تفسير سورة البقرة

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مدنية، وهي تتناول جملة من المعاني والقضايا والقواعد التي تغطي جانبا أكبر من نظام الإسلام، وذلك فيما يمس الواقع البشري للإنسان بمختلف مناحيه النفسية والروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمكن أن نعرض لما تناولته السورة في الأمور التالية :
أولها مسألة الحروف المتقطعة أو فواتح السور التي تأتي على رأس جملة من سور القرآن والتي اختلفت فيها أقوال العلماء والمفسرين، ثم التنويه السريع بفريقين من البشر : فريق المؤمنين، وفريق المشركين، ويعقب ذلك تنديد تفضيلي ومؤثر بفريق فاسد مشنوء من البشر، وهو فريق مذبذب مريض يخفي في نفسه الضلال والكفر ليبدي للناظرين والسامعين شاكلة مليحة خادعة، وهؤلاء هم المنافقون الذين يوجدون في كل مكان وزمان، والذين يؤذون المؤمنين من الداخل في صمت وتلصص.
وتتناول السورة ضربا من ضروب التحدي للمشركين والمكذبين أن يأتوا بسورة واحدة- أي سورة – من مثل هذا القرآن من حيث أسلوبه العجيب أو مستواه السامق الفذ، وهو تحد يظل قائما دون مبارحة لتستبين معه حقيقة الإعجاز لهذا الكتاب الحكيم.
ثم استخلاف الله للإنسان في هذه الأرض ليكون منوطا به احتمال الأمانة والمضيء في منهج الله وخطه المستقيم، مع ما رافق ذلك من مساءلة الملائكة لربهم عن جعل هذه الخليفة في الأرض، وهم المسبحون بحمد الله والمقدسون له.
ثم قضية السجود لآدم، وذلك أمر رباني كبير يفرضه الله على جنده الملائكة الأطهار والى جانبهم إبليس الذي ظل عابدا لله حتى تبينت الحقيقة يوم انحسر هذا الكائن الشقي عن طبيعة مستكبرة شاذة، طبيعة آيسة فاسدة تستعلي على الرحمن جل وعلى فلا ترضخ لأمر الله بالسجود لآدم، فكان ذلك بداية السقوط والهلاك.
ثم قضية آدم وزوجه اللذين استمعا لكلمة الله في النهي عن الأكل من هذه الشجرة لكنهما نسيا وأخطأ فأكلا منها، فاقتضت بعد ذلك حكمة الله أن يهبط الثلاثة إلى الأرض حتى حين، إلى أن يرتحلا إلى دار البقاء حيث الحساب.
وتتناول أيضا خطاب الله لبني إسرائيل من أجل أن يذكروا نعمة الله التي امتن بها عليهم فيوفوا بعهده ويرهبوه، ثم يؤمنوا بالقرآن الحكيم الذي جاء مصدقا لما نزل عليهم من كتاب، وألا يخلطوا بين الحق والباطل عمدا وتزويرا، وأن يضطلعوا بأداء ما فرض الله عليهم من صلاة وزكاة، وذلك كيلا يكونوا في عداد الذين يقولون ولا يفعلون.
وثمة تذكير كذلك لبني إسرائيل بما أنعمه الله عليهم وبما فضلهم به على العالمين من معطيات ومنن، وذلك كمنجاتهم من كيد فرعون الذي سامهم عذابا بئيسا من تذبيح أبناء واستحياء للنساء، وكذلك قد فرق الله البحر من أجل بني إسرائيل ليمروا من خلاله إلى حيث السلامة والنجاة مع تغريق فرعون وجنوده حتى أصبحوا من الهالكين.
وتعرض سورة البقرة في قدر عظيم من الآيات لقصة بني إسرائيل، وهي قصة طويلة وغريبة ومريرة بما يكشف عن طبيعة يخالطها التخلخل والشذوذ، يتبين ذلك من خلال مناسبات وأسباب شتى تثير في النفس الحيرة والاشمئزاز، وذلك لفرط التطاول والاجتراء على الله، وهو اجتراء مرفوض يأباه الضمير المؤمن، فقد طلب بنو إسرائيل من نبيهم موسى أن يمكنهم من رؤية الله جهارا وإلا فإنهم لا يؤمنون، حتى أخذتهم الصاعقة بالهلاك جزاء هذا الاجتراء الأحمق.
وقد أمرهم ربهم أن يدخلوا القرية ليأكلوا منها كما يشاؤون على أن يبادروا الدخول وهو ساجدون ثم يقولون ( حطة( حين الدخول ليغفر الله لهم خطاياهم نظير ذلك.
لكن فريقا ظالما منهم قد تكلم بغير ما أمر به وذلك على سبيل السخرية والاستخفاف.
ثم استسقاء موسى لقومه حتى ضرب الحجر بعصاه ( افانفجرت منه اثنتا عشرة عينا( ثم مطالبة بني إسرائيل بطعام أدنى من المن والسلوى كالبقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، وذلك ما يكشف عن النزوع للبطر والعتو في غير تواضع أو إقرار لله بالنعمة، حتى كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والغضب والتفريق المشتت في الأرض وذلك بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق.
وتعرض السورة لقصة البقرة، وهي ما أمر الله بني إسرائيل على لسان نبيهم ومنقذهم موسى عليه السلام أن يذبحوها، وهي بقرة لم تتحدد بصفة من الصفات بل ورد الأمر بإطلاق غير مقيد، وقد ذبح اليهود بقرة، لكن بعد تردد وجدال طويلين غريبين.
وفي السورة كذلك نصيب كبير من الكلام عن بني إسرائيل على أنحاء متعددة من الكشف والتبيين تارة، أو من التنديد والتقريع تارة أخرى، أو من التهديد والوعيد تارة ثالثة، وذلك مثلما كشفت الآيات عن نفاق فريق من بني إسرائيل الذين إذا لقوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان والإخلاص، وإذا خلا بعضهم إلى بعض تلاوموا فيما بينهم وحرض بعضهم بعضا على خداع النبي والمسلمين.
وبعض الآيات كذلك ينطوي على تهديد مخوف لأولئك الذين يزيفون الكتاب ويحرفون الكلم ليقولوا هذا من عند الله، وأولئك لهم الويل والثبور.
وكذلك قد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كيلا يعبدوا إلا الله ولكي يحسنوا للوالدين وذوي القربي واليتامى والمساكين وأن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، وكذلك أخذ ميثاقهم ألا يسفك بعضهم دماء بعض وألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم بالإثم والعدوان، لكنهم بالرغم من هذه المواثيق المغلظة فقد ضلوا وتولوا معرضين، ثم قتلوا النفس بغير حق وأخرجوا فريقا من الناس من ديارهم ظلما، ومبعث ذلك كله الإيمان المضطرب أو العقيدة المجزأة المتلجلجة التي تسول لبني إسرائيل أن يجعلوا كتاب ربهم ( عضين( أي يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه الآخر.
وفي السورة تنديد عظيم بفعلة بشعة مروعة تتمثل في قتل النبيين وفي عبادة العجل الذي أشربوا حبه في قلوبهم.
وتتضمن السورة كذلك حكما معنويا قاطعا يكشف عن طبيعة بني إسرائيل في كونهم ( أحرص الناس على حياة ( كيفما كانت هذه الحياة ما دامت تموج بالغواية والفتن والشهوات.
وفي السورة بيان أصولي لمسألة النسخ والفرق بينه وبين الإنسان، وذلك بشيء من الإيجاز الذي تسمح به طبيعة الكتابة في هذا التفسير.
وفيها كذلك مقالة اليهود والنصارى إذ زعموا أنهم وحدهم دون غيرهم سيدخلون الجنة، ومرة أخرى تتباين النوايا والقلوب لكل من اليهود والنصارى ليرمي بعضهم بعضا بالإفلاس والسوء، إذ يقول كل فريق عن الآخر إنه ليس على شيء من العلم أو الحق.
والحقيقة الحاسمة التي ينبغي أن تقال في مثل هذا الصدد والتي نطق بها القرآن في هذه السورة هي أن كلا الفريقين اليهود والنصارى لن يرضى في يوم من الأيام عن الإسلام ونبيه أو عن المسلمين حيثما كانوا إلا أن يحيد المسلمون عن دينهم ليتبعوا ملة إحدى الأمتين : اليهود والنصارى.
ثم تحكي السورة قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إذ عهد الله إليه وولده إسماعيل بناء الكعبة وتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، وقد خفا عليهما السلام في همة لتنفيذ أمر الله بالبناء والتطهير وهما يدعوان الله سبحانه في توسل من أجل أن يتقبل منهما وأنم يجعل من نسلهما أمة مسلمة قانتة لله، وأن يبعث في عقبهما رسولا يعلم الناس الكتاب والحكمة.
وفي السورة دحض لمقالة اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم وعقبه من النبيين كانوا منهم، والآيات تبين في غير لبس أن هؤلاء النبيين جميعا كانوا على ملة التوحيد وكلمة الإخلاص لله، وأنهم ليسوا من اليهود أو النصارى لما كان عليه هؤلاء من الشرك والزيغ عن صراط الله المستقيم.
وفي السورة إيذان بتحويل القبلة شطر المسجد الحرام ليتوجه المؤمنون بتواصيهم وأفئدتهم شطره وذلك في خشوع وامتثال لأمر الله سبحانه.
وفيها حض على الصبر والاحتمال عند وقوع المصائب كيفما كانت وعلى المؤمنين الصابرين صلوات من الله ورحمة لأن الله مع الصابرين.
وفيها إظهار لشعيرتين من شعائر الحج وهما الصفا والمروة، وما يعقب ذلك من بيان شرعي لكيفية الاعتمار والتطواف، وغير ذلك من أفعال الحج أو العمرة.
وفيها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله إلا أن يكون الآكل مضطرا فليس هو بالباغي ولا العادي.
وفيها توضيح لحقيقة البر وهو أنه لا يتحقق في مظاهر شكلية يحددها أن تولى الوجوه نحو الشرق والغرب، ولكن البر في حقيقته يتمثل في حسن المقصود وفي تمام العمل، أما حسن المقصود : فهو إنما يتم عن طريق الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، وتلك هي أركان الإيمان في عقيدة الإسلام، وأما تمام العمل فهو يتحقق في أسباب كثيرة منها : إيتاء المال للذين يحيق بهم ضيق أو خلة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، ومن تمام العمل كذلك، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
وسوف يرد بيان مفصل لمثل هذه الكلمات أو المسائل عند التفصيل إن شاء الله.
وفيها الحكم بالقصاص في القتلى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وما يقتضيه ذلك من تفصيلات فقهية يمكن أن نقررها في موضعها بشيء من التفصيل.
وفيها حكم الوصية بالمال للوالدين والأقربين، وهو حكم منسوخ على ما سوف نعلم في موضعه.
وكذلك قد وردت في السورة فريضة الصوم الذي كان قد فرض على من سبق هذه الأمة من الأمم الحالية، وثمة أحكام شرعية تتعلق بالصوم من حيث الرخصة بالإفطار وغير ذلك من أحكام تفصيلية، فضلا عن التنويه الظاهر بشهر رمضان العظيم الذي أنزل الله فيه القرآن ليكون ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان (.
وفي السورة تحريض للمؤمنين على قتال الكافرين المعتدين، وذلك من أجل أن يقتلوهم حيث ثقفوهم وأن يخرجوهم من حيث أخرجوهم، لأن الفتنة بما يبعد المؤمنين عن دينهم لهي أشد من القتل نفسه، وقاعدة الإسلام في مفهوم القتال ألا تكون هناك فتنة في الأرض تحول بين الناس ودين الله، وحتى يكون الدين لله وهو أن يهيمن الإسلام على ما سواه من شرائع وملل.
وفي السورة كذلك بعض أحكام الحج الذي يتأذى في أشهر معلومات لا مصاغ لوقوع شيء من رفث أو فسوق فيهن، ومن أحكامه كذلك الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام إلى بقية أعمال الحج من أركان وشروط وسنن.
وتعرض السورة لفريق من المنافقين الذين يعجب السامع لأقوالهم وهي تتعزز بفيض من الإيمان والشهادة لله بأنهم صادقون، لكنهم في الحقيقة طغمة من البشر المخادع الكاذب، البشر المنافق الذي ينطلق في الأرض ليعبث فيها فسادا وتخريبا.
وتعرض السورة كذلك للكافرين الذين زينت لهم الدنيا فانفلتوا عن صراط الله إلى حيث الضلال والشهوات والفسق، وفوق ذلك فقد مضى هؤلاء في خط الشيطان وهم يسخرون من المؤمنين.
وفي السورة تبيين لحقيقة التصور الديني الذي أساسه الوحي، وحقيقة هذا التصور أن المجتمعات أساسا كانت على ملة ربانية واحدة تقوم على الفطرة والتوحيد، وقد نيط بالنبيين المرسلين وظيفة التبليغ ليكونوا مبشرين ومنذرين فانقسم الناس إلى طرائق شتى تتردد بين الكفر والإيمان والنفاق على تفاوت.
وتذكر السورة أن دخول الجنة إنما يكون مسبوقا بامتحان عسير في الدنيا مثلما أصاب المؤمنين السابقين الذين مستهم البأ

بسم الله الرحمن الرحيم

( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( ثمة أقوال للمفسرين في الحروف المقطعة الواردة في أوائل بعض السور، إلا أننا نعرض للحديث عنها هنا بإيجاز لنعاود الحديث عنها ثانية في سورة آل عمران.
فقد ذهب بعض أهل العلم من المفسرين واللغويين إلى أن المقصود بهذه الفواتح من الحروف المقطعة هو التحدي على نحو آكد في الكشف عن إعجاز القرآن وعن عجز العرب دونه وهم الراسخون في الفصاحة والبيان، فقد تحدى الله في قرآنه العاجزين من أجل أن يأتوا بمثل هذا الكلام فنكصوا جميعا، ويريد الله أن يبين للعرب على أعقابكم والذي عز عليكم أن تأتوا بمثل بعضه، لهو كلام من جنس ما تتخاطبون به مما تتألف من حروف في مثل ( آلم ( وغيرها من حروف أخرى مقطعة تأتي فواتح للسور، يوضح ذلك ويرجحه قوله بعد هذه الحروف المقطعة ( ذلك الكتاب ( أي أن هذه الحروف هي التي تؤلف هذا الكتاب، أو أن هذا الكتاب من جنس كلام العرب، وهو كلام أساسه الحرف المقطع المنفصل كالألف أو اللام أو الميم، وذلك آكد في التحدي وأشد في إظهار الدلالة على أن هذا القرآن الكريم معجز وأنه لا تقوى مدارك الإنسان على أن تصطنع مثله.
وقيل : إن المشركين لما تواصوا فيما بينهم أن يعرضوا عن سماع القرآن، وقالوا ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( أراد الله أن يفاجئهم بما يثير فيهم الدهش ويحملهم على الانتباه والإصغاء ليسمعوا القرآن، فأنزل الله هذه الحروف الفواتح لبعض السور.
وقيل إن هذه الحروف الفواتح لهي من أسرار الكتاب الحكيم ولا يقف على المراد منها أحد من الناس، فهي علم مستور استأثر الله به وحده، وهو قول الصحابة وغيرهم وهم في ذلك يحدوهم التورع والحيطة خشية التكلف أو الزلل.
فكانوا يؤثرون أن لا يخوضوا في تأويل هذه الحروف، بل كانوا ينسبون حقيقة المراد بذلك الى الله فهو أعلم بالسر والمقصود.
قوله :( ذلك الكتاب( ( ذلك( اسم إشارة في موضع رفع مبتدأ، وخبره ( الكتاب (.
وقيل :( الكتاب ( بدل من ذلك، وقيل : صفته، وخبر الإشارة ( لا ريب فيه ( يعني لاشك فيه فهو لوضوحه وسطوع برهانه لا يحتمل أيما ارتياب وأن ما يتجلى في القرآن من ظواهر في الإعجاز ينطق في يقين مكشوف أن هذا الكتاب منزل من عند الله فهو يعلو على الشبهات والظنون.
قوله :( هدى للمتقين ( الهدى مصدر ومعناه الدلالة، ويراد به الدلالة التي توصل إلى البغية، وهو في مقابل الضلالة وهي الزلل والضياع، والمتقون هم الذين ثبتت لهم التقوى، والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة.
وكذا التوقي، ومنه فرس واق أي يقي راكبه مما يؤذيه، والتقوى في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، وهي في الحقيقة والواقع إحساس ذاتي رهيف ينبثق عن عقيدة التوحيد الخالص ليرسخ في القلب الوجدان كله، لا جرم أن ذلك إحساس وجداني غامر يفيض على النفس فينمي فيها شعور الخوف من الله بما يظل للمؤمن رقيبا يحول بينه وبين الآثام والمعاصي، أو الدنايا والخسائس وصغائر الذنوب.
والقرآن بما حواه من روائع ومناهج في العقيدة والقيم، وفي الفكر والسلوك والنظم، فإنه هداية للبشرية كافة، وقد خص الله المتقين تشريفا لهم وإجلالا.
إن هذا الكتاب الحكيم يتضمن مقاليد الخير والسعادة والصلاح جميعا، وفيه من أسباب النجاة و والسلامة والفوز ما تنجو به البشرية من كل ألوان التعثر والخطيئة والزلل وما يجعلها على أقوم محجة لتفوز وتنجو في هذه الدنيا ويوم يقوم الإشهاد.
قوله تعالى :( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( الذين اسم موصول في محل حجر نعت ( للمتقين ( التي قبلها، وقيل : في محل نصب على المفعولية لفعل محذوف تقديره أمدح.
وقوله :( يؤمنون ( من الإيمان ومعناه في اللغة : التصديق، والإيمان في الشرع : كلمة جامعة للإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتصديق هذا الإقرار بالفعل، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، قال ابن كثير في هذا الصدد : الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا.
وهو قول أكثر العلماء، وعلى هذا فإن الإيمان إقرار بأركان العقيدة المعروفة واقتران ذلك بالعمل الصحيح المشروع، فلا اعتبار للإقرار أو التصديق المجرد والذي لا يشفعه عمل.
ومن ركائز الإيمان للمؤمنين تصديقهم عن يقين بالغيب المستور مما هو خلف الطبيعة ووراء الشهادة والحس في ظواهر لا يقف عليها الإنسان في تركيبته البشرية، وهي تركيبة يطلبها واقع الحياة في دنيا محدودة، لا تقوى على إدراك ما وراء الطبيعة المشهودة من عوالم الغيبات كالملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والنشور والحساب، وكذلك الله تعالت أسماؤه إنما يؤمن به المؤمنون بالغيب لأن الله ( ليس كمثله شيء( وهو سبحانه ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ( فإنه سبحانه لا يدركه المرء من باب الحس المشهود كالبصر أو السمع أو غير ذلك من أسباب حسية ثقيلة.
وثمة معنى آخر مثير يتفجر من خلال النص القرآني الكريم وهو يصف المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، فإن في ذلك ما يشير بوضوح مكشوف إلى تكريم المتقين، لأنهم يؤمنون بالغيب والإيمان بالغيب ضرب من الرقي المكرم الذي يرتقي من خلاله المؤمن ليكون في صف الأبرار والأطهار من البشر، ولا غرو فإن الإيمان بالغيب يرتفع بالمؤمن ليكون في عداد الغلاة الذين يتسامون على التصور المادي الممحص، التصور المادي المتبلد الثقيل الذي يودي بالإنسان إلى حمأة الهبوط المنحدر والارتكاس المتدهور.
وقوله :( ويقيمون الصلاة ( إقامة الصلاة ترد بإطلاق لتشمل ما فيها من ركوع وسجود وقراءة وخشوع وقيام وقعود، وما يشترط لها من طهارة وستر للعورة واستقبال للقبلة وغير ذلك من وجوه إتمام الصلاة، وللمحافظة عليها وأدائها على أتم نحو وأوفى صورة.
والصلاة في اللغة تأتي على عدة معان منها : الدعاء والرحمة والعبادة والنافلة والتسبيح ثم القراءة، وقيل غير ذلك مما يتناول مفهوم الصلاة في لغة العرب، ولا جرم أن تكون مثل هذه المعاني جميعها وثيقة الصلة بالمفهوم الشرعي لكلمة الصلاة والصلاة في مفهومها الشرعي تتضمن جملة حركات وأقوال وقراءات يؤديها المصلي على سبيل التعبد والطاعة لله، أما تفصيل الصلاة في بيان موضح مستفيض فليس هنا موضع ذلك بل موضعه مظانه في كتب الفقه بما يعرض لفريضة الصلاة بالشرح المبسط التفصيلي.
وقوله :( ومما رزقناهم ينفقون( الرزق : معناه العطاء، وهو يشمل كل وجوه الخير من المال والطعام والكساء وغير ذلك، أما قوله ( ينفقون( فهو من الفعل نفق ومعناه : نفد وفني، ويأتي بمعنى خرج، فالإنفاق الواقع على المال يعني إخراجه من اليد، وبذلك فإن النفقة أو الإنفاق هو إخراج المال من اليد على وجوهه المختلفة أو إفناؤه في سبيل الخير.
واختلف العلماء في المقصود بالنفقة هنا، فقد قيل : يقصد بها الزكاة المقروضة، وقيل : بل هي صدقة التطوع غير المقروضة، وفي قول آخر بأن المقصود ما أنفقه المرء على أهله وعياله أو من وجبت نفقتهم عليه، والقول الذي نرجحه ونطمئن إليه، أن النفقة عامة تتناول كل وجوه الإنفاق من فريضة وتطوع، وما كان لأهل أو عيال أو غيرهم. ١
١ فتح القدير للشوكاني جـ ١ ص ٣٢-٣٥ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ١٥٧-١٧٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٩-٤١ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٤٣ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ١٢٣..
وقوله :( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون(.
ثمة خلاف بين أئمة التفسير في المقصود بالموصوف في هذه الآية، فقد قيل إنهم أهل الكتاب الذين آمنوا بهذا النبي وما أنزل عليه من كتاب وما أنزل على النبيين من قبله، أما المقصود بالموصوف في الآية السابقة لهذه فهم مؤمنو العرب.
أما القول الثاني : فهو أن المقصود بالموصوفين في الآيتين هم المؤمنون عموما سواء كانوا من العرب أو من أهل الكتاب، والذي يترجم لدي هو القول بأن الآيتين كلتيهما نزلتا في المؤمنين عموما.
وفي هذه الآية يثني الله على عباده المؤمنين الذين يصدقون القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزل على النبيين قبله من كتب، وهم كذلك مؤمنون دون شك أو ارتياب أن الساعة قائمة، وأن الله سيبعث من في القبور، وهو تأويل قوله ( وبالآخرة هم يوقنون( أي عالمون، واليقين معناه العلم دون الشك.
وقوله :( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( اسم الإشارة ( أولئك ( يعود على من سبقت صفاتهم في الآية من إيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإنفاق من عطاء الله، وإيمان بالكتب السماوية كلها دون تفريق بين أحد منها، وكذلك من تصديق بيوم القيامة وما يتخللها من أهوال وقوارع، فإن الموصوفين بذلك جميعا على هداية من الله وبصيرة ونور، ومن حيث الإعراب فإن ( أولئك( اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وخبره شبه الجملة بعده وهو قوله :( على هدى من ربهم ( وقوله :( وأولئك هم المفلحون( أولئك، اسم إشارة في محل رفع مبتدأ هم، ضمير الفصل، خبر أولئك، والمفلحون من الإفلاح وهو الفوز والنجاة، وقيل : معناه الشق والقطع، مثلما يقال : أفلح الأرض أي شقها بالحرث، لتكون صالحة للإنبات والزرع، وبناء على ذلك فإن ( المفلحون( هم الذين يشقون طريقهم في الحياة فيحتملون المتاعب والمصاعب، كما تتحقق لهم الأهداف والمطالب، أو هم الذين يصبرون على طاعة الله بالتصديق واليقين وأداء الواجبات جميعا ليفوزوا بعطاء الله في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى :( إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ( الكفر معناه الجحد، وهو أن يجحد الكافر نعمة الله وفضله فيقابله بالعصيان والإنكار، ويأتي بمعنى الستر والتغطية، فالكافرون هم الذين يسترون الحق ويغطونه بغشاء الباطل لسوء في طبائعهم ومرض في قلوبهم، والكفار هم الزراع الذين يغطون الحب في الأرض بعد شقها ليستروه بالتراب، وفي ذلك يقول سبحانه :( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ( أي أن النبات قد أعجب الزراع الذين طمروا حباته في الأرض.
قوله :( سواء عليهم ءأنذرتهم ( سواء مبتدأ ( ءأنذرتهم ( وما بعده خبر، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه، والهمزة، الأصل فيها الاستفهام، والمراد بها هنا التسوية، وأنذرتهم فعل وفاعل ومفعول، وأم، عاطفة. ١
وفي هذه الآية إنباء عن فريق من الكافرين قد سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، وأن هذا الفريق ( سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( سواء معناها معتدل، أي يتساوى ويعتدل عند هؤلاء الجاحدين أن يستمعوا للنذير أو لا يستمعوا فإنهم فئة من الخلق ميؤوس منها فلن تؤمن أبدا، وذلك تمشيا مع علم الله في الأزل أن هؤلاء سيمضون في طريق الكفر مختارين، وبناء على ذلك فإن قوله :( إن الذين كفروا( يفيد بظاهره العموم، لكنه يراد به الخصوص، وقيل : إن الآية نزلت في كبراء اليهود الضالين أو في آخرين غيرهم ممن ماتوا على الكفر، إلا أن القول الأول هو الذي نطمئن إليه، والله سبحانه أعلم.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٠٥..
وقوله :( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ( الختم هو الطبع، وقيل : التغطية للحيلولة دون ولوج الشيء في ما هو مغطى، والمقصود من ذلك : أن قلوب هؤلاء الكافرين وأسماعهم قد ختم الله عليها فلا ينفذ إليها إيمان أو يقين، وبذلك فإن هؤلاء سيؤول الأمر بهم إلى النار وبئس القرار.
وثمة مسألة تختلف فيها أقوال العلماء والمفسرين، وهي مسألة قد تصل إلى حد الإشكال الذي يثير جملة تأويلات وآراء، وهي : لمن يعود التأثير على القلوب والأسماع ليقع عليها الختم أو الطبع أو الإغلاق ؟ هل يعود ذلك لله عز وجل ليكون سبحانه هو المؤثر في عملية الطبع على القلب والسمع للإنسان فلا يؤمن بحق ولا يستمع إلى كلمة الحق، أم أن ذلك يعود إلى الإنسان نفسه، فهو المختار المريد الذي يسلك سبيلا في الخير أو الشر وهو في ذلك حر ؟.
أمام هذين القولين المختلفين أجدني أكثر اطمئنانا وقناعة أن أتصور أن معنى الختم أو الطبع على قلب الإنسان وسمعه قد ورد على سبيل الإخبار بعدم الإيمان وليس على سبيل القهر والإلزام أو على سبيل الخلق المحتوم.
وبعبارة أخرى، فإن الله جلت قدرته عالم علما أزليا بما هو كائن وما سيكون في الكون أو الطبيعة أو الإنسان، فإن ذلك كله مشمول بعلم الله، وهو علم أزلي غامر يحيط بالوجود جميعا من غير أن يند عنه شيء، فهو سبحانه عالم بأفعال الإنسان سواء ما كان منها خيرا أو ما كان شرا، فإنها تقع بإرادة الإنسان وهو في ذلك مخول قدرا من حرية الاختيار.
وخلاصة القول في هذه المسألة : أن الختم الواقع على قلوب الكافرين وأسماعهم والواردة في هذه الآية قد جاء على سبيل الإخبار من الله أن هذا الصنف من البشر لن يختار طريق الهداية والإيمان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أما القلوب فمفردها القلب، وقد سمي بذلك لأنه ينقلب من حال إلى أخرى، فهو بذلك قلب أي سريع التقلب من حيث استيعابه لمزيد من الإيمان واليقين أو سرعة افتقاده لشحنة من زاد الإيمان والتقوى، وشأن القلب وفي مثل هذه المسألة أنك تراه اهتدى واستقام أو استكثر زادا قد تقلب فانتقل عن صراط الحق والإيمان فيما يؤول إلى تدهور خطير سريع يؤثر في السلوك والأعمال لتكون فاسدة، ويؤيد هذا المعنى حديث' الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يقول :« مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة  » ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ليثبت فؤاده على الإيمان قائلا : " اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك  ".
ويقول الشاعر :
ما شمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
أما عن القلب من حيث كيفيته وحقيقته والمقصود به، إن كان هو الموجود في صدر الإنسان على هيئة حبة الكمثرى فيكون بذلك جزءا من البدن ماديا، أو غير ذلك مما هو اعتباري الكينونة وعلى نحو غير مادي ولا محس...
ولعل الفهم السليم لهذه المسألة أن نتصور المقصود من القلب على شاكلته المرئية في الصدر وأن هذه الشاكلة لهي ذات علاقة أساسية وجوهرية بطبيعة التكوين النفسي والروحي للإنسان، إلا أن طبيعة هذه العلاقة أو كيفيتها غير معروفة للإنسان تماما، وكل الذي يمكن الوقوف عليه أن قلب الإنسان لهو جماع الخير أو الشر فيه ( الإنسان ) وأنه جهاز تكويني بالغ التأثير والفعالية في سلوك الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية جميعا، وأنه لا يمكن إسقاط القيمة للصورة المادية للقلب وهو على هيئته من قطعة اللحم، وأن طبيعة العلاقة بين هذه القطعة المحسة والحوافز المعنوية والروحية غير مدركة إدراكا مستبينا.
أمام عن وجود القلب في الإنسان وفي الصدر على وجه الخصوص فقد قال الله في القرآن عن ذلك :( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (.
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
وقوله :( وعلى سمعهم ( أي أن الختم طبع على أسماع هؤلاء الكافرين الذين لا يعون قولا كريما ولا يملكون أن يسمعوا نصحا.
أما إفراده للسمع مع أنه جمع القلوب فسبب ذلك أن السمع في الآية قد ورد على صيغة المصدر من الفعل " سمع " فكأنه يقول : إن الختم قد وقع على سماع هؤلاء الكافرين، وليس المقصود هنا أداة الاستماع وهي الأذن، وقيل غير ذلك.
قوله :( وعلى أبصارهم غشاوة ( الواو للاستئناف، فالجملة هنا مستأنفة بحيث لا ترتبط من حيث الختم مع ما قبلها من القلوب والأسماع، وبذلك فإن الوقوف على قوله ( سمعهم ( مطلوب، ومن المستبعد المرجوح أن تكون الواو هنا عاطفة على ما قبلها فيكون الختم واقعا على الأبصار مع الأسماع والقلوب، ومعلوم أن الختم إنما يقع على القلوب والأسماع ولا يصلح أن يقع على الأبصار التي لا يناسبها غير الغشاوة وهو الغطاء، يؤيد ذلك قوله سبحانه :( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ( وبذلك فإن البصر تقع عليه الغشاوة ليستقيم المعنى، وغير ذلك لا يتفق والمعنى أو السياق.
ومما يلاحظ لدى تدبر الآية أن المذكورات الثلاثة، وهي : القلوب والسمع والأبصار قد وردت مرتبة بحسب الحظ من الأهمية، فأشد هذه المذكورات أهمية هو القلب ثم السمع وأخيرا يأتي البصر، ولا غرابة أن يرد ذكر القلوب في الطليعة من الاهتمام والأهمية، لأن القلب لهو مناط التأثير والفعالية، ومبعث التنشيط والعزم، وموئل التوجه والسلوك في الإنسان سواء كان ذلك صوب الخير أو الشر.
أمام السمع فلا جرم أن يكون أشد أهمية وتأثيرا في الإنسان من البصر، وذلك من حيث العواقب والسلبيات التي تترتب على افتقاد كل من الطرفين، والحقيقة التي لا شك فيها أن افتقاد الإنسان للسمع سوف يكون سببا لحرمان كبير يحيق بشخصه وذلك من الناحية العقلية والنفسية والروحية، وغير ذلك من النواحي التي تنشىء الشخصية المنسجمة المتسقة للإنسان.
فإن الملاحظ أن السمع في الإنسان لهو سبب لخصائل عظيمة شتى منها سماع العلم بضروبه المتعددة، والاستماع بتدبير للنصيحة النافعة التي يكتسب المرء عن طريقهما ظواهر في الاعتدال والاستقامة أو في الارتداع عن كل مظاهر الإثم والضرر.
ويأتي في طليعة المعطيات الخيرة لخاصية السمع للإنسان أنه يستطيع بوساطتها الاستماع الى القرآن الكريم، وذلك أمر هائل وبالغ الجلال، لما ينطوي عليه من كبير المعاني والمؤثرات التي تلج الكينونة البشرية وهي تتعامل مع كلمات الله في قرآنه الرائع المعجز.
أمام البصر فإن انعدامه لا يفقد شيئا من هاتيك المعطيات التي لا تتحصل إلا بالجهاز السمعي، فالأعمى الذي يكون عاقلا يستطيع أن يستفيد بنفس القدر الذي يفيده المبصر، فهو الأعمى يستمع باهتمام ورهافة لكل ضروب الخير القولية والفعلية التي تطرح أمامه وهو يستمع إليها استماعا.
وقوله :( ولهم عذاب عظيم ( العذاب من الفعل عذب أي منع وحبس، واستعذب بمعنى امتنع عن فعل الشيء أو انصرف عنه، ونقول : أعذبه عن الأمر أي منعه منه أو حبسه عنه، وبذلك فالعذاب معناه في اللغة : ما شق على الإنسان ومنعه من تحصيل ما يريد، وبناء على هذا فإن العذاب الوارد في الآية معناه أن الإنسان العاصي يحبس عنه الخير ليحل عليه بدلا منه ما يضاده من ألوان الشر والضر والبلاء، وذلك ما أعده الله لأولئك الكفرة المتمردين الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة.
قوله تعالى :( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ( تفرغ كلمات الله الآن للحديث عن المنافقين بعد أن فرغت من الحديث عن المؤمنين ثم الكافرين في آيات قلائل، لكن دور الكلام عن المنافقين يستنفذ قدرا أكبر من البيان والكشف والتوضيح بما يقتضي قدرا أكبر من الكلمات القرآنية المؤثرة الرائعة، قال مجاهد رحمه الله في هذا الصدد : نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين واثنتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين وبذلك فإن هذه الآيات وما بعدها تعرض لصنف ثالث من البشر المضطرب الذي فسدت فيه القلوب والفطر فباءت تستمرىء الغش والباطل، وتفارق كل مظاهر الخداع والتدسس، هذا الصنف من البشر الآسن ينفر من الصدق وسلامة المسعى في صراحة مكشوفة، ويأبى إلا التعامل المريب وهو يتلصص في الظلام أو ساعة غفلة الناس.
هؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون غير ما يبطنون والذين تندد بهم هذه الآيات تنديدا يكشف عن مكنون قلوبهم المريضة الجائفة، فيقول سبحانه :( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( الناس في اللغة أصلها أناس مخفف وقد ورد في معناها جملة أقوال أقتضب منها ثلاثة، أولها أنها من النوس ومعناه التذبذب والحركة، والناس شأنهم أن يدأبوا على التحرك والتذبذب في فعالية لا تنقطع.
ثانيهما : أن الناس من النسيان، وأصل ذلك الفعل نسي، ومعلوم أن الإنسان مبني على النسيان حتى إن أحدا منن البشر لا يتجرد عن هذه الحقيقة الأصيلة، وهي حقيقة لصيقة بطبع الإنسان فلا تبرحه، وأول الخلق كافة آدم عليه السلام كان قد نسي وقال الله سبحانه فيه :( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (.
ثالثهما : أن الإنسان من الأنس أو الإيناس فإن الإنسان كائن مستأنس بمن حوله من أفراد أو جماعات بشرية وفي ذلك يقول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه ينقلب
هذه الآية جاءت لتكشف عن طبيعة المنافقين الذين يكتمون في دخائلهم الكفر ثم يتظاهرون في محاكاة مصطنعة أنهم مؤمنون، وذلك حكم قرآني حاسم وهو أن هذا الصنف من الناس كفرة وأنهم جاحدون كاذبون، فهم يكذبون على الله ويكذبون على المؤمنين، إذ يتظاهرون في تقول متكلف مكذوب أنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر، والله سبحانه يشهد أنهم كذابون وأنهم لم يلجوا حومة الإيمان وما بارحوا دائرة الكفر، يتضح ذلك من قوله جل وعلا :( وما هم بمؤمنين(.
قوله :( يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ( يخادعون الله ( جملة فعلية مستأنفة، ويحتمل أن يكون بدلا من الجملة الواقعة صلة لمن، وهي ( بقول ( ١ الخداع معناه الختل والرغبة في إلحاق الأذى والمكروه بالآخرين عن عمد، ومنه الخديعة والمخادعة أي المخاتلة، وذلك بيان لحال المنافقين الذين ( يخادعون الله والذين ءامنوا( أما مخادعتهم لله : فهي بناء على تصورهم الفاسد وظنهم الموهوم، ذلك أنهم يتصورون في حماقة وعمه أنهم يستطيعون تمرير خداعهم وتحيلهم على الله سبحانه، وكذلك فإن المنافقين يعملون في خبث ومخادعة على التظاهر أمام المؤمنين بالمظهر الحسن فيصطنعون فعل الخيرات اصطناعا دون أن يحفزهم إلى ذلك نية راغبة أو قصد عازم، وذلك هو الرياء الذي يبطل العمل ويمحق الأجر والثواب.
وقوله :( وما يخادعون إلا أنفسهم ذلك يعني أن عاقبة الخداع لا تحيق إلا بالمخادعين أنفسهم(، وتلك حقيقة مختومة لا يدركها هؤلاء السفهاء المفسدون الذين لا تستوعب قلوبهم وأذهانهم جلال الألوهية والذين يتراءى لهم أنهم يخدعون الله مع أنه سبحانه لا يتطاول إليه سلطان بشر ولا خداع مخاتل أو دجال.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٢٤..
قوله :( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليهم بما كانوا يكذبون ( تكشف هذه الآية عن طبيعة ملتوية للمنافقين الذين يخالط قلوبهم المرض، وقد ورد في تفسير المرض عدة أقوال منها : أنه يعني الشك، وقيل : النفاق والرياء، وقيل غير ذلك، وفي تقديرنا أن المقصود بالمرض هنا لا يمكن تحديده بأحد هذه الضروب المعنية وهي الشك أو النفاق أو الرياء أو الجحد والتكذيب كما قيل.
مع أن هذه الظواهر جميعها لا تخرج عن دائرة المرض في مفهومه الشامل، أو أنها أعراض فاسدة قبيحة يتمخض عنها المرض نفسه، لكننا نتصور أن المرض الذي يخالط القلوب فيسميها الإفساد والتخريب لتنشأ عن ذلك ظواهر الشك أو النفاق أو غيره، إنما هو الذي يأتي على الفطرة البشرية لتكون مشلولة فاسدة لا تزجي غير الشر والضلال، أو هو الذي يأتي على النفس فتكون ملتوية غير سوية وقد أفسدها التعقيد والانحراف.
ويمكن إيجاز ذلك في عبارة سريعة لتفسير المرض فنقول : إنه الانحراف الذي يغشى طبيعة الإنسان، فتكون ضالة عن صراط الحق السوي، أو تكون منحرفة انحرافا مشينا يتجه بالإنسان صوب الشر والفساد، أو صوب الضلال والميل عن منهج الله.
وقوله :( فزادهم الله مرضا( قيل : إن هذه العبارة الكريمة تحتمل أحد معنيين : أحدهما : الإخبار وهو أن الله سبحانه يزيد هؤلاء المنافقين مرضا على مرضهم، ثانيهما : الدعاء على المنافقين كي يزيدهم الله مرضا فوق مرضهم، غير أننا نرجح القول الأول، ويمكن أن نتصور كيفية ذلك وهو أن هؤلاء المنافقين سادرون في الغي والضلال، فلا تمر الأيام إلا وهم يزدادون رجسا على رجس، بحيث تتعاظم مفاسدهم وخطاياهم بفعل الفطرة الفاسدة الملتوية التي تسول لهم الخطيئة والحرام.
قوله :( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ( الضمير عائد على المنافقين الذي أعد الله لهم العذاب الأليم، وهو على صيغة مبالغة من الفعل " ألم " والأليم هو المؤلم الموجع، وسبب ذلك أنهم كاذبون فقد كذبوا على الله وكذبوا على المؤمنين إذ قالوا لهم : إننا مؤمنون، وفي قراءة أخرى بالتشديد يكذبون أي يجحدون نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبونه فيما جاء به من كتاب.
قوله تعالى :( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم ءامنوا كما آمن الناس قالوا أنومن كما آمن السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين ءامنوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون(.
المقصود بالضمير في الآية الأولى هم المنافقون، أولئك الذين يعيشون في الأرض إفسادا وتخريبا، وهم مع ذلك يرفضون جحودا ومكابرة أن يسمون مفسدين، وهم إذا دعاهم المؤمن في نصح ألا يفسدوا في الأرض أنكروا أن يكونوا مفسدين، ثم انتحلوا لأنفسهم صفة الصلاح وأنهم ليسوا غير مصلحين ولا يبتغون من مسعاهم إلا التقريب بين المؤمنين والكافرين.
والفساد كلمة جامعة لمناحي الشر وضروب المعاصي فكل خطيئة أو إثم يفارقه أهل النفاق إنما يدخل في إطار الفساد، والمنافقون يدأبون دوما على مقاومة المحظورات والخطايا وكل ألوان الفساد والحرام.
وقد ورد في سبب هذه الآية أن المنافقين كانوا يملئون الكافرين ليأتمروا معهم بالمؤمنين مع أن ذلك حرام، فقد نهوا أصلا عن موالاة الكافرين حيثما كانوا لقوله سبحانه :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ( وقوله :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ( وقد زعم المنافقون أنهم يبتغون من ممالأتهم للكافرين الإصلاح وأنهم يعملون من أجل التوفيق والمصالحة بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين، وذلك كذب وزور، فما كان هؤلاء العصاة المتلصصون في الظلام ليبتغوا الخير والإصلاح ولكنهم شرذمة فاسدة شريرة لا تنوي غير الشر والأذى تلحقهما بالمسلمين.
وقد زعم المنافقون أنهم يبتغون من ممالأتهم للكافرين الإصلاح وأنهم يعملون من أجل التوفيق والمصالحة بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين، وذلك كذب وزور، فما كان هؤلاء العصاة المتلصصون في الظلام ليبتغوا الخير والإصلاح ولكنهم شرذمة فاسدة شريرة لا تنوي غير الشر والأذى تلحقهما بالمسلمين.
ولذلك يأتي النص الرباني قاطعا ليحسم المسألة على هؤلاء مفسدون لا مصلحون :( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( وقوله :( ألا ( يفيد التنبيه والاستفتاح، يدخل على الجملة الفعلية والاسمية. ١
وقوله :( لا يشعرون ( أي أن هؤلاء المنافقين الذين يقارفون كل ضروب المعاصي والذين يمالئون الكافرين ويوالونهم ضد المؤمنين لا يعلمون أنهم فسقة وأنهم خارجون عن صراط الله، وهم بذلك يجهلون أنهم عصاة مفسدون، لأنهم يرفضون الاستماع إلى الحقيقة والنصر ويستكفون عن مجرد الإصغاء لكلمة الحق بقولها لهم المؤمنون بإخلاص.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٣٩..
قوله :( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ( ما، مصدر، في محل جر بالكاف، أمن الناس، صلتها١ وذلك وصف آخر لحال المنافقين، إذ يدعوهم المؤمنون من أجل أن تؤمن قلوبهم، فإن إظهار الإيمان نطقا باللسان وحده أمر لا يغني، وإنما التعويل كله في هذه المسألة الأساسية إنما يقع على القلب حيث الإيمان واستقرار العقيدة.
ولقد كان المؤمنون يهتفون بالمنافقين المفسدين ليؤمنوا إيمانا وافيا حقيقيا مثلما أمن الناس الآخرون من أنصار ومهاجرين. وذلك تذكير ودود تتأثر به النفس السليمة الكريمة لكن مثل هؤلاء الجبناء الذين يفارقون فسقهم في خسة لا تطوع لهم أنفسهم أن يقبلوا على الله في خشوع، أو أن يستقبلوا الموعظة والذكرى في تواضع، بل إنهم مستكبرون في حماقة وجهل، لذلك كان جوابهم عاتيا آثما ينم على استكبار متهكم.
سخيف إذ قالوا :( أنومن كما آمن السفهاء ( والسفهاء مفردها سفيه وهو من السفه، ومعناه الخفة والطيش وبساطة الحلوم، كذلك كان يغلظ المنافقون عندما دعوا إلى الإيمان فلجوا واستكبروا في حماقة واستخفاف وهم يتصورون أنهم إذا آمنوا فلسوف يكونون مع أولئك المؤمنين الذين آمنوا سفها بغير علم، كذلك قال المنافقون وهم فريق من الكذبة الفساق الذين يهذون بما لا يعلمون إلا تخريصا وزيفا وافتراء. وحقيقة الحال تبين في غير ما شك أن هؤلاء الفساق هم السفهاء وأنهم ذوو الطبائع الفاسدة المريضة أو الأحلام التي سيمت التبلد والشلل، وفي ذلك يقول سبحانه شاهدا على هؤلاء بالسفه وفساد الأحلام :( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٤٢..
قوله :( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون(.
ذلك وصف آخر يميز المنافقون من غيرهم من الناس سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، إذا ما رجعوا إلى ( شياطينهم ( وهم رؤوس الكفر من أهل الكتاب والمشركين نفثوا أمامهم حقيقة ما تنطوي عليه قلوبهم المريضة من غش والتواء ومخادعة، وهم عندئذ يبادرونهم بالقول ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( أي نحن على ملكتم وطريقكم، ولا تكن صدورهم للمسلمين غير الخديعة والاستهزاء.
والشياطين مفردها شيطان وهو مشتق من الفعل شطن، ومعناه : بعد عن الحق والخير، ومصدره شطون ويقال : تشيطن، واسم الفاعل شاطن، أي بعيد عن الخير والحق، والشيطان من الإنس أو الجن، هو الخبيث العاتي المتمرد وذلك لبعده عن الخير.
والشيطان صنفان من حيث الأصل أو الجنس، وهو إما أن يكون من الجن فهو بذلك مستور عن أعين الناس، لكونه ذا تركيبة أخرى لا يدركها بنو البشر، والشيطان من هذا الصنف يوحي لأتباعه وأعوانه بطرقته التغريرية الموسوسة أن يجترحوا السيئات، ويرتكبوا الخطايا، أما الصنف الثاني : فهو من البشر وذلك صنف قد لا يقل في اقتداره على الإطغاء والغواية عن الأول، فذلك صنف خبيث من الناس يملك من فساد الطبع وموات الضمير والرغبة اللحاحة في صنع الشر ما يمكنه من الإفساد والإغواء، وما أكثر الشياطين من البشر الذين يوحون للناس بفعل المنكر ويزينون لهم أن يبادروا الذنوب وكل أنواع الحرام، حتى إن الشياطين من البشر كثيرا ما يلجأون إلى الإغواء والتغرير عن طريق الإرهاب فيما يحمل الإنسان المغرور أو المفتون على اقتراف المحظورات والمفاسد.
ومن الحقائق الملموسة لكل ذي عقل ما يحيق بالبشرية دائما من أساليب التآمر والخداع، وما يحاك لها في الظلام من صنوف الحيل والمخططات، وذلك من أجل أن تساق هذه البشرية نحو الهاوية بكل ما في هذه العاقبة من ضروب الكوارث والمهالك، النفسية منها الاقتصادية والاجتماعية.
إن هذه الحقائق التي نلمسها من خلال الكتب أو الصحافة أو وسائل النشر والإعلام بما يدفع الإنسان نحو الدمار الذاتي أو نحو الانمياع والتفسخ، إن ذلك كله من كيد الشيطان الناموسي، شيطان البشر الذي ينطلق في الأرض خلسة، فينفث الشر والمنكر، ويعيث بين الناس فسادا وتدميرا من أجل أن تستحيل البشرية الى ركام من المجتمعات الحائرة المضطربة، المجتمعات التي يشينها فساد النفس وانهيار القيم وكل مقومات الإنسان الأصلية.
قوله :( الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ( لفظ الجلالة مرفوع بالابتداء، يستهزىء جملة فعلية في محل رفع خبر، ١ هؤلاء المنافقون الفسقة الذين يتصورون واهمين أنهم يخادعون المؤمنين بتظاهرهم المصطنع وأنهم لا يبتغون بهذا التظاهر غير الاستهزاء بهم والسخرية منهم، فإنهم مغرورون جهلة لا يعلمون أنهم هم موضع استسخار وهزء، وأنهم هم الذين تصفعهم من الله وصمة الاستسخار الغاضب سواء كان ذلك في هذه الدنيا أو في الآخرة حيث المهانة والتهكم من الملائكة والخلائق فضلا عن العذاب اللاهب الذي تستعر فيه جلود هؤلاء المجرمين وأبدانهم.
وكذلك فإن الله يستدرج هؤلاء المنافقين الواهمين استدراجا، إنه سبحانه يمهلهم ويمد لهم من العطاء واللعاع وهم سادرون في طغيان تجاوزوا به كل الحدود.
وقوله :( يعمهون ( من العمه، والعموه وهو الضلال والتردد والحيرة، فإن المنافقين ماضون في الأرض طاغين فسقة يظنون أنهم على شيء من الوضوح والتبصر مع أنهم يخبطون في الأرض ضلالا وحيرة وقد أعماهم الإمداد والاستدراج حتى إذا جاء أمر الله سقطوا مع الهالكين في الأذلين، وباءوا من الله بالخسران العظيم.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٤٨..
قوله تعالى :( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون (.
اسم الإشارة ( أولئك ( في محل رفع مبتدأ، واسم الموصول بعد الإشارة خبر دلت عليه الجملة الفعلية وهي صلة الموصول، الإشارة عائدة على المنافقين الذين بدلوا الهدى ليكون ثمنا ثم استعاضوا عنه ببدل رذل وهو الكفر أو الضلالة، هكذا يعقد المنافقون صفقة من البيع الخبيث الخاسر، وذلك على سبيل الاستعارة التي تكشف عن مبلغ الحماقة والضلالة والتعس الذي وصله أولئك المنافقون وهم يمسكون بالكفر ليطرحوا بدلا منه الإيمان وتلك تجارة خاسرة لم تأت بخير ولم تنطو على غير الوخامة والتخسير.
قوله :( وما كانوا مهتدين ( ذلك نفي للهداية عن المنافقين، أما طبيعة هذا النفي فقد ورد فيها قولان : أحدهما : أن النفي جاء وصفا للمنافقين حال رفضهم للإيمان، فهم بذلك قد اختاروا الضلالة، ثانيهما : أن ذلك إخبار عن علم الله الأزلي بأن هؤلاء لن يهتدوا وأنهم صائرون- في علم الله- الى الضلالة، والراجح عندي هو الأول والله أعلم.
قوله :( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( مثلهم مبتدأ كمثل جار ومجرور خبره، ١
ذلك مثل يضربه الله لهؤلاء المنافقين وهو يطابق حقيقة المنافقين و ما سلكوه من طريق الضلالة والتعتر.
إن هؤلاء المنافقين الذين رأوا الحق واستمعوا إليه وأدركوه إدراكا ثم رفضوه ونبذوه، مثلهم كالذي تكون من حوله نار مستوقدة مضيئة تكشف له عما حوله من أمور وأشياء حتى إذا أبصر ما حوله وكان مبصرا مهتديا انطفأت النار فذهب الضياء والنور وأصبح الذي كان مستنيرا لا يرى شيئا فتعثر في الضلال والعمه.
تلك هي حال المنافق إذ تأتيه نسائم الإيمان، وتهتف به نداءات الخير والهداية من أجل أن يستقيم ويهتدي ثم يجحد ذلك كله وينفلت عنه انفلاتا عاتيا ليكون في صف العصاة والأذلين.
واختلف المفسرون في شأن المنافقين هنا من حيث كفرانهم بعد إيمان، أو أنهم لم يكونوا قد أمنوا من قبل، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم في يوم من الأيام، ثمة قولان في هذه المسألة مع أن ظاهر الآية يوحي باعتبار القول الأول وهو أن هؤلاء المنافقين قد كفروا بعد الإيمان، وأنهم اتبعوا الضلال بعد أن لامست الهداية قلوبهم.
١ الدر المصون جـ ١ ص ١٥٤..
قوله :( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ( تلك هي حقيقة حال المنافقين، وهي حال تكشف عن طبيعة شاذة ملتوية، لا يؤثر فيها النداء الكريم، ولا تلجها الذكرى، فهي طبيعة منكمشة صلدة لا تعي صدق الدين والنبوة، ولا تقوى على استلهام شيء من حلاوة الإيمان، وأصدق لهؤلاء المنافقين ما ذكرته الآية من كلمات شاملة معدودة ( صم بكم عمي ( وهذه كلمات قليلة تزجي بالمعنى المقصود على أتم ما يكون الإرجاء فهم صم لا يسمعون الحق، وذلك لإعراضهم وانثنائهم عنه، وهم كذلك بكم ومفردها أبكم وهو الأخرص الذي يظل قابعا دون إعطاء أو مشلولا لا يؤتي خيرا أو نفعا.
وهم يتفصون أيضا بالعمى الذي تنحجب معه الرؤية وتنغلق به الأبصار فلا يكون إذ ذاك اهتداء أو استبصارا، وذلك كشف مريع يبين حقيقة المنافقين الذين انقلبوا إلى مغاليق في بصائرهم وفي كل أداة من أدوات الحس فيهم، سواء كان ذلك السمع أو النطق أو البصر. إن هؤلاء باتوا قساة في طبائعهم وقلوبهم إلى أن بلغوا الإيصاد المطبق يغشى فيهم كل مسلك من مسالك التفكير أو الفطرة، وتلك هي درجة الإياس الذي لا يرتجي بعده إيمان أو هداية، وذلك قوله سبحانه :( فهم لا يرجعون ( لا رجعة للمنافقين الى حومة الخشوع المتذلل لله وحده، ولا رجاء لهم في العودة إلى الإيمان الذي نبذوه في خسة وحماقة ليستبدلوا به الكفر والعمه وليكونوا مع الجاحدين والفاسقين.
قوله تعالى :( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (.
قوله :( أو ( جاءت للتخيير وقيل للتفصيل وقيل للشك، وقيل : معناها الواو أي وكصيب من السماء والصيب هو المطر، وهو مشتق من الفعل صاب يصوب أي ينزل.
وذلك مثل آخر يضربه الله للمنافقين مثلما ضرب لهم المثل السابق عندما شبههم بالذي استوقد النار حتى استضاء ما حوله ورأى كل شيء انطفأت النار وذهب الضياء والنور.
فهؤلاء المنافقون مثلهم كأصحاب مطر منهمر من السماء تغمره الظلمات والكثيفة المتراكمة ويتخلله الرعد القاصف والبرق الخاطف، أما الظلمات فهي صورة عن الكفر الذي يركم في نفوس المنافقين والذي نهوا عنه، ويقصد بالرعد التخويف من عذاب الله وسخطه أن يحيق بهؤلاء المجرمين الفساق.
أمام البرق فهو يمثل آيات الله الكريمة التي تكشف عن سرائر هؤلاء المنافقين فتفضحهم فضحا،
والمنافقون دائما خائفون من سطوع الإسلام وإشراقه أن ينفذ إلى قلوبهم ولذلك فهم ( يجعلون أصابعهم في آذنهم من الصواعق حذر الموت ( أي أنهم يغمضون أعينهم عن رؤية الحق ويصمون آذانهم صما، كيلا يستمعوا إلى صوت الإسلام وكلمة الحق فينصرفوا عن الشرك والنفاق، وهم إذا ما انصرفوا فإن ذلك – في تصورهم- موت.
ذلك الذي تمكنا من تصوره في تأويل هذا المثل في هذه الآية، مع أن أقوالا كثيرة قد وردت في تأويله والله أعلم بالصحيح.
وقوله :( حذر الموت ( حذر : مفعول لأجله منصوب، مضاف إليه مجرور، أما الصواعق فهي جمع صاعقة وهي نار تسقط من السماء مصحوبة بصوت مؤثر خارق، وتأتي الصاعقة بمعنى الصيحة تأتي بالعذاب ومنها الصعق ومعناه الإغماء والموت.
قوله :( والله محيط بالكافرين ( إنه سبحانه حاصر لهم، ومطبقة إرادته وهيمنته عليهم فلا يستطيعون الإفلات من قبضته أو الند من سلطانه وجبروته.
قوله :( يكاد البرق يخطف أبصارهم ( يكاد من أفعال التقريب وتعمل عمل كان، والبرق هو الضوء اللامع الخاطف الذي يسبق الرعد، وذلك من خلال ملاصقات جرمية تتماس في الفضاء بتقدير من الله.
وقد جاء في تأويل هذه الآية عدة أقوال لكننا نميل إلى أن المقصود بالبرق هنا نور الإسلام، أما الخطف فهو البهر، فالمعنى : إن إشراقة الإسلام المضيئة الوضيئة تبهر قلوب المنافقين وأذهانهم حتى إنهم ليؤمنون بصلوحه وروعته وصدقه وذلك ساعة استلهامهم لحقيقة هذا الدين وهو يمس فيهم الحس وينفذ فيهم الى صميم الفطرة، لكنهم بعد ذلك ينكصون مرتكسين كلما تراءت لهم ظلمات من الشك والتردد فينقلبون على وجوههم مضطرين حيارى.
هكذا يكون المنافقون فهم تارة يمسكون بحبل من الهداية والإيمان في فترة من زمان ثم لا يلبثون أن يبوءوا بالشك والتكذيب، إذ تتلطخ قلوبهم وأذهانهم بوصمة من التردد والارتياب.
قوله :( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ( لو، أداة امتناع لامتناع وهي تفيد التمني، وفي هذا الجزء من الآية تخويف يتهدد المنافقين في كل لحظة، يتهددهم بالإبادة أو المسخ جزاء ما اقترفوه من نفاق، وخواء للضمير، أما التهديد بالإبادة فإنه يكشف عنه إذهاب السمع والبصر وهما أعظم وأشرف ما في الإنسان من جوانب وأجزاء.
أمام التهديد بالمسخ : فلنا أن نتصور ذلك من خلال افتقاد الإنسان لهذين الجزأين الأساسيين فيه وهما السمع والبصر، والإنسان وهو يسام الصمم والعمى فإنه ينقلب إلى كائن خاسر مشلول لا يأتي بخير إلا الجمود والضعف والموات.
والله سبحانه وتعالى لا يعجزه أن يذيق الإنسان أشد البلاء والنكال سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، فإنه سبحانه من صفاته القدرة التي لا يند عن محيطها شيء :( إن الله على كل شيء قدير.
قوله تعالى :( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (.
قوله :( يا ( أداة نداء، ( أي ( منادى مفرد مبني على الضم، وها، للتنبيه، ( الناس ( نعت للمنادى، وقوله :( اعبدوا ( من العبادة وهي الخضوع والتذلل، والرب، معناه المالك، وهو سبحانه مالك الأولين والآخرين فلا يند من ملكوته وسلطانه في هذا الوجود شيء.
والله جلت قدرته يدعو الناس كافة سواء فيهم المؤمنون والكافرون أن يعبدوا الله وحده من غير شريك، وأن يخلصوا له في القول والعمل فهو سبحانه مالكهم ومحيط بهم، وهو كذلك خالقهم الرحيم بهم والقريب منهم، فهو جدير بالامتثال لأمره والخضوع لجلاله، إنه سبحانه جدير أن يعبد الناس لجنابه، فهو الذي خلقهم وخلق الذين من قبلهم من شعوب وأمم كثيرة مبثوثة في كل مناحي الأرض على مر الزمن. فإن في عبادة الناس لله وحده وفي انقيادهم لدينه وشرعه ما يجعل لهم الرجاء بأن يكونوا من المتقين، وذلك من الوقاية أو التقية وهي ما يكون ستارا يدرأ المرء العذاب، والمؤمن العابد التقي يدفع عن نفسه العذاب المحدق باتخاذه وقاية من الطاعات واجتناب المعاصي والموبقات.
والله سبحانه أجدر أن يعبده الناس كافة ولا يعصوه في شيء لما أسبغه على الخلائق والبشر من نعماء ومنن، فهو سبحانه قد ( جعل لكم الأرض فراشا ( أي مهدها، ويسرها الممهد الذي يصلح للافتراش.
وكذلك قد جعل الله السماء للناس بناء كأنما هي مظلة، وهي مظلة ممتدة وكبيرة وغير محدودة قد صيرها الله على هذه الصورة الهائلة من البناء المرفوع الذي تتكاثف فيه الخلائق والأجرام في غاية من التوازن الدقيق والإحكام المنظم المضبوط.
بناء سماوي رفيع لا تدرك منه الأبصار والعقول إلا قليلا مما تحقق بأسباب شتى من النظر والرصد والعلم، وما في السماء من حقائق ومخبوءات لهو كثير لا يقف الإنسان إلا على جزء يسير منه كلما امتد به الزمان وتعاظمت له أسباب البحث والاكتشاف يقول سبحانه في ذلك :( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ( والفعل جعل يأخذ مفعولين وهو يعني صير من الصيرورة ويأتي على معان أخرى ترد في موضعها.
وقوله :( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ( السماء اسم مذكر ومؤنث وجمعه سماوات وأسمية، وهو يطلق على كل ما علاك فأظلك ويقال لسقف البيت سماء، وكذلك فإن السماء تسمى المطر فيقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، وأصل السماء من السمو وهو الارتقاء والعلو، نقول سموت وسميت أي علوت وعليت، ونقول فلان لا يسامى وقد علا من ساماه.
فقد أنزل الله المطر من السماء العالية المرتفعة بعد أن كان ( المطر ) حبات من الماء المنتشر المحمول عبر درات الهواء حتى إذا علا ذلك وتسامى فوق الأرض لامس أجواء باردة فتقاطر الماء من خلاله ليؤوب الى الأرض منهمرا تستقي منه الخلائق من بشر وزروع وأنعام، ثم تنبت به الأرض من خيراتها وثمراتها بما يقتات به الناس ويرتزقون أو ما يستمتعون به ويستطيبون.
وحول هذه العملية الربانية العجيبة في إنزال المطر بدءا بتصريف الرياح الموقرة بحبات الماء المتبخر، وانتهاء بالنزول الهاطل المنهمر يقول سبحانه :( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمسلمين فانظر إلى ءاثر رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير (.
قوله :( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( الأنداد، مفردها ند وهو يرادف النديد الذي يستعمل للمبالغة، والأنداد بمعنى الأكفاء والنظراء والأمثال.
فالند أو النديد معناه الكفء أو النظير أو المثيل، وقيل : الأنداد تعني الأضداد، وأصل الكلمة من الفعل ند ندودا أو ندادا، نقول ند البعير أي نفر وذهب على وجهه شاردا، وفي قراءة بعضهم لقوله تعالى :( يوم التناد ( أي يوم الشرود والهرب في جموح، ومنه التنديد من الفعل ندد أي أظهر العيب في تشهير وافتضاح والله سبحانه يحذر الناس أن يتخذوا من دونه شركاء عدلاء يجعلون لهم من الحظ في الخوف والتقديس والانقياد مثلما يجعلونه لله سبحانه، وذلك هو الإشراك المستشبع الذي تدنو دونه كل خطيئة أو محظور، على أن الإشراك ضروب شتى تورد الإنسان المشرك موارد الكفران الذي يفضي إلى غضب الله والنار. كأن يتجه الإنسان بحسه وهواه صوب آلهة مصطنعة لا تملك شيئا من ضر أو نفع، ولا تملك أن تغير من مقادير الله أدنى تغيير، ولكنه الوهم الفاسد المريب الذي يمس طبائع جانفة مريضة فيزين لها أن تتثبت بهذه الآلهة المختلفة الموهومة.
ومن ضروب الإشراك أن تخشع القلوب للأصنام في انقياد مضلل فاسد، كالذي كان عليه الناس في الأزمنة الغابرة، إذ كانوا يخرون للأصنام ساجدين وهي أصنام يصطنعونها من الحجر أو المدر أو التمر على شواكل مختلفة من هيئة الإنسان أو الطير أو الحيوان، وفي طليعة ذلك اللات والعزى ومناة ثم هبل وأسماء غير ذلك مما يفتعل أولئك في سفاهة وعمه، ومن ضروب الشرك كذلك أن ينصاع الإنسان في شعوره ووجدانه وفي تفكيره وجوارحه لأمر الحكام والساسة الذين يقضون بالباطل وبغير ما أنزل الله، فهم بذلك يضادون الله ويستنكفون عما أنزل من كتاب ودين، وأمثال هؤلاء الحكام والساسة إنما يقفون في غاية الضلال والجريمة التي تتجسد في الافتتات على سلطان الله والاعتداء على جلاله وجنابه العظيمين وذلك بانتحال الخصائص الأساسية الكبرى كالمعبودية أو الملكوت أو التشريع وهي خصائص كبريات لا تتسنى لأحد من الخليقة كائنا من كان، وما انتحالها أو جزء منها إلا التعدي الصارخ المستكبر على الله في عليائه.
وعلى ذلك فإن اللحاق بمثل هؤلاء الحكام والساسة الذين يضادون الله لهو ضرب مستبين من ضروب الشرك الذيب تنشغل القلوب والأهواء لتسير في غير صراط الله، والذي يتثبت الطبع من خلاله بهؤلاء الفساق ليتلهى في خضم الرغائب والشهوات فيسدر مع السادرين إلى حيث السقوط في الأذلين.
ومن أحسن ما روي عن حبر هذه الأمة وإمام المفسرين عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) في هذا الصدد وهو أن الأنداد تعني الشرك وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت، وقول الرجل : لولا الله وفلان.
وقد ورد في الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت فقال له النبي : " أجعلتني لله ندا ؟   ! ".
قوله :( وأنتم تعلمون ( الواو للحال، والضمير في محل رفع مبتدأ والميم للجمع، ( تعلمون( جملة فعلية في محل رفع خبر، والجملة الاسمية المبتدأ والخبر في محل نصب حال.
وهذا الجزء من الآية خطاب للكافرين والمنافقين الذين يتخذون أندادا من دون الله، مع أنهم يعلمون في قرارة صدورهم وفي العميق من نفوسهم أنهم ليسوا على شيء إلا الضلال والباطل، وأنهم ناكبون عن الطريق المستقيمة، عن صراط الله الذي لا يخالطه أمت أو اعوجاج، وأنهم يعلمون أن هذا النبي صادق في تبليغه عن ربه وأن شريعة الإسلام لهي الحق المبين.
إن هذا الجزء من الآية خطاب جدير به أن ينفذ إلى قلوب المشركين وأذهانهم أولئك الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى وهو في نفاذه إليها يقرعها في مواجهة مكشوفة لا تعرف الموارية أو الميل كما يعلم هؤلاء الكذناكبون أنهم متعصبون وأنهم مفترون عسى أن تتململ فيهم بقية من وازع أو فطرة. ١
١ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٠٤-٢٣٠ وتفسير البيضاوي ص ١١-١٥ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٥-٥٨ وفي ظلال القرآن لسيد قطب جـ ١ ص ٤٤-٥٤ ومختار الصحاح ص ٦٥٢، والقاموس المحيط جـ ١ ص ٣٥٣..
قوله تعالى :( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين( ذلك تحد من الله للكافرين آحادا ومجتمعين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع العلم أن الله قد تحداهم مرارا عديدة في مكة فقال مثلا :( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( وقال أيضا :( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (.
وقد تحداهم الله كذلك في المدينة في مثل هذه الآية ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله... ( فلئن كان المشركون في شك من هذا القرآن الذي تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فليأتوا بسورة واحدة من مثله إن استطاعوا ثم ليدعوا أعوانهم وأنصارهم ليحضروا عملية التحدي وليشهدوا بأنفسهم محاولة المشركين وهم يصطنعون مثل هذا القرآن.
والمقصود بالعبد هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد سماه الله بذلك لشرف العبودية، له سبحانه، ولا جرم أن تكون العبودية هي الخضوع والتذلل ولا يكون ذلك إلا لله، والإنسان المؤمن إنما يكون ممتثلا لأمر الله في شرعه ودينه، ولا ينقاذ في خضوع وتخشع إلا له سبحانه، وتلك درجة سامية رفيعة يرقى إليها الإنسان، فلا يذل لأحد من دون الله كيفما كانت منزلته، والإنسان المؤمن في هذه الحال من العبودية الخالصة لله قمين به أن يسمى عبدا وهي أشرف ضروب التسمية حقا.
وقوله :( بسورة ( السورة في اللغة معناها المنزلة من البناء، والسور يطلق على ما ارتفع من الأرض أو هو الحائط الذي يحيط بالبناء وسمي بذلك لارتفاعه وإشرافه، وسميت السورة من القرآن بذلك لشرفها وارتفاعها وهي في كلام العرب تفيد الإبانة والانفصال من سورة لأخرى أو أنها قطعت من القرآن على حدة وبعبارة أخرى وجيزة، فإن السورة من القرآن قد سميت بذلك لأنها منزلة منزلة مقطوعة عن الأخرى، وهي تجمع على سور أو سورات. ١
وعلى ذلك فإن هذه الآية جاءت لتتحدى الناس جميعا كيما يجهدوا في أن يأتوا بمثل سورة واحدة من هذا القرآن وأن ينادوا أشياعهم وشركاءهم ممن هم على اللذين ستؤول إليهما محاولة المشركين.
وقوله :( إن كنتم صادقين ( أي فيما تدعون، وهو أنكم قادرون على معارضة هذا القرآن بمثله تصطنعونه من عند أنفسكم.
وجدير بالبيان مما يشهد للقرآن والإعجاز أن العرب- وهم موطن الفصاحة والبلاغة واللسن – قد جهدوا في عناء بالغ ليأتوا بمثل هذا القرآن وقد كان يحفزهم لذلك ما كان يحبههم من تحد قائم لا يتحول، وهو تحد قد أثار في نفوسهم المرارة والإحساس بالخزي والضعف، لأنهم باتوا غير قادرين على محاكاة هذا الكتاب الحكيم، مع أنهم أحوج ما يكونون لمحاكاته أو المجيء بمثله ولو قدر سورة قصيرة واحدة، ولقد ظل القرآن على الدوام يتحدى هؤلاء البلغاء أفرادا ومجتمعين وهم الخصوم اللد للإسلام ونبيه وكتابه، ويدركون أن مكانتهم الذاتية الشخصية باتت تتزعزع، وأن مجدهم العربي الموروث آخذ في الترنح والأرجحة، وأن تصوراتهم وأعرافهم ومصالحهم آيلة الى التبدد والسقوط، وذلك كله بفعل العقيدة الإسلامية الجديدة التي جاء يحملها القرآن، فكانوا بذلك يودون في رغبة مغالية جامحة لو تصدوا لهذا القرآن عنه الناس، وليثيروا من حوله الشبهات والظنون، وهم أنفسهم أقدر الناس جميعا على اصطناع الكلام البليغ.
ولقد استبان عجز العرب عن المحاكاة واصطناع ما يشبه القرآن من خلال إقرارات واقعية صريحة أنطقت فريقا من رجالات العرب كانوا قمة العظماء والبلغاء، وفي طليعتهم عتبة بن ربيعة الذي سمع القرآن لأول مرة فغشيته غمرة من الدهش والذهول فأقر بغير تحفظ أو وناء أن هذا القرآن لم يكن قول بشر. كان ذلك عندما قرأ عليه النبي من سورة فصلت :( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (.
وكذلك الوليد بن المغيرة وهو صناديد العرب البارزين وأحد مشاهيرهم في ميدان البيان واللسن، ومن الذين يتسنمون ذروة المجد في فن الخطابة والشعر بما يبدأ الخطباء والفصحاء جميعا، ذلك هو ابن المغيرة الذي راغ إلى النبي متحديا حتى سمع منه القرآن مرة فهجعت فيه السورة، واستنام فيه الغرور، وأخذته نوبة من العجب العجاب، قد كان ذلك عندما سمع ابن المغيرة كلمات القرآن تقرع ذهنه ووجدانه قرعا، ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكبر ولربك فاصبر... ( فلم يلبث ابن المغيرة إلا أن يردد في إقرار خاضع " ما كان هذا الكلام ليقوله بشر ".
ثم ذاك الحكيم البليغ المفوه " الكندي " وهو المعروف بحكمته وامتلاكه لمقاليد البيان، وقد كان له : أنصار ومريدون لا يبارحونه ويتسابقون في استماع الحكمة المنطوقة من فمه، فقد قال له هؤلاء مرة : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال : نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. ٢
ذلك إقرار واضح من أحد الموغلين في فن القول والبيان يشهد للقرآن بأنه معجز فذ، كان ذلك عندما قرأ الكندي أول آية في سورة المائدة وهي ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (.
١ مختار الصحاح ص ٣٢٠..
٢ الاتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ ٢ ص ١١٧ وإعجاز القرآن للرافعي ص ٣٠٦ والبرهان للزركشي جـ ٢ ص ١٢٠..
قوله :( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ( تتضمن الآية شرطا وجوابه، فجملة الشرط منفية، والجواب ما اقترنت به الفاء وذلك في قوله ( فاتقوا النار... (.
والآية تنطوي على التحدي للمشركين : إن كانوا يستطيعون اصطناع مثل هذا الكلام العظيم، والآية كذلك تتضمن مسبقا حقيقة عجزهم عن هذا الاصطناع.
وعلى ذلك فالجملة الفعلية المنفية الأولى تفيد الحال، أما الجملة الفعلية المنفية وهي الواقعة في جواب الشرط فإنها تفيد الاستقبال، وهي لا جرم أن تكون آكد في التحدي وأبلغ في التأثير والاستثارة بما يدفع المشركين لبذل المزيد من الجهد كيما يأتوا بمثل هذا القرآن إن استطاعوا، ولكنهم لن يستطيعوا مهما بذلوا من عناء التكلف، ذلك هو الحكم الفصل الذي انطوت عليه الآية ليعلم كل من يبتغي العلم أن أحدا من البشر لن يقوى في يوم من الأيام على اصطناع مثل هذا القرآن أو بعضه، والحكم الفصل في قوله :( ولن تفعلوا ( يرسخ حقيقة الإعجاز للقرآن.
وبعد هذا التأكيد المسبق الحاسم على إخفاق أية محاولة لاصطناع مثل القرآن فإن الله جلت قدرته يحذر من النار الحارقة التي يتعذب بها الجاحدون لأنعم الله المنكرون لكتابه الحكيم، وذلك في قوله :( فاتقوا النار ( أي اتخذوا من طاعة الله ومجانية نواهيه ومعاصيه وقاية تحتمون بها من حريق النار وما فيها من عذاب أليم لا يطاق.
ويزداد القلب هلعا وارتجافا لدى إدراك المرء أن وقود النار من الناس والحجارة، فيا لهول المشهد الذي يثير في النفس الوجل والترويع إنه مشهد يبعث على الصحو في تبكير كيلا تتعاقب الأيام والسنون ثم يفوت الأوان وتذهب الفرصة التي تتاح للمرء فيها أن يتوب ويعمل صالحا.
وفي اجتماع الناس والحجارة في النار أكثر من مدلول، فإن من جملة ذلك : أن يستوي الإنسان الجاحد ليكونا معا في النار، فهما عنصران سيان يلتقيان في الحريق بلا اعتبار أو حساب، إنهما الحجر الأصم، والإنسان التائه الصفيق الذي قارف ما لم يقارفه حجر ولا بهيمة.
ومن جملة ذلك أيضا : أن يشتد عذاب الكافرين في النار وهم تمسهم الحجارة الحامية مما يضيف إلى الأجساد المصطلية لهيبا واضطراما، وقد ورد في المقصود بالحجارة هنا أنها مصنوعة من الكبريت الأسود وهو شديد الاشتعال، وسواء كانت هي الحجارة المعروفة أمن أنها من الكبريت فإن المقصود الأهم هو بعث التحريق واللهب على نحو أشد لكي يذوق الكافرون والملحدون والمكذبون أقسى النكال الذي تتقاحم فيه أبدانهم وجلودهم وهم يحترقون في النار.
قوله :( أعدت للكافرين ( أي أن هذه النار قد هيئت وتم رصدها للكافرين، ويدل ظاهر هذه العبارة على أن النار موجودة أصلا في هذا الزمان وفي سوابق الزمان، وذلك الذي عليه جمهرة أهل العلم من مفسرين ومحدثين، وثمة قول آخر وهو أن النار لم تخلق بعد وأن عملية الخلق كائنة يوم القيامة ولا يعز شيء من ذلك على الله.
وفي تقديري أن هذا القول مرجوح وأن ما عليه جمهور أهل العلم هو الصواب.
قوله تعالى :( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها ثمرة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ( بعد أن خوف الله الكافرين وحذرهم من عذاب النار التي وقودها الناس والحجارة إذا لم يؤمنوا بكتابه، فإنه بعد ذلك يبشر عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم جنات تجري تحتها الأنهار، وذلك الذي يطلق عليه في القرآن " المثاني " وهي الانتقال بالكلام من حال إلى حال أخرى مغايرة، وذلك مثلما تتناول الآية أو بعض الآيات مسألة العذاب الأليم الذي أعده الله للكافرين والعصاة، ثم يعقب ذلك بالكلام عن الجنة ونعيمها المقيم، أو مثلما يتكلم عن ملائكة الرحمة والبشرى، ثم يبادر الحديث بعد ذلك مباشرة عن ملائكة العذاب الذين تتزلزل لدى رؤيتهم أقدام المجرمين الذين يعيثون في الأرض فسادا، ذلك الذي عليه الجمهرة الكاثرة من المفسرين وقيل غير ذلك.
وفي هذه الآية يأمر الله بتبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات، والتبشير هو الإخبار عما يبعث على السرور، إذ تتبدى علائم البهجة والحبور لدى الإخبار بما يسر.
على أن التبشير بالجنات مشروط بالإيمان الذي يقترن بعمل الصالحات فإنه لا قيمة تذكر للإيمان وحده من غير عمل صالح، وذلك هو شأن القرآن دائما لدى تنويهه بذكر الإيمان، فإنه يشفعه بالعمل ليتبين للناس خطورة الإيمان المتجرد الذي لا يعقبه عمل كريم نافع مشروع.
وقوله :( جنات ( من الفعل جن أي ستر وغطى، فالجنات مفردها الجنة وسميت بذلك لأنها تستر من يكون فيها ويستظل بظلها، ويشتق من ذلك أيضا الجن والجنة بكسر الجيم وهم خلق غير مشهود، وهم من غير بني البشر، وقد سموا بذلك لاستتارهم وأنهم لا يرون، وكذلك الجنين قد سمي بذلك لاستتاره داخل الرحم، ثم الجنون وهو استتار العقل بما يحول بينه وبين الوعي والإدراك، ويقال كذلك للترس " مجن " بكسر الميم، لأن صاحبه يتستر به ليقيه الضربات. ١
ولقد أعد الله للمؤمنين العاملين جنات عظيمة فسيحة وارفة بما لم يطرأ على قلب بشر ولم يتصوره إنسان، وذلك لفرط الهناء والحسن والروعة التي تظلل هذه الجنات والتي تنساب من بينها الأنهار الدائمة الجارية فتنشر من حولها البهجة والخير والحبور.
وقوله :( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ( أي كلما أعطوا من ثمار الجنة شيئا حسبوا أنه شبيه بما أعطوه في الدنيا فقالوا ذلك مثل الذي كان لنا من قبل في الدنيا، وذلك لتشابه الصنفين في الشكل واختلافهما في الجوهر والمذاق. ويوضح ذلك قوله تعالى :( وأتوا به متشابها ( الجملة مستأنفة متشابها حال من الضمير في ( به ( ٢ أي أن ثمار الجنة تشبه الحياة الدنيا من حيث الصورة والمظهر والمنظر لكن الصنفين مختلفان تمام الاختلاف من حيث الحقيقة والطعم، ولذلك فإن المؤمنين إذ يلجون الجنة ثم يرون ثمارها يحسبون لأول وهلة أن هذه الثمار شبيهة بتلك التي يعرفونها حال حياتهم في الأرض قبل الفناء.
ولعل هذا المفهوم المستنبط من هذه الآية يشي بحقيقة مفيدة وهي أن حال هذه الدنيا غير تلك الحال في الآخرة، وأن بينهما من حيث الحقيقة والجوهر والكيفية والمعنى بونا أكبر، وشتان شتان ما بين الدارين، وهما إن اتحدتا لدى الوصف وذلك من حيث الصورة والشكل فإن ذلك لا يتجاوز الاتحاد الذي تحتويه الكلمات وذلك على سبيل التقريب للذهن فقط. أمام الاثنتان من حيث الكيفية وحقيقة التكوين، ومن حيث الطابع والجوهر وحقيقة ما تجري، فإنهما من هذه المناحي متنائيان تنائيا غير محدود.
ومن باب التمثيل نقول : تتشابه الدنيا والآخرة بما فيها من نعيم وعذاب، أو حر وقر، أو عذب وملح أجاج، أو ظل وارف ظليل، وسموم حارق حرور، أو حزن ممض وسرور مبهج، وغير ذلك من معان متماثلة أو متنافرة فإن كلا منها في هذه الدنيا يختلف عنها في الدار الآخرة، والمعنيان إذا تشابها مثلما يتراءى للسامع من خلال الكلمة فإنهما متباعدان أشد التباعد من حيث الحقيقة والمعنى، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه التعويل، لأنه الأصل ولأنه الجوهر، وما عدا ذلك من مماثلة في الشكل والصورة فإن ذلك ما لا ينبغي التعويل عليه.
قوله :( ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ( وذلك من تمام الخير والنعيم الذي يمنن الله به على عباده الأبرار الذين كتب لهم الجنة، فإن لهم أزواجا طاهرات وهم جميعا في الجنة خالدون، وأزواج مفردها زوج، ويطلق ذلك على الرجل أو المرأة، فنقول امرأة زوج مثلما نقول رجل زوج، والزوج يعني الصنف الذي له نظير أو نقيض. ٣
والمؤمنون العاملون يكتمل لهم الخير والنعيم في الجنة إذ يجدون لهم فيها أزواجا ( مطهرة ( وطهارتهن تتجلى في أوصاف شتى من طهارة البدن من خبث الحيض أو النفاس أو البول أو الغائط أو البصاق كما أورد أكثر المفسرين، أو أن طهارتهن تتسع لتشمل فيهن طابع النفس والروح معا، فهن بذلك كريمات تقيات طواهر لا يعرفن معنى الدنس ولا تجنح إليه نفوسهن فهن المبرآت العفائف.
قوله :( وهم فيها خالدون ( يعود الضمير على الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين امتن الله عليهم بالجنة والزوجات الطاهرات، فإن ذلك كله من تفضل الله وامتنانه على عباده أن أنعم عليهم بالنعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يتحول. ٤
١ مختار الصحاح ص ١١٤..
٢ الدر المصون جـ ١ ص ٢١٨..
٣ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٧٧..
٤ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٥-٦٢ وفتح القدير جـ ١ ص ٥٢-٥٦ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٣١-٢٤١..
قوله تعالى :( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (.
لما ضرب الله للمنافقين المثلين السابقين وهما :( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( ثم ( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ( قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية، ( إن الله لا يستحي ( فقد بادروا بالتافه من القول على سبيل الهزء والاستخفاف بكلام الله سبحانه وهذان هزء واستخفاف تتقيأهما حناجر الذين لا يدركون مقاصد الكلم الفذ، وهي مقاصد لا جرم أن تستنهض في الذهن جدية التبصر والتفكير، لكن هؤلاء الجهلة المستخفين لا يعون من الأمور والأشياء إلا ما يتراءى لهم على السطوح دون ما تدبر متمكن سابر، وهم كذلك قد خفي عن إدراكاتهم وتصوراتهم المتبلدة أن هذه الأمثال وغيرها لا ترد في القرآن عبثا ولا هي من قبل الكلمات التي تحفل بها السطور. هي أمثال تعرض للمعاني على شاكلة مرغوبة مثيرة تعين على الكشف عن مقاصد القرآن ومكتوباته التي تنقضي.
وقوله :( إن الله لا يستحي ( لفظ الجلالة : اسم إن منصوب، والجملة الفعلية المنفية بعده في محل رفع خبر إن، ويستحي من الاستحياء وهو بالنسبة لبني البشر معلوم، لكنه بالنسبة لله ينبغي تأويله بما يتلاءم وجلاله سبحانه، ولعل خير ما يرد من تأويل لمعنى الاستحياء هنا بأنه الامتناع أو الاستكفاف، وقيل : معناه الخشية، ويترجح القول الأول، وبذلك يكون معنى الآية على هذا الأساس : إن الله لا يستنكف أن يضرب مثلا من البعوضة ونحوها أو دون ذلك.
وقيل في إعراب ( مثلا ( مفعول به منصوب، و ( ما ( زائدة، و ( بعوضة ( بدل من ( مثلا ( وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب مع أن الأول هو الراجح والله أعلم.
وقوله :( فما فوقها ( الفاء بمعنى الى وتحتمل الفوقية هنا معنيين : أحدهما الدون، أي الأصغر والأشد حقارة.
وثانيهما : الكبر، أي يضرب مثلا بالبعوضة وبما أكبر منها.
وقوله :( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ( ذلك إطراء للمؤمنين وثناء عليهم لسرعة تصديقهم بما يتنزل من السماء بوساطة الوحي، يستوي في ذلك الأمثال والآيات والأخبار، فهم بذلك يعلمون في يقين أن المثل المضروب في الآية لهو مثل حق جدير بإعمال الفكر وتركيز النظر من أجل الخلوص إلى معطيات شتى منها الربط والتقريب، ومنها الكشف والتيسير بما يمكن الإنسان الحريص من الوعي والاستفادة.
ولدى الكتابة في هذه المسألة نشهد في تثبت مستيقن أن هذا المثل حق من الله وأنه ليس من العبث أو اللغو في شيء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل إن الله يضرب الأمثال الكثيرة لكي يتدبر الناس ويتبصروا وليكون لهم من ذلك ما يحمل أذهانهم على الوعي والإدراك وما يحمل قلوبهم وطبائعهم على الإيمان والاستيقان.
والحق خلاف الباطل وهو مصدر للفعل الماضي حق بمعنى وجب وثبت، فالحق هو الوجوب والتثبت واليقين، وتلك أمور لا يخالطها شك أو باطل.
قوله :( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا (.
الذين، اسم موصول في محل رفع مبتدأ والجملة الفعلية ( فيقولون ( وما بعدها خبر، والجملة من مقول القول في محل نصب مفعول به للفعل فيقولون.
ويتساءل الكافرون في جحود ونكر عن الذي يريده الله من ضربه لهذا المثل، وهو تساؤل سقيم وظالم يضيف إلى سجل الكفرة والمشركين مزيدا من الجهالات والضلالات التي تكشف عن عقول قد سميت العطب فلم تعد تقتدر على الاستفادة والاستبصار.
وقوله :( ماذا ( جاء في إعرابها أكثر من قول : فقد ذهب بعضهم إلى أنها تشكل جملة اسمية من مبتدأ وخبر أي أن ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وذا معناه الذي في محل رفع خبر مبتدأ، وقيل : إن ( ماذا ( بمنزلة اسم واحد يفيد الاستفهام وهو في محل نصب مفعول به للفعل أراد، وقوله ( مثلا ( منصوب على التمييز. ١
قوله :( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ( الضلال معناه في اللغة الضياع، والإضلال التضييع، والإنسان الضال هو الشخص الضائع الذي يسير على غير بصيرة أو هدى، أما الهدى فهو يعني البيان أي الوضوح المتكشف المستبين.
وسبيل الهدى هي التي تتصف بالاعتدال والاستقامة كي يتيسر فيها المسير بغير تعثر. وأما المقصود الذي يعود إليه الضمير في قوله :( به ( فهو المثل المضروب الذي سخر منه المنافقون وأهل الكتاب يحفزهم إلى ذلك الغباء المطبق والحماقة الكبيرة.
ولا يسخر من ذلك المثل الرباني المضروب إلا من كان في علم الله الأزلي ضالا، وكثيرون هم الذين يميلون عن صراط الله والذين تجنح قلوبهم وعقولهم نحو الخطأ من التصور فيحتسبون في علم الله مجرمين ضالين، وفي المقابل هؤلاء الجانحين إلى الهاوية يقف فريق المؤمنين الصادقين الذين استروحت أنفسهم مذاق العقيدة والإيمان والذين أخبتت قلوبهم ومشاعرهم لأمر الله إخباتا.
قوله :( وما يضل به إلا الفاسقين ( من الفسق وهو الخروج، سميت الفأرة فويسقة، وذلك لخروجها كي تعبث وتؤذي، والفاسقين منصوب على المفعولية للفعل يضل وفي الآية تبين لهذا الفريق الضال من الناس لما جحدوا الأمثال المضروبة الكريمة التي عرض لها القرآن من بين آياته، وهي أمثال ربانية تتوارد في سياق القرآن لمعاني وأغراض توضيحية تتعامى عنها أبصار الذين أضلهم الله على علم، وأولئك هم الفاسقون الذين خرجوا من ظل الرحمن ليلجوا طائعين حومة الشيطان.
١ البيان للأنباري جـ ١ ص ٦٧..
قوله :( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ( الذين اسم موصول نعت للفاسقين، والنقض معناه الهدم والإبطال، والميثاق هو العهد وجمعه مواثيق ومنه الوثاق ويعني القيد أو الحبل ونحو ذلك، فهؤلاء الفاسقون يهدمون عهدهم عهدهم مع الله من بعد إحكامه وتثبيته، قيل : إنهم أهل الكتاب فقد كانوا مكلفين تكليفا ربانيا من خلال كتبهم المنزلة عليهم أن يؤمنوا بمحمد النبي صلى الله عليه وسلم حال مجيئه وقد ألقوا ذلك مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، كانوا قد عاهدوا الله على ذلك من قبل، وألزموا أنفسهم بالإيمان بهذا النبي إذا بعث، لكنهم كذبوه وناصبوه الحرب والعداء فخالفوا بذلك عن أمر ربهم وأخلفوا موعدهم الذي قطعوه على أنفسهم.
وثمة قول ثان وهو أن الآية تشمل جميع الكافرين من مشركين وأهل كتاب أو غيرهم الذين كلفوا بالطاعة فعصوا، مثلما كلفوا بمجانبة المعاصي ومحارم الله، ثم أتوا ذلك كله فهؤلاء جميعا قد نقضوا عهدهم مع الله بعد أن كان هذا العهد متوثقا، قوله :( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( خير ما قيل في ذلك من تفسير : أن هؤلاء الفاسقين الناقضين لعهدهم مع الله لم يأتمروا بأوامر الله التي تحل الحلال وتحرم الحرام، وذلك ما أمر الله به أن يوصل، وقيل أيضا : إن المقصود بقطع ما أمر الله به أن يوصل هي الأرحام، فقد قطعها هؤلاء ولم يصلوها، والراجح القول الأول، فهو أشد ملاءمة للسياق والمعنى، فإنه من البعيد أن يطلب من الفاسقين الخارجين عن دين الله أن يصلوا الأرحام، وهذه مسألة فرعية- مع أنهم يكذبون بالدين ويجحدون نبوة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
قوله :( ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ( الإفساد في الأرض يشمل كل ألوان المعصية والإثم، وكل ما يقارفه العصاة من مخالفات عن أمر الله بما يتضمن الشرك وهو غاية الإفساد في الأرض، وغير ذلك من وجوه التمرد على شريعة الله، ولا جرم أن هؤلاء هم الخاسرون، وذلك من الخسارة وهي تعني الهلاك أو النقص، أما الهلاك : فإنه محيط بهؤلاء الذين يجنحون للمحظورات والخطايا، فإنهم آيلون إلى السقوط في عذاب الله، وأما النقص : فإنهم ناقصوا الحظ والمنزلة بما يسوقهم في النهاية إلى التدمير في هذه الدنيا ثم إلى السعير في الآخرة.
أما إعراب قوله تعالى :( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ( يتضمن السؤال في قوله ( كيف ( توبيخا للكافرين وتقريعا لهم جزاء كفرهم بالله، أما الكفر بالله المذكور في هذه الآية فهو يشمل النكران لوجوده سبحانه، وكذلك الجحود لأنعمه والجنوح عن صراطه إلى المحارم والموبقات، فليس بالضرورة أن يكون الكافر منكرا لوجود الله، مع أن ذلك يشكل غاية الكفران والجحد، وإنما يكون كافرا من عرف الله ومال عن صراطه ودينه، واتبع شرائع البشر أيا كانت هذه الشرائع لما يتصوره هذا المائل الجاحد أن شرائع الإسلام لا تصلح، أو نحو ذلك من وجوه الكفر، فإن معرفة الله متجردة وحدها لا تغني صاحبها شيئا إذا لم تقترن هذه المعرفة باليقين القاطع بصدق شريعة الله وبصلوحها للعالمين مع الإعراض عن الخطايا والموبقات والمحظورات.
قوله :( وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ( ورد في بيان هذا الجزء من الآية جملة أقوال لعل أصولها : أن يكون المقصود هو الأمانة مرتين والإحياء مرتين، أما الموتة الأولى : فهي حين كان الناس غير مخلوقين بعد، فإن أي إنسان من قبل أن يخلق لهو في عداد الموتى الذين لا يملكون حياة ولا انتشارا ولا تأثيرا، قال سبحانه في مثل هذا المعنى :( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( وقوله كذلك في آية أخرى :( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( هذه هي الموتة الأولى.
أما الموتة الثانية فهي معلومة ذاتها التي تحيق بالإنسان بعد حياة فإذا هو ميت وهي عاقبة محتومة سيفضي إليها كل كائن، طال الأجل أم قصر، ( إنك ميت وإنهم ميتون ( فتلكما موتتان.
أما الإحياء مرتين، فإن أولاهما : هذه التي يحياها الإنسان بعد أن يخلق ليدب على الأرض كادحا فترة من زمان إلى أن يقضي، وبعدها يظل برفاته حبيس الرمس راكدا لا يريم إلى فترة لا يدري سوى الله كم من السنين تبلغ، وبعدها بأذن الله للساعة أن تقوم، ليبعث الموتى من قبورهم إلى حيث النشر والحساب.
وثانيهما : تلك التي يكون عليها الإنسان بعد بعثه من قبره ليعود حيا على التمام وليلاقي حظه الحساب المسطور.
فتلكما موتتان : وذلكما إحياءان اثنان، وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين (.
وقوله :( ثم إليه ترجعون ( بعد الإحياء الثاني الذي يعقب الموت يساق الناس إلى الله ليروا أعمالهم، وأصدق ما يجيء في هذا الصدد قوله سبحانه في سورة الزلزلة التي تزلزل لوقعها وشدة تأثيرها النفوس والمشاعر والأبدان وهي تتصور فداحة الموقف العصيب الرهيب في يوم مجلجل مشهود :( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (.
قوله :( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ( الله جل جلاله قد أنشأ الأرض وما فيها من العدم، إذ لا يتصف شيء في الحياة أو الوجود بالأزلية، وتلك صفة أساسية وكبرى ليست لغير الله الخالق المبدع الذي أوجد الحياة والكائنات والأشياء، أوجد الأرض وما عليها وما في باطنها من خلائق كثيرة كالمياه والمعادن وأصناف الأتربة.
وفي قوله :( لكم ( تذكير بالمنة من الله على الناس، فقد أوجد لهم الأرض بما يركم في جوفها وعلى متنها من أسباب الحياة والعيش الآمن الميسور وذلك كالهواء والغذاء والماء وغير ذلك من خليقة مبثوثة في كل مناحي الأرض مما يحقق للإنسان عيشه الآمن.
قوله :( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ( الكلمة ( ثم ( تتعلق بالخلق لا بالإرادة أي تفيد الترتيب من حيث الإنشاء والإبداع لا من حيث الإرادة المقترنة بعلم الله الأزلي.
ذلك أن إرادة الله القاضية بخلق الأشياء لم تأت على مراحل فإن ذلك لا يتحقق إلا بالنسبة للخلق والإيجاد، أما إرادة الله القاضية بالخلق فإنها قديمة قدم الذات العلية نفسها. والله سبحانه من صفاته الإرادة فلم تكن هذه لتأتي على مراحل تعالى الله ذلك.
وقوله :( استوى إلى السماء ( فإن أقوال المفسرين تكاد تجمع على أن ( استوى ( بمعنى قصد، فبعد أن خلق الله الأرض قصد إلى السماء ليخلقها، وقيل :( استوى إلى السماء ( أي صعد إليها، والقول الأول هو الراجح والله أعلم.
على أن ظاهر الآية يفيد أن خلق الأرض كان سابقا لخلق السماء، يعزز ذلك قوله تعالى :( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداد ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض اثنيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين(.
واستدل آخرون على أن خلق السماء كان أسبق من خلق الأرض بقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء :( والأرض بعد ذلك دحاها( لكن التأويل المناسب لمدلول النصين خروجا من التعارض بينهما هو أن الأرض إذ خلقت قبل السماء لم يكن خلقها على الشكل الأولى الذي تصلح معه الحياة، بل كان ذلك على سبيل الإيجاد البدائي المجرد أو التخليق الذي لم يكن متبلورا بعد، وإنما حصل التبلور والاكتمال في خلق الأرض بما تصلح معه للحياة بعد أن خلقت السماء، ويمكن إدراك هذا المعنى من المفهوم الوارد في الآية، فدحي الأرض يعني جعلها صالحة للحياة والعيش بإيجاد الأسباب لذلك من إخراج للمياه، وإنبات للزرع والشجر، وإيجاد للهواء وغير ذلك مما ييسر للخلائق أن تعيش.
قوله :( فسواهن سبع سماوات ( أي جعلهن وصيرهن سبع سماوات، والفعل سواهن من الاستواء وهو الاعتدال والاستقامة، وبذلك فإنه يقهم من ظاهر العبارة أن الله خلق السماوات السبع على نحو سوي معتدل ليس فيه اعوجاج أو خلل، بل خلق متوازن مترابط لا يعتوره أدنى ضعف أو تعارض أو فوضى، يقول سبحانه في كلمات كريمة أخرى :( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (.
قوله :( وهو بكل شيء عليم ( ( هو ( ضمير في محل رفع مبتدأ، وخبره ( عليم ( وذلك تعظيم لقدر الله، وإظهار لشأنه الأجل وعلمه الذي وسع كل شيء فهو سبحانه محيط علمه بالأشياء والحوادث جميعا وعالم بالأسرار والخفايا والأستار والخبايا وبكل ما استكن في هذا الوجود. ١
١ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٦٣-٦٨ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٤١-٢٦١..
قوله تعالى :( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لم قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنت صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( إذ ظرف زمان يفيد الإخبار عن المستقبل، وقال أكثر المغربين، إنه مفعول به فهم يقدرون : اذكر وقت كذا. ١
والملائكة مفردها ملك وهو مشتق من الألوك وقيل من المألك وهي تعني الرسالة، وأصل ملك ملأك ثم نقلت حركة الهمزة إلى الام فسقطت، وقيل في لفظ ملك أنه مشتق من الفعل أنك بمعنى أرسل، وقيل غير ذلك وعلى العموم فإن الملائكة من حيث المفهوم اللغوي تعنى الرسل. ٢
وفي الآية إخبار من الله عن خطابه للملائكة بأنه خالق في الأرض ( خليفة ( جاء في معناها عدة أقوال منها أنه يخلق من كان قبله من الملائكة أو غير الملائكة.
وقيل : بل سمي خليفة لأن نسله وذريته يعقب بعضهم بعضا على هيئة أمم وأجيال، وثمة قول ثالث جدير بالاهتمام وهو أن آدم خليفة الله في إمضاء أحكامه وتنفيذ أمره وشرعه، فالله سبحانه هو الآمر الموجب، وهو سبحانه شارع الدين لعباده بما في الدين من أصول وكليات وما يتفرع عن ذلك من فروع وتفصيلات، وذلك كله بتقدير الله وأمره الذي ينبغي للناس أن يمتثلوه دون تقصير أو تخلف، ومن بعد ذلك يأتي دور الإنسان وهو دور كبير حقا، يتجسد في اضطلاع هذا الإنسان الخليفة بتطبيق شرع الله كاملا غير منقوص وباتخاذ كل ما يلزم من أسباب إجرائية أو وقائية أو غير ذلك من أسباب وذلك لإجراء شرع الله على العباد.
والإنسان " الخليفة " لهو كائن عظيم القدر في تصور الإسلام، وهو كذلك بالغ الشأن وكبير الاعتبار في ميزان الله، وهو لا يعدله في شأنه واعتباره أي كائن آخر إذا ما كان ( الإنسان ) على صراط الله ويمضي في الحياة على بصيرة من منهج الله الكبير، أو كان من المؤمنين الأوفياء الذين صدقوا الله المقاصد والنوايا، واستمسكوا بعقيدة الإسلام تعمر قلوبهم بالأمن والرضا، ذلك هو الإنسان " الخليفة " الذي يمشي على الأرض ذاكرا لآلاء الله شاكرا لأنعمه، لا يند عن صراطه وشرعه ولو احتمل معطاء وباعثا للخير له ولمن حوله من الناس حتى البهائم والأنعام ينظر إليها بعين الرعاية والحدب والرحمة.
ذلك هو الإنسان " الخليفة " الذي يحمل في الأرض أفدح أمانة قد عجزت دون حملها السماوات والأرض والجبال، وتلك هي أمانة العقيدة التي يطويها القلب في شغافه وحناياه لينطلق في ضوئها عاملا كادحا باذلا لا يتوانى عن أداء الخير والفريضة والمعروف، ولا يثني عن وجيبة التبليغ للناس في شجاعة وحماسة وإحساس بفريضة الجهاد يؤديها العبد المؤمن دون تهيب أو فرق ودون ضعف أو جل أو خجل.
والإنسان وهو على هذه الشاكلة من الإيمان والعمل ومن البذل والاستقامة والصبر، لهو ذو شأن عظيم من حيث المنزلة، وهو الكائن المكرم المفضل الذي يسمو على الكائنات جميعا والذي يرصد له الله من العناية والصيانة والتشريع ما يرقى به رقيا عظيما، وليس لأحد بعد ذلك أن يعتدي على هذا الإنسان " الخليفة " كيفما كان الاعتداء، فإنه لا يعتدي عليه إلا جانف هالك، وأصدق ما يرد في هذا الصدد، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) ٣ ويقول في حديث آخر يطير منه القلب هلعا رعبا :( لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار ) ٤ وفي الحديث القدسي :( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذ بي لأعذته ).
وقوله :( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( لا تتصور أن مثل هذا السؤال من الملائكة يرد على وجه الاعتراض أو الاستنكار وهم العباد الأبرار المقربون الذين ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( ولكنه يرد على سبيل التعرف والاستفهام، على أن ظاهر الآية يدل على علم الملائكة بما ستؤول إليه حال البشر لدى وجودهم في هذه الدنيا، فلسوف يكون ثمة إفساد وسفك للدماء وغير ذلك من وجوه المعاصي والمفاسد والآثام وما يتفرع عن ذلك من قضايا ومشكلات تجرجر المتاعب والشدائد ونسبب الهموم والبلايا.
أما سبب إدراك الملائكة لهذه الحقيقة من الإفساد وسفك الدماء : فلعل ذلك لعلم قد علموه من الله بوجه من الوجوه كالإلهام أو غيره، فهم لا يعلمون الغيب، لكنهم أعلموا أن بني آدم لو جاءوا الى هذه الأرض فسوف يكثر الفساد، وتنتشر الآثام والمعاصي، ويقع القتل والجور وسفك الدماء بغير حق، وقد جاء في تعليل معرفة الملائكة كذلك أنهم قد أدركوا هذه الحقيقة من خلال اللفظة القرآنية التي واجههم بها الله وهي ( خليفة ( فعرفوا بما أوتوه من نباهة وعميق إدراك أن الخلافة مناط القضاء والفصل بين العباد، وفي ذلك من المنازعات والخصومات ما يقود في الغالب إلى المحظورات والخطايا والمعاصي، وقيل غير ذلك من تأويلات والله أعلم بالصواب.
ويستفاد من قوله تعالى :( جاعل في الأرض خليفة ( وجوب نصب إمام أو خليفة للمسلمين يسمعون له ويطيعون، لتجتمع به كلمتهم وينفذ فيهم أحكام الشريعة فيفصل بين الناس فيما يعرض لهم من خلافات ومنازعات فينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم فيهم حدود الله بما يزجرهم عن فعل الفواحش والمنكرات إلى غير ذلك مما لا يمكن إقامته أو تنفيذه إلا بالإمام المسلم العادل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما طريقة اختيار الخليفة للمسلمين فأوسط ذلك وأعدله أن يجتمع أهل الحل والعقد – وهم فئة العلماء في المسلمين – فينظروا أكثر الناس صلاحا لحمل هذه الأمانة الكؤود، لينصبوه إماما للمسلمين، فإذا رضي من نصبوه لذلك بحمل أمانة الخلافة بايعه أهل الحل والعقد، ثم بادره المسلمون جميعا بالبيعة بعد أن يعرض على مسامع الناس برامجه وخططه في سياسة البلاد ورعاية شؤون المسلمين.
أما الواجبات المنوطة بالإمام والتي يضطلع بمراعاتها وتنفيذها دون لين أو تردد فقد ذكرها الماوردي بما نوجزها هنا إيجازا وهي عشرة أشياء.
الأول : حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث : حماية البيضة٥ والذب عن الحريم٦ لينصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع : إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون منها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
السادس : جهاد من عائد الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله في إظهاره على الدين كله.
السابع : جناية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
الثامن : تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع : استكفاء الأمناء٧ وتقليد النصحاء٨ فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال.
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض٩ تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين وبغش الناصح١٠.
ويشترط في الإمام كيما تناط به وجيبة الإمامة جملة شروط هي :
أولا : الإسلام فلا يجوز بحال أن تناط إمامة المسلمين بغير مسلم، وكيف يعقل أن يكون حاكم المسلمين على غير ملتهم ثم يسوسهم بشريعة الله التي يجحدها ويستدل على ذلك بقوله تعالى :( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( وهذا يدل بظاهره على أن الذي يلي أمور المسلمين هو أحدهم وعلى ملتهم.
ثانيا : الذكورة فإنه لا يكون حاكم المسلمين إلا واحدا من الرجال، ولا يجوز أن تناط إمامة المسلمين أو ولايتهم بامرأة لقوله عليه الصلاة والسلام، " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". ١١
أما وجه ذلك من المعقول : فهو أن وجيبة الخلافة أو الولاية ثقيلة وصعبة وكؤود إنها وجيبة لا يقوى على احتمالها غير الصناديد النوادر من الرجال أولي العزم والحزم والبأس، لا جرم أن الإمامة أو الولاية لا يطيقها الناس برمتهم أو جلتهم، وذلك بالنظر لفداحة هذه المهمة الخطرة التي تضطرب لها عزائم الرجال وهممهم فهي لا يصلح لها من الناس إلا من كان لا يلين ولا يضطرب ولا يتعثر لدى مواجهة الملمات والنوائب، وذلك – لعمر الحق- عمل فادح ومزلزل لا يطيقه إلا من أوتي حظا هائلا من قوة الإرادة والصبر، وشدة العزيمة والبأس فضلا عن أوصاف أخريات في العلم والحلم والخلق، لا جرم أن ذلك مما تنكص دون بلوغه النساء اللواتي جبلن على الرقة والعاطفة واللين تمشيا مع طبيعة الأنوثة التي لا تطيق مثل هذه الوجيبة الشاقة العسيرة، أما توليها لوظيفة القضاء فلا يجوز كذلك، وهو قول أكثر العلماء خلافا للحنفية إذ قالوا بجواز تقلدها القضاء، فلها أن تقضي في عامة الأمور باستثناء الدماء والحدود.
ثالثا : العدالة وهي ضد الفسق، ويراد بها الاعتدال في الأحوال الدينية، وبيان ذلك اجتناب الكبائر والمحافظة على المروءة بترك الصغائر، وأن يكون الإمام ظاهر الأمانة غير مغفل.
وقال ابن حزم في صفة الإمام : إن يكون مجتنبا للكبائر مستترا بالصغائر. ١٢
رابعا : العلم الذي يكون بمقتضاه مجتهدا في مختلف النوازل والأحكام قال القرطبي في ذلك : أن يكون ( الإمام ) ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث.
خامسا : السلامة من العيوب وذلك كالعيوب البدنية، كما لو كان فاقدا أرجليه أو إحداهما، أوز كان فاقدا ليديه أو إحداهما أو كان ضريرا لا يبصر، أو أصم لا يسمع، أو كان أخرس لا ينطق، فتلك عيوب لا يستطيع المرء معها من تولي أمر الناس، فالذي تناط به وجيبة الإمامة ينبغي أن يكون على غاية من النشاط والحركة وتمام اليقظة والحذر وبالغ الاهتمام واليقظة والحرص، وتمام القدرة على الإقناع وفض النزاعات والخصومات.
وكذلك العيوب العقلية، كالجنون والعته والصرع وانفصام الشخصية، واضطراب الأعصاب المستديم إلى غير ذلك من الأمراض المزمنة والخطيرة التي تحول بين المصاب بها وبين تولي أمور المسلمين. ١٣
سادسا : أن يكون الإمام من قريش إلا أن يطرأ زمان فلا يكون في قريش إمام مناسب تتوفر فيه شروط الإمام العادل الصالح، وحينئذ لا
١ الدر المصون جـ ١ ص ٢٤٧..
٢ البيان للأنباري جـ ١ ص ٧٠..
٣ رواد الترمذي والنسائي عن ابن عمرو انظر الجامع الصغير للسيوطي جـ ٢ ص ٤٠٣..
٤ روى مثله الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة انظر الجامع الصغير جـ ١ ص ٤٢٦..
٥ البيضة : الساحة والحوزة استباح بيضتهم، أي أصلهم ومجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم وبيضة الإسلام جماعتهم وبيضة الدار وسطها، انظر تاج العروس للزبيدي جـ ٥ ص ١١..
٦ الحريم : وفعله حرم ومنه الإحرام والمحرم، وسميت بذلك الأشهر الحرم ومنه الحرمة وهس ما لا يحل انتهاكه وتأتي بمعنى الذمة والمهانة وتجمع على الحرمات يقول سبحانه : ومن يعظم حرمات الله أي يجتنب معاصيه ومحارمه فالحريم أو الحرمة أو الحرمات هي حدود الله التي لا يجوز تعديها انظر مختار الصحاح ص ١٣٢ والمعجم المحيط جـ ٤ ص ٩٥..
٧ استكفاء الأمناء : أي طلب الأكفاء من الناس ليستأمنوا على شؤون الرعية..
٨ تقليد النصحاء أي تعيين العاملين المخلصين ليضطلعوا بإدارة شؤون المسلمين..
٩ التفويض معناه أن يناط بالإمام تعيين الولاة والأمراء وتفويضهم بتصريف شؤون المسلمين.
١٠ الأحكام السلطانية للماوردي ص ١٥-١٦..
١١ رواه النسائي وروى البخاري نحوه انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ ٣ ص ١٩٧..
١٢ المحلى لابن حزم جـ ٩ ص ٣٦٢..
١٣ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٧٠ انظر بدائع الصنائع المكاساني جـ ٧ ص ٣ وشرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج ٧ ص ٢٥٣..
قوله :( وعلم آدم الأسماء كلها ( آدم من الأديم وهو وجه الأرض حيث التراب أو الطين الذي خلق منه أبو البشر، وثمة أقوال أخرى للعلماء في أصل هذه الكلمة، وذلك كقوله تعالى :( إني خالق بشرا من طين ( وقوله :( خلق الإنسان من صلصل كالفخار ( وقوله :( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (.
أما تعليم آدم الأسماء كلها فإن ذلك موضع خلاف بين العلماء والمفسرين في ماهية هذه الأسماء وفي حقيقتها، ولعل أصوب هذه الأقوال هو أن الله جلت قدرته قد علم آدم الأسماء التي يتعارف بها الناس مثل : إنسان وأنعام وأرض وسماء وبحر وبر وسهل وجبل وماء وتراب وطعام وهواء وزرع وثمر وذكر وأنثى وخير وشر وصدق وعدل وغير ذلك مما عرفته البشرية، ذلك هو القول الذي يمكن الركون إليه وترجيحه وإن كان قد ورد غير ذلك في المقصود من الأسماء والله أعلم.
قوله :( ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ( عرض الله المسميات على الملائكة وطلب منهم أن يكشفوا عن أسماء هذه المسميات، وذلك على سبيل الامتحان لهم، كيما يعلموا فيما بعد أن هناك من خلائق الله من هم أعلم منهم أو من هم أعظم منهم درجة وهؤلاء هم النبيئون وذلك على القول الذي يذهب الى تفضيل النبيين على الملائكة.
وقوله :( إن كنتم صادقين ( وذلك في زعمكم أنه لم يخلق أحد يبعد أعلم منكم، وفي قول آخر لابن عباس : إن كنتم صادقين في قولكم إن آدم وذريته سوف يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
قوله :( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( بادر الملائكة الأطهار توا بتنزيه الله جل وعلا على أن يحيط أحد بشيء من علمه أو أن يقف أحد من الناس على جزء من علم الله غير العلم الذي أذن به الله لهم.
قوله :( إنك أنت العليم الحكيم ( ذلك تأكيد منهم على أن الله تباركت أسماؤه عليم بالحقائق جميعها مما هو كائن أو ما سيكون وهو كذلك عليم بما يعلمه الناس وما لا يعلمونه، وكذلك فإن الله سبحانه حكيم في قضائه وتصريفه لشؤون الحياة والخلائق، ولا يصدر شيء من ذلك إلا حكمته البابلغة المطلقة.
قوله :( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم( أمر الله في ذلك آدم أن يدل الملائكة على أسمائهم أنفسهم وعلى أسماء الأشياء على اختلافها وتعددها، وذلك ليعلموا أن آدم لذو شأن عظيم ولسوف يكون من نسله أناسي كرام وأفراد أفذاذ يقفون على القمة الرفيعة من السداد والاستقامة والفصل.
وقوله :( فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( كان إنباء آدم للملائكة عن أسمائهم وأسماء الأشياء المختلفة الأخرى، مبعث إعجاب الملائكة أنفسهم لهذا الكائن العظيم الجديد الذي ما كانوا يعرفونه من قبل حق المعرفة إلى أن كشف الله لهم عن شأنه واعتباره حتى سألهم الله :( ألم أقل لكم إني... ( أي ألم أكن قد بينت لكم من قبل أني أعلم بالغيب، غيب السماوات والأرض، وأن شيئا فيهما لا يخفى على أمره وأن ما سيقع من أمور وأحداث بدءا بالهيئات منها حتى الجسام الفوادح فإني علام بذلك كله، وكذلك فإني عليم بما تظهرونه من أقوال وأمور وقضايا، وعليم كذلك بما تبطنونه من أخبار وأسرار تظل خبيئة النفوس والنوايا، وقيل في معنى هذا الشطر من الآية : إن الله عليم بحقيقة ما أبدوه وهو قولهم :( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( وأن مآل هذا القول ليس كما تحسبه الملائكة أو تتصوره، أما الشطر الأخير من الآية وهو ( وما كنتم تكتمون ( أي أن الله عليم بما كانت الملائكة تتصوره وهو أن الله سبحانه لن يخلق أحدا أعلم منهم أو أعظم منهم فضلا، وقيل غير ذلك والله جل وعلا أدرى وأعلم.
قوله تعالى :( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (
إذ ظرف زمان في محل نصب، قلنا جملة فعلية تتألف من الفعل ثم الفاعل وهو الضمير نا، وفي الآية بيان عن أمر الله للملائكة أن يسجدوا لآدم لكي يرسي في أذهانهم حقيقة هذا الكائن العظيم الذي سيكون له ولذريته شأن جليل وبالغ الأهمية، وقيل الخوض في معنى السجود الوارد في هذه الآية فإننا نؤثر أن نؤكد على أن السجود وهو قمة الخضوع والامتثال أصلا لا يكون إلا لله وحده. وعلى ذلك فإن السجود لآدم ليس من باب العبادة، ولكنه يقتضي تفصيلا نوضحه في الفقرات الآتية :
فقد اختلفت كلمة أهل العلم في حقيقة السجود الذي مارسته الملائكة لدى الطلب منهم بأداء ذلك، ولعل القولين التاليين هما اللذان يعول عليهما لدى التدقيق في هذه المسألة.
أما القول الأول : فهو أن السجود لآدم كان على النحو الذي حدده الشرع والعرف وهو وضع الجباه على الأرض، وذلك الذي يناسب ظاهر اللفظ في الآية الكريمة، وهو أقل إغراقا في التأويل الذي قد يحمل على التكلف، لكن ينبغي التركيز على الحقيقة الأساسية وهي أنه ليس المقصود من السجود العبادة، فإن العبادة لا تكون لأحد سوى الله، وعلى ذلك يمكن تفسير قوله :( اسجدوا لآدم ( أن يكون السجود أمامه ليكون كالقبلة للمصلي، فالمسلمون في صلاتهم يتوجهون صوب الكعبة، فهم بذلك يسجدون إليها أي صوبها أو شطرها لا لها أو من أجلها وذلك كله على سبيل التكريم لآدم والتعظيم ولتعلم الملائكة أي كائن هذا الذي يقفون أمامه احتراما وإجلالا أو أنه كائن ذو شأن مقدور ومسطور في علم الله القديم، وسيكون من ذريته من أطهار النبيين والصديقين والمتقين ما يخلب اللب خلبا.
وأما القول الثاني : فهو أن السجود ليس على هيئته المعروفة من الانحناء ووضع الجبهة على الأرض مثلما هو مبين في الشرع، وإنما المقصود بالسجود الذي أدته الملائكة هو التذلل والانقياد، وذلك الذي ينسجم مع المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، فكأن الأمر من الله للملائكة في أن يخضعوا لآدم وأن يقفوا أمامه في تطامن وإجلال إقرارا منهم له بالفضل، هذان القولان خير ما ورد في تجلية حقيقة السجود، وهما قولان لا جرم أن يكونا موضع تقدير الباحث المتدبر، مع أن أقوالا أخرى للعلماء في هذا الصدد لا نجد حاجة لطرحها ومناقشتها.
قوله :( فسجدوا إلا إبليس ( امتثلت الملائكة لأمر الله سراعا فخروا ساجدين غير إبليس الذي أبى أن يمتثل للأمر، وإبليس من الإبلاس وهو الأس، والفعل أبلس بمعنى أيس الرجل أي افتقد الأمل والرجاء ثم اسم الفاعل مبلس وهم الآيس، وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى :( فإذا هم مبلسون ( وقيل أن هذا الاسم لا ينصرف لأنه أعجمي. ١
على أن إبليس من حيث أصله يعتبر مسألة أثارت بين العلماء خلافا يمكن أن نعرض له هنا في إجمال، فقد ذهبت جمهرة كبيرة من العلماء إلى أن إبليس واحد من الملائكة، وذلك ما يوحي به ظاهر الآية، وعلى هذا يكون الاستثناء هنا متصلا لكن فريقا آخر من العلماء قد ذهبوا إلى أنه لم يكن الملائكة، وأنه من الجن فيكون الاستثناء بذلك منقطعا، أي أن المستثنى – وهو إبليس- ليس من جنس المستثنى منه وهم الملائكة واستدل هؤلاء على ذلك بأن الملك دائم الطاعة والتقوى لله، وأنه لا يعصي له أمرا كلفه به، وفي ذلك يقول سبحانه عن الملائكة ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( وثمة نص قرآني آخر يزجي بالدلالة الواضحة الجلية على أن إبليس ما كان من الملائكة وهو قوله سبحانه :( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ( وذلك تبيين لحقيقة إبليس وأنه من حيث أصله كان من الجن وهؤلاء صنف من الخليفة التي لا تشبه الملائكة أو البشر وذلك لتحليقهم أصلا من جنس النار، ( وخلق اللجان من مارج من نار ( ذلك ما ورد في أصل إبليس وإن كنا نرجح القول الثاني وهو أنه من غير الملائكة والله سبحانه أعلم.
وقوله :( أبى واستكبر وكان من الكافرين ( امتنع إبليس من السجود وتولى عن أمر الله مستكبرا بعد أن أغواه إحساسه بالعظمة والكبر، وذلك داء خطير يعصف بالمخلوق ويزين له كل ضروب المعصية والفسق عن أمر الله، الى أن يودي به أخيرا في الهاوية والسقوط في الأذلين ومع الكافرين الذين يجحدون نعمة الله ويعلنون عليه الحرب والتمرد في مجاهرة وتوقح.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٠٩..
قوله تعالى :( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ذلك من قصص الله سبحانه وهو أصدق القائلين إذ يبين مناداته لآدم وزوجه أن يسكن وإياها معا في الجنة، أي يقيم وإياها مستأنسين مطمئنين، ثم يأكلا من الجنة رغدا حيث العيش الدائم المستقر الذي لا يخالطه عناء أو قلق أو إيحاش وزوج آدم هي حواء وسميت بذلك – كما قيل- لأنها خلقت مكن حي وهو زوجها آدم، وقد ثبت ذلك في نصوص كثيرة منها :( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ( وذلك الذي نستطيع أن نتصوره مستيقنين من غير وقوف على الكيفية التفصيلية لهذا الخلق إلا ما ورد عن خلقها من ضلعه الأيسر، وفوق ذلك من أقوال وتفصيلات لا نستطيع الركون إليها والتحقق من صحتها على التمام، وذلك لظنية المصدر الذي يستند إليه كثير من الناس لدى إيراد مثل هذه الأخبار.
والدعوة لآدم وزوجه أن يأكلا من الجنة رغدا، وليست الجنة – كما يتصور بعض الجاحدين في التفكير من أمثال المعتزلة- في الأرض استنادا إلى ظاهر من بعض النصوص القرآنية، وما هذا التصور إلا مجانبة للصواب الذي اجتمعت عليه الدلائل القاطعة الجلية، فلا تتردد مقال ذرة في التيقن بأن الجنة المذكورة هنا لهي في السماء.
وقوله ( رغدا ( صفة لمفعول مطلق محذوف، وتقديره أكلا رغدا، ١ والرغد هو السعة والعيش الهانىء المطمئن الذي ليس فيه نصب أو ضيق، نقول راغدا ورغيد أي عائش في خير ولين وسعة.
وقوله :( حيث شئتما ( حيث ظرف مبني على الضم، أي اسكنا أي مكان من هذه الجنة، واستمتعا بطيباتها وخيراتها وتقلبا هاتين خلالها لا ينالكم فيها تعب، ولا يطرأ عليكم هم ولا حزن، وأنتم صائرون كذلك في هذا النعيم إلى ما شاء الله.
قوله :( ولا تقربا هذه الشجرة ( وذلك نهي من الله لآدم وزوجه كيلا يقتربا مجرد اقتراب من الشجرة المعنية التي بينها الله لهما، والمقصود في النهي أصلا هو الأكل، لكن النهي عن مجرد الاقتراب لهو آكد في التحذير ومجانبة الشجرة ومن المبادىء الأصولية المعتمدة في شريعة الإسلام مبدأ " سد الذرائع " وهو يقوم على تحريم ما وقع في الحرام أو ما يوشك أن يكون سبيلا تقود إلى المحظور نفسه، وذلك كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، كما تبين في الحديث الشريف.
واسم الإشارة ( هذه ( في محل نصب مفعول به، والشجرة بدل منصوب لكن هذه الشجرة من حيث حقيقتها ونوعها غير معروفة، وكل التفسيرات التي وردت في هذا الصدد لتحدد هذه الشجرة بالاسم لا تستند الى دليل موثوق من نص، وهي لا تستند في ذلك إلا الى أقوال في التوراة أو الإسرائيليات التي لا نركن إليها والتي لا تصلح دليلا في مثل هذه المواقف الغيبية، وعلى ذلك فإنه لا مساع لامرئ مسلم أن يخوض في مثل هذه المسألة خوض المتكلف فيما يورده موارد التمحل والزلل. إنما يجدر بالمسلم أن يقف في ذلك عند مفهوم العبارة المحدد للنص القرآني وهو أن آدم وزوجه قد نهيا عن الأكل من شجرة معينة، في الجنة لا نعلم عن حقيقتها وتحديدها شيئا، وكل الذي نعرفه أنها شجرة، الله أعلم بها.
قوله :( فتكونا من الظالمين ( من الظلم ومعناه : وضع الشيء في غير موضعه وفي المثل " من استرعى الذئب في غير موضعه المناسب الذي يقتضي الإخلاص والحذر هكذا تكون المعاصي والذنوب دليلا على السير في غير المسار السليم أو الصراط المستقيم، حتى الإنسان نفسه إذا ما تنكب عن صراط الله أو تمرد على دينه ومنهجه سبحانه فقد وضع نفسه في غير موضعه الصحيح، بل إنه ضل ضلالا أو دس به إلى العمه والازورار ومضى يخيط في طريق وعر ملتوية، وما كان شيء من ذلك ليكون لولا التنكب عن صراط الله ليكون بدلا منه صراط آخر غير سوي ولا سليم وذلك هو الظلم.
١ البيان للأنباري جـ ١ ص ٧٥..
قوله : فأزلهما الشيطان عنها أزلهما من الإزالة أو الزوال بمعنى الصرف والإبعاد، وقريب من هذا المعنى وهي التنحية، وثمة قول آخر وهو يتضمن معنى الزلل، أي أن الشيطان قد أوقع آدم وحواء في الزلل وهي الخطيئة بمعصية الله سبحانه، والذي يعول عليه هو القول الأول والذي يذهب إلى أن الكلمة تعني التنحية والإبعاد عن الجنة بسبب المعصية، وعلى ذلك يكون قوله :( عنها ( معناه : بسببها أي بسبب الخطيئة المقترفة، والشيطان من الفعل شطن أي بعد وأشطن أي أبعد عن الخير والحق ونقول : تشيطن أي فعل فعل الشيطان، وهو البعد عن الخير والحق.
والمصدر شطون وهو البعد، وعلى ذلك فالشيطان كلمة تتضمن الكائن الجني أو الإنسي البعيد عن الخير والحق، فهو بذلك الكائن العاتي المتمرد الذي تجتمع في كيانه كمل مسالك الشر والباطل، والذي يسعى في الأرض ليثير فيها أسباب الفساد والشر وكل ظواهر الأذى والباطل.
قوله :( فأخرجهما مما كانا فيه ( قد أنزل الشيطان آدم وزوجه بإبعادهما وتنحيتهما عن الجنة حيث النعيم، المقيم وحيث الخير والأمن والعيش الرغيد، وقد كان ذلك حسدا من ذلك الكائن المتمرد اللعين الذي جهد في إغواء آدم ليخرجه وزوجه مما كانا فيه من نعيم الجنة.
قوله :( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( كان ذلك قرارا ربانيا حاسما لا معقب له، وهو أن يهبطوا من الجنة ليكون بعضهم لبعض عدو، والهبوط معناه النزول من عل إلى أسفل واختلف في حقيقة المخاطبين الذين تشير إليهم واو الجماعة في قوله :( اهبطوا ( ولعل الراجح في ذلك أنهم آدم وزوجه حواء ثم إبليس، وقيل المقصود هم آدم وزوجه وذريتهما من بعدهما، لكن القول الأول أقرب للصواب وذلك بالنظر للإيحاء الذي يشير إليه قوله :( عدو ( ذلك أن بني آدم في صراع محتوم ومستديم مع الشياطين، سواء منهم شياطين الجن أو شياطين الإنس، فكلهم شياطين يوحون لبني البشر بالفتنة وصنع الموبقات ليظلوا في عناء وعنت في هذه الدنيا وليكتب للهالكين منهم وتعس وسوء مصير.
وحقيقة النزول هنا يمكن تصورها على أنها مفهوم نسبي، وذلك بالنظر لتصور الإنسان الحسي عن الهبوط أو الانحدار مما هو عال مرتفع مزعوم ليقول ألا هبوط أو نزول ما دامت الأجرام تدور في أفلاكها وسط هذا الفضاء الرحيب.
قوله :( بعضكم لبعض عدو ( عدو من العدوان وهو الظلم، أو مجاوزة الحد كما قيل والعدوان هنا مجاوزة الحد حاصلان في هذه الدنيا بما تحويه على متنها من خلائق من البشر أو الشياطين، والبشر في هذه الحياة تدور فيما بينهم قوارع الصراع المحتدم وعواتي الظلم اللجوج ما دامت النفوس يحفزها الهوى الجانح أو الأنانية الضاغطة، وكذلك فإن الصراع عات ومحموم بين البشر أنفسهم و الشياطين، و كلا الفريقين يمران في الأرض لا يبرحهما الكيد و العداء و التربص.
و على ذلك فإن بني آدم و الشياطين بعضهم لبعض عدو فضلا عن العداء الذي يدور بين بني آدم أنفسهم، و سوف تظل الحال على هذا المنوال من العدوان المستحكم في هذه الأرض ومن عليها حتى يرث الله الأرض و من عليها. مع أنه قد قيل في المقصود من هذه الآية بأن العدوان المستحكم بين الناس أنفسهم و فيما بينهم.
و في تقديرنا أن هذا القول أن هذا القول مرجوح و أن القول الأول لهو الصواب و الله أعلم.
قوله :( و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين ) الجار و المجرور في قوله :( لكم ) في محل رفع خبر مقدم، و مستقر مبتدأ. الله جل جلاله يقرر بعد هبوط آدم إلى الأرض أن له و ذريته مستقرا و هو القرار المؤقت. و أن لهم كذلك فيها متاع، و هو كل ما يستمتع به من زاد أو كساء أو حديث أو صحبة أو مأوى. على أن ذلك كله يتسم بالتوقيت المحدود الذي ينتهي بعد حين و هو قدوم الموت. و على ذلك فإن الاستقرار و المتاع على هذه الأرض يكونان حال الحياة و قبل انتهاء الأجل، فالمقصود بقوله :( حين ) الموت. و قيل : معناه قيام الساعة. و لا نتصور هذا، بل إن القول الأول هو الراجح.
قوله تعالى :( فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) ثمة أقوال في تفسير التلقي هنا، و لعل الأصوب أن يكون معناه الاستقبال. فقد استقبل آدم من ربه كلمات علمه إياهن للحصول على التوبة، لكن ما هذه الكلمات و ما حقيقتها ؟ و للإجابة عن ذلك يمكن الاطمئنان إلى أن المقصود بهذه الكلمات هو الدعاء المتضرع الخاشع من خلال كلمات يقولها آدم ليعلن أمام الله توبته و ندامته.
وبعد تحقيق ذلك امتن الله عليه بالتوبة و الغفران.
و قوله :( فتاب ) من التوبة و هي الرجوع إلى الله بالإقلاع عن المعاصي إلى الطاعات، وكذلك تكون توبة العبد إذ يؤوب إلى ربه طائعا نادما عما اجترحه من مخالفات، أما التوبة من الله فلا يتصور فيها الرجوع منه سبحانه، لكن القول الذي يمكن اعتماده في بيان ذلك هو أن الله عز و جل يقبل توبة العبد إذا تاب و أناب، لأنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده. و الله من صفاته أنه ( التواب الرحيم ) فلا ريب في أنه دائم التوبة عظيم التجاوز عن الخطايا و الذنوب، و هو كذلك رحيم بعباده يغمرهم بواسع رحمته و فضله و إحسانه.
قوله تعالى :( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون. و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ذلك تكرار للقرار الرباني العظيم بالهبوط إلى الأرض، و هو تكرار يقصد به التأكيد الذي لا ينفذ إليه تردد أو انثناء و هو أن ينزل آدم و زوجه إلى هذه المعمورة لتكون لهما عليها الذرية المنتشرة في بقاع الدنيا، و ليكون الصراع و الجد و العناء.
و قوله :( جميعا ) منصوب على الحال. و الجملة الفعلية بعد القول في محل نصب مفعول به.
و قوله :( فإما يأتينكم مني هدى ) أصل ( فإما ) : فإن ما، أدغمت إن الشرطية بما الزائدة، و الجملة الفعلية بعدها للشرط. و الهدى ما يهتدي به الإنسان إلى سواء السبيل، يستوي في ذلك كتاب الله أو الرسل أو الملائكة، فكل أولئك دعاة إلى الله يكشفون للبشرية عن دروب التوفيق و الخير، و يحذرونها من عواقب الضلالة و التعثر.
و قوله :( هدى ) فاعل لفعل الشرط قبله. و جواب الشرط مقترن بالفاء و هو قوله :( فمن تبع هداي ). و ذلك شرط آخر يتضمن جملة الشرط ( تبع هداي ) و يتضمن أيضا جوابه ( فلا خوف عليهم ) أي أن جملة الشرط الثاني و جوابه جواب للشرط الأول.
هؤلاء المؤمنون الذين اتبعوا الهدى من ربهم هم الفائزون في الدارين. و أصدق ما ورد فيهم هذه المقالة الوجيزة العذبة و هي جواب الشرط الثاني ( فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون ) و خير ما قيل فيها من تفسير أن هؤلاء المؤمنين لا يخافون يوم القيامة يوم يخاف الناس و يوم ترتجف قلوبهم و أبدانهم، و ذلك لهول الموقف و جلال الخطب المروع. و كذلك فإنهم لا يحزنون كما يحزن الناس لدى مفارقتهم للدنيا حيث الصحب و الخلان و حيث العشيرة و الأهل و المال و الولد. و تلك أمور تشد إليها الإنسان شدا ليظل بها لصيقا من حيث حسه و عاطفته و هواه. فهو إذا ما أحس بفراق ذلك كله دهمته غمرة من الحزن المؤثر، لكن الذين هداهم الله لا يحزنون مثل ما يحزن هؤلاء، ليقينهم أنهم قادمون على خير من ذلك كله. فهم قادمون على رضوان من الله يملأ نفوسهم و أفئدتهم بالسكينة و الرضى و الحبور، ثم ما يتلو ذلك من عطاء الله الواسع مما لا عين رأت و أذن سمعت و لا طرأت على قلب بشر، جعلنا الله في زمتهم.
وقوله :( و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) اسم موصول ( الذين ( في محل رفع مبتدأ وخبره الجملة الاسمية بعد صلة الموصول أي ( أولئك أصحاب النار (.
والذين كفروا هم الجاحدون لجلال الله المنكرون لأنعمه، وهم أصناف كثيرة من الظالمين الذين لا يرعون لله قدرا منهم المشركون والملحدون وأهل الكتاب وهم جميعا كافرون، وذلك لجحدهم وتكذيبهم لآيات الله وهي آيات بينات تنطق بالصدق والإعجاز ولا يمسها شيء من شك لكن الظالمين فريق من البشر الجاحد المستكبر الذي لا يصيخ لنداء الحكمة والعقل، فهؤلاء مكابرون لا يستمرئون غير التردد والفجور وغير التمرد المغتر اللجوج، إن هؤلاء الناس هم ( أصحاب النار هم فيها خالدون ( فهم يجحدوهم ولجوجهم وتمردهم أجدر أن يكونوا أصحاب النار. وصاحب الشيء أو المكان هو الذي يظل مستديم الإقبال عليه والثواء إليه في صحبة مقترنة متشاذة لا تعرف الهجران أو المبارحة، وهكذا يكون الكافرون المكذبون بآيات الله فهم أصحاب النار في ديمومة لا تنقطع، وفي اصطلاء حارق لا يعرف الفتور لكي يذوقوا وبال أمرهم جزاء ما اجترحوه من تمرد على الله وفسوق عن أمره.
قوله تعالى :( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ( إسرائيل اسم عجمي لا يقبل الصرف ومعناه عبد الله، وهو مرادف ليعقوب النبي عليه السلام، والله جلت قدرته يخاطب في هذه الآية اليهود وهم بنو إسرائيل ومن نسله وذلك لعبثهم في الأرض تخريبا وإفسادا على ما سوف نبين إن شاء الله يدعو الله هؤلاء اليهود أن يذكروا نعمته التي امتن بها عليهم، والذكر يكون بالقلب، كيلا ينسى، وباللسان كي يظل رطيبا بالشكران.
أما نعم الله التي أنعمها على بني إسرائيل فهي كثيرة وعظيمة لا نحسب أن أمة من الأمم قد أتيح لها مثل هذه النعم، ومن أنعم الله على بني إسرائيل أن جعل لهم في البحر طريقا يبسا يمشون فيه إلى أن كتب لهم الخلاص والنجاة من فرعون وجنوده الذين غشيهم من الإغراق في اليم ما غشيهم، وكذلك قد فجر الله لهم من الحجر الصلد، ماء دافقا يستقون منه جميعا بعد أن ضربه موسى بعصاه، ثم أنعم الله عليهم بالمن والسلوى وذان طعامان جيدان مهيئان يأكل منهما اليهود من غير أن يبذلوا عناء أو مشقة، ثم أظلهم الله بالغمام ليذرأ عنهم حر الشمس في الصحراء الممتدة التي لا يعمرها نبات ولا ظل، وكذلك قد أنعم الله على بني إسرائيل إذ بعت فيهم نبيين كثيرين، وجعلهم ملوكا وأعطاهم من الخيرات ما لم يعط أحدا غيرهم، ومن أجل ذلك فإن الله يذكرهم بقوله :( اذكروا نعمتي (.
ومن لطيف القول أن يدرك المتدبر هذه المفارقة وهو يتلو تذكير الله سبحانه لأمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :( فاذكروني أذكركم ( فهو لم يقل كما قال لبني إسرائيل ( اذكروا نعمتي ( لما في ذلك من تذكير بالخير والنعمة ليخلصوا من بعد ذلك إلى ذكر الخالق سبحانه، وفي التذكير بالنعمة ما يشير إلى كثرة المنن التي أفاض الله بها على بني إسرائيل، وفيه كذلك مخاطبة الله لأمة الإسلام جاءت لتهتف بالقلوب والأذهان جميعا من أجل أن تتذكر جلال الله ولتقدره حق قدره وذلك على نحو مباشر لا يحتاج إلى تذكير بالنعمة إذ قال ( فاذكروني أذكركم (.
قوله :( وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم ( الجملة الأولى للطلب والثانية جوابه، والله جلت قدرته يطلب من بني إسرائيل أن يوفوا بعهده، وهو هنا عام يتناول جميع الأوامر وما كلفوا به وعلى الأخص التكليف بأن يؤمنوا بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان مكتوبا عندهم في التوراة فكان اسمه بذلك واضحا مستبينا لا يقبل المداهنة أو التحريف، فهو سبحانه يسجل كل ذلك عهدا عليهم، ويأمرهم أن يوفوا به ليوفيهم بعهدهم وهو أن يكتب لهم الخير والسلامة في الدنيا، وفي الآخرة لهم منه الجنة ونعم الجزاء الكريم المقيم.
قوله :( وإياي فارهبون ( من الرهبة أو الرهب وهو الخوف، إياي مفعول به لفعل محذوف مقدر وتقديره : إياي ارهبوا فارهبون، وذلك خطاب من الله لبني إسرائيل ليخافوه فيبادروا بالطاعة ويتجنبوا المعصية، وأصل ذلك كله الخوف من الله جلت قدرته، وهو إذا ما خيف فقد تورع المرء عن التورط فيما يسيء الى جنابه الكريم، وانزجر عما نهى عنه الإله وحذر في كتابه وعلى لسان أنبيائه.
قوله :( وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ( يأمر الله بني إسرائيل أن يؤمنوا بالقرآن الذي أنزل وفيه تصديق لما معهم من التوراة والإنجيل وما فيهما من إيراد لذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في صراحة جلية، لولا أنهم كتموا وبدلوا وافتروا افتراء عظيما.
قوله :( ولا تكونوا أول كافر به ( لعل أصوب تفسير لأول كافر بالقرآن أو النبي هو القول بأن المقصود بذلك أنهم أول من كفر من جنس أهل الكتاب بعدما سمعوا بمقدم النبي وما أنزل عليه من قرآن إذ كانوا يقرأون ذلك في كتبهم، ولا يستقيم المعنى إذا ما أخذ بظاهر العبارة التي تبين أنهم أول الناس كفرا، ذلك أنهم كانوا مسبوقين في الكفر بمشركي العرب.
قوله :( ولا تشتروا بئاياتي ثمنا قليلا( من حيث خصوص السبب فقد نزلت في بني إسرائيل الذين كانوا يكتمون خبر النبي في التوراة فقد جاء اسمه عليه فيها مكتوبا جليا، لكنهم أخفوا ذلك وأنكروه مقابل ما اشتروه من حطام الدنيا وما رضوه لأنفسهم من فسق عن أمر الله وتمرد عليه.
لكن عموم الآية أولى بالاعتبار وهو خطاب للناس عموما ألا يشتروا بأوامر الله ونواهيه أو بدينه وشرعه ثمنا قليلا، والثمن القليل يقصد منه الدنيا وما فيها من طيبات ومعايش وتلك هي صورة من صور البيع الذي يقوم على المعاوضة حيث الخسران الفادح الذي يتفاوت فيه العوضان تفاوتا ليس له نظير، مثلما يكون الفرقان بين الصدق والكذب، ولا محالة بعد ذلك أن يكون الثمن المقبوض بدلا من الدين والشرع قليلا، فهو قليل حقا، وهو هين بالغ الهوان حقا.
أما في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وما استنبط منه من معان ودراسات فهو جائز رغم ما ورد في ذلك من أقوال مخالفة، ونستند في الجواز لقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يحذرهم من هذه المخالفات الكبيرة، لاحتوائها على الجحد والغمط.
وقوله :( ولا تلبسوا الحق بالباطل ( تلبسوا من اللبس وهو الخلط، واللبس بالضم معناه الإشكال نقول : التبس الأمر أي اختلط وأشكل حتى عمك فيه وجه الحقيقة، والآية في أهل الكتاب، اليهود خاصة، فقد نهاهم الله عن فعلتهم المكشوفة – وهي لبس الحق بالباطل – وذلك يعني – كما ذهب إمام المفسرين عبد الله بن عباس – أنه لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل أي أن التوراة حال نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت يختلط فيها الحق بالباطل، كان من جملة الحق ذكر النبي محمد صراحة، أما الباطل فمعناه التغيير والتبديل اللذان اصطنعهما اليهود ظلما وزرا.
وقوله :( وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ( وجه الإعراب في تكتموا يحتمل طريقتين : إحداهما أن يكون الفعل معطوفا على المجزوم الواقع في النهي قبله، وثانيهما : أن يكون الفعل منصوبا بأن المضمرة، وعلى ذلك فإنه بناء على القول الأول ينهى الله سبحانه عن كتمان الحق وهو خبر النبي الكريم الذي ورد اسمه في التوراة والإنجيل من قبل، فقد كتمه اليهود وأخفوا ذكره كأن لم يسمعوا بخبره، أبدا مع أنهم يعلمون أنه نبي مرسل قد أوحى إليه ربه ليكون للناس بشيرا ونذيرا، ويعلمون كذلك أنه مذكور في كتبهم، وأنهم في أنفسهم كاذبون فجرة، والواو في وأنتم للحال والجملة الاسمية المؤلفة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال.
وقوله :( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ( إقامة الصلاة بمعنى المداومة والثبات عليها وتأديتها على وجهها الصحيح، وذلك من حيث أركانها وهيئتها وسننها، وآتوا الزكاة من الإيتاء وهو الإعطاء، وكل من الصلاة والزكاة قد ورد مجملا ليؤخذ التفصيل لكليهما من السنة المطهرة، فإنها المخلوة ببيان ما أجمله القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها.
وفي هذه الآية يأمر الله بني إسرائيل أن يلتزموا بعبارة الصلاة والزكاة، ثم ليركعوا مع الراكعين من المسلمين.
وقد يتبادر للذهن تساؤل عن مخاطبة أهل الكتاب وتكليفهم بأجزاء الدين وفروعه مع أنهم كافرون وعلى ملة الشرك وفي تقديرنا أن الإجابة عن هذا التساؤل تحتمل الوجهين التاليين :
الأول : أن ذلك من باب المطالبة بالفرع ليكون التذكير بالأهم هو الأصل أي العقيدة وهي الأساس في هذا الدين كله.
الثاني : وهو التذكير بأهمية وخطورة مثل هذه الشعائر من حيث تأثيرها على النفس البشرية إذ تهذبها تهذيبا، ذلك الذي يمكن تصوره ليون إجابة عن التساؤل والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله :( واركعوا مع الراكعين ( الركوع في اللغة الانحناء، وهو في الصلاة مقترن بالخشوع والتذلل لله، وقد ذكر الركوع لأهميته فهو أحد أركان الصلاة التي لا تنعقد إلا به، وهو تعبير متذلل ينطق به الحس وتؤديه جوارح البدن، في أوفى صور الخشوع والرهبة خلال حركة هادئة واعية، تتلاقى فيها أعضاء البدن الممثل المنحني والشعور الخاشع المستفيض الموصول بالمثل الأعلى.
ونعرض هنا مسألة وهي صلاة الجماعة وذلك لإيجابه أداء الركوع مع جماعة الراكعين، وقد جاء في حكم صلاة الجماعة جملة أقوال يمكن أن تقتضب منها الخلاصة التالية في أقوال ثلاثة :
الأول : أنها سنة مؤكدة فهي بذلك دون الفريضة فلمن أداها أجر كبير، ومن لم يؤدها كان محروما من جزيل الثواب إلى أعده الله للمصلين في جماعة غير منفردين، يضاف الى ذلك أن الحرمان من ثواب الجماعة لا ينقضي عقابا، لأن العقاب يوجبه ترك الفريضة أو انتهاك الحرمان وهو قول الجمهور.
الثاني : أنها واجبة وأن تاركها آثم يستحق العقاب، وذلك استنادا لبعض الأئمة في السنة يقضي ظاهرها بوجوب الجماعة، وكذلك هذه الآية التي تنحن بصددها ( واركعوا مع الراكعين (.
وقد ذهب الى وجوبها أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وآخرون.
الثالث : أنها فرض كفاية بحيث يسقط الوجوب إذا ما أقيمت وأداها فريق من المسلمين وذلك الذي ذهب إليه بعض أهل العلم.
هذه خلاصة الأقوال الثلاثة الواردة في حكم الجماعة، وإني وإن كنت أتصور أهمية هذه الأقوال جميعا، نظرا لاستنادها الى الأدلة الصحيحة، لكنني أطمئن للقول الأول وهو أن الجماعة من حيث الحكم تأتي على السنة المؤكدة وذلك بالنظر الى إمكانية التأويل لأدلة القولين الآخرين، وهو تأويل يورد الاحتمال الذي ينخرم معه الاستدلال، ويعزز القول بالسنية المؤكدة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عمر، وفيه بيان بالأفضل والمفضول وأن المفضول لا يكون إلا صحيحا مشروعا وهو لا يوجب عقابا والله سبحانه أعلم. ١
١ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٧٨-٨٥ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ٣٣٠-٣٥٠ والكشاف جـ ١ ص ٢٧٤-٢٧٧ وبداية المجتهد جـ ١ ص ١٢١..
قوله تعالى :( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه يرجعون ( الهمزة في قوله :( أتأمرون ( للإنكار والتوبيخ، أو للتعجب من حالهم. ١
البر معناه الطاعة وهو يتضمن كل وجوه الخير والفضل فيما يكون طريقا الى مرضاة الله سبحانه، والنسيان الوارد في الايسة معناه الترك وليس ما يكون ضد الذكر والمقصود بالكتاب التوراة والإنجيل لما فيهما من خير ونور وذلك من قبل أن يصيبهما التزييف والتحريف.
والآية تتضمن توبيخا وتقريعا يلتذع بهما أهل الكتاب، لأنهم يدعون الى الخير ويأمرون بالطاعات لكنهم يمتنعون من فعل شيء من ذلك، فهم بذلك يأمرون بالفضائل ويتركون أنفسهم من الائتمار أو هم يخالفون عما أمروا به الى عكس ذلك من وجوه الحرام.
قوله :( وأنتم تتلون الكتاب لأفلا تعقلون ( الواو تفيد الحال، والجملة الاسمية بعدها في محل نصب حال، أي كيف يليق بكم أن تكونوا دعاة خير وبر أو أن تأمروا الناس بالطاعة والمعروف وأنتم تخالفون عن ذلك كله وتأتون خلاف ذلك الحرام والمنكر مع أنكم تقرأون ما في كتابكم المنزل عليكم من السماء والذي يأمر بالمعروف أولا، وينهي عن عدم الائتمار بالمعروف ثانيا، إذ لا يجوز لأحد بحال أن يأمر بخليقة حسنة ثم يأتي خلافها.
قوله تعالى :( أفلا تعقلون ( أليست لكم عقول واعية متدبرة تكشف لكم عن وخامة هذا الخلق الفاسد المشين ؟ ألستم تفهمون ؟ فإن ذلكم من خلق الذين لا يعون ولا يدركون، هكذا يشدد الله في التقريع المرير على أولئك الذين يدعون الى الخير ويأتون غيره أو ينهون عن الحرام والباطل وهم شالعون في ما نهوا عنه. وذلك خزي وعار تتلطخ بهما أخلاق الذين لا يستحيون من الله والذين يسعون في الأرض فاسدين مذبذبين حيث لا تتوافق أقوالهم وأفعالهم سواء في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
ومن أشد ما جاء في الكر من حيث الإغلاط على هذا الصنف الكاذب الخسيس مخن النار قوله سبحانه :( يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقارض من نار، قلت من هؤلاء يا جبريل، قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. ٢
وأخرج أحمد كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتتدلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ". ٣
وعنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء وبذلك فإن كلمات الله تندد أشد تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون، أو الذين يخالفون عما يأمرون به غيرهم، أو الذين لا يأتمرون بما يدعون الناس إليه أو يحذرونهم منه، وذلك خلق الفاسدين الجبناء من الناس الذين يقفون في خط النفاق ليكونوا في الأذلين مع الأشرار والتعساء والمعذبين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وتنديد القرآن بهذا الصنف الخسيس من البشر يظل قائما لا يبرح الأرض لأن الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه كثيرون، وهم لا يخلوا منهم مجتمع من المجتمعات، على أن هذا الخلق الذميم كان مركوزا على نحو واضح مستبين في بني إسرائيل، وذلك مما يمكن الوقوف عليه من خلال الكلمات الربانية في القرآن الحكيم، والتي تكشف عن إغراق أولئك الناس في الخسة والنفاق وهم يقولون ما لا يفعلون.
١ الدر المصون جـ ١ ص ٣٢٧..
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٦..
٣ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٦..
قوله :( واستعينوا بالصبر والصلاة ). الصبر في اللغة معناه الحبس، نقول مات فلان صبرا أي حبس فظل كذلك حتى مات، ونقول عن كل ذي روح، قتل صبرا، بمعنى أنه أمسك وشد في الوثاق حتى يقتل، وعلى هذا فإن المقصود بالصبر في نظر الشرع هو حبس النفس على طاعة الله والتزامها بما شرع للناس في الدين.
وذلك يؤول بدوره الى الامساك عن المعصية وكل ما نهي الله عنه من محظور. وكذلك فإن الصبر على البلاء وما يمتحن الله به عباده في الدنيا لهو من باب الصبر الذي تنحبس معه النفس عن السخط من تقدير الله أو التبرم مما قضى وحكم، واصطبار النفس عند الشدائد يدخل الصابر في الطائعين أو الممتنعين من ارتكاب المعاصي.
ولا ريب في أن الصبر ذو شأن عظيم وهو في ميزان الله له من بالغ الحظ والاعتبار ما يجعله درجة عالية من درجات العبادة التي يقترب بها المرء من الله، وفي ذلك قوله سبحانه :( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( وبقول سبحانه في آيات قلائل مبدوءة بقسم رباني يهز النفس من الأعماق :( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (.
ومن أعظم ما يجيء في السنة حول الصبر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصبر شطر الإيمان ". ١
وضروب الصبر في الطاعة كثيرة، ومن جملة ذلك أن يصطبر المؤمن على كل وجوه الطاعة كالصلاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك، فإن مثل هذه الأمور تتطلب من المؤمن أن يتحلى بالصبر دائما، ليقوى على الاضطلاع هذه الفرائض الكبيرة وغيرها من فرائض.
وكذلك فإن ضروب الصبر عن المعصية كثيرة، ومن جملة ذلك أن يحبس المؤمن نفسه عن فعل المنكرات مثل الربا والخمر والزنا والزور والنفاق والشح وعقوق الوالدين والهروب من ساحة القتال وغير ذلك من وجوه الحرام والمنكر، فإن الإمساك عن مثل هذه المحرمات يتطلب قدرة على الاحتمال تحول دون السقوط في المعاصي والمحظورات.
وكذلك الصبر على البلاء فإنه ليس بالهين ولا اليسير ولكنه يقتضي قدرا عظيما من قوة الإرادة، ولا يؤتاه إلا الأقوياء وأولوا العزم من الناس الذين يملكون أنفسهم عند وقوع الشدائد والأهوال، فلا يضطربون اضطرابا يثنيهم عن الحق والتوازن، أو يتجاوز بهم الصراط المستقيم، ومثلما توصي الآية بالصبر ليستعين به المؤمن في حياته كلها فإنها كذلك توصي بالصلاة وذلك قوله ( والصلاة )
وهي خشوع وتذلل خلال وقفة سائحة بين يدي رب البرية، ولا جرم أن تفيض على المؤمن وهو يصلي شآبيب من الرحمة ومن غذاء الروح بما يسكب فيه مزيدا من قوة العزيمة والاحتمال، وبما ينمي فيه معاني الخير والاعتزاز والثقة بالله ( والصلاة ) ويفجر فيه طاقات هائلة من عطاء النفس العالية الرضية، وأمام هذا العطاء الروحي الهائل تخنس قوى الشر في الإنسان وتذوي فيه بواعث المادية الآسنة التي إذا انفردت بالإنسان أجاءته إلى حمأة الشهوة المشبوبة المستعرة لتودي به في النهاية في أتون الضلالة والعمه والخسران.
والصلاة ذات وزن أكبر في شريعة الإسلام، لأنها الصلة المتينة الوثقى التي تربط العبد بربه، والتي تربط الأرض حيث الخلائق والبرايا والصراع والفتن بالسماء حيث الكمال والعلياء والمثل الأعلى، وبذلك فإن الصلاة لهي وسيلة روحية كبرى تجد الأرواح من خلالها متنفسا كريما مشدودا وهي تخاطب الإله الخالق الذي فطر السموات والأرض وأنشأ الخلائق والكائنات جميعا، ومن أروع ما يذكر في هذا الصدد عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يستروح بالصلاة استرواحا ليجد فيها حلاوة السكينة الودود وروعة الخطاب الكريم الحاني مع الله سبحانه، فقد روي عن حذيفة ابن اليمان قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة "، وروي عنه أيضا أنه قال " رجعت الى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى، هكذا يستعين المؤمن بالصبر وبالصلاة وهو يواجه أفانين الأشرار والمناكيد في زحمة الصراع المحتدم بين الحق والباطل، والمؤمن خلال ذلك كله يظل ماضيا في مسار الخير، لا يرده عن ذلك طريق تعويق مصطنع ينتحله أهل الباطل والعدوان.
وقوله :( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ثمة خلاف بين أهل العلم في عود الضمير في قوله ( وإنها ) فهل المقصود بذلك الصلاة وهي أقرب مذكور أم شيء آخر ؟.
بمكن في هذا الصدد أن نعرض لأقوال ثلاثة في عود الضمير المذكور :
القول الأول : إن الضمير يعود على الصلاة، وبذلك فإن المقصود بالكبيرة هي الصلاة، لأنها أقرب مذكور كما بينا آنفا ولأن الصلاة كبيرة حقا، وذلك من حيث الحفاظ عليها وأداؤها على وجهها الكامل المشروع في مواقيتها المستديمة الرتيبة طيلة اليوم والليلة، على أن تكون ذلك مسبوقا بالطهارة العامة التامة، سواء في ذلكم طهارة البدن أو طهارة الثوب أو طهارة المكان الذي تتأدى فيه الصلاة.
القول الثاني : وهو للأستاذ الشهيد سيد قطب – عليه رحمة الله – فقد ذهب إلى أن الكبيرة هي الدعوة الإسلامية وذلك من حيث الانتماء الوافي إليها ثم حملها في شجاعة وصدق ودراية ثم تبليغها للناس في غير انثناء أو نكوص أو تردد، وتلك مهمة لا جرم أن تكون ثقيلة وكؤود وذلك بالنظر إلى التحديات المتوقعة من الخصوم والحاقدين الذي يملؤون كل أطراف الأرض في كل زمان، والذين سوف يثيرون في وجه الإسلام ودعاته حربا طاحنة ضروسا لا تهدأ إلا بعد المفاصلة الحاسمة التي يعقبها خط واحد أو تصور واحد وهو إما الإسلام أو غير الإسلام.
القول الثالث : هو أن الضمير يعود على الصبر والصلاة كليهما، وقد ذكر الصلاة خاصة، لأهميتها وشمولها ولأنها الأغلب وذلك كقوله سبحانه :( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) فقد ذكر كلا التجارة واللهو، لكنه رد الضمير إلى التجارة لشمولها وفضلها، وغلبتها على اللهو وهو داخل أصلا في التجارة وفي تقديرنا أن هذا القول صواب وهو الذي نعتمده مع تعظيمنا وإعجابنا باستنباط القولين السابقين والله جلت قدرته أدرى وأعلم. ٢
قوله :( إلا على الخاشعين ) أي الخاضعين الخائفين الذين يوجلون من سلطان الله ويرهبون جنابه، وفي الآية بيان بأن كلا الصبر والصلاة أمر ثقيل على النفوس، لا يطيقه إلا من خشع قلبه لجلال الله، واستقامت جوارحه لتظل في خطه – سبحانه- وهداه.
١ رواه البيهقي عن ابن مسعود انظر الجامع الصغير للسيوطي جـ ٢ ص ١١٣..
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٧ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ٨٥-٨٦..
وقوله :( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ( الذين اسم موصول في محل جر نعت للخاشعين، والجملة بعده صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والظن هنا بمعنى اليقين كما ذهب أكثر أهل العلم وكما ترد كثيرا في القرآن وذلك كقوله :( ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ( وقوله :( إني ظننت أني ملاق حسابيه ( فالظن هنا بمعنى اليقين لا الشك.
هؤلاء الخاشعين الذين لا يثقل عليهم أمر الصبر والصلاة يعتقدون في يقين لا يعتريه شك أنهم ( ملاقوا ربهم ( أي راجعون إليه صائرون الى الحشر بين يديه في يوم عصيب تشخص فيه الأبصار.
قوله تعالى :( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ( يذكر الله بني إسرائيل ( يعقوب ) بأنعمه عليهم وهي كثيرة قد أوتوها في حياتهم، وذلك مثل إنزال المن والسلوى وتظليلهم بالغمام في الصحراء الحارقة المكشوفة، وكذلك بما جعله فيهم من الملك وتعدد الأنبياء والرسل على نحو لم يتسن لأمة لأخرى، غيرهم، وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى على لسان نبيهم ومنقذهم موسى عليه السلام :( وإذ قال موسى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( بل هذا العطاء الجزيل الذي امتن الله به على بني إسرائيل لم يؤت مثله أحد من الناس، وذلك هو التفضيل المقصود في الآية ( فضلتكم على العالمين ( فليس لذواتهم هم أنفسهم أو لأنهم من نسل إسرائيل أو لأنهم أمة متميزة ذات اعتبار خاص ومعين كما يصور حاخامات يهود وهم يرددون المقولات المكرورة الفاسدة، وهي لا جرم أن تكون مقولات كاذبة خاطئة قد افتروا فيها على الله زورا، وافتروا فيها على كتبهم السماوية بالبهتان الذي يقوم على التعصب الذميم وعلى التحريف الظالم.
أجل : ليس المقصود من الآية أنهم خير الناس على مر الزمن أو أنهم أفضل الأمم في العالمين طرا طيلة الدهر والزمان، وإلا كان التناقض حاصلا في القرآن ونحن نتلوا قوله سبحانه عن أمة الإسلام :( كنتم خير أمة أخرجت للناس (.
إن المقصود من تفضيلهم على العالمين بالمفهوم الواضح المستبين أنهم قد أوتوا في زمانهم في هذه الدنيا خيرات وأنعم لم تتيسر لأحد غيرهم، وأنهم قد بعث الله فيهم أنبياء كثيرين ما بعث مثلهم في أمة أخرى، فالتفضيل بذلك قدج مضى وانقضى بعد أن جيء بأمة أخرى أفضل منهم.
وبعبارة أخرى فإن التفضيل ليس لأنهم يهود : أو من نسل يعقوب ولد إسحاق عليهما السلام ولا لأي اعتبار آخر يقوم على الجنس أو اللون أو العرق، وكذلك فإن التفضيل ليس للزمان وكل زمان مهما امتد الزمان كما يخلط أحبار يهود أو يغلطون في غير معرفة أو خشية من الله بل إن التفضيلغ كان مسألة دنيوية عابرة لما بينا من ضروب العطاء الذي أسبغه الله عليهم في هذه الدنيا، أما في الآخرة فلهم شأن آخر من الحساب المرير على ما اقترفوه من جرائر وموبقات، مثل قتلهم النبيين والعلماء وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وكذلك نكرانهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ثم ما ارتكبوه في حق البشرية من حبك لمؤامرات الشر والفساد التي تحاك في الظلام من خلال منظمات خبيثة ألت على نفسها إلا أن تعيث في هذا العالم تخريبا وإفسادا بكل الأسباب والوسائل مهما سفت وعنت.
قوله :( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( يوما، مفعول به، أو منصوب على الظرف. ١
يحذر الله من يوم القيامة، وليس المقصود اليوم نفسه وإنما المقصود ما في هذا اليوم من فوادح قواصم وأهوال رعيبة جسام، ويكشف عن ذلك قوله تعالى في آية أخرى حول هذا الموقف العصيب :( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( وفي هذا اليوم وما يتخلله من أحداث مخوفة قوارع :( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( أي لا تكفي ولا تغني عن نفس شيئا، فكل امرىء مرهون بعمله لا تحمل نفس من أوزاره شيئا، قال سبحانه :( ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (.
قوله :( ولا يقبل منها شفاعة ( والشفاعة من الشفع وهو ضم الفرد الى الفرد ليكونا اثنين، والفعل شفع أي ضم واحدا الى آخر، نقول شفعت الركعة أي جعلتها اثنتين، ويشتق من ذلك الشفعة والشفاعة وهي ضم ذات إلى ذات أخرى للمطالبة بشيء معين، ٢ والمراد من الآية أن هؤلاء المشركين الضالين لا تنفعهم شفاعة أحد من الناس، وفي مثل ذلك يقول عز من قائل :( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( وفي يوم القيامة تذهب المعايير التي أوجدتها تصورات البشر وأعرافهم، ولا تبقى أية قيمة للاعتبارات الدنيوية كالمال والولد والعشيرة وغير ذلك من المظاهر التي تعودت المجتمعات أن تعيرها كل اهتمام وتقدير.
قوله :( ولا يؤخذ منها عدل ( العدل معناه الفداء، وهو ما يعادل في الوزن والقدر، وفي الآية :( أو عدل ذلك صياما ( وذلك في المشركين الهلكى الذين لا تنفعهم عند الله شفاعة ولا يؤخذ منهم فداء من المال نظير خلاصهم أو العدول عنهم، وفي ذلك بقول سبحانه :( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم (.
قوله ( ولا هم ينصرون ( ينصرون مبني للمجهول والواو نائب فاعل والمقصود بنو إسرائيل الذي لن يكون لهم عند الله نصير أو مجير، وليس لهم من دون الله من يدرأ عنهم الشدة أو يكشف عنهم العذاب، ذلك أنهم كانوا يخرصون في حماقة وسفه وغرور أنهم سوف ينجون من العذاب لحظوتهم بالشفاعة فهم أبناء النبيين والمرسلين، فجاءت الآية لترد عليهم هذا التخريص وتبين أنهم لن يكون لهم شفعاء، وأنهم لنم يقبل من أحدهم فداء ولو كان ملء الأرض، ثم أنهم لن يكون لهم من دون الله معين أو نصير. ٣
١ الدر المصون جـ ١ ص ٣٣٥..
٢ القاموس المحيط جـ ٣ ص ٤٧..
٣ الكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٢٧٨ وتفسير البيضاوي ص ١٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٨-٨٩..
قوله تعالى :( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ( ذلك تذكير لبني إسرائيل بنعمته عليهم، وهي نعمة تضاف إلى جملة النعم التي كتبها الله لهم، وهي هنا تنجيههم بإذن الله من آل فرعون، والنجاة أو النجاء بمعنى الفوز والخلاص من الضيق والكرب وآل فرعون هم أهله وأتباعه والذين على ملته وهواه، والكلمة آل أصلها أهل – كما قال بعض أهل البيان – ثم أبدلت الهاء ألفا فصارت آل، أما فرعون فإنه على الراجح اسم لكل ملك من الملوك الذين تعاقبوا على حكم القبط في مصر.
وقيل : إن الكلمة تعني العاتي ذا الدهاء والمكر، وقيل : معناه : بالقبطية التمساح واسم فرعون لا ينصرف للتعريف والعجمة. ١
وقوله :( يسومونكم سوء العذاب ( أي يذيقونكم أشد أنواع العذاب كأن يتخذوكم لهم عبيدا فتظلوا عندهم موضع حقار وزراية، وكاف المخاطب في محل نصب مفعول به للفعل يسوم، و ( سوء ( مفعول به ثان منصوب و ( العذاب ( مضاف إليه، وقوله :( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ( من الذبح وهو في اللغة الشق، والذبح معناه إحداث الشق في الحلقوم لقطعه أو فتقه، وجملة يذبحون قيل أنها بدل من جملة يسومون في قوله :( يسومونكم ( وقيل : هي تفسير لقوله يسومونكم، أي أن تذبيح الأبناء واستحياء النساء جاء توضيحا لسموهم سوء العذاب وهذا هو الراجح والله أعلم.
ولقد كان فرعون حاكما عاتيا متجبرا قضى على بني إسرائيل بالقهر والتقتيل في غير عطف أو رحمة، ويبدو للباحث المتدبر أن هذا المخلوق ما كان سوي النفس ولا مستقيم الطبع والشخصية، فقد كانت تؤرقه ظواهر الشذوذ والمرض النفسي حتى راغ في قسوة محمومة وفي طبع غليظ متحجر يأمر جنوده وأتباعه بقتل الأطفال المواليد من بني إسرائيل واستبقاء البنات منهم على قيد الحياة، وتلك غاية في الظلم وهو يمارس أسوأ أساليب القهر والعنف لمجرد وهم كان يراود تصوره وخياله، فقد ذكر له أن زوال ملكه وسقوط عرضه سيكون على يد واحد من بني إسرائيل كما قيل، ونحن لا نعبأ كثيرا بالسبب الذي أودى بهذا الطاغية الى هذا المستوى الإجرامي الذي يثير في النفس كآبة واشمئزازا. لا نعبأ بالسبب الذي كان وراء هذه الممارسة الغليظة فسواء كان ذلك إيهاما ركب رأس فرعون بأن فرعون أحد اليهود سوف يقضي عليه، أو أن ذلك كان تعبيرا عن نفسية شاذة ملتوية تستطيب عذابات المظلومين وتستمرىء أن ترى الدم المسفوح بقطر بغزارة من جلود المظلومين والمعذبين.
لا يهمنا السبب كثيرا ما دامت النتيجة البشعة قد حلت بأولئك المقهورين ظلما وعدوانا، لا يهمنا ذلك بقدر ما نلاحظه من خلال الدراسة، والبحث أن طبيعة يهود يهود قد سميت بعد هذه الهزات والمصائب الالتواء والشذوذ حتى باتت غير سوية بل باتت غاية من انحراف الطبع وشذوذ النفس، إن التجارب والدراسات كلها تشير إلى طبيعة اليهود الشاذة التي آلت إلى أن تمارس كل ضروب الأذى والتخريب وكل ألوان الإفساد والشر والتدمير، تجتاح أوساط البشرية كافة، فتذيقها الويل والثبور وعظائم الأمور، والكلام في ذلك طويل لأن حلقات البلاء والتآمر والكيد من اليهود للبشرية تحتاج مجالا غير هذا المجال، وذلك لفداحتها وتعدد مآسيها وأرزائها، وهو كذلك مرير، لأنه ينطوي على أحداث مذهلة مريعة منيت بها البشرية والمجتمعات عبر السنين الطوال وهي تعاني الأهوال والشدائد مثل الحروب الطاحنة المدمرة التي تتمخض عن الملايين من الضحايا والمعذبين، ثم الكيد للبشرية لضربها في أعز ما تملك وهي القيم والعقائد، ومكارم الأخلاق، وكذلك الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي يصطنعها رجالات دهاقنة من اليهود تحت شعار مزيف من العلم، ومن جملة هؤلاء فرويد في إفساد النفس وتمييعها لتظل فائرة مشبوبة خلف غريزة الجنس، ثم ماركس وهو الذي في عناد وتوقح عن صفقة آراء غريبة، لا تلبث أن تتداعى أمام المنطق السليم والمناقشة الموضوعية الحرة.
قوله :( وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ( اسم الإشارة وميم الجمع ( ذلكم ( تعني : فعلهم ذلك بكم، أي أن فعل فرعون وجنوده بكم وما أنزلوه بكم من ألوان العذاب لهو بلاء، أي امتحان واختيار عظيم، لما في ذلك من بالغ القسوة وشديد الامتهان.
١ البيان للأنباري جـ ١ ص ٨١..
قوله :( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم ( إذ في محل نصب على الظرفية الزمانية، وفرقنا من الفرق بالفتح والسكون وهو يبعني فصل أبعاض الشيء، والفرق بين الحق والباطل معناه الفصل بينهما، وذلك كقوله سبحانه :( فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( والفرقان هو القرآن سمي بذلك، لأنه يفرق أو يفصل بين الحق والباطل ومفرق الرأس وسطه الذي يفصل بين دفتي شعر الرأس، وقوله :( فرقنا ( هنا أي فصلنا البحر، أو فلقناه بعضه عن بعض فلقا، وذلك لكم أنتم با بني إسرائيل، وعلى هذا فإن الباء في بكم تعني اللام كما قيل، وقيل غير ذلك.
على أن قصة انفلاق البحر لبني إسرائيل وقائدهم موسى عليه السلام معروفة ومبينة في كتب التفسير بوضوح وإسهاب، وكل الذي نبينه هنا أن بني إسرائيل بعد أن نجوا من سطوة فرعون، وهربوا من ويله وسلطانه اتبعهم فرعون بجنوده المسخرين المستخفين، وهم حشود كبيرة من الرجال الأشرار وذلك ليعيدهم إلى نفوذه وطغيانه، ولقد ظل بنو إسرائيل هاربين واجفين مذعورين لا يلوون على شيء حتى بلغوا البحر فوقفوا بساحله واجمين حيارى لا يقدرون على شيء وكلما دنا منهم فرعون وجنوده ازدادوا هلعا وفرقا، وغشيتهم غاشية مريعة من الخوف والاضطراب، وهم في مثل هذا الموقف الموئس العصيب كانوا يجأرون بالصياح المستغيث في وجه موسى عليه السلام/ ليخلع عنهم هذا الخطر القائم المحدق، الخطر الذي يوشك أن يسوقهم إلى الموت على يد فرعون وجلاديه المجرمين، ثم جاء الفرج بعد ذلك فتمخض العسر عن أجلى يسر وتحولت بهم الحال إلى أسعد حال من السلامة والنجاة من خلال معجزة ربانية أجراها الله جلت قدرته على يد نبيه وكليمه موسى عليه السلام، وفي مثل هذه الساعة المكروبة الحرجة يقول سبحانه :( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( فما أن ضرب موسى البحر بعصاه حتى انفلق، فكانت فيه جملة طرق يابسة مذللة للمسير، وكانت المياه تجف بالطريق من كلا الجانبين وكأنها الأطواد أي الجبال، ومفردها الطود وهو الجبل، أي أن جبالا من المياه الراكمة المجتمعة تتماسك على دفتي كل طريق وذلك بقدر من الله وبإرادته التي تخرق كل قانون مقدور والتي لا تحجبها نواميس الحياة والطبيعة.
هكذا كان يشير بنو إسرائيل من خلف قائدهم موسى خلال هذه الطرق الممهدة في وسط البحر وهم ينظرون عن يمين وشمال فيبصرون أطوادا من جبال من الماء واقفة بإذن الله من غير أن تميل عليهم فتغرقهم إغراقا، وهم وسط ذلك كله سائرون آمنون، وفي ذلك كله قوله سبحانه :( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يابسا لا تخاف دركا ولا تخشى (.
لقد ضرب الله بني إسرائيل في البحر طريقا سهلا ممهدا يبسا، لكي يسلكوا فيه آمنين مطمئنين لا يدركهم فيه عدو لاحق، ذلك هو قرار الله الفاصل وهو أن يكتب لبني إسرائيل النجاة من طغيان فرعون، ولا جرم أن يكون هذا الحدث الهائل مكرمة ربانية فذة تضاف إلى المكارم التي امتن الله بها على اليهود في زمانهم الغابر، وهي مكارم ما أوتيت أمة في العالمين مثلها ليكون ذلك مظهرا من مظاهر التفضيل الذي حظي به أولئك القوم.
وبعد أن سلك بنو إسرائيل طريق النجاة في البحر أمر فرعون جنوده في حماقة وتغرير أن يتبعوهم فهلك وهلكوا جميعا، ثم قذفه البحر ميتا بلا حراك صوب الساحل فسقط بذلك شيطان أكبر من شياطين الإنس المجرمين العتاة في هذه الدنيا.
ومن لطيف ما يكتب عن هذه القضية أن يهود لمن يصدقوا خبر فرعون وانه أدركه الغرق في البحر، حتى لفظ أنفاسه ما كان اليهود ليصدقوا ذلك الخبر وهم لفرط الهلع الذي استحوذ عليهم ولفظاعة الفرق المرجف الذي أطار قلوبهم جميعا ما كانوا يستطيعون التصديق بأن فرعون قد مات حتى رأوا رأي العين فتثبتوا واطمأنوا لصحة الخبر.
لقد سقط هذا الجبار المتمرد الذي ساس الناس بالباطل بعد أن أزهق نفوسا كثيرة بغير حق طيلة حقبة من الزمن، إلى أن كانت النهاية البشعة وهو يلقى مصيره من التغريق فيطرحه البحر صاغرا خاسئا ليراه الناس جثة هامدة وتبصره الأجيال جيلا بعد آخر، وهو قابع مسجى حتى أيامنا هذه، وفي ذلك يقول القرآن في فرعون وهو يكشف عن ظاهرة من ظواهر إعجازه ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية (.
قوله تعالى :( وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ) إذ تأتي في محل نصب على الظرفية الزمانية، وقوله ( وعدنا ) من المواعدة وأصلها الوعد الذي قرره الله عز وجل لموسى عليه السلام، فقد قرر مواعدته لموسى على الجبل في طور سيناء وذلك في ميقات امتد أربعين ليلة، وقد كان تقدير الفترة الزمنية للميقات في الأصل أن تكون ثلاثين ليلة، لكنها زيدت بعشر ليال أخريات، فكان هذا التأخر باعثا لبني إسرائيل على التطرف والشذوذ كعادتهم فقالوا عن موسى : قد أخلفنا موعده، وبعدها سقط اليهود في زلتهم الفادحة ظنا منهم أن موسى لن يعود فاتخذوا لهم من بعده إلها عجلا له خوار فبعدوه من دون الله وذهلوا عن ملة التوحيد وعن موثقهم الذي وثقوا به من الالتزام على الدوام بدين موسى نبيهم ومنقذهم.
قوله :( وأنتم ظالمون ) الواو للحال والجملة الاسمية من المبتدأ وخبره في محل نصب حال، لقد فعل اليهود فعلتهم النكراء باتخاذهم العجل إلها فكانوا بذلك ظالمين أي مشركين، والظلم معناه الشرك وهو في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله :( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) العفو معناه المحو والإسقاط، نقول عفا الله عنك أي محا ذنوبك، وعفوت عنك الحق أي أسقطته عنك، نقول عافاه الله أي محا عنه الأسقام وتأتي عفا أيضا بمعنى كثر، نقول عفا الشيء أي كثر وزاد، وفي الآية الكريمة ( حتى عفوا ) أي كثروا وفي الحديث الشريف، " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " أي اتركوها لكي تكثر وتطول.
والفرق بين المغفرة والعفو، أن الأولى تكون من غير ذنوب قارفها العبد، لكن العفو يمكن أن يكون بعد مقارفة العبد للذنوب، وعلى هذا فقد عفا الله عن بني إسرائيل بعد أن ارتكبوا أسوأ جريرة وهي عبادتهم للعجل، وكان ذلك بعد أن أرهقهم الله بتكليف يؤدونه ليكون لهم عند الله توبة عوضا عن إفراطهم في اتخاذهم العجل إلها، فكان التكليف أن يقتلوا جميعا فيضرب رقاب بعض على نحو ما سنبينه في موضعه من هذه السورة إن شاء الله.
قوله :( لعلكم تشكرون ) كاف للمخاطب في ( لعلكم ) في محل نصب اسم لعل والميم للجمع، والجملة الفعلية في قوله :( تشكرون ) في محل رفع خبر لعل، والشكر هو الاعتراف بالنعمة عن طريق القول والفعل، أما القول فهو دوام النطق والإقرار بنعمة الله بوساطة اللسان، والفعل يتحقق بأداء الطاعات وتجنب المعاصي، ونقيض الشكر الكفر وهو الجحود ونكران النعمة والجميل، وفي الحديث " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " ومن الشكر الشكران ونقيضه الكفران.
لقد عفا الله عن بني إسرائيل ما اقترفوه من جريمة الإشراك بعد أن أرهقهم بعذاب الاقتتال عسى أن يكون ذلك باعثا لهم على الفيئة إلى الله والاعتراف بأنعمه التي أسبغها عليهم فيكونوا بذلك له من الشاكرين.
قوله تعالى :( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) إذ تفيد الظرفية الزمانية للماضي وآتينا بمعنى أعطينا فقد أعطى الله كليمه موسى الكتاب والفرقان، أما الكتاب فهو التوراة بغير خلاف، لكن الإشكال في المقصود بالفرقان. فقد ورد في ذلك أقوال كثيرة تتراوح بين التوسط والبعد، لكننا نقتضب من بين ذلك أقوالا ثلاثة في المقصود بالفرقان وهي :
القول الأول : إن الفرقان هو نفسه الكتاب وقد جيء به بعد الكتاب على سبيل التأكيد.
القول الثاني : معنى الفرقان هنا الفرج والمخرج، وذلك ما كتبه الله لبني إسرائيل بعد أن كانوا مقهورين أذلة تحت نير فرعون، ويعزز هذا القول الآية الكريمة :( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) والمقصود به هنا انفراج الكرب والخروج من العسر والضيق.
القول الثالث : إنه بمعنى التفريق بين الحق والباطل، أي أن موسى قد أوتي التوراة وكذلك أوتي من الله علما يفرق به بين الحق والباطل وذلك هو الفرقان، وهو ما نميل إليه ونرجحه والله أعلم.
قوله :( لعلكم تهتدون ) كاف المخاطب في محل نصب اسم لعل، والميم للحمع والجملة الفعلية المكونة من الفعل وواو الجماعة الفاعل في محل رفع خبر، وقد أنزل الله على بني إسرائيل كتابه التوراة فيه هداية لهم ونور لينجوا من الضلالة ويتجنبوا السقوط في براثن الشر بكل أشكاله.
قوله تعالى :( وإذ قال موسى لقومه إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى باريكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير عند باريكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( إذ تفيد الظرفية الزمانية، وأصل موسى موشا، كما قيل وهما كلمتان تعني أولاهما ماء وتعني الأخرى شجر فقد سمي موسى بذلك لأنه كان مخبوءا في تابوت يطفو على سطح الماء ومن حوله أشجار وقد بقي كذلك حتى ألقاه قوم فرعون الذين التقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا.
أما القوم فهم جماعة الرجال ليس فيهم امرأة، والواحد رجل، والجمع أقوام وقد سموا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات، وقد تدخل النساء في القوم، فإن من المعلوم أن قوم كل نبي يتألف من الرجال والنساء، وينطبق على القوم كل من التذكير والتأنيث، فنقول : جاء القوم وجاءت القوم، وقوله :( يا قوم ) أصلها قومي حذفت الياء للتخفيف، وهي يجوز إبقاؤها في غير القرآن.
قوله :( إنكم ظلمتم أنفسكم ) ذلك تأكيد على أنهم أوقعوا أنفسهم في الظلم وهو في اللغة وضع الشيء في غير موضعه كما بينا سابقا، والظلم كثيرا ما يرد في القرآن بمعنى الشرك، وهو ما سقط فيه بنو إسرائيل عندما اتخذوا العجل لهم معبودا من دون الله، فهم بذلك قد ظلموا أنفسهم وأوردوها سوء المورد وهو الشرك بسبب اتخاذهم العجل إلها، وهم من أجل ذلك قد استحقوا من الله العذاب ليتوب عليهم بعد ذلك. فما كان لجريمتهم النكراء هذه أن تمر بغير حساب في هذه الدنيا، وما كان الله ليتوب عليهم قبل أن يجهدهم بعظيم البلاء وهو بلاء لا جرم أن يكون شديدا. وهو ما يشير إليه قوله سبحانه :( فتوبوا الى باريكم فاقتلوا أنفسكم ) والبارىء هو المبدع للشيء المخترع له، أو المحدث الي يصنع الشيء على غير مثال سبق، أما الخالق فهو من الخلق ويعني التقدير، فالخالق هو المقدر الذي ينقل الشيء من حال إلى حال.
أمر الله بني إسرئايل الذين كانوا مع موسى أن يعلنوا توبتهم بالقتل، وذلك لقوله تعالى :( فاقتلوا أنفسكم ) وقد جاء في كيفية ذلك بضع أقوال للمفسرين نقتضب اثنين منها، أما الأول فهو أنهم وقفوا صفين متقابلين فقتل بعشهم بعضا، من غير تمييز، وقد ظلوا على تلك الحال من الاقتتال حتى سقط منهم خلق كثير ثم تاب الله عليهم من بعد ذلك.
وأما القول الثاني : فهو أن الذين عبدوا العجل وقفوا صفا ثم دخل الذين لم يعبدوه ومعهم السلاح، فمالوا عليهم ضربا بالسيوف والخناجر والسكاكين الى أن قتلوا منهم أناسي كثيرا، لكن الراجح في تقديرنا هو القول الأول وهو ما ذهب إليه كثير من المفسرين، وهو أنهم اقتتلوا فيما بينهم فجعل بعضهم يضرب رقاب بعض أو أحدهم يقتل الذي يليه كائنا من كان حتى أوحي إليهم أن يكفوا عن الاقتتال، كذلك كانت توبة بني إسرائيل إذا ما اقترفوا مثل هذه الكبيرة النكراء.
قوله :( ذلكم خير لكم عند باريكم فتاب عليكم ) اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ والميم للجمع، و( خير ) خبر مرفوع والإشارة في قوله :( ذلكم ) تعود إلى إعلان التوبة الحقيقية من اليهود وهي على الكيفية المبينة من اقتتالهم فيما بينهم، إذ يقتل بعضهم بعضا دون تمييز أو تردد، وفي هذه التوبة العملية القاسية ما يشهد لهم عند الله بالتوبة وهو سبحانه البارىء الذي خلق الوجود والخلائق من العدم والذي يقبل التوبة عن عباده.
وقوله :( فتاب عليكم ) ذلك إعلان من الله لهم بالتوبة بعد أن نفذوا عملية الاقتتال بغير موارية أو تملص وهي عملية لا ريب أن تكون ثقيلة كؤودا تمكن قوم موسى من مجوزتها فاستحقوا من الله التوبة والغفران، وهو سبحانه الذي يغفر الذنوب جميعا والذي يتجاوز عن مساءات المسيئين مهما تكن من الفداحة والكثرة، ( إنه هو التواب الرحيم ). ١
١ تفسير القرطبي ج ١ ص ٣٩٣-٤٠٢ وفتح القدير جـ ١ ص ٨٤-٨٦ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٨٢..
قوله تعالى :( وإذا قلتم يا موسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى عليه السلام، أنهم لن يومنوا له أو يصدقوه إلا إذا رأوا ربهم جهرة أي علانية أو عيانا، وهي من الجهر أو المجاهرة أو الجهار بمعنى الظهور أو الإظهار.
وقد ورد قولان في حقيقة الذين اجترحوا هذه المقولة ( لن نومن لك حتى نرى الله جهرة ).
وأحد هذين القولين : أن ذلك في السبعين من بني إسرائيل الذين اخارهم موسى لميقات ربه، فلما أسمعهم موسى كلام الله عتوا وأسرفوا في التمرد وغالوا مغالاة يتورع عنها الخاشعون الذين يتقون الله فقالوا :( لن نومن لك حتى نرى الله جهرة ) وذلك مطلب لا جرم ينطوي على غاية الاجتراء الفاجر أو التطاول الأثيم المغالي الذي ينم على طبع لجوج متوقح، خصوصا إذا علمنا أن هؤلاء السبعين كانوا من خيرة بني إسرائيل وصفوتهم الذين اصطفاهم موسى لإعلان التوبة نيابة عن قومهم فوق الجبل المقدس.
هؤلاء هم صفوة القوم وطليعتهم في العلم والورع، لا يتورعون عن مطالبتهم السقيمة وهي أن يروا ربهم عيانا علانية، وهي مطالبة لا تتيسر للبشر في هذه الدنيا كما ذهب أكثر أهل العلم فضلا عن أن ذلك لا يليق بمثل هذه الصفوة من خيار بني إسرائيل الذين انتخبهم موسى لميقات الله على الجبل، إنه لا يليق بهم، وهم الطليعة المؤمنة المصطفاة من القوم أن يطلبوا مثل هذا المطلب المتطاول الذي لا تشفعه أية أثارة من تواضع أو تورع أو حياء.
وثاني هذين القولين : أن موسى لما رجع من عند الله ومعه الألواح قد كتب فيها التوراة وفيها علم وهداية ونور، أمرهم أن يهتدوا بهديها وأن يأتمروا بما فيها من أوامر أو زواجر، فقال له قومه مقولتهم هذه العاتية المقبوحة :( لن نومن لك حتى ترى الله جهرة ).
قوله :( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) الصاعقة هي الصيحة، وقيل النار، أو هي النازلة من الرعد، وكلها معان متشابهة من حيث العذاب الحارق المدمر الذي لا يصيب شيئا إلا دكه دكا وحرفه تحريفا، لما قال قوم موسى مقالتهم العاتية سواء قالها السبعون أو عامتهم أصابهم الله بنوازل من الصواعق الحارقة التي تدمرهم تدميرا، وقد كان ذلك وهم ينظر بعضهم بعضا فكلما أصابت الصواعق فريقا منهم نظر إليهم بقيتهم بعين الوجل كالذي يغشى عليه من الموت.
قوله :( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) وهذه حلقة في سلسلة العطايا والنعم التي حظي بها بنو إسرائيل بما لم تحظ به أمة في العالمين، وهي حلقة أخرى جديدة تمثل فيها العطاء الرباني الكريم بأجزل ما يكون عليه العطاء وهو بعثهم من بعد أن دكتهم الصاعقة وماتوا، لقد غفر الله لهم هذه الخطيئة فقرر سبحانه انبعاثهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا مدكوكين من شدة الصاعقة القاصمة.
قوله تعالى :( لعلكم تشكرون ) كاف المخاطب في محل نصب اسم لعل، والجملة الفعلية بعده في محل رفع خبر لعل، ولقد قرر الله انبعاثهم من بعد الموت من أجل أن يبادروا بالشكران، فعسى أن يكون في هذه المنة الربانية العظيمة ما يستنهض فيهم الفطرة، أو يذكي فيهم يقظة الحس فيدعوا لله بالامتثال والتذلل ويتوجهوا إليه شاكرين.
قوله :( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ( ظللنا من التظليل وهو الستر وأصله الظل ومعناه الفيء الذي يغمر فيه المستظل ليحجب عن نفسه حر الشمس والغمام معناه السحاب الواقي الذي يصنع الظل، ومفرده الغمامة وهي السحابة سميت بذلك، لأنها تستر ما دونها نقول : غم الهلال أي ستر بغيم أو نحوه، وفي الحديث الشريف فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أي إن سترت رؤية الهلال بغيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.
والمعنى أن الله جلت قدرته قد من على بني إسرائيل في الصحراء الحامية فظللهم بالسحاب الواقي الرخي الذي يغمرهم بستار الفيء، كيلا تلتفح وجوههم وجلودهم بحرارة الشمس الحارقة، خصوصا وأنهم كانوا سادرين في التيه حيث الجفاف والقحط وحيث الشمس البارزة المتجلية التي تصلي من تحتها صلبا، في هذا الجو الشديد الحامي أنعم الله على اليهود بأن سترهم بالغمام من فوقهم كأنما هي المظلة يثوي إليها الناس فتقيهم شر العوادي والبوائق.
قوله :( وأنزلنا عليكم المن والسلوى ( أما تأويل ( المن ( فقد جاء فيه عدة أقوال للمفسرين وهي أقوال متقاربة تتراوح في تفسير المن بين اعتباره طعاما أو شرابا، ولعل خير ما ورد في ذلك ما قاله الإمام المفسر ابن كثير وهو يعرض لأقوال المفسرين في حقيقة المن فقال : والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس فيه عمل ولا كد، والمقصود الأهم أن المن ضرب من الطعام أو الشراب أو ما كان مختلطا من كليهما، كان اليهود يتخذونه لهم قوتا سائغا شهيا وهم يجدونه متقاطرا فوق الصخور والأشجار دون أي عناء.
أما ( السلوى ( فإنها صنف من الطير يشبه السماني أو هي السماني نفسه، وذلك طير نافع مأكول قد أفاض الله به على بني إسرائيل في سيناء ليأكلوا منه هنيئا مريئا من غير أن يجدوا في ذلك نصيبا، وفي ذلك يقول لهم سبحانه :( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( والطيبات مفردها طيبة، وهي من الفعل طاب يطيب نقول طاب الشيء فهو طيب إذا كان لذيذا أو حلالا، والأمر في قوله :( كلوا ( يفيد الإباحة فقد أباح الله لهم أن يستمتعوا بما رزقهم من حلال لذيذ، وهي نعمة قد أفاشها الله عليهم في ساعات العسر، وفي أحلك أوقات الشدة، التي تجتمع فيها أهوال من الحر والجوع والارتباك والحيرة في مثل الصحراء اليابسة الجرداء التي تغيب فيها كل أسباب العيش والأمان.
ولا يكاد المتدبر يردد كلمات الله في هذا الصدد حتى يستذكر أحداثا من الأهوال والمآسي قد عانى منها أصحاب النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وهم يحتملون من الشدائد والكروب ما لا يقدر على احتماله بشر، نقول ذلك ونحن نستذكر حالات الحروف والجوع والأذى التي كان يعاني منها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، في مستهل دعوة الإسلام، يوم أن تمالأ عليهم الناس من بني عشيرتهم وقومهم إذ كانوا يناصبون الكيد والشر، ويتحرشون بهم ليضيقوا عليهم تضييقا، ثم يأتمرون بهم ليوثقهم أو يخرجوهم أو يقتلوهم قتلا، وفي طليعتهم القائد الملهم الفذ نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق ما يرد في هذا الصدد ما نطق به القرآن الكريم :( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( ومع ذلك كله فقد ثبت أصحاب النبي عليه السلام في وجه الكوارث والأهوال فما وهنوا أو استكانوا لما أصابهم، وما تزعزعت عزائمهم أمام النوائب والكروب، ولا شددوا على نبيهم في الطلب والدعاء، ولكنهم ظلوا صابرين محتسبين إلى أن كتب الله لهم النصر المبين.
قوله :( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( آتيناهم كثيرا من النعم والخيرات، ورزقناهم كثيرا من الطيبات، وخولناهم ذلك كله ليأكلوا منه ويتمتعوا به ثم ليعبدوا الله ويذعنوا له بالطاعة وتقديم الشكران، لكنهم عصوا وفسقوا عن أمر الله فظلموا بذلك أنفسهم إذ أوردوها أتعس مورد ولم يظلمونا نحن فإننا لا يمسنا ظلم ولا يحيق بنا ضر أو لغوب.
قوله تعالى :( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (.
بعد أن من الله على قوم موسى فأذهب عنهم محنة الضياع في التيه حيث الحيرة والتلجلج والاضطراب بعد ذلك أمرهم الله أن يدخلوا ( هذه القرية ( والقرية من الفعل قرى يقري أي جمع يجمع، نقول قرى الماء في الحوض أي جمعه فيه، والمقراة مكان يجتمع فيه الماء وجمعها مقاري وهي الجفان الكبار ومفردها جفنة وهي وعاء واسع لاستيعاب الماء.
وتطلق القرية ويراد بها المدينة، وقد سميت بالقرية، لأنها مكان يجتمع فيه الناس، مثلما نقول قرية النمل مكان اجتماعها، والقارية الحاضرة الجامعة. ١
على أن المقصود بالقرية هنا موضع خلاف المفسرين، فقد قيل إنها أريحا وقيل : هي مصر، وفي قول ثالث : إنها بيت المقدس، وهو ما يميل إليه أكثر العلماء، وسواء كان المقصود هذه المدينة أو غيرها من المدن فإن مثل هذا الأمر يعتبر في حكم المنطق والشريعة قد مضى وانقضى، فهو ليس جزءا من عقيدة التوحيد لا يقبل التغيير أو التطوير ولا هو قاعدة ثابتة في السلوك والأخلاق التي تعتمد القيم الراسخة الأصيلة والتي تظل على الدوام مستقرة لا تتحول. ليس هذا الأمر على شيء من ذلك ولكنه أمر مرحلي قابل للتغيير والتبديل وهو كذلك قابل للتحوير والتطوير بما تقتضيه ملابسات المجتمع ومقتضيات الأعراف والأوضاع والشرائع، فإذا ما خول الله بني إسرائيل أن يدخلوا القدس في غابر الزمان تحت قيادة منقذهم موسى عليه السلام، أو يوشع بن نون من بعده فإن مثل هذه المسألة ليس إلا أمرا مرحليا اقتضته ظروف معينة، وتلك مرحلة من تاريخ بني إسرائيل ليس لها أن تتكرر بالضرورة، لا بحكم المنطق السليم، ولا بحكم النبوة الصادقة، ولا بحكم الدين إذا لم يتخلله تحريف أو خلط أو تزييف، إنه ليس لهذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل أن تتكرر لمجرد أنها حدثت مرة من زمان، لأن حدوثها ما كان إلا تنفيذا لأمر من أوامر مرحلية يمكن أن يقع عليها التبديل أو النسخ لتصبح أثرا مسطورا في الكتب من غير مفعول أو تأثير، فإن من الأولى أن تتغير مثل هذه الأوامر المرحلية التي لا ترتبط بالعقيدة أدنى ارتباط خصوصا إذا علمنا أن ديانة السماء لا تقوم على التعصب للعرق أو الجنس، كليلا يدعي أحد وهو يتصور تصور الواهمين الحالمين، أنه ذو انتماء لشعب مفضل مختار خير من شعوب الأرض طرا، ذلك تصور خاطىء واهم، وأصدق ما يجيء في هذه المسألة من عدم الاعتداد بالآباء والأجداد الذين مضوا إلى غير رجعة ما قاله الله بني إسرائيل :( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ).
قوله :( فكلوا منها حيث شئتم ) كلوا جملة فعلية تتألف من فعل وفاعله، حيث ظرف مكان مبني على الضم مضاف إلى الجملة الفعلية بعده، رغدا اسم مصدر منصوب نائب عن المفعول المطلق ( أكلا ) والرغد الرزق الكثير الواسع.
قوله :( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( أمرهم الله لدى وصولهم المدينة أن يدخلوها سجدا، والمقصود بالسجود هنا يحتمل أحد معنيين وهما : الركوع، فعلا، أو الخشوع الوجداني الغامر الذي يقترن بالتواضع عند الدخول، وكلا الاحتمالين جيد وإن كنت أرجح الأول وهو أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة ركعا وذلك على سبيل الأخذ بالظاهر والاعتماد على مفهوم السجود الذي يراد به هنا الانثناء على هيئة الركوع.
وفوق أمرهم بالدخول سجدا، أمرهم الله أن يشفعوا ذلك بقولهم :( حطة ) وهي خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وتقديره : مسألتنا حطة، وقد اختلف أهل التأويل في المراد بهذه الكلمة، ويمكن أن نستخلص قولين في المراد بها، أحدهما : أن الله عز وجل قد تعبد بني إسرائيل بحرفية هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم، فإنهم بذلك مأمورون أن يعبدوا ربهم بقولهم حطة، ليكفر الله عنهم مات اقترفوه من المعاصي والذنوب وهم يخالفون عن أمر نبيهم موسى وأمر ربهم ذي الفضل والمنة عليهم.
ثانيهما : أن كلمة حطة تعني احطط عنا الذنوب فهي بذلك منصوبة باعتبارها اسم مصدر، وفي تقديرنا أن القول الأول أقرب للصواب، ذلك أن الله سبحانه قد تعبدهم بقولهم هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم لولا أنهم بدلوا تبديلا، ويعزز هذا القول ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم وقالوا : حبة في شعرة.
وأخرجه البخاري بلفظ آخر وقال : " فبدلوا وقالوا : حطة حبة في شعرة " ٢ وقد ورد مثل هذا الحديث في غير البخاري ومسلم بلفظ : " حنطة في شعر " وذلك كله على سبيل السخرية والاستهزاء فكتبت عليهم خطيئة مضافة إلى خطاياهم التي قد حفل بها سجل أعمالهم من حيث التمرد والفسق عن أمر الله.
وقوله :( وسنزيد المحسنين ) وعد الله بالتفكير عن سيئات العاصين الذين خالفوا عن أمر الله بعد أن يقولوا حطة، وأنه سبحانه سيزيد في إحسان من ظل منهم مستقيما، فلم يعبد العجل وصان نفسه ولسانه عن الخطايا والذنوب.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٧٩..
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٩٨..
قوله :( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) أي أنهم سخروا مما أمرهم الله بقوله وهو حطة، فبدلوا ذلك بمقالة الفسق والسوء وهي حنطة في شعر، أو نحو ذلك مما بينا آنفا وذلك ظلم قد فارقه بنو إسرائيل فكان حقا على الله أن يذيقهم رجزا من عنده والرجز هو العذاب، وذلك في قوله تعالى :( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) قد أنزل الله عليهم عذابا من السماء جزاء فسقهم والفسق هو الخروج عن طاعة الله والخالفة عن أمره. ١
١ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٩٤-٩٩ والكشاف جـ ١ ص ٢٨٢-٢٨٣ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ٤٠٤-٤١٠..
قوله تعالى :( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فافجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) وتلك نعمة عظيمة أخرى أنعمها الله على بني إسرائيل إذ فجرت لهم من الصخر الصلد ينابيع تفيض بالماء فقال :( وإذ استسقى موسى لقومه ) السين الأولى تفيد الطلب أي أن موسى طلب السقاية لقومه حال كونهم في التيه، فأوحى الله إليه أن يضرب الحجر بعصاه، وليس لنا هنا أن نخوض في حقيقة الحجر لنعلم أصله وموضعه وغير ذلك من وجوه المعرفة التي لا تزيد من أهمية القضية شيئا، فثمة روايات يخالطها الغلو والإفراط ولا تستند إلى الدليل الصحيح الموثوق مما يثير في الذهن الشك وعدم التصديق فمن قائل بأن الحجر كان مربعا طوريا، نسبة إلى جبل الطور وأنه على قدر رأس الشاة، وقائل بأنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى وقائل بأن الله تعالى أمر موسى أن يضرب حجرا بعينه بعد أن بينه له، وقائل بأنه هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل حتى برأه الله مما رماه به قومه، الى غير ذلك من الروايات المستمدة في غالبها من الإسرائيليات التي كثيرا ما يعوزها الدليل، ويخالطها الشك، وعلى هذا فكل الذي نركن إليه في هذا الصدد أن نبي الله موسى عليه السلام قد ضرب الحجر بعصاه بناء على تكليف من ربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من غير أن نخوض في ذلك تفصيلا يقود إلى التكلف.
قوله :( قد علم كل أناس مشربهم ) كان بنو إسرائيل في التيه كثيرين، فقضت مشيئة الله المنان أن تتدفق لهم المياه بغزارة ليشربوا في سهولة ويسر ولئلا يتضايقوا أو يتزاحموا فانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينا وفي ذلك ما يسد حاجة بني إسرائيل وزيادة، وفيه ما يدرأ عنهم حرارة العطش ويفيض عليهم ببركة العيش الهانيء الرخي.
ويبدو أن عدد العيون الدافقة بالماء جاء كفاء لعدد أسباط بني إسرائيل وهم أسباط قد انحروا من نسيل أبيهم يعقوب وكانوا اثني عشر فردا قد تناسلوا وتكاثروا حتى آلوا إلى خلق كثير قارب المليون من النسمات كما يظهر من الأخبار التي تروي مثل هذه القضايا، وقد علم كل سبط من هؤلاء الأسباط ( مشربهم ) أي موضع شربهم الذي يستقون منه دون تجاوز لغيره، ليكون في ذلك نظام لهم مطرد تستقيم فيه طريقتهم في الشرب، فلا يتزاحمون أو يفتاتون.
وقوله :( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعتوا في الأرض مفسدين ) يأمرهم أمر إباحة بأن يأخذوا بنصيبهم من خير الله وفضله في المأكل والمشرب، فيأكلوا المن والسلوى وهما طعامان نافعان جيدان كان اليهود، يتناولون منهما ما شاؤوا دون تعب، ويشربون الماء العذب المتفجر من الحجر بإذن الله، وهو سبحانه نهاهم لذلك عن أن يعيثوا في الأرض مفسدين.
وذلك من الغيث وهو الشدة الفساد، وكأن العيث في الأرض بالفساد بات ديدنا تصطبغ به طبيعة بني إسرائيل الذين آلوا إلا أن يجحدوا النعم التي تهاطلت عليهم طيلة حياتهم مع أنبيائهم وفي طليعتهم موسى عليه السلام، وكذلك أن يصموا آذانهم عن كلمات الخير يرددها لهم أنبياؤهم وعلماؤهم، لكن ذلك كله لم يؤثر في هذه الطبيعة الفاسدة المعطلة إلا تأثيرا هينا، حتى بقي سوادهم الأعظم يجتر في دخيلته الغش والخداع فانطلقوا في الأرض يعيثون فسادا.
قوله تعالى :( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وقومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (.
تحكي لنا هذه الآية قصة البطر الذي ركب النفسية اليهودية بعد أن ضاقوا بطعام المن والسلوى فانقلبوا غير صابرين على هذا الطعام وحده ليرجوا بعد ذلك نبيهم موسى كي يتضرع الى الله عسى أن يخرج لهم من نبات الأرض المختلف كالبقل والفوم والبصل، أما البقل فهو نبات اخضرت به الأرض، وقيل : ما ليس له سوق من النبات.
والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم فهو موضع خلاف المفسرين وأهل اللسان فقد قيل : إنه الثوم المعروف، وقيل الحنطة وقيل غير ذلك.
هكذا بطر اليهود معيشتهم حتى عافت نفوسهم عيش الخير والنعيم حيث الراحة والرخاء وحيث الطعام النافع الجيد الذي كانوا يتناولونه في غاية اليسر وهو المن والسلوى ليستبدلوا بدلا من ذلك خسيس الطعام ودنيئه مثل البقل والقثاء والفوم وغير ذلك من أصناف الطعام الذي يدنو دون المن والسلوى سواء في المذاق والطعم أو في سهولة الحوز والتحصيل أو في كمال المشروعية والحل كما قيل : وأروع ما يرد في هذا الصدد من بيان كاشف مصور ومعبر هو قول الله سبحانه :
( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) وأداة الاستفهام تنطوي على التوبيخ المنقرع لمثل هذه الطبائع الفاسدة، وهي طبائع لا ترتضي ولا تهنأ بكريم العيش، ولكنها تظل على الدوام نزاعة للخسائس، ورحم الله الحسن البصري إذ يقول في يهود وهو يعرض لتبيين هذه الآية بالذات : كانوا نتانى أهل كرات وأبصال وأعداس، فنزعوا الى عكرهم عكر السوء، واشتقات طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد.
قوله :( أدنى ) من الفعل دنا يغير همز ومنه الدنو أي قلة الثمن، والدناوة أو الدون وذلك يقال للخسيس من الأشياء أما الفعل المهموز دنأ فهو من الدناءة أي اللؤم والخبث كمما قال بعض اللغويين، فجاءهم الرد بعد هذا المطلب الغريب البطر بأن يهبطوا مصرا، وفي قوله :( مصرا ) جاءت عدة أقوال أهمها قولان : أحدهما أن المقصود بذلك أي مصر من الأمصار على غير تعيين خصوصا وأن مصرا قد وردت في الآية منكرة مصرفة على التنوين، وذلك الذي عليه جمهور المفسرين، وذهب آخرون الى أن المقصود هي مصر فرعون واستدلوا على ذلك بما جاء في القرآن من توريث الله لبني إسرائيل ملك فرعون في مصر، والراجح عندنا هو القول الأول وذلك ما يقتضيه ظاهر الآية في الأمر بدخول القرية علما بأنهم سكنوا الشام بعد ذلك، فضلا عن إيراد الكلمة ( مصرا ) هكذا منونة مصروفة.
قوله :( فإن لكم ما سألتم ) ذلك قرار من الله بإعطائهم ما طلبوا من خسيس الطعام، وهكذا قد امتن الله على بني إسرائيل بإعطائهم ما سألوا لكنهم بطروا ذلك كله، وآلوا إلا أن يظلموا مدبرين لا يلوون على شيء من التورع أو الامتثال أو الشكران. فما عادوا بعد ذلك ليستأهلوا شيئا من الإعفاء أو التكريم إلا المهانة والهوان والتشتيت في الأرض شذر مذر، ومن أجل ذلك قال سبحانه :( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ).
وهذه كلمة الله التي تحمل القرار الرباني الحاسم، وهو قرار إلهي مقدور لا يقبل التعقيب، جاء ليعلن للأرض أن هؤلاء القوم قد ضرب الله عليهم الضعف والهوان ليسيروا في الأرض غير أعزاء ولا كرماء ولتحيط بهم غواشي المسكنة، والمسكنة من السكون وهو ذهاب الحركة، ومنه المسكين سمي بذلك لقلة حركته وسكونه الى الناس، ومنه الفعل استكاتن أي خضع وذل.
قد ضرب الله الذل والهوان على بني إسرائيل ليكون ذلك ديدنا لهم يتوارثونه كابرا عن كابر ليحيوا حياة الاستكانة والتدسس، والخور، وليكونوا أبد الدهر في شق المنافقين والأشرار من الناس، وليكونوا في طليعة الذين يتآمرون على البشرية في أروع ما تملك من عقائد وقيم، وذلك لكي تتبدد هذه المبادىء والقيم فتستحيل البشرية إلى ركام من الخلائق الضالة الممسوخة، ولتغيب عن وجه الأرض شمس الخير فتستطير بعد ذلك أصوات الشر والباطل والفساد.
ولئن تحقق لبني إسرائيل على مدار الزمن بعض الظهور والتسلط، فإن ذلك لا يحمل أية منافاة لقرار الله بضرب الذلة والمسكنة عليهم، ولكن مثل هذا الظهور أو التسلط ليس إلا انعطافا عابرا من مستثنيات الأحداث الشاذة التي يطويها التاريخ في مسيرته الطويلة أو هو مجرد التواء عارض مقدور، ربما يؤثر في عجلة الزمن الدائر بعض التأثير، وهو تأثير يحسب في عداد القضايا النادرة المستثناة التي تند من قواعد الأشياء الأساسية ندا والتي تطفو على سطح الأحداث لتمر بغير وزن أو حساب، ثم تبوء الحياة بعد ذلك الى سابق عهدها في الأصالة الثابتة والاستقرار الدائم.
وقوله :( وباءوا بغضب من الله ) باء بمعنى رجع من البوء وهو الرجوع ومنه المباءة بمعنى أقر واعترف، نقول : باء الحق أو الشيء معناه أقر به وألزم نفسه به، ١ وهكذا باء بنو إسرائيل بغضب من الله أي رجعوا وانقلبوا يحملون على كواهلهم وجباههم غضبا من الله، والغضب هو شدة المقت، نعوذ بالله عوذا يجنينا مقت الله وغضبه، ويباعد بيننا وبين أن نبوء بالآثام والمعاصي.
قوله :( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق ) وذلك تعليل لضرب الذلة والمسكنة عليهم ولبوؤهم بغضب الله، فقد حق ذلك العذاب كله عليهم بسبب ما اقترفوه من جرائم شنيعة نكراء، منها كفرهم بآيات الله، وآياته تشمل كتابه المنزل عليهم من السماء، لهدايتهم وصلاحهم وتشمل كذلك المعجزات التي أوتيها النبيون لتكون لهم علامات واضحة تشهد على نبوتهم وصدق ما يقولون.
ومنها كذلك قتلهم النبيين، ومفردها النبي وهو من الفعل نبأ وأنبأ أي أخبر، والنبأ هو الخبر، ومنه النبوة وأصلها النبوءة ومعناها الإخبار عن الغيب من طريق الوحي، وقيل نبأ الشيء نبوء بمعنى ارتفع فكأن المقصود بالنبوة السمو والارتفاع. ٢
وهذه جريمة بشعة تضاف الى عداد الجرائم التي قارفها بنو إسرائيل وهي قتلهم النبيين بغير حق، ولا ينبغي أن يؤخذ بالمفهوم المخالف هنا ليظن خطأ أن النبيين يمكن أن يقتلوا بالحق، وذلك فهم فاسد لا يستقيم، فإن قوله :( بغير الحق ) لهو مجرد وصف لجريمة اليهود وهي أنهم كانوا يقتلونهم ظلما وعدوانا، ولا يعني ذلك أنهم يجوز قتلهم إن أخطأوا فهم أصلا معصومون عن الخطايا كافة في قول أكثر أهل العلم.
ومن المعلوم أن قتل الإنسان، المؤمن لهو من كبريات الكبائر التي تورد المقترف الجاني مور جهنم، فكيف بالقتيل إذا كان نبيا من النبيين الأطهار الذين قدسهم الله وعصمهم عصمة تحول بينهم وبين الخطايا والآثام ؟ فلعمر الحق إن جريمة بني إسرائيل فظيعة مريعة ترجف لهولها وبشاعتها القلوب والأبدان، خصوصا إذا وقفنا على بعض أخبار تذهب الى أنهم كانوا يقتلون النبيين بالجملة كل يوم، حتى إنهم كانوا يبلغون بضع عشرات يقتلون مرة واحدة، فيا لهول الجريمة، وا لفداحة العدوان النكير الذي تهتز لشدته السماوات والأرض.
وقوله :( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ذلك اسم إشارة وهو تأكيد للمشار إليه مرة أخرى وهو علة ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم بوؤهم بالغضب من الله، كل ذلك كان علته عصيانهم وعدوانهم ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ).
١ مختار الصحاح ص ٦٨..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٥٨..
قوله تعالى :( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يبين الله في هذه الآية أن العبرة في الإيمان الصحيح الصادق وليس في الأشكال والمظاهر، وحقيقة الإيمان المقصود الذي يكون عليه التعويل إنما هو في اليقين بالله وباليوم الآخر، وتلكان حقيقتان تأتيان في طليعة الكبريات اليقينية التي تقوم عليها عقيدة الإسلام، ثم يأتي من بعد ذلك العمل الصالح المشروع، ومن دون ذلك كله لا تكون للإيمان أية قيمة إلا التثبت بالكلام المتحذلق والجدال الذي لا يغني.
يقول سبحانه : إن المؤمنين الصادقين الذين يرضى عنهم ربهم فيجزيهم خير الجزاء هم الصفوة المؤمنة في كل ذات كتاب أو ملة، سواء في ذلك أمة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، أو أمة كل من اليهود والنصارى والصابئين، إن الصفوة المؤمنة من كل هاتيك الأمم هي التي لها الحظ الأوفى والتي عليها المعول بغير اعتبار للاسم أو الشكل أو المظهر.
أما الذين آمنوا فهم الذين يصدقون نبوة الرسول محمد عليه السلام، والذين هادوا هم اليهود، وسبب التسمية بقوله :( هادوا ) قيل فيه ثلاثة آراء، أحدها : أن هادوا فعل ماض والمضارع يهود بمعنى ثاب يثوب ومنه قوله تعالى :( إنا هدنا إليك ) أي تبنا ورجعنا.
والرأي الثاني : أن الاسم نسبة إلى يهوذا وهو الابن الأكبر ليعقوب عليه السلام أبي اليهود، والرأي الثالث : أن هادوا من الهوادة وهي اللين والرقة، لكنني أرجح الرأي الأول القائل بأن هادوا نسبة الى يهوذا الابن الأكبر، لأن الرأيين الآخرين أساسهما الاشتقاق في العربية مع أن بني إسرائيل ما كانوا يتكلمون العربية في زمانهم بل كانوا ينطقون بلغة التوراة.
ومن جهة أخرى فإن نسبة القولين الأخريين إلى التوبة والهوادة أمر لا يستند الى دليل، أما ( والنصارى ) فمفردها نصراني، وسبب التسمية نسبة لقرية الناصرة حيث كان المسيح عليه السلام يقيم، فسموا بعد ذلك النصارى وقيل غير ذلك.
أما ( والصابئين ) فمفردها الصابىء من الفعل صبأ أو صبو صبأ وصبوء أي خرج، فالصابىء هو الذي يخرج من دين الى دين آخر، ١ ذلك هو المفهوم اللغوي للكلمة، لكن الصابئين من حيث حقيقتهم وملتهم فموضع خلاف العلماء، وخلاصة ما جاء فيهم قولان : الأول : أنهم فرقة من أهل الكتاب تحل ذبائحهم وتنكح نساؤهم والقول الثاني : هو أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولكنهم ذوو ملة يختلط فيها التوحيد بالشرك، فقيل إنهم يعبدون الملائكة أو يعتقدون تأثير النجوم. والراجح عندي أنهم ليسوا من أهل التوحيد ولا من أهل الكتاب وأنهم بذلك مندرجون في أهل الشرك، فلا تحل ذبائحهم للمسلمين، ولا تنكح نساؤهم من قبلهم وتصنيف الأمم في هذا الشأن معروف وهي أمم ثلاث : أمة القرآن ثم النصارى ثم اليهود، فليس من أمة ثالثة بعد هاتين الآخرين تنطبق عليها أحكام أهل الكتاب.
وقوله :( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ) من مبني على السكون بدل من الذين قبلها وقد بينا آنفا أن الأهمية والاعتبار إنما يكمنان في اليقين الصحيح والتصديق الأوفى اللذين يقومان على الإيمان بالله، وهذا الإيمان لهو أبسط الصور اليقينية التي يدركها العقل في غاية اليسر والتي توجبها الفطرة إيجابا لا يقبل الوناء أو التراخي.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر وهو شطر أساسي وركين تنهض عليه العقيدة من أول لحظة، والإيمان باليوم الآخر قضية حاسمة قاطعة لا تحتمل شيئا من مداهنة أو موارية ولكنها يقينية قد نطقت بها الكتب السماوية جميعها وأجمعت عليها كلمة الأنبياء في كل زمان ومكان، وهي مفرق بفصل بين الحق والباطل أو بين الشك واليقين أو بين الكفر والإيمان، وهي كذلك حقيقة كبرى تنحسر عن طاقة هائلة من التأثير والفعالية التي تقوم على أساسها شخصية الإنسان، وتركيبة المجتمع، وبالتالي فإنها تنحسر عن طاقة ضخمة تتجاوز كل تصور وحسبان من حيث تنمية الإنسان وتكييفه ليجيء على نحو معين من الطابع والسلوك.
ثم يقرن الله سبحانه الإيمان بضرورة العمل الصالح لتكتمل الصورة المطلوبة، فلا إيمان بغير عمل، ولا قيمة للعمل إذا لم يسبقه إيمان متوطد يستكن في صميم الإنسان، حتى إن العمل المطلوب هنا هو المشروط بالصلوح ( وعمل صالحا ) على أن يكون ذلك مشفوعا بالنية التي يتوجه القصد من خلالها إلى الله، كيلا يختلط العمل بالرياء وهو صورة من صور الشرك.
وهؤلاء المؤمنون على اختلاف أجناسهم وتعدد أعراقهم وقومياتهم فهم عند الله لهم الثواب وحسن الجزاء وهم بذلك مأجورون خيرا. وفوق ذلك فإنهم ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وقد سبق تفسير هذا القول الكريم وخلاصته أن هؤلاء المؤمنين الذين تجمعهم عقيدة الحق وتؤلف بينهم قاعدة الإيمان لا يخافون كما يخاف الناس، وذلك في يوم مزلزل مذهل، وفي ساعة رهيبة حرجة، يشتد فيها الهول وتخور فيها الهمم والعزائم، وكذلك فإنهم لا يحزنون لدى مفارقتهم للدنيا حيث الأهل والنسل والمال وحيث العشيرة والصحب والخلان، ومن شأن المرء أن يحزن إذا أحس بفراق من حوله من خلان وأولي قربى، وكذلك ما حوله من روابط وعلائق وذكريات تشده الى الديار والأوطان ومسقط الرأس، شدا لكن أولياء الله المؤمنين لا يحزنون فإنهم مقبلون على الله الكريم المنان الذي يبسط لهم كل العطاء من خير وجنان بما تهون دونه الدنيا كلها وما فيها من ضروب الخير والراحة والمتاع. ٢
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٦..
٢ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٤٢٢-٤٣٦ وفتح القدير جـ ٩٠-٩٤ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ٩٢-٩٦..
قوله تعالى :( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) أخذ الله على بني إسرائيل الميثاق وهو العهد الذي واثقهم به أن يؤمنوا به وبرسله، وأن يتبعوا التوراة وما فيها من هداية ونور إلا أنهم نقضوا كل ما طوقوا به أنفسهم من العهود والمواثيق. وبعد ذلك خوفهم الله تخويفا أحسوه عيانا، إذ رفع فوقهم الطور ليهتدوا ويتبعوا ما أنزل إليهم، واختلف أهل التأويل في حقيقة الطور فقد قيل : إن المقصود به طور سيناء وهو الطور المقدس، الذي كلم الله نبيه موسى عليه وأنزل عليه التوراة فيه، وقيل : إنه جبل من الجبال قد رفعه الله فوق اليهود ليرعبهم وليحملهم على اتباع ما أنزل إليهم، وقيل غير ذلك.
قوله تعالى :( خذوا ما آتيناكم بقوة ) أراد الله جلت قدرته أن يزلزل بني إسرائيل لفرط عصيانهم وتمردهم واختلافهم على أنبيائهم ولشدة مخالفتهم عن أمر الله، فرفع الجبل فوق رؤوسهم حتى أيقنوا أنه ساقط عليهم فمدمرهم تدميرا، وذلك كي تلين نفوسهم للحق وتستقيم طبائعهم بعد اعوجاج وطول أرجحة وميوعة، فيقبلوا على الله باتباع دينه والعمل بما جاءت به التوراة. يبين ذلك ويوضحه ما قاله سبحانه في الآية الأخرى :( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) والنتق هو الرفع فقد رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، ليخافوا ثم يتبعوا كلام الله فقال وهم في هذه الحالة من الخوف الشديد بعد أن نتق فوقهم الجبل ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) أي ألزموا أنفسكم بالتوراة التي أعطيناكم إياها لتكون لكم هاديا ومنيرا، وخذوها بقوة أي بجد واهتمام وعزيمة لا بضعف وهزل ورخاوة كما هي حالكم من الخور والميوعة، وفي قوله :( بقوة ) ما يكشف عن طبيعة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وهي طبيعة تقوم على الرخاوة واللامبالاة وعدم الجد بحيث لا يناسبها الأسلوب الين الكريم أو الخطاب المؤثر الحاني وإنما يناسبها الحزم والشدة، ويؤثر فيها الترويع والعقاب حق تأثير، ومثل هذه المعاني يكشف عنها قوله سبحانه :( بقوة ) ويكشف عنها كذلك نتق الجبل فوق رؤوسهم تهديدا لهم وترغيبا حتى انصاعوا للأمر فخروا ساجدين، وبغير هذا الأسلوب القاسي، المحسوس لا يصلح لمثل هؤلاء القوم شأن، فلا الحجة الدامغة ولا البرهان الساطع، ولا الخطاب الكريم الذي يلج في النفس فيؤثر فيها تأثيرا، ولا الأساليب الأخلاقية العالية التي تستنهض فطرة الإنسان، ولا غير ذلك من أسباب المنطق وأثارة الوجدان يمكن أن يحمل مثل هؤلاء على الالتزام بشرع الله والسير على صراطه المستقيم.
ولعل مثل هؤلاء القوم مجرد نموذج منن البشر الذي لا يثنيه عن الباطل غير القوة، فلا أحسب أن هؤلاء القوم وحدهم لا يستجيبون إلا للقوة ولكن أصنافا كثيرة من البشر في مختلف البقاع والأزمنة وفي مختلف الأجناس والملل لا يرعون إلا إذا أحاطت بهم الشدة وأخذوا بأسلوب العصا الغليظة، ويعزز هذه الحقيقة الحديث الشريف الذي يتسم بالعمومية والشمول إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وقوله :( واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) أمرهم سبحانه أن يأخذوا التوراة، ليتدبروا ما فيها وليعوها وعيا تاما وافيا، فعسى أن يكون في ذلك ما يقيهم العذاب ويدرأ عنهم الشدائد في الدنيا والآخرة.
وقوله :( ثم توليتم من بعد ذلك ) ما أعجب هؤلاء الناس، وما أعجب طبائعهم فكم مرة يؤمرون ويعصون ثم يحيق بهم العذاب يهددهم تهديدا حتى إذا انكشف عنهم العذاب عادوا الى الجحود والعصيان، وعادوا ديدنهم في الفساد والتمرد وذلك في غاية من الميوعة والهزل والتأرجح، وهذه مرة أخرى من المرات التي يتحدث فيها القرآن عن حمل بني إسرائيل على الطاعة بالقوة والتهديد، ثم إذا زال عنهم ما يرعبهم ويخوفهم رجعوا إلى المقصود ( ثم توليتم من بعد ذلك ).
وفوق ذلك كله فإن الله جلت قدرته رحيم بهؤلاء القوم فقد بسط لهم من أهداب الرحمة والمغفرة ما يثير في النفس العجب، ويرسم للذهن أجلى صورة عن مدى الرحمة التي تتجلى في جلال الله سبحانه، لا جرم أن رحمة الله تدنو دونها سائر الرحمات، فقال سبحانه :( فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) يمن الله على بني إسرائيل بفضله عليهم ورحمته، وأنه أولا هذان : الفضل والرحمة لكانوا من الخاسرين، والفضل هو الإحسان، والرحمة معروفة فهو سبحانه الرحيم الحنان المنان وهو أرحم الراحمين، وهو سبحانه لا يدانيه في هذه الخصيصة أي كائن حتى إنه اسمه الرحمن وهو اسم لا يليق أن يكون لأحد سوى الله، فهو وحده الحقيق بذلك.
وقوله :( الخاسرين ) من الخسر والخسران والخسار والخسارة والتخسير. وهو ضد الربح وهو يعني الضلال والهلاك، ١ فإنه لولا فضل الله على هؤلاء القوم ورحمته بهم لأصابهم الهلاك على الفور، ولهبطوا في الضلال دون إنظار أو وناء، ولكن الله تعالى كان في كل مرة يعصونه فيها يمن عليهم بالفضل والرحمة فيعفو عنهم ويبسط لهم جناح العفو والغفران ليعاودوا السير في ظل الله والالتزام بدينه من جديد، لكنهم أخيرا أبوا إلا التمرد المكرور الذي لا ينقطع حتى دمر الله عليهم تدميرا فكتب عليهم الذلة والمسكنة، ومزقهم في الأرض شر ممزق، وقطعهم في الأرض أشتات أمما.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ١٨١..
قوله تعالى :( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) ذلك خطاب من الله لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بقصة العدوان والتحدي اللذين مارسهما آباؤهم من بني إسرائيل يوم تحيلوا على دينهم بطريقة مفضوحة تقوم على الكذب والخديعة فاصطادوا السمك والحيتان يوم السبت، وقوله سبحانه :( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم يوم السبت ) ولم يقل عرفتم، فإن المعرفة متعلقة بذات الإنسان وعينه لكن العلم متعلق بأوصافه وأحواله. فاليهود الذين عاصروا النبي عليه السلام يعلمون عن حال آبائهم وأجدادهم من بني إسرائيل الذين اعتدوا في السبت.
والمعلوم أن السبت لدى اليهود هو يوم عبادة ينقطعون فيه عن جميع الأعمال والممارسات سوى العبادة وما لها من مقتضيات، فأحست الأسماك والحيتان بغريزتها أن هذا اليوم بات يوم أمن وسلام لها، فلا يصيبها فيه أذى أو اعتداء، فكانت بذلك تفيض صوب الشاطىء بأعداد كثيفة كاثرة مما ألهب في نفوس بني إسرائيل غريزة الطمع وجمع المال فجعلوا يصنعون الحفر والحبائل والبرك لتلجأ إليها الأسماك يوم السبت دون أن تتمكن بعد ذلك من الخروج أو التخلص فتظل حبيسة محشورة على هذه الحال إلى أن ينقضي السبت، ثم تأتي جماعات يهود فتأخذ ما وقع من هذه الأسماك والحيتان متذرعين بأنهمن أخذوها الأحد، وتلك طريقة المعتدين الخونة الذين ألهبهم الطمع واستفز أعصابهم ونفوسهم لتجهد لاهثة وراء المال والحطام الزائل، وقد كان ذلك من خلال أسباب خسيسة في الاحتيال والغش والخداع الأثيم.
وقوله :( السبت ) وهو مفرد مصدر جمعه أسبت وسبوت، ومعناه : الراحة والقطع، والانقطاع عن المعيشة والاكتساب، ١ ليتسنى لهم أن يعبدوا الله غير منشغلين بما يعيق.
وقوله :( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) كان ذلك جزاء لهم على فعلتهم الماكرة بالتحايل على أوامر الله بأسلوب رخيص ينم على سوء في النية وفساد في الطبع والسجية، فقد أمر الله بقدرته المطلقة التي تتحقق فيما بين الكاف والنون ( كن ) أن يتحول هذا الفريق الفاسد المتجاوز المحتال الى قردة، لكن هل انقلبوا إلى قردة من حيث الحكم والمعنى أو من حيث الحقيقة والصورة فوق الحكم والمعنى.
ثمة قولان في هذه المسألة أحدهما : أن الذين اعتدوا في السبت قد نسخ الله نفوسهم وطبائعهم فحولها من هذه الناحية إلى ما يشبه القردة من حيث الطبائع والنفوس من غير أن يؤثر ذلك على ظاهر الخلقة في شكلها الآدمي.
والقول الثاني : أن الله قد مسخهم إلى قردة من حيث الحقيقة والصورة والمعنى فاستحالوا بذلك إلى قردة حقيقيين لا يفرقهم عنهم أي فارق، لا في الصورة ولا في المعنى وذلك ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي نرجحه أخذا بظاهر الآية الحقيقي، إذ لا تعويل على المجاز ما دامت الحقيقة للتعبير القرآني بارزة ومكشوفة والله تعالى أعلم.
على أن الأخذ بالقول الثاني يغني عن الأول أو هو يشمله فظاهر الآية يدل على تحويل هؤلاء المعتدين إلى قردة، وذلك من حيث الحقيقة والصورة، وكذلك من حيث المعنى وهو قد بات مندرجا في تركيبة القرود، ذلك أن من تحصيل الحاصل أن نقول أن القرد ينطوي على خلقة شكلية ومعنوية واضحة ومفهومة، وبعبارة أخرى فإن من المستحيل أن نتصور قردا في طبع يختلف عن طبائع القرود، فما دام هؤلاء قد تحولوا إلى قردة، فإن عملية التحويل باتت كاملة تماما ليكونوا قردة حقيقيين، وذلك من حيث الصورة والمعنى كلاهما.
وقوله :( خاسئين ( أي مبعدين منزجرين، من الفعل خسأ وانخسأ أي بعد وطرد وانزجر والخاسىء هو القميىء الصاغر المطرود الذي لا يترك فيدنو من طارده. ٢
ومثل ذلك قوله تعالى :( قال اخشوا فيها ولا تكلمون ( يقال ذلك لأهل النار الذين يتصايحون راجين فيقال لهم :( اخشوا ( أي امكثوا مبعدين صاغرين مطرودين.
١ مختار الصحاح ص ٢٨١..
٢ مختار الصحاح ص ١٧٥..
وقوله :( فجعلناها نكالا ) جعلناها جملة فعلية من فعل وفاعل ومفعول به أول نكالا مفعول به ثان، والضمير في جعلناها يعود على القرية التي مسخ أهلها قردة، وذهب أكثر المفسرين إلى أن القرية هي آيلة والمعروفة الآن باسم إيلات، وقيل إن الضمير يعود على العقوبة التي أنزلها بهؤلاء المخالفين العصاة، ونرجح القول الأول وهو المقصود القرية التي ضرب الله أهلها بالمسخ، أما النكال فهو العقوبة والزجر وهو اسم وفعله نكل أي منع، ومنه الإنكال بمعنى القيود التي ينكل بها أي يمنع بها من الفعل.
وقوله :( لما بين يديها وما خلفها ) أي لما حولها من القرى، وذلك هو المعنى الراجح الذي نختاره. فقد قيل : جعل الله القرية المعذبة بالمسخ عبرة لما قبلها وما بعدها من حيث الزمان، وقيل : من حيث المكان، لكن المعنى الأول المختار هو المعتمد والذي عليه كثير من العلماء.
وقوله :( وموعظة للمتقين ) مسخ الله أهل هذه القرية الظالمة، ليكون ذلك عظة للذين يتقون الله فيحسبون لعذابه كل حساب، وليعلموا أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنه يوشك أن يسقط عليهم رجزا من السماء يدمرهم تدميرا، أو يصيبهم بعذاب من عنده فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله تعالى :( وإذ قال يا موسى لقومه، إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قالوا إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون )
لهذه الآيات مناسبة تتفق الروايات على أنها جاءت لتبين قصة قتيل من بني إسرائيل لم يعرف قاتله فأمرهم الله بذبح بقرة، ومما يلاحظ في اختيار البقرة بالذات دون غيرها من الأنعام أو البهائم أن ذلك شديد الصلة بعبادة بني إسرائيل للعجل، فأراد الله أن يبين لهؤلاء أن ما عبدوه من عجل ليس إلا صربا من الأوثان التي لا تضر ولا تنفع. وأنه كائن هين مهين أعجم لا يملك من العقل والإرادة ما ينجو به من المخاطر المحتملة، مخاطر الذبح وغيره فها هو ذا يهبط على الأرض ذبيحا بعد أن فصدت عنقه السكين الناحرة الحادة، فكيف يليق بذي عقل أن يثني ساجدا عابدا لمثل هذه الدابة العجماء ؟.
أما قتيل بني إسرائيل فقد ذكر أنه كان ذا مال كثير ولم يكن له أولاد يرثونه إلا بعض أولي قربى، فاستعجل هؤلاء الميراث قبل أوانه فقتلوا مورثهم المالك ثم اختفوا فتحاكموا إلى موسى لينظر في الأمر أو يطلعهم على القاتل، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة – أية بقرة من غير تقييد بوصف أو شرط. ولو أنهم بادروا في هوادة وبساطة ليذبحوا بقرة من البقر، صغيرة أو كبيرة ومهما كان لونها أو هيأتها لأجزأ ذلك عن المطلوب ولكنهم- كما قيل- شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم بعد أن ألحوا في الطلب المتكرر واستقصوا في معرفة الصفات استقصاء يتحرج منه كل تقي فهيم، وآلوا إلا أن يستوضحوا في مغالاة متنطعة كانوا في غنى عنها لو كانوا أتقياء متورعين أو كانوا معتدلين كراما يجملون في الطلب ويقدرون الله حق قدره.
والبقرة اسم جنس وهي تطلق على الذكر والأنثى، والجمع بقر أو بقرات وهي من الفعل بقر يبقر، بقرت الشيء أي شققته أو فتحته فتحا، ويسمى فلان بالباقر لأنه يبقر كل حجاب ليصل إلى صميم الحقيقة والعلم بعد أن يشق طريقه إلى ذلك شقا، وبقرت البطن أي شققته لبلوغ الجوف. وتبقر في العلم أو المال أي توسع فيه وسميت البقرة بذلك لإمكان شق الأرض وحرثها بالمحراث عن طريقها. ١
أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا مجرد بقرة على طريق الوصول إلى معرفة من قتل الرجل ذا المال، لكن بني إسرائيل كان يعوزهم التواضع وسلامة الطبع والامتثال السريع لأمر الله فعجبوا لمثل هذا الأمر مستنكرين.
( قالوا أتتخذنا هزؤا ) قالوا جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل، والجملة الفعلية وهي مقول القول في محل نصب مفعول به، والضمير ( نا ) في محل نصب مفعول به أول، هزؤا مفعول به ثان. والاستفهام هنا بمثابة استنكار من بني إسرائيل لطلب موسى بذبح البقرة، وهو استنكار لا جرم أن يكون باعثه السفه والحماقة، ولا يصدر ذلك أمام جناب الله سبحانه إلا عن قوم نضبت في نفوسهم منابع الخشية والورع وأفلت عن طبائعهم شمائل التواضع والاستحياء من الله فانفلتوا عن التذلل لسلطانه وأمره بالمساءلة الباغية المستنكرة، على أن المطالبة بالذبح ما هي إلا ضرب من الاستهزاء الذي يترفع عنه كل تقي متواضع فكيف إذا كان الطالب نبيا عظيما كليما لله وهو موسى عليه السلام أحد المرسلين العظام أولي العزم ؟ فأجابهم موسى ليرد عليهم مقالتهم الظالمة وتخريصهم الجهول.
( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) أعوذ من العوذ وهو الاعتصام والالتجاء وموسى عليه السلام يعلن اعتصامه بربه والتجاءه إليه من أن يخوض في عبث من القول الساخر اللاغط مثلما يعرفه هؤلاء القوم وهم يلغظون في عبث سقيم وهزل فاضح.
١ القاموس المحيط جـ ١ ص ٣٨٩..
وقوله :( قوله ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ( وهنا يبدأ التعنت والسماحة والتبلد في الحس، إذ يطلبون من موسى أن يدعو ربه ليبين لهم ماهية البقرة، وقوله :( ما هي ( جملة اسمية تتألف من مبتدأ وخبر، وما أهون الأمر لو أنهم بادروا بالذبح من غير تردد أو مساءلة لقد كان الأمر في غاية اليسر الذي لا يستحق مثل هذا التمحل المغالي الذي ينم على طبع غريب.
( قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ( ( فارض ( خبر مبتدأ محذوف تقديره هي وقيل صفة للخبر ( بقرة ( والفارض الهرمة التي ولدت بطونا كثيرة ( ولا بكر ( الواو للعطف، والبكر : الصغيرة التي لم يقع عليها فحل، فلا هي كبيرة هرمة ولا هي صغيرة لم تلد بعد ولكنها ( عوان بين ذلك ( العوان : النصف من النساء والبهائم وجمعها عون بضم العين، فهي بذلك وسط بين الكبر والصغر، والإشارة ( ذلك ( تعود على فارض وبكر، وبعد هذا الكشف عن ماهية البقرة يكرر الله دعاءه لبني إسرائيل أن يبادروا بالذبح فيفعلوا ما أمرهم الله به ( فافعلوا ما تؤمرون (.
وثمة قول بأن هذه الآية فيها دليل النسخ وأن النسخ نفسه واقع هنا، وصورته أن الله قد أمرهم أولا أن يذبحوا بقرة من البقر من غير تحديد بصفة معينة، فلما وصفها بعد ذلك كان نسخا يؤثر في الحكم وهو الطلب دون تقييد، ولا نرى مثل هذا الرأي فإنه لا يلزم مما سبق أن يعتبر ذلك نسخا. ولكن ذلك مجرد توضيح يكشف عن معاني أخرى جديدة ترد على نحو من الوصف أو التبيين، فلئن كان النص في الآية الأولى مطلقا بغير تقييد فهو في الأخرى مقيد بالوصف ولا يلزم من ذلك النسخ بل التقييد.
وقوله :( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها ( عادوا بنو إسرائيل الطلب من موسى ليبين لهم ربهم ما لون البقرة، وذلك امتداد آخر في المساءلة الفارغة الفجة التي ترد بغير تواضع ولا استحياء.
فبين الله لهم أنها صفراء فاقع لونها، ولا داعي للتأويل في معنى الصفرة أو في موضعها من البقر فخير في مثل هذا الحال أن يؤخذ بالظاهر لندرك أن الصفرة أو في موضعها الأصفر المعروف ولا نحمل في ذلك تكلفا، وكذلك فإن جسد البقرة كله أو غالبه كان يغمره اللون الأصفر، أما الفاقع من اللون الأصفر فهو الشديد الصفرة، وهو من الفقوع والمقصود بالفاقع من لونها الأصفر أن لونها خالص الصفرة لا يخالطه لون آخر. ١
وقوله :( تسر الناظرين ( أي أن الناظر إليها يعجب بها لمنظرها، وذلك من حيث اللون والسمت.
١ مختار الصحاح ص ٥٠٨-٥٠٩..
وقوله :( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ( وذلك هو السؤال الرابع من يهود لنبيهم موسى إذ سألوه ليدعو ربه فيبين لهم ما هذه البقرة محتجين بأن البقر يشبه بعضه بعضا مما يلبس عليهم ما يريدونه.
لقد كان يهود في غنى عن كل هذه المساءلات التي تنم على التكلف الممجوج وتنم على طبع يستمرىء الموارية وطول الجدل، إنه الطبع المتلجلج الملتوي الذي يضيق بالاستقامة واليسر والوضوح، ولا يرضى بغير التكلف والتعسير أسلوبا ومنهاج حياة. لقد كانوا في غنى عن مثل هذه الثرثرة والاكثار من السؤال لو أنهم امتثلوا أمر ربهم وأنابوا إليه مبادرين فجاءوا ببقرة أية بقرة فذبحوها وكفى.
وقوله :( وإنا إن شاء الله لمهتدون ( وهذه بادرة خير تحتسب لبني إسرائيل إذ سألوا نبيهم للمرة الرابعة فمضوا لينفذوا ما أمروا به فاستثنوا قائلين :( وإنا إن شاء الله لمهتدون ( وفي ذلك صورة من الإنابة والذكرى التي ينبغي أن تقال في مثل هذا الموقف وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الصدد، لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا.
قوله :( قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) يأتي البيان الرباني ليصف البقرة بانها ( لا ذلول ) وذلول خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وتقدير الجملة لا هي ذلول، وكذلك ( تسقي الحرث )جملة فعلية في محل رفع خبر مبتدأ محذوف، وتقدير الجملة ولا هي تسقي الحرث، أما الذلول من الذل بكسر الذال ومعناه اللين وهو ضد الصعوبة نقول ذلت الدابة ذلا بالكسر أي سهلت وانقادت والذلول سهل الانقياد وجمعه الذلل بضم الذال واللام مثل رسول جمعه رسل، وبذلك فإن البقرة ليست بالمذللة التي روضها العمل أو التي تثير الأرض أي تقلبها بالتحريك، وهي كذلك لا تسقي الحرث أي لا تحمل عليها لسقي الزرع فإنها غير مذللة لمثل هذا العمل أيضا.
قوله :( مسلمة لاشية فيها ) المسلمة التي تكون سليمة من العيوب كالصمم والعرج والعمى، وغير ذلك من عيوب وقوادح، وهي كذلك لاشية فيها. والشية العلامة أصلها وشيا وشية والجمع شيات والوشي هو نوع من الثياب الموشية أي المنقوشة، وفعله وشى، والمقصود أن البقرة ليس فيها لمعة أو علامة أو لون يخالف سائر لونها الأصفر.
قوله :( قالوا الآن جئت بالحق ) أي الآن قد بينت لنا المطلوب وأفصحت لنا عن ماهية البقرة، وهم مع هذه المساءلات المتكررة ومع هذا التقصي الطويل الممل فإنهم ما ذبحوها إلا بعد جهد وما كادوا يذبحونها.
يقول بعض أهل التأويل : إنهم كادوا ألا يذبحوا البقرة لغلاء ثمنها أو لخشيتهم من الافتضاح إذا ما تبين فيهم القاتل. وفي تقديرنا أن مثل هذا التعليل صحيح، ولكن يضاف إليه طبيعة بني إسرائيل التي يخالطها الخور والجنوح للهزل المستديم وعدم الجد ثم الرغبة في السؤال المتكرر المنغص الذي لا يحتمل غير السماحة والإسفاف والثرثرة. ١
١ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٤٤٤-٤٥٥ والكشاف جـ ١ ص ٢٨٨-٢٨٩ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٩٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٠٧-١١١ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ١٠٠-١٠٣..
قوله تعالى :( وإذ قتلتم نفسا فاذرأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتبون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم ءاياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (.
( قتلتم ( جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل، والميم للجمع ( نفسا ( مفعول به، منصوب وهذه الآية تأتي في مقدمة هذه القصة المنوطة بمعجزة البقرة، وذلك من حيث الترابط في المعنى خلافا لتركيبها من حيث النزول مثلما هو حاصل الآن وذلك هو أسلوب القرآن في كثير من هذه النماذج.
لقد قتل فريق من بني إسرائيل واحدا منهم، طمعا في ماله واستعجالا له قبل أوانه، ثم ادرأوا فيما بينهم حول هذا القتيل وقوله :( فأدرأتم فيها ( الفاء للسببية، وأصل ادرأتم تدارأتم من الدرء وهو الدفع، قلبت التاء دالا، وسكنت لأجل الإدغام، ١ والمعنى : اختلفتم وتنازعتم في كيفية التعرف على القاتل حتى أتيتم موسى عليه السلام ليفصل بينكم ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ( لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع، ( مخرج ( خبره، ( ما ( اسم موصول في محل نصب لاسم الفاعل ( مخرج ( أي إن الله جل وعلا سيخرج ما قد تمالأوا على إخفائه وكتمانه.
١ الدر المصون جـ ١ ص ٤٣٤..
أما الآن فإن المعجزة تتجلى تماما ليقف عليها الملأ، وليراها الجمهور رأي العين كي تستبين بعد ذلك قدرة الله البالغة ولكي يتثبت الناس من عظمة الخالق البارئ وهو يحيي الميت القتيل بعد أن يضربوه بجزء من بقرة ذبيحة، فقال سبحانه :( فقلنا اضربوه ببعضها ) أمرهم الله أن يضربوا الميت القتيل بجزء من البقرة الذبيحة، ولا نتكلف القول لنزعم أن الجزء الذي استعمل للضرب كان كذا أو كذا من البقرة الذبيحة، فإن تكلفا كهذا لا يغني من الحق شيئا، وهو كذلك لا يوحي بشيء من فائدة لأهمية القصة المطروحة هنا، وكل ما في الأمر أن المعجزة ربانية قد وقعت بمشيئة الله تمثلت في إحياء ميت من بني إسرائيل بعد أن ضربوه بجزء من البقرة المذكورة ذلك هو المحور الأهم والذي يعول عليه في هذه القصة الفريدة الكبيرة.
قوله :( كذلك يحي الله الموتى ) الكاف في اسم الإشارة للتشبيه في محل نصب صفة مصدر، محذوف وتقديره يحي الله الموتى إحياء مثل ذلك، ١ أي مثلما أحيا الله الميت بضربه بجزء من بقرة مذبوحة، فإن الله يبعث الخلائق من بعد الموت في الآخرة، ولا جرم أن تكون قضية الإحياء بالنسبة للإسرائيلي القتيل بمثابة برهان واقعي محس قد عاينه الملأ بما يذكر بالحقيقة الأساسية الكبرى وهي يوم القيامة، وهي حقيقة تعمل آيات القرآن بما تحويه من نماذج وقصص وأحداث على ترسيخها في الذهن والقلب معا.
هكذا يحي الله الموتى وليس ذلك عليه بأمر عسير أو عزيز، وما تلك الأمثال التي يضربها للناس في القرآن كقصة البقرة أو نحوها غير أسباب تحمل المرء على أن يستفيض من حقيقة إحياء الموتى وبعثهم من القبور في يوم لا ريب فيه.
وكذلك فإن الله يطلع عباده على قدرته المطلقة الدالة على عظمته سبحانه لكي يعيها البشر وتعقلها الأمم جيلا بعد جيل فقال سبحانه :( ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) من العقل وهو في اللغة بمعنى المنع، أي تمتنعون من فعل الحرام، فتكتب لكم النجاة والسعادة.
١ البيان للأنباري جـ ١ ص ٩٦..
وقوله :( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) القسوة هي الانقباض واليبس والصلابة، وشبيه بذلك الكزازة ومنها الكز أي اليابس المنقبض، والمراد بيبس القلب وصلابته أي انقباضه دون الخير والرحمة، كيلا يستوعب بعد ذلك شيئا من الإيمان أو الإنابة أو الإذعان لله سبحانه، وتلك هي قسوة القلب، فإنها تورث في الإنسان إفلاسا من الخير وكل معاني العقيدة الصحيحة، وهي كذلك تصمه بالانقباض الشديد الذي يحول بينه وبين الخشوع لله أو الخشية منه حتى تنضب فيه مباعث الرغبة في الحق والخير والإيمان.
لقد قست قلوب بني إسرائيل عموما وذلك من بعد ما أراهم الله المعجزة بإحياء القتيل، وأطلعهم على قدرته التي تخرق طبائع الأشياء والتي لا تصدها النواميس والنظم. ومع ذلك كله فقد انقلب بنو إسرائيل مرتدين ناكبين بعد أن غابت في نفوسهم عوامل الخضوع والتقوى وبعد أن شحت فيهم معاني الفيئة والذكرى.
قوله :( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) وقد اختلف في معنى ( أو ) فقد قيل : إنها للتخيير وقيل : معناها الواو العاطفة أي قلوب بني إسيرائيل تشبه الحجارة في قسوتها وأشد قسوة، وفي قول آخر بأن أو معناها هنا : بل، أي أن قلوبهم قاسية كالحجارة بل هي أشد قسوة من الحجارة.
وثمة معنى آخر نرجحه وهو أن الله جلت قدرته أراد أن يبين أن بني إسرائيل من حيث قسوة قلوبهم شطران شطرهم الأول : من كانت قلوبهم كالحجارة في قسوتها، وأما الشطر الثاني : فإن قلوبهم لهي أشد قساوة من الحجارة والله تعالى أعلم.
قوله :( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) يراد بذلك أن قلوب هؤلاء القساة العتاة لهي أشد قسوة من الحجارة نفسها وذلك من حيث التبلد في الحس، أو من حيث الإمساك والضن بالخير، فإن قلوب هؤلاء القوم شديدة الضن والشح، وهي لا تسخو بشيء من الخير كيفما كان، لكن الحجارة الصلدة الصماء تتفجر منها الأنهار، لتبعث في الأرض أسباب الحياة والنماء ولتزهو في الدنيا كل مظاهر الخصب والجمال، وكذلك فإن من الحجارة ما يتشقق أدغمت التاء في الشين فصارت يشقق حتى يتيسر للماء أن يسيل وينهمر ذلك كله منبعث من الحجارة القاسية التي لا تنطق في الظاهر، غير أنها في الحقيقة تسخو بعطاء سائح غزير يكسب في الحياة بواعث الرغد والجمال والبهاء والعيش الهنيء.
وقوله :( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) الهبوط في اللغة النزول، والانحطاط أو التردي من أعلى الى أسفل، ١ لكن المقصود بهبوط الحجارة من خشية الله قد جاء على سبيل المجاز عن خشوعها وانقيادها لأمر الله لكن قلوب هؤلاء يابسة صلدة لا تلين لأمر الله ولا تصيخ لهتاف الحق الساطع الأبلج، وقيل : بل إن الهبوط من خشية الله لهو حقيقة لا شك فيها، وأساس ذلك كله أن الكائنات والخلائق جميعا تسبح بحمد الله وذلك على نحو لا يعرف الناس كيفيته. قال سبحانه :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ٢ وما دمنا نتلو هذا الكلام الرباني بتصديق ويقين فإننا لا نتردد في اطمئنان إلى أن الجبل والشجر والمدر والحجر كل أولئك يسبحون الله ويخشونه حق الخشية، ولا عجب أن يكون من مظاهر هذا التسبيح أو الخشية أن يهبط الحجر من العلو إلى السفل. ولست مترددا في ترجيح هذا الرأي ؛ لما يعززه من دليل كقوله تعالى :( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) ولأنه ليس من الممتنع أن ينطق الجماد بإذن الله. ونظير ذلك ما روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ. وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن " وغير ذلك مما في معناه.
قوله :( وما الله بغافل عما تعملون ) ما نافية تعمل عمل ليس. لفظ الجلالة اسمها مرفوع. غافل خبرها والباء حرف جر زائد، وقيل : يستعمل للتوكيد. ذلك تعقيب ينطوي على تخويف يتهدد به الله بني إسرائيل الذين مردوا على العصيان والظلم، وأن الله سبحانه عليم يما يقارفه هؤلاء من مفاسد ومخالفات لا تخفى عليه.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٤٠٧..
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١١٣..
قوله تعالى :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد م عقلوه وهم يعلمون ﴾ الطمع هو نزوع النفس إلى الشيء ؛ رغبة فيه وشهوة له.
﴿ أفتطعمون ﴾ جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل " واو الجماعة " والهمزة للاستفهام وهو هنا إنكاري، والآية تيئيس للمسلمين أتباع الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من إيمان يهود. أي هل ترجون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود فيصدقوا نبيكم وكتابكم مع أن آباءهم كانوا أشرار غلاظا يسمعون التوراة كتابهم، ثم يتأولونها على غير معناها الصحيح ؟ كل ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم أنهم كاذبون، وأن تأويلهم للتوراة كان على الوجه المحرف الفاسد. ذلك إيحاء مكشوف لأتباع ملة الإسلام بأن هؤلاء اليهود لا خير فيهم، وأنهم لا رجاء ولا أمل في إيمانهم وعودهم إلى الحق والرشاد، فمثل هذا العود يستلزم نفوسا كريمة خالية من الشذوذ والعطب، أو طبائع تنطوي على فطرة نقية سليمة غير شوهاء، وأنّى لهؤلاء القوم المتمردين الفساق أن يكونوا على هذه الخلقة من سلامة النفس والطبع والفطرة ؟ أنّى لهم ذلك وهم الذين قرأوا التوراة كتابهم المقدس، ووعوه على حقيقته ثم انفتلوا يحرفونه تحريفا ويزيفونه تزييفا ؟ وليس ذلك على سبيل الجهل أو سوء الدراية، ولكنه العمد المقصود الذي تحرض عليه النفس الخربة الكزة. كل ذلك التحريف والتزييف مقصود لا يحفز إليه إلا الرغبة المجردة في الشر والنكوص الجانح صوب الخطيئة والإثم.
﴿ وهم يعلمون ﴾ تعلم يهود أنهم قد نبذوا كلام الله التوراة بعد ما درسوه ووعوه وعقلوه.
قوله تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفل تعقلون. أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ هذه الآية في منافقي اليهود، أولئك الذين آمنوا للمسلمين في الظاهر، لكنهم في بواطنهم يخفون الكفر. كان هؤلاء المنافقون من اليهود إذا لقي أحدهم مسلما تظاهر له بالإيمان وحدثه بصدق نبوة الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن خبره قد ورد في التوراة من قبل أن يولد أو يبعث. لكن هؤلاء النفر من يهود كانوا إذا رجعوا إلى قومهم من بني إسرائيل لاموا قبلهم لوما مقرعا شديدا ؛ لأنهم حدثوا المسلمين بما أطلعهم الله عليه. وذلك قوله سبحانه :﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾ الفتح معناه القضاء والحكم. أي كيف تحدثون المسلمين بما حكم الله لكم من خبر نبوة محمد الذي ورد في التوراة ﴿ ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ أي ليكون في ذلك حجة لهم عليكم، وهو أنكم كنتم قد وقفتم على صدق نبوة صاحبهم من قبل، ثم انقلبتم بعد ذلك مكذبين. وقيل : ليحاجوكم أي لعيروكم بأنهم خير منكم لما أطلعتموهم عليه من خبر التوراة في صدق رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ). قالوا لهم ذلك في تقريع وتوبيخ شديدين ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أليس فيكم عقل يبصركم بعاقبة ما أقدمتم عليه من إخبار لهؤلاء المسلمين عن حقيقة أمرهم ودينهم في التوراة ؟
قوله :﴿ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ الله عليم بحال هؤلاء الكذبة المنافقين وهو سبحانه يوبخهم هنا توبيخا ﴿ أولا يعلمون أن الله... ﴾ ألا يعمل هؤلاء أن الله عليم بأستارهم وأخبارهم، ومطلع على ما تطويه صدورهم من أسرار وخبايا، وما تبديه جوارحهم من ظاهر القول أو الفعل. أما قوله :﴿ ما يسرون ﴾ أي ما تمالأوا عليه من الكفر وما تلاقوا عليه من الجحود للإسلام، وذلك عند تلاقيهم فيما بينهم، وهم إذ ذاك يتكاشفون معا ليأتمروا بالنبي والمسلمين وهذا الدين فيتفقوا على محاربتهم والقضاء عليهم إن تمكنوا. ﴿ وما يعلنون ﴾ أي ما أظهروه لبعض المسلمين من تصديق مصطنع خادع للإسلام ونبيه. وذلك إعلان منهم قد ينطلي على المسلمين أو بعضهم لتوهيمهم أن هؤلاء مؤمنون مخلصون، والله يعلم أنهم كاذبون شرار تنثني صدورهم على الضغينة والحقد، ويتربصون بالإسلام وأهله دوائر الهلكة والسوء، والله تبارك وتعال هو الحافظ لهذا الدين بتمكينه في الأرض وفي نفوس العباد حتى إذا اعترته فترة من ضعف أو هزة جاءته أجند أخرى جديدة من عباد الله المؤمنين المخلصين الذين يظلون ينافحون عن هذا الدين ويجاهدون فيه حق جهاده مهما تعاظمت الخطوب واشتدت الأهوال إلى أن يكتب الله النصر في هذه الدنيا أو الشهادة في سبيله وهي من خير ما يرتجيه المؤمن الصابر المجاهد.
قوله تعالى :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾ يصف بذلك فريقا من اليهود بأنهم أميون. ومفردها أمي وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ، سمي بذلك ؛ لنسبته إلى الأمة الأمية وهي أمة العرب الذين كانوا في جاهليتهم الأولى لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. وقد كان النبي نفسه ينتسب إلى هذه الأمة الأمية الذين كانت تلدهم أمهاتهم، فيظلون من غير دراية بعلوم ولا تمرس بكتابة أو قراءة. وكذلك اليهود فقد كان فيهم فريق من الأميين الذين يجهلون كتابهم التوراة، ولا يدرون ما فيه من الأخبار والمعاني، ثم يسعون في الأرض ليتقولوا الكذب ويفتروا على الله الأباطيل ويزعموا أنها من عند الله وما هي من عند الله.
وقوله :﴿ إلا أماني ﴾ جمع أمنية. وهي ما يتمناه المرء لنفسه. وهؤلاء، لا علم لهم بالكتاب وهو التوراة ؛ لأنهم أميون. والاستثناء هنا منقطع. فالمعنى أنهم لا يعلمون عن التوراة شيئا إلا ما تسوله لهم أمانيهم وأحلامهم السقيمة أن الله يعفو عنه ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فضلا عن أحبارهم الذين يمنونهم أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل : الأماني بمعنى التخريص واختلاق الكذب والافتراء. وهو قول ابن عباس. قوله :﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ إن أداة نفي بمعنى ما. أي أن هؤلاء الكاذبين المفترين الذين ﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾ لا يتقولون ذلك إلا وهم في شك مما يقولون أي يعلمون أنهم كاذبون لا تقوم حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم إلا على الظن الفاسد الذي لا يغني شيئا والذي لا يلبث أن يتبدد أمام الصدق واليقين١.
١ - الكشاف جـ ١ ص ٢١٩ وفتح القدير جـ ١ ص ١٠٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١١٦..
قوله تعالى :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾ ويل مبتدأ مرفوع، جاء نكرة لوروده مورد الدعاء وما بعده خبر في محل رفع١. وقد جاء في معنى الويل أقوال كثيرة نستطيع أن نركن من بينها إلى المعنى الذي يتفق عليه أكثر المفسرين وهو الهلاك أو العذاب أو الدمار. وقيل : واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره٢.
والويل واقع على الذين يفترون على الله الكذب، فيكتبون بأيديهم ما يفترونه ليقولوا للناس هذا من عند الله وما هو من عند الله ولكنه اختلاق من عند أنفسهم، فهو كلام فاسد مختلق لا ينطوي على غير الباطل والكذب وهو على شاكلة مختلقة من التحريف. أو التغيير والتبديل، وذلك أن يضيفوا للكتاب من عندهم أو يحذفوا تبعا لما تمليه أهواؤهم المريضة، فما راق لهم أبقوه وما لم يعجبهم حذفوه، كل ذلك يقارفونه من غير تورع أو خشية من الله إلا الرغبة في التضليل والإفساد والتخريب.
ونود في هذا الصدد أن نعرض بشيء قليل من التفصيل لأولئك الذين ﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾ فإن هذا النص الكريم واقع على فريق ظالم من بني إسرائيل، أولئك الذين مارسوا الكذب على الله في أشد الصور وأعتاها. لكن النص الكريم مع كشفه لهؤلاء الناس من بني إسرائيل إلا أنه من حيث المقصود الواسع يمتد ليشمل كل الأشقياء من كل ملة أو دين في زمان أو مكان ممن يفترون على الله الكذب والزور، ولا جرم أنهم كثيرون ومنتشرون في مناكب الأرض وعلى امتداد الأجيال والعصور.
ومن الحق أن نقول كذلك : إن فريق بني إسرائيل كانوا في طليعة الكاذبين والدجاجلة الذين كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. وقصة بني إسرائيل في هذه المسألة الخطيرة بالذات طويلة، وهي تستأهل مزيدا من الشرح والبيان والتفصيل، لكننا لا نملك في مثل هذا الموقف إلا أن نبين سراعا ما أمكن، عن جريمة هؤلاء البشعة في تحريف الكتاب وتزييفه، أو في الاختلاق الفاجر الذي ينسبونه إلى الله. ومثل التوراة في ذلك واضح تماما، ذلك أن أحبار بني إسرائيل قد تصرفوا في كتابهم الأصيل التوراة فراحوا يغيرون فيه ويبدلون ثم يحرفون ويزيدون. ومن بين ذلك تكذيبهم نبوة الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة وكانوا يقرأونه في وضوح ويسر وكانوا يحدثون الناس من قبل بعث هذا النبي الكريم عن زمان يقترب منهم رويدا رويدا يبعث الله فيه نبيا، فما أن انبعث هذا النبي الكريم وعلموا أنه ليس من جنسهم انقلبوا على أعقابهم جاحدين منكرين، فتربصوا به الدوائر، وأتمروا به ليقتلوه، وحرضوا عليه الناس والسفهاء من عرب ومشركين ؛ لينالوا منه شرا وليتخذوه لهم عدوا، وأشاعوا من حوله الشبهات والترهات ؛ ليظن الناس أنه شاعر، أو ساحر، وليحسبوا أنه من المتقولين المفترين.
أما فيما يتعلق بالتوراة- وهي كتاب الله المقدس الذي أنزل على النبي الكليم موسى عليه السلام- فقد انثنى عنه بنو إسرائيل، لأنه لم يوافق أهواءهم ورغائبهم التي تقوم على الأنانية والهوى ولا تجنح إلا للشهوات ؛ لذلك قد أكب أحبار يهود على التوراة، لما أصابها من تلاعب وتزييف. وأشد منذ ذلك نكاوة وعتوا ما قامت به أحبار يهود من وضع كتاب شارح للتوراة وهو التلمود. ذلك الكتاب العجيب الذي يستقطب كل مظاهر الشذوذ والانحراف في بني إسرائيل، بدءا بالحقد الذي تصطبغ به نفسية يهود من غابر الزمن، وانتهاء بكل خصال السماجة والتبلّد والشح والتوقح وانعدام المروءة والحياء وغير ذلك من ذميم الأخلاق التي تنبعث من تصور خبيث معتم ومن طبيعة غليظة كزة، خبث فيها كل بوادر اللين والرحمة بالخليقة، وغارت فيها أية ظاهرة من ظواهر الرأفة واللين. وقد كان ذلك كله يوم أن جيء لبني إسرائيل بالتلمود، ذلك الكتاب المشوه المريع الذي يحمل بين دفتيه تحريضا على الشر والضر والنيل المتواصل من بني البشر بغير توقف أو انقطاع. ذلك هو التلمود الذي جاء ليشرح التوراة فكان غاية في التحريف والتضليل، وغاية في إرساء بذور الكراهية والحقد لدى اليهود ليكيلوا للبشرية على مر الزمن كل ألوان التآمر والكيد.
وثمة كتب وقرارات ومواثيق تضمها قراطيس مخبوءة في أحشاء الظلام الأسود وهي تحوي من البرامج والمخططات ما يحمل للبشرية نذر البلاء والتدمير. ومن جملة ذلك كله ذلك الكتاب الرهيب وهو " بروتوكولات حكماء صهيون " وهو كتاب صغير الصفحات والكلمات، لكنه خطة شاملة خبيثة للقضاء على البشرية في أعز ما تملك من معان في الخير والفضيلة، وللقضاء عليها قضاء ماديا ساحقا يأتي على الحضارات كلها من القواعد ؛ ليذرها قاعا صفصفا وذلك عن طريق الحروب المتتالية الضروس.
أما الإنجيل فلا ريب أنه كتاب سماوي عظيم قد جيء به من عند الله ليكون لبني إسرائيل هاديا ونذيرا، وهو كتاب قام في بدايته على التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شوائب الشرك، لكن المحسوبين على المسيح عليه السلام بغير حق قد افتروا على الله أشد افتراء يوم أن كتبوا الإنجيل بما تفرضه أهواؤهم ورغائبهم الذاتية، فجاء الإنجيل نائيا عن أصالة التوحيد الخالص، يستوي في هذه الحقيقة الأناجيل الأربعة : متى ولوقا ومرقس ويوحنا. أما الإنجيل برنابا فلا جرم أن يكون أقرب هذه الكتب جميعا إلى عقيدة التوحيد، وأنه ينطوي على تنويه بذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام. لكن أحبار روما قد أصدروا – في غاية من التعصب- ما يشير إلى بطلان هذا الكتاب والاقتصار على الكتب الأربعة الأولى، وفي ذلك من الدلالة على سوء المقاصد والنوايا، وعلى انعدام الخشوع والتقوى ما يكشف عن طبيعة هؤلاء الناس الذين يتطاولون على الله سبحانه في كتبه المقدسة ؛ ليصموها التغيير والتحريف، وليجعلوها تبعا لأغراضهم وأهوائهم الذاتية لا تمت إلى الدين السوي المستقيم بصلة. ثم هذه المقولات الزائفة التي يلفقها الخراصون من الأحبار والرهبان، والتي تحتشد على شواكل من العبارات الغامضة المضطربة أو الألغاز الموغلة في التوهيم والتعمية واللبس.
وهذه النشرات والكتب التي تضم حشوا من الكلام المصطنع، الكلام الذي يثير في الأرض بواعث الشقاق والخصام ؛ لتظل البشرية في تطاحن وعراك دائمين لا لشيء إلا لمرضاة الطبائع الملتوية التي تتجشأ الحقد والهوس، والتي لا تفتأ تتربص بالإسلام وأهله كل أسباب الكيد والشر.
إن هذه المقولات والنشرات والكتب إنما تتسطر وتطلق باسم الدين افتراء على الله وتزييفا لدينه الحق الذي يندد بالشر والبطل وبكل مظاهر الظلم والخطيئة والفساد.
إنها مقولات ونشرات وكتب تحرض عليها نفوس المارقين من دعاة الشر والسوء الذين تتقاطر صدورهم وتورا وضطغانا لفرط كراهيتها المغالية للإنسانية عموما وللإسلام على وجه الخصوص.
أما المسلمون فإن من بين صفوفهم فريقا من المنافقين الذين يتقمصون أثوابا عديدة شتى تنطلي على المسلمين بمظهرها اللامع المخادع. وهي أثواب تنطوي على الغواية والفتنة، وتخفي وراءها الزور والكذب، يلبسها الأفاكون الدجالون من أدعياء المسميات المصطنعة منه الحرية والاشتراكية والوحدة، ومنها العدل والمساواة والشورى، ومنها الديمقراطية والشعبية وحقوق العمال. وغير ذلك من الشارات والمظاهر الفاسدة المزيفة التي فضحتها الظروف والأحداث، فباتت مكشوفة متعرية لا تنثني على غير النفاق والدجل، وهم مع ذلك كله يزعمون أنهم لا يعصون الله بذلك، وأنهم ليسوا بخارجين عن صراط الله ومنهاجه ! وذلك هو الكذب المفضوح المتسبين.
إن هؤلاء الخراصين الدجاجلة الذين نبذتهم رسالات السماء كافة، والذين خرجوا على منهج الله القويم العادل ؛ ليعيثوا في الأرض فسادا وخرابا، وليفتروا على الله البطل بما تكتبه أيديهم في الليل والنهار، إن هؤلاء جميعا قد توعدهم الله أشد توعد، وأنذرهم في كتابه الحكيم أن لهم الويل، وهو العذاب الحارق المستعر الذي تكتوي فيه أجسادهم وجلودهم، وتتقاحم خلاله جسومهم وأبدانهم لتلاقي هنالك من العذاب اللاذع المضطرم ما لا يقوى على احتماله بشر، ولا يصطبر على هوله وشدته كائن من الكائنات. وما أروع كلمات الله التي تأتي في هذا الصدد لتعبر أجلى تعبير في ألفاظ قليلة وجيزة، لكنه تحمل من الإيقاع المؤثر العذب، ومن النذير المخوف المزلزل، ومن التكرار الذي يزيد في التأثير والفعالية ما لا يحتمله أي كلام غير هذا الكلام :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾.
١ - الدر المصون جـ ١ ص ٤٤٩..
٢ - مختار الصحاح ص ٧٣٩ والقاموس المحيط جـ ٤ ص ٦٨..
قوله تعالى :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ تقص هذه الآيات بعض أخبار بني إسرائيل وما كان يخطه لهم الأحبار في الكتب عن تصورات ومفاهيم زائفة. وذلك من جملة ما كانت أحبار بني إسرائيل تكتبه بأيديهم لينسبوه إلى الله ليشتروا به ثمنا قليلا. فقد كانوا يغلطون في هذيان وتخريف أنهم إذا دخلوا النار فسوف يبرحونها بعد أيام قلائل، قال بعضهم : إنها سبعة أيام، وقال آخرون : أربعون يوما، وذلك عدد أيامهم التي عبدوا فيها العجل، إلى غير ذلك من التخريص والتقول الذي يعتمد الهوى المتعصب أو الجهل المطبق المضلل.
وقوله :﴿ قل أتخذتم عند عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ يسأل الله على لسان نبيه سؤال المستنكر الموبخ إن كان هؤلاء المفترون الحالمون قد أعطوا من الله عهدا فيما نشروه من مُكثهم في النار أياما معدودات. فإن كان الله قد خولهم مثل هذا العهد فإن موف بما عاهد. لكن الحقيقة لا مراء فيها أن شيئا من هذا العهد لم يكن، ولكنه التخريص والدجل، أو الاختلاف التي لا مراء فيها أن شيئا من هذا العهد لم يكن، ولكنه التخريص والدجل، أو الاختلاق المفترى الذي يهذي به هؤلاء الشُداد والمرضى. وأكرم رد وأوفاه على مثل هذا التقول هو قوله سبحانه :﴿ أم تقولون على الله ما لا تعملون ﴾ ( أم ) معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما. وقيل : منقطعة بمعنى بل، وذلك تأكيد على أن هؤلاء يتقولون على الله الكذب بغير علم ولا هدى. وذلك شأن الذين لا يستحيون من الله، ولا يجدون في أنفسهم أثارة من خشية أو تورع، والذين ترين على صدورهم أكنة كثاف من الشك والسوء والرغبة الضالة في التمرد على الله العياذ بالله.
قوله :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ بلى حرف يأتي في جواب الاستفهام في النفي. وهو في مقابل ( نعم ) يأتي في جواب الاستفهام في الإيجاب١. رد على ما زعمت يهود ؛ إذ تصورت أن الله معذبهم في النار أياما قلائل. فليس الأمر كما زعموا أو وهموا، وبذلك فإن بلى تأتي ردا للنفي الذي تشبثت به يهود ؛ ليكون المقصود هو الإيجاب. أي أن الله معذبهم وهم في زمرة الخالدين في النار ؛ وذلك لأنهم قارفوا السيئة، وهي الشرك كما قيل. وقيل : إنها تشمل كل وجوه المعاصي التي يسقط فيها العبد وهو ذاهل عن جلال الله، أما الخطيئة فهي المخالفة عن أمر الله واقتراف ما يغضبه عن عمد. ولا نحسب أنها تتناول الصغائر، وإنما تتناول الكبائر من الذنوب، فهي محيطة بهؤلاء الضالين المضلين.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ٩٩..
وعلى النقيض من هؤلاء الشذاذ الفواسق الذين يفترون على الله ما لم ينزل به سلطانا، والذين يجترحون في حياتهم المحرمات والمحظورات حتى أحاطت بهم السيئات والخطايا وطوقتهم المعاصي والكبائر... إنه على النقيض من هؤلاء، يأتي المؤمنون العاملون الذين يمشون في الأرض خُشعا متواضعين، وتظل قلوبهم وأرواحهم مستديمة الصلة بالله الواحد المنان من غير أن يتجاوزوا في قول أو عمل تصورا متجاوزا يرتد بهم إلى وهده الإفراط أو التفريط. وأولئك قد كتب الله لهم الجنة لينعموا مع الخالدين الآبدين١
١ - الكشاف جـ ١ ص ٢٩٢ وتفسير البيضاوي ص ١٦، ١٧..
قوله تعالى :﴿ وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم وليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ الميثاق العهد، جمعه مواثيق وهو من التوثيق أي الثبوت والإحكام١. والله جلت قدرته يذكر بني إسرائيل بميثاقهم الذي أخذه الله عليهم على ألسن أنبيائهم وهو قوله ﴿ لا تعبدون إلا الله ﴾ وفي رفع الفعل ثلاثة أوجه : أولها : أن يكون مرفوعا ؛ لأنه جواب لقوله تعالى :﴿ وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ لأنه في معنى القسم. فكأنه قال استخلفناهم لا يعبدون. كما يقال : حلف فلان لا يقومُ. والثاني : أنه إخبار في معنى النهي. كما تقول تذهب لفلان تقول له هذا تريد الأمر. وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي. والثالث : أن يكون ﴿ لا تعبدون ﴾ في موضع الحال٢. على أن المقصود التأكيد على حق الله في العبادة الخالصة له سبحانه دون إشراك، ويحذر من انتكاسة الشرك أشد تحذير ؛ لما في ذلك من إغضاب له سبحانه وهو الإغضاب الذي يهون دونه كل إغضاب ؛ لأن الشرك أكبر الكبائر وأعتى الخطايا.
ثم تعرض الآية، بعد التأكيد على حق الله في العبادة، لحقوق العباد من خلال المواثقة التي واثق الله بها بني إسرائيل، ويأتي في طليعة هذه الحقوق ما أوجبه الله للوالدين من بالغ الطاعة والإكرام، حتى قرن ذلك بطاعته هو نفسه، وذلك كقوله :﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ وقوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وذلك بعد قضائه ألا يعبدوا إلا إياه. و ﴿ إحسانا ﴾، منصوب على المصدر بالفعل المقدر، وتقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
ثم يوجب الله الحق لذي القربى وهم الذين تربطهم بالمرء وشائج النسب والرحم من إخوة وأخوات وبنين وبنات وأعمام وعمات وأخوال وخالات وبني إخوة وبني أخوات إلى غير هؤلاء من ذوي القرابة، فهم جميعا أولو قربى تجب صلتهم بإحسان وبر.
وكذلك اليتامى وهو جمع مفردة يتيم من اليتم بضم الياء وفتحها. واليتيم في الناس بفقد الأب، أما في غير الناس فهو بفقد الأم. وقيل : اليتم في الناس من مات أبوه أو ماتت أمه، لكن من مات أبواه الاثنان فهو لطيم. والأصل في تسمية اليتيم بذلك ؛ لكونه منقطع النظير. فاليتيم هو كل فرد عز نظيره، كالدرة اليتيمة سميت بذلك، لأنها لا نظير لها٣. واليتيم الذي تكون هذه حاله تجب العناية به، وتحرم الإساءة إليه تحريما شرعيا مغلظا، فإنه لا يجترئ على الإضرار باليتيم وإلحاق الأذية به إلا من كان ظالما لنفسه أو من أودى بنفسه في جهنم.
وكذلك المساكين، جمع تكسير مفرده مسكين وهو من السكون أي ذهاب الحركة. سمي المسكين بذلك ؛ لسكونه إلى الناس. واختلفوا في حقيقة حال المسكين وفيها يفرق بينه وبين الفقير. فقد قيل : المسكين الذي لا شيء له بإطلاق، أما الفقير فهو الذي له بلغة من العيش، وقد سئل أعرابي : أفقير أنت ؟ فقال : لا والله بل مسكين. وخالف الأصمعي في ذلك فقال : المسكين أحسن حالا من الفقير واستدل على ذلك بقوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين ﴾ ومعلوم أن السفينة كانت تساوي جملة من المال، لكنه سبحانه قال في أية أخرى عن الفقراء :﴿ لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾.
وفي قول آخر وهو أن المسكين والفقير كليهما سيان لا فرق بينهما. وقيل : المسكين الذي يكون ذليلا مقهورا حتى ولو كان يملك شيئا، وذلك يفهم من قوله تعالى في اليهود :﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ ٤.
قوله :﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ مفعول به منصوب. وقيل : صفة لمصدر محذوف، وذلك حق آخر جعله الله للناس على بني إسرائيل وهو أن يقولوا لهم القول الكريم الطيب النافع، بما في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في القول، والعفو عن الناس، والتحدث إليهم في تواضع وتودد.
وكذلك من مواثقته لهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وهذان عملان جليلان كبيران يأتيان في مقدمة العبادات جميعا بما يقرب المرء من ربه درجات، ويدنيه من الجنة فيكون من الفائزين.
ثم يخاطب الله بني إسرائيل الذين خلوا في الأزمنة الغابرة، وذلك في أشخاص أعقابهم من اليهود الذين كانوا شهودا في فترة النبوة المحمدية ؛ وذلك لأن المتأخرين كانوا مثل أسلافهم من الآباء والأجداد الذي عصوا أمر ربهم، وشقوا عصا الطاعة على أنبيائهم. فآذوهم وكلفوهم العنت والتضييق فقال سبحانه :﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ التولي الإعراض عن دعوة الله في استكبار وجحد. تولوا عن أوامر الله وتعاليمه إلا القلة القليلة منهم. والجملة الاسمية ﴿ وأنتم معرضون ﴾ في محل نصب حال. أي توليتم عن أمر الله وأنتم في ذلك معرضون، من الإعراض وهو نفس التولي، وقيل : الإعراض يكون عن طريق القلب، لكن التولي يكون بالجسم.
١ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٣٢٢ ومختار الصحاح ص ٧٠٨..
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٠..
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٥..
٤ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٣٧ وفتح القدير جـ ١ ص ١٠٨..
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكن من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴾ كان مما أوجبه الله على بني إسرائيل في التوراة ألا يسفكوا دماء بعضهم بعضا، وألا يخرجوا بعضهم من ديارهم. وقد نسب فعل السفك والإخراج للمخاطبين أنفسهم، وكأنما هم أنفسهم يسفكون دماءهم بأنفسهم، وكذلك يخرجون أنفسهم بأنفسهم من ديارهم، والأصل في ذلك أن الأمة ذات الملة السماوية واحدة. هي أمة متحدة متعاونة كمثل الجسد الواحد المترابط الذي يشد بعضه بعضا، فإن يشتكي كل جزء فيه لاشتكاء أي جزء سواه. وعلى هذا الأصل فإن الذين ينتسبون إلى الملة السماوية الواحدة يؤلفون من البشر المجموعة المتجانسة المتراصة التي لا تفرق بينها أنانيات، ولا تشقها أحقاد أو عصبيات، حتى إن الواحد من هذه الأمة إذا أوقع في غيره أذية فكأنما أوقع ذلك في نفسه بالذات، وأيما مجموعة من أهل الملة الواحدة التي تقوم على التوحيد، آذت غيرها كانت كمن يعتدي على نفسه ويلحق بذاته الشر والمكروه.
وقوله :﴿ تسفكون ﴾ من السفك وهو الإراقة والصب. أما الديار فمفردها دار هي وهي مؤنثة سميت بذلك ؛ لدورانها حول البيت الذي يقام فيها.
قوله :﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون ﴾ إقرارهم كان واقعا على الميثاق الذي طوقوا به أنفسهم وكانوا على ذلك شهودا.
لكنهم بعد ذلك تنكروا لما أقروا من ميثاق وما ألزموا به أنفسهم من عهد ألا يسفكون الدماء ولا يخرجوا أحدا من داره، فقال سبحانه في ذلك :﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾.
﴿ أنتم ﴾ في محل رفع مبتدأ. ﴿ هؤلاء ﴾ اسم إشارة في محل رفع خبر المبتدأ. و ﴿ تقتلون ﴾ جملة فعلية في محل نصب حال من " أولاء " وقيل :﴿ أنتم ﴾ مبتدأ، و ﴿ تقتلون ﴾ في محل رفع خبره. و ﴿ هؤلاء ﴾، في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره : أعني١ والمعني أنكم أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم من العهد في التوراة بعد القتل والتهجير من الديار. وغير ذلك مما ذكرته الآية. فيقتل بعضكم بعضا وتخرجون فريقا منكم من ديارهم بغير حق، وأنتم تتعاونون عليه بالباطل والظلم. وقصة ذلك أن بني إسرائيل في المدينة وهو بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة كانوا فريقين متناحرين متحاربين. فريق منهم مع الأوس وفريق آخر مع الخزرج، وكلا الأوس والخزرج من العرب المشركين الذين لا كتاب لهم ولا ملة إلا عبادة الأوثان. وقد كانت الحرب سجالا بين الأوس والخزرج ؛ لأسباب تقوم على العصبية والأنانية والجهالة. وكان أحد الفريقين من يهود ممالئا للأوس ضد الخزرج يناصرونهم ويظاهرونهم عليهم. والفريق الآخر كان ممالئا للخزرج ضد الأوس، فإذا نشب بين الأوس والخزرج قتال انحاز كل من طرفي يهود نحو حليفه من العرب المشركين " الأوس والخزرج " وقاتلوا إلى جانبهم ضد إخوانهم من بني إسرائيل فقتلوا منهم فريقا وأخرجوا منهم فريقا آخر من ديارهم وهم يتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان. والتظاهر التعاون، والعدوان تجاوز الحد أو الإفراط في الظلم. وبذلك كان كل فريق من اليهود يظاهر حليفه من العرب بما يكون في ذلك من قهر للفريق الآخر من اليهود وإخراج لبعضهم من بلاده.
قوله :﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾. ﴿ أسارى ﴾ مفردها أسير وهو من الإسار بمعنى القيد الذي يكون وثاقا لمن يقع في الأسر. و ﴿ تفادوهم ﴾ من المفاداة أو الفداء وهو أن يطلب من الأسير دفع فدية مالية لتسريحه. كان اليهودي الذي يحارب إلى جانب حلفائه من العرب المشركين إذا وقع في أسر خصومه من اليهود الآخرين، فإنهم يضطرونه لدفع فدية من المال ؛ كيما يسرحوه مع أن التوراة تحرم أن يقتل اليهود بعضهم بعضا، أو أن يخرجوا أحدا من دياره أو يظاهروا عليه خصومهم من الآخرين. وبعبارة أخرى : فإن التوراة تفرض على اليهود من خلال هذه الآية أربعة فروض هي : ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من دياره، وألا يظاهروا غيرهم على بعضهم، وأن يفادوا أسراهم بالمال إذا وقعوا في أسر خصومهم. وبعبارة أخرى، ثمة عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم. وهذه عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم. وهذه عهود قد واثق الله بني إسرائيل بها في التوراة، لكنهم قد نقضوا كل هذه العهود باستثناء المفاداة التي تحققت على نحو يقوم على التحيل والتناقض. فهم قاتلوا إخوانهم في الملة، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا المشركين عبدة الأوثان عليهم، ثم فادوهم بالمال. لا جرم أن ذلك التواء وتناقض يكشف عن سلوك فاسد مضطرب. سلوك فيه مخالفة صريحة لما جاء في التوراة، فكيف يتطابق الإخراج والإيقاع في الأسر مع المفاداة بالمال لفكاكهم من الأسر ؟ ! إن ذلك نكول صريح عن شرع الله. أو هو ضرب من تقسيم الملة إلى ما يؤخذ وما يترك !.
أما قوله :﴿ وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾ الواو للحال والجملة الإسمية بعدها في محل نصب حال. هو ضمير في محل رفع مبتدأ. ﴿ محرم ﴾ خبره،
﴿ إخراجهم ﴾ بدل من الضمير المبتدأ. وقيل في إعراب هذه الجملة غير ذلك٢.
أما قوله :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ في ذلك استفهام ينطوي على توبيخ ونكير لفعلة هؤلاء الشنيعة. وهي فعلة تحتسب في عداد الكفر الصريح المكشوف. وهو إيمان هؤلاء القوم ببعض ما جاء في الكتاب والعمل به، ثم كفرهم ببعض الآخر وإعراضهم عنه.
والذي يلفت النظر هنا أمران يكشفان عن حقيقة الكفر في غاية من الوضوح الحاسم والذي لا يقبل المداهنة أو اللين.
الأمر الأول : أن إعراض هؤلاء القوم عن بعض ما جاء في كتابهم وانثناءهم عن العمل به لهو الكفر نفسه. حتى إن مجرد التصديق الباهت الذي يظل حبيس النفس ليس له أدنى وزن أو أهمية في ميزان الله تعالى، فلا خير في تصديق إذا لم يكن مقترنا بالعمل تمارسه الجوارح ؛ وذلك ليعلم الإنسان المؤمن في ضوء هذا التصور الفاصل أنه لا يتاح له أن يعبر حومة المؤمنين الصادقين إلا إذا كان عاملا بما رسخ في ذهنه من مدركات وتصورات.
الأمر الثاني : أن الإيمان والعمل ببعض ما جاء في الكتاب لا يغني عن الإيمان والعمل به جميعا. فإن قضية الإيمان لا تتجزأ، والإيمان حقيقة متكاملة متسقة لا تعرف التجزئة والانقسام، وأي إيمان أو تصديق بجزء من العقيدة لا يمحو عن المرء عار الكفر والجحد بالعقيدة كلها. وكذلك فإن العمل ببعض ما جاء في الكتاب ثم الإعراض عن العمل ببعضه الآخر لا يرد عن المرء وصمة الكفر التي كتب الله أنها تدفع المدبرين عن صراط الله ومنهجه الواضح المتسق. هؤلاء الذين يُقبلون على الله بوجه ثم يُقبلون على غيره بوجه آخر. أو الذين يفرقون في العبادة ليجعلوا جزاء منها لله وأجزاء أخرى لغير الله من الأرباب المنتشرة في الأرض.
لذلك فإن الله ينكر على هؤلاء الشاردين في توبيخ غليظ جنوحهم إلى غيره من مختلف الأرباب. وفي ذلك إعلان حاسم يكشف عن حقيقة الإيمان في مفهومه الصحيح المتسق وهو أنه لا مساغ للتفريط بجزء من الدين، وأن العمل بجزء آخر منه لا يرد عن المرء وصمة الكفر الشنيع.
قوله :﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ذلك نذير من الله شديد لأولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهم الذين يجترئون من الدين بعضه فيعملون به، ثم يعرضون عن بعضه الآخر. أو الذين يصدقون ببعض ما في الدين من قضايا أو أركان أو معان، ثم يرتابون ببعض الآخر، مجاراة لما تهواه أنفسهم أو اكتفاء بما يروق لهم من بعض المعاني أو الأحكام. ومثل هذا الإيمان المنتقص لا يغني عن حقيقة الإيمان الكبرى كالذي بينا آنفا. وبذلك فإن الله يتهدد هذا الصنف من الناس بوخيم العاقبة التي تؤول إلى شطرين من العذاب. أولهما : الخزي والعار في هذه الدنيا يصم الله بهما من يعرضون عن بعض ما جاء في منهجه سبحانه ؛ لأن من أعرض عن بعض ما في المنهج كان كمن أعرض عن المنهج كله. لكن صور الخزي والعار في هذه الدنيا يندرج في خصمها كل أصناف الذلة والصغار والهوان، أو الفقر والجنوح والمعاناة وكل مظاهر المضانكة التي يذوق خلالها الشاردون عن منهج الله ألوان البلاء والنصب والمرارة.
وثانيهما : هو أشد فظاعة وعتوا وهو العذاب يوم القيامة. العذاب الذي يشم كل ظواهر الشدة والهول، والذي يدنو دونه كل عذاب من أعذبه الدنيا وما فيها من أرزاء وأهوال تمر سراعا. إن العذاب يوم القيامة لا يتصوره الخيال، ولا يستيطع الحس أن يستشعره ؛ وذلك للكيفية البالغة في الإذهال والتي لا قبل للخلائق بها. إنه العذاب الحارق اللاهب الذي تتسجر فيه جسوم العصاة والأشرار الذين يشردون عن منهج الله ليلاقوا في النار من سوء المصير وفادح الويل ما لا يتصوره عقل بشر ولا يطيقه مقدور كائن كيفما كان ! !.
ذلك الذي يتوعد الله به عباده الناكبين عن صراطه الشاردين عن منهجه وهم جميعا بين يديه وفي قبضته فيعلم ما في صدورهم من أسرار وأستار إن خفيت على الكائنات جميعا فإنها لا تخفى عليه سبحانه.
١ - البيان للانباري جـ ١ ص ١٠٣ والدر المصون جـ ١ ص ٤٧٥- ٤٧٧..
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٥..
قوله :﴿ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ ليس المقصود بذلك اليهود وحدهم لشراء الحياة الدنيا وما فيها من متاع سريع زائل بدل الآخرة التي أعرضوا عنها ولم يعبأوا بالعمل والسير من أجلها. ليس المقصود اليهود وحدهم- وإن كانوا في طليعة الناكبين عن منهج الله اللاصقين بالدنيا ومتاعها وزخرفها- ولكن مقصود الآية يمتد ليشمل كل قبيل من البشر يبيع آخرته بدنياه، ويظل رهين الشهوة والمتاع، يستوي في ذلك أن يكون هؤلاء الأشرار الأشقياء من اليهود أو من العرب أو الفرس أو من غيرهم. وأولئك جميعا قد أعد الله لهم نظير شرهم وشقوتهم عذابا لا يقبل التخفيف في يوم من الأيام، بل إن يزداد مع مرور الزمان اشتدادا في اللهيب والاستعار. وكذلك فإن هؤلاء سوف لا يجدون لهم من يأخذ بأيديهم صوب النجاة والخلاص من هذا العذاب الأليم، ولن يكن لهم أي نصير يستطيع أن يعينهم أو أن يدرأ عنهم العذاب حتى ولو ساعة من نهار ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴾ ١.
١ - فتح القدير – جـ ١ ص ١١٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٢١ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦٠..
قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم فريقا كذبتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾ لقد أوتي موسى عليه السلام التوراة ثم جيء من بعده بالرسل متتابعين مردفين وكان من أجلّهم وأعظمهم النبي الطاهر الكريم عيسى بن مريم. وذكره هنا في الآية ينطوي على إبراز واضح لمكانته الجليلة. فهو النبي المعصوم، ذو العزم، الذي تخلّق من غير أب، ثم آتاه الله البينات – وهي الحجج والبراهين التي تشهد على صدق نبوته- وكذلك قد أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام فقد كان له عونا وسندا يزداد به قوة وعزما.
لقد بعث الله النبيين من بعد موسى لهداية بني إسرائيل وترشيدهم إلى الحق والخير، وكان أخرهم عيسى المسيح الذي جاءهم بالمعجزات الحسية المستبينة وبالدعوة إل المودة والتسامح وطيب القلوب وأن يؤوبوا إلى حقيقة التوراة دون تحريف أو تزييف، لكن ذلك كله قد شق عليهم وأحنقهم فبيتوا في قلوبهم السوء والرغبة في الخداع والغدر، فانقلبوا مستكبرين عتاة يتطاولون على النبيين بسوء القول، ثم يميلون عليهم ميل الطغاة المجرمين فيقتلوهم قتلا ؛ ذلك لأن الرسل قد جاؤوا بالحق وبما يخالف أهواء بني إسرائيل وبإلزامهم بأحكام التوراة التي تصرفوا في مخالفتها والتلاعب بنصوصها ومعانيها.
وليوافق ذلك ما يهواه بنو إسرائيل الذين مردت نفوسهم على التحريف في الكتاب واصطناع ما يروق لهم من ديانة وتعاليم. من أجل ذلك لم يستطيعوا طوق ما جاء به أنبياؤهم المرسلون فانفتلوا يكذبون تارة ويعتدون عليهم بالقتل تارة أخرى، وما فتئت هذه الوصمة تستحوذ على طبائع يهود حتى جاء النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) فكادوا له كيدا وأرادوا قتله بالسم في خيبر : فقال عليه الصلاة والسلام في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ١ وفي ذلك يقول سبحانه :{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) الهمزة للاستفهام. والفاء للعطف. وكلما ظرف زمان. فريقا مفعول به منصوب بقوله كذبتم. وفريقا الثاني منصوب بقوله تقتلون. وقدم المفعول به للاهتمام به٢.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٢٣..
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٦..
قوله تعالى :﴿ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ﴾.
قالت اليهود للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حينما دعاهم إلى التوحيد والإسلام ﴿ قلوبنا غلف ﴾ جمع أغلف. والقلب الأغلف كأنما أغشي غلافا فهو لا يعي ولا يفقه. والقلوب الغلف يعني عليها أغطية أو أغشية تغشاها وتحيط بها فتسترها عن الفهم والتمييز. وقال ابن عباس : أي قلوبنا ممتلئة علما فلسنا بحاجة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمه. وقيل : غلف جمع غلاف. أي أن قلوبنا أوعية للعمل فكيف يعزب عنها علم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ١.
هكذا يقولون في سفاهة وعتو وهم يعلمون أنهم كاذبون مبطلون. ومن أجل ذلك استحقوا من الله اللعن وهو الإبعاد والطرد من مواطن الخير، وذلك بسبب ما أظهروه من كفر صراح.
وقوله :﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ قليلا منصوب ؛ لأنه صفة مصدر محذوف. وما زائدة. والمعنى أن هؤلاء الجاحدين الكفرة لا يؤمنون بغير القليل مما معهم من كتاب ويكفرون بأغلب ما فيه. وقيل : إنهم لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، أي لا يؤمنون أقل إيمان. فالمراد بالقلة هنا النفي. والمعنى : لا يؤمنون أصلا. كقوله :﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ أي لا يشكرون أصلا٢.
١ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٨٧ ومختار الصحاح ص ٤٧٨ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٥ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦١.
٢ - البيان الأنباري جـ ١ ص ١٠٦ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦١..
وقوله :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾.
المقصود بالكتاب هو القرآن، فلما جاءهم وفيه التصديق لما معهم من كتاب وهو التوراة وقد كانوا أيضا يستفتحون على الذين كفروا، أي يستنصرون عليهم بمجيء النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ). وفي ذلك يقول عبد الله ابن عباس- رضي الله عنهما- : كانت يهود خبير تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. فكانوا إذا التقوا بهذا الدعاء هزموا غطفان، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفروا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذلك هو شأن يهود في نقضهم للعهود وكذبهم على الله وعلى أنفسهم. فقد كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي قد أوحي إليه، وأن القرآن كلام الله المعجز المنزل على هذا النبي الأمي، ومع ذلك كله فإن ديدنهم النقض والزيغ والتكذيب لا لسبب إلا محض الزيغ والهوى والمريض.
من أجل ذلك فقد استوجب هؤلاء الجاحدون الطرد والإبعاد من كل خير، وذلك من خلال اللعن يَصِمُ هذا الصنف من البشر الخائر الفاجر المتردد.
وقوله :﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴾ بئس فعل ذم جامد، وما اسم موصول في محل رفع فاعل بئس، وتقديره : بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم ﴿ أن يكفروا ﴾ في محل رفع مبتدأ، وخبره ما تقدم. وقيل :﴿ أن يكفروا ﴾ في محل جر بدل من الهاء في ﴿ اشتروا به ﴾ أما الذي اشتروا به فهو الكفر أو الضلال، وذلك عوض لما باعوه وهو الحق أو الهداية. والمقصود بذلك اليهود، فقد وقع التنديد عليهم لنبذهم الحق من وراء ظهورهم واستبدالهم الباطل يتلقفونه تلقفا وهو ( أن يكفروا بما أنزل الله ) والبغي الوارد بعد ذلك معناه الحسد كما قيل وقد جاء منصوبا باعتباره مفعولا لأجله. وسبب الحسد أصلا ما أنزله الله على نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من رسالة الإسلام. لقد كان ذلك سببا في إثارة الحسد والحقد في نفوس بني إسرائيل الذين يرتجون أن يكون هذا النبي منهم.
وقوله :﴿ فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ﴾ باؤوا أي رجعوا واستوجبوا، فقد استحق اليهود بعد هذا الإنكار، وجزاء ما اقترفوه من جحد. وتفريط غضبا من الله على غضب، وذلك لفرط زيغهم عن صراط الله وما سجلوه على أنفسهم من مخالفات كبيرة مشينة، منها عبادة العجل، وإبدالهم ما أمروا به من قول وهو حطة فبدلوا ذلك سخرية واستخفافا، ثم قتلهم النبيين بغير حق ومطالبتهم أن يروا الله عيانا وجهرة، وكذلك إنكارهم نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع إقرارهم المسبق بصدق نبوته من قبل أن يأتي، وغير ذلك من المقارفات الكبيرة. من أجل ذلك استحقوا من الله الغضب بعد الغضب، ثم إن لهم من الله العذاب المهين١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٧، ٢٨ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٢٤، ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو من حوله من اليهود للإيمان بدعوته والدخول في دين الإسلام وتصديق ما نزل عليه من كتاب حكيم وهو القرآن. لكن اليهود كان جوابهم مخيبا إذ رفضوا الإعلان عن صدق نبوة الرسول محمد متذرعين بقولهم كما يحدثنا القرآن ﴿ نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه ﴾ وهم في ذلك يحدوهم التعصب الفاسد المريض ؛ إذ يأبون التصديق بغير ما نزل عليهم وهي التوراة، ويرفضون ما وراء ذلك وهو القرآن مع أنه جاء مصدقا لما معهم من كتاب. والواو في الجملة الإسمية حالية، والجملة من المبتدأ والخبر ﴿ هو الحق ﴾ في محل نصب حال. و ﴿ مصدقا ﴾ أيضا حال منصوب.
وقوله :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴾ سؤال فيه إحراج لهم وتوبيخ. فهم إن كانوا على شيء من الحق والإيمان فلم تجرؤوا على النبيين من قبل فقتلوهم ظلما وعدوانا ؟ وهل يجرؤ على قتل نبي من كان يحمل في قلبه ذرة من إيمان ؟ !
وكذلك قد جاءهم نبيهم موسى من قبل هاديا ومعلما ومنقذا، لكنهم مع ذلك زاغوا عن هديه وأوامره يوم اتخذوا العجل إلها من بعد مفارقته لهم حال ذهابه إلى الطور مناجيا ربه. كانوا يعملون ذلك كله وهم ظالمون وعن الحق والإيمان ناكبون. أما البينات التي جاءهم بها موسى عليه السلام فهي البراهين الحسية التي تدل على صدق نبوته، والتي عاينها بنو إسرائيل تماما ثم زاغوا من بعدها، وهي تشكل الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون وفلق البحر وانبجاس الماء من الصخر وطعام المن والسلوى والتظليل بالغمام.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴾.
أخذ الله على بني إسرائيل العهد أن يستقيموا على صراطه ودينه وأن يعملوا بما في التوراة. لكنهم أبوا وتولوا معارضين مدبرين، كان ذلك بعد أن رأوا الأدلة الحسية على صدق الرسالة وبعد إعلانهم عن التوبة إلى بارئهم والرجوع إلى دينه مرارا حتى تهددهم الله بالجبل إذ رفعه فوق رؤوسهم كأنه ظُلة وأيقنوا أنه ساقط عليهم. ذلك تخويف من الله لبني إسرائيل، وهو تخويف واقع مشهود أرعب قلوبهم وأرعد فيهم المشاعر والأبدان ؛ لكي يصيخوا إلى النذير الذي يغشاهم بالعذاب أو الموت إلا أن يهتدوا ويأخذوا بما في التوراة فينجوا. جاء هذا التهديد مقترنا بقوله سبحانه لهم :﴿ خذوا ما آتاكم بقوة واسمعوا ﴾ أي ألزموا أنفسكم التوراة، واعملوا بما فيها من هداية وتعاليم وذلك ﴿ بقوة ﴾ أي بجد وعزم واجتهاد. وقوله :﴿ واسمعوا ﴾ لا يعني مجرد السمع وحده ولكن الأهم المقصود هو الطاعة. فقد أمرهم أن يلتزموا بالتوراة طائعين مذعنين لله دون ميل أو انثناء أو تردد.
وقوله :﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ وذلك على سبيل المجاز فقد لا ينطقون ذلك بألسنتهم حقيقة، وإنما كانت حالهم تنطق به كأنما يقولون سمعنا سماعا مجردا وعصينا أن نعمل بما في الأمر. وقيل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا وقوله :﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ أي خالط حب العجل قلوبهم فخلُص إلى صميمها خلوصا. وذلك هو الإشراب الذي يداخل القلب مداخلة تستعصي على الفكاك، وذلك على سبيل الاستعارة التي تتجلى من خلالها الصورة على التمام. وهي صورة القلب الزائغ المتجانف الذي استحوذ عليه حب العجل حتى مرد عليه مرودا شائنا. وفي صدد التعبير بالإشراب يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الفتن تتشربها القلوب تشربا : " تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأيما القلب أشربها نُكت فيه نكتة سوداء " والنكتة العلامة، وقوله :﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ بعد الحديث الكريم عن القلوب المريضة التي أشربت حب العجل يأمر الله نبيه أن يخاطب هؤلاء القوم الفساق خطاب التنديد والذم بأنه بئس هذا الإيمان الفاسد الزائف الذي تنطوي عليه صدوركم، وبئس الذي يأمركم به هذا الإيمان من سقيم العبادة والتوجه. وهذا الضرب من الإيمان ليس من الحق أو الهداية في شيء وما هو إلا الباطل والضلالة برمتها.
وقوله :﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ تلك صورة من صور التحدي يأمر الله نبيه عليه السلام بطرحها أمام يهود. غير أنهم خسئوا ونكصوا أمام هذا التحدي القائم الصارخ كان ذلك بعد أن زعمت يهود في ضلالة واغترار بأنهم خير الأمم، وأنهم غير معذبين في النار سوى أيام معدودات، وأنهم وحدهم يستأهلون الجنة وليس لأحد غيرهم أن يشاركهم فيها. وفي مثل هذا الزيف من القول يتحداهم الله أن يتمنوا الموت، ذلك أن الذي يكون متوثقا من دخول الجنة والسلامة من عذاب النار لا جرم أن يتمنى الموت، فيبرح هذه الحياة الحافلة بالكد والنصب ؛ ليلج الدار الباقية المستديمة حيث الهناء والأمن والسعادة، وهو تحد لا جرم أن يكون واضحا مكشوفا لا تعتريه مواربة ولا يجلله غموض. وخلاصته أن من أيقن أنه من أهل الجنة فهو يظل مشدودا إليها راغبا في الابتهاج بنعيمها السرمدي الفياض، وطريق ذلك نفاد سني العمر، والرحيل من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة حيث النعيم المقيم، كذلك كان التحدي الذي لم يلق إلا قلوبا فارغة خاوية وآذانا موقورة عطلها الصمم بما يدل على كذب هؤلاء القوم وسوء قصودهم، وأنهم ليسوا على شيء مما زعموا فقال سبحانه :﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴾
﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴾ الله أعلم بالإنسان من نفسه، وهو سبحانه عليم بما هو كائن وما سوف يكون. ومن خلال هذا النص الرباني الكريم يفيض الإعجاز في غاية من الوضوح والبساطة، وذلك بعد أن تحدى الله جماعة يهود كيما تتمنى الموت ما دام تزعم أنها ورثة الجنة، فرفضوا هذا التمني فعلا، لكن الرفض كان مسطورا في علم الله القديم، وأنه سبحانه يعلم ما سينطق به القوم من قبل أن ينطقوا فقال :﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴾ فهم يخشون الموت لخشيتهم مما بعده من وبال وخسران، وذلك بما صنعوه من الموبقات والخطايا، وما قدموه من جرائم ومخالفات، فهم بذلك آثمون ظالمون لا تخفى حالهم على الله سبحانه.
قوله تعالى :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصيرا بما يعملون ﴾ ولتجدنهم اللام للتوكيد، والضمير متصل بالفعل المضارع في محل نصب مفعول به أول وهو يعود على اليهود الذين هم
﴿ أحرص الناس على حياة ﴾ والمفعول الثاني :﴿ أحرص ﴾ وأما الواو بعد حياة فهي تحتمل العطف والاستئناف. وفي تقديرنا أن العطف هو الصواب. وعلى هذا يكون المعنى أن اليهود أحرص الناس جميعا على حياة، وهم كذلك أحرص من الذين أشركوا على حياة. وذلك من باب عطف الخاص على العام. فالخاص المعطوف هم الذين أشركوا، والعام المعطوف عليه هم الناس.
أما القول الثاني وهو أن الواو تفيد الاستئناف فذلك يعني تمام الكلام عند حياة. وتبعا لذلك فالذين يودّ أحدُهم لو يعمّرُ ألف سنة، هم الذين أشركوا. والظاهر أن ذلك مخالف للسياق. فإن الصواب أن يكون المراد أي اليهود أشد خلق الله حرصا على حياة. وهم كذلك أشد حرصا حتى من الذين أشركوا، وهذه حقيقة حال اليهود التي تكشف عنها التجارب والممارسات القولية والعملية التي تكشف عن مدى حرص يهود على حياة. قال الشوكاني في فتح القدير : وتنكير حياة للتحقير. أي أنهم أحرص الناس على أحقر حياة وأقل لبث في الدنيا. فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول ؟ ويرحم الله الأستاذ العلامة سيد قطب، إذ استطاع ببراعته وقدرته على الاستفادة من المعاني القرآنية أن يوقفنا على لفتة عجيبة تتجلى في قوله :﴿ حياة ﴾ وذلك اسم نكرة غير معرفة وتنكير هذا الاسم ﴿ حياة ﴾ يعطي مدلولا واضحا عن طبيعة يهود في رغبتهم في مجرد العيش والحياة، كيفما كانت هذه الحياة. يستوي في ذلك أن تكون الحياة كظيظة بالشرور والمفاسد أو عامرة بالصلاح والخير. فلا قيمة لمثل هذه الاعتبارات في تصور يهود ما دامت الحياة جارية وهي مليئة بالرخاء والشهوات. والمهم أن تكون حياة... أي حياة !
قوله :﴿ يود احدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ﴾ إن حرص يهود يدفعهم للرغبة اللحاحة في طول الحياة والعيش. فإن أحدهم يتمنى ﴿ لو يعمر ألف سنة ﴾ لو مصدرية بمعنى أن. أي أن أحدهم يتمنى أن يمتد عمره ألف سنة، لكن هذا التعمير لا يزحزحه من العذاب. فهو إن عمر ألف سنة أو دون ذلك فإن هذا التعمير لا يغنيه من العذاب شيئا. وقوله :﴿ أن يعمر ﴾ بدل من التعمير الذي يشير إليه الضمير ( هو ) وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ يصف الله نفسه بأنه عالم بخفايا الأمور فهو سبحانه عالم بالأشياء كلها خبير بها جميعا فلا يندّ عن علمه منها شيء١.
١ - فتح القدير للشوكاني جـ ١ ص ١١٥ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦٣ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ١٢٢..
قوله تعالى :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكة ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ ذكر في سبب نزول هذه الآية كما أخرج الترمذي، أن اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة والوحي فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " جبريل " قالوا : ذلك الذي نزل بالحرب وبالقتل ذاك عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله تعالى :﴿ عدو للكافرين ﴾.
قوله :﴿ فإنه نزله على قلبك ﴾ الضمير في قوله :( فإنه ) يُحتمل عودُه على جلال الله سبحانه فهو الذي نزّل جبريل بالقرآن والهداية والنور على قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ). ويحتمل عوده أيضا على جبريل عليه السلام فهو الذي نزل القرآن على قلب النبي الكريم. والقلب جهاز عظيم القدر والفعالية وهو موضعه الصدر من الإنسان، وهو كذلك مناط العقيدة والإيمان بما يقتضيه ذلك من المعاني والقيم والتصورات، أو على النقيض من ذلك حيث الشك والتكذيب والإلحاد. وقد سمي القلب بذلك، لتقلبه من حال إلى حال ؛ فهو تتأرجح فيه الحال بين الإيمان والإنكار أو بين اليقين والتكذيب. حتى قيل إنه قلّب وذلك لتقلبه.
وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يدحض مقالة يهود بأن جبريل عدو الله. وحاشا لله ! فما كان للوحي الأمين الكريم أن يكون عدوا لله وهو أمين السماء وحامل الأمر من ربه إلى العباد في الأرض. وهو عليه السلام لا ينشط من تبليغ رسالة أو أداء أمانة أو تلاوة كتاب إلا بإذن الله سبحانه. وقد نزل بالكتاب الحكيم على قلب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ﴿ مصدقا لما يبن يديه ﴾ أي أن الكتاب الذي نزله على قلب النبي فيه تصديق لما قبله من كتاب وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتاب. وهو كذلك يحمل للمؤمنين الهداية والبشرى، ويخوف بالتحذير والتنذير.
ويخاطب الله نبيه عليه السلام أيضا أن يعلن للناس عن فداحة المعاداة لأحد من ملائكته أو رسله، فهؤلاء جميعا مصطفون قد اختارهم الله من بين العباد فهو سبحانه يقضي في ذلك كله ولا رادَّ لقضائه، ويحكم ولا معقب لحكمه. وعلى ذلك فإن معاداة أحد من ملائكته ورسله لهي معاداة لله جل جلاله، سواء كان الملك المعادى جبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة، فهو جميعا أبرار أطهار لا يخصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وما معاداة أحدهم إلا وصمة كفر تطبع على قلوب الضالين الفاسقين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:قوله تعالى :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكة ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ ذكر في سبب نزول هذه الآية كما أخرج الترمذي، أن اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة والوحي فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :" جبريل " قالوا : ذلك الذي نزل بالحرب وبالقتل ذاك عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله تعالى :﴿ عدو للكافرين ﴾.
قوله :﴿ فإنه نزله على قلبك ﴾ الضمير في قوله :( فإنه ) يُحتمل عودُه على جلال الله سبحانه فهو الذي نزّل جبريل بالقرآن والهداية والنور على قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ). ويحتمل عوده أيضا على جبريل عليه السلام فهو الذي نزل القرآن على قلب النبي الكريم. والقلب جهاز عظيم القدر والفعالية وهو موضعه الصدر من الإنسان، وهو كذلك مناط العقيدة والإيمان بما يقتضيه ذلك من المعاني والقيم والتصورات، أو على النقيض من ذلك حيث الشك والتكذيب والإلحاد. وقد سمي القلب بذلك، لتقلبه من حال إلى حال ؛ فهو تتأرجح فيه الحال بين الإيمان والإنكار أو بين اليقين والتكذيب. حتى قيل إنه قلّب وذلك لتقلبه.
وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يدحض مقالة يهود بأن جبريل عدو الله. وحاشا لله ! فما كان للوحي الأمين الكريم أن يكون عدوا لله وهو أمين السماء وحامل الأمر من ربه إلى العباد في الأرض. وهو عليه السلام لا ينشط من تبليغ رسالة أو أداء أمانة أو تلاوة كتاب إلا بإذن الله سبحانه. وقد نزل بالكتاب الحكيم على قلب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ﴿ مصدقا لما يبن يديه ﴾ أي أن الكتاب الذي نزله على قلب النبي فيه تصديق لما قبله من كتاب وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتاب. وهو كذلك يحمل للمؤمنين الهداية والبشرى، ويخوف بالتحذير والتنذير.
ويخاطب الله نبيه عليه السلام أيضا أن يعلن للناس عن فداحة المعاداة لأحد من ملائكته أو رسله، فهؤلاء جميعا مصطفون قد اختارهم الله من بين العباد فهو سبحانه يقضي في ذلك كله ولا رادَّ لقضائه، ويحكم ولا معقب لحكمه. وعلى ذلك فإن معاداة أحد من ملائكته ورسله لهي معاداة لله جل جلاله، سواء كان الملك المعادى جبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة، فهو جميعا أبرار أطهار لا يخصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وما معاداة أحدهم إلا وصمة كفر تطبع على قلوب الضالين الفاسقين.

قوله :﴿ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ تلك شهادة على صدق نبوة الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وعلى أن الله أنزل عليه في الكتاب آيات من البراهين والحجج تشهد له بأنه على الحق. ومن جملة هذه البراهين والحجج ما حواه الكتاب الحكيم من أخبار اليهود ومن مكنونات أسرارهم وما تضمنته كتبهم من أنباء قد حرفوها تحريفا. لكن اليهود قد كفروا بما جاءهم النبي من كتاب محكم صدوق ينبئهم بأخبارهم وأخبار الأولين من آبائهم السالفين. لقد كذبوا بالحق كله وهو من عند الله، وفيه الخبر الثابت اليقين. الخبر القاطع في حقيقته ومدلوله والذي يدرك عن طريق الحس وتصدقه الوقائع الثوابت.
ثم يعلن الله جلت قدرته أنه لا يكفر بهذه الدلائل والبراهين إلا الفاسقون. والفاسقون من الفسق وهو الخروج. والفاسق الذي يخرج عن صراط الله وعن منهجه القويم. وتسمى العرب الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من حجرها. والفاسقون أو الفسقة والفساق من الفسق كما بينا فكلهم خارجون عن تعاليم الله وعن دينه المستقيم. قال ابن عباس في سبب نزول قوله :﴿ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ﴾ هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، ما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها، فأنزل الله هذه الآية١.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٣٣..
قوله تعالى :﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرين من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ﴾.
ذلك بيان لنكث يهود المواثيق ونقضهم للعهود التي طالما ألزموا أنفسهم بها. والله سبحانه ينكر عليهم هذا الطبع الفاسد فيسأل في إنكار وتنديد ﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ﴾ الهمزة للاستفهام بمعنى التوبيخ والواو للعطف. وكلما تفيد الشرط. فكأن هذا الخلق الذميم بات فيهم طبعا متمكنا وديدنا قد مردت عليه نفوسهم وأعصابهم فما عادوا يوفون بعهد أو ميثاق. فما يكون من ميثاق تعقده يهود إلا وينبذه فريق منهم. والنبذ الإلقاء والاطراح.
قوله :﴿ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴾ أكثر هؤلاء القوم مكذبون رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أن التوراة قد احتوت ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام والأمر باتباعه ومؤازرته. يقول سبحانه في مثل ذلك :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾.
قوله :﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ﴾ المقصود بالرسول الذي جاء من عند الله هو النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وأما الذين أوتوا الكتاب فهم اليهود، فقد جاءهم نبي الإسلام عليه السلام يدعوهم إلى منهج الله الحق وفيه التصديق لما معهم من كتاب- وهي التوراة- لكن فريقا منهم جحدوا وكذبوا. وذلك يدفعهم بالتكذيب لكتاب الله الذين بين أيديهم " التوراة " وفيها ذكر هذا النبي الخاتم في وضوح مكشوف كان يستبين لكل قارئ ؛ وعلى ذلك فإن تكذيبهم لنبوة الرسول محمد لهو نبذ للتوراة نفسها لما فيها من تصديق مسبق بهذا النبي وبشرى مسطورة به من قبل أن يأتي.
قوله :﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ نبذ هؤلاء التوراة بميلهم عما فيها من تصديق لنبي الإسلام ومضوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ؛ كيلا يصيخوا لنداء الحق وكأنهم لا علم لهم بحقيقة الأمر مع أنهم على علم سابق بالحقيقة التي كانوا يقفون عليها وهم يقرؤون التوراة. ومن أصدق ما يجيء في هذه القضية قول الله عن هؤلاء القوم في القرآن :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾.
قوله :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ الواو للعطف، والفعل المضارع بعدها معطوف على الفعل نبذ، والمقصود أن ذلك الفريق من اليهود نبذوا التوراة التي تنطوي على ذكر نبي الإسلام واتبعوا بدلا من ذلك ما كانت الشياطين تتلوه زمن سليمان عليه السلام.
أما الذي كانت الشياطين تتلوه على عهد سليمان فهو السحر الذي قيل إن الشياطين كانت تتبعه وتقرأه على الناس زاعمين أنه من صنع سليمان. والحقيقة أن ذلك السحر ما كان من صنع سليمان، بل إن من كيدهم وخبثهم. وحقيقة المسألة- فيما ذكره ابن عباس- أن سليمان عليه السلام قد دفن تحت كرسيه ما اطلع عليه من كتبهم في السحر. ولما توفي عليه السلام ظهر الإنس والجن على الكتب، وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخذوا به وجعلوه دينا لهم، فأنزل الله تكذيبا لهم، فقال سبحانه :( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وفي هذا دلالة على أن السحر ضرب من الكفر يورد المتشبثين به موارد الشرك والضلالة. وكذلك فإن الآية تنفي أن يكون السحر من صنع سليمان، ولكنه من صنع الشياطين فهم الذين اختلقوه وابتدعوه، وهم كذلك الذين افتروا على سليمان بقولهم : إنه كان يخفي تحت كرسيه سحرا. وحاشا لله فما كان لنبي أن تكون له أدنى علاقة بسحر، ولكنها النبوة الصادقة الميمونة، والوحي القدسي الكريم الذي يتنزل على هذا النبي المقصود بخبر السماء.
وبذلك فإن السحر لهو من اختلاق الشياطين الذين يعلّمون الناس إياه. وكذلك يعلمونهم كما قال سبحانه :﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ وما نريد أن نقول في ذلك شططا، ولا نفلت العنان للقلم والكلام في هذه المسألة فنذهب بعيدا إلى ما يقرّبنا من الزلل.
والذي نستطيع ذكره في توضيح هذه القضية ببساطة أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل الله على الملكين ببابل وهما هاروت وماروت، بدل من الملكين.
أما الذي أنزل على هاروت وماروت ببابل فكان سحرا، وهو ابتلاء من الله للناس على سبيل الفتنة، ويكشف عن هذا المدلول قوله تعالى :﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾. وعلى هذا فإن سليمان لم يكفر، وكذلك فإن الملكين ببابل لم يكفرا، لكن الله جعلهما ببابل وأنزل عليهما السحر، فتنة للناس وليبتليهم بهما وبما أنزل عليهما. ويدل على ذلك قولهما لمن يأتيهما من الناس :( إنما نحن فتنة فلا تكفر فكأنهما يشرحان للناس ما أنزل عليهما من بلاء وفتنة ثم يحذران كذلك من اتباع السحر.
ذلك الذي نستطيع ذكره هنا ولا نمضي في هذه القضية أكثر من ذلك، خشية الزلل والتكلف. وقوله :﴿ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ﴾ يراد بواو الجماعة في قوله ﴿ فيتعلمون ﴾ " السحرة " فهم الذين يقبلون على الملكين هاروت وماروت ليأخذوا منهما السحر من غير أن يعبأوا بالتحذير والنصيحة المقدمين من هذين الملكين قبل التعليم. بل كان السحرة يتعلمون منهما هذا الفن المحظور رغم النصيحة والزجر، ثم يمضون في الناس يفرقون بين المرء وزوجه بسحرهم والنفث فيهم.
قوله :( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) ذلك نفي من الله لوقوع الضرر عن طريق السحر. والضمير ( هم ) بعد يعود على السحرة وقيل على اليهود، وقيل على الشياطين.
والمهم في ذلك أن هؤلاء الأشقياء لن يوقعوا بسحرهم ضررا بأحد ( إلا بإذن الله ) أي بإرادته وقضائه، لا بأمره فإن الله سبحانه لا يأمر بالشر والباطل، لكنه سبحانه لا يندّ عن إرادته وقضائه شيء أو حدث.
وفي الآية كذلك تقرير بأن الذين يمارسون السحر إنما يتعلمون ما ليس لهم فيه نفع أو خير، ولكنه يعود عليهم بالضرر في هذه الدنيا حيث الإهانة والزراية والنكال الذي يجب أن يحيق بالساحر المفتري الدجال. وكذلك فإن الضرر يعود عليهم في الآخرة حيث العذاب الأشد الذي يحيط بهذا الصنف من البشر الكاذب المحتال.
وقوله :﴿ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ﴾ يؤكد الله جلت قدرته أن هؤلاء اليهود يعلمون ألاّ خلاق لمن آثروا السحر على دين الله القويم الذي جاءهم وهو
الإسلام والخلاق هو النصيب واللازم في ﴿ لمن اشتراه ﴾ لام الابتداء. من بمعنى الذي في محل رفع مبتدأ. وخبره قوله :﴿ ما له في الآخرة من خلاق ﴾ واشتراه، صلة الموصول١.
وقوله :﴿ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾ يندد الله سبحانه بما باعث به يهود أنفسهم للشيطان حينما رضوا بالسحر بدلا من دعوة الحق التي دعاهم إليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ). فبئس ما صنع هؤلاء من صفقة خاسرة سوف تودي بهم إلى الهلاك والتخسير لو كانوا يعلمون ذلك.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١١٥..
وقوله :﴿ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خبر لو كانوا يعلمون ﴾ لو أن هؤلاء اليهود آمنوا إيمانا صحيحا يتضمن إيمانهم بدعوة الإسلام، وكذلك لو أنهم اتقوا الحرمات ومنها السحر، لكان لهم عند الله بذلك ثواب، وهو خير لهم مما أركسوا أنفسهم فيه وهو السحر. وهذه هي الحقيقة لو كانوا يعلمونها علم اليقين١.
ولا بد هنا من كلمة في موقف الإسلام من السحر. فهل هو حقيقة أم غير ذلك ؟ وما حكم الشرع في الساحر ؟ وهل يباح العلم بالسحر ؟
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن السحر حقيقة، وأنه موجود بدليل قوله سبحانه في السحر والسحرة :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ وغير ذلك من نصوص تتضمن وقوع السحر بالفعل، وخالف المعتزلة وأبو حنيفة في ذلك، وذهبوا إلى أنه لا وجود للسحر أصلا. وهو لا يعدو في طبيعته وحقيقته دائرة الخيال والتوهيم. واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام والسحرة لما ألقوا حبالهم وعصيهم :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ وبذلك فإن السحر ضرب من التخيل الذي يراود تصور الإنسان.
على أن السحر من حيث الحكم الشرعي معدود من الكبائر التي نهى عنها الدين أشد النهي ؛ لما في ذلك من توهيم للناس وحملهم على التصديق بقدرة البشر على اختلاف المعجزات أو ما يشبهها. وفي ذلك من التخليط والإلباس ما يوقع الناس في الحيرة والشك والزعزعة في العقيدة. وعلى ذلك فقد حذرت الشريعة من السحر والسحرة، وتوعدت من يتلبس بهذه الكبيرة بالعذاب الشديد. يبدو ذلك من حديث السبع الموبقات التي حذر منها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي : " الشرك بالله والسحر.. " ويقول عليه الصلاة والسلام : " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد|.
وعلى هذا ذهب إلى تكفير الساحر طائفة من السلف. وقيل : بل لا يكفر، ولكن وحده ضرب عنقه ؛ لما رواه أحمد والترمذي عن جندب الأزدي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " حد الساحر ضربه بالسيف " وروى الشافعي وأحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة٢.
أما استعمال السحر فإنه يوجب العقاب عند بعض العلماء على الخلاف. فقد ذهب الإمامان مالك وأحمد إلى وجوب قتل الساحر الذي يستعمل السحر، وقد ثبت في حقه ذلك. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى عدم قتله، واشترط الشافعي لذلك أن يقتل الساحر بسحره أحدا، فإذا لم يقتل أحدا فلا يجوز قتله. واشترط أبو حنيفة لقتله أن يتكرر منه القتل عن طريق السحر، أو أن يقر بالقتل فعلا٣.
وفي توبة السحر خلاف كذلك. فقد اتفق الأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد على عدم قبول التوبة من الساحر باعتباره كافرا. وذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى قبول توبته إلا إذا ظهر منه ما يوجب الكفر.
أما العلم بالسحر دون استعماله ؛ وذلك لتجنبه واتقائه فإنه جائز، وذلك الذي ذهب إليه بعض أهل العلم ؛ استنادا إلى قوله تعالى :( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ومجرد العلم بالسحر لا يضر، بل ينفع، فإنه يمكّن العالم به من التفريق بينه وبين المعجزة ؛ كيلا يخلط الناس بين الأمرين.
وقد رُد ذلك بأن تعلم السحر حرام، فقد ذهب أكثر العلماء إلى أن مجرد التعلم قبيح عقلا، وهو كذلك حرام من الوجهة الشرعية، بل إن تعلم السحر من أجل استعماله كفر، وقالوا أن الاستدلال بتلك الآية ليس في هذا الموضع ؛ لأن تلك إنما دلت على امتداح العالمين بأمور الشرع، وليس السحر من الشرع في شيء٤.
هذه خلاصة وجيزة في قضية السحر نكتفي بها على ما بيناه دون تفصيل.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٣٤-١٣٨ والكشاف جـ ص ٣٠١، ٣٠٢ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦٥، ٦٦.
٢ - تفسير ابن كثير جـة ١ ص ١٤٤..
٣ - المغني لابن قدامة جـ ٧ ص ٦٤٤ والمجموع شرح المهذب للنووي جـ ١٨ ص ٣٨٥، ٣٩٠ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ١١٣..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٤٤-١٤٧ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤٦ والكشاف جـ ١ ص ٣٠١..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ﴾ خير ما جاء في تأويل هذه الآية ما قاله ابن عباس- رضي الله عنهما- : كان المسلمون يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : راعنا على جهة الطلب والرغبة من المراعاة، أي التفت إلينا وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا : كنا نسبّه سرا فالآن نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم فقال لليهود : عليكم لعنة الله ! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأضربن عنقه، فقالوا : أو لستم تقولونها ؟ فنزلت الآية ونُهوا عنها ؛ لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه١.
وفي تأويل آخر أن اليهود إذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا. قالوا : راعنا. وذلك على سبيل التورية فهم يقصدون من " راعنا " الرعونة وليس المراعاة أو الالتفات إليهم. فوافق ذلك ما كانوا يقولونه بلغتهم مما يعني الرعونة ومنها الأرعن أي الخفيف السفيه المتطيش. وحاشا لله ! فما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا القمة البالغة في سعة الإدراك، وفرط العبقرية والذكاء، وتمام الحكمة والاتزان، وجمال الخلق والطبع، وروعة الشجية والفطرة.
وهذان القولان في تأويل هذه الآية متكاملان متقاربان وقد تضمنتهما بتفصيل أكثر آية النساء ﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكنا خيرا لهم وأقوم ﴾.
وعلى هذا فقد أمر الله المسلمين ألا يقولوا للنبي ﴿ راعنا ﴾ ولكن يقولوا ﴿ انظرنا ﴾ أي أقبل علينا وانظر إلينا ؛ لما في ذلك من جلال الخطاب الذي يتحقق به الاحترام للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدلا من الكلمة المريبة تندلق من أفواه يهود وهي تحتمل الخبيث من المقصود نحو النبي الكريم
( صلى الله عليه وسلم ).
ثم يؤكد الله على السمع، ويحذر من معصية أمره سبحانه، فإن معصيته تسوق إلى العذاب الذي سيمنى به الكافريون ﴿ واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ﴾ أي وأحسنوا سماع ما يكلمكم به نبيكم بآذان واعية وقلوب حاضرة ؛ حتى لا تحتاجوا إلى الإعادة وطلب المراعاة.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٥٧..
وقوله ﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾ الكافرون من المشركين واليهود لا ينظرون للمسلمين دائما إلا بعين الكراهية والحسد، وهم جميعا لا يتمنون للمسلمين إلا التعثر والبلاء. وبذلك فهم لا يودون أن ينزل عليهم من خير. والمقصود به القرآن العظيم ؛ لما ينطوي عليه من أسباب القوة والعزة للمسلمين، ولأن القرآن موئل الكرامة والشرف والنجاة في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة، بل إن القرآن الكريم لهو جِماع الخير كله بكل ما تتناوله هذه الكلمة من معاني التعاون والتآزر والاستعلاء. وكذلك الوحدة الكاملة الشاملة الذي يتلاقى في خضمها المسلمون جميعا من غير تمييز، ثم الجهاد الذي يفرضه القرآن على المسلمين ؛ كيلا ينزل بساحتهم شر أو ذلة. وهذه المعاني وغيرها من أطراف الخير والخلق والقوة قد رسخها القرآن في واقع المسلمين، وأوجبها عليهم إيجابا ؛ ولأجل ذلك ما يود الكافرون من مشركين وأهل كتاب أن يكون هذا الكتاب الحكيم المعجز بين ظهراني المسلمين، بل يرغبون دائما أن يزول من الوجود كل معْلم من معالم هذا الكتاب وإذ ذاك يستريحون ويطمئنون.
قوله :﴿ والله يختص برحمته من يشاء ﴾ الله جلت قدرته يختار لرسالته ودينه من يصطفي من العباد. فقد اختار من بين الأمم لحمل هذا الدين العظيم هذه الأمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، واصطفى من بين العباد هذا النبي الأمي محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون أول مبلغ للرسالة فقام في الناس على خير ما يكون عليه التبليغ والأداء من غير تقصير، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
والله سبحانه هو المتفضل المنّان الذي ملأت آلاؤه أرجاء الوجود جميعا بما في الوجود من ملائكة وجن وإنس وكائنات ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾.
قوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ ما أداة شرط تجزم فعلين. ﴿ ننسخ ﴾ فعل الشرط مجزوم. والنسخ يأتي في اللغة بمعنى الإزالة والإبطال أو إقامة الشيء بدل غيره، أو النقل من مكان إلى آخر١ أما النسخ في الاصطلاح فهو : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. أو هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم٢.
ويبدو هذه التعريفات أنها متقاربة وذلك من حيث إن النسخ يعني الإزالة أو التبديل، فهذه المعاني شديدة التقارب بما ذكره الأصوليون من تعريف للنسخ. أما النسخ من حيث ضروبه وأقسامه على التفصيل، ومن حيث المواضع التي يقع فيها النسخ، ومن حيث النسخ بين القرآن والقرآن، ثم بين القرآن والسنة، وغير ذلك من مسائل تتعلق بالنسخ، فإن موضع ذلك كله في كتب الأصول حث البيان المفصل والشامل لهذه القضية الهامة.
وعلى العموم فإن الآية تعني أنه : ما نرفع حكم آية، سواء كان الرفع واقعا على التلاوة والمعنى كليهما، أو على التلاوة دون المعنى، أو المعنى دون التلاوة، ﴿ أو ننسها ﴾ فإن الله جلت قدرته لسوف يأتي بخير منها أو مثلها. وقوله :﴿ ننسها ﴾ معطوف على ﴿ ننسخ ﴾. وفي قراءتها وجهان وهما : ننسأها بالهمز، وننسها بغير همز. وقراءتها بالهمز تعني : نؤخرها فلا ننسخها، وهو من الإنسان أو التأخير، وفعله أنسأ بمعنى أخر. نقول أنسأ الله أجلك أي أخره ليطيل في عمرك٣.
وأما قراءتها بغير همز من النسيان وفعله نسي. أي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان الله سبحانه ينسيه ما يشاء من آيات لحكمة يعلمها ويقدرها هو جل ثناؤه. وفي تعزيز هذا المعنى يستشهد سعد بن أبي وقاص بقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ وقوله :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ وفي تقديرنا أن هذا هو الصواب ليكون معنى الآية : أن الله لا يقدر لعباده رفعا لآية أو إباحة لتركها بعد نسيان إلا ويأتي بمثلها أو خير منها من الآيات.
وقوله :﴿ نأتي بخير منها أو مثلها ﴾ لا يفهم من هذا أن بعض القرآن خير من بعضه الأخر، فإنه كله خير، وهو كله مقدور من عند الله جاء متضمنا لجوانب الخير جميعا، وهو في روعته وبلاغته وكمال معناه يستوي أوله ووسطه وآخره، فهو في أعلاه عظيم باهر وفي أسفله رفيع مشرق. ومعنى الخير هنا الذي يأتي به الله فهو ما كان أنفع للعباد مما كان لهم به خير. فالله جل ثناؤه يقرر نسخ الآية أو نسيها ليخلفها بما هو أكثر نفعا للناس أو بما يكون مساويا له في النفع في هذه الدنيا وفي تلكم الأجلة الباقية.
قوله :﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾ قوله :﴿ ألم ﴾ في الآيتين سؤال ينطوي على تقرير لحقيقة ما ورد في هاتين الآيتين، لكن العلاقة وثيقة بين الاستفهام التقريري هنا وقضية النسخ السابقة. فقد عجبت يهود من ورود النسخ في القرآن وأخذوا يطعنون في صدق نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق القرآن الكريم. مع أنه لا غرابة في مثل هذه القضية، فإن النسخ قد وقع في كثير من الأحكام في التوراة. وليست المسألة هنا غير التعصب والحقد والهوى والعناء. وكم كان أجدى لو رضخت يهود وغير يهود لكلمة الله وتشريعه للنسخ. فليس في ذلك ما يثير عجبا، فإن الله شارع النسخ لهو المقتدر على كل شيء، وهو الذي يملك السماوات والأرض، بل له ملكوت كل شيء فله إقرار ما يشاء ونسخ ما يشاء، وله الحكمة في ذلك من غير معقب ولا نديد.
قوله :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ الولي من الولاية وهي السلطان. يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ هنالك الولاية للحق الحق ﴾ أي له السلطان والهيمنة دون أحد من خلقه. فإنه ليس للناس سوى الله سلطان أو نصير يركنون إليه أو يستمدون منه العون والمدد. فهو –جل ثناؤه-يهب العزة لمن يشاء ويمنن بالقوة والمنعة يكتبهما لمن أراد من عباده.
١ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٢٨١ ولسان العرب جـ ٣ ص ٦١..
٢ - الموافقات للشاطبي جـ ٣ ص ٣٠٧ والمحصول للرازي جـ ١ ص ٥٢٦ والمستصفى للغزالي جـ ١ ص ٦٩..
٣ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٣١..
قوله :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ الولي من الولاية وهي السلطان. يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ هنالك الولاية للحق الحق ﴾ أي له السلطان والهيمنة دون أحد من خلقه. فإنه ليس للناس سوى الله سلطان أو نصير يركنون إليه أو يستمدون منه العون والمدد. فهو –جل ثناؤه-يهب العزة لمن يشاء ويمنن بالقوة والمنعة يكتبهما لمن أراد من عباده.
قوله :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ أم منقطعة بمعنى بل. والكلام هنا ينطوي على توبيخ وتحذير لأمة هذا النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ). وذلك لما أرادت قريش مضاهأة بني إسرائيل في سؤالهم لنبيهم موسى أن يريهم الله جهرة. فقد ذكر أن قريشا سألوا نبيهم محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا، وسألوه كذلك أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وهم لا يقولون ذلك إلا على سبيل التعنت واللجوج في الكفر. وليس في مثل هذه المساءلات إلا الشرود عن دعوة الحق الواضحة الجلية أو العتو والنفور من عقيدة التوحيد، ومن يفعل ذلك فقد تبدل الكفر بالإيمان وضل سواء السبيل. وسواء السبيل أي الطريق السليم وهو طريق الله الذي دعا إليه النبيون والمرسلون١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٦١- ٧١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٤٩- ١٥٢ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦٧، ٦٨..
قوله تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ﴾ يتمنى كثير من أهل الكتاب. يهودا ونصارى- لو يرتد المسلمون عن دينهم إلى الكفر. وقوله :﴿ حسدا ﴾ مفعول لأجله. أي أن تمنيهم بردة المسلمين إلى الكفر أساسه الحسد الذي تختزنه نفوس هؤلاء الضالين المبغضين والذين لا يتمنون للإسلام والمسلمين غير التدمير والخسران. فهم يحسدون المسلمين على ما جاءهم من الحق. وهو الحق في العقيدة الواضحة المستنيرة المستقيمة، الحق في التشريع العظيم الذي يتناول قضايا البشرية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقضائية والتربوية، وهو الحق الذي يصنع الإنسان الصالح المميز، بكل ما في الكلمة من معنى. إنه المميز في طبعه السليم، وفي خلقه السوي المفضال، وفي سيرته وسلوكه المبرأ من آفات المشركين والمضلين والمفسدين.
إن هذا الإنسان الصالح، في طبعه ونفسه وسلوكه، والصالح في فكره وما حواه العقل من مذخور المعرفة والتصور، لهو الذي يثير في نفوس الكفرة المتعصبين اللُّد خصلة الحسد فيتمنون بذلك عودة المسلمين إلى دين غير دينهم، إلى دين أو ملة أخرى تحرفهم عن سلامة العقيدة والفكر، وعن سلامة الوعي والتصور الذي يبعثه الإسلام في الإنسان. يتمنون أن تتجه قلوب المسلمين وعقولهم إلى أية عقيدة أو ديانة أخرى غير الإسلام ؛ ليتسنى بعد ذلك قودهم إلى مباءات الضعف والخور والانحلال والتبعية فينماعوا في الأرض شاردين ضالين حيارى. أو ليتقلبوا ضعافا تابعين تتشبث أهواؤهم بأهل الكتاب وهم يركضون وراءهم ركض اللاهث الذليل المستضعف.
والحسد نوعان : أحدهما مذموم، والآخر محمود. أم المذموم : فهو أن يتمنى المرء أن تكون له النعمة كالتي عند غيره مع رغبته في زوالها من عند هذا الآخر، والتمني في ذاته لا بأس فيه لو لم يكن مقترنا برغبة الزوال للخير والنعمة من عند الآخرين. وهو إحساس يبسط للعيان حقيقة طبع فاسد وبغيض يتمنى معه الحسود لو تنمحق النعمة أو الخير من عند أصحابه.
وأما الحسد المحمود : فهو أن يتمنى المرء ما لدى غيره من الخير والنعمة مع رغبته في دوامها عنده. فهو يجب أن تكون له النعمة كالتي عند غيره، وما في ذلك من بأس، وذلك إحساس فطري معقول لا يصطدم بطبيعة هذا الدين الذي يلائم الفطرة البشرية أعظم تلاؤم، لكنه لا تخالطه أدران الأنانية والأثرة ليتمنى زوال هذه النعم من عند غيره. ويمكن أن يطلق على هذا التمني المشروع " الغبطة " وهي تمني ما عند الآخرين مع الرغبة في بقائها عندهم١. وللاستدلال على وجود هذا الضرب من الحسد المشروع يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " ٢.
قوله :﴿ من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ أي أنهم كانوا يحسدون المسلمين ويتمنون لهم الضلال والارتداد عن دينهم ولم يكن تمنيهم هذا صادرا عن كتاب لهم ولا أمروا به، بل كان من تلقاء أنفسهم وطبائعهم الحاقدة الحاسدة، هذه الطبائع الملتوية الشاذة التي لا تحب الخير للإسلام أو المسلمين. فهم في حسدهم هذا لا يستندون إلى مبرر أو دليل إلا الكراهية البحتة والحسد الحاقد الممحض. مع أن هؤلاء أعراف الناس بحقيقة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وذلك لمعرفتهم المسبقة بأنه المبعوث من عند الله ليكون للناس رسولا وهاديا ونذيرا. وهي حقيقة ما كانت تغيب عن أذهانهم لولا الطبع الفاسد وما كان يركم في نفوسهم من حسد. فقد كانوا يتلون في كتبهم السماوية أن هذا النبي مرسل من عند الله، فلا هو بالمنتحل ولا هو بالمفتري.
قوله :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ يأمر الله عباده المؤمنين أن يظلوا صابرين على الحق مستمسكين بدين الله، فلا تزعزعهم مكائد الكافرين وأذاهم. ويأمر الله كذلك أن يتجاوزوا عن مساءلة الظالمين الكافرين بالعفو والصفح، فلا يؤاخذوهم ولا يحاسبوهم على ما اقترفوه من إضرار وتأذية إلى أن يكتب الله لهم النصر. وقد ذهبت جمهرة كبيرة من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة، نسختها آيات القتال. وذلك كقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾.
وقوله تعالى أيضا :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ويؤيد قولهم بالنسخ هنا قوله تعالى بعد ذلك :﴿ حتى يأتي الله ﴾.
وقيل : إن الآية محكمة ولم يقع عليها نسخ. والمراد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين مدعوون جميعا للصبر على البلاء مما يلحق بهم من ضروب الضرر والتعدي. وذلك هو شأن المسلم ؛ إذ يجلله الخلق الكريم فيبادر بالعفو والصفح عن مساءات الظالمين الذين ما فتئوا يثيرون في وجوه المسلمين الشر والعدوان والأذى.
قوله :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ وهذه الحقيقة متسقة تماما مع الوعد السابق في قوله تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فهو جلت قدرته قد كتب النصر لعباده الصابرين العاملين، وكتب أن الغلبة له سبحانه ورسله ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ وذلك كله على الله هين ويسير ؛ لأنه سبحانه على كل شيء قدير.
١ - مختار الصحاح ص ٤٦٨..
٢ - رواه ابن ماجه عن سالم عن أبيه جـ ٢ ص ١٤٠٨..
قوله :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ هذان ركنان عظيمان من أركان هذا الدين تنبه إليهما الآية الكريم وهما : أن تقام الصلاة خير قيام من تمام التنفيذ وكمال الأداء حتى تكتمل فيها الصورة وافية من التكبير والقراءة والقيام والركوع والسجود والقعود، وحتى يتحقق فيها الوعي والمضمون من خشوع وطمأنينة وإحساس تام بالخضوع والانقياد والتذلل لله وحده.
وكذلك أن تؤدى الزكاة، يدفعها من يملك المال والنصاب إلى الذين يستحقونها من متكففين وعالة وذوي عوز وغير ذلك من وجوه مبينة مشروعة تؤدى فيها الزكاة، وهاتان الفريضتان تتقدمان فرائض الإسلام، وتحتلان مكان الصدارة من حيث الأهمية، وهما يأتيان في طليعة الأعمال الكريمة التي سيجدها العامل أمامه بعد الموت. وسوف لا يجد إذ ذاك غير ما قدمه من خير الأعمال والأقوال والنوايا، وما عدا ذلك من شؤون الدنيا ليس إلا متاعا تتلذذ به النفس حال الحياة حتى إذا جاء الأجل المحتوم، باتت هذه المخلفات والرواسب التي يستمتع به الوارثون.
وجاء في الحديث أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أيكم مال وارثة أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثة. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ليس منكم من أحد إلا مال وارثة أحب إليه من ماله، مالك ما قدمت ومال وارتك ما أخرت ".
وجاء في حديث آخر : " إن العبد إذا مات قال الناس : ما خلّف، وقالت الملائكة : ما قدم " وهكذا يجد المرء ما قدمت يداه في دنياه من صالح القول والعمل، يجد ذلك كله محتسبا له عند ربه من غير نسيان. والله سبحانه عالم بما صدر عن كل إنسان، فلا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن ملكوته من مثقال ذرة ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ ١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٦٩، ٧٠ والكشاف جـ ١ ص ٣٠٤ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦٧، ٦٨..
قوله تعالى :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قالوا هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
يبين الله اغترار كل من الفريقين من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ؛ إذ زعم كل فريق أنه على الحق، وأنه الذي كتبت له الجنة دون غيره من الأمم. فزعمت يهود أن لن يلج الجنة إلا من كان على ملتهم وطريقهم. وفي المقابل زعمت النصارى أنهم وحدهم أهل الجنة، وأن غيرهم من خلائق محذوفون في النار. وهذه المزاعم التي يطلقها كل من الفريقين ليست إلا تمنيات حالمة واهمة تفيض بالحماقة والعمه والغرور الذي لا يستند إلى حقيقة أو برهان إلا الافتراء والسفاهة ؛ ولذلك قال لهم الله في قرآنه متحديا :﴿ هاتوا برهانكم ﴾ فإنهم لا يملكون برهانا من حجة أو دليل على صدق ما يطلقون من مقولات زائفة كاذبة. فلا التوراة الأساسية الصحيحة تحمل مثل هذا التصور الخاطئ المغرور، ولا الإنجيل المبرأ من التحريف يشهد لهذا القول الظالم المختلق.
وقوله :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ قوله :﴿ بلى ﴾ إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. فهو تكذيب لقولهم فليس هذا القول إلا التخريص المفترى تطلقه يهود والنصارى بأن كلا منهما مستأثر بالجنة دون غيره. فالله سبحانه في هذه الآية يدحض ما أطلقه الفريقان. ويكذبهما تكذيبا ؛ ليبين بعد ذلك أن الوارثين للجنة والداخلين فيها هم المخلصون العاملون من العباد بغض النظر عن الجنس أو اللون أو المسميات، فالذي يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فهو على الحق والخير، سواء كان من بني إسرائيل أو من أتباع المسيح أو من قوم هذا النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
قوله :﴿ من أسلم وجهه لله ﴾ أي من استسلم لله وخضع. وقيل : من أخلص نفسه لله.
وقد ذكر الوجه هنا لشرفه، فإن الوجه يحتوي على صورة الإنسان المميزة. الصورة الحسنة المنسجمة التي تكشف عن إبداع إلهي كريم خُص به هذا الكائن المفضل وهو الإنسان الذي كرمه الله واختاره من بين الخلائق ليكون عظيمها وسيدها.
وفي الوجه كذلك ظواهر شتى من الخصائص الإنسانية التي كتبها الله لابن آدم، منها السمع والبصر والشم والذوق والنطق. وهي أسباب تتلاقي جميعا في هذا الجزء الأهم من الإنسان وهو الوجه.
ومن خلال الوجه تتراءى للناظر البصير ملامح معبرة مستبينة تكشف عما يجيش في صدر المرء من مكنون، وعما يعتور في أطوائه المستورة من مقاصد. ولا جرم أن تستبين مثل هذه المقاصد حتى توشك القسمات والملامح في الوجه أن تتحدث عنها فتكشفها كشفا.
وقوله :( وهو محسن ) الواو للحال، والجملة الإسمية بعدها في محل نصب على الحال. وفي هذه الآية :( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ) تجتمع حقيقتان متكاملتان لا مناص من اجتماعهما معا وهما الإيمان والعمل. فإسلام الوجه إلى الله جزء من عقيدة الإسلام التي تفرض أن يكون الانقياد والخضوع لله وحده دون سواه. فإذا كانت هذه الحقيقة مركوزة في النفس بات الإنسان في تصوره وإحساسه مشدودا إلى الله بحبل متين وليس مشدودا أدنى شد لأي اعتبار من الاعتبارات أو جهة من الجهات. وهذا هو الأصل الأكبر الذي ينبني عليه هذا الدين. وهو دين شامل ومتسع وكبير يقوم أول ما يقوم على العقيدة المتينة الصلبة التي تضرب بجذورها في أعماق الكينونة البشرية.
أما الحقيقة المكلمة الثانية فهي العمل، وذلك في وقوله :﴿ وهو محسن ﴾ وذلك تعبير يتسم بالشمول والمرونة. فإنه يندرج في مفهوم الإحسان كل وجوه الخير والعمل النافع المثمر. فتلكما حقيقتان وهما الإيمان والعمل المشروع يفضيان إلى استحقاق المرء من الله أجرا كريما. وله بعد ذلك ألا يخاف وألا يحزن ﴿ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ وخير ما جاء في تفسير ذلك أن المؤمن لدى مفارقته الدنيا لسوف يكون آمنا مطمئنا ؛ فهو لا يحيق به خوف مما يواجهه بعد الموت من أهوال وشدائد، وهو كذلك لا يمسه الحزن أسفا على الحياة عند الفراق. وذلك لعمر الحق عطاء جزيل يمتنّ الله به على العبد المؤمن، وهو عطاء لا يتصوره الإنسان إلا عند معاينته الموت، فيدرك عظمة الخير المقدر في أحلك الساعات وأشدها عسرا. وهو كذلك يتصوره المؤمن وهو يتدبر آيات الله تتحدث عن عرصات يوم القيامة وأهوالها، وما يستقبله بعد الموت من بلايا وثبور وعظائم الأمور.
وقوله :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ﴾ جاء في سبب هذه الآية فيما ذكر عن ابن عباس قوله : " لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) : فقال رافع بن حرملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك الآية. أما قوله :( وهم يتلون الكتاب ) أي أن كلا من الفريقين يتلو في كتابه المنزل إليهم خبر الفريق الآخر وصدق ما أنزل إليهم من كتاب. فاليهود يقرأون في التوراة صدق نبوة عيسى وصدق الكتاب الذي أنزل عليه وهو الإنجيل. وكذلك النصارى يقرأون في الإنجيل صدق نبوة موسى وصدق التوراة التي جاءته من السماء. ولكنهم مع ذلك كله يكذب بعضهم بعضا، ولا يدفعهم لهذا التكذيب والجحد إلا الحسد والكراهية والعناد. لو أن النفوس كانت سليمة من المرض ولم يخالطها اللي والشذوذ لاستطابت كلمة الحق تنطق بها في إخلاص واستقامة وتجرد.
وقوله :( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) والمراد بالذين لا يعلمون يحتمل أربع جهات : أولها النصارى واليهود، وثانيهما الأمم التي سبقت هاتين، وثالثها العرب، ورابعها جميع هؤلاء الذين تنكبوا عن صراط الله المستقيم، والذين ناصبوا نبي الإسلام الحرب والعداء، وذلك هو القول الراجح والله أعلم.
على أن الكافرين من المشركين وأهل الكتاب سيظلون على الدوام في تنازع وشقاق وهم تغشاهم بواعث الكراهية والأنانية والمشاحنة إلى أن تقوم الساعة وإذ ذاك يقضي الله بينهم بالعدل وهو سبحانه يتولى الصالحين وهو أعدل العادلين١.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٢ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٥٥..
قوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ سؤال فيه نكير على أولئك الذين يمنعون مساجد الله أن تتأدى فيها العبادة من صلاة وموعظة وغيرها. أما المراد بالمانعين لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فقد قيل : إنها قريش ؛ إذ منعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين عام الحديبية من الصلاة في البيت الحرام، مع أنهم ما كانوا ليمنعوا أحدا من دخول مكة والصلاة في البيت. وقد قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسلم حينئذ : " ما كان أحد يُصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده " فقال له المشركون : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق١.
ولعل هذا المراد الذي ذكره أكثر العلماء أقرب ما يكون إلى الصواب. غير أن مفهوم هذه الآية يمكن انسحابه على كل حداثة تتضمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. فإن صدّ المسلمين عن الصلاة في بيوت الله، والحيلولة بين أهل العلم وكلمة الحق يقولونها على الملأ، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك كله من ضروب المنع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها.
وخراب المساجد تناول كل أوجه الهدم والتدمير أو الإفساد والتلويث أو صد المسلمين ؛ كيلا يقيموا في المسجد شعيرة الصلاة وغيرها من الذكر والقول الحسن. ويتناول كذلك صد المرشدين وأهل العلم من الذين يدعون إلى الله على بصيرة، والذين يبعثون في المسلمين روح الهمة والاستعلاء، ويستنهضون فيهم العزائم والإرادات ؛ لينطلقوا من عقال الضعف والاسترخاء ؛ وليتحرروا من إسار المهانة والتخلف والجهل. إن منع هؤلاء المرشدين العالمين الداعين إلى الله على بصيرة لهو صورة مقبوحة مشهودة من صور الخراب لمساجد الله، وذلك بفعل الأفاكين والدجاجلة من ساسة وحاكمين وغيرهم، أولئك الذين يجهدون أنفسهم في الليل والنهار وهم يتآمرون على الإسلام ؛ ليصدوه عن البشرية ؛ وليحجبوا عن أهل الأرض الاستماع الواعي لكلمة الإسلام في كل القضايا والمشكلات.
قوله :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ ( أولئك )، مبتدأ. وما بعده في محل رفع خبره. والمصدر من ﴿ أن يدخلوها ﴾ في محل رفع اسم كان. ﴿ لهم ﴾ خبر كان ﴿ خائفين ﴾ في محل نصب حال٢. والجملة خبر معناه الطلب، فهي تنطوي على مبدأ وخبره ويفرق بينهما النفي. غير أن الآية تحمل في مضمونها الطلب للمسلمين ألا يمكنوا المشركين من دخول بيوت الله إلا تحت الهدنة والجزاء وهم متهيبون وجلون.
وفي قول آخر أن الآية تتضمن بشارة للمسلمين الأولين بأن الله جلت قدرته سوف يذل المشركين فلا يدخل أحد منهم البيت الحرام إلا على تخوف أن يؤخذ فيقتل، وقد كان ذلك بالفعل. فإنه لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أمر في السنة التاسعة للهجرة أن ينادي مناد " ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " ٣.
وقوله :﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ قد أعد الله لأولئك المشركين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والذين يسعون كذلك في خرابها ألوانا منا لخزي والذلة ترهق وجوههم ليبوءوا بسخط من الله وغضب. حتى إذا دخلوا الدار الآخرة واجههم هنالك العذاب الشديد البئيس الذي لا تطيقه طبائعهم ولا جسومهم ؛ لفرط ما يسومون من هول التعذيب الأليم الموجع.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٥٦..
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١١٩..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٥٦..
قوله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ﴾ جاء في سبب هذه الآية عدة أقوال لعل أصوبها أنه بعد أن تحولت قبلة المسلمين عن بيت المقدس إلى البيت العتيق في مكة بأمر من الله أنكر اليهود ذلك واغتاظوا، ولم يرضوا بما شرعه الله لعباده من قبلة عظيمة مستديمة يتوجون إليها وتكون لهم على الدوام مثابة. وذلك من تقدير الله وشأنه، فهو يتعبّد الناس بما شرعه لهم من قبلة وما سواها من أحكام وشعائر من غير أن يكون له في ذلك راد أو معقب.
لقد تغيظ اليهود من ذلك أشد تغيظ، وساءهم أن يتولى المسلمون عن قبلتهم الأولى التي كانوا عليها، فزادوا من عداوتهم ونكارتهم للنبي وصحبه، وجعلوا يفترون على النبي ودينه والمسلمين الأكاذيب. ويثيرون من حولهم الأراجيف، يحفزهم إلى ذلك ضغينة وتعصب. وهو تعصب ذميم مسف، يعتمد الصورة والشكل دون الحقيقة أو الجوهر والمضمون. ولا جرم فهو تعصب لا يستند إلى شيء من تفكير سليم أو عقيدة واعية مستبينة سليمة، ولكنه التعصب الفارغ المتبلّد الذي يعتمد الحماقة والسفه، ويستند إلى المزاج والهوى.
والآية تبين للناس جميعا أنه يستوي عند الله أن تكون القبلة صوب جهة أو غيرها، فالجهات كلها من صنع الله وتقديره، وهو سبحانه يملك الأرض والسماء والحياة والثقلين، ويملك السماوات والأرض وما بينهما من أشياء وكوائن وما فوق التراب من أحياء نشطة تنوس أو جوامد ثوابت لا تريم، وهو سبحانه يملك الجهات جميعا بما في الجهات من مشرق ومغرب فذلكم كله لله، وهو محصور وبارز في قبضته وبين يديه. فلا داعي بعد ذلك أن تخاصم يهود في القبلة مادام ذلك كله مقررا بإذن الله وإرادته. فلا ينبغي أن نعبأ بالجهة في مفهومها الحسي، ولكن العبرة في أمر الله وفي تقديره، فهو سبحانه قد تعبّد المؤمنين باتباع القبلة التي ارتضاها وكتبها لهم سواء في ذلك مكة حيث البيت الحرام أو بيت المقدس حيث المسجد الأقصى.
وقوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ أينما أداة شرط تجزم فعلين وما زائدة. ﴿ تولوا ﴾ فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط. فأينما يتوجه الناس يجدوا أن الله أمامهم. فهو سبحانه لا تحيط به الجهات، ولا تحده الأمكنة والحدود، ويستوي عنده في المكان أو الزمان مشرق ومغرب أو قريب وبعيد، فذلك كله في حكم الله وميزانه سواء.
فلا عبرة بعد ذلك للتشبث بالمكان الحسي المحدود الذي تشنجت عليه يهود فإن المكان والزمان لله. وكيفما كان المكان أو الزمان فإنهما محوطان بقدرة الله وعلمه وهيمنته. ومن الناحية الشرعية فقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم قولوا وجوهكم شطره ﴾ وقيل : بل الناسخ هو قوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ وذلك يعني أن يتوجه المصلون في صلاتهم نحو الكعبة قبلتهم الأبدية، وفي ذلك إبطال للتخيير السابق الذي يتوجهون بموجبه كما شاؤوا مشرقا أو مغربا.
ولست مطمئنا للقول بالنسخ هنا، بل إنني أرجح أن تكون الآية محكمة. فإنه ليس بالضرورة أن يكون مدلول الآية الخيار في الصلاة بين التوجه نحو المشرق أو المغرب. بل المقصود في الغالب أن تتوجه قلوب العباد ومشاعرهم إلى الله. وأن تظل المقاصد والنوايا مشدودة نحو الخالق سبحانه، ليستقيم العمل ويصفو من درن الشرك والرياء.
وذلك يرتبط أشد ارتباط بقضية العقيدة التي تقوم أول ما تقوم على التوحيد الخالص المبرأ من شوائب الشرك وغبش التصور.
وقوله :﴿ إن الله واسع عليم ﴾ الله جلت قدرته يسع الناس والخلائق جميعا بعونه وإحسانه وتفضله وغفرانه، فهو الكريم المنان الذي تتهاطل آلاؤه وخيراته على الأرض لتشمل الخليقة كلها، فما من كائن إلا وهو عائش في حومة الفضل من الله سبحانه. وهو سبحانه عليم بخلقه، عليم بما تجترحه الكائنات من قول أو عمل وما تكنه الصدور من مكنونات وأسرار، كل ذلك في علم الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٧٩- ٨٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٥٧، ١٥٨ وأسباب النزول للنيسابوري ص ٢٤..
قوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ يقصد بواو الجماعة في قوله :﴿ وقالوا ﴾ النصارى ؛ إذ ذهبوا إلى أن عيسى ابن الله. وقيل : بل المقصود اليهود ؛ إذ قالوا : " عزيز ابن الله " وقيل كذلك إنهم العرب الذين جعلوا بين الله والجنة نسبا، فقالوا : إن الملائكة بنات الله. ويصلح أن تتناول الآية كل أولئك المشركين ومن هم على شاكلتهم ممن يجعلون لله سبحانه ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وسبحانه مفعول مطلق يعنى التقديس والتنزيه لله عن نقيصه البنوة والوالدية، فإن الله جلت قدرته متنزه عن الضعف بكل صوره ومظاهره وأشكاله. ومن جملة ذلك اتخاذ الصاحبة- وهي الزوجة- أو اتخاذ الولد ؛ فإن ذلك عنوان الضعف الذي لا يليق بجلال الله وعظمته التي تعلو على كل مظهر من مظاهر النقص أو الضعف.
ومن المعلوم يقينا أن يستشعر الإنسان بعواطفه الضاربة في أعماقه وعروقه حاجته للآخرين، ونخص بالذات حاجته للزوج يشاركه الحياة والعيش ويشاطره الحبور والمضاضة، ويرد عنه مرارة الإيحاش الذي لا يطاق. وكذلك حاجته للولد يستأنس بكلماته العابثة المستعذبة وهو طفل صغير، ويشتد به أزره وهو شاب قوي كبير، ثم يحس أن فيه امتدادا لحياته بعد الممات.
وهذا الإحساس كله لا جرم أن يزجي بالدليل على ظاهرة الضعف التي تخالط طبيعة الإنسان على وجه الأرض. وحاشا لله سبحانه أن ينسب إليه مثل هذا الإحساس، أو أن يُفتات١ على جلالة وسلطانه بمثل هذا الافتيات الفاسد المقبوح. وهو افتيات لا جرم يثير غضب الرب ويبعث على سخطه واشتداد مقته والعياذ بالله.
قال سبحانه في مثل هذا الموقف :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السماوات يتقاطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا أن دعوا للرحمان ولدا ﴾.
ويقول النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) : " قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشمتني ولم يكن له ذلك، فأما : تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " ٢.
إن الله جلت قدرته غني عن الصاحبة، وغني عن الولد، وغني عن الخلائق كافة. وهو سبحانه يملك الخلائق كافة، بل يملك الحياة والوجود جميعا، وكل ما في الوجود إنما يدور بأمره وتقديره، وهو صائر إلى مآله المقدور ﴿ بل له ما في السماوات والأرض ﴾ كل ما في الكون مملوك لله. كل ما في الأرض وما في السماوات من خلائق وكائنات أحياء وغير أحياء لهو مملوك لله وحده دون شريك من صاحبة أو ولد أو والد. فهو تباركت أسماؤه المتفرد في ملكوت هذا الوجود، فهو المالك لكل مالك، والأكبر من كل كبير. سبحانه.
وقوله :﴿ كل له قانتون ﴾ قانتون مفردها قانت. وهو من القنوت بمعنى الطاعة والإحساس الكامل بالعبودية والخضوع لله٣. ذلك أن كل ما في السماوات والأرض مطيع لله مقر له بالوحدانية.
وقد يتساءل متسائل من غير المؤمن كيف يُحتسبون في عداد القانتين ؟
التأويل المناسب لهذا المسألة أن غير المؤمنين من البشر والجن يحتسبون مطيعين بالنظر لطبيعتهم التي خُلقوا عليها. وهي طبيعة التكوين التي يمضي على أساسها الكائن في حياته، ولا يستطيع أن يتحول عنها البتة. فهي طبيعة أصيلة مفطورة كانت من صنع الله ومن تقديره الذي لا يتخلف.
وعلى ذلك فإن الكائن وهو يتحرك في دائرة من الطبع والغريزة والميول الفطرية إنما يتحرك ضمن الكيفية الأصيلة التي جبل عليها هذا الكائن، وهي كيفية ليست من اصنطاع أحد وإنما هي من صنع الله. وبذلك نقول : إن الكائن قانت لله دائما، يستوي في ذلك أن يكون مؤمنا أو غير مؤمن. فالجميع يتحركون ويتصرفون بناء على فطرتهم وكيفية تخليقهم، هذا التخليق الذي صنعه الله وقدره في الكائنات تقديرا.
أما الخلائق الكثيرة الأخرى من غير ذات العقل فلا ريب أنها جميعا قانتة لله على نحو وكيفية لا يعرفها أحد من الناس إلا من أذِن له الله فأوقفه على حقيقة ذلك. يقول سبحانه في ذلك :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾.
١ - يفتات، من الافتياب وهو الابتداع والاستبداد بالرأي. نقول: فلان لا يفتات عليه أي لا يفعل شيء دون أمره. المصباح المنير جـ ١ ص ٣٨..
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٦٠..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٥٢..
قوله :﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ وهذا المعنى الكريم وثيق الصلة بما سبقه من معنى. والمقصود من ذلك : نفي ما نسب إلى الله من اتخاذ الولد، فإنه سبحانه غني عن أن يكون له ولد، فهو مالك الأرض والسماوات التي يقنت لجلالة كل ما فيهن من خلائق، وهو كذلك بديع السماوات والأرض، أي مبدعهما ومنشؤهما على غير مثال سبق. وبديع على وزن فعيل وهو على صيغة مبالغة من الإبداع ومنه المبدع وهو اسم الفاعل. فالله عز وعلا سابق الحياة والأحياء والوجود جميعا، فإنه ليس قبله شيء ؛ فهو وحده الذي أبدع السماوات والأرض وأنشأهما إنشاء من غير أن يكون لهن قبل ذلك سابق إنشاء أو وجود.
ومن البديع يرد مفهوم البدعة وهي نوعان : بدعة حسنة مشروعة وأخرى سيئة ممنوعة. أما البدعة الحسنة المشروعة فهي ما كانت موافقة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة، فهي بذلك ليست مخالفة لأمر من أمور الشرع أدنى مخالفة، لا صريحة ولا ضمنية تؤول إلى المحظور في النهاية.
ومثال ذلك ما رآه عمر بن الخطاب في البدعة الحسنة، إذ جمع الناس على صلاة التراويح في جماعة بعد أن كان الناس يصلونها فرادى زمن النبوة الكريمة وفي زمن الصديق الخليفة الراشد الأول- رضي الله عنه- وقال عمر في ذلك : " نعمت البدعة هذه ".
أما البدعة السيئة الممنوعة فهي ما كانت مخالفة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة، ويتضمن ذلك كل قول أو عمل لا يقوم على أساس من الشرع معتمد أو جاء على غير مثال سابق من أعمال الصحابة أو أقوالهم فهو بذلك ممنوع شرعا يجب النهي عنه ودفعه.
والبدع السيئة في هذا الزمان كثيرة يصعب التحدث عنها في هذا المجال الذي نعرض فيه لهذه المسألة مرورا سريعا. ومثال البدع السيئة زيارة القبور في أيام العيد من قبل الرجال، فقد اعتاد كثير من المسلمين من خلال أعراف ضالة زيارة القبور في مناسبات معلومة كالعيدين وهما الفطر والأضحى. فهم يذهبون إلى القبور حيث يزور بعضهم بعضا ؛ ليتبادلوا هناك المعايدات أو يعاودون عبارات التعازي من جديد ثم يحتسون القهوة وبعدها ينصرفون.
وكذلك الأساليب التي يمارسها بعض المتصوفين وأصحاب الطرق وأخص منها بالذات " الدروشة " وهي حركة يمارسها المتصوف الدرويش في حالة من الهوس المخبول الذي يجد الدرويش فيها نفسه غير ذي وعي أو ضبط. ومعلوم أن الإسلام ينشر في المرء كل أسباب الوعي والإدراك والضبط، ليكون على بصيرة من أمره، فيعبد الله على علم، وليؤدي رسالته في الناس فاهما حاذقا بصيرا. أما الأساليب البلهاء التي يمارسها الدراويش في حركات مخبولة غير واعية، والتي يفتقد فيها الإنسان كل توازن فهي ليست من الدين في شيء. وكذلك الأذكار المضافة التي يرددها المؤذن بعد عبارات الأذان المشروع، فإنها زيادة عما هو مشروع مما بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة، إلى غير ذلك من ألوان البدع الكثيرة. والله سبحانه أعلم.
وقوله :﴿ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ قضى بمعنى حكم وقدر أو أراد، إذا أراد الله إمضاء أمر من الأمور أو إنقاذ شيء قرره من قبل، فإنه يحقق ذلك فعلا بقوله :﴿ كن ﴾ وهي فعل تام. بمعنى أحدث. فقوله :﴿ كن فيكون ﴾ أي أحد فيحدث. والمراد هو حصول ما تعلقت به إرادة الله بلا مهلة، وذلك بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وقيل : الكلمة ﴿ كن ﴾ تجري على الأمور كلها. فلزم بذلك أن تأتي الكلمة على الجمع ؛ لأنه إذا قال لكل أمر كن ولكل شيء كن فهن كلمات على الجمع، لا المفرد. وهو المراد بقوله عليه السلام : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " وبهذه الكلمة أوجد الله عز وجل عيسى عليه السلام من غير أب. قال سبحانه :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾.
وبهذه الكلمة كذلك أوجد الله من خلق منذ القديم، ويوجد أيضا من يخلق حتى يرث الأرض والسماوات ومن فيهن. وهي كلمة الله التامة التي يحقق بها ما يريد من إبداع الخلق أو فعل أو أمر. وهو سبحانه بعد ذلك له ملكوت كل شيء، ولا تملك الأشياء والكائنات حيال قوله :﴿ كن ﴾ إلا الإذعان المستسلم الكامل، والتنجيز المحقق الفوري استجابة للأمر الأكبر من رب العالمين١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٨٦- ٨٩ والكشاف جـ ١ ص ٣٠٧ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٧١..
قوله تعالى :﴿ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾.
المقصود بالذين لا يعلمون هم مشركو العرب. وذلك الذي نميل إليه ونرجحه مع أنه قيل إن المقصود بهم اليهود، وقيل النصارى، لكن سياق الكلام يبين رجحان الأول، فقد قال المشركون العرب على نحو من الإحراج والتحدي للنبي :﴿ لولا يكلمنا الله ﴾ ولولا هنا أداة تحضيض بمعنى هلا. أي يكلمنا الله تكليما فنسمع ذلك سماعا نطمئن به، وهلا أتيتنا يا محمد بآية – أي علامة- دالة على صدق دعوتك ورسالتك ؟ هكذا يطلب السفهاء المعاندون الجهلة ! وهو مطلب لا ينم على رغبة في التثبت والتصديق وسلامة المقصد، ولكنه مطلب يدل على رغبة مولغة في اللجوج والتحدي، وهو يدل كذلك على طبائع جبلت على العناد والاستكبار والصلف من غير إذعان لحجة واعية أو منطق سليم.
ومثل هذه المقالة كانت الأمم السابقة تتحذلق بها على سبيل الخصام الفاجر والعناد العاتي المكابر. فقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم مثل ما قالته العرب للرسول ( صلى الله عليه وسلم )، والقرآن يحدثنا عن مقالة بني إسرائيل لنبيهم موسى وهم في ذلك يضربون في المغالاة والجنوح رقما قياسيا ؛ إذ طلبوا أن يروا الله جهرة ﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ وفي آية أخرى :﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾.
هكذا تتطابق مقالة العرب المشركين، وما قاله أهل الكتاب من قبل ؛ ولذلك يقول سبحانه هنا :﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم ﴾ أي أن قلوب هؤلاء وأولئك قد تشابهت جميعا في العمى أو في ترك الإيمان الصحيح وفي الاتفاق على الكفر. وقوله :( كذلك ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف. أي قولا مثل ذلك. وقيل : في محل رفع مبتدأ. وما بعد ذلك خبره. وقوله :﴿ مثل قولهم ﴾ مثل مفعول به منصوب لقال. وقيل : صفة لمصدر محذوف١.
وقوله :﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ الآيات هي الدلائل والبراهين الواضحة الساطعة التي بينها الله للناس ؛ تبيينا تتحقق منها عقول المنصفين الذين يبتغون المعرفة دون عناد أو مكابرة ؛ وكذلك لتستيقنها نفوس الذين تبرأت طبائعهم من المرض والفساد.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٠..
وقوله :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ﴾ يبين الله تباركت أسماؤه أنه أرسل نبيه محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بالحق وهو الدين القيم الكامل فهو حق فيما حواه من رائع العقيدة الثابتة العميقة المكينة، ومن زاجر التشريع العظيم الذي يغطي الحياة البشرية برمتها، ومن جليل القيم وجلال المثاليات وحميد الأخلاق وكل الخصال الإنسانية الرفيعة التي غابت شمسها عن وجه المجتمعات في هذه الأرض باستثناء هذه الأمة الكريمة العتيدة التي تجلت فيها المثاليات ومكارم الأخلاق على أروع صورة.
وكذلك قد أرسل الله نبيه الكريم ليكون للناس بشيرا يحمل إليهم أخبار السعادة والأمن والطمأنينة وأخبار الجنة وما حوته من خيرات ليس لها في هذه الدنيا نظير.
وهو عليه السلام مبعوث أيضا ؛ ليكون للناس نذيرا يخوفهم من سخط الله وعذابه، ويحذرهم من انتقامه الذي لا يرد عن الفاسقين إذا حاق بساحتهم، وهو كذلك يخوفهم من شديد عقابه الأكبر في اليوم العسير المشهود يوم القيامة.
قوله :﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ الواو السابقة للنفي تفيد العطف. أي أن مهمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تتأدى على وجهها الصحيح الأوفى إذا بلغ رسالته للناس وقام بوجيبة التبشير لهم والتنذير دون تقاعس أو تحفظ أو وجل. وبذلك تبرأ الذمة ويستتم الأداء للأمانة ولا عليه بعد ذلك إذا ما لجت الأمة أو تمردت على دعوة الحق، فهو عليه السلام ليس مسؤولا عنهم إذا ما كبكبوا في الجحيم. وفي مثل هذا الموقف يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ فإنما عليك وعلينا الحساب ﴾ ويقول عز من قائل :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ ١.
١ - الكشاف جـ ١ ص ٣٠٨ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٧١..
قوله تعالى :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾.
ذلك إعلان من الله مسبق للنبي والمسلمين يفيد أن اليهود والنصارى سوف لا يرضون عن هذه الملة الإسلام ولا أهلها. وسوف لا تُجدي معهم كل أسباب الحوار والإقناع والمنطق، ولا تؤثر في طبائعهم ونفوسهم الكزة كل البراهين والحجج. وليس هناك إلا سبيل واحدة يرضون عنها وهي أن يتبع النبي والمسلمون من بعده ملة الشرك التي عليها اليهود والنصارى، أما غير هذه السبيل من سبل المناقشة والمحاجة والبرهان فهو أمر ميئوس منه، وهو إنما يفضي بهم إلى مزيد من المكابرة والعناد والانتكاس. فإن أولئك فريق من البشر المتعصب الذي انكمشت فيه ظواهر اللين والخير، وغارت فيه معاني اللين والتواضع والاستحياء، وما باتت فيه عز النفوس التي مزقها الحسد والحقد، وألبسها التعصب أغشية صفاقا من سوء الطبع ورغبة مستديمة في الكيد والتآمر على الإسلام وأهله.
وقوله :﴿ ملتهم ﴾ يستفاد منه أن ملة الكفر واحدة، وذلك الذي عليه كثير من العلماء والمفسرين. والملة هي الدين، وقيل الشريعة١.
وبعد التيئيس من إرضاء اليهود والنصارى واستحالة موادتهم للنبي والمسلمين إلا باتباع ملة الارتكاس والتولي عن ملة الإسلام، فإنه بعد ذلك يأمر الله نبيه عليه السلام ليقرر في حسم قاطع ومكشوف بأن ( هدى الله هو الهدى ) فإن الهدى الصحيح الذي يقوم على الحق والاستقامة والرشاد لهو هدى لله. وهو سبيله العدل وصراطه المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج والذي تجتمع فيه كل عناصر الخير والصلوح. وليس غير هدى الله إلا السبل المعوجة التي أفرزتها أهواء البشر ورغبائهم الشاذة الضالة.
قوله :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ﴾ وذلك تهديد من الله يخوف به عباده، عسى أن يكون في ذلك ما يردعهم عن اتباع أهواء أهل الكتاب بعد أن عرفوا وجه الحقيقة والصواب بنزول القرآن. وليعلم المسلمون بعد ذلك أنهم إذا انحرفوا عن دين الله، وحادوا عن سبيله التي لا تعرف العوج وغرتهم الأماني الواهمة، فاتبعوا أهل الكتاب، ومضوا على أثرهم يقلدونهم في كل مناحي الحياة أو جلها، بعد أن نزل القرآن عليهم فلا جرم أن يكونوا خاسرين. فقد خسروا دنياهم ؛ لتجردهم من أصالة الانتماء إلى شريعة الله والانسلاخ من ملة التوحيد الخالص. وهم بخسارتهم هذه باتوا فاسقين مما سيخ. وكذلك قد خسروا الدار الآخرة، فما لهم من الله حينئذ من عاصم ينصرهم ويدفع عنهم هول العذاب وبطش الإله المنتقم الجبار.
١ - مختار الصحاح ص ٦٣٤..
قوله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ﴾ اختلف المفسرون في المراد بالذين آتيناهم الكتاب فقد قيل إنهم أصحاب هذه الملة﴿ المسلمون ﴾، وذلك استنادا إلى ما ذكره كثير من الصحابة الكرام، منهم ابن عباس وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم. وقيل نزلت هذه الآية في فريق من أهل الكتاب قدموا من الحبشة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في يثرب، وأعلنوا إسلامهم، وهذا هو القول الراجح عندي، مستندا في ذلك إلى ما ذكره بعض آخر من الصحابة ومستأنسا كذلك بكلمة ﴿ الكتاب ﴾ الواردة في هذا النص، ومثل هذه الكلمة غالبا ما ترد مضافا إليها النصارى أو اليهود وهم أهل الكتاب، وينبغي بعد ذلك أن ينسحب مفهوم هذا النص ليشمل كل من آمن برسالة الإسلام من أهل الكتاب في أي زمان أو مكان ليكون في عداد المسلمين على السواء وذلك على اختلاف أجناسهم وألوانهم.
وقوله :﴿ الذين ﴾ اسم موصول في محل رفع على الابتداء، والجملة الفعلية من ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ في محل نصب حال. وخبر المبتدأ في الجملة الإسمية ﴿ أولئك يؤمنون به ﴾١ وقوله :﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ أي قرأونه قرة تدبر وإمعان وخشوع مع العزم على الاستفادة والامتثال، فيحلون بذلك حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يحرفون كلمهُ عن مواضعه، ولا يتأولون منه شيئا على غير تأويله المناسب والصحيح.
قوله :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ يشبه قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب الذين هدوا إلى الإيمان فآمنوا، والذين شرح الله صدورهم للإسلام لما وقفوا على أمره وحقيقته فأسلموا فقال سبحانه فيهم :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾ وقال أيضا ﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾.
قوله :﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ الخسران المبين الأكبر يحيق بكل أولئك الذين يكفرون بدين الإسلام، وينكرون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليه من كتاب وهو القرآن الحكيم الذي فيه خبر الأولين والآخرين وهو نذير للناس كافة بين يدي عذاب مقيم شديد. وذلك يشبه قوله تعالى :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ ٢.
١ فارغ؟؟؟؟؟؟.
٢ - الكشاف جـ ١ ص ٣٠٨ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٧٢ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ١٤٦..
قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ يذكر الله بني إسرائيل بأنعُمِه الكثيرة التي أنعمها عليهم بما لم يُنعم مثله على أمه من الأمم، وذلك هو المراد بالتفضيل على العالمين. فهو ليس تفضيلا أخرويا فيكونوا خيرا من غيرهم من الشعوب والأمم، أو ينالوا بذلك خطورة التفضيل التي لم تتيسر لسواهم. ليس المقصود ذلك، ولكن المقصود أن الله جلت قدرته قد امتن عليهم من الخيرات والعطايا، وأٍبغ عليهم أثواب العفو والإحسان في هذه الدنيا، ودفع عن كواهلهم غوائل الأذى والشر والعداوة، وكتب لهم من المعجزات ما لم يؤته غيرهم من الناس. وذلك هو التفضيل.
أما أن يفضلوا على غيرهم من حيث التكريم والاعتبار تحت تصور موهوم بأنهم خلق مفضل متميز، أو أنهم شعب الله المختار، فإن ذلك لا يستند إلى شيء من دليل أو منطق إلا الهوى الجامح والتعصب الممجوج وهو تعصب للذات والعرق تنبذه أديان السماء نبذا
قوله :﴿ واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ أصل التقوى من الوقاية وهي الحماية. والمقصود من ذلك هو أن يتخذ المؤمنون من الأعمال الصالحة واجتناب المناهي والمحظورات ما يقيهم أهوال اليوم المشهود وهو يوم القيامة حيث الشدائد والنوائب. فإن في ذلك اليوم لا يملك أحد أن يقدم لأحد أي جزاء كأن يزحزح عنه شيئا من عذاب أو يؤتيه شيئا من ثواب.
وفي هذا اليوم العصيب لا يقبل من أحد إلا ما قدمه من عمل خالصا لوجه الله الكريم. وإذا لم يكن للمرء يومئذ عمل كان في سجله مسطورا، فإنه لا ينفعه شيء ولا يدرأ عنه العذاب فداء أو شفاعة، فلا الفداء من مال أو غيره، ولا الشفاعة من أحد الشافعين ينجي المفرط الخاسر بمثقال قطمير، ويومئذ يخسر المبطلون والفساق ويحسون مرارة الحسرة والهوان، وهم إذ ذاك يلتفتون من حولهم في وجوم وحيرة وشخوص ويتشبثون في إياس مطلق بمن ينصرهم وينقذهم وليس من مجير أو نصير.
قوله تعالى :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود ﴾ في هذه الآية تذكير لأهل الكتاب والمشركين والناس جميعا بمقام إبراهيم العظيم، وهو مقام رفيع متميز بما حققه هذا النبي الكريم من عظيم الأعمال. لا جرم أن إبراهيم الخليل عليه صلوات الله كان إماما في الخير والبر والتقوى بما يعنيه ذلك من أوجه الصبر والثبات والجود والامتثال الكامل لأمر الله في أشق الأحوال وأحرجها وأحلكها. ومن أصدق ما يجيء به من حديث في الكشف عن حقيقة هذا النبي الفذ قول الله سبحانه :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين ﴾ وقوله سبحانه :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ لقد وفّى إبراهيم عليه السلام كل ما أنيط بزه من الوجائب دون تقصير، مع أنها وجائب كانت غاية في الصعوبة التي تنوء بحملها الجبال الرواسي، لكن إبراهيم الخليل قد احتملها كلها صابرا ثابتا من غير أن يلين أو يتزعزع.
لقد امتحن الله إبراهيم عليه السلام ﴿ بكلمات فأتمهن ﴾ والمراد بالكلمات على وجه العموم مجموعة الأوامر والنواهي التي كُلف بها هذا الخليل العظيم عليه السلام. وهي أوامر ونواه لا جرم أنها ثقيلة وعسيرة وأن احتمالها والاقتدار عليها بثقل كاهل كل إنسان إلا أن يكون فريدا في نوعيته ومستواه، أو أن يكون ذا عزم مكين لا يهون مهما اشتدت الخطوب أو تراكمت الأهوال والمحن.
أما حقيقة الكلمات على التفصيل والتي ابتلى الله بهن إبراهيم فهن موضع كلام طويل ومختلف للمفسرين. ولعل أصوب ما ورد في ذلك هو قول الحبر العظيم ابن عباس : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذا في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلاف، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمر به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتُلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له :﴿ أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
هذا القول الجامع لابن عباس يكشف عن أمهات قواصم من التكليفات المزلزلة التي نيطت بإبراهيم عليه السلام، فنجح فيها نجاحا يكشف عن حقيقة هذا الإنسان العظيم الفذ. الإنسان الذي عجمه الله بأفدح البلايا والشدائد، فما لان ولا استكان، بل مضى لأمر الله ملبيا حتى وفّى تمام الوفاء.
ويا لله لهذا الإنسان الوفي العظيم الذي يُقبل في استسلام لله وطواعية أن يُلقى في النار بعد أن وثقه قومه بالقيود والأغلال، فظل صابرا محتسبا رابط الجأش فما تراجع ولا انثنى عن عقيدته ودينه ولا كرّ مهزوما في نفسه متقهقرا ليعود إليهم مستسلما معتذرا كما يفعل الضعفاء والمهزومين في الكروب وفي ساعات الضيق والعسرة.
ويا لله لإبراهيم الخليل وهو يوحَى إليه في المنام بذبحه ولده ! ! فما تلعثم ولا انثنى، بل، بل قص على ولده خبر الرؤيا، فأجابه ولده في بر وطاعة وامتثال :( يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ).
إن الكلمات لتعجز بالغ العجز عن إيضاح الصورة لهذا الحدث المثير الجلل. وهو حدث لا يقوى على طوقه واحتماله إلا من كان كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
إن أحدنا يشق عليه أن يضرب ولده في قسوة وتبريح حتى وهو يؤدبه، فكيف به وهو يضع السكين على عنقه ثم يحزها حزا ليقطعها !
ذلك الذي لا تبلغه طاقات الإنسان مهما تجمع فيه من مذخور العزيمة وقوة الاحتمال، لكن النبيين المرسلين صنف آخر من البشر المتميز الرفيع، يرقون إلى عظيم الدرجات التي لا ينثنون عندها عن أي تكليف من ربهم، وفي الطليعة من النبيين المرسلين هذا النبي الصابر الجليل إبراهيم الخليل.
قوله :﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ الإمام القدوة الذي يؤتم به ؛ لفضله ومزاياه الخاصة، ولما أوتيه من خصائص في الثبات والاستقامة والطاعة والامتثال لأمر الله. وعلى ذلك فإنه عليه السلام جدير أن يجعله الله للناس جميعا إماما فيما بيناه ليقتدي به الآخرون في كل زمان ومكان.
قوله :﴿ قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ طلب إبراهيم من ربه أن تكون الإمامة في ذريته من بعده ؛ فيكون النبيون جميعا من بعده من نسله. فأجابه الله سبحانه بأنه ﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ والظالمين مفعول به للفاعل ﴿ عهدي ﴾ والعهد بمعنى النبوة. وقيل : الأمر، ويطلق العهد على الأمر أي لا ينبغي أن يلي الظالم من أمري شيئا. وقيل : العهد بمعنى الإمامة أو الاستخلاف. أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال الإمامة والاستخلاف من كان عادلا مبرأ من كل صور الظلم وعلى هذا ؛ فالإمام إنما يكون من أهل العدل والفضل والإحسان. أما أهل الفسوق والجور والفساد فليسوا أهلا لتولي إمامة المسلمين. وكيف يصلح لهذه المهمة العظيمة من كان جائرا فاسقا لا تقبل شهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة ؟ ! وإذا ابتلي المسلمون بإمام جائر فإن الصبر على طاعته أولى من الخروج عليه إن كان في منازعته والخروج عليه ما يثير الفتن والشر المستطير كإشاعة الفساد وإراقة الدماء وإغراق البلاد في الفوضى وخطر التدخل من الكافرين١.
وخلاصة القول في هذه العبارة الكريمة أن الله تفضّل بالاستجابة لطلب إبراهيم أن تكون الإمامة والنبوة في عقبه المؤمنين الصالحين على ألا يتولى أمر الله أحد من الظالمين من ذريته علما بأن في ذرية إبراهيم ظالمين كثيرين، وأمثال هؤلاء ليس لهم أن يكون أحدهم إماما فإن الإمام ينبغي أن يكون مؤمنا صادقا، وعلى ملى التوحيد والحنيفية ماضيا.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٠٨ والكشاف جـ ١ ص ٣٠٩..
قوله :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ البيت هو الكعبة. والمثابة بمعنى المرجع من الفعل ثاب يثوب. فقد جعل الله الكعبة مرجعا للمسلمين جميعا تهوي إليه قلوبهم دائما، وتتشوف لرؤيته على الدوام أرواحهم حتى إن الواحد يحج البيت ثم ينصرف وهو يحس إحساسا عميقا رغبته في الإياب إليه من جديد ؛ إذ لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. والمقصود من الآية أن الله يذكر شرف البيت ؛ إذ جعله مرجعا تشتاق له أرواح المسلمين وتحنّ إليه قلوبهم على مر الزمن حتى إنها لا تقضي منه الوطر ولو ترددت إليه كل عام.
وكذلك قد جعل الله الكعبة للناس أمنا، فهي مصدر أمن وسلام وطمأنينة لمن يعوذ بها أو يثوي إليها. ومعلوم أن العرب خارج البيت العظيم كانوا يقتتلون فيما بينهم ويتخطف بعضهم بعضا طمعا في مغنم أو رغبة في تسلط قبلي يقوم على العصبية السخيفة، لكن الذين يثوبون إلى البيت كانت تظللهم أجنحة الرحمة والأمان، فلا يمسهم شيء من أذى أو سوء. حتى قيل : إن الحد لا يقام على من لجأ إلى الحرم. وهو قول أبي حنيفة وآخرين. وقيل : بل يقام الحد عليه ؛ لأن الحكم الأول منسوخ.
قوله :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ مقام إبراهيم موضع خلاف المفسرين، لكننا نعتمد القول الذي نطمئن إليه فنرجحه وهو ما كره البخاري أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت وغرقت قدماه فيه. قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. وقيل : إنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم.
ويريد الله جلت قدرته أن يثير الذكرى في نفس كل مسلم يؤم البيت الحرام فيتذكر إبراهيم الخليل عليه السلام وما تركه من أثر عظيم تجلى في بناء أقدس بيت في الأرض وهي الكعبة، وبذلك فكل حاج يؤت البيت مطالب بالصلاة في مقام إبراهيم، على ما ورد في هذه المسألة من خلاف بين العلماء. فقد قيل بأفضلية الصلاة لأهل مكة، والطواف للوافدين من خارج مكة. وهو قول الإمام مالك، خلافا للجمهور إذ قالوا : الصلاة أفضل مطلقا١.
وقوله :﴿ مصلى ﴾ أي موضع صلاة. فإن على الآمّين البيت الحرام أن يصلوا ركعتي الطواف في المكان الذي كان إبراهيم يقف عليه ليناوله إسماعيل الحجارة لإتمام بناء الكعبة. أما موضع المقام نفسه فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله :﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾عهدنا بمعنى أمرنا أو أوحينا وهما متقاربان. فقد أمر الله كلا من إبراهيم وإسماعيل عن طريق الوحي بتطهير الكعبة وما حولها من الأوثان والرفث والرجس وقول والزور، كما ذكر عن مجاهد وسعيد بن جبير. والمقصود الأساسي من ذلك أن يتطهر البيت من كل شيبة من أو شاب الباطل أو الشرك وأن يكون نقيا من أخلاط الرفث والقذر ليكون البيت نقيا طاهرا نظيفا كما يليق بحرمته وقدسيته واعتباره العظيم ؛ فهو أول بيت وضع للناس في الأرض ؛ ليذكر فيه اسم الله ؛ وليؤمه الناس من كل حدب وصوب طيلة الزمان ؛ لينالوا من الله المثوبة والغفران.
ويراد للبيت أن يظل طاهرا من درن الشرك والقذر ؛ لتؤدى فيه العبادة والمناسك من قبل الطائفين وهم الذين يطوفون بالبيت وذلك من الطوف وهو السير رملا أو على مهل من حول الكعبة في عملية تعبدية معروفة مقترنة بالخشوع والتبتل والابتهال إلى الله سبحانه، وكذلك للعاكفين، من العكوف وهو حبس النفس عن التصرفات العادية وانشغالها بأمور العبادة من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك. ثم الركع السجود وهم الراكعون الساجدون أي المصلون عند الكعبة.
ومع أن النص قد وقع على البيت العتيق بالاسم، فإنه لا مانع من انسحاب الحكم على كل بيت من بيوت الله ليشمله وجوب التطهير، فيؤمه العابدون من المصلين والعاكفين والذاكرين وهو على هيئته اللائقة الكريمة من شرف التطهر والنقاء من كل درن.
ويرد في هذا الصدد حكم الصلاة في جوف الكعبة أو على ظهرها. فإن الأصل الذي تعورف عليه بغير تكلف أو اختلاف أن تكون القبلة جهاتها جميعا مثابة للناس لتصح الصلاة شطرها. أما الصلاة في جوف الكعبة فموضع خلاف الفقهاء. فقد ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى جواز الصلاة في جوفها إلا أن تكون الصلاة صوب الباب، ومع ذلك فإن الأفضل عند الشافعي أن يصلي النفل داخل الكعبة. أما الفرض فإن الأفضل أن يصليه خارجها. وخالفهما في هذه المسألة الإمام مالك ؛ إذ ذهب إلى عدم صحة الصلاة في جوفها استدلالا بما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل الكعبة ولم يصلّ حتى خرج، فلما خرج صلى صوب الكعبة ركعتين وقال : " هذه القبلة ".
أما الصلاة على ظهر الكعبة فغير صحيحة في مذهب مالك والشافعي ؛ لأن المصلي على ظهرها لم يستقبل شيئا، وهي صحيحة عند أبي حنيفة. واشترطت الشافعية لجواز الصلاة على ظهر الكعبة أن يضع المصلي بين يديه سترة متصلة بالسطح ليكون المصلي متوجها نحو جزء من السطح. وبغير ذلك لا تصح الصلاة٢.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١١٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٢..
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١١٢-١١٥ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٦٨، ١٦٩ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٩٧-٩٨ وبدائع الصنائع جـ ١ ص ١٢١ والمهذب للشيرازي جـ ١ ص ٦٧ وأسهل المدارك للكشناوي جـ ١ ص ٢٦٧..
قوله تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾.
تتضمن الآية دعاء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لمكة أن يجعلها الله بلدا آمنا فيعمها الرخاء والطمأنينة والرزق الوفير. وقوله :( آمنا ) من الأمن والأمان وهو يعني الطمأنينة والسلام بعيدا عن الشك والاضطراب والتخوف وفي منجاة من كل ظواهر الشر والعدوان.
هذا هو دعاء إبراهيم لمكة أن يجعلها الله تعالى عامرة بالبركة والسلام فلا يتخللها أذى ولا يقع بساحتها بائقة من بوائق العدوان والشر، وما من شيء فيها إلا وهو آمن لا تتطاول إليه يد بأذى حتى الشوك والشجر يظل مسترسل الأوراق والغصون فلا يتجاوز عليها أحد بالقطع. حتى الصيد تمرح قطعانه في أرجاء مكة فلا يناله أحد بآلة أو شراك مادام يتظلل بأفياء هذه البلدة المباركة القدسية التي كتبها الله مثابة للمؤمنين على طول الزمن فتهوي إليها أفئدتهم وأرواحهم ؛ ثم يدخلونها وهم آمنونا مطمئنون، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، ولا عدوان ولا تخاصم، ولا قتال ولا اقتتال.
وثمة مسألة تستوجب التوضيح وهي ما إذا كانت مكة حرما آمنا بدءا بعهد إبراهيم وبفضل دعائه، أم أنها كانت كذلك قبل إبراهيم. فقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن مكة باتت آمنة بفضل الدعاء الخاشع الذي تضرع به إبراهيم عليه السلام في قوله :﴿ اجعل هذا بلدا آمنا ﴾ واستدلوا على ذلك بجملة أحاديث نبوية نذكر منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : " كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فإذا أخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " ١.
وأخرج مسلم أيضا في هذا الصدد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :" إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة " ٢. وغير ذلك من الأحاديث كثير.
وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن مكة قد جعلها الله بلدا حراما قبل إبراهيم الخليل بل يوم خلق الله السماوات والأرض، فهي بذلك حرام بحرمة الله تعالى بداء بإيجاد الخليفة حتى تقوم القيامة. واستدلوا لذلك بعدة أحاديث أخر، منها ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكُه، ولا يُنفر صيده، ولا يُلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يُختلى خلاها " قال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : " إلا الإذخر " ٣.
وهناك أدلة أخرى من السنة غير هذا الحديث تدل كلها على أن حرمة مكة سابقة لدعاء إبراهيم، وأنها في كتاب الله وقدره محرمة يوم خلق السماوات والأرض وهو ما نرجحه والله أعلم.
وعلى هذا الترجيح لا تُتصور منافاة بين الأدلة لكل من الفريقين. ويمكن تصور التوفيق بين أدلة الفريقين أن ما احتج به الفريق الأول من أدلة إنما يكشف عن مجرد تذكير إبراهيم بحرمة مكة وإعادة الإخبار للناس بهذه الحقيقة. وعليه فإن مكة كانت بلدا حراما منذ القدم، لكن إبراهيم الخليل عاود التذكير مجددا بهذه الحقيقة.
أما أي البلدين خير وأفضل ؟ فقد ذهب جمهور المفسرين وأهل العلم إلى أن مكة خير من المدينة وأفضل مع أن لكل منهما خيرا وفضلا، وأنهما كلتيهما مباركة ومقدسة، وأنهما مضافا إليهما بيت المقدس في فلسطين خير بقاع الله وبيوته في الأرض، إلا أن مكة لهي ذروة السنام في القدسية والأفضلية ؛ لأنها بلد آمن ترسو على متنه الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا والتي جاء فيها قوله سبحانه :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ وقوله ﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾.
وفي فضل مكة وحرمتها ووجوب نشر الأمن والسلام والطمأنينة فيما يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح ".
وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ؛ فلا يحلف لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب " وهو ما رواه أبو شريح العدوي لعمر بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة٤.
وقوله :﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ دعا إبراهيم ربه أن يرزق أهل مكة من بركات الأرض في ثمارها الطيبة ذات الطعوم النافعة الجيدة.
وقوله :﴿ من آمن ﴾ :( من ) اسم موصول في محل نصب بدل من ( أهله ) وهو بدل بعض من كل٥. وبذلك فقد كان دعاء إبراهيم لمن آمن من أهل مكة خاصة ؛ ليخرج منا لمستفيدين من الأمن والثمرات من ليسوا مؤمنين، لكن الله تباركت أسماؤه قد كتب الرزق للناس كافة، سواء فيهم المؤمن والكافر وكذلك المستقيم والعاصي ؛ ليأخذ الناس جميعا بحظوظهم من هذه الدنيا الحياة وما يملأها من الخيرات والمنافع والثمرات. وتلك هي سنة الله في الدنيا وفي الناس. فهو سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ويكتب الحياة واللذة والرغد للناس جميعا على اختلاف أهوائهم ومللهم وانتماءاتهم. والأصل في ذلك أن الحياة لهي ميدان اختبار وعمل، ثم تفضي بعد ذلك إلى الدار الآخرة حيث الجزاء ولا عمل. وخير الجزاء للذين أحسنوا في هذه الحياة الدنيا والذين أخلصوا لله النوايا ليعبدوه وحده بلا شريك.
وعلى هذا الأساس فإن الله- جلت قدرته- يكتب الرزق لمن يشاء من عباده، سواء في ذلك من آمن منهم ومن كفر، أما من كفر فإن الله يمتعه في الدنيا بما كتبه له من الحظ والعطاء الفاني، ثم يلجئه بعد ذلك إلى عذاب النار وهو أسوأ عاقبة يؤول إليها العبد المعذب الخاسر ليبوء بهوان المصير والعذاب البئيس، وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٣..
٢ - نفسه..
٣ -- تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤.
٤ - رواه البخاري انظر تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤..
٥ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٢..
قوله تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ القواعد مفردها قاعدة وهي الأساس. ويبين الله في هذه الآية أن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام كانا قد بنيا الكعبة، وأسسا قواعدها في الأرض ؛ لتكون ثابتة مكينة، وليرفع عليها البناء الخالد للبيت العتيق، فيظل على الدوام ظاهرا شامخا يؤمه الحجاج والقاصدون من بلاد الله الواسعة ومن كل فج عميق.
وكان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يقولان حال رفعهما للقواعد من البيت :﴿ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك.. ﴾ فهما يدعوان الله أن يتقبل منهما ما قدما من عمل وهو بناء البيت وتأسيس قواعده. وذلك هو شأن العابدين المخلصين في القول والعمل، الذين تتدفق قلوبهم بالإخلاص لله، الإخلاص الذي يتنافى مع أبسط مراتب الرياء أو الأثرة أو التعصب للذات.
وشأن المؤمن دائما أن يلح على الله سبحانه ؛ كيما يتقبل منه العبادة، وأن يهبه الإخلاص ويباعد بينه وبين الرياء وحبوط الأعمال.
وقوله :﴿ إنك أنت السميع العليم ﴾ كاف المخاطب في محل نصب اسم إن، أنت توكيد تابع لكاف المخاطب، السميع خبر، العليم صفته.
الله جلت قدرته سميع الدعاء، ويستجيب للذين يعبدونه مخبتين مخلصين والذين تترطب ألسنتهم وأفواههم بجميل الثناء على الله والعوذ به. وهو سبحانه عليم بما تكنه الصدور من توحيد لله وإخلاص إليه أو دون ذلك منا ينافيه من شرك أو رياء. الله سبحانه عليم بما يطويه المرء من خفايا المقاصد ومن أستار تظل دفينة مخبوءة لا يكشف سترها إلا هو سبحانه.
ويدعو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ربهما أن يجعلهما مسلمين له. والمسلم من الإسلام وهو الامتثال لأمر الله في شرعه وأمره عن طواعية وتصديق ويقين. أو هو الاستسلام الكامل عن طريق الحس والوجدان فضلا عن الاستسلام الكامل لما شرعه الله من الأوامر والزواجر ولما فرضه من واجبات وتكليفات. ولمثل هذه القضايا الأساسية الكبرى يضرع إبراهيم وإسماعيل إلى الله. إنهما يضرعان إليه سبحانه أن ييسر لهما سبيل الامتثال لأمره العظيم ليكونا مسلمين. وكذلك يضرعان إلى الله سبحانه أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة لله، ممتثلة لأمره، سائرة على صراطه الحق المستقيم.
وقوله :﴿ وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ﴾ المناسك مفردها منسك وهو المتعبّد ومنه الناسك وهو العابد. وعلى ذلك فالمنسك اسم للعبادة، والمقصود بالمناسك، هنا جميع ما يُتعبد به إلى الله يف الحج مثل الصفا والمروة ومنى ورمي الجمار ومزدلفة وعرفات والكعبة. فهذه وغيرها أماكن للحج أو مناسك يتعبد عندها الحجيج على النحو المبين المشروع.
ويدعو إبراهيم وإسماعيل ربهما أن يمتن عليهما وعلى المسلمين من ذريتهما بالتوبة فإنه سبحانه تواب رحيم. أي شديد التوب عظيم الرحمة بالعباد.
وقوله :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( ربنا ) منادى منصوب للإضافة، والضمير المتصل " نا " في محل جر مضاف إليه. وذلك من جملة الدعاء وتمامه الذي تضرع به إبراهيم وولده إسماعيل إلى الله، وهو أن يبعث في ذريتهما رسولا يحمل للناس أمانة الرسالة، ويدعوهم إلى الله سبحانه. وقد توافق هذا الدعاء مع قدر الله المقدور ببعث النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ إذ بعثه الله نبيا أميا في أمة أمية من نسل إسماعيل ولد إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه.
لقد كتب الله في مقاديره الأزلية ما يوافق دعوة إبراهيم الخليل ببعث محمد عليه السلام من العرب ؛ ليكون رسولا للناس كافة وللزمان جميعا إلى أن يرث الله الناس والأرض والزمان. لقد بعثه الله للناس استجابة لدعوة إبراهيم التي وافقها ما كان مكتوبا في علم الله القديم، وما أنبأت عنها كلمات عيسى المسيح عليه السلام ؛ إذ قال لقومه بني إسرائيل كما قص علينا القرآن :﴿ إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾.
وقد أخرجه الإمام في ذلك عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ".
ومهمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - كما بينتها الآية- هي أن يتلو على الناس آيات الله وهي القرآن، ثم يعلمهم إياه.
ونستطيع أن نميز بين التلاوة للقرآن وتعليمه كما يتضح من ظاهر الآية، وهو أنه يراد بتلاوة الآيات مجرد قراءتها للناس، فيتلونها على سبيل التعبد، ومعلوم أن القرآن متعبد بتلاوته، فما يتلوه مؤمن أو يحفظه إلا كان له بذلك أجر.
وقوله :( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) يراد بالكتابة القرآن، أما الحكمة فقد قيل : إنها السنة، وقيل : بل هي جملة العلوم المتعلقة بأمور الدين. وقيل : الفهم، وهو سجية مهداة من الله للعبد.
وقوله :﴿ ويزكيهم ﴾ جملة فعلية فعلها يزكي، والفاعل يعود على الرسول المبعوث من ذرية إبراهيم، والضمير المتصل بالفعل في محل نصب مفعول به والميم للجمع. وأصل الكلمة من التزكية وهي التطهير والإصلاح. زكا فلان أي طهر أو صلح. وعلى ذلك فالرسول المبعوث يكون داعيا لإصلاح القوم وتطهيرهم تطهيرا حقيقيا بكل ما تحتمله كلمة التطهير من معنى. ومن ضمن ذلك أني قع التطهير على النفس فيغسلها وينقيها من أوضار الشذوذ والأمراض، ويقع على العقل والذهن فيخلصهما من منزلقات الفكر الجانح وانحرافات التصور الضال المريض، ويقع على الحياة الاجتماعية فيباعد بينها وبين كل ظواهر التفكك والتفسخ وكل أسباب الخلق الآسن بما يصون للمجتمع كرامته ونظافته ؛ ليكون مجتمعا قويا نقيا متماسكا، لا تمسه أية وشيبة من أو شاب الفساد أو التفسخ أو الانمياع أو الفوضى.
قوله :﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ذلك إقرار كامل ينطق به إبراهيم وإسماعيل على سبيل الخضوع لله خضوعا تاما وعلى سبيل الإخبات والإذعان لله وحده هو أنه سبحانه عزيز أي قوي في ملكوته وإرادته وتقديره، فلا يعجزه في الكائنات شيء، ولا يؤوده أمر أو خبر في السماء ولا في الأرض. وهو كذلك حكيم، فإنه يتصرف في الكون ببالغ حكمته التي لا يقف على حقيقتها إلا هو، وإنه لا يصدر عن أمره وإرادته شيء في الوجود إلا عن حكمة مطلقة بالغة. فلا مجال للصدفة أو الفوضى أو التدبير القاصر المحدود كالذي عليه البشر، ولكنه التدبير الكامل الأوفى، والحكمة التامة التي لا تحتمل الخطأ.
قوله تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ﴾.
تنطوي الآية الأولى على استفهام يتضمن تقريعا وتوبيخا لأهل الكتاب والمشركين الذين سفهوا أنفسهم بإبعادها عن ملة التوحيد التي كان عليها إبراهيم عليه السلام ؛ ولذلك قال :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ أي لا يزهد عن ملة إبراهيم وهي الحنيفية البعيدة عن الشرك، ولا ينأى عنها إلا من فعل بنفسه من ظواهر السفه ما يجعله سفيها. والسفه معناه : الجهل : ضد الحلم : وهو الخفة والطيش. سوفه نفسه ؛ أي حملها على السفه، أو بمعنى سفّه نفسه بالتشديد١.
قوله :{ ولقد اصطفيناه في الديناج من الاصطفاء وهو الاختيار للنبوة والرسالة. ومعلوم أن ذلك يقع بتقدير الله واختياره وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو كذلك أعلم حيث يجعل اختياره من الصفوة المصطفاة من أولي العزم من الرسل من مثل إبراهيم الخليل عليه السلام. فالله جلت قدرته قد اصطفى إبراهيم في هذه الدنيا ؛ ليكون رسولا خليلا وليكون أبا عظيما لنخبة عظيمة من النبيين والمرسلين.
وقوله :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ الضمير المتصل في محل نصب اسم إن وهو يعود على إبراهيم الخليل. وخبرها ﴿ لمن الصالحين ﴾ فقد كان إبراهيم ذا حظ مرتين، إحداهما في الدنيا، إذ اصطفاه الله برسالته. وأن يكون في ذريته الكتاب والنبوة ثم النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ). وثانيهما في الآخرة ؛ إذ كتبه الله من الصالحين وهم الفائزون أهل الخير والنجاة والفلاح.
١ - القاموس المحيط جـ ١ ث ٢٨٧ ومختار الصحاح ص ٣٠٢..
قوله :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ من مقتضيات الاصطفاء من الله لإبراهيم أنه قال له :﴿ أسلم ﴾ وذلك أمر له بالاستسلام والامتثال لله وحده، فينقاد لأمر ربه بقوله :﴿ أسلمت لرب العالمين ﴾ وهذه مبادرة من إبراهيم فورية بالاستسلام والخضوع لله رب العالمين فهو سبحانه مالك الملك لا ينازعه في خلقه وملكوته شريك أو منازع.
قوله :﴿ وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ﴾ :( إبراهيم ) فاعل مرفوع. ( بنيه ) مفعول به منصوب ( ويعقوب ) الواو للعطف، يعقوب معطوف على إبراهيم. فقد وصى إبراهيم بنيه بملة التوحيد أو الكلمة، وكذلك وصى بها يعقوب بنيه. وقيل أن يعقوب معطوف على بنيه ليكون المعنى بذلك أن إبراهيم وصى بنيه ووصى يعقوب ( بها ) ويعود الضمير في قوله بها على الملة التي اتبعها إبراهيم وهي الحنيفية أو التوحيد، وقيل : يعود على الكلمة التي هي قوله :﴿ أسلمت لرب العالمين ﴾ وذلك أرجح.
قوله :﴿ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ هكذا أوصى كل من إبراهيم ويعقوب بنيه. أوصاهم باتباع الملة الحنيفية السمحة والالتزام بدين الله الذي ارتضاه واصطفاه لهم. وبناء على ذلك وصى كل منهم بنيه بخير وصية، وهي ألا يموتوا إلا وهم مسلمون. وفي ذلك تنبيه لهم بدوام الاستقامة والالتزام بشرع الله، فلا يميلوا أو ينحرفوا ؛ لأن المرء إنما يبعث يوم القيامة على هيئته في آخر حياته. فإن كانت هيئته وحاله على معصية الله بعث يوم القيامة مع العصاة والفساق. وإن كانت هيئته وحاله على طاعة الله بعث مع الأخيار والفائزين ؛ ومن أجل ذلك يوصي إبراهيم ويعقوب بينهم أن يكونوا في حياتهم على صراط الله المستقيم، وأن يحافظوا على الملة وما تقتضيه من الأوامر والتكليفات، وأن يحاذروا المعاصي والمحرمات باستمرار ؛ كيلا يفجأهم الموت وهم على حال من الفسق عن أمر الله فيبعثوا فاسقين.
قوله :﴿ أم كنتم شهداء إذا حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ﴾ ذلك توبيخ للكافرين من مشركي العرب وأهل الكتاب وهم النصارى واليهود. فقد كان هؤلاء جميعا يتشبثون كذبا بانتسابهم لملة إبراهيم عليه السلام، مع أن إبراهيم كان على الحنيفية القائمة على التوحيد، أما هم فإنهم مشركون فساق مجانبون للحنيفية والتوحيد، وموغلون في الشرك والوثنية والضلالات، بل إنهم جميعا ضالعون في الموبقات والآفات بكل صورها وأشكالها.
وفي هذه الآية توبيخ لهؤلاء الكافرين جميعا كأنما يقول لهم : هل شهدتم يعقوب وهو يوصي بنيه بما أوصاهم به ؟ ! والحقيقة أنكم لم تشهدوه ولم تعلموا عن ذلك شيئا. والمعلوم أن يعقوب إذ حضره الموت قال لبنيه وهم مجتمعون من حوله :﴿ ما تعبدون من بعدي ﴾ أي سألهم عن حقيقة معبودهم من بعده وذلك على سبيل التنبيه إلى ضرورة الاستمساك بالملة السمحة، ملة أبيهم وإبراهيم والذين جاؤوا من بعده من النبيين، وعلى سبيل التحقق من سلامة إجابتهم ؛ ليطمئن قلبه وهو يدنو من الموت ويوشك أن يبارح الدنيا.
فكان جوابهم مثلما أراد ﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ﴾ فملة التوحيد واحدة لا تتجزأ ولا تحتمل اختلافا. وإنما هي الحنيفية الحقة التي قامت عليها الأديان السماوية جميعا بداء بأبي البشر آدم وانتهاء بالنبي الخاتم صلوات الله عليه. وهم جميعهم تشدهم عقيدة ملتئمة واحدة، ويجمعهم دين واحد وهو الإسلام الذي يعني الاستسلام والخضوع لله وحده والذي يقوم أساسا على التوحيد الكامل والإقرار لله سبحانه بالعبودية المطلقة. قال سبحانه :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾.
وفي الحديث النبوي الشريف ما يدل على الوحدة في الدين والعقيدة، والتفاوت في الشرائع " نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " ١ والمراد بأولاد العلات، الأخوة لأب واحد وأمهات متعددة. وفي هذا التشبيه ما يبين أن النبيين جميعا يلتقون على صعيد الملة الواحدة وهي ملة التوحيد، ويتفاوتون من حيث الشرائع التي تغطي مقتضيات الأحوال والظروف والبيئات.
وعن حقيقة الاستسلام لله والإذعان له بالعبودية والامتثال يجيب بنو يعقوب أباهم ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي عابدون خاضعون ممتثلون. وفي ذلك من الدلالة على أن النبيين جميعا مسلمون، وأن أتباعهم وأشياعهم والذين آمنوا برسالاتهم واتبعوهم- غير مشركين ولا محرفين- كذلك مسلمون. ذلك ما يفرضه مفهوم العبارة وحقيقة المدلول الواضح السليم لكلمة الإسلام بما يعنيه من امتثال وخضوع واستسلام لله وحده٢.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٨٦.
.

٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤- ١٨٦ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٣٠ -١٣٧ وتفسير البيضاوي ص ٢٦، ٢٧..
قوله تعالى :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ ( تلك ) اسم إشارة في محل رفع على الابتداء،
( أمة ) خبر مرفوع. والجملة الفعلية بعده نعت. و ( خلت ) بمعنى مضت، ويراد بالأمة المشار إليها والتي مضت هي آباء بني إسرائيل من النبيين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم. فقد كان بنو إسرائيل يركنون إلى انتسابهم إلى آبائهم من النبيين والمرسلين، ويفاخرون الناس بهذا الانتساب، فبينت لهم هذه الآية أن السابقين من النبيين والصالحين قد مضوا، وأن ما كسبوه من عمل فهو لهم وليس بعائد عليكم، وأنه لن ينفعكم إلا ما قدمتموه لأنفسكم من أعمال.
وكذلك فإن أحد من أولئك لن يحمل من أوزاركم شيئا، وأن ما تقارفونه من الآثام والفسق والمعاصي إنما يحيق بكم وحدكم، ولن يغني عنكم أسلافكم من ذلك شيئا. وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي لا تحمل نفس ما اقترفه نفس أخرى من مخالفات وسيئات.
وكذلك الذي ورد في الحديث المرفوع " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " فإن كانت كفة الأعمال للمرء مرجوحة، فلن يشفع له أن يكون ذا نسب رفيع مشهور ؛ إذ لا قيمة لا عتبارات الحسب أو النسب أو العصبية كيفما كان نوعها أو صورتها، ولكن الاعتبار كله للعمل الصالح المشروع الذي تسبقه النية الحسنة والإخلاص الكامل لله وحده.
وعلى هذا فإن ما قدمه السلف من خير العمل ليس عائدا إلا عليهم أنفسهم، وإن كان الذي قدموه شرا فهو عليهم وحدهم ولا يسأل عنه الخلف وفي هذا يقول سبحانه :﴿ ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
قوله تعالى :﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكم الله وهو السميع العليم ﴾.
ذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية الأولى أن عبد الله بن صوريا الأعور اليهودي قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية :( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) وهود مفردها يهودي، ونصارى مفردها نصراني. وكلا الفريقين أهل كتاب وهم جميعا من المشركين الذي زعموا أن لله شريكا ؛ إذ قالت اليهود :﴿ عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ وكل فريق من هذين الفريقين يظن أنه على الحق، فهو بذلك يتجرأ في حماقة بالغة وسفه فاضح ليدعو النبي محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين فيكونوا من اليهود أو النصارى. لاجرم أن هذا الاجتراء المتوقح لهو غاية في النكر وفساد السجية.
ثم يأتي الرد حاسما مباشرا وفي الحال :﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ وملة منصوب على المفعولية للفعل المحذوف المقدر
﴿ نتبع ﴾ أي أخبرهم يا محمد أننا نحن هذه الأمة المؤمنة المسلمة لا نتبع ملة الشرك والميل عن الحق، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. و ﴿ حنيفا ﴾ منصوب على المفعولية كذلك لفعل تقديره أعني، وقيل على الحال١. وقد كان إبراهيم على الحنيفية وهي التوحيد والاستقامة البعيدة عن أية صورة من صور الشرك. والحنيف من الفعل حنف أي مال٢. فإبراهيم – عليه السلام- كان مائلا بطبعه وفطرته وسلامة تكوينه النفسي والروحي نحو الإسلام والامتثال لأمر الله تماما ﴿ وما كان من المشركين ﴾.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٤..
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٣٤..
وقوله :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط... ﴾ يأمر الله نبيه الكريم والمسلمين أن ويعلنوا عن إيمانهم الحق بالله ربا خالقا منشئا للوجود من العدم، وإيمانهم كذلك بما أنزل إليهم وهو القرآن، وما نزل من كتاب ووحي على النبيين من قبلهم وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. والأسباط مفردها سبط وهو القبيلة أو الجماعة، وقد سميت بالسبط ؛ لتتابعها إذ تأتي واحدة عقب أخرى. ويراد بالأسباط في الآية أبناء يعقوب الاثنا عشر، وقد ولد لكل واحد منهم أمة من الإسرائيليين، وقد بعث الله منهم نبيين ومرسلين كثيرين قد أنزل الله عليهم الوحي وأناط بهم وظيفة التبليغ والدعوة إلى الحنيفية المائلة عن الفساد والباطل والشرك.
ومما يلفت النظر ما ذكره ابن عباس إذ قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا ( صلى الله عليه وسلم ). وكذلك فإن على النبي والمسلمين أن يؤمنوا بما نزل على كليم الله موسى وروح الله عيسى بن مريم فقد أوتي الأول التوراة وأوتي الثاني الإنجيل وهما كتابان عظيمان فيهما خير الدنيا والآخرة، وينطويان على ما فيه إسعاد بني إسرائيل لو أنهم التزموا بما فيهما من مضمون ولم يتجرأوا عليهما بالتحريف والتنزييف.
ويجب التنبيه هنا إلى حقيقة التكليف الوارد في الآية وهو قوله :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم... ﴾ فالمطلوب هو مجرد التصديق والإيمان بما أنزل على النبيين السابقين من كتب، وأنهم قد أوحي إليهم. وليس على المؤمن من هذه الأمة أن يلتزم بأكثر من ذلك. فالقضية المبدئية أن يؤمن المسلم ويصدق بحقيقة الكتب السماوية الصادقة المبرأة من التلاعب والتحريف. أما ما نشاهده بين ظهراني اليهود والنصارى من توراة وإنجيل فما علينا من بأس أن نقف منهما موقف المحايد الحريص فلا نصدق ولا نكذب ؛ ذلك أننا إذا صدقنا وأيقنا بما فيهما من غير تحفظ فلسوف تقع لا محالة في خطأ التصديق بما ليس من كلام الله مما هو مزيد أو مفترئ قد أضيف إلى كل من التوراة والإنجيل. أما إذا كذبنا بهما جميعا فلسوف يفضي هذا التكذيب المطلق إلى التكذيب بما صح فيهما.
وعلى العموم فإن على المسلمين أن يؤمنوا بالتوراة والإنجيل كتابين منزلين من عند الله من قبل أن يمسهما التحريف والخلط. أما التوراة والإنجيل على حالهما التي نرى اليوم، فما على المسلمين من سبيل لو أنهم وقفوا منهما موقف المتوسط المحايد من غير تصديق ولا تكذيب، وخير ما يستدل به على ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله " ١.
قوله :﴿ وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ أي أننا نؤمن بما نزل على النبيين ونصدقهم في ذلك جميعا دون استثناء، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وإنما نؤمن بالنبيين كافة وأنهم جميعا صادقون ويصدرون فيما يقولون ويبلّغون عن وحي الله الأمين. ويشبه ذلك قوله سبحانه في المسلمين الذين يؤمنون بجميع النبيين والمرسلين من غير تفريق فلا يصدقون بعضا منهم ويكذبون آخرين ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم الآخر كالذي عليه اليهود والنصارى.
قوله :( ونحن له مسلمون ) الضمير في قوله :( له ) يعود على لفظ الجلالة. أي أننا نحن أتباع هذه الملة نعلن في تصديق قاطع مستيقن أننا على صراط الله القويم وعلى سبيله المستقيم، وأننا ممتثلون لأمره ودينه وشرعه غير مترددين ولا مرتابين ولا مستنكفين.
١ - رواه البخاري عن أبي هريرة..
وقوله :﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق ﴾ على المسلمين أتباع هذه الملة أن يدعوا أهل الكتاب إلى الحق ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ) أي إن صدقوا وأيقنت أنفسهم بما آمنتم به فقد اعصتموا بدين الله الحق وأصابوا تمام الصواب. وقيل : إن مثل زائدة ليكون المعنى : فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا. وقيل : الباء زائدة ليكون المعنى : فإن آمنوا مثل ما آمنتم به فقد اهتدوا١ وقيل غير ذلك. ولعل القول الأول أصوب ؛ لانسجامه مع السياق والمعنى. وهو أنهم إن آمنوا بما آمنتم به أنتم فقد أصابوا واستقاموا. ومعلوم أن المسلمين آمنوا بالنبيين جميعا وما أنزل عليهم من كتب يبلغونها للناس.
أما إن تولوا عما آمن به المسلمون وصدقوه ﴿ فإنما هو في شقاق ﴾ والشقاق والمشاقة بمعنى الخلاف والعداوة، نقول شاقة مشاقة وشقاقا أي خالفه، وحقيقة ذلك أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه٢.
قوله :﴿ فسيكفيكهم الله ﴾ وهذه جملة فعلية. فعلها المضارع يكفي. وقد تعدى إلى مفعولين، أولهما الكاف في محل نصب مفعول به أول، وثانيهما الهاء في محل نصب مفعول به ثان والميم للجمع، ولفظ الجلالة فاعل. وذلك وعد من الله سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سوف يكفيه أعداءه من الأشرار والمخالفين والمعاندين، هؤلاء الحاقدون اللّد الذين حاربوا دين الله وشاقوا الله ورسوله. فسوف يكفي الله نبيه بأس هؤلاء ومكرهم، ويرد عنه ما يبيتونه له من سوء وعدوان. وقد أنجز الله لنبيه الكريم ما وعده من هزيمة للعدو وتدمير لخططه ومؤامراته وتبديد لجهوده وقُواه حتى مني أخيرا بالهزيمة تلو الهزيمة وبالانتكاس والتقهقر وذلك هو مصير الذين يشاقون الله ورسوله، ويحادون دين الله. لا جرم أنهم صائرون إلى ذل الهزيمة والخزي والعار.
قوله :﴿ وهو السميع العليم ﴾ الضمير المنفصل في محل رفع مبتدأ، و ( السميع ) خبره مرفوع، و ( العليم ) نعت. فالله سبحانه يسمع ما تفوه به ألسنة البشر من أقوال، سواء في ذلك الأقوال التي تصاغ في اختلاف الشر وابتداع الأذى والمنكر يصيبان المؤمنين. أو الأقوال النافعة السديدة التي تنطق بها أفواه المؤمنين من الناس. فهو سبحانه سميع لذلك كله على نحو وكيفية لا يعلمها إلا هو. وهو كذلك ( العليم ) الذي يعلم أسرار الحياة والكائنات وما يختفي في أطواء الوجود من حقائق وأسرار، ومن معلومات وأخبار لا يعلم منها الناس إلا ما كان هينا يسيرا غاية في البساطة.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٥..
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٤٢ ومختار الصحاح ص ٣٤٣..
قوله تعالى :{ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) المراد بالصبغة هنا الإسلام وهو دين الله الحق القائم على الفطرة والحنيفية. وقد سمي بذلك على سبيل الاستعارة والمجاز ؛ وذلك لبدوّ مظاهره وأعماله على الإنسان المتدين كما يبدو أثر الصبغ على الثوب، فالمتدين يتجلى في أفعاله وأقواله كل معاني الدين ومظاهره، وهو في جميع سلوكه وتصرفاته الشكلية والمظهرية والعملية إنما يسير على هدى من الدين وما يحتويه من مبادئ وقيم. وقوله :( صبغة ) منصوب على المفعولية لفعل محذوف تقديره الزموا أو اتبعوا وقيل : منصوب على الإغراء ؛ أي عليكم صبغة الله. وقيل : بدل من ملة١.
قوله :( ومن أحسن من الله صبغة ) ( ومن ) اسم استفهام في محل رفع على الابتداء، ( أحسن ) خبر مرفوع، ( صبغة ) منصوب على التمييز. وذلك سؤال إنكاري. أي ليس من صبغة أحسن من صبغة الله. ليس من دين ولا ملة ولا عقيدة ولا رسالة عرفتها البشرية خير من الإسلام. لا جرم أن الإسلام خير ما عرفت الدنيا من عقائد وملل ومبادئ. وذلك بما يتميز به الإسلام من خصائص عظيمة تخلو منها عامة المذاهب والعقائد والتصورات الأخرى. وبذلك يندد الله تنديدا بالذين يصطنعون لأنفسهم صبغة غير صبغة الإسلام، كالذين ينتحلون الشرائع والمذاهب والأفكار الضالة يختلقونها من عند أنفسهم لتكون بديلا عن صبغة الله وهي الإسلام. وأيما اختلاق مقبوح كهذا فإنه الكفران والاستكبار والتمرد على الله، والعياذ بالله.
قوله :﴿ ونحن له عابدون ﴾ جملة إسمية مبتدأها الضمير ( ونحن ) وخبره ( عابدون ) أما الواو فهي عطف على قوله ( آمنا بالله ) كذلك يقول المؤمنون الصادقون فهم يقرون أنهم عابدون لله، ماضون على منهجه الثابت القويم ليظلوا على الدوام عابدين لله ممتثلين لأمره خاضعين لسلطانه وجبروته.
١ - اليبان للأنباري جـ ١ ص ١٢٦..
قوله تعالى :﴿ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل آأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾. ﴿ أتحاجوننا ﴾ الهمزة للاستفهام، تحاجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل، والضمير المتصل في محل نصب مفعول به. وقوله تحاجوننا معناه تجادلوننا وهو من المحاجة أي مجاذبة الحجة، فكأن كل فريق من المتخاصمين يجذب حجة الآخر ليرسي حجته بدلا منها.
وقوله ﴿ في الله ﴾ أي في دينه وحقيقة شأنه والقرب منه والحظوة عنده. والمقصود أهل الكتاب وخصوصا اليهود، فقد كانوا يجادلون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الله وفي دينه وفي مبلغ القرب منه. فكانوا يفاخرون المسلمين بأنهم أقدم منهم دينا وأكثر أنبياء وأشد كرامة ؛ لانتسابهم لآبائهم من النبيين والمرسلين كما يزعمون. وزعموا كذلك أنهم أنبياء الله وأحباؤه فهم بذلك أعظم عند الله حظوة ومكانة، إلى غير ذلك من المفاخرة الفاسدة التي تقوم على التعصب والجهل، ولا تستند إلى غير الحماقة والسفاهة والضلالة والتشبث بمقولات فارغة تافهة جوفاء لا تغني من الحق شيئا.
وبعد هذا الاستنكار لهذه المحاجة العميقة يأمر الله نبيه بالرد عليهم وهو أن الله ﴿ ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ﴾ أي لم هذه المحاجة العقيمة التي لا تنفع مع أن البدهيات تزجي بأن الله جلت قدرته هو رب الجميع، وليس ربكم وحدكم كما تزعمون وتتوهمون ولكنه ( ربنا وربكم ) وكذلك فإن أعمالنا غير أعمالكم، فكل منا يعمل على شاكلته، وكل منا ملاق حسابه عند ربه، والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا وليس بغافل عما يعمل المفسدون، فأنتم بريئون منا ونحن بريئون منكم. جاء في ذلك قوله سبحانه في آية أخرى :( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريئ مما تعملون ).
وقوله :﴿ ونحن له مخلصون ﴾ من الإخلاص وفعله خلُص بضم اللام أي صفا وصار نقيا. نقول : خلُص الماء من الكدر أي صفا تماما، وخلاصة الشيء ما صفا منه. ويطلق الإخلاص في الشرع أو الدين على تصفية الفعل أو القول من ابتغاء المخلوقين. فإن ابتغاء أحد من المخاليق يعني التشريك في القصد الدافع للفعل أو القول. أو هو تفتيت للنية في توجهها إلى الله وإلى غيره من العباد، سواء كانوا من الجنة أو الناس أو الملائكة. ذلك أن الإخلاص في القول أو الفعل يعني أن يكون التوجه منصبا تماما في سبيل الله، وأن يكون القصد محصورا في ابتغاء مرضاة الله وليس منشطرا إلى شطرين أو إلى جملة أشطر لتتعدد النوايا والقصود ويكون التشريك في الابتغاء والعبادة، فلا يبقى للإخلاص بعد ذلك وجود. حتى إن الإشراك في الابتغاء والقصد لا يستحق إلا التنديد والرفض، ولا يستوجب غير التخسير والحبوط، ولا قيمة عندئذ للشطر من الابتغاء السارب في طريق الله والذي يحسبه الواهم ضربا من الإخلاص. والحقيقة أن قضية الإخلاص أساسية وخطيرة وكبرى وهي لا تقبل الانشطار أو التجزئة، ولكنها قضية واحدة منسجمة لا تتجزأ، فلا تصلح أن تنشطر بين الله وأحد من خلقه.
وبعبارة أخرى فإن الإخلاص لا يكون إلا لله وليس لأحد من خلقه معه، وإذا كان شيء من ذلك بانت الإخلاص منعدما وغير ذي وجود. يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الصدد من الإخلاص : " إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي. يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالي، فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنا لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء " ١
١ - أخرجه الدار قطني عن الضحاك بن قيس الفهرسي..
قوله :﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ﴾. ( أم ) معناها بل. أي بل إنكم تقولون زاعمين أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب... كانوا من اليهود أو النصارى. فقد زعمت يهود أن أولئك الأنبياء كانوا يهودا فهم بذلك أولى بهم، وزعمت كذلك النصارى أن أولئك كانوا نصارى فهم إذن أحق بهم، وفي الحقيقة أن كلا القولين خاطئ ومكذوب وهما قولان لا يستندان إلا إلى الزيف من التصور الفاسد والتعصب الأصم الذميم. ومعلوم بغير شك أو مراء أن إبراهيم كان مستمسكا بعقيدة التوحيد، وأنه كان على الحنيفية السمحة المستقيمة التي تنافي الشرك أعظم منافاة، ومعاذ الله أن ينتسب إبراهيم إلى ملة أي من اليهود والنصارى، تلك الملة التي عمادها الإشراك بالله، والمبنية على الهوى والتعصب السفيه، التعصب الفاجر الأصم الذي ترفضه العقائد والأديان الصحيحة، ويرفضه المنطق والتفكير السليم. فمعاذ الله أن ينتمي إبراهيم لملة أحد من الفريقين لقيامها على الإشراك بالله، ولكنه عليه السلام كان على دين الفطرة وملة التوحيد وكلمة الإخلاص، كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، وأساس ذلك كله قول الله تباركت أسماؤه في فض هذه القضية :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ ؛ ولذلك فإن الله يأمر نبيه الكريم بالرد عليهم ردا فيه توبيخ لهم وتقريع
﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ ولا شك أن الله أعلم بحقيقة الأمر، فهو سبحانه أعلم أن إبراهيم ما كان من إحدى الطائفتين، وليس على ملة إحداهما، ولكنه كان حنيفا مسلما.
قوله :﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ سؤال تهديد لأهل الكتاب ووعيد. فإنه ليس أظلم من الذي يخفي في نفسه شهادة فيها الحقيقة أو الخبر الصحيح وهو أن النبيين كانوا على ملة الإسلام بما يعنيه من استسلام لله وامتثال لأمره سبحانه. وقيل المراد بكتم الشهادة هو إخفاء خبر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ إذ كان مذكورا في التوراة والإنجيل وكان أهل الكتاب يجدونه مكتوبا باسمه عندهم، لكنهم تغاضوا عن ذلك وعمدوا إلى اسمه عليه السلام فأزالوه، وفي ذلك نكران للشهادة وكتم لما أودعهم الله إياه من أمانة العلم والخبر وكشفهما للناس، لا جرم أن هذا الكتم في الشهادة غاية في العتو أو الظلم يسقط فيه هؤلاء الجاحدون الضالون.
قوله :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ( ما ) تعمل عمل ليس. لفظ الجلالة اسمها مرفوع. ( بغافل ) الباء حرف زائد، غافل خبر ما، وغافل من الغفلة وهي غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له على سبيل الإهمال. وحاشا لله سبحانه أن يلحقه شيء من عيوب البشر مثل الغفلة فإنه جل وعلا منزه عن الضعف والنقص كعيوب النسيان أو الغفلة أو غير ذلك من عيوب لا تبرح بني البشر، لكن الله غير غافل عما يعمله الناس، وذلك ينطوي على تخويف وتنذير لأهل الكتاب الذين جحدوا ملة الإسلام وكذبوا خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام. وما أولئك بمفلتين من قبضة الله وعذابه الذي سيحيق بهم لزيغهم وتكذيبهم وفساد قلوبهم.
قوله :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ ذلك قرار يراد به التأكيد لهؤلاء القوم الذين يفاخرون الناس بانتسابهم إلى الآباء والأجداد من النبيين والمرسلين. ويريد الله أن يبين لهم أنه لا وزن ولا اعتبار لهذه المفاخرة بالانتساب لأمة قد مضت ؛ ذلك أن الذين مضوا لهم ما عملوا ولكم أنتم ما عملتم، وليس ينفعكم ما قدموه من عمل فهو لأنفسهم غير عائد عليكم، ولن يجديكم نفعا أن تظلوا تتشبثون بالانتماء إليهم والمباهاة بأنكم أحفادهم أو من ذراريهم. ١
١ - فتح القدير جـ ١ ص ١٤٨ وتفسير البيضاوي ص ٢٩..
قوله تعالى :( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) السفهاء مفردها سفيه وهو الخفيف العقل ذو الطيش الذي لا يضبط أقواله وتفكيره سبب من روية أو موضوعية أو اتزان. والمراد بالسفهاء هنا اليهود. وقيل بل اليهود والمشركون والمنافقون جميعا فكهم الذين سألوا في همس تارة في مجاهرة تارة أخرى ؛ ليثيروا من حول الإسلام والنبي كل بواعث الشك والتوهيم إذ قالوا :( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ).
وفي سبب نزول هذه الآية ذكر عن ابن عباس قوله : إن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل عز وجل :( فولوا وجوهكم شطره ) أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا :( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) فأنزل الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ١.
هكذا يطلق المشركون والمنافقون واليهود في سفاهة وجهل سؤالهم عن تولي المسلمين للقبلة الجديدة. وهو سؤال سخيف وجاهل لا ينطوي على شيء من حسن النية أو سلامة التفكير أو رجاحة العقل. وذلك ديدنهم طيلة تاريخهم العابث الطويل. وهو ديدن السفهاء واللهو وفساد النية أو إطلاق العنان للسان بغير تحفظ ليهرف تهريفا أو يبعث بالعبارة في تسيب وثرثرة.
مع أن القضية هينة وبالغة اليسر لو صلحت النوايا وصفت القلوب وانتظم التفكير انتظاما يباعد بينه وبين الثرثرة السخيفة والتصور الهابط اللئيم.
إن القضية واضحة ويسيرة لمن يبتغي الوضوح واليسر، وهي أساسها أن الجهات جميعا لله وهي جزء من ملكوت الله العظيم المطلق، وهو سبحانه يأمر بالتوجه مثلما يريد سواء كان ذلك صوب الكعبة أو الشام أو المشرق أو المغرب ؛ فكل أولئك ملك لله الكبير المتعال ؛ ولذلك جاء الرد وجيزا ومؤثرا وحاسما ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ويشبه ذلك قوله سبحانه في آية أخرى سابقة تبين أن التقوى والخير والصلاح إنما يتحقق بالإيمان الصحيح المقترن بالعمل المشروع الصالح وليس بالمظاهر الشكلية التي يحددها التوجه نحو الشرق أو الغرب ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله... ).
قوله :( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) يريد الله أن يهدي هذه الأمة إلى القبلة العظيمة قبلة إبراهيم عليه السلام لتكون القبلة المتبعة حتى آخر الزمان. والله جلت قدرته يهيء لعباده الصالحين من الأسباب ما ييسر لهم الاهتداء والمسير على الصراط المستقيم وهو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه. وإذا فرط الناس في ما تهيأ لهم من أسباب الهداية كانوا من المفرطين الذين أوردوا أنفسهم موارد الخسران والهلاك.
نود أن نمر على بعض المسائل التي تنبثق عن هذه الآية لنناقشها من الوجهة الشرعية. منها : وقت تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة، أو حجم المدة التي توجه النبي والمسلمون خلالها نحو بيت المقدس بعد أن غادروا مكة إلى المدينة مهاجرين. فقد ذكر أن ذلك كان ستة عشر شهرا. وذلك ما أخرجه البخاري والدارقطني عن الباء قال : صلينا مع رسول الله ( ص ) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس. وقيل سبعة عشر شهرا استنادا إلى ما ذكر من رواية أخرى.
ومنها : كيفية استقبال بيت المقدس فهل كان ذلك عن رأي واجتهاد من النبي ( ص ) أو أن ذلك بناء على أمر من الله ووحي ؟ والذي عليه جمهور العلماء وفيهم ابن عباس أن استقبال النبي لبيت المقدس لدى مقدمه إلى المدينة كان بناء على أن وتوجيه من الله، ثم نسخ ذلك بوجوب استقبال الكعبة. ودليل قوله سبحانه :( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ). وذلك الذي نميل إليه ونرجحه.
ومنها : حين فرضت الصلاة على النبي والمسلمين في مكة، هل كانت قبلتهم حينئذ الكعبة أم بيت المقدس. جاء في ذلك قولان. فقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن النبي والمسلمين كانوا يستقبلون وهم في مكة بيت المقدس، وظلوا كذلك حتى هاجروا إلى المدينة ومكثوا يستقبلونه سبعة عشر شهرا أخر إلى أن أمرهم الله بالتوجه صوب الكعبة.
وثمة قول آخر، وهو المعتمد والذي نرجحه، وهو أن قبلة المسلمين الأولى كانت الكعبة فقد أمروا- وهم بمكة- بالتوجه إلى الكعبة كأول قبلة حتى هاجروا إلى المدينة فصرفهم الله إلى الشام حيث بيت المقدس إذ صلى صوبه ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على الخلاف عسى أن يكون في ذلك تطييبا لقلوب يهود واستمالة لمشاعرهم فيما قد يكون سببا في ترغيبهم في الإسلام. وبعد ذلك أمر النبي والمسلمون بالتوجه إلى الكعبة مرة أخرى.
ومنها : أن القبلة أول ما نسخ من القرآن وأنها نسخت مرتين، كذلك أجمع العلماء. أما المرتان اللتان وقع فيهما النسخ على القبلة فإحداهما نسخ التوجه إلى مكة ؛ ليستقبل المسلمون بيت المقدس. وثانيتهما نسخ هذا الحكم ليستقبلوا الكعبة مرة أخرى٢.
ومنها : جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو المعتمد عند الأصوليين مع أن هذه مسألة خلافية. وقد ذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء إلى أن السنة تنسخ بالكتاب. وقالوا : إن ذلك جائز عقلا وشرعا. أما جوازه عقلا فبيانه أن الكتابة والسنة كليهما وحي من الله، لكن السنة وحي غير متلو. ونسخ أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلا. أما جوازه شرعا فهو وقوعه، كمسألتنا هذه، وهي نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه نحو الكعبة. وهو ما يقتضيه قوله تعالى :( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ) والآية فيها الدليل على جواز نسخ السنة بالقرآن. وكيفية ذلك أن صلاة النبي في المدينة نحو بيت المقدس كانت حكما مبنيا على السنة أصلا إذا لم ينزل في هذا الحكم قرأن. حتى نسخ هذا الحكم باستقبال الكعبة ؛ بناء على ما نزل من القرآن كقوله تعالى :( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ٣.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٨٩..
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٨٩- ١٩٠..
٣ - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي جـ ٢ ص ٢٦٩، والمحصول للرازي جـ ١ ص ٥٥٣- ٥٥٥..
وقوله :( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) اسم الإشارة في قوله كذلك يتعلق بتحويل القبلة نحو الكعبة. أي حولنا قبلتكم إلى الكعبة لتكونوا ( أمة وسطا ) والوسط هو العدل والأجود والخيار، وهو موضع الثناء والتفضيل، وجاء في في الحديث الشريف : " خير الأمور أوسطها " ١ ويقول الإمام علي رضي الله عنه : " عليكم بالنمط الأوسط ؛ فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل ".
لقد جعل الله هذه الأمة بين الأمم وسطا ؛ لتكون خير البشرية كافة بما أوتيت من خصائص مميزة قمينة بتفضيلها تفضيلا ظاهرا. وهي خصائص تتجلى في كمال الكتاب المعجز الحكيم الذي جاء حاويا لخبر الأولين والآخرين، وفيه صلاح البشرية في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. وتتجلى كذلك في كمال الشريعة والمنهاج اللذين يغطيان واقع الحياة كلها بما فيها من قضايا السياسة والتربية والاقتصاد والسلوك ومطالب النفس والروح جميعا.
وتتجلى أيضا في الموقف المتميز السليم المجانب لكلا الإفراط والتفريط، وهاتان ظاهرتان مرفوضتان مغايرتان لطبيعة الإسلام القائمة على الاعتدال ومراعاة الفطرة السليمة، ومعلوم أن الإسلام دين وسط، فلا هو بالإفراط كالذي عليه اليهود من حيث تحريفهم للتوراة بما يلائم شهواتهم ويميل معها ميلا عظيما، ولا هو بالتفريط الذي عليه النصارى وذلك من حيث عزوفهم في ملتهم عن الحياة وما فيها من طيبات إلى الدرجة المغالية المذمومة التي لا تطاق والتي تحتسب ضربا من العذاب يؤز النفس ويؤلم الجسد.
ومن جهة أخرى فقد كان اليهود مفرّطين ؛ وذلك لاجترائهم المذهل على أنبيائهم بالقتل والضرب والتكذيب والتعذيب، أما النصارى فقد كانوا مفرطين ( بسكون الفاء ) ؛ وذلك لغلوهم المسرف في إجلال نبيهم عيسى عليه السلام حتى أحلوه مقام الإله، لكن أمة الإسلام ليست على شيء من ذلك. ولكنها الأمة المعتدلة الوسط التي تقوم على المحجة المستقيمة والتي تنفر من التفريط والإفراط. فهي أمة لا تعبد أحدا سوى الله، وترتكز في عقيدتها على أساس ثابت مكين واحد هو التوحيد القائم على أعظم مقولة في دين الإسلام وهي " لا إله إلا الله ".
وينظر المسلمون للأنبياء جميعا على أنهم عباد مصطفون أبرار قد اختارهم الله من بين خلقه لتناط بهم أمانة التبليغ. فهم بذلك أناس من جنس البشر، لكنهم يفوقون البشر بما أوتوه من حظوة الاصطفاء، وبما ركب في شخوصهم وفطرتهم من زخم الروح والاستعداد الذاتي العظيم ومن العصمة التي تدرأ عن طبائعهم مقارفة الخطايا.
قوله :( لتكونوا شهداء على الناس ) اللام للتعليل، وواو الجماعة اسم تكون في محل رفع، ( شهداء ) خبر ومفردها شاهد أو شهيد.
وهذه خصيصة أخرى من كبريات الخصائص لهذه الأمة المبجلة الوسط. وتتجلى هذه الخصيصة لهذه الأمة في كونها شهيدة على الناس يوم القيامة ؛ إذ تشهد لهم أو عليهم بما أسلفوه من أعمال.
وفي هذا الصدد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده عن النبي ( ص ) أنه قال : " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم، فيُدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح : من يشهد لك، فيقول محمد وأمته ".
وأخرجه الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ص ) : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا. فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم. فيقال : من يشهد لك فيقول : محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم. فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا ".
هذا هو تأويل الشهادة لهذه الأمة على الناس يوم القيامة. وفي ذلك إبراز للشأن العظيم الذي تحتله هذه الأمة بما يجعلها خير أمة أخرجت للناس، ويجعلها كذلك أمة وسطا لتقف على ذروة السنام من التكريم والاعتبار في الدنيا والآخرة.
قوله :( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) القبلة التي كان النبي عليها هي بيت المقدس. فهي قبلته والمسلمين حال هجرتهم إلى المدينة وذلك بأمر وتوجيه من الله سبحانه ؛ ليميز أهل اليقين من الشك وليستبين الذين يثبتون في الطريق وهم ماضون على صراط الله وعلى منهجه القويم، ثم الذين ينكصون على أعقابهم وينتكسون انتكاسة المرتدين الأشقياء.
قوله :( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) كان تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى مكة أمرا كبيرا أثار الاهتمام والتساؤل من كثير من الناس، وهو كذلك حدث يثير دهشة يهود وكثيرين غيرهم ممن راعهم هذا التحول غير المتوقع ؛ لذلك كانت قضية تحويل القبلة بالنسبة لأولئك جميعا أمرا عظيما قد تمخض عن فتنة أفقدت ضعاف العزيمة والعقيدة جل إيمانهم أو بعضه ( إلا على الذين هدى الله ) فإنه يستثني من هؤلاء المفتونين المنتكسين من ثبتوا على الحق ولم يزعزعهم إعصار الفتنة ممن هدوا إلى الامتثال لأمر الله والانقياد لشرعه وما أنزله من تكليف مهما كان ثقيلا أو عسير الاحتمال.
قوله :( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) كان ذلك جوابا عن سؤال طرحه بعض المسلمين عن مصير الذين صلوا نحو بيت المقدس ثم ماتوا من قبل أن تحول القبلة نحو مكة، فهل هم مأجورون على استقبالهم الأول ؟ فقد أخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس أن قوما كانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم ماتوا، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله هذه الآية. وبذلك فإن الله لا يضيع أجر هؤلاء العاملين الذين استقبلوا بيت المقدس في صلاتهم طيلة مقامهم في المدينة من قبل أن تحول القبلة إلى البيت الحرام٢. أما قوله :( إيمانكم ) أي بالقبلة الأولى التي كنتم عليها وذلك بناء على اتباعكم أمر نبيكم إذ توجه صوب بيت المقدس فأطعمتموه وتوجهتم معه دون مُشاقة أو خلاف. ولا شك أن ذلك كله منوط بإيمانكم بالله ورسوله وأنكم تتصرفون وتنشطون تبعا لما تفرضه العقيدة.
قوله :( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) ذلك تعقيب على ما سبق من حكم، وهو تعقيب ينسجم تماما مع ما سبقه من معنى، وبذلك يأتي الحكم السابق والتعقيب اللاحق في الآية مؤتلفين تمام الائتلاف ومتسقين غاية الاتساق. فالله جلت قدرته لا يظلم الناس شيئا ولا يحرم أحدا من حقه مثقال ذرة، حتى إن كانت هذه حسنة، فإنه يضاعفها أضعافا كثيرة. وهو سبحانه لن يتر العالمين المتقين الذين صلوا نحو القدس أجورهم فهو سبحانه ( بالناس لرءوف رحيم ) الرؤوف من الرأفة وهي أشد من الرحمة. فالله تباركت أسماؤه من حيث رحمته بالمخاليق ليس كمثله أحد ورحمته بالعباد بالغة مطلقة لا تعرف الحدود.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين لولدها، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها. فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله ( ص ) : " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه " ؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال : " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها " ٣
١ - رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة. انظر جامع الأصول جـ ١ ص ٢٢٣..
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٦..
٣ - تفسير بن كثير جـ ١ ص ١٩٢ والكشاف جـ ١ ص ٣١٩..
قوله تعالى :( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذي أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ).
جاء في سبب هذه الآية ما ذكر عن ابن عباس قوله : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) إلى قوله :( فولوا وجوهكم شطره ).
وذكر عن البراء أن النبي ( ص ) قبل بيت المقدس سنة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت، وأنه صلى صلاة العصر وصلى قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بلله لقد صليت مع رسول الله ( ص ) قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وفي رواية عن البراء كذلك قال : لما قدم رسول الله ( ص ) المدينة صلى نحو المقدس ستة عشرا شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فصرف إلى الكعبة١.
إن الله يرى ويعلم تحول وجه النبي ( ص ) إلى السماء متمنيا أن يأمره الله بتحويل قبلته وهو في الصلاة إلى مكة حيث الكعبة الشريفة.
وقد استجاب الله تباركت أسماؤه لهذه الرغبة المستكنة وهذا المطلب القدسي الذي يعتبر عن أصدق معاني الإخلاص والتشوف لأعظم مكان في الأرض، مكة حيث الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا.
استجاب الله لما كان يتمناه النبي ( ص ) إذ أعلمه أنه منجز له رغبته بالفعل حتى يرضى وتطمئن نفسه ( فلنولينك قبلة ترضاها ) وذلك هو الوعد اليقين من الله، الوعد الذي لا يتخلف وهو تحقق حالما أمره الله بالتوجه ناحية الكعبة هو ومن معه ومن بعده من المسلمين إلى قيام الساعة ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) والشطر معناه الجهة أو القصد أو الناحية أو الحيال٢.
واختلف العلماء في حقيقة المراد بالجهة أو الناحية هنا والتي ينبغي على المصلي أن يتوجه صوبها حال الصلاة. فقد ذهب فريق من أهل العلم منهم الشافعي إلى أن المراد بالشطر هنا هو عين الكعبة، فلا تتم صلاة المسلم إلا إذا استقبل عين الكعبة، وذلك استنادا إلى ظاهر قوله :( شطره ) أي جهته المعينة وهي الكعبة. وشطر منصوب على الظرفية المكانية. والهاء ضمير في محل جر مضاف إليه.
وذهب فريق آخر من العلماء وهم الأكثر إلى أن المقصود استقبال الجهة لا العين، وبذلك يكون معنى شطره جهته أو قبله. وذلك هو الراجح في تقديرنا للأدلة التالية :
أولا : ما رواه ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : " البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " وفي حديث آخر عن النبي ( ص ) : " مابين المشرق والمغرب قبله " ٣.
ثانيا : أن التكليف باستقبال العين غير مقدور عليه وهو من باب التكليف بالمحال أو بما يشق كثيرا ؛ إذ ليس محققا أن يكون في مستطاع المصلي استقبال البيت عينه. ويمكن أن ينبني على ذلك :
ثالثا : ما لو تصورنا صفا طويلا من المصلين، فإن من المحال أن يتجه جميعهم إلى نفس البيت، وحقيقة ذلك ما لو كان طول الصف أضعاف طول البيت، فإنه لا يكون في استقباله عينا إلا الذين يتساوى مجموع طولهم مع طول البيت نفسه، أما الآخرون من الصف فلا يستطيعون البتة أن يكونوا قبل البيت بالعين والتحديد ؛ لذلك يمكن الجزم بأن المقصود بالاستقبال الجهة لا العين.
أما المشاهد للكعبة المعاين لها فإن عليه أن يستقبلها نفسها لا محالة، وهو إن ترك مثل هذا الاستقبال المحدد فلا صلاة له، ولا يعذر حينئذ إن صلى صوب أية جهة أخرى، وذلك الذي عليه إجماع العلماء.
وإذا خفيت القبلة على المصلي كأن يجنّ عليه الليل، أو يكون في سجن مظلم أو زنزانة ضيقة حاشرة غابت فيها معالم القبلة فإن على المصلي في مثل هذه الحال أن يتحرى القبلة ما أمكن، حتى إذا بذل الجهد المقدور واستبرأت ذمته من وجوب البحث والتحري جاز له أن يصلي صوب الجهة التي وقع عليها استدلاله٤.
وقوله :( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) هذا المدلول وثيق الصلة بما سبق من أحكام ومدلولات وهو رد على أهل الكتاب- اليهود- الذين ساءهم تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى البيت العتيق مع أنهم ( اليهود ) يعلمون تمام العلم أن عملية التحويل لهي حق لا شك فيه، وأنها قد أوحي بها إلى النبي فامتثل لأمر الله سبحانه. وهم كذلك يقرأون في كتابهم التوراة أن هذا النبي لصادق، وأنه لا ينطق عن الهوى وأن ما جاءهم به إن هو إلا من عند الله ساء في ذلك الأخبار أو التكليفات الدينية مثل تحويل القبلة وغيرها.
قوله :( وما الله بغافل عما يعملون ) ذلك تهديد مخوف يرعب الله به أولئك الجاحدين من أهل الكتاب الذين مردوا على المناكفة الغليظة والتحدي اللئيم، فأبوا إلا الله أن يقاوموا دعوة الإسلام فيناصبوه العداء والحرب من أول مجيئه حتى يومنا هذا وما بعده من أيام إلى قيام الساعة. وبذلك فإن الله يتهدد هؤلاء الفاسدين الجاحدين مرضى النفوس، وينذرهم بعذابه المنتظر والذي سيحيق بهم والله سبحانه ليس بغافل عنهم. وأداة النفي ( ما ) تعمل عمل ليس ولفظ الجلالة اسمها مرفوع. وخبرها غافل والباء زائدة.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٧..
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٣٥..
٣ - رواه الترمذي عن أبي هريرة..
٤ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ١٧٢ وما بعدها وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٤٢ والبدائع جـ ١ ص ١١٨ والمجموع للنووي جـ ٣ ص ٩٢ والمغني جـ ١ ص ٤٣٨...
قوله تعالى :( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ).
وقوله :( ولئن ) اللام موطئة للقسم : والله لئن أتيت. وقوله :( ما تبعوا قبلتك ) جواب القسم المقدر المحذوف سد مسد جواب الشرط.
يبين الله لرسوله في هذه الآية أن أي دليل من المنطق أو الحجة أو الدين لن يحمل اليهود أو النصارى على الاقتناع فيتبعوا القبلة التي استقر عليها حكم الله نهائيا. وهم في ذك لا يدفعهم لمثل هذه المواقف غير التعصب والهوى وشدة المكابرة والعناد.
وكذلك فإن النبي ( ص ) ماضي على الحق باتباعه القبلة الأخيرة وهي البيت العتيق، وهو عليه السلام في ممتثل لأمر ربه مطيع لتوجيهه وشرعه دون أدنى تردد أو وناء. فما كان له البتة أن يتبع قبلة هؤلاء المشركين. والمشركون بدورهم معاندون مكابرون لا يتبعون قبلة الإسلام. بل إن الفريقين المشركين وهم النصارى واليهود مفترقان مختلفان متباينان لا تجمعهما قبلة واحدة، ولا يميل أحدهما لقبلة الفريق الآخر ؛ ولذلك قال :( ومت بعضهم بتابع قبلة بعض ) فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس، ثم يخوف الله عباده المؤمنين ويحذرهم من أتباه الكافرين في أهوائهم مع أنهم يعلمون تمام العلم أن محمدا ( ص ) نبي صادق، وأنه قد أوحي إليه من ربه. فيقول سبحانه في ذلك :( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) وبالرغم من أن الخطب في ظاهره موجه للنبي ( ص )، لكن المقصود به المسلمون. فهم الذين يتعرضون لأسباب الفتنة وكل ظواهر الغواية والترهيب والتضليل والخداع، لكن النبي ( ص ) معصوم، مميز بفطرته المثلى وسجاياه العظام، لاجرم أنه لا تنال منه أعصاير الفتنة بكل ضروبها وألوانها.
قوله :( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) ( الذين ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره الجملة الفعلية ( يعرفونه ) وفي هذه الآية يبين الله لنبيه والمسلمين أن اليهود لا يكذبون عن قناعة ويقين، وإنما ذلك عن تعصب فاسد وجحد مكشوف لئيم. ذلك أنهم يعرفون حقيقة هذا النبي وأنه لصادق، فقد كانوا يقرأون في كتابهم ( التوراة ) عن خبره قبل مبعثه، وكانوا كذلك يعزمون على مناصرته وتأييده، لكنه ما أن ابتعث الله هذا النبي الكريم الخاتم حتى كانت يهود أشد الناس له عداوة، وأشدهم عليه تحريضا واستفزاز وتمالؤا مع أنهم يعرفون شخصه وصدق نبوته مثلما يعرفون أبناءهم. والمرء أشد ما يكون معرفة بابنه ؛ وذلك لشدة تشبثه ولصوقه به ولعظيم رأفته به وفرط حدبه عليه ؛ لذلك قال سبحانه :( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) إن فريقا من يهود يخفون خبر النبي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ( وهم يعلمون ) يعلمون أن النبي حق، وأنه لصادق، ويعلمون أيضا أنهم كاذبون متعصبون، وأنهم لا يتورعون عن الخيانة والخداع والتضليل.
وقوله :( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) ( الحق ) مبتدأ مرفوع، وشبه الجملة بعده في محل رفع خبر. وقيل الحق منصوب على المفعولية لفعل محذوف تقديره لزم. الله جلت قدرته يثبت قلب النبي ( ص ) والمسلمين من بعده ويبين لهم أنهم على الحق، سواء في ذلك استقبال القبلة الجديدة أو الدين العظيم الذي كتبه الله لهم طريق ومنهاجا. إن الله يبين لهم ذلك ؛ ليثبتوا على الحق وليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وليظلوا على الدوام مستمسكين بحبل الله المتين، فلا يحيدوا أو يضلوا ولا يكونوا من ( الممترين ) وهو اسم فاعل من الامتراء ومعناه الشك، ومنه المرية والتماري. والفعل امترى وتمارى أي شك١. وفي هذا يحذر الله عباده من الوقوع في الشك فيظلوا مزعزعين مترددين متلجلجين٢.
١ - مختار الصحاح ص ٦٢٢..
٢ -- الكشاف جـ ١ ص ٣٢١ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٨٢ وفتح القدير جـ ١ ص ١٥٥..
قوله تعالى :( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فوق وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) ( ولكل ) جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم، ( وجهة ) مبتدأ مؤخر مرفوع. ( هو ) ضمير في محل رفع مبتدأ ( موليها ) خبر، والهاء ضمير في محل جر مضاف إليه. والجملة ( هو موليها ) في محل رفع صفة للمبتدأ الأول ( وجهة ) ١ والوجهة أو الجهة على نفس المعنى والمراد بها القبلة. وموليها بمعنى متوليها أو متوجه نحوها. يقول سبحانه في ذلك أن لكل من الفريقين قبلة يتوجه صوبها. فالمسلمون يستقبلون قبلتهم التي صاروا إليها أخيرا وهي الكعبة، وأهل الكتاب لهم قبلتهم نحو الشام حيث بيت المقدس. لكن أهل هذه الملة الخاتمة هم المؤمنون حقا ؛ لاعتصامهم بحبل الله، وطاعته له من غير عصيان، وامتثالهم لأوامره غير ممترين ولا مترددين. ومعلوم أن أهل هذه الملة ما أن بلغهم الأمر باستقبال القبلة الجدية حتى بادروا التوجه نحوها طائعين مستسلمين وفي الحال بادروا ممتثلين خاضعين من غير تردد في ذلك ولا ارتياب.
قوله :( فاستبقوا الخيرات ) أي بادروا في تسابق جاد وعازم لفعل الخيرات وهي بعمومها تتناول كل وجوه الطاعة والامتثال من صلاة وزكاة وجهاد وإكرام الجار وبر بوالدين وإغاثة للمضطر والمكروب والملهوف حتى إماطة الأذى عن الطريق. ذلك كله من وجوه الطاعة والصلاح التي يتناولها مفهوم الخيرات. وهي جميعا قد دعا الله سبحانه لمبادرتها في نشاط لا يعرف التثاقل، وفي حماسة لا يناسبها الخذلان أو التلبد أو العجز. ينبغي أن يبادر المؤمنون فعل الخيرات جميعا في همة عالية وجد مندفع، يحفزهم لذلك العقيدة المؤثرة الفعالة التي تربط المؤمن به برباط من الثقة واليقين بعظمته وجلاله سبحانه، ليكون مستديم الصلة به وحده دون أحد من خلقه فيظل على الدوام عاملا بشرع الله وفاعلا لأوجه الخير في كل مناحي الحياة.
وقيل : إن المقصود باستباق الخيرات هو المبادرة بالصلاة على وقتها دون تأخير وذلك على الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، مع أنهم متفقون على أفضلية الأداء في أول الوقت. فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله ".
وروى الدارقطني أيضا بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " خير الأعمال الصلاة في أول وقتها ".
وفي رواية ثالثة للدارقطني أن النبي ( ص ) قال : " أول الوقت رضوان الله، ووسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله ".
على أن هناك خلافا بين الفقهاء في بعض الصلوات من حيث أداؤها في وقتها أو تأخيرها. فقد ذهب الشافعي إلى أفضلية أداء الصلاة في وقتها دون تأخير، وهو في ذلك يعني الصلوات الخميس جميعا، سواء في ذلك الظهر أو العشاء الأخيرة، وسواء كانت الوقت صيفا أو شتاء، وذلك استنادا إلى ظاهرة الأدلة من السنة نفسها.
وذهب الإمام مالك إلى أفضلية تأخير صلاة الظهر عن وقتها حتى الإبراد، وذلك في الصيف حيث الحر الشديد ؛ استنادا إلى ما أخرجه البخاري والترمذي بإسندهما عن أبي ذر الغفاري قال : كنا مع النبي ( ص ) في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي ( ص ) : " أبرد " ثم أراد أن يؤذن فقال له : " أبرد " حتى رأينا فيء التلول فقال النبي ( ص ) : " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وهو ما ذهب إليه الإمام مالك أيضا فقد ذكر عنه قوله : أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر لما بينا من أدلة. وتفصيل هذه المسائل في مواطنه من كتب الفقه.
وقوله :( أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ) ( أين ما ) أداة شرط تجزم فعلين. ( تكونوا ) فعل الشرط مجزوم بحذف النون. ( يأت ) جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة من آخره.
بعد الدعوة للاستباق في فعل الخيرات ومبادرة الطاعات دون تأخير، يعيد الله للأذهان فكرة الموت، وهو أمر مريع مخوف جلل لا يطرأ على البال حتى يوقظ فيه دوام الصحو واليقظة، ولا يمس خبره الحس والوجدان حتى يثير في النفس الرهبة والتوجس.
فإن مصير الخليفة إلى الموت المتربص المحتوم، ثم نجد بعد ذلك مساقها إلى الله في يوم حافل بالأهوال والقواصم وحافل بالشدائد والوجل. وذلكم يوم القيامة حيث الحساب الدقيق الكاشف عن الأعمال والنوايا بين يدي الله سبحانه. وهو العالم بالأسرار والأستار، المطلع على خفايا الصدور وهو ( على كل شيء قدير ).
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ١٢٨..
قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ).
قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ).
وقوله :( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ).
هذه آيات ثلاث تتفق من حيث التجانس في العبارة ومن حيث المعنى والمضمون.
وهي آيات يلاحظ فيها التكرار الذي لا يقع في الكتاب الحكيم عبثا، بل إنه تكرار ينطوي على كثير من المعاني والأحكام.
ويمكن القول هنا أن التكرار في هذه الآيات الثلاث حول استقبال الكعبة يحتمل في تعليله أمرين. أحدهما : التأكيد من الله جلت قدرته للنبي والمسلمين على الامتثال في طواعية تامة لاستقبال القبلة الجديدة بعد أن نسخ الحكم السابق وهو استقبال بيت المقدس ؛ وذلك كيلا يجد بعض المسلمين في نفوسهم شيئا من التردد أو الشك أو العنت، وليبادروا التوجه في الحال نحو البيت العتيق ؛ تنفيذا لكلمة الله وتحقيقا لأمره الذي لا معقب له.
الثاني : أن التكرار ينطوي على جملة فوائد شرعية تفصيلية في تبيين كيفية التوجه والاستقبال في مختلف الحالات أو الظروف أو المواضع :
منها : أن من عاين الكعبة مُشاهدة أو حسا عليه أن يتوجه نحوها عينها بالذات، وإذا لم يفعل ذلك كأن يتجه صوب جهة أخرى مخالفة فإنه لا صلاة له أو كالذي افتقد شرطا أساسيا من شروط الصلاة وهو استقبال القبلة، وقيل بل هو ركن من أركانها على الخلاف.
ومنها : أن من كان في مكة، لكنه لم يشاهد البيت فعليه أن يستقبل المسجد الحرام حيث الكعبة.
ومنها : أن من كان خارج مكة من مختلف البلدان فعلية أن يتوجه في قبلته نحو مكة، وقد بينا سابقا الحديث حول هذه المعاني إذ يقول الرسول ( ص ) : " البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ".
ومنها : إذا سافر المسلم وأراد أن يقوم للصلاة فعليه أن يتوجه نحو القبلة أول دخوله الصلاة حين التحريم، ولا جناح عليه بعد ذلك إذا ما اتجهت به السفينة أو الطائرة أو وسيلة النقل نحو أية جهة أخرى مغايرة.
وقوله :( لئلا يكون للناس على الله حجة ) الحجة المحاجة وهي المخاصمة أو المجادلة. والمراد أن الله شرع لكم الكعبة قبلة تتوجهون نحوها في الصلاة حيثما كنتم، ولا يشترط في ذلك أن يكون التوجه نحو العين ما دمتم منتشرين في بقاع الأرض ولم تستطيعوا معاينة البيت أو مشاهدته. فإن قال لكم المشركون : كيف تستقبلون البيت ولستم ترونه، فإن سؤالهم أصبح غير ذي قيمة مادام المقصود هو الجهة لا العين.
قال القرطبي في تأويل هذه الآية : لا حجة لأحد عليكم إلا حجة الداحضة إذ قالوا :( ما ولاهم )، وتحير محمد في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق.
وقوله :( إلا الذين ظلموا منهم ) أي ليس لأحد عليكم حجة إلا الحجة الداحضة التي تفرزها ألسنة الظالمين من أعدائكم، وهي حجة قائمة على الفساد وانتفاء التفكير السليم.
وقوله :( فلا تخشوهم واخشوني ) " لا " تفيد النهي. ( تخشوهم ) فهل مجزوم بحذف النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل. والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والميم للجميع. أما الخشية فهي الخوف، فإن الله يحذر عباده المؤمنين من خشية الناس بل عليهم أن يخشوا ربهم وحده ؛ فإنه أحق أن يخشاه الناس.
وقد تنتاب قلب المرء غاشية من الخوف من البشر. فإنه لا إثم في ذلك مادامت هذه الخشية لم تؤثر في عزيمة المؤمن ولم تخفف من طاعته وامتثاله لأوامر الله، لكن الخشية من الناس إذا ما كانت سببا في اجتيال العباد عن عقيدتهم وفتنتهم عن دينهم، أو كانت سببا في زعزعة الإيمان وتبديده في النفوس فيما يحرف المؤمنين عن صراط الله ليسيروا في طريق الباطل والشهوات.
قوله :( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) تمام النعمة من الله على عباده المؤمنين بجعلهم ملتئمين منسجمين على أساس من عقيدة الإسلام لمتينة الثابتة التي تقوم على التوحيد وعلى أساس من أخوة الإيمان تؤلف بين قلوب هذه الأمة ؛ ليكونوا متحدين في تصوراتهم وتطلعاتهم وأهوائهم، وليكونوا متوجهين نحو قبلة ثابتة واحدة هي البيت العتيق الذي كتبه الله للناس مثابة وأمنا. وفي ذلك كله ما يجعل أتباع هذه الملة في نعمة من الله وفي هداية منه سبحانه. لا جرم أن الله كتب لهذه الأمة الهداية، فهي على المحجة البيضاء، والطريق السوي السليم. وهو قوله :( ولعلكم تهتدون ) ١.
١ - تفسير النسفي جـ ١ ص ٨٢ والكشاف جـ ١ ص ٣٢٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٩:قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ).
قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ).
وقوله :( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ).
هذه آيات ثلاث تتفق من حيث التجانس في العبارة ومن حيث المعنى والمضمون.
وهي آيات يلاحظ فيها التكرار الذي لا يقع في الكتاب الحكيم عبثا، بل إنه تكرار ينطوي على كثير من المعاني والأحكام.
ويمكن القول هنا أن التكرار في هذه الآيات الثلاث حول استقبال الكعبة يحتمل في تعليله أمرين. أحدهما : التأكيد من الله جلت قدرته للنبي والمسلمين على الامتثال في طواعية تامة لاستقبال القبلة الجديدة بعد أن نسخ الحكم السابق وهو استقبال بيت المقدس ؛ وذلك كيلا يجد بعض المسلمين في نفوسهم شيئا من التردد أو الشك أو العنت، وليبادروا التوجه في الحال نحو البيت العتيق ؛ تنفيذا لكلمة الله وتحقيقا لأمره الذي لا معقب له.
الثاني : أن التكرار ينطوي على جملة فوائد شرعية تفصيلية في تبيين كيفية التوجه والاستقبال في مختلف الحالات أو الظروف أو المواضع :
منها : أن من عاين الكعبة مُشاهدة أو حسا عليه أن يتوجه نحوها عينها بالذات، وإذا لم يفعل ذلك كأن يتجه صوب جهة أخرى مخالفة فإنه لا صلاة له أو كالذي افتقد شرطا أساسيا من شروط الصلاة وهو استقبال القبلة، وقيل بل هو ركن من أركانها على الخلاف.
ومنها : أن من كان في مكة، لكنه لم يشاهد البيت فعليه أن يستقبل المسجد الحرام حيث الكعبة.
ومنها : أن من كان خارج مكة من مختلف البلدان فعلية أن يتوجه في قبلته نحو مكة، وقد بينا سابقا الحديث حول هذه المعاني إذ يقول الرسول ( ص ) :" البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ".
ومنها : إذا سافر المسلم وأراد أن يقوم للصلاة فعليه أن يتوجه نحو القبلة أول دخوله الصلاة حين التحريم، ولا جناح عليه بعد ذلك إذا ما اتجهت به السفينة أو الطائرة أو وسيلة النقل نحو أية جهة أخرى مغايرة.
وقوله :( لئلا يكون للناس على الله حجة ) الحجة المحاجة وهي المخاصمة أو المجادلة. والمراد أن الله شرع لكم الكعبة قبلة تتوجهون نحوها في الصلاة حيثما كنتم، ولا يشترط في ذلك أن يكون التوجه نحو العين ما دمتم منتشرين في بقاع الأرض ولم تستطيعوا معاينة البيت أو مشاهدته. فإن قال لكم المشركون : كيف تستقبلون البيت ولستم ترونه، فإن سؤالهم أصبح غير ذي قيمة مادام المقصود هو الجهة لا العين.
قال القرطبي في تأويل هذه الآية : لا حجة لأحد عليكم إلا حجة الداحضة إذ قالوا :( ما ولاهم )، وتحير محمد في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق.
وقوله :( إلا الذين ظلموا منهم ) أي ليس لأحد عليكم حجة إلا الحجة الداحضة التي تفرزها ألسنة الظالمين من أعدائكم، وهي حجة قائمة على الفساد وانتفاء التفكير السليم.
وقوله :( فلا تخشوهم واخشوني ) " لا " تفيد النهي. ( تخشوهم ) فهل مجزوم بحذف النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل. والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والميم للجميع. أما الخشية فهي الخوف، فإن الله يحذر عباده المؤمنين من خشية الناس بل عليهم أن يخشوا ربهم وحده ؛ فإنه أحق أن يخشاه الناس.
وقد تنتاب قلب المرء غاشية من الخوف من البشر. فإنه لا إثم في ذلك مادامت هذه الخشية لم تؤثر في عزيمة المؤمن ولم تخفف من طاعته وامتثاله لأوامر الله، لكن الخشية من الناس إذا ما كانت سببا في اجتيال العباد عن عقيدتهم وفتنتهم عن دينهم، أو كانت سببا في زعزعة الإيمان وتبديده في النفوس فيما يحرف المؤمنين عن صراط الله ليسيروا في طريق الباطل والشهوات.
قوله :( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) تمام النعمة من الله على عباده المؤمنين بجعلهم ملتئمين منسجمين على أساس من عقيدة الإسلام لمتينة الثابتة التي تقوم على التوحيد وعلى أساس من أخوة الإيمان تؤلف بين قلوب هذه الأمة ؛ ليكونوا متحدين في تصوراتهم وتطلعاتهم وأهوائهم، وليكونوا متوجهين نحو قبلة ثابتة واحدة هي البيت العتيق الذي كتبه الله للناس مثابة وأمنا. وفي ذلك كله ما يجعل أتباع هذه الملة في نعمة من الله وفي هداية منه سبحانه. لا جرم أن الله كتب لهذه الأمة الهداية، فهي على المحجة البيضاء، والطريق السوي السليم. وهو قوله :( ولعلكم تهتدون ) ١.
١ - تفسير النسفي جـ ١ ص ٨٢ والكشاف جـ ١ ص ٣٢٣..

قوله تعالى :( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) الكاف في قوله كما متعلقة بما قبلها وهي في محل نصب نعت لمصدر ومحذوف تقديره إتماما. وبذلك يكون تقدير المعنى : ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثلما أرسلنا فيكم رسولا منكم وقيل : نعت لمصدر محذوف وتقديره اهتداء. أي ولأتم نعمتي عليكم اهتداء مثل ما أرسلنا١.
وذلك تذكير من الله للمؤمنين بنعمته التي جعلها لهم مثل إرساله محمدا ( ص ) من بينهم هاديا لهم ومرشدا يتلو عليهم آيات الله سبحانه وفيها من الترشيد وخير البيان ما يخرجهم من الظلمات إلى النور، وما يطهرهم من دنس الجاهلية الضالة وما فيها من أدران الشرك وأوضار الباطل.
قوله :( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) ( الكتاب )، يعني القرآن ( الحكمة ) معناها السنة النبوية، على الراجح من أقوال العلماء. فإن النبي ( ص ) مخول من ربه بتبيين الكتاب للناس في سنته القولية والعملية ؛ وذلك ليعلموه وليقفوا على حقائقه وتفصيلاته وما انطوى عليه من معان وأحكام وبينات مما لم يكونوا يعلمون من قبله بمثله.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٩..
قوله :( فاذكروني أذكركم ) الذكر هو تنبه القلب وتيقظه. والمقصود بالذكر هنا طلب الطاعة من العباد لله. فالله سبحانه يأمر الناس بطاعته والخضوع لأمره في ذلك وخشية ليذكرهم بالمغفرة والرحمة وحسن الثواب، بل إن الجزاء الذي يُنعم الله به على العباد لهو أعظم من ذكرهم ( طاعتهم وخضوعهم ) الذي يقدمونه. فما من طاعة يقوم بها العبد لربه إلا جوزي بأعظم منها.
فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن أنس قال : قال رسول الله ( ص ) : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الملائكة – أو قال : في ملأخير منه- وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة ".
قوله :( واشكروا لي ولا تكفرون ) الشكر هو الاعتراف بالنعمة وفعل الطاعة وترك المعصية. وبذلك فإن الشكر يكون باللسان مع إقرار القلب المؤمن بالنعمة، ويرافق ذلك كله العمل بأوامر الله. فإنه لا يجدي شكران باللسان وإقرار بالقلب من غير اقتران بالطاعة. بل إن الشكران على وجهة الأتم إنما يكون بالقول والعمل مع انعقاد القلب على الإقرار والخضوع. وأيما انتقاص من ذلك لسوف يكون كفرانا قد نهى الله عنه فقال :( ولا تكفرون ) والكفر هو الستر والتغطية. ويراد به هنا الجحود لنعمة الله. فإن العبد المؤمن مدعو لذكر الله بطاعته، ومدعو كذلك لشكرانه بالاعتراف بنعمه وفضله عليه وعدم كفرانه لهذه النعمة ؛ فإن جحد هذه النعم لهو الكفران١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٧١ والكشاف جـ ١ ص ٣٢٣..
قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) تلك دعوة للمؤمنين الذين يواجهون في طريقهم العراقيل والنوائب والصعاب، من أجل أن يستعينوا على ذلك كله بالصبر والصلاة. وهذان طريقان يقودان في النهاية إلى خير عاقبة. فإما النصر والغلبة في هذه الدنيا أو النجاة والرضوان يوم القيامة حيث الجنة الخالدة والنعيم المقيم.
والصبر لغة معناه حبس النفس عن الجزع. وبذلك فإن الإنسان الصابر هو الذي يحبس نفسه عن مواطن السقوط والضعف، فلا يضل أو يهوي، وقد ورد أن الصبر أنواعه ثلاثة : صبر على ترك المحارم والمعاصي، وصبر على فمعل الطاعات والقربات، وصبر عل المصائب والنوائب كالمرض أو الفقر أو موت قريب أو عزيز.
والله جلت قدرته يدعو المؤمنين في كلامه هذا أن يستعينوا – حال مضيهم على طريق الله والدعوة إليه- ( بالصبر والصلاة ) فإن الصبر خير ما يهتدي إليه الإنسان الداعية ليظل قوي الأعصاب والبأس، فلا تنال منه الشدائد والفتن. وكذلك الصلاة فإنها من خير ما يفر نحوها المؤمن إذا انتابته النوائب والمحن، فإنه في الصلاة تجد النفس أمنها وسكينتها، ويجد القلب رجاءه وطمأنينته، فيهدأ هدوء الآمن من المحبور. حتى إذا فرغ من الصلاة وجد في نفسه من اشتداد العزم والهمة ما يزداد به ثباتا وحماسة واستعصاما.
ولقد كان من شأن الرسول ( ص ) إذا حزبه أمر صلى ؛ لما في الصلاة من عذوبة الأمن والطمأنينة وسكون الأعصاب الفائزة المضطربة في ساعات تتوالى فيها الكروب وتشتد فيها الأحوال والخطوب. ولا يجد المؤمن العابد المبتلى حينئذ من مندوحة إلا الفرار إلى الله يبث إليه الشكوى، ويطرح ما في نفسه من لواعج التأزم والأسى، وذلك عبر خطاب يجلله الخشوع في الصلاة أو الدعاء، وبعد ذلك سوف يجد المؤمن العابد الصابر أنه غير مسيب ولا منقطع، وأنه في رعاية الله وكلاءته ( إن الله مع الصابرين ).
قوله :( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ).
قوله :( أموات بل أحياء ) أموات وأحياء، مرفوعان ؛ لأن كل واحد منهما خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير : هو أموات، بل هم أحياء١ ينهى لله عن تصور الموت لمن يقتل في سبيل الله شهيدا. فإن الشهادة عظيمة الأمر والقدر. وإن الشهداء صنف مميز من الناس الذين كتب الله لهم الرفيع من الدرجات، ليجيئوا في المنزلة بعد النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقا.
وفي هذه الآية برهان على أن الشهداء باقون أحياء، وأنهم لا يموتون، كقوله تعالى في آية أخرى :( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فهم دائمو الحياة بعد مقتلهم، وذلك على كيفية لا نعلمها نحن. وما نجاوز في العلم غير هذا الحد الذي بينته الآية هنا. وهو أن الذين يقتلون في سبيل الله أحياء غير أموات. أما تفصيل ذلك وبيان كيفيته فما أحاطنا القرآن من علم ذلك شيئا. فقال سبحانه :( ولكن لا تشعرون ) لا ندري كيف يظلون أحياء. وفي صورة أو كيفية. وما نوع الحياة التي جعلت لهم بعد الفوز بالشهادة، فهل هي حياة كحياتنا في هذه الدنيا، أم هي حياة من جنس آخر ؟.
١ - الأنباري جـ ١ ص ١٢٩..
قوله تعالى :( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البلاء معناه المحنة، والابتلاء هو الامتحان والاختبار١. ذلك أن الله يؤكد لعباده المؤمنين أنهم لا بد مبتلون وأن الله ممتحنهم بضروب من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وكل صورة من صور البلاء هذه نقضّ الإنسان وتنال من عزمه وراحته إلا أن يعتصم برباط العقيدة ليزداد يقينا وثباتا، ثم يجد من سلاح الصبر ما يحقق له الأجر وعظيم الجزاء. والله جلت قدرته يبتلي عباده المؤمنين بشيء من هذه البلايا وليس بها جميعها فهو سبحانه يبتلي عبده بشيء من الخوف أي كان مصدره أو سببه، ثم بشيء من الجوع وهو قاس وأليم يُسام الإنسان به مرارة الطوى. ثم بنقص من الأموال كيفما كانت صورة هذا الانتقاص، سواء بالجدب والقحط عقيب احتباس المطر، أو نتيجة لجائحة من الجوائح تأتي على الزروع والثمرات، أو بسبب فناء يعصف بالماشية والأنعام، أو كساد يصيب أموال التجارة فأفضى بها إلى الفساد والخسارة.
وكذلك يبتلي الله عباده المؤمنين بمصيبة الموت، كأن يموت للمؤمن قريب أو حبيب يثير فيه بالغ الحزن والأسى.
ويبدو من صيغة التأكيد ( لنبلونكم ) والتي ترد في معنى القسم أن من سنة الله أن يُبتلى المؤمنون في أمنهم بالخوف، وفي قوتهم بالجوع، وفي أموالهم وثمراتهم بالنقصان والخسران، ثم في أنفسهم بالموت ؛ ليكون في ذلك امتحان عسير يمحص الله به المؤمنين الصابرين، أو يميز الثابتين الأقوياء من الضعفاء الخائرين الذي يجزعون في الشدة ويتملكهم الروع والهلع.
ثم يأمر الله نبيه ( ص ) أن يبشر الصابرين بجزيل الثواب وعظيم الأجر على صبرهم واحتمالهم دون أن يميلوا أو يتزعزعوا.
١ - مختار الصحاح ص ٦٥..
وقوله :( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) أولئك هم الصابرون الذين يبشرهم الله على لسان نبيه الكريم، والذين يبادرون بكلمة الحق التي تعلن الولاء الكامل لله والإقرار المطلق بأنه سبحانه مالك كل شيء ؛ فهو مالك الناس والأموال والخيرات والثمرات، وأنه ما من شيء إلا هو راجع إليه وذلك في يوم حافل معلوم. يوم تتلاقى فيه الأحياء جميعا لتجد جزاءها والحساب.
على أن الصبر على المحن إنما يكون معتبرا إذا كان عند صدمة الخبر الفادح، فإذا ما ثبت المؤمن لدى ورود الصدمة واسترجع فذلكم الذي له البشرى بالرحمة والرضوان. وفي ذلك قد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( ص ) قال : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ".
وشرط الصبر لتمامه وكمال شرفه ألا يجزع المبتلى عند صدمة الخبر الداهم، وألا يبث للناس شكايته على سبيل الإياس والزعزعة والابتئاس، ولكن ليكظم ألمه ويحبس نفسه عن البث والشكوى أو الأنين في ضعف وخور.
ولا تنحصر المصيبة في أنواع معلومة مما يصيب الإنسان فيؤزه ويؤلمه، ولكنها تشمل كل صورة من صور الابتلاء مهما كان حجمها أو تأثيرها. وبذلك فإن المصيبة كما يراها الدين تتضمن كل وجه من وجوه الشر التي تصيب الإنسان فتؤذيه، صغيرا كان الأذى أو كبيرا. فقد ذكر أن مصبح رسول الله ( ص ) قد انطفأ ذات ليلة فقال :( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال : " نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة " وأخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله ( ص ) يقول : " ما يصيب المؤمن من وصب١ ولا نصب٢ ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمُّه إلا كفّر به من سيئاته " ٣.
١ - الوَصَب : المرض أو الوجع. أنظر مختار الصحاح ص ٧٢٤ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٣٣٧..
٢ - النَّصب: التعب. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٥..
٣ - صحيح مسلم (٤/١٩٩٣) برقم ٢٥٧٣..
قوله :( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ( أولئك ) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ. ( عليهم ) جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم. ( صلوات ) مبتدأ مؤخر مرفوع. والجملة الإسمية من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول اسم الإشارة.
والصلوات مفردها صلاة. وهي من الله على عباده تعني العفو والمغفرة والثناء الحسن. اسم الإشارة ( أولئك ) عائد على الصابرين. وهم الثابتون المحتسبون الذين إذا أصابته مصيبة ثبتوا واسترجعوا. فإن أولئك يكرمهم الله بعفوه وغفرانه وينزل عليه رحمته وسلوانه ؛ وذلك لثباتهم وتجلدهم دون جزع أو نكوص. قوله :( وأولئك هم المهتدون ) أي للحق والصواب ؛ حيث استرجعوا وأذعنوا واستسلموا لقضاء الله من غير جزع ولاتبرم.
وقوله تعالى :( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) جاء في سبب نزول هذه الآية أكثر من وجه نذكرها هنا اقتضابا غير مفصل. فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن عروة بن الزبير سألها : أرأيت قول الله تعالى :( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فوالله ما على أحد جناح ألا يتطوف بهما. فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلْتها عليه كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت ؛ لأن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يُهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل وكان من أهلَّ لها يتحرّج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ( ص ) فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل الآية. وقالت ( عائشة ) : ثم قد سن رسول الله ( ص ) الطواف بهما ؛ فليس لأحد أن يدع الطواف بهما.
وفي قول ثان أن الناس يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية فكانوا بذلك يتحرجون من الطواف بينهما، فنزلت الآية من أجل ذلك.
وفي قول ثالث لبعض الأنصار قالوا : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فنزلت الآية.
وفي قول رابع أخرجه الإمام البخاري وهو شبيه بالقول الثاني. وهو أن أنسا رضي الله عنه سئل عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل :( إن الصفا والمروة من شعائر ).
والصفا في اللغة جمع ومفرده صفاة وهي الحجر الصلد الأملس الذي لا يُنبت١.
وأما المروة فهي مفرد وجمعه المرو وهي حجارة بيض براقة توري النار٢.
وذكر القرطبي في تفسيره أن الصفا من الاصطفاء، وقد سميت بذلك ؛ لأن آدم قد اصطفاه الله ليكون صفوته. وهو عليه السلام وقف عليه فسمي به. ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنّث لذلك.
وقوله :( من شعائر الله ) ( شعائر ) جمع مفرده شعيرة وهي تعني العلامة من الشعار، فالشعائر المعالم أو العلامات التي جعلها الله أعلاما للناس يتعبدون عندها.
وحج البيت يعني قصده والتوجه إليه. والاعتمار يراد به العمرة أي الزيارة٣.
أما من الناحية الشرعية فإن المقصود بالتطوف بالصفا والمروة وهو السعي أن المسير بينهما مشيا وهرولة سبع مرات.
وقد ورد أن النبي ( ص ) لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول :( إن الصفا والمروة من شعائر ) ثم قال : " ابدأ بما بدأ الله به " وفي رواية ثانية : " ابدأوا بما بدأ الله به ".
وأخرج الإمام أحمد بإسناده أن النبي ( ص ) كان يطوف بين الصفا والمروة والناس بيد يديه وهو وراءهم وهو يسعى ويقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ".
وفي روية أخرى عنه ( ص ) : " كُتب عليكم السعي فاسعوا ".
أما السعي من حيث الحكم فقد ذهب الشافعي، وأحمد في رواية عنه، ومالك إلى أنه ركن ؛ استنادا إلى النصوص النبوية آنفا.
وذهب أحمد في رواية أخرى عنه وآخرون معه إلى أنه واجب وليس بركن. فمن تركه عمدا أو سهوا أمكن جبره بدم.
وذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وآخرون إلى أن السعي سنة مستحبة.
واحتجوا لذلك بقوله سبحانه :( ومن تطوع خيرا ) فإنه يفهم بذلك أن السعي مجرد تطوع فهو بذلك مستحب غير مفروض. والذي نميل إليه ونرجحه أن السعي فرض استنادا إلى الأدلة من سنة النبي ( ص ) التي ذكرناها، ومنها قوله عليه السلام : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أما قوله :( ومن تطوع خيرا ) أي زاد ( الساعي ) في طوافه بينهما على القدر المطلوب وهو سبعة فيطوف ثامنة أو تاسعة. وقيل : يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع. وقيل غير ذلك، لكن الراجح عندي الأول. وفي ذلك ما يبطل الاستدلال بهذه الآية على سنية السعي ؛ وذلك لوقوع الاحتمال في أوجه الدليل. ومعلوم أنه إذا وقع الاحتمال سقط الاستدلال.
وقوله :( فإن الله شاكر عليم ) يجازي الطائفين المتنفلين الذين يتطوعون زيادة على المفروض، وهو سبحانه عليم بأعمالهم كلها لا يعزب عنه منها شيء، صغير كان أم كبيرا٤.
١ - مختار الصحاح ص ٣٦٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٦٢٢..
٣ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٣٧..
٤ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٨٠ -١٨٤ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٩٣..
قوله تعالى :( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ).
كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى يحتمل المراد به صنفان من الناس. أما الصنف الأول : فهم أهل الكتاب الذين كتموا الحق يوم أنكروا نبوة محمد ( ص )، وكذبوا القرآن مع أن ذلك كله وارد في كتابهم التوراة والإنجيل، وأنهم مكلفون بالتصديق والإيمان دون انحراف أوشك، لكنهم مع ذلك كذبوا وجحدوا وأبوا إلا التمرد والتكذيب في لجاجة وعتو كبيرين.
وأما الصنف الثاني : فهم الذين يكتمون العلم أيا كان اعتقادهم أو ملتهم، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المسلمين فما يكتم علما إلا من كان ضالا أثيما سوف يُمنى بالعذاب الشديد. وقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله ( ص ) قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ١.
وجاء في لصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ).
وعلى العموم فإن الله يتوعد الكاتمين الذين يخفون ما بينه الله في الكتاب، أي الكتب السماوية. وهؤلاء الذين يكتمون ما بينه الله من العلم ولا يبينونه للناس سوف يلعنهم الله أي يبعدهم من رحمته ودائرة غفرانه وفضله ليبوءوا بالخزي والعار والعذاب البئيس. وكذلك سوف يلعنهم اللاعنون. و ( اللاعنون ) يراد بهم الملائكة والمؤمنون من الناس. وقيل : جميع الناس، وفي قول ثالث أنهم الكائنات جميعها. والراجح عندي القول الأول والله أعلم.
١ - رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة..
ثم استثنى الله من هؤلاء الذين تحل عليهم اللعنة من الله والعباد فريقا آخر فاء إلى الله بالتوبة ثم أصلح وبيّن للناس ما أوتيه من البينات والعلم النافع ( فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ).
وقوله :( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) هذه هي الخسارة الكبرى والإياس المطلق أنه يموت الإنسان كافرا. ولا يموت أحد كافرا إلا رافقته اللعنة دون انقطاع. فهو ملعون دائما وسوف تظل اللعنة تصاحبه على الدوام ؛ إذ يلعنه الله وتلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس جميعا. وذلك في يوم القيامة ؛ إذ يقذف الله به في النار ليبوء بالعذاب الأليم.
وفي هذا اليوم الفاصل المخوف يشتد غضب الله على المجرمين الذين ظلموا أنفسهم فسقطوا في الجحيم خالدين ( لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) سوف يظلون يقارعون العذاب الشديد وهم تطوقهم ألسنة النار المستعرة الحامية. النار التي لا يزيدها مرور الأيام وتعاقب الزمن إلا اشتدادا في اللظى والاضطرام. وهم كذلك لا يؤخر عنهم العذاب أو يفتّر ولو فترة هينة من الوقت١.
١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٩٧ – ٢٠٠.
.

قوله تعالى :( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) ذلك هو أساسا العقيدة في هذا الدين العظيم، بل هو أساس الأمر كله بالنسبة لهذا الكون الهائل المعمور الذي تتزاحم فيه الكائنات والمخلوقات، سواء الأحياء أو الجوامد، فإن أولئك جميعا قد جيء بهم على قدر من الله. فهو الإله المعبود الأجل. الواحد أي ليس من إله معك شريك، بل هو وحده له السلطان والمعبودية، وهو سبحانه ( الرحمن الرحيم ) أنه ليس له في الرحمة شبيه أو نظير، ولا تملك الأحياء من مدى رحمته المطلقة إلا مثقال قطمير أو دون ذلك.
قوله تعالى :( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ).
هذه مجموعة أدلة على وحدانية الله سبحانه، وعلى قدرته البالغة وهيمنته التي تحيط بالأشياء جميعا. وهي سبعة أدلة ينطق كل واحد منها بجلال الخالق الأعظم وإرادته المطلقة التي لا يصدرها أي يحول دون نفاذها شيء.
وأول هذه الأدلة : السماوات السبع التي جعلها الله طباقا عظاما كثافا. وهي على امتدادها وعظمة اتساعها وما يسبح في أرجائها وفضائها من هائل الأجرام وعظيم الخلائق، من كواكب سيارة وأخرى ثوابت غاية في الكثرة والضخامة والبعد بما لا يقوى على عدّه العادون، ولا يتصور مداه العالمون، إن ذلك كله ينطق بالبرهان المستبين على قدرة الخالق ووحدانيته وتفرده في الكمال والمعبودية.
وثانيهما : هذه الأرض التي ندبّ عليها، لما تقوم عليه من دقة النظام والناموس وروعة التناسق المتكامل ودوام الحركة المنتظمة الرتيبة وتمام التركيب المتماسك الموزون من أبحر وأنهر ومحيطات، ومن هاد وسهول وأطواد راسيات، ومن تراب مختلف ألوانه وأنواعه، وأحجار متعددة الأنواع والصفات منها الصلد الأملس ومنها اللين السهل ومنها الأسود والأدكن أو الأسمر والرمادي أو الترابي. وغير ذلك من الكيفيات والصفات أو الحقائق المقدورة والسمات، كل أولئك ينطق بأجلى دليل وأسطع برهان على عظمة الإله الأحد الفرد الصمد.
وثالثها : اختلاف الليل والنهار، سواء كان الاختلاف بينهما في الطول والقصر، أو في النور والظلمة، أو في إقبال أحدهما وإدبار الآخر. وكل ذلك يؤلف وحده برهانا متميزا لا يقوى على تحقيقه وصنعه إلا الله القادر.
ورابعها : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس. والفلك السفن. وهي تستعمل في المفرد والجمع، وفي المذكر والمؤنث. ولا جرم أن جريان الفلك طافية على وجه الماء فيه الدلالة على عظمة الله. ومما يثير الانتباه أن تكون في عنصر الماء خاصية الكثافة الملائمة التي تجعله مناسبا للطفو على سطحه. ومن أعجب ما نشاهد : هذه الأحمال الضخمة من الأمتعة والبضائع والأشياء الثقال التي تركم وسط السفينة الواسعة الكبيرة وهي تجري فوق الماء في سريان ليّن آمن عجيب، ولولا ما ذرأه الله في الماء من خاصية رائعة مميزة لغارت الأشياء في جوف الماء إذا ما أصابت سطحه. إن ذلك لبرهان عظيم يحمل الدليل الأكبر على أن الله حق، وأنه سبحانه موجد الخلائق والأشياء كافة.
وخامسها : المطر الذي ينزل منهمرا من السماء ؛ لبعث الحياة في النبات والزرع فيكتسي وجه الأرض بثوب جميل أخضر مما يحمل للأذهان والحس بشائر الخير والخصب والبركة. ولولا الماء المنهمر من السماء لأجدبت الأرض وعمها اليبس والموات. وما ينزل المطر لسقي النبات والزرع وإحياء الأرض بعد موتها إلا بأمر الله وتقديره. وذلك هو البرهان على عظمته سبحانه.
وسادسها : تصريف الرياح. أي إرسالها على أشكال وكيفيات متعددة مختلفة.
فمنها البارد الحار، ومنها العاصف والليّن، ومنها ما كان بشيرا بالنصر أو كان نذيرا بالهلاك، ومنها ما كان جائيا من الجنوب أو الشمال، أو كان جائيا من المغرب أو المشرق. وكل ذلك بإرادة الله وتقديره، فلا يندّ عن أمره وقدره شيء. وهو برهان جلي على أن الله حق وأنه على كل شيء قدير.
وسابعها : تسخير السحاب. وهو يجمع على سحب والمفرد سحابة. وسمي بذلك ؛ لانسحابه في الهواء. والتسخير معناه التذليل ؛ ذلك أن السحاب وهو ما يحمل المطر، قد سخره الله من أجل العباد والأحياء ؛ وذلك بإرساله مذللا من مكان لآخر ؛ ليعم الخير وتفيض البلاد بالعطاء والخصب.
إن هذه الحقائق كلها تحمل من صدق البراهين والدلالات على قدرة الله وعظيم سلطانه وأنه مالك كل شيء وهو على كل شيء قدير.
قوله تعالى :( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هو بخارجين من النار ).
الكافرون الذين يشركون مع الله غيره يتخذون من دون الأنداد. ومفردها الند أو النديد وهو الضد أو النظير والمثيل.
إن هؤلاء المشركين يعبدون من دون الله آلهة أضدادا آخرين. وهؤلاء الأضداد الأنداد كثيرون ما بين صنم ووثن، أو حاكم طاغية متجبر، أو رئيس، أو ملك يستخف الناس لطاعته في كل الأحوال أو يرهبهم ويذلهم إذلالا. وسواء أطاعه قومه وامتثلوا لأمره وسلطانه من دون الله حبا أو نفاقا، فإنهم يحتسبون مع المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى.
وقوله :( يحبونهم كحب الله ) أي يحب المشركون هذه الآلهة المصطنعة مثل حبهم لله ذاته سبحانه. فقد استقرت في أنفسهم وأذهانهم الشائهة محبة هؤلاء الأنداد من أصنام وأوثان وحاكمين وملوك بما يعدل محبتهم لله سبحانه.
وأكاد أقول : إن كثيرا ما تترجح في نفوس هؤلاء المشركين المحبة للآلهة المزيفة المصطنعة لتصبح أشد محبتهم لله. نلاحظ مثل هذا المعنى في أولئك المنافقين ن الناس- وفي زماننا هذا- الذين يعيشون داخرين أذلة وهم يتوددون في ملق للساسة وأولي الأمر والسلطان. وهم في ذلك يتوجهون إليهم في ضعف واستخذاء بأشد مما يتوجهون به إلى الله بارئهم.
قوله :( والذين آمنوا أشد حبا لله ) إن المؤمنين يحبون الله الحب الأكبر، الحب الذي يتضاءل دونه كل حب، وإن محبتهم لله لهي أشد من محبة المشركين للأنداد على اختلاف صورها وأسمائها. بل إن محبة الله لهي إحساس مميز وفذ ؛ لأنها محبة قائمة على الحق، مستندة إلى عميق الفطرة السليمة والذهن المستنير والوعي المسترشد البصير، والعقيدة الصادقة الراسخة.
قوله :( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ) هؤلاء المشركون الذين ظلموا في هذه الدنيا، لو أنهم يرون العذاب الذي سيحيق بالظالمين لعلموا إذ ذاك أن القوة لله وحده.
وبعبارة أخرى لو يعلم المشركون ما سيحل بهم من عذاب على ظلمهم وشركهم، لكانوا قد انتهوا عما هم فيه من ظلم ومخالفة عن أمر الله.
قوله :( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) وفي يوم القيامة إذ يرى الظالمون العذاب معاينة، يتبرأ المتبوعون الذين كانوا يُعبدون، من التابعين العابدين الذين كانوا ينثنون في خزي وذلة وراء الطواغيت الفاسدة من أصنام وأوثان وحاكمين وساسة وملوك.
إنه إذا قامت القيامة يُهرع الظالمون إلى من يتشبثون به فينقذهم من العذاب النازل المحدق، وهم يومئذ تتغشاهم ظلمات من الرهب والإياس فلا يجدون من حولهم أحدا يرتجون منه خيرا أو شفاعة. فلا الأصنام ولا الأوثان ولا الحاكمون ولا الملوك ولا ذوو الجاه والسطوة والمال، ولا أحد غيرهم يملك يوم القيامة شفاعة أو يستطيع أن يزحزح من العذاب قيد أنملة.
ويوم القيامة تتقطع بالظالمين والمشركين والمجرمين أسباب الخلاص والنجاة، فلا سبيل لهم حينئذ غير سبيل العذاب البئيس يوم يُساقون مقهورين أذلة إلى جهنم ؛ لذلك قال سبحانه :( وتقطعت بهم الأسباب ) والأسباب جمع سبب وهو يعني في اللغة الحبل، ثم استُعير لكل شيء يُتوصل به إلى أمر من الأمور١.
١ - مختار الصحاح ص ٢٨١..
وقوله :( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ) هؤلاء هم المشركون الذين كانوا تبعا للسادة والكبراء في الدنيا، يتمنون يوم يرون العذاب في الآخرة وبعد أن يتبرأ منهم السادة والكبراء، لو أن لهم ( كرة ) أي عودة أو رجعة إلى الدنيا ؛ ليتبرءوا من عبادتهم مثلما تبرأ المتبوعون يوم القيامة منهم، وليعاودوا العمل من جديد فيعبدوا الله وحده دون غير من شركاء أو أنداد.
وقوله :( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) مثلما أراهم الله العذاب فتمنوا أن يتبرأوا من معبوديهم في كرة أخرى، فإن الله يريهم أيضا أعمالهم حسرات عليهم أي أنهم يرون أعمالهم الفاسدة يوم القيامة فتأخذهم الحسرة وهي الندامة الشديدة والتلهف البالغ. ولسوف يرون العذاب القارع المروع فجأة حتى يُسقط في أيديهم وتتقطع قلوبهم وجلا ثم يساقون إلى النار فيمكثون دائمين ما بقي الزمان ( وما هم بخارجين من النار ) وقوله في الآية :( كذلك ) الكاف في محل رفع على الابتداء. وتقديره : مثل ذلك الإراء الفظيع ( يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ) أي ندامات وتلهفات. والإراء هنا من رؤية البصر فيكون الفعل ( يريهم ) متعديا لمفعولين وهما الهاء في يريهن. والثاني ( أعمالهم ). فتكون حسرات منصوبة على الحال. وقيل : من رؤية القلب، فتكون حسرات مفعولا به ثالثا١.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٠٦ والكشاف جـ ١ ص ٣٢٧..
قوله تعالى :( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إله لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ).
وذلك إرشاد من الله للناس وتوجيه لهم أن يأكلوا من خيرات الأرض ( حلالا ) وسمي الحلال بذلك ؛ لانحلاله من عقدة الحظر ( المنع ) أما الطيب فمعناه الحلال.
وقد جاء المعنى مكررا للتأكيد. وقيل معناه المستطاب المستلذ في نفسه، وهو ما كان غير ضار للأبدان أو العقول.
ومن أشد وجوه الشر التي يقارفها الإنسان في حياته أن يأكل غير الحلال من الطعام مما حرمه الشرع، ونهى عنه كالربا والغلول والرُّشا وغير ذلك من أوجه المال الخبيث. وهو مال يثقل به كاهل الإنسان المعتدي ؛ لما يحمله من أوزار الاعتداء على أموال الناس بالباطل. وقد روي عن ابن عباس أنه لما تليت هذه الآية قام سعد بن أبي وقاص وقال : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال : " يا سعد أطبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به ".
وقوله :( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) خطوات الشيطان هي طرقه ومسالكه التي تقود إلى الشر والمعصية وتفضي إلى النار. وما من شك أن الشيطان عدو ظاهر أكبر للإنسان يحرفه عن مسار الحق وعن صراط الله ومنهجه القويم السليم، وهو كذلك الذي يزلقه إزلاقا ليبوء بالخسران الكبير في هذه الدنيا حيث الشقوة والمعاناة والمضانكة، ثم ليهوي أخيرا في جهنم وذلكم هو الخسران المبين.
وقوله :( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) وذلك هو دأب الشيطان، أن يحفز الناس للأعمال السيئة ويوحي إليهم في ترغيب مستديم بفعل المنكرات والفواحش من خلال مسالك ملتوية، وذلك هو ديدن الشيطان الخبيث المتدسس وهو يلج إلى مداخل النفس الإنسانية ليسول لها السوء والفحشاء. والسوء أو المساءة أو السيئة كل مخالفة عن أمر الله، أو اقتراف لمعصية من المعاصي ما يقود أخيرا إلى سوء العاقبة.
والفحشاء لغة القبح، والفاحش كل شيء جاوز الحد، ومنه الغبن الفاحش وذلك إذا جاوزت الزيادة ما يعتاده الناس١.
والمقصود بالفاحشة أو الفحشاء ما نهت عنه الشريعة، وغالبا ما تردد في القرآن بمعنى الزنا، وقيل : السوء ما لا حد فيه، أما الفحشاء ما وجب فيه الحد.
وقوله :( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) جملة أن تقولوا في محل جر معطوف على السوء والفحشاء، فإن الشيطان لا يكتفي أن يغري عبيده وأتباعه من البشر بفعل السوء والفحشاء، ولكنه يذهب إلى أشد من ذلك إجراما ونكرا وهو التسويل لهؤلاء العبيد والأتباع أن يفتروا على الله الكذب بمختلف الوجوه. فيقولوا هذا حلال وهذا حرام حرام بغير علم. وقيل : بل المراد أولئك الذين حرموا على أنفسكم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فجعلوه شرعا لهم افتراء على الله. وغير ذلك من وجوه الافتراء على الله، سواء باصطناع الأقوال أو الآراء أو الشرائع أو المذاهب أو النحل التي تنسب إلى الله كذبا وزورا مما نسمعه أو نشاهده أو نقرأ عنه كثيرا، في هذا الزمان وفي الأزمنة الفائتة. وذلك هو القول على الله بغير علم يحفز الشيطان عبيده وأتباعه لاصطناعه ؛ ليكونوا ظالمين مفترين، وليثيروا في الناس أسباب الشك والخلط والبلبلة، وليعيثوا في الأرض تشويها وإفسادا.
١ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٩٣ ومختار الصحاح ص ٤٩٢..
قوله تعالى :( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ). المراد بذلك المشركون الذين إذا دعاهم النبي ( ص ) إلى دين الله حيث التوحيد الخالص والشرع الكامل العظيم، فإنهم يتذرعون بذريعة سقيمة فاسدة ( بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا ) أي نتبع من العبادة والدين ما وجدنا عليه آباءنا، وذلك هو التقليد الفاسد الذي لا يركن إلى شيء من التفكير أو الوعي، ولا يستند إلى أدنى درجة من إعمال العقل، وإنما هو الاتباع المجرد الأعمى القائم على الضلال والسفه وتبلد الذهن والتفكير.
وفي مثل هؤلاء المقلدين الصم يقول الله في إنكار وتقريع :( أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) الهمزة تفيد الاستفهام في إنكار، والواو للعطف. إن الله جلت قدرته ينعى على هؤلاء الجهلة السفهاء حماقتهم وضلالهم بأنهم يقلدون آباءهم في الباطل حتى ولو كان آباؤهم لا يملكون فهما ولا وعيا ولا هداية.
أما التقليد فهو الأخذ بقول من غير حجة، والمقلد من اعتقد صحة فتيا أو رأي دون استناد إلى برهان، يستوي في ذلك أن يكون المقلد من الجاهلين الذين لا يستطيعون أن يهتدوا إلى حجة أو دليل كالعوام، وهم فئة من الناس لا تملك أثارة من علم أو معرفة. أو أن يكون المقلد من المتعصبين الذين تنثني صدورهم وطبائعهم على أقوال أو آراء معينة، لا يبغون عنها حِوَلاً. ولا يرتضون من دونها بديلا. أولئك صنف من الناس يميل مع طبعه الجانف، ويحفزه هواه المريض فلا يعبأ بالحجة أو المنطق ولا يصبح لصوت العقل السليم والحجة القويمة.
وهذان الصنفان من المقلدين خاطئان. وذلكم هو التقليد الفاسد المرفوض الذي وقع عليه التنديد في الآية الكريمة ؛ لما فيه من إزهاق للمنطق السليم أو الحجة النيرة الراجحة، ولما فيه من اتباع للهوى الذي يحرف المرء صوب العناية والضلالة والباطل.
لكن التقليد المستساغ ذلكم الذي يتبع فيه المرء سبيل الوحي المنزل من السماء. وأساس ذلك أن الوحي حق. أو هو وجه من أوجه الحق المطلق الأكبر. فهو بذلك صواب كله وحق كله ؛ لأنه من إرادة الله سبحانه ؛ إذا امتنَّ على الإنسان في هذه الأرض أن هداه إلى صراطه المستقيم، وعلمه من الحق ما لم يكن يعلم.
وما كان الإنسان ليعلم كثيرا من وجوه الحق لولا الوحي الصادق الأمين الذي يحمل إلى الأرض رسالة اليقين بما في ذلك العقيدة صادقة متماسكة متينة قائمة على صدق الفطرة وكامل الوعي والتفكير المستنير.
ومن التقليد السليم اتّباع العلماء والمستنبطين وأولي الألباب في مختلف مناحي العلوم والمعارف ما داموا من الصالحين الأتقياء الذين يعلّمون الناس الخير ويبصرونهم بحقيقة أمورهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذا الإتباع الحميد قد أثنى الله على النبي يوسف عليه السلام الذي أعلن عن اتباعه ملة آبائه من الأطهار الميامين، فقال سبحانه :( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ).
وفي اتباع أهل العلم وأولي الفكر النير السديد من العلماء والمتخصصين يقول سبحانه :( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
وقوله :( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ) يشبه الله المشركين الشاردين عن دعوة الحق بالدواب والأنعام التي ينعق بها راعيها مناديا لها وداعيا إياها إلى ما ينفعها ويرشدها، لكنها لا تفقه ولا تفهم مما يقول شيئا وإنما تسمع صوت دعاء ونداء فقط.
وفي قول آخر وهو أن ذلك مثل ضربه الله للمشركين في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه من دعائهم شيئا.
وفي تقديرنا أن القول الأول هو الراجح. ذلك أن النبي ( ص ) لهو الراعي لهذه الأمة ؛ فهو هاديا ومرشدها إلى السلامة والنجاة، لكن المشركين المعاندين أشبه بالأنعام والدواب التي لا تفقه من دعائه وندائه لهم شيئا، بل تسمع مجرد صياح فقط. وقريب من ذلك قوله تعالى في هذا النبي الكريم ( ص ) إذا دعا قومه لعبادة الله والانسلاخ من ربقة الجاهلية، لكنهم في أول الأمر نكصوا نكوصا جانحا، وكان مثلهم في ذلك مثل الحمر التي تتولى فرارا من أسد عظيم :( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ).
وقوله ينعق من النعيق وهو الصياح. والدعاء يعني العبادة. والنداء ما كان بصوت مرتفع يسمعه البعيد.
وقوله :( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ذلك وصف للكافرين الشاردين عن نداء الحق لما غشيهم من شلل أصاب فيهم الآذان فباتوا صما، وأصاب فيهم الألسن التي تنطوي فباتت خرسا وكذلك قد أصاب فيهم الأبصار فارتدوا عميا لا يبصرون من الحق شيئا.
ومثل هذا الشلل العام الذي أصاب الآذان والألسن والأبصار قد آل أخيرا إلى أسوأ مآل، وهو أن هؤلاء المشركين المشلولين أصبحوا لا يفهمون من الحق والخير شيئا، بل إنهم لا يفهمون غير الفاسد من القول ولا يسلكون غير السبيل الباطل والخسران ( فهم لا يعقلون ).
قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفورا رحيم ) هذه الآية تشتمل على فوائد جمة وأحكام تفصيلية عظيمة جديرة بالحديث عنها والتبيين. لكن الآية الأولى فيها إباحة للمؤمنين أن يأكلوا من طيبات الرزق. وقد بينا سابقا معنى الطيب على قولين : أحدهما : أنه الحلال غير المحظور. وثانيهما : أنه ما تلذ به النفس وتستطيبه.
ويأمر الله كذلك أن يشكر المؤمنون ربهم عقيب استمتاعهم بالطيبات من الرزق، والشكر من العبادة لله يعني الاعتراف بالنعم التي امتن بها الله على الناس، ويقترن بذلك العمل وهو المبادرة بالامتثال والطاعات، وبذلك فإن الشكر يكون بالقول والعمل معا. ذلك إن كان المؤمنون يبتغون لأنفسهم الخير والرضى من الله ليظفروا بسليم العاقبة وحسن المآل. وفي الأكل الحلال والاستمتاع بالطيبات من الرزق أخرج الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ص ) : " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال :( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُدِيَ بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ".
وقوله :( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ( وقوله :( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ( إنما )، اتصلت ما بإن فكفتها عن العمل، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه١، وهي بذلك تفيد الحصر. أي أن التحريم محصور في الأعيان المبينة في هذه الآية. و ( الميتة ) منصوب على المفعولية للفعل ( حرم ). وما بعدها معطوف عليها. أما من الناحية الشرعية فإن التحريم يشمل كلا من :
( الميتة ) وهي الدابة مأكولة اللحم أصلا، لكنها فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة. فما كان كذلك فهو غير مأكول إلا ما استثني من ذلك وهما السمك والجراد ؛ لقوله تعالى :( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) وفيما أخرجه أهل السنن عن النبي ( ص ) قال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " يشير بذلك إلى البحر.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر حديثا مرفوعا : " أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال " وبذلك فإن استثناء السمك والجراد يأتي على سبيل التخصيص لهذا الآية الكريمة.
أما الانتفاع بالميتة التي فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة فهو موضع خلاف كذلك. فثمة قولان في هذه المسألة : أحدهما : أن الانتفاع بالميتة جائز واستدلوا على ذلك بأن النبي ( ص ) مرّ على شاة ميتة لميمونة فقال : " هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموها فانتفعتم به ".
وثانيهما : أن الانتفاع بالميتة كيفما كان غير جائز ؛ استنادا إلى ما روي عن النبي ( ص ) قوله : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر :" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ".
والراجح عندي هو القول الثاني ؛ استنادا إلى الدليل الظاهر : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " وهو نص متأخر حتى يمكن الحكم بأنه ناسخ لما عارضه من حديث. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والميتة إذا كانت في بطن الذبيح جنينا فثمة خلاف في ذلك. والراجح أنها تؤكل، إلا إذا ظل الجنين حيا بعد ذبح أمه أو نحرها. فإنه في مثل هذه الحالة يكون له حكم الحي الذي يذكى ليؤكل، لكنه إن كان ميتا فإنه يحتسب عضوا من أعضاء أمه فيؤكل دون تذكية. وقيل : لا يؤكل ؛ لكونه ميتا، والقول الأول هو الراجح بدليل ما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله ( ص ) سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت فقال : " إن شئتم فكلوه، لأن ذكاته ذكاة أمه ".
وإذا وقع في الطعام حيوان طائر أو غيره فمات فثمة قولان : أحدهما : يذهب إلى نجاسة الطعام كله ؛ لمخالطته الميتة. وثانيهما : يذهب إلى نجاسة المرق ؛ إذ لا يمكن تطهيره بل يراق، أما اللحم فيطهر إذا غسل بالماء. وفي تقديرنا أن هذا هو الراجح ؛ لأن المرق الذي وقعت فيه النجاسة قد تخالط بها تماما فعير مستطاع فصلها عنه، لكن اللحم إذا غسل تماما أمكن تنقيته من أدران النجاسة. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال : " يغسل اللحم ويؤكل ".
أما البيضة واللبن يخرجان من الدابة المأكولة بعد موتها، فقد اختلفت كلمة الفقهاء فيهما، وقد اتفق الإمامان الشافعي ومالك على أنهما لا يؤكلان لنجاستهما، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما. فقال الشافعي : إنهما نجسان بنجاسة الأصل وهي الميتة وهما عضوان منها. وقد استند في ذلك إلى عموم قوله تعالى :( حرمت عليكم الميتة ).
وذهب الإمام مالك إلى أن البيضة واللبن يكونان طاهرين في الأصل وذلك بعد موت الدابة من غير تذكية، لكنهما ينجسان لمجاورتهما اللحم النجس.
أما أبو حنيفة فقد قال بطهارتهما. وعلل ذلك بأن اللحم يؤكل بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير حاجة لتطهير أو غسل.
أما ( الدم ) فهو نجس ويحرم أكله أو الانتفاع به. إلا ما عمت به البلوى من الدم فهو معفو عنه، وذلك كالدم يخالط اللحم والعروق، أو ما يصيب بدن الجزار وثوبه مما يصعب معه التحرز. فإن كان كذلك فهو مما تعم به البلوى، أو ما يكون التحرز منه يفضي إلى الحرج. ومن قواعد الشريعة السمحة دفع الحرج. فإن من قواعد هذا الدين قيامه على التسهيل واليسر ودفع الحرج بكل ظواهره في كل مناحي الشريعة قال سبحانه :( وما جعل عليكم في الدين حرج ).
على أن هذا النص الكريم في تحريم الدم يفيد العموم، لكنه حرج منه صنفان من الدم وهما الكبد والطحال، وذلك ما جاءت به السنة الكريمة فيما روي مرفوعا من حديث ابن عمر : " أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال " فهما بذلك مباح أكلهما على سبيل التخصيص. فالنص في ذاته عام، لكنه مخصص بالسنة الصحيحة.
وأما ( لحم الخنزير ) فهو محرم العين سواء ذكي أم لم يُذكّ. فهو حرام جملة وتفصيلا إلا ما روي عن شعره. والمقصود بتحريمه عينا أنه نجس وحرام لذاته وعلى هذا لا يتحول إلى مباح بالتذكية بل هو باق على صفته من النجاسة والتحريم فلا يجوز شرعا أن يؤكل منه شيء ولا أن يُباع أو يُشترى باستثناء الشعر فإنه يجوز استعماله للخرازة. فقد سئل النبي ( ص ) عن ذلك فقال " لا بأس بذلك " والمراد بالخرازة خياطة الثياب.
قوله :( ما أهل به لغير الله ) الواو تفيد العطف. ما اسم موصول في محل رفع معطوف على الميتة. ( أهل ) فعل ماض مبني للمجهول. وهو من الإهلال، ومعناه رفع الصوت. نقول : استهل الصبي أي صاح عند ولادته. وقد كان من عادة العرب الصياح باسم المقصود بالذبيحة٢.
وقد ذكر عن ابن عباس وغيره من أهل العلم أن المراد بما أهل به لغير الله هو ما ذبح على الأنصاب أو الأوثان. فإذا توجه الذابح بنيته نحو غير الله كانت ذبيحته مما أهل به لغير الله فلا يحل إذن أكلها. وذلك المجوسي يذبح للنار، فإذا ذبح ذكر اسم النار. وكالوثني يذبح للوثن، فإذا ذبح ذكر اسم الوثن على المذبوح. ثم ذلك الذي لا دين له، فهو غير مبال بملة من الملل. ولا يهمه أن يكون ذا دين من الأديان كأولئك الماديين الملحدين، فهم إذا ذبحوا فما تحل ذبيحتهم للأكل، بل ترمي للكلاب ويندرج في هذا الحكم كل ذبيحة يكون توجه النية فيها لدى الذابح نحو غير الله. مثل ذلك الذي يذبح ذبيحته على الدار أو السيارة أو نحو ذلك. وشأن ذلك شان الذي يذبح على النصب أي من أجلها.
وقوله :( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) المضطر هو المحتاج. من الفعل اضطر على وزن افتعل، وهو من الضرورة. فمن حاقت به ضرورة أبيحت له هذه المحظورات فله أن يأكل منها.
ويستوي في الاضطرار أن يكون سببه الإكراه من عدو أو ظالم، أو الجوع الشديد الذي يخشى معه الهلاك. فإن للمضطر حينئذ أن يأكل من الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو ما أهل لغير الله به. على أن يكون المضطر غير واجد طعاما غير هذا المحظور، فإن وجد طعاما كالثمر وغيره لواحد من الناس وكان يعلم أنه ليس في أكله ما يجرّ عليه تهمة السرقة، فله أن يأكل منه ما يسد حاجته ويُذهب عنه شدة المخمصة والتلف ؛ ليقوى بعد ذلك على السعي إلى أن يبلغ ما يريد.
وفي ذلك أخرج ابن ماجه أن النبي ( ص ) سئل : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ !. فقال : " كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل ".
وأخرجه ابن ماجه بإسناده عن عبّاد بن شرحبيل قال : أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا٣. من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله ( ص ) فأخبرته فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا، ولا علمته إذ كان جاهلا " فأمره النبي ( ص ) فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.
وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي ( ص ) سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " والخبنة هي ما يحمل تحت الإبط. وخبنت الشيء خبنا أي أخفيته.
وقوله :( غير باغ ولا عاد ) غير منصوب على الاستثناء. وقيل على الحال٤. وباغ أي متجاوز للحد الذي تندفع معه الحاجة ؛ إذ ليس للمضطر أن يأكل أو يشرب أكثر مما يحتاج إليه من إذهاب لشدة الجوع وخطره على الحياة. وعاد : أن يجد بديلا عن هذه المحرمات ثم يأكلها.
وفي قول آخر :( غير باغ ) أي غير قاصد من أكل المحرمات تحصيل لذة أو شهوة، بل يقصد دفع الحاجة وغائلة الجوع الذي يخشى منه على النفس مع انعدام الطعام الحلال. ( عاد ) أي مستوف للأكل فوق ما يسد الرمق.
وفي قول ثالث : الباغي والعادي يشملان كل قاطع للسبيل أو مفارق للجماعة خارج على الإمام أو من كان خارجا من بيته في معصية فألمت به الحاجة. ومثل هؤلاء لا يستحق الرخصة في الأكل من الطعام المحظور حتى وإن كان مضطرا ؛ وذلك لبغيه وعدوانه. ذلك ما ذهب إليه أكثر الفقهاء خلافا للإمام أبي حنيفة ؛ إذ جعل لكم من هؤلاء رخصة الأكل من المحرمات حال الاضطرار استنادا إلى إطلاق النص الكريم. وهو أحد قولين للإمام الشافعي. وذلك الذي نرجحه ونميل إليه اعتمادا على الآية في إطلاقها هنا، ويقول سبحانه في آية أخرى :( ولا تقتلوا أنفسكم ) فإن الإمساك عن أكل الحرام عند الضرورة ربما أوقع في الهلاك أو إذهاب النفس، وذلك أشد حرمة ونٌكرا من أكل الطعام الحرام.
وقوله :( إن الله غفور رحيم ) يغفر الله للمضطر خطيئته ويتجاوز له عن السيئة في الأكل من مال غيره بغير إذنه. وهو تبارك وتعالى ( رحيم ) إذ أباح للمضطر أن يأكل من مال غيره دون إذنه حفاظا على نفسه من الزهوق٥.
أما استعمال المحرمات للتداوي، كشرب الخمر ونحوه مما حرمه الشرع، فذلك موضع خلاف، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى عدم جواز التداوي بما حرم الله كالخمر وغيره مما يحرم أكله أو شربه. وهو قول المالكية والحنابلة وكذا الشافعية. فقد منع بعضهم التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم " ٦ ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه، فقال : إنما أصنعها للدواء، فقال عليه السلام : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " ٧. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه.
وقال الإمام أبو حنيفة : يجوز شرب الخمر للتداوي دون العطش. وهو قول الثوري. ودليل ذلك إباحة النبي ( ص ) لعبد الرحمن بن عوف أن يلبس الحرير لحكة أصابته٨.
أما مقدار ما يؤكل من المحرم كالميتة ونحوها : فإن المباح من ذلك ما فيه سد الرمق والأمن من الموت، فلا يبلغ بذلك حد الشبع وهو قول الحنفية، والحنابلة وأحد القولين للشافعي. ووجه ذلك أن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل فوق ما يسد الرمق ؛ لأنه بعد سد الرمق لا يكون مضطرا.
وذهبت المالكية إلى جواز الأكل من الميتة ونحوها من المحرمات حتى الشبع وهو أحد قولي الشافعي. ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نفقت٩ عنده ناقة ولم يكن عنده ما يقتات غيرها، فسأله النبي ( ص ) : " هل عندك غنى يغنيك " قال : لا. قال : " فكلوها " ولم يفرق بين الشبع وما دونه. وما جاز سد الرم
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٣٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٦٩٧..
٣ - المقصود بالحائط البستان..
٤ البيان للأنباري جـ ١ ص ١٣٧..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٢٦- ٢٣٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٠٥..
٦ - رواه الطبراني في الكبير عن أم سلمة..
٧ - رواه مسلم في صحيحه..
٨ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٤٠٩ والمغني جـ ٨ ص ٦٠٥ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٣١..
٩ - نفقت أي فنيت. انظر المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٨٩..
قوله تعالى :( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ).
المراد بالكاتمين لما أنزل الله هم اليهود، فقد أخفوا حقيقة الرسول محمد ( ص ) وصفته التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة. وكان من أمانة الصدق والتبليغ أن يبينوا للناس أن هذا هو نبي الأمة، وأنه صادق أمين قد آتاه الله الوحي، لكنهم أنكروا ذلك بالكلية وكتموا في صدورهم خبر الرسالة المحمدية، وذلك في مقابل ما اشتروا به ثمنا قليلا. والثمن القليل هو جنوحهم للرياسة وعلو المكانة، فقد كانوا يتصورون أنهم موضع اعتبار وتكريم، فخشوا بذلك على مكانتهم أن تهون إذا أظهروا صدق الكتاب الحكيم " القرآن " أو اعترفوا بنبوة محمد ( ص ).
ومما يذكر أيضا أن اليهود كانوا يستفيدون من قريش عطاء ماليا بخسا وهو ما كانوا يأخذونه على هيئة رشا وهدايا عوضا لتملقهم إليهم وإطرائهم والثناء عليهم وكذلك الإعلان في صراحة أن العرب المشركين خير من محمد وأتباعه، وأنهم وما يعبدون على حق وصدق. وأن المسلمين على الباطل.
ذلك هو اشتراؤهم بدينهم وكتابهم ثمنا قليلا. فقد أعطوا كثيرا إذ فرطوا في دينهم وكتابهم، وأخذوا بدلا من ذلك ثمنا بخسا على هيئة عطايا أو هدايا أو رشاء.
وذلك ثمن حرام بخس أخذوه بدل تفريطهم في دينهم وكتابهم، فكان بذلك أن جزاءهم النار يأكلونها في بطونهم لتنصهر بها الأحشاء والأمعاء والحوايا وليذوقوا وبال أمرهم جزاء افترائهم على الله وممالأتهم للمشركين كذبا وملقا وزورا.
وكذلك فإن الله سبحانه لا يكلمهم يوم القيامة. أي يحيطهم بغضبه فلا يرضى عنهم ( ولا يزكيهم ) أي لا يجعلهم مع الطاهرين الأزكياء ولا يثني عليهم خيرا، بل إن الله قد أعد لهم عذابا مؤلما وهو العذاب الذي ليس له في صورة العذاب مثيل، لا في الإيلام، ولا في الإيجاع، ولا في التحريق. فإنه العذاب المخوف الذي تجتمع فيه كل أسباب الهوان والتعس والإيلام من إذلال وخزي أو تحريق وإصلاء او تعذيب بالسم والجوع أو إطعام بما لا ينفع ولا يغني من جوع كالزقوم والضريع والغسلين، والعياذ بالله من ذلك كله.
وقوله :( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ) ( أولئك ) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وخبره الاسم الموصول ( الذين ) في محل رفع، والجملة الفعلية بعده صلة الموصول.
المراد باسم الإشارة ( أولئك ) هم اليهود الذين اعتاضوا عن الاستقامة وقول الحق والعدل والالتزام بشرع الله ودينه، بالزيغ والانحراف إذ كذبوا على الله بنكرانهم نبوة محمد ( ص ) وتحيزهم إلى فئة المشركين. وذلك هو اشتراء الضلالة وهي الكفر والانحراف والتحيز للشرك والباطل، ودفعوا بدل ذلك عقيدتهم وملتهم إذ زيفوهما تزييفا وبدلوهما تبديلا. ومثل هذا التزييف أو التبديل أو الانحراف يؤول بهؤلاء المشركين إلى عذاب الله بدلا من مغفرته.
وقوله :( فما أصبرهم على النار ) ما تفيد التعجب والتقدير : شيء أصبرهم. أصبر فعل ماض مبني على الفتح والضمير المتصل في محل نصب مفعول به. والميم للجمع وما في محل رفع مبتدأ، وما بعدها خبر١. والآية تبين فظاعة العذاب الأليم الذي يحترق فيه هؤلاء المشركون الضالون. وهم حين يلجون النار يُكبكبون فيها تكبكبا وهم داخرون مقهورون. حتى إن من يبصرهم وهم يتقاحمون في النار يمتلكه العجب المدهش لصبرهم على النار المتأججة المستعرة التي تصهر الجبال فكيف بالجلود والأبدان ؟ !.
وقيل :( فما أصبرهم على النار ) أي ما أدومهم وأطول بقاءهم في النار وقيل : ما تفيد الاستفهام ومعناه التوبيخ. وقيل : تعني الاستهانة والاستخفاف بهم.
١ - البين للأنباري جـ ١ ص ١٣٨.
وقوله :( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) يراد باسم الإشارة ( ذلك ) العذاب أو الحكم بالنار. والتقدير هو : ذلك العذاب أو النار لهؤلاء الكافرين ؛ لأن الله قد نزل كتبه بالحق. فهي ذاتها حق وهي إنما تنطوي على الحق وتدعو إليه. فقد جاء في تلك الكتب خبر النبي محمد ( ص ) والأمر بتصديقه وتأييده إلا أن أهل الكتاب كتموا ما ورد من خبر في كتابهم، ونفوا عنه صفة النبوة، وأنكروا حتى مجرد ذكره في التوراة.
أولئك هم الكافرون المكذبون الذين اختلفوا في الكتاب بتكذيبهم النبي محمدا ( ص ) وبإعلانهم جهارا أنه لم يرد ذكره في الكتاب. إن هؤلاء الجاحدين المعاندين ( لفي شقاق بعيد ) والشقاق أو المشاقة بمعنى المخالفة. نقول : شاقه شقاقا أي خالفه مخالفة. وحقيقة ذلك أن يأتي كل من المتخالفين بما يشق على صاحبه، فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه.
وقوله تعالى :( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )
( البر ) اسم جامع للخير. وهو منصوب على الخبرية لليس. والمصدر المؤول من أن والفعل في محل رفع اسم ليس. والتقدير : ليس البر توليتُكم١.
وقد ورد في سبب نزول الآية أن أهل الكتاب وبعض المسلمين قد شق عليهم أن يغيروا قبلتهم التي كانوا عليها وهي بيت المقدس ثم يتوجهوا بعدها إلى مكة القبلة الجديدة. لقد غضب اليهود من ذلك أشد الغصب واستاءوا بذلك كثيرا. وكذلك قد ارتاب فريق من المسلمين من ضَعَفَةِ الإيمان وكأن البرّ والإيمان والإحسان كله محصور في شكل التوجه إلى جهة من الجهات، سواء كانت شرقا أو غربا. فليس البر في التوجه نحو مشرق أو مغرب إن كان ذلك عن غير أمر من الله. ولكن البر كما شرحته الآية هو الإيمان الصحيح الأوفى الذي يأتي مقتران بالعمل الصحيح المشروع.
ما قيمة التوجه صوب جهة من الجهات مادام ذلك شكليا بحتا وغير قائم على العقيدة الواعية الراسخة، وغير مقترن بالعمل النافع المشروع. ليس الإسلام قائما على التعصب لمتشنج أو الشكلية الخاوية من المضمون. ولا هو بالدين الذي يعتمد طقوسا شكلية بلهاء تتلقاها الأجيال كابرا عن كابر دون وعي أو إدراك أو تبصر.
ولكن الإسلام دين الفطرة والعقل. وهو طريقه الوحي المنزل من السماء الذي يحمل للأرض معالم الهداية والرشاد ليثوب الناس إلى ربهم وليمضوا في طريقه، طريق الحق والعدل والنور، طريق الهداية والفضيلة والعمل المخلص النافع.
وها هي الآية الكريمة تبين حقيقة البر الذي ينفع الناس والذي يقودهم إلى الخير ومرضاة الله، فقال سبحانه :( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه... ) ذلك هو البر الصحيح المقصود. وليس هو التوجه نحو شرق أو غرب دون ترشيد من الله إلا التعصب والاستعصام بالشكليات غير الواعية.
إن البر هو الإيمان بالله أولا. فإن الله جل شأنه حق يملأ الوجود كله. وما من ظاهرة في هذا الكون ولا حقيقة أو معلوم أو خليقة من خلائق الأحياء وغير الأحياء إلا ويشهد في سطوح مكشوف على وجود الله وعلى عظمته وجلاله وهيمنته المطلقة.
وكذلك يوم الآخر. وهو يوم حافل ورهيب ومشهود تتلاقى فيه البشرية كافة وتجتمع فيه الأحياء جميعا. وفي هذا اليوم الشديد تلاقي كل نفس ما قدمت من عمل. وإذ ذاك لا مناص لكل امرئ من مواجهة مصيره المرتقب تبعا لما قدم في الدنيا. وحينئذ لا تنفع أحد شفاعة ولا تنجيه من العذاب خُلة كان يعقدها في الدنيا مع عظيم أو رئيس أو ذي مكانة وصولجان. بل إن هذه ساعة الفزع الأكبر التي تغيب فيها الوساطات والعلائق والشفاعات. وما من إنسان حينئذ إلا وهو حائر واجف مرتعب لا يلوي من خلفه أو خلفه أو حوله على شيء.
وكذلك الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين. وهذه أركان ثلاثة أخرى من أركان العقيدة في هذا الدين الكبير. فإنه لا قوام لا إيمان امرئ إلا أن يستوفي في نفسه أركان هذه العقيدة الستة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيرهما وشرهما.
ولا يكتمل البر تماما إلا بالعمل كذلك، فإنه لا يكفي أن تتركز في النفس معاني الإيمان إلا أن يقترن بعمل الصالحات، وهي في قوله :( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب )، فإن من تمام البر إعطاء المال مع الحاجة إليه أو الرغبة فيه لذوي القربى والآخرين الذي بينتهم الآية. والمال منصوب على المفعولية. ( ذوي ) منصوب بالياء ؛ لأنه مفعول ثان للفعل ( آتى ) أي أعطى. وبذلك فإن شبه الجملة- ( على حبه ) - تأتي معترضة ؛ لما في ذلك من تبيين لتمام البر الذي يكون عند إعطاء المال مع الرغبة فيه أو الحاجة إليه. فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.
وفي حقيقة المال الذي يُقدم على حبه خلاف. فقد قيل : إن المراد بهذا المال الزكاة. وفي قول ثان : إن المراد ما كان من مال يؤدي غير الزكاة. وذلك هو الصواب. فقد أخرج الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله ( ص ) : " إن في المال حقا سوى الزكاة " ثم تلا هذه الآية ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) ويشبه ذلك أيضا قوله تعالى :( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) وقوله سبحانه :( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ).
وقوله كذلك في آية أخرى :( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ). قوله :( ذوي القربى ) هم أقرباء الرجل. فهم أولى بالبر والعطايا خصوصا إذا كانوا محاويج معوزين. فقد جاء في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم اثنتان : صدقة وصلة، فهم أولى الناس يبرك وإعطائك ".
أما اليتامى فهم الذين مات آباؤهم، ولما يبلغوا الحلم ولم يكن لهم معيل كاسب. هؤلاء الصغار الذين مات آباؤهم ولا يستطيعون أن يتكسبوا ؛ لصغرهم وافتقاد من يقوم على رعايتهم، هم الأيتام الذين أوصى الله بهم وأوجب أن يعطوا من المال ما يدرأ عنهم الفاقة، ويدفع عنهم غائلة الطوى والحاجة، أما إن بلغ اليتيم الحلم فقد بات رجلا يستطيع أن يكد ويكتسب. فهو حينئذ لا يعطي من المال بكونه يتيما، إلا أن يكون ذا حاجة فإنه يعطي. وقد جاء في الحديث الشريف : " لا يُتم بعد احتلام " ٢.
أما المساكين فهو جمع تكسير مفرده مسكين. والمسكين هو الذي يملك ما يكفيه أو يسد حاجته من الطعام والكساء والإيواء. وفي ذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ".
وأما ابن السبيل فإنه يراد به المسافر المنقطع الذي لا يمتلك مالا. أو هو البعيد عن أهله ودياره والذي انقطعت به أسباب العيش لافتقاده المال. فذلكم يعطي من المال ما يمكنه من بلوغ أهله ودياره.
وقيل : إنه يتناول الضيف فإنه معتبر من أبناء السبيل. والضيف الذي ينزل بأحد المسلمين له واجب الضيافة من إطعام وإيواء وإتحاف.
وقوله :( والسائلين ) وهم الذين يسألون الناس آو يتعرضون لطلبهم، فإنهم ينبغي أن يعطوا سواء كان ذلك من مال الزكاة أو غيرهما.
على أن السائل يعطي دون مسائلته أو التنقيب عن حقيقة حاله. فما يعتبر في هذا الأمر غير الطلب من أحد السائلين، فإنه إذا سأل وجب إعطاؤه دون مجادلة أو منّة حتى وإن جاء السائل يلبس الفاخر من الثياب. فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال : قال رسول الله ( ص ) : " للسائل حق وإن جاء على فرس ".
وقوله :( وفي الرقاب ) وهم المكاتبون. ومن المكاتبة وهي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بموجبه دفع مبلغ من المال لسيده بدل إعتاقه على أن يكون الدفع على التراخي. هؤلاء المكاتبون أمانات في رقاب الأسياد المالكين. فعليهم أن يرعوهم حق رعايتهم، وأن يعاملوهم بالرحمة والإحسان، وأن يستجيبوا لطلبهم في المكاتبة ليتمكنوا بعد ذلك من الفكاك من رق العبودية. وبذلك فإن الشريعة توجب إعطاء هذا الصنف من الناس قدرا من المال يستعينون به على التحرر. ومن المعلوم أن هذا القدر من المال غير داخل في مبلغ الزكاة الواجب إخراجه لمستحقيه، ولكنه يؤديه المؤمنون الراغبون في عمل البر. وفي الحديث الشريف : " في المال حق سوى الزكاة ".
قوله :( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي أتم الصلاة على أحسن وجه من تمام الركوع والسجود والقراءة وتمام الخشوع والطمأنينة مع ما يرافق ذلك من اجتماع النية وحضور القلب.
وكذلك فإن من البر إيتاء الزكاة. أي دفعها لمستحقيها دون تأخير أو تردد أو إنقاص. والمراد بالزكاة هنا المفروضة وهي غير المذكورة في أوجه البر السابقة، يؤيد ذلك ما قاله الرسول ( ص ) : " إن في المال حقا سوى الزكاة ".
وقوله ( الموفون بعهدهم إذا عهدوا ) العهد هو الموثق والأمان والذمة٣.
والوفاء به واجب على المسلم ليكتب عند الله مؤمنا صديقا وإلا كان على شعبة من النفاق، فقد صح في الحديث الشريف : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
والوفاء بالعهد بعد الالتزام والتعاهد يكون بين العبد وربه، أو بين العبد وغيره من الناس، فإذا عاهد المسلم ربه ليلتزم بأمر من الأمور المشروعة وجب الوفاء بذلك. وهو كذلك إذا عاهد أحدا غيره من العباد، فما يكون له بعد ذلك أن ينقض عهده أو يُخلف ما ألزم نفسه بالوفاء به.
وقوله :( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) ( والصابرين ) منصوب على المفعولية لفعل مدح محذوف، وقيل : معطوف على قوله :( ذوي القربى ) ٤ و ( البأساء ) معناه الفقر. ( والضراء ) معناه المرض. أما البأساء فهو الحرب.
هذه هي المقتضيات الحقيقة للبر، والتي تنطق بها حقيقة هذا الدين العظيم، فلا طقوس أو شكليات، ولا مظاهر جوفاء يعوزها المضمون كشأن المشركين وأهل الكتاب الذين يعبأون بالصورة دون المعنى، وبالشكل دون الحقيقة، وبالطقوس الخاوية البلهاء دون العقيدة الواعية والفكر السليم. وسواء كان التولي نحو المشرق أو المغرب، فإنه لا قيمة لذلك ما لم يقترن بالتوجه الحقيقي والكامل نحو الله وحده وما لم يقترن كذلك بجملة الأسس الإيمانية والتطبيق العملي لظواهر هذا الدين، وهي مقتضيات البر التي متحدثنا عنها آنفا. ما بين إيمان صحيح وإيتاء للمال على حبه ثم إقامة للصلاة وأداء للزكاة ووفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس. ولا يمارس ذلك أو يحققه على التمام إلا من كان من الصادقين المتقين. وفي ذلك يقول سبحانه آخر الآية :( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) ٥.
١ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٣٨.
.

٢ - رواه أبو داود عن علي..
٣ - مختار الصحاح ص ٤٦٠..
٤ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٤٠..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٣٨- ٢٤٤ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٩٠..
قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) القصاص معناه المماثلة في العقاب فأيما أحد اعتدى عمدا بقتل أو دونه كالجرح وغيره، كان لولي القتيل أو للجريح أو المعتدى عليه أن يقتص بالمثل من المعتدي القاتل أو الجارح. وقيل : القصاص مأخوذ من قص الأثر، ذلك أن القاتل بعد عدوانه يولي ذاهبا فيكون لقدميه من بعده أثر مما يعين أولياء القتيل على تتبع أثره وملاحقته وإدراكه. وقيل : القصاص مأخوذ من القص أي القطع، وأساس ذلك أن يُقتل المعتدي أو يجرح قصاصا نظير عدوانه١.
ولقد شرع الإسلام القصاص عقابا رادعا تنزجر به نفوس الذين يسول لهم الشيطان أن يعتدوا على الآخرين بغير حق. وقد بينا سابقا أن الإسلام جاء مناسبا للفطرة البشرية تماما، إذ جعل ولي القتيل أو المعتدى عليه بالخيار بين ثلاث. فإما القصاص، وإما الدية، وإما العفو. وذلك خلافا للكتب السماوية من قبل الإسلام فكانت من هذه القضية بالذات ما بين إفراط وتفريط. فالتوراة كان فيها إيجاب للقصاص دون الدية أو العفو. والإنجيل كان فيه إيجاب للعفو دون القصاص أو الدية.
ومن ذلك يبدو أن كلا الموقفين يأتي في غير صالح الفطرة البشرية أو أن كليهما لا يتلاءم مع المصلحة التي تقتضيها حقيقة التفاوت في رغبات البشر.
ومعلوم أن الناس متفاوتون ما بين حاد يؤثر الانتقام وإشفاء الغليل، أو راغب في مال تهدأ معه سورة الغضب في نفسه، أو وقور متبتل ودود يؤثر العفو على المال وإشفاء الغليل. فقد جاءت شريعة الإسلام ملاءمة لمثل هذه الطبائع المتفاوتة في رغائبها. وتطلعاتها. فشرعت بذلك الولي أو المصاب أن يختار بين أمور ثلاثة : القصاص والدية والعفو.
ويتبين من هذه الآية أن الناس كانوا لا يعدلون في القتل العمد، بل كانوا يقتلون الرجل بالمرأة والحر بالعبد وذلك على سبيل المفاخرة والاستكبار. فكانوا إذا قتلت المرأة في القبيلة المشهورة قال أولياؤها : لا نقتل إلا رجلا بدلا منها من قبيلة القاتل. وإذا قتل الرجل فيها قال أولياؤه : نقتل بدلا منه اثنين أو أكثر ولا نكتفي بواحد أو القاتل نفسه. وإذا قُتل العبدُ في القبيلة ذات النفوذ والصيت قالوا : لا نقتل بدلا منه إلا حرا.
وذلك تصرف جاهلي ظالم أساسه التصور الضال الذي يراود أذهان الفاسدين والمنحرفين من الناس الذين يعيشون على الجاهلية الحمقاء في تعصبها وسفاهتها واستكبارها ؛ لذلك نزل قوله سبحانه ليضع الأمور في مواضعها الصحيحة وليقيم للقضايا وقواعد الحياة كلها خير ميزان :( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) أي لا ينبغي أن يُقتل بدل العبد حر، ولا بدل الأنثى رجل. وإنما ينبغي أن يقتل القاتل نفسه سواء كان القاتل حرا أو عبدا أو أنثى. وسواء كان القتيل عبدا أو امرأة. ذلك هو القضاء العدل الذي يقوم على المماثلة دون انحراف أو تعصب أو جنوح للهوى.
ويتفرع عن هذه القضية جملة مسائل منها : هل يقتل الحر بالعبد ؟ أي أن الحر إذا قتل عبدا فهل يقتل به ؟
فقد هب الإمام ا [ و حنيفة وداود الظاهري والثوري وآخرون أن الحر يقتل بالعبد. وهو مروي عن فريق من الصحابة والتابعين. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :( كتب عليكم القصاص في القتلى ) وكذلك قوله تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) وذلك فيه عموم وهو يشكل الأنفس كيفما كانت دون تمييز بين حر وعبد أو ذكر وأنثى٢. واستدلوا كلك بالحديث : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ٣ فليس من فرق إذن بين حر وعبد. وذلك خلافا لمذهب الجمهور بعدم قتل الحر بالعبد٤. وذهب آخرون من العلماء إلى غير ذلك فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد.
والراجح عندنا المذهب الأول استنادا إلى ما ذكرناه من دليل، ويعزز ذلك قول النبي ( ص ) : " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه " ٥
وهل يقتل المسلم بالكافر ؟
ذهب أبو حنيفة إلى قتل المسلم بالكافر، وهو يستند في ذلك إلى عموم قوله تعالى :( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) فأيما نفس تُقتل عمدا وجب قتل قاتلها، مادام القتيل ذميا ؛ لأن الذمي يساوي المسلم في حرمة الدم. فهو ( الذمي ) محقون الدم على التأبيد وهو من دار الإسلام. وكذلك لو سرق المسلم فإنه تقطع يده في ذلك ؛ لأن مال الذمي مصون ؛ لذلك يُحكم بقتل قاتله في العمد. لكن جمهور العلماء قالوا : لا يقتل المسلم الكافر، واستدلوا لذلك بما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يقتل مسلم بكافر " وذلك حديث صحيح، وهو يصلح لتخصيص العموم في قوله تعالى :( كتب عليكم القصاص ) وقوله تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ).
وهو ما نميل إليه ونرجحه والله تعالى أعلم٦.
وهل يقتل الرجل بالمرأة ؟
أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة. أما القصاص بينهما فيما دون النفس فهو المعتبر عند أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور، لكن أبا حنيفة – رضي الله عنه- خالفهم في ذلك وقال : لا قصاص بين المرأة والرجل فيما دون النفس، وإنما يكون القصاص في النفس.
وفي تقديري أن قول الإمام في هذه المسألة مرجوح، فإنه إذا وجب القصاص بينهما في النفس فمن الأولى أن يكون القصاص بينهما فيما دون النفس٧.
وهل يقتل الوالد بولده ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة. فقد ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي إلى أنه لا قَود على الأب في قتل ابنه وأن عليه الدية فقط، وقد استندوا في قولهم هذا إلى الحديث : " لا يقاد والد بولده " ٨ وتعلقوا أيضا في قضاء لعمر- رضي الله عنه- إذ قضى بالدية المغلطة في قاتل ابنه ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة.
وقد خالف الإمام مالك الجمهور في هذه المسألة، وقال بالتفصيل. فإن رماه الأب بالسلاح على سبيل التأديب أو الحنق٩ فقتله وما كان يقصد بذلك قتلا فقد ذكر عنه أنه يقتل به. وفي قول آخر عنه أنه لا يقتل به، بل يدفع ديته مغلظة.
أما إذا قصد قتله فعلا وعلى نحو مستبين ومكشوف كأن يضجعه ويذبحه ذبحا قتل به قولا واحدا١٠.
وهل تقتل الجماعة بالواحد ؟
ذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء إلى أن الجماعة يقتلون بالواحد، فإذا تمالأ كثيرون على قتل واحد بريء عمدا جاز قتلهم جميعا. وخالفهم في ذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي قال : لا تقتل الجماعة بالواحد، وتوجيه ذلك عنده أن الله سبحانه شرط المساواة في القصاص ولا مساواة بين الجماعة والواحد. فقد قال تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) وذلك يقتضي المساواة ولا مساواة في قتل الجماعة بالواحد.
لكن الحقيقة الظاهرة أن هذا القول الذي ذهب إليه أحمد مرجوح وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح والصحيح.
وتوجيه ما ذهب إليه الجمهور أن المراد بالقصاص في الآية المذكورة هو قتل من قتل أيا كان القاتل، ويستوي في ذلك أن يكون القاتل واحدا أو أكثر، فإن كانوا أكثر من واحد فكل واحد منهم مشارك في القتل. وفي ذلك رد مناسب على ما اعتاده العرب، إذ كانوا يريدون أن يقتلوا بمن قتل من لم يقتل، ويقتلون بدل القتيل الواحد مائة، وذلك على سبيل المفاخرة والاعتداد بالجاه والسيطرة. فأمر الله – ردا عليهم- أن يقتل كل من قتل.
ومن المعلوم كذلك أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة برجل واحد في صنعاء، وقال قولته المشهورة : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعا. حتى قيل إنه لا يعرف له في زمانه من خالفه من الصحابة فكان ذلك كالإجماع.
وكذلك قاتل علي – رضي الله عنه- الحرورية لما قتلوا رسوله عبد الله بن خباب إذ ذبحوه كما تذبح الشاة. ولما علم علي بذلك قال : الله أكبر ! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا : كلنا قتلناه ثلاث مرات. فقال علي لأصحابه : دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم علي بعبد الله بن خباب.
ويعزز ذلك أيضا ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله ( ص ) : " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ".
ومن ناحية أخرى فإن صون الدماء وحفظ الأرواح يتطلب أن يقتل الجماعة بالواحد ؛ لكيلا يكون ثمة مجال للاحتيال ينفذ منه القتلة. فإذا علمت الجماعة أن قتلهم للواحد لا يوقع عليهم قصاصا تعاون الخصوم على قتل خصم واحد لهم مشتركين. وفي ذلك تأدية لغرضهم المبيت المقصود وإشفاء لغيظهم وغليلهم١١.
وبعد القتل العمد فإن وليّ القتيل له الخيار، فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. فإن القاتل في هذه الحالة مكلف بدفع الدية بغير رضاه إن طلبها الولي. أي أن دفع الدية في حق القاتل يصبح فرضا عليه ؛ وذلك لإحياء نفسه وإنقاذها من الموت، لقوله سبحانه :( ولا تقتلوا أنفسكم ) وذلك ما ذهب إليه مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون غيرهم.
قوله :( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) قوله ( مَنْ ) يراد به القاتل، والذي يعفو هو ولي المقتول. والمراد بأخيه، المقتول أو ولي الدم. والمراد بالشيء، الدم الذي يعفو عنه الولي ليكتفي بدلا منه بأخذ الدية. والمعني، أن القاتل والجاني إذا عفا عنه ولي المقتول أو المجني عليه فيما يأخذه منه بالمعروف، وعلى القاتل أو الجاني أن يؤدي له ما عليه بإحسان، أي من غير مماطلة ولا تسويف وقوله :( فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) يأمر الله في ذلك بحسن الاقتضاء من ولي الدم وحسن القضاء من القاتل. فعلى الولي أن يطالبه بالدية برفق، وعلى الجاني القاتل أن يدفع إليه الدية بإحسان فلا يماطل أو يتردد في الأداء بما يشق على الولي الذي عفا له عن القصاص منه.
وقوله :( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) اسم الإشارة مبتدأ في محل رفع خبره تخفيف مرفوع، لقد خفف الله عن هذه الأمة ثقل الحكم الذي كان مفروضا في القتل العمد في كل من التوراة والإنجيل، فما كان في التوراة غير القصاص، وما كان في الإنجيل غير العفو، وفي كليهما قسوة كما هو معلوم، بل إن كليهما يقف من قضية القتل العمد موقف التطرف الذي يجلب لكثير من الناس حرجا وتعسيرا، لكن شريعة الإسلام جعلت للناس مندوحة أرحب في تقرير مجالات ثلاثة وهي : القصاص أو الدية أو العفو وذلك تخفيف عن كاهل هذه الأمة ورحمة بها.
وقوله :( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) أي من قبل الدية أو أخذها بدل القول ثم عاد وقتل القاتل فله من الله عذاب موجع شديد ؛ لما في ذلك من سوء النية وخبث القصد وفساد التصرف. فما دام الولي قد قبل الدية فليس له بعد ذلك أن يقتاد من القاتل، وإلا كان في زمرة الكاذبين الذين يخفون للناس مكرا وخداعا وليس ذلك من أخلاق المؤمنين الصادقين، بل هو من أخلاق المنافقين أو الجاهليين كما وصفهم الحسن البصري في هذه القضية فقال : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فرّ إلى قومه فيصالحون بالدية، فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية حتى يأمن القا
١ - مختار الصحاح ص ٥٣٧ والقاموس المحيط جـ ٢ ص ٣٢٥..
٢ - القرطبي جـ ٢ ص ٢٤٦..
٣ - رواه أبو داود والنسائي عن علي..
٤ -بداية المجتهد جـ ٢ ص ٣٦٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٠٩..
٥ - رواه أبو داود عن قتادة..
٦ -بداية المجتهد جـ ٢ ص ٣٩٩ ونيل الأوطار للشوكاني جـ ٧ ص ١١ وسبل السلام للصنعاني جـ ٣ ص ٢٣٥ والمجموع جـ١٨ ص ٣٥٦ والمحلى لابن حزم جـ ١٠ ص ٣٤٧ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣٢١..
٧ - نتائج الأفكار لقاضي زاده جـ ١٠ ص ٢١٩ ونيل الأوطار للشوكاني جـ ٧ ص ١٨ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣٣٢ والمبسوط للسرخسي جـ ١٦ ص ١٣١ والمدونة للإمام مالك جـ ٤ ص ١٩٧..
٨ - رواه أبو داود والنسائي عن علي..
٩ - الحنق، بمعنى الغيظ، أنظر المصباح المنير جـ ١ ص ١٦٧..
١٠ - بدائع الصنائع جـ ٧ ص ٢٣٥ والمجموع جـ ٨ ص ٣٦٣ والمغني جـ ٧ ص ٦٦..
١١ - بدائع الصنائع جـ ٧ ص ٢٣٨، ومغني المحتاج جـ ٤ ص ٢٠ وحاشية الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي جـ ٨ ص ١٠ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣١١ والهداية للمرغيناني جـ ٤ ص ١٦٨ والشرح الصغير للدردير جـ ٢ ص ٣٨٥..
وقوله :( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ).
أما قوله :( ولكم في القصاص حياة ) فهو غاية في الإيجاز والإحكام والروعة بما يعبر عن المقصود في جلاء واضح وبيان فصيح. فقد جاء في الأمثال البليغة لفصحاء العرب، أو الكتب المتقدمة في قول آخر :( القتل أنفى للقتل ) وهذه العبارة رغم إيجازها وفصاحتها فإنها لا تعدل في ميزان البيان والفصاحة شيئا إذا ما قيست بقوله سبحانه :( ولكم في القصاص حياة ) فلا ريب أن القصاص زاجر كبير للناس ؛ إذ يبعث فيهم اليقظة والخوف ؛ كيلا يعتدي بعضهم على بعض، وقد ذكر أن العرب كانت إذا قتل الرجل الآخر استشاط قبيلاهما فاقتتلوا فيما بينهم بما يوقع بينهم عداوة وإزهاقا للنفوس حتى إذا شرع القصاص أمسكوا جميعا عن القتل.
لذلك فإن تشريع القصاص في الإسلام يحقق للناس الأمن والاستقرار وسلامة النفوس، ويحفظ عليهم المهج والأبدان. وبذلك تصان الأرواح وتحفظ الحياة.
وثمة مسألة تعرض في هذا الصدد وهي : هل لأحد أن يقتص بمفرده من أحد غيره ؟ فإن المتفق عليه بين أهل العلم أن إقامة الحدود وتنفيذ القصاص مما أنيط بالسلطان فالحاكم أو نائبه هو المكلف شرعا أن يقيم العقاب على الجاني، والقاتل خاصة. فليس للأفراد أن يقتص الواحد فيهم من غيره وإلا وقع التجاوز وعمت الفوضى، فضلا عن أن ذلك افتيات على سلطة الدولة المكلفة بذلك١.
وإذا اعتدى الحاكم فقتل عمدا فهل يُقتص منه ؟
فقد أجمع العلماء على أن الحاكم عليه أن يستقيد ( يقتص ) من نفسه للمعتدى عليه وذلك إن تعدى على أحد من الناس عمدا. فإنه ليس من فضل له على الناس أصلا إلا أنه قائم على شؤون الرعية يسوسهم بالعدل ويقيم شريعة الله. والأصل في ذلك أن المسلمين تتكافأ دماؤهم٢.
وقد ثبت عن الخليفة الأول أبي بكر- رضي الله عنه- أنه قال لرجل شكا إليه من عامل قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه.
وروى النسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله ( ص ) يقسم شيئا إذا أكبّ عليه رجل، فطعنه رسول الله ( ص ) بعرجون كان معه فصاح الرجل، فقال له رسول الله ( ص ) : " تعال فاستقد " قال : بل عفوت يا رسول الله.
وذكر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ! لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ( ص ) يقص من نفسه.
وذكر عنه –رضي الله عنه- أنه خطب الناس فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعل ذلك به فليرفعه إليّ أقصه منه.
وقوله :( لعلكم تتقون ) أي تتركون القتل العمد فتسلمون من الموت قصاصا، وتحفظون بذلك حياتهم وأرواحكم من الهلاك. والتقوى هي اسم جامع لفعل الخيرات والطاعات وترك المعاصي والمحظورات.
١ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٥٦ وتفسير البيضاوي ص ٣٧..
٢ - المغني جـ ٧ ص ٦٦٣ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٥٦..
قوله تعالى :( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ).
هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبا حتى نزلت آية المواريث ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدين والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) وما بعدها من آيات في الفرائض فكان ذلك ناسخا لما بين يدينا من آية في الأمر بالوصية للوالدين والأقربين.
وبعد نزول آية المواريث في النساء فرض الله لكل ذي حق حقه في الميراث، فما عاد الأبوان أن يرثا، أما الأقربون فمن كان له نصيب في الميراث فليس له أن يستحق وصية، ومن ليس له نصيب بقي على حاله من جواز الوصية له.
والظاهر من السياق في هذه الآية أن الوصية كانت مفروضة للوالدين والأقربين قبل نزول أية النساء في تبيين الفرائض. لكن الوصية باتت منسوخة بعد نزول آية البقرة هذه.
وقيل : إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بالحديثة الصحيح : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " ذلك أن آية المواريث لا يتعين فيها مفهوم النسخ بوضوح مثلما هو في الحديث.
وعلى أية حال فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بالكتاب والسنة والإجماع حتى إنها باتت بعد ذلك منهيا عنها ؛ لقوله عليه السلام : " فلا وصية لوارث ".
أما الأقارب الذين ليس لهم نصيب في الميراث فإنه يندب أو يوصى لهم في حدود ثلث المال، بل أنهم أولى بالوصية من الأباعد ؛ لقوله سبحانه :( والأقربين بالمعروف ).
وفي التخصيص على الوصية والدعوة لها أخرج الشيخان عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله ( ص ) يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.
وقوله :( إن ترك خيرا ) الخير هو المال. ولم تحدد الآية حجم المال الذي يستحب إخراج الوصية منه. وفي تقديري أن ذلك منوط بتورع المؤمن الذي يبتغي الوصية على ألا يكون في ذلك ضير على الورثة.
وقوله :( بالمعروف ) أي بالرفق والتوسط والاعتدال. إذ يوصي صاحب المال للأقربين وغيرهم في نغير إجحاف يلحق بالورثة. وخير ذلك ما كان معتدلا فلا إسراف ولا تقتير.
ولعل خير حجم للوصية أن يكون دون الثلث كالربع أو الخمس. ويستفاد ذلك مما ثبت في الصحيحين أن سعدا رضي الله عنه قال : يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال " الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله ( ص ) قال : " الثلث والثلث كثير ".
وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه أوصى بالخمس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أوصي بالثلث. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أوصى بالربع.
وذهب فريق من العلماء إلى أن الذي له مال قليل وله ورثة فمن الأفضل له ترك الوصية. وقد روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم.
وثمة مسألة وهي : هل تجوز الوصية بأكثر من الثلث ؟
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث لكن الحنفية خالفوا في ذلك إذ قالوا : إذا لم يكن للموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله. وعللوا ذلك بأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثة أغنياء لا يتكففون الناس كما في الحديث الشريف.
وكذلك أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله.
أما إذا أذن ورثة الموصي أن تزيد الوصية على الثلث، فقد أجازها عامة العلماء باستثناء أهل الظاهر، إذ قالوا : لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث حتى وإن أجازها الورثة. واستدل الجمهور على قولهم بالجواز بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ".
وقوله :( حقا على المتقين ) حقا، منصوب على المصدر، وتقديره : حق حقا. ولا يعني الحق هنا الفرضية والوجوب. ولو كان كذلك لقال على المسلمين، وليس المتقين وحدهم بما يدل على أن المراد بالحق الندب. وقيل : بل الوصية واجبة من قليل المال وكثيره١.
١ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ٧١ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٦٧..
قوله :( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ) من اسم شرط. بدل جملة الشرط. جوابه الجملة الإسمية المقترنة بالفاء ( فإنما إثمه... ) إثمه مبتدأ مرفوع. والهاء ضمير متصل مضاف إليه. ( على الذين يبدلونه ) في محل رفع خبر. وما اتصلت بإن فكفتها عن العمل.
والضمير ( بدله ) في محل نصب مفعول به، والمراد به الوصية أو الإيصاء الذي نطق به الموصي. فإنه ليس لسامع –وارثا كان أو غيره- أن يبدله أي ينقصه أو يزيد فيه أو يكتمه ليحرم منه الموصى له. ومن يفعل شيئا من ذلك فإنه آثم وما ينقص ذلك من أجر الميت الموصي مادام قد استبرأ لنفسه بالتوصية للآخرين على مسمع من الورثة أو غيرهم، وفوق ذلك فإن الله جلت قدرته مطلع على الوصية وهو سبحانه عليم بما يتعمده السامعون أو الورثة من تحريف للوصية كالنقص أو الزيادة أو الكتمان لذلك قال :( إن الله سميع عليم ).
وقوله :( فمن خاف من موص جنفا أو إثما ) الجنف في اللغة معناه الميل والظلم١.
والجنف في الوصية يتناول الميل خطأ أو الميل المتعمد. فقد يميل الموصي بدافع من عاطفة أو شفقة نحو قريب أو حبيب، وذلك كأن يبيعه محاباة وهو ما كان بثمن بخس أو أن يوصي لابن بنته لينصرف المال بعد ذلك إلى بنته، أو أن يوصي إلى زوج ابنته ليصل المال بعد ذلك إلى ابنته.
وبذلك فإن الجانف في الوصية هو المائل عن العدل وخط الشرع المستقيم سواء كان الميل على سبيل الخطأ أو العمد. فهو غير جائز في الوصية ما دام يؤدي في النهاية إلى الأذية والإضرار بالورثة.
وقوله :( فأصلح بينهم فلا إثم عليه ) المصلح المقصود هنا هو الوصي أو من يملك الإصلاح كواعظ ينهى عن الحيف ويأمر بالعدل.
وطريق الإصلاح في الآية تحتمل وجهين. أحدهما : أن المصلح سواء كان وصيا أو غيره لا إثم عليه إذا ما قام بالوعظ ورد الحيف بقصد الإصلاح ما بين الورثة أنفسهم أو ما بين الموصي والورثة. وبعدها فإن الله غفور للموصي إذ عدل عن الجنف وما فيه من إضرار بالورثة.
وثانيهما : أن الوصية إذا علم بالحيف في الوصية فله أن يعدل عما أوصى به الميت ( الموصي ) إلى ما هو مقبول شرعا ليأتي ذلك منسجما مع روح الشرع في العدل في الوصية وعدم الجنف فيها ؛ كيلا يتضرر الورثة أن يتأذوا. ومثل هذا التصرف من الوصي جائز وهو من باب الإصلاح لا التبديل المحظور، وهو بذلك حق وعدل وهو المقصود من قوله تعالى :( فأصلح بينهم ) فإن ذلك إصلاح وخير فلا إثم على الوصي إن قام به ؛ لذلك جاء قوله :( فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) أما الميل المتعمد في الوصية بما يضر الورثة فإنه حرام. وقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس أن الرسول ( ص ) قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " ٢.
١ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٢٩ ومختار الصحاح ص ١١٢..
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٧٠- ٢٧٢ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ٧٣..
قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ).
الصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام١. وهو في الشرع الإمساك عن الطعام والشراب والجماع بنية الطاعة لله، وذلك ابتداء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وعرفه ابن قدامة بقوله : الصوم عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص٢.
على أن الصيام عظيم الفائدة للإنسان بما يحقق له المنفعة في جسده ونفسه، أما في مجال الجسد فإنه مناسبة زمنية فريدة ترتاح فيها المعدة من دوام الانهماك الشاغل في عملية الطعام ومعالجته. وفي ذلك من الجهد ما يقود في كثير من الأحيان إلى عديد من الأمراض. والنبي ( ص ) يبين للإنسان المؤمن أن الصوم طريق الصحة والعافية للأبدان رغم ما تشعر به النفس من لسعة الجوع وحرارة العطش أو انكسار وعناء يؤثران في ظاهر الإنسان، لا في جوهره وحقيقته. فقال عليه الصلاة والسلام في ذلك : " صوموا تصحوا " ٣ وغير ذلك من فوائد للأبدان يحققها الصوم. وهي فوائد كثيرة تتحدث عنها أقلام المتخصصين من أهل الطب.
وأما في مجال النفس فلا جرم أن يكون الصوم نافعا. وتتجلى هذه المنفعة فيما نحسه من واقع الصوم، سواء كان ذلك في اشتداد العزم وتقوية الإرادة، أو في إطفاء لهيب الشهوة ؛ كيلا تحتدم وتجنح. ومعلوم أن الطعام يمد الشهوات بطاقة التحرك والاشتداد والفوران، خصوصا شهوة الجنس فإنها يغذوها الإكثار من الطعام بطاقة مندفعة تظل في استعار فائر حتى تجد متنفسها بأي أسلوب، لكن الصيام يخفف كثيرا من سورة هذه الشهوة الخطيرة حتى تأخذ في البرود والرقود والانكسار، وحينئذ يحس الإنسان روعة التحرر من غلواء الشهوة. وفي ذلك قد نبه النبي ( ص ) إلى أهمية الصيام، وأنه خير سبيل للشباب العزاب ؛ كيما تهجع شهواتهم أو ترقد، فقال : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
وبالصوم تقوى الإرادة ويشتد العزم. وفي ذلك إكساب لنفس المؤمن إذ يزداد بالصوم قوة في الطبع والهمة فيكون في الحياة ثابتا صابرا متجلدا. ولا جرم أن الإرادة بالنسبة للإنسان من المذاخير الهامة التي تختزنها طبيعة الإنسان. فإنه بالإرادة يمضي في الحياة قدما دون أن تتعثر نفسه بمصاعب الطريق. وإذا منيت إرادة الإنسان بالضعف والخور بات الإنسان مخذولا ومسلوب العزم ليعيش مع المهزومين والخالفين. وليس شيء كالصوم في تقوية الإرادة وشحذ الهمة والعزم وتمكين النفس من دوام التشبث بالصبر وقوة الاحتمال.
ومن أجلى صور الفوائد للصوم أنه يهذب النفس الصائمة. ويأتي في طليعة التهذيب أن الصوم يُنمّي في النفس المؤمنة الصائمة حقيقة الوازع المرهف أو الإحساس الكبير المتواصل بصحوة الضمير ويقظة الحس الوجداني الذي يربط العبد المؤمن الصائم بربه.
وما يمضي الصائم في صومه حتى يحس بروعة الصلة الشعورية المتينة التي تربطه بربه والتي لا تقع عليها أبصار الناس أو مشاهداتهم. وإنما هي صلة ذاتية تتوطد في دخيلة الصائم وهو يحجب عن نفسه الطعام والشراب والملذات في غير ما استكراه أو اصطناع، ولكن عن رغبة وافية فياضة وعن توجه مطمئن طائع إلى الله وحده.
ومن أجل ذلك فقد استخلص الله الصوم بالذات من بين العبادات ليكون له سبحانه ؛ لما فيه من سرية مستورة لا يطلع عليها أحد سوى الله. فقد ثبت في الحديث الشريف عن النبي ( ص ) أنه قال مخبرا عن رب العزة جل وعلا : " يقول الله تبارك وتعالى : كل عمل ابن آدم له إل�