ساحر عليم) لأنه اعتقد أنهما من السحرة فأمر قومه بأن يأتوا بكل ساحر، أراد أن يعارض معجزة موسى بأنواع من التلبيس ليظهر أن ما أتى به موسى سحر، وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف، وقرئ " سحَّار " على صيغة المبالغة أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه.
(فلما جاء السحرة) في الكلام حذف أي فأتوا بهم إليه، فلما جاء السحرة (قال لهم موسى) بعد أن قالوا له اما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين (ألقوا ما أنتم ملقون) أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم ليظهر الحق ويبطل الباطل ويتبين أن ما أتوا به فاسد زاهق.
106
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
107
(فلما ألقوا) ما ألقوه من ذلك الحبال والعمى (قال) لهم (موسى ما جئتم به) ما موصولة مبتدأ و (السحر) خبره، والمعنى أنه سحر لا أنه آية من آيات الله كما سماه فرعون وقومه أو هو من جنس السحر، يريهم أن حاله بين لا يعبأ به كأنه قال: ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به، وقرىء السحر على الاستفهام فما استفهامية أي شيء جئتم به أهو السحر الذي يعرف حاله كل أحد، ولا يتصدى له عاقل، وقرئ ما جئتم به سحر، وقرئ ما أتيتم به سحر، ودلالتهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهر، وأجاز الفراء وغيره نصب السحر بجئتم وما شرطية والجزاء:
(إن الله سيبطله) على تقدير الفاء أي سيمحقه بالكلية ويهلكه فيصير باطلاً بما يظهره على يديَّ من الآيات والمعجزة فلا يبقى له أثر والسين للتأكيد: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أي عمل هذا الجنس فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد، ويدخل فيه السحر والسحرة دخولاً أولياً، والجملة تعليل لما قبلها أو عملكم فيكون من باب وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم.
(ويحق الله الحق) أي يبينه ويوضحه (بكلماته) التي أنزلها في كتبه على أنبيائه لاشتمالها على الحجج والبراهين أو بوعده الصادق لموسى أنه يظهره أو بما سبق من قضائه وقدره لموسى أنه يغلب السحرة، أو بأوامره وأحكامه، والأول أولى.
(ولو كره المجرمون) من آل فرعون أو المجرمون على العموم ويدخل تحتهم آل فرعون دخولاً أوليا والإجرام الآثام.
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
(فما آمن لموسى إلا ذرية) اسم يقع على القليل من القوم، وقيل المراد به التصغير وقلة العدد (من قومه) أي من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل، وقيل المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائداً على فرعون. قيل ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل.
روي هذا عن الفراء، كما يقال لأولاد فارس الذين نقلوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس الآباء.
(على) أي مع (خوف من فرعون وملئهم) الضمير لفرعون وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له.
وقيل أن قوم فرعون سموا فرعون مثل ثمود فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار، وقيل أنه عائد على مضاف محذوف أي على خوف من آل فرعون روي هذا عن الفراء ومنعه الخليل وسيبويه، وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية وقواه النحاس.
(أن يفتنهم) أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم وهو بدل اشتمال أو مفعول للمصدر أو مفعول له بعد حذف اللام والضمير عائد لفرعون وأفرد، ولم يقل أن يفتنوهم أي فرعون والملأ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون وتجبره من حيث استعانتهم به.
(وإن فرعون لعال في الأرض) أي عات متكبر متغلب على أرض مصر اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق (وإنه لمن المسرفين) المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات أو لأنه كان عبداً فادعى الربوبية.
108
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦)
109
(وقال موسى يا قوم) تطميناً لقلوبهم وإزالة للخوف عنهم، وسماهم قومه من حيث إيمانهم به وإلا فهم من قوم فرعون أو المراد به بنو إسرائيل أو مطلق من آمن به ولو من القبط (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) قيل أن هذا من باب التكرير للشرط فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام أي الاستسلام لقضائه وقدره، وبه قال الكرخي.
وقيل أن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل والمشروط بالإسلام حصوله ووجوده فإنه لا يوجد مع التخليط، والمعنى أن يسلموا أنفسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط، قال الكازروني: المعنى إن كنتم آمنتم وجب عليكم التوكل وإن كنتم مسلمين توكلتم عليه.
(فقالوا) أي قوم موسى مجيبين له (على الله توكلنا) أي اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا الله مخلصين فقالوا (ربنا لا تجعلنا فتنة) أي موضع فتنة (للقوم الظالمين) والمعنى لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، قاله مجاهد أو لا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم، قاله مجاهد أيضاً وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون.
ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا:
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) أي من أيديهم، وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.
109
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨)
110
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبَوءا لقومكما بمصر بيوتاً) قيل هي الإسكندرية، وقيل هي مصر المعروفة لا الإسكندرية، وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أي اتخذوا لقومكما يقال بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً، والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بَوَّأَهُ الله منزلاً أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنه حديث " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (١) والتبوء النزول والرجوع؛ واللام زائدة أي بوآ قومكما، وقيل غير زائدة.
(واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متوجهة إلى جهة القبلة، قال قتادة: ذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة، وعن مجاهد قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، وعن ابن عباس نحوه، وقيل المراد بالبيوت هنا المساجد، وإليه ذهب جماعة من السلف، وقيل التي يسكنون فيها أمروا بأن يجعلوها مقابلة بعضها بعضاً.
والمراد بالقبلة على القول الأول هي جهة بيت المقدس وهو قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل جهة الكعبة وأنها كانت قبلة موسى ومن معه، قال أبو سنان: إن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة، وظاهر القرآن لا يدل على
_________
(١) مسلم ٣ - البخاري ٩٤.
110
تعيينها، وقيل أنهم يجعلون بيوتهم مستقبلة للقبلة ليصلوا فيها سراً لئلا يصيبهم من الكفار معرة بسبب الصلاة.
ومما يؤيد هذا قوله (وأقيموا الصلاة) أي التي أمركم الله بإقامتها فإنه يفيد أن القبله هي قبلة الصلاة إما في الساجد أو في البيوت لا جعل البيوت متقابلة وقيل أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ الساجد على رغم الأعداء وتكفل بأن يصونهم عن شر الأعداء، ذكره الخطيب، وإنما جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون ثم جعله لهما ولقومهما في قوله (واجعلوا) و (أقيموا) ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك فقال (وبشر المؤمنين) أي بالنصر والجنة لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ثم جعل خاصاً بموسى لأنه الأصل في الرسالة وهارون تابع له فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها.
وقيل أن الخطاب في (وبشر المؤمنين) لنبينا محمد ﷺ على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى.
111
(و) لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم، دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد (قال موسى) مبيناً للسبب أولاً (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا) قد تقدم أن الملأ هم الأشراف، والزينة اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك، والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه.
ثم كرر النداء للتأكيد فقال (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قال الخليل
111
وسيبويه: أنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا، وقيل أنها لام كي؛ قاله الفراء: أي أعطيتهم لكي يضلوا، وقال قوم أن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا فحذفت لا، كما قال سبحانه (يبين الله لكم أن تضلوا).
قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن فموَّه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله تعالى المتقدم، وقيل اللام للدعاء عليهم، والمعنى إِبتلهِمْ بالهلاك عن سبيلك، قاله ابن الأنباري واستدل بقوله سبحانه بعد هذا (اطمس) و (اشدد) وإليه ذهب الحسن البصري، وقيل أنها لام العلة والمعنى إنك آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لهذه العلة.
وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى، وقرئ ليضلوا بضم الياء أي يوقعوا الإضلال على غيرهم، وقرأ الباقون بالفتح أي يضلون في أنفسهم.
(ربنا اطمس على أموالهم) أي امسخها وأزل صورها، قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته وإزالة أثر الشيء بالمحو. قال مجاهد: أهلكها، وقال أكثر المفسرين أمسخها وغيرها عن هيئاتها، والمعنى الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها.
وقرئ بضم الميم من (اطمُس) وقد روي عن قتادة أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم ودراهمهم ودنانيرهم تحولت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً. قيل أن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
112
قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة والنخل والثمار والدقيق والأطعمة، وقال القرظي: صارت صورهم حجارة، وفيه ضعف لأن موسى دعا على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ، وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام.
(واشدد على قلوبهم) أي اربط عليها واجعلها قاسية مطبوعة حتى لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان ولا تلين، قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك لمن يشاء، ولولا ذلك لما جسر موسى على هذا السؤال.
(فلا يؤمنوا) أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، قاله المبرد والزجاج، وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء بلفظ النهي والتقدير، اللهم فلا يؤمنوا. وقال الأخفش: أنه جواب الأمر أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا (حتى يروا العذاب الأليم) أي فلا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به وعند ذلك لا ينفع إيمانهم، قال ابن عباس العذاب هو الغرق.
وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء وقال: إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم، وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه، وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن، ولهذا لما أعلم الله نوحاً عليه السلام بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً).
113
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)
114
(قال) الله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون، وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده، فقيل إن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى فسمى هاهنا داعياً وإن كان الداعي موسى وحده، ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي، وهاهنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي.
ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لإصالته في الرسالة. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب، وقرئ دعاؤكما ودعواكما. قال ابن عباس: فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان، ويزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة لحكمة يعلمها هو، وعن ابن جريج ومجاهد نحوه (فاستقيما) أي امضيا لأمري ودوما على الاستقامة، قاله ابن عباس، والاستقامة الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله.
قال الفراء وغيره: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه وعلى دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا، وقيل معنى الاستقامة ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضاء والتسليم لما يقضي الله به سبحانه.
(ولا تتبعان) قرئ بتشديد النون للتأكيد وبتخفيفها على النفي لا على
114
النهي أو أنه نفي في معنى النهي أي لا تسلكا (سبيل الذين لا يعلمون) حكمة تأخير المطلوب، نهاهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعبادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً، وقيل أنه خبر محض مستأنف لا تعلق له بما قبله، والمعنى أنهما أخبرا بأنهما لا يتبعان، وأما تشديد التاء وتخفيفها فلغتان من أتبع يتبع، وتبع يتبع وهما بمعنى واحد، يقال تبعه أي مشى خلفه واتبعه كذلك إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه.
قال الرازي: وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) لا يدل على صدور الشرك منه.
115
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هو من جاوز المكان إذا خلفه وتخطاه، والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط، لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر، والمراد بحر القلزم وهو بحر السويس وكانوا ستمائة ألف، قاله الخطيب.
وفي الخازن قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وتسعون وخرج بنوه مع موسى من مصر في الوقت المعلوم وهم ستمائة ألف، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه (وإذ فرقنا بكم البحر) وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان والآية دليل على خلق الأفعال.
(فأتبعهم فرعون وجنوده) يقال تبع وأتبع بمعنى واحد إذا لحقه. قال الأصمعي: يقال تبعه بقطع الألف إذا لحقه وأدركه، واتبعه بوصل الألف إذا اتبع أثره أدركه أو لم يدركه، وكذا قال أبو زيد، وقال أبو عمرو: اتبعه بالوصل اقتدى به، وفي المختار تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مر به فمضى معه، وكذا اتبعه وهو افتعل، واتبعه على افعل إذا كان قد سبقه فلحقه؛ وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه.
(بغياً) ظلماً (وعدوا) اعتداء، أي لأجلهما أو باغين معتدين، وقرأ
115
الحسن عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو، وقيل أن البغي الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل، قال عكرمة: العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر.
(حتى إذا أدركه الغرق) أي ناله ووصله وألجمه غاية لاتباعه، وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر، وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه، فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك.
(قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) أي صدقت، ولم ينفعه هذا الإيمان لأنه وقع منه بعد إدراك الغرق له كما تقدم في النساء، ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين، بل قال ما تقدم لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية (وأنا من المسلمين) أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه.
فإن قيل إنه آمن ثلاث مرات كما في هذه الآية فما السبب في عدم القبول؟.
قيل إنه آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عنده غير مقبول، ويدل عليه قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) وأن الإيمان إنما يتم بالإقرار بالتوحيد والنبوة، وفرعون لم يقر بالنبوة فلم يصح إيمانه، وقيل غير ذلك، ذكره الخطيب.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
116
والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغرق الله فرعون فقال: آمنت. الآية. قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة " (١) والمعنى دس جبريل في فيه بأمر الله فلا اعتراض عليه.
وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه وقال صحيح حسن غريب، وصححه أيضا الحاكم عن ابن عباس من طرق أخرى وإسناده على شرط البخاري، وليس في رواتهما متهم وإن كان فيهم من هو سيء الحفظ فقد تابعه عليه غيره. وقد أطال الخازن في جواب ما اعترض به الرازي وأشكله في هذا الحديث بما يطول ذكره.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: قال لي جبريل: ما كان على الأرض -يعني أبغض إليّ- من فرعون فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أعطه خشية أن تدركه الرحمة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، وأبو الشيخ عن أبي أمامة نحوه أيضاً، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول وباقي رجاله ثقات. والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكم ببطلان ما صح منها؛ ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت، والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة بفن الحديث. فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست فيه في شيء، ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه وحاصلك الذي ليس لك غيره، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية.
_________
(١) الإمام أحمد ١/ ٢٤٥.
117
ولقد صار صاحب الكشاف عفا الله عنه بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين، وعبرة للمعتبرين، فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنه منها، وتارة يتعرض لرد ما صح ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله ﷺ والبهت عليه، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات حجج إثبات.
وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس، ويصطلحون على أمور فيما بينهم، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسم كتاب الله، وقائله رسول الله ﷺ وراويه عنه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام.
118
(آلآن) أي فقيل له أتؤمن من الآن، وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة، فقيل هي من قول الله سبحانه، وقيل من قول جبريل، وقيل من قول ميكائيل وقيل من قول فرعون قال ذلك في نفسه لنفسه، والمعنى إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق، والمقصود التقريع والتوبيخ له، قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل، والإيمان والتوبة عند اليأس لا يقبل (وقد عصيت قبل) تأكيد لهذا المقصود، والجملة حالية أي وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار، والإيمان في هذه الحالة لا يفيد، يعني آلآن تتوب وقد ضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآحمرة الباقية (وكنت من المفسدين) في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك.
118
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
119
(فاليوم ننجيك) أي نخرجك من البحر ونلقيك على الشط، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق وقالوا هو أعظم شأناً من ذلك فألقاه الله على نجوة من الأرض أي مكان مرتفع حتى شاهدوه أحمر قصيراً كأنه ثور، ثم أعاده إلى البحر ثانياً، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، قاله الخازن، وقيل المعنى نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق، وقرئ بالحاء المهملة من التنحية، أي نطرحك على ناحية من الأرض.
وقد اختلف المفسرون في معنى (ببدنك) فقيل معناه بجسدك بعد سلب الروح منه لا كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لطمعه، والباء للمصاحبة، وقيل معناه بدرعك والدرع تسمى بدناً، والأبدان الدروع، قاله أبو عبيدة، ورجح الأخفش الأول. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله بأبدانك وهو مثل قولهم هو بأجرامه أي ببدنك كله وافياً بأجزائه، وقيل عرياناً لا شيء عليه، وقيل الباء سببية لأن بدنه سبب في تنجيته.
(لتكون لمن خلفك آية) هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك دليل على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلّة لا سوى، والمراد بالآية العلامة، أي لتكون علامة يعرفون بها هلاكك وإنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق.
وقيل المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك
119
آية من آيات الله يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبّر والتمرد على الله سبحانه فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة.
وقرئ لمن خلفك على صيغة الماضي، أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه، وهذا آخر مقول جبريل عليه السلام.
(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا) التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة (لغافلون) عما توجبه تلك الآيات، وهذه الجملة تذييلية جيء بها عقب الحكاية تقرير الكلام المحكى.
120
(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعمها عليهم، ومعنى بوأنا أسكنا يقال بوأت زيداً منزلاً أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود الصالح المختار المرضي، قيل هو أرض مصر، قاله الضحاك، وقيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره، وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام قاله قتادة، وقيل بيت المقدس لأنها بلاد الخصب والخير والبركة.
(ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات من الرزق (فما اختلفوا) في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعباً بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة (حتى جاءهم العلم) أي لم يقم منهم هذا الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم
120
العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل العلم هو القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فاختلفوا فيه وفي صفته وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر، قال ابن زيد: يعني كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وإنما سمي القرآن علماً لأنه سبب العلم، فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (١) وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول.
(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والحق بعمله بالحق، والمبطل بعمله بالباطل.
_________
(١) الإمام أحمد، ٢/ ٣٣٢ نحوه. وقد ألف العلماء الكثير من الكتب حول ماهية هذه الفرق وبعضهم كتب وعَدَّ الفرق الضالة، انظر مثلاً كتاب (الفَرْقُ بين الفِرقْ) للبغدادي.
121
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥)
122
(فإن كنت) يا محمد (في شك) هو في أصل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع.
وعن ابن عباس قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسأل ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال: لا أشك ولا أسأل وهو مرسل.
(مما) أي في شك ناشئ مما (أنزلنا اليك) بأن تشك فيه، ومن للابتداء أو أنها بمعنى في من أول الأمر، قال القاضي عياض في الشفاء: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من إثبات شك النبي (- ﷺ -) فيما أوحى إليه فمثل هذا لا يجوز عليه اهـ.
وقال ثعلب والمبرد: أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم اعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا، وأن هذا رسوله وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم، والمراد إظهار نبوته عليه السلام بشهادة الأخبار، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر.
122
قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول وهو شامل للخلق، وهذا وجه حسن أيضاً لكن فيه بعد لأن الرسول متى كان داخلاً في هذا الخطاب كان الإيراد موجوداً، والاعتراض وارداً.
ْوقيل أن في قوله (فإن) للنفى أي ما أنت في شك حتى تسأل وهذا أبعد.
وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي ﷺ ولا بتصديقه بل كان في شك، وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره والمعنى لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك، وقيل الشك هو ضيق الصدر أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل يخبرونك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم.
وقيل معنى الآية الفرض والتقدير كأنه قال له فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً، فاسأل فإنهم سخبرونك عن نبوءتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم.
(لقد) أي اقسم لقد (جاءك الحق من ربك) وفي هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة.
ثم عقبه بالنهي للنبي ﷺ عن الامتراء فقال (فلا تكونن من الممترين) فيما أنزل الله عليه بل تستمر على ما أنت عليه من اليقين وانتفاء الشك، ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه ﷺ عن التكذيب في قوله تعالى
123
(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) فإن الظاهر فيه التعريض
123
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
ولا سيما بعد تعقيبه بقوله (فتكون من الخاسرين) وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم، لأنه إذا كان ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه فكيف بمن يمكن منه ذلك.
124
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) قد تقدم مثله في هذه الصورة والمعنى أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم، قال مجاهد: حق عليهم سخط الله بما عصوه، وقيل لعنة الله، وقيل الكلمة هي قوله " خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي "
(ولو جاءتهم كل آية) من الآيات التكوينية والتنزيلية فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم (حتى يروا العذاب الأليم) فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.
(فلولا كانت قرية آمنت) لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك ما في مصحف أبَيّ وابن
124
مسعود (فهلا قرية) وفي هذا التحضيض معنى التوبيخ والنفي فوبخ الله أهل القرى المهلكة قبل يونس على عدم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم، والمعنى فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتداً به نافعاً وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ولم تؤخره كما أخره فرعون.
(فنفعها إيمانها) في حال اليأس (إلا قوم يونس) استثناء منقطع من القرى لأن المراد أهلها، والمعنى لكن قوم يونس، وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء، وقيل متصل، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين.
وقال الزجاج: أنه لم يقع العذاب وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير.
(لما آمنوا) إيماناً معتداً به قبل معاينة العذاب حين رؤية أَماراته أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) هو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه (ومتعناهم إلى حين) أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
قال قتادة: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، وذكر لنا أن قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة، وبحث في ذلك الزجاج فقال: أنه لم يقع بهم العذاب وإنما رأوا علامته ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
125
قال القرطبي: وهو كلام حسن فإن المعاينة التي لا ينفع معها الإيمان هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها والسخلة وولدها، وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحلله بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضباً، يعني مراغماً. وعن سعيد بن جبير قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر، بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً.
وعن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشفه الله عنهم، وقال قتادة: قدر ميل.
وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم فتابوا وأخلصوا النية فرحمهم ربهم وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة، قيل أنهم قالوا: يا حي حين لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقيل قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلَّت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، قاله الفضيل بن عياض، والله أعلم ما قالوه.
ثم بيّن سبحانه إن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال
126
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم) بحيث لا يخرج عنهم أحد (جميعاً)
126
مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه.
قال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كلهم للتأكيد كقوله (لا تتخذوا إلهين اثنين) وقيل أتى به مع إن كُلاًّ منهما يفيد الإحاطة والشمول للدلالة على أن وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع الذي لا يدل عليه كلهم، ذكره الكرخي.
ولما كان النبي ﷺ حريصاً على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك فقال (أفأنت تكره الناس) استفهام تأديب للنبي ﷺ أي أتكرههم بما لم يشأه الله منهم.
(حتى يكونوا مؤمنين) فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له ﷺ ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة وإيلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه هو القادر على أن يخلق في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.
127
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
ثم بيّن سبحانه ما تقدم بقوله
128
(وما كان) أي ما صحّ وما استقام (لنفس) من الأنفس (أن تؤمن إلا بإذن الله) أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان (ويجعل الرجس) بكسر الراء وضمنها لغتان، أي العذاب أو السخط أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب، وهذا معطوف على محذوف، كأنه قيل فيأذن لبعضهم في الإيمان ويجعل الخ، والمضارع في المعطوف والمعطوف عليه بمعنى الماضي.
والمراد بقوله (على الذين لا يعقلون) هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة.
(قل انظروا) بضم اللام وكسرها سبعيتان (ماذا في السماوات والأرض) لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر التفكر والاعتبار، أي قل يا محمد للكفار تفكروا واعتبروا بما فيهما من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته وكمال قدرته.
ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته فقال (وما تغني) أي ما تنفع على أن (ما) نافية وهذا هو الظاهر ويجوز أن تكون استفهامية أي أيُّ غنى تغني (الآيات) هي التي عبَّر عنها بقوله ماذا في السماوات والأرض، ففي الكلام إظهار في مقام الإضمار،
128
والجملة إما حالية أو اعتراضية بنوع إيضاح (والنذر) جمع نذير وهم الرسل أو جمع إنذار وهو المصدر (عن قوم لا يؤمنون) في علم الله سبحانه، والمعنى أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع.
129
(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) أي فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد ﷺ بتكذيبه إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء قوم نوح وعاد وثمود، فقد كان الأنبياء المتقدمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر حتى ينزل الله عليهم عذابه ويحل بهم انتقامه، والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً، كقوله تعالى (وذكرهم بأيام الله).
ثم قال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك (فانتظروا) أي تربصوا لوعد ربكم (إني معكم من المنتظرين) لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك.
(ثم ننجي) بالتشديد باتفاق العشرة وقرئ بالتخفيف وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد، وثم للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا (رسلنا) المرسلين إليهم (و) نجينا (الذين آمنوا) والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها.
(كذلك) صفة لمصدر محذوف أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء، وقوله (حقاً علينا) اعتراض، أي حق ذلك علينا حقاً أي وجب وتحتم بمقتضى الفضل والكرم (ننجي) بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان (المؤمنين) من عذابنا للكفار والمراد بالمؤمنين الجنس فيدخل في ذلك الرسل واتباعهم أو يكون خاصاً بالمؤمنين وهم أتباع الرسل لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى، وقال السيوطي: النبي ﷺ واصحابه حين تعذيب المشركين لهم.
129
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)
130
(قل يا أيها الناس) أمر سبحانه رسوله ﷺ بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين مخاطباً لجميع الناس أو للكفار منهم أو لأهل مكة على الخصوص بقوله (إن كنتم في شك من ديني) الذي أنا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها.
(فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) في حال من الأحوال (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) أي أخصه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخص صفة التوفي من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم، أي أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولاً وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة فكأنه قال أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم.
ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بيَّن أنه مأمور بالإيمان فقال (وأمرت أن أكون من المؤمنين) أي بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين
(وأن أقم وجهك للدين) المعنى أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها (حنيفاً) أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى دين آخر، ثم أكد الأمر المتقدم بالنهي عن ضده فقال: (ولا تكونن من المشركين) عطف على أقم داخل تحت الأمر، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.
130
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
131
(ولا تدع من دون الله) على حال من الأحوال (ما لا ينفعك ولا يضرك) بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً ولا يقدر على ضر، ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره فكيف إذا كان موجوداً فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح.
(فإن فعلت) أي فإن دعوت ولكنه كنى عن القول بالفعل (فإنك إذاً من الظالمين) هذا جزاء الشرط، أي فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم، والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.
(و) جملة (إن يَمْسَسْك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع، فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان بل هو المختص بكشفه كما هو اختص بإنزاله.
(وإن يردك بخير) أيَّ خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ويحول بينك وبينه كائناً من كان، هو من القلب وأصله أن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر.
قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض.
131
قلت: وفي هذا نظر فإن المس هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها، وقيل أن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول والمعنى متقارب.
(فلا راد لفضله) أي لا دافع لما أرادك به من الخير ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله تعالى لا يمكن رده وإرادة الله قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل.
(يصيب به) أي بفضله أو بكل واحد من الخير والضر (من يشاء من عباده) وجملة (وهو الغفور الرحيم) تذييلية.
عن عامر بن قيس قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق أولهن (إن يَمْسَسْك الله) الآية، والثانية (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) والثالثة (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه.
132
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)
ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره فقال
133
(قل يا أيها الناس) لأجل أن تنقطع معذرتهم فهذا نهاية الأمر (قد جاءكم الحق من ربكم) أي القرآن أو الإسلام أو محمد ﷺ (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي منفعة اهتدائه مختصة به (ومن ضل فإنما يضل عليها) أي ضرر كفره مقصور عليه لا يتعداه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك ولا غرض يعود إليه ومن في الموضعين يجوز أن تكون شرطية والفاء واجبة الدخول وأن تكون موصولة والفاء جائزته (وما أنا عليكم بوكيل) أي بحفيظ يحفظ أموركم وتوكل إليه، إنما أنا بشير ونذير.
ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه من الأوامر والنواهي التي شرعها الله له ولأمته فقال
(واتبع ما يوحى إليك) ثم أمره بالصبر على أذى الكفار وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعانيه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم فقال (واصبر) وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) أي يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم وفي الآخرة بعذابهم بالنار وهم يشاهدونه ﷺ هو وأمته المتبعون له المؤمنون به العاملون بما يأمرهم به المنتهون عما ينهاهم عنه، ينقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه ولا يوقف على أدنى مزاياه.
وقال مجاهد: هذا منسوخ بأمره بجهادهم والغلظة عليهم وبه قال ابن عباس، قال السيوطي: وقد صبر حتى حكم على المشركين بالقتال وأهل الكتاب بالجزية اهـ؛ وأشار بهذا إلى قول مجاهد، قاله الكرخي.
133
سورة هود عليه السلام
وهي مائة وثلاث وعشرون آية، وهي مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومجاهد وابن زيد، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) وقال مقاتل: أو إلا (فلعلك تارك) الآية (وأولئك يؤمنون به) الآية.
والحاصل أن المدني عند ابن عباس آية واحدة وعند مقاتل آيتان.
وعن كعب قال: قال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: " اقرؤا هود يوم الجمعة " (١). أخرجه الدارمي وأبو داود والبيهقي وغيرهم، وعن أبي بكر الصديق قال: قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب فقال: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت " (٢) أخرجه الطبراني والترمذي وحسنه. وعن أنس مرفوعاً وهل أتاك حديث الغاشية رواه البزار، وقد روي بطرق عن جمع من الصحابة.
قال بعض العلماء: سبب شيبه من هذه السور ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ١١٦٨.
(٢) الترمذي تفسير سورة ٥٦/ ٦.
135

بسم الله الرحمن الرحيم

136
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)
137
Icon