تفسير سورة البقرة

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

ومن سورة البقرة
«١»
قوله تعالى: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ... (٢)
الهجاء موقوف فِي كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزما، إنما هُوَ كلام جزمه نية الوقوف على كل حرف منه فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قل أو كثر. وإنما قرأت القراءُ «آلم اللَّهُ» في «آل عِمْرانَ» ففتحوا الميم لأن الميم كانت مجزومة لنية الوقفة «٢» عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة «ال م الله» فتركت العرب همزة الألف من «الله» فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحِقّا للجزم لكسرت، كما في «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» «٣». وقد قرأها رجل من النحويين، - وهو أبو جعفر الرؤاسي وكان رجلا صالحا- «آلم أَلله» بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء:
وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع «٤» الألف.
(١) فى ج، ش: فاتحة البقرة.
(٢) فى ج، ش: «الوقف». فتح الميم فى «الم الله» أوّل سورة آل عمران هو قراءة العامة قال النحاس فى إعراب القرآن له: «وقد تكلم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح كى لا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها...... وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت: الم الله، والم اذكر، والم اقتربت».
وقال العكبري فى إعراب القرآن له: «وقيل فتحت لأن حركة همزة «الله» ألقيت عليها، وهذا بعيد لأن همزة الوصل لا حظ لها فى الثبوت فى الوصل حتى تلقى حركتها على غيرها. وقيل الهمزة فى «الله» همزة قطع، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال، فلذلك ألقيت حركتها على الميم لأنها تستحق الثبوت، وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف «أل».
(٣) آية ٢٧ سورة يس.
(٤) قراءة عاصم كقراءة الرؤاسى، وهذه القراءة على تقدير الوقف على «الم» كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد فى نحو واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة وهم واصلون.
9
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفا واحدا مثل قوله «ص» و «ن» و «ق» كان فيه وجهان في العربية إن نويت به الهجاء تركته جزمًا وكتبته حرفًا واحدا، وإن جعلته اسما للسورة أو في مذهب قَسَم كتبته على هجائه «نون» و «صاد» و «قاف» وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من «نون» فقلت: «نون والقلم» و «صاد والقرآن» و «قاف» لأنه قد صار كأنه أداة كما قالوا رجلان، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفًا، ونصبوا النون في «المسلمون والمسلمين» لأن قبلها ياء وواوا.
وكذلك فافعل ب «يس وَالْقُرْآنِ» فتنصب النون من «يس» وتجزمها.
وكذلك «حم» و «طس» ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل «طا سين ميم» لأنها لا تشبه الأسماء، و «طس» تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل «الم» و «المر» ونحوهما.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ... (٢)
يصلح فيه ذلِكَ من جهتين، وتصلح فيه «هذا» من جهة فأما أحد الوجهين من «ذلِكَ» فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد «١»، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أُوحِيه إليك. والآخر أن يكون «ذلِكَ» على معنى يصلح فِيهِ «هَذَا» لأن قوله «هَذَا» و «ذلِكَ» يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالأخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه «هذا» لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه «ذلِكَ» لانقضائه، والمنقضي كالغائب. ولو كان شيئًا قائما يرى لم يجز مكان «ذلِكَ» «هذا»،
(١) فى ج، ش «محمد».
10
ولا مكان «هذا» «ذلِكَ» وقد قال الله جل وعز: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إلى قوله: «وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» ثم قال: «هذا ذِكْرُ» «١».
وقال جل وعز في موضع آخر: «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» ثم قال:
«هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ» «٢». وقال جل ذكره: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» ثم قال: «ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» «٣». ولو قيل في مثله من الكلام في موضع «ذلِكَ» : هذا» أو فى موضع «هذا» :«ذلِكَ» لكان صوابا.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود «هَذَا فَذُوقُوهُ» وفي قراءتنا «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ» «٤».
فأما ما لا يجوز فِيهِ «هذا» في موضع «ذلِكَ» ولا «ذلِكَ» في موضع «هذا» فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: مَن هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا: مَن ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين إذا أردت ب «الْكِتابُ» أن يكون نعتا ل «ذلِكَ» كان الهُدَى في موضع رفع لأنه خبر ل «ذلِكَ» كأنك قلت: ذلك هُدًى لا شك فيه «٥». وإن جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبره رفعت أيضا (هُدىً) تجعله تابعا لموضع «لا رَيْبَ فِيهِ» كما قال الله عز وجل: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» «٦» كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء «الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» »
بالرفع
(١) الآيات ٤٥- ٤٩ سورة ص. [.....]
(٢) آية ٥٢، ٥٣ سورة ص.
(٣) آية ١٩ سورة ق.
(٤) آية ١٤ سورة الأنفال.
(٥) وجملة «لا ريب فيه» على هذا اعتراض أو حال.
(٦) آية ٩٢ و ١٥٥ سورة الأنعام.
(٧) آية ١- ٣ سورة لقمان.
11
والنصب. وكقوله في حرف عَبْد اللَّه: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخٌ» «١» وهي في قراءتنا «شَيْخاً».
فأما النصب في أحد الوجهين فأن تجعل «الْكِتابُ» خبرا ل «ذلِكَ» فتنصب «هُدىً» على القطع لأن «هُدىً» نكرة اتصلت بمعرفة قد تم خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت «هُدىً» على القطع «٢» من الهاء التي في «فِيهِ» كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
واعلم أن «هذا» إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها- أن ترى الاسم الذي بعد «هذا» كما ترى «هذا» ففعله حينئذ مرفوع «٣» كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتًا لهذا إذا «٤» كانا حاضرين، ولا يجوز هاهنا النصب «٥». والوجه الآخر- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا يؤدّي عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا ألا ترى أنك تخبر عن الأسْد كلِّها بالخوف. والمعنى الثالث- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا لا نظير له فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن «هذا» ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا «٦»، وكان الخبر بطرح «هذا» أجود ألا ترى إنك لو قلت: ما لا يضر «٧» من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أول ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن
(١) آية ٧٢ سورة هود.
(٢) يريد بالقطع الحال.
(٣) يعنى أن مدلول «هذا» والاسم المحلى بأل بعده واحد مساو له، بأن يكون هو إياه لا يزيد عنه، ومراده بفعله الاسم الواقع بعد المحلى بأل، وعبر عنه بفعله لأنه من أحواله وصفاته، وقد يكون حدثا من أحواله وصفاته نحو الفراهة والإخافة، والضياء والنور فى الأمثلة التي أتى بها.
(٤) كذا فى الأصول.
والأنسب (إذ).
(٥) عدم جواز النصب هنا أنه لو نصب «فاره» حالا، لتعين أن يكون «الحمار» خبر الاسم الإشارة فتكون الجملة الاسمية لا فائدة فيها لأنك تخبر عن شىء مشاهد بنفسه.
(٦) انظر فى التقريب عند الكوفيين الهمع ١/ ١١٣
(٧) كذا بالأصول، وقد يكون الأصل: ما لا يضرى من السباع فالأسد ضار.
12
يرفعوا هذا «بالأسد»، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة «١» «هذا» نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته «٢». ومثله «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «٣» فإذا أدخلت عليه «كان» ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نورًا فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك «هذا» مستغنيا ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول «هذا» لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ... (٧)
انقطع معنى الختم عند قوله: «وَعَلى سَمْعِهِمْ». ورفعت «الغشاوة» ب «عَلى»، ولو نصبتها بإضمار «وجعل» لكان صوابا. وزعم المفضَّل «٤» أن عاصم بن أبي النَّجُود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» «٥» ومعناهما واحد، والله أعلم. وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدل أوله على أخره كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدواب ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار
(١) «بمرافعة» كذا فى ش. وفى غيرها: «بمرافعه». هذا ومذهب الكوفيين ومنهم الفراء أنّ المبتدأ والخبر ترافعا يعنى أن المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ لأن كلا منهما طالب للآخر ومحتاج إليه وبه صار عمدة. [.....]
(٢) أي عدم اشتغاله بمرافع.
(٣) «الله» مبتدأ و «غفور رحيم» خبران، فإذا دخل على الجملة كان يكون لفظ الجلالة مرفوعا بها، وينصب ما بعده.
(٤) هو المفضل الضبّىّ. كان من أكابر علماء الكوفة، توفى سنة ١٧١ هـ.
(٥) آية ٢٣ من السورة المذكورة.
فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة الواقعة: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» «١» ثم قال: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ» فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين.
«٢» قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهن فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حُورٌ عينٌ، أو مع ذلك حور عينٌ فقيل «٣» : الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها- والله أعلم- ثم أُتبع آخر الكلام أوله. وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وماءً باردًا... حتَّى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْنَاهَا «٤»
والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير «٥» لقلة اجتماعه، فقولك: قد أعتقت مباركا أمس وآخر اليوم يا هذا وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول:
ضربت فلانا وفلانا وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا لأنه ليس هاهنا دليل.
ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.
وقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ... (١٦)
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بَيْعُك وخسر بيعُك، فحسن «٦» القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» «٧» وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير «٨»
(١) آية ٢٢ من السورة المذكورة.
(٢) كذا فى أ. وفى ش، ج: «وقال».
(٣) هذا توجيه الخفض فى «حور عين» بالحمل على الفاكهة واللحم، فقد خفضا مع أنهما لا يشتركان مع الأكواب فى الطواف بهما، وإنما هو إتباع الآخر الأوّل على تقدير عامل مناسب، فليكن هذا هنا.
(٤) انظر الخزانة ١/ ٤٩٩.
(٥، ٨) يريد بالضمير المحذوف.
(٦) كذا فى أ، ب. وفى ش، ج: «وحسن».
(٧) آية ٢١ سورة محمد.
14
إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك لم يجز ذلك، (إن كنت) «١» تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربَح فيه أو يُوضَع «٢» لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يُوضَع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان مَتْجُورًا فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
وقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً... (١٧)
فإنما ضرب المثل- والله أعلم- للفعل لا لاعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» «٣». وقوله: «مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» «٤» فالمعنى- والله أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا «٥» كما قال: «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» «٦» أراد الْقِيمَ «٧» والأجسام، وقال: «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» «٨» فكان مجموعا إذ «٩» أراد تشبيه أعيان الرجال فأجْر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا فى شعر فأجْر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحَّدا في شعر فأجِزْه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو «١٠» أيضا يراد به الفعل فأجزه كقولك: ما فِعْلك إلا كفعل الحَمِير، وما أفعالكم إلا كفعل الذِّئب فابنِ على «١١» هذا، ثم تُلْقِي الفعلَ فتقول: ما فعلك إلا كالحَميرِ وكالذئب.
وإنما قال الله عز وجل: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابا كقوله: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ.
(١) فى الأصول: «وإن كنت» وما أثبتناه أوفق.
(٢) أوضع فى تجارته (بضم الهمزة)، ووضع (كعنى وكوجل) خسر فيها. وفى ج، ش: «تربح وتوضع».
(٣) آية ١٩ سورة الأحزاب. [.....]
(٤) آية ٢٨ سورة لقمان.
(٥) العبارة فى ج، ش: «ولو كان التشبيه للرجال أراه لكان مجموعا... إلخ».
(٦) آية ٤ سورة المنافقون.
(٧) القيم (جمع قامة أو قيمة) : وهى قوام الإنسان وقدّه وحسن طوله.
(٨) آية ٧ سورة الحاقة.
(٩) فى الأصول: «إذا» والمقام للتعليل.
(١٠) كذا فى الأصول. والأنسب: «وهو».
(١١) فى ج، ش: «هذين».
15
كَالْمُهْلِ تغلى فِي الْبُطُونِ» «١» و «يَغْلِي» فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: «أَمَنَةً نُعاساً تغشى طائِفَةً مِنْكُمْ» «٢» للأمنة، و «يَغْشى» للنعاس.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) رفعن وأسماؤهن «٣» في أول الكلام منصوبة لأن الكلام تم وانقضت به آية، ثم استؤنفت «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تم الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف قال الله تبارك وتعالى: «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» «٤» «الرَّحْمنِ» يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفا فكثير من ذلك قول الله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» إلى قوله: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «٥». ثم قال جل وجهه: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» بالرفع فى قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود «٦» «التائبين العابدين الحامدين». وقال: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ» «٧». يُقرأ بالرفع والنصب على ما فسرت لك. وفي قراءة عبد الله: «صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا» بالنصب.
ونصبُه على جهتين إن شئت على معنى: تركهم صمًّا بكما عميا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترَك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف «صُمًّا» بالذمّ لهم.
والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلا له، وَثَوَابًا له، وَبُعْدًا وسقيا ورعيا.
(١) آية ٤٣- ٤٥ سورة الدخان.
(٢) آية ١٥٤ سورة آل عمران.
(٣) كأنه يريد الضمير المنصوب فى قوله: «وتركهم» وجعله أسماءهم إذ كان ضميرا مجموعا، فكأنه عدّة ضمائر، كل ضمير اسم، أو أراد بالمنصوبة غير المرفوعة.
(٤) آية ٣٧ سورة النبأ.
(٥) آية ١١١ سورة التوبة.
(٦) فى ج، ش: «وفى قراءة عبد الله». [.....]
(٧) آية ١٢٥- ١٢٦ سورة الصافات.
16
وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ... (١٩)
مردود على قوله: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً». أَوْ كَصَيِّبٍ:
أو كمثل صيِّب، فاستُغني بذكر «الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» فطُرِح ما كان ينبغي أن يكون مع الصيب من الأسماء، ودل عليه المعنى لأن المثل ضرب للنفاق، فقال:
فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فشبه الظلمات «١» بكفرهم، والبرق «٢» إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى في القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر قيل: إن الرعد إنما ذُكِر مَثَلا لخوفهم من القتال إذا دُعُوا إليه. ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» «٣» أي يظنون أنهم أبدًا مغلوبون.
ثم قال: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ فنصب «حَذَرَ» على غير وقوعٍ من الفعل عليه لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خَوْفًا وفَرَقًا. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: «يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» «٤». وكقوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» «٥» والمعرفة والنكرة تفسِّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح «مِنَ». وهو «٦» مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
وقوله: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ... (٢٠)
والقراء تقرأ «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول: «يَخْطَفُ». وبعضهم يكسر
(١، ٢) الأولى عكس التشبيه، فالكفر مشبه بالظلمات، والإيمان مشبه بالبرق.
(٣) آية ٤ سورة المنافقون.
(٤) آية ٩٠ سورة الأنبياء.
(٥) آية ٥٥ سورة الأعراف.
(٦) يريد أنه قد يقرب المفعول لأجله للمبتدىء بما يصلح فيه تقدير من.
17
الياء والخاء ويشدد فيقول: «يَخْطَفُ». وبعضٌ من قراء أهل المدينة يسكن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول: «يَخْطَفُ». فأما من قال: «يَخْطَفُ» فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التي في اختطف والاختطاف وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأُسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضتَ الأوّل كما قال: اضربِ الرجل فخفضتَ الباء لاستقبالها اللام.
وليس الذي قالوا بشيء لأن ذلك لو كان كما «١» قالوا لقالت العرب في يَمُدّ:
يَمِدّ لأن الميم [كانت «٢» ] ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا في يَعَضّ:
يَعِضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا من طَلَبِه كسرة الألف لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بني على التبيان «٣» إلا أنه إدغام خفيّ. وفي قوله: «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» «٤» وفى قوله: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» «٥» مثل ذلك التفسير إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» بتسكين الخاء، فهذا معنى «٦» سوى ذلك «٧» وقوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ... (٢٠)
فيه لغتان: يقال: أضاءَ القمر، وضاءَ القمر فمن قال ضاء القمرُ قال:
يضوء ضَوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
يضوء ضَوءا والضّوء فيه لغتان، ضم الضاد وفتحها.
وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فيه لغتان: أظلم الليل «٨» وظلم.
(١) فى ج، ش: «على ما».
(٢) ساقط من أ.
(٣) يريد بالتبيان الإظهار وعدم الإدغام.
(٤) آية ٣٥ سورة يونس.
(٥) آية ٤٩ سورة يس.
(٦) يريد أنه جاء فى معنى الغلبة أي يغلبون فى الجدل والخصومة. يقال: خاصمت فلانا فخصمته، أخصمه، بالكسر فى المضارع، وهذا مما شذ. والقياس الضم فى المضارع. وانظر اللسان (خصم) والطبري فى تفسير الآية.
(٧) ما بين النجمتين ساقط من ش، ج.
(٨) الليل: ساقط من ش، ج. [.....]
18
وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ... (٢٠)
المعنى «١» - والله أعلم-: ولو شاء الله لاذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول «٢» : أذهبت بصره بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من «أذهبت». وقد قرأ بعض القرّاء: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» «٣» بضم الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» «٤». فترى- والله أعلم- أن الذين ضموا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذ بالخطام، وخذ الخطام، وتعلقت بزيد، وتعلقت زيدا. فهو «٥» كثير في الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك «٦» لقلَّته، ومنه «٧» قوله: «آتِنا غَداءَنا» «٨» المعنى- والله أعلم- ايتنا بغدائنا فلما أسقطت الباء زادوا ألفا في فعلت، ومنه قوله عز وجل:
«قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» «٩» المعنى- فيما جاء «١٠» - ايتوني بِقطر أُفرِغ عليه، ومنه قوله: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» «١١» المعنى- والله أعلم- فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.
وقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ... (٢٣)
الهاء كناية عن القرآن فأتوا بسورة من مثل القرآن. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن «١٢» بالمسلمين.
(١) فى ش، ج: «ومعناه».
(٢) فى ش، ج: «أن يقولوا».
(٣) آية ٤٣ سورة النور. وهذه قراءة أبى جعفر.
(٤) آية ٢٠ سورة المؤمنون. وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو.
(٥) يريد المشبه به من قولهم: خذ بالخطام وما بعده.
(٦) يريد الجمع بين صيغة الإفعال والباء.
وهو المشبه.
(٧) رجوع لأصل الكلام فى قوله: «ومن شأن العرب... ».
(٨) آية ٦٢ سورة الكهف.
(٩) آية ٩٦ سورة الكهف.
(١٠) «فيما جاء» : ساقط من ج، ش.
(١١) آية ٢٣ سورة مريم.
(١٢) «واستعن» : ساقطة من ج، ش.
وقوله: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ... (٢٤)
الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعنى النار «١».
وقوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه «٢»، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها... (٢٦)
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه فى سورة البقرة؟
فذكِر لنا «٣» أن اليهود لما قال الله: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» «٤» قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» - إلى قوله- «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» «٥» لذِكر الذباب والعنكبوت فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. فالذى «فَوْقَها» يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في مثله من الكلام «فَما فَوْقَها» تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه «٦» لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحَبُّ إلىّ أن أجعل «فَما فَوْقَها» أكبر
(١) فى ج، ش: «وأنه أشدّ الحجارة حرا يحمى، فهى أشدّ الحجارة حرا إذا أحميت. «وأتوا به متشابها».
(٢) فى ج، ش: «اشتبه عليهم، يريد على أهل الجنة فى لونه». [.....]
(٣) فى ج، ش: «فى سورة البقرة أن اليهود». وهذا جواب السؤال السابق.
(٤) آية ٤١ سورة العنكبوت.
(٥) آية ٧٣ سورة الحج.
(٦) فى ج، ش: «أستحبه».
20
منها. ألا ترى أنك تقول: يُعْطى من الزكاة الخمسون فما دونها. والدرهم فَمَا فوقه فيضيق الكلام «١» أن تقول: فوقه فيهما. أو دونه فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخُر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك فكأنّك تحطّه عن غاية الشرف أو غاية البُخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه لبخيلٌ وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلتَه قليلا عن دَرَجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال الفرّاء: وأما نصبهم «بَعُوضَةً» فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن تُوقع الضّرب على البعوضة، وتجعل «ما» صلة كقوله: «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» «٢» [يريد عن «٣» قليل] المعنى- والله أعلم- إن الله لا يستحيى أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا.
والوجه الآخر: أن تجعل «ما» اسما، والبعوضة صلة «٤» فتعرّبها بتعريب «ما». وذلك جائز فى «مِنْ» و «ما» لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال كما قال حسَّان بن ثابت:
فَكَفَى بِنا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنا حُبُّ النَّبِيءِ محمّد إيّانا «٥»
(١) فى ج، ش: «فيضيق الكلام هاهنا أن تقول».
(٢) آية ٤٠ سورة المؤمنون.
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ج، ش: «صلة له».
(٥) نسب هذا البيت لغير حسان أيضا، ويرى النحاة أن «من» فى البيت نكرة موصوفة، و «غيرنا» بالجرّ نعت لها، والتقدير على قوم غيرنا. وقد روى «غيرنا» بالرفع على أن «من» اسم موصول و «غير» خبر لمبتدإ محذوف «هو غيرنا» والجملة صلة.
وانظر الخزانة ٢/ ٥٤٥ وما بعدها.
21
[قال الفراء: ويروى:
... على مَنْ غَيْرُنا «١» ] والرفع فى «بَعُوضَةً» هاهنا جائز، لأن الصلة تُرفَعُ، واسمها «٢» منصوب ومخفوض.
وأما الوجه «٣» الثالث- وهو أحبها إلي- فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعربُ إذا ألْقَتْ «بَيْنَ» من كلام تصلُح «إِلَى» في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ب «بين» والآخر ب «إلى». فيقولون: مُطرْنا ما زُبالَةَ فالثّعْلبية «٤»، وله عشرون ما ناقةً فجملا، وهي أحسن الناس ما قَرْنًا فقدَمًا «٥». يراد به ما بين قرنها إلى قدمها.
ويجوز أن تجعل القرن «٦» والقدم معرفة، فتقول: هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها.
فإذا لم تصلح «إلى» في أخر الكلام لم يجزْ سقوطُ «بين» من ذلك أن تقول:
داري ما بَيْنَ الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: داري ما الكوفة فالمدينة لأن «إلى» إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلُّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زُبالَة إلى الثَّعلبية. ولا تصلح الفاء مكانَ الواو فيما لا تصلح فيه «إلى» كقولك: دار فلان بَيْنَ الحيرة فالكوفة مُحالٌ. وجلست بين عبد الله فزيدٍ محالٌ، إلا أن يكون مقعدُك آخذًا للفضاء الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاءُ من الذي «٧» لا تصلح فيه «إلى» لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، و «إلى»
(١) ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
(٢) يريد باسم الصلة الموصول.
(٣) انظر فى هذا الخزانة ٤/ ٣٩٩.
(٤) زبالة (كشمامة)، والثعلبية (بفتح أوّله) :
موضعان من منازل طريق مكة من الكوفة.
(٥) يشار إلى البيت:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرنا فلما أسقط «بين» نصب «قرنا» على التمييز لنسبة «أحسن». [.....]
(٦) فى ش: «مكان القرن».
(٧) ج، ش: «... الفاء التي لا... ».
22
محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطَرْفةِ عَيْنٍ، وإن قَصُر قدرُ الذي بينهما مما يوجد «١»، فصلحت الفاءُ في «إلى» لأنك تقول: أخذ المطرُ أوَلَه فكذا وكذا إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرا شيئًا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويلٌ من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت مُحسنُ. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن فرضُوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائي: سمعت أعرابيا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إِهلالك إلى سَرارِك. يريد ما بين إِهلالِك إلى سرارك فجعلوا النصب الذي كان يكون في «بَيْنَ» فيما بعده إذا سقطت ليُعلم أن معنى «بَيْنَ» مُرادٌ. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما خمسا إِلَى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إِلَى خمس وعشرين. والشَّنَق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوْقاصُ «٢» في البقر.
وقوله: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً... (٢٦)
كأنه قال- والله أعلم- ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا. قال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً... (٢٨)
على وجه التعجُّب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض [أي «٣» ] وَيْحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «٤». وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
(١) فى ج، ش: «الذي بينهما فصلحت».
(٢) الأوقاص (جمع وقص بالتحريك) : ما بين الفريضتين مما لم تجب فيه الزكاة كالشنق.
(٣) زيادة يقتضيها السياق. (انظر تفسير الطبري ج ١ ص ١٤٩) والعبارة فى ج، ش: «...
المحض، وهو كقوله: فأين أي ويحكم كيف تذهبون»
.
(٤) آية ٢٦ التكوير.
23
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. المعنى- والله أعلم- وقد كنتم، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام «١». ألا ترى أنه قد قال فى سورة يوسف: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ» «٢». المعنى- والله أعلم- فقد كَذَبتْ. وقولك للرجل: أصبحت كَثُرَ مالُك، لا يجوز إلا وأنت تريدُ: قد كَثُرَ مالُك لانهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحالُ لا تكون إلا بإضمار «قد» أو بإظهارها ومثله في كتاب الله:
«أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» «٣» يريد- والله أعلم-[جاءوكم قد حصرت صدورهم «٤» ]. وقد قرأ بعض القرّاء- وهو الحسن البصري- «خصرة صدورهم».
كأنه لم يعرف الوجه في «٥» أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة، كأنه يريدُ فقد أخَذَ شاة. وإذا كان الأول لم يَمْضِ لم يجز الثاني بقَدْ ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام لأن الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام لأن عسى وإن كان لفظها على فَعَلَ فإنها لمستقبل «٦»، فلا يجوز عسى قد قام، ولا عسى قام، ولا كاد قد قام، ولا كاد قام لأن ما بعدهما لا يكون
(١) جرى الفراء فى هذا على القاعدة المقررة عند الجمهور أن الجملة الفعلية الماضوية المثبتة إذا وقعت حالا فلا بد من «قد» ظاهرة أو مقدرة لتقربه من الحال نحو «وقد فصل لكم ما حرم عليكم»، «وقد بلغني الكبر». فإن لم تكن ظاهرة قدرت نحو «أو جاءوكم حصرت صدورهم»، «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وذلك أيضا قول المبرد وأبى على الفارسي. قال أبو حيان: «والصحيح جواز وقوع الماضي حالا بدون «قد» ولا يحتاج إلى تقديرها لكثرة ورود ذلك، وتأويل الكثير ضعيف جدا لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على وجود الكثرة. وهذا مذهب الأخفش، ونقل عن الكوفيين، بل نقله بعضهم عن الجمهور أيضا.
(٢) آية ٢٧ من السورة المذكورة.
(٣) آية ٩٠ سورة النساء.
(٤) ما بين المربعين ساقط من أ.
(٥) فى ج، ش «كأنه لم يعرف إجازة أصبح... إلخ».
(٦) فى أ: «لمستقبل فيستقبل».
24
ماضيا فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب كما قال الله: «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» «١».
وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ يعني نُطَفا «٢»، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نُطْفة فهو ميتة والله أعلم. يقول: فأحياكم من النُّطَف، ثُم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ... (٢٩)
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل [و] «٣» ينتهى شبابُه، أو يستوي عن اعْوِجاج، فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى على يُشاتمني وإلى سَوَاءٍ «٤»، على معنى أَقْبَلَ إلى وعليّ فهذا معنى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ والله أعلم. وقال «٥» ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فإن السماء في معنى جمع، فقال «فَسَوَّاهُنَّ» للمعنى المعروف أنهنّ سبعُ سَمَوَاتٍ. وكذلك الأرض يقع عليها- وهى واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيدُ وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» «٦». ثم قال: «وَما بَيْنَهُما» ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت «٧» لك).
(١) آية ٧٢ سورة النمل.
(٢) فى ش: «يعنى النطف». [.....]
(٣) فى الأصول «أو» بدل الواو.
(٤) فى ج، ش: «استوى علىّ وإلىّ يشاتمنى» وكذا فى اللسان.
(٥) فى أ: «وقد قال».
(٦) آية ٥ سورة والصافات.
(٧) فى أ: (أخبرتك).
25
وقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ... (٣١)
فكان عَرَضَهُمْ «١» على مذهب شخوص العالمين «٢» وسائر العالم، ولو قُصِد قَصْد الأسماء بلا شخوص جاز فيه «عرضهنّ» و «عرضها». وهي في حرفِ عبد الله «ثم عرضهن» وفي حرف أبي «ثم عرضها»، فإذا قلت «عرضها» جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص وللشخوص دون الأسماء.
وقوله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ... (٣٣)
إن همزت قلت أَنْبِئْهُمْ ولم يجز كسر الهاء والميم لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل «عليهم». وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفعُ «هُمْ» وكسرها على ما وصفت لك في «عليهم» و «عليهم».
وقوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا... (٣٥)
إن شئت جعلت فَتَكُونا جوابا نصبا، وإن شِئتَ عطفتَه على أول الكلام فكان جزْما مثل قول امرئ القيس:
فقلتُ له صَوِّبْ ولا تجهدنه... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق «٣»
(١) «عرضهم» : ساقط من ج، ش.
(٢) فى أ: «الآدميين».
(٣) من قصيدته التي أولها:
ألا أنعم صباحا أيها الربع وانطق وحدّث حديث الركب إن شئت واصدق
والضمير فى «له» يعود للغلام المذكور فى بيت قبله. وانظر ديوان امرئ القيس برواية الطوسي المخطوط بالدار. ووقع فى سيبويه ١/ ٤٥٢ نسبته الى عمرو بن عمار الطائي. ويقال: صوب الفرس أرسله فى الجري. وجهد دابته «كمنع» وأجهدها: بلغ جهدها وحمل عليها فى السير فوق طاقتها.
وأذرت الدابة راكبها: صرعته، وطعنه فأذراه عن فرسه أي صرعه. والقطاة: العجز أو ما بين الوركين، أو مقعد الرديف من الدابة خلف الفارس. وزلق كفرح ونصر: زل وسقط. ويروى الشطر الثاني:
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
26
فجزم. ومعنى الجزم كأنه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنصب لا تفعل هذا فيُفعلَ بك مجازاةً، فلما عُطف حرفُ على غير ما يشاكله وكان في أوله حادثٌ لا يصلح في الثاني نُصِبَ. ومثله قوله: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» «١» و «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» «٢» و «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» «٣». وما كان من نفي ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف بخلاف المعنيين كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركبُ إليك تريد لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:
أَلَمْ تَسْألِ الَّرْبعَ الْقَدِيمَ فَيَنْطِقُ وَهَلْ تُخْبِرَنْكَ الْيَوْمَ بَيْدَاءَ سَمْلَقُ «٤»
أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبي سُلْمَى المُزَنيّ:
قِفْ بِالدِّيَارِ التي لَمْ يَعْفُها الْقِدَمُ بَلَى وغَيَّرها الأرْواحُ والدِّيَمُ
فأكذب نفسه. وأما قوله: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» «٥» فإنّ جوابه قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» والفاء التي فى قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ»
(١) آية ٨١ سورة طه.
(٢) آية ٦١ سورة طه.
(٣) آية ١٢٩ سورة النساء.
(٤) البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذرى، ويروى صدره:
ألم تسأل الربع القواء فينطق والقواء: القفر الذي لا ينبت. والبيداء: القفر الذي يبيد من سلكه أي يهلكه. والسملق: الأرض التي لا تنبت شيئا أو السهلة المستوية الخالية. وانظر الخزانة ٣/ ٦٠١
(٥) آية ٥٢ سورة الأنعام.
27
جواب لقوله: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» ففى قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» الجزم والنصب على ما فسرت لك، وليس في قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ» إلا النصب، لأن الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ» و «عَلَيْكَ» لا تشاكل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلا مثل قوله: «عندك وعليك وخلفك»، أو كان فعلا ماضيا مثل: «قام وقعد» لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرى الْقَطَاةِ فَتَزْلِقُ لان الذي قبل الفاء يفعل والذي بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضه لبعض لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على أخره ما يقع على أوله، وعلى أوله ما يقع على أخره لأنه فعل مستقبل «١».
وقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ... (٣٧)
ف آدَمُ مرفوع والكلمات في موضع نصب. وقد قرأ بعض القراء: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فجعل الفعل للكلمات، والمعنى- والله أعلم- واحد لأن ما لقيك فقد لقينه، وما نالك فقد نلته. وفي قراءتنا: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «٢» وفي حرف عبد الله: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمون».
وقوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «٣» ]... (٤٠)
المعنى لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذُكْر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه- والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تَنْسَوْا. وفي حرف عبد الله:
(١) «لأنه فعل مستقبل» ساقط من ج، ش. [.....]
(٢) آية ١٢٤ سورة البقرة.
(٣) زيادة فى أ.
28
«ادَّكروا» «١». وفي موضع آخر: «٢» :«وَتَذَكروا ما فيه». ومثله في الكلام أن تقول: اذكُرْ مَكاني مِنْ أبيك».
وأما نصب الياء من «نِعْمَتِيَ» فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان:
الإرسالُ والسكون، والفتح، فإذا لَقيتها ألفٌ ولام، اختارت العربُ اللغة التي حركت فيها الياء وكرِهوا الأخرى لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتي «٣» الّتي، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام وقد قال اللَّه:
«يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» «٤» فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان فِي القرآن مما فِيهِ ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمَّا قوله: «فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» «٥». فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة وعلى هذا يقاس كل ما فِي القرآن منه. وقوله: «فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» «٦» زعم الكسائي أن العرب تستحب نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» «٧» و «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» «٨». ولم أر ذلك عند العرب رايتهم يرسلون الياء فيقولون: عندي أبوك، ولا يقولون: عندي أَبُوك بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة فِي الياء فِي هذا ومثله. وأما قولهم: لِيَ ألفان، وَبِي أخواك كفيلان،
(١) ذكر هذه القراءة البيضاوي ولم ينسبها. ونسبها ابن خالويه إلى يحيى بن وثاب.
(٢) «فى موضع آخر» : ساقط من ج، ش، وهو يشير إلى قراءة ابن مسعود فى آية ٦٣ سورة البقرة: «واذكروا ما فيه لعلكم تتقون».
(٣) رسم فى أ: «نعمت» تحقيقا لحذف الياء فى اللفظ.
(٤) آية ٥٣ سورة الزمر.
(٥) آية ١٧، ١٨ سورة الزمر.
(٦) آية ٣٦ سورة النمل.
(٧) آية ٧٢ سورة يونس.
(٨) آية ٤٨ سورة الأنفال، وآية ١٦ سورة الحشر. وفتح الياء قراءة نافع.
29
فإنهم ينصبون فِي هذين لقلتهما «١»، [فيقولون: بي أخواك، ولي ألفان، لقلتهما «٢» ] والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا... (٤١)
وكل ما كان فِي القرآن من هذا قد نُصِبَ فِيهِ الثَّمَنُ وأدخلت الباء فِي المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي فِي الشيئين لا يكونان ثَمَنًا معلوما مثل الدنانير والدراهم فمن ذلك: اشتريتُ ثوبا بكساء أيَّهما شئتَ تجعله ثَمَنًا لصاحبه لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء فى الثّمن، كما قال فى سورة يوسف: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» «٣» لأن الدراهم ثمنٌ أبدا، والباء إنما تدخل فِي الأثمان، فذلك قوله: «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» «٤»، «اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» «٥»، [اشتروا الضلالة بالهدى «٦» ] «وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» «٧»، فأدخل الباء فِي أي هذين شئت حَتَّى تصير إلى الدنانير والدراهم فإنك تُدخل الباء فيهن مع العُروض، فإذا اشتريت أحدهما [يعني الدنانير والدراهم] «٨» بصاحبه أدخلت الباء فِي أيهما شئت لأن كل واحد منهما فِي هذا الموضع بيعٌ «٩» وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العُروض وبين الدراهم، فإنك تعلم أن من اشترى عَبْدا بألف درهم معلومة، ثُمَّ وجد به عيبا فرده لم يكن له على البائع «١٠» أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عَبْدا بجارية ثُمَّ وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العُروض ليست بأثمان.
(١) أي لقلة (لى) و (بي) فكلاهما حرفان، فلو سكنت الياء خفيت فتبدو الكلمتان كأنهما حرف واحد.
(٢) ما بين المربعين ساقط من أ.
(٣) آية ٢٠ من السورة المذكورة.
(٤) آية ٩ سورة التوبة. [.....]
(٥) الآية ٨٦ من البقرة.
(٦) زيادة خلت منها الأصول.
(٧) الآية ١٧٥ من البقرة.
(٨) ساقط من أ.
(٩) يراد بالبيع المبيع.
(١٠) فى الأصول «المشترى» والتصويب وجد بهامش نسخة (أ).
30
وقوله: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «١» (٣٦) فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: «اهْبِطُوا» يعنيه ويعني ذريته، فكأنه خاطبهم. وهو كقوله: «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «٢». المعنى- والله أعلم- أَتَيْنا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إِبْرَاهِيم: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ». ثم قال:
«وَأَرِنا مَناسِكَنا» «٣» وفي قراءة عَبْد اللَّه «وأرهم مناسكهم» فجمع قبل أن تكون ذريته. فهذا ومثله فِي الكلام مما تتبين به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم.
وقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً... (٤٨)
فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذِكْرُهما مرة بالهاء وحدها ومرة بالصفة فيجوز ذلك «٤» كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئًا وتضمر الصفة، ثم
(١) يلاحظ أن هذه الآية ليست فى موضعها من الترتيب والأصول كلها على هذا الوضع.
(٢) آية ١١ سورة فصلت.
(٣) آية ١٢٨ سورة البقرة.
(٤) مراده بالصفة حرف الجر كما هو اصطلاح الكوفيين، وهو هنا (فى) المتصل بالضمير العائد على اليوم (فيه) فحذف الجار والمجرور لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع فى غيرها. والحذف هنا فيه خلاف بين النحويين، قال البصريون: التقدير «واتقوا يوما لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس شيئا» ثم حذف فيه كما قال:
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليلا سوى طعن النهال نوافله
أي شهدنا فيه.
وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز (فيه) والتقدير «واتقوا يوما لا تجزيه نفس»، ثم حذف الضمير المنصوب، وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها، قال: لا يجوز هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه. قال: ولو جاز ذلك لجاز (الذي تكلمت زيد) بمعنى تكلمت فيه.
وقال الفراء: يجوز حذف (الهاء) و (فيه)، وحكى جواز الوجهين عن سيبويه والأخفش والزجاج.
31
تظهرها فتقول: لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس شيئا. وكان الكسائي لا يجيز إضمار الصفة فِي الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة هاهنا لأجزت: أنت الَّذِي تكلمتُ وأنا أريد الَّذِي تكلمتُ فِيهِ. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر فِي مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني بعض العرب:
يا رُبَّ يَوْم لو تَنَزّاهُ «١» حول... أَلْفَيْتَني ذا عنزٍ وذا طول
وأنشدني آخر:
قد صَبَّحت «٢» صبَّحها السلامُ... بِكَبِدٍ خالَطها سَنامُ
فِي ساعة يُحَبُّها الطعامُ ولم يقل يُحَبّ فيها. وليس يدخل على الكسائي ما أدخل على نفسه لأن الصفة فِي هذا الموضع والهاء متفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتُك كان غير كلّمتُ فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان «فِي» ولا إضمار «فِي» مكان الهاء.
وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ... «٣» (٤١)
فوحد الكافر وقبله جمعٌ وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ فِي الاسم إذا كان مشتقًّا من فِعْل، مثل الفاعل والمفعول يرادُ به ولا تكونوا أول من يكفر فتحذف «من» ويقوم الفعل مقامها فيؤدي الفعلُ عن مثل
(١) فى ج، ش: «تذراه» ولم نعثر على هذا البيت فيما لدينا من مراجع.
(٢) صبحت أنت بالتصبيح يريد به الغداء مجازا، من قولهم: صبح القوم وصبحهم سقاهم الصبوح، وهو ما يشرب صباحا من لبن أو خمر.
(٣) هذه الآية ليست على الترتيب وكذا ما بعدها.
32
ما أدّت «من» عَنْهُ من التأنيث والجمع وهو فِي لفظ توحيدٍ. ولا يجوز فِي مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضلُ رجلٍ، ولا أنتما خير رَجُل لأن الرجل يثنى ويجُمع ويُفرد [فُيعَرف «١» ] واحدُه من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولمن فيؤدي عَنْهُمَا وهو موحَّد ألا ترى أنك قد تقول: الجيْشُ مقبلٌ والجُنْد منهزمٌ، فتوحِّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ ففي هذا تبيان «٢» وقد قال الشاعر:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَأَلامُ طاعِمٍ وإذا هُمُ جاعُوا فشَرُّ جِيَاعِ «٣»
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ.
وقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) إن شئت جعلت «وَتَكْتُمُوا» فِي موضع جزم تريد به: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق، فتُلقي «لا» لمجيئها فِي أول الكلام. وفي قراءة أَبي:
«ولا تكونوا أوّل كافر به وتشتروا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا» فهذا دليلٌ على أن الجزم فى قوله: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» مستقيم صوابٌ، ومثله: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» «٤» وكذلك قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «٥» وإن شئت جعلت هذه الأحرُفَ المعطوفة بالواو نصبًا على ما يقولُ النحويّون من الصَّرْف فإن قلت: وما الصّرف؟
(١) ساقط من أ. [.....]
(٢) راجع تفسير الطبري ج ١ ص ١٩٩ طبع بولاق فى هذا البيان فعبارته أوضح.
(٣) من ثلاثة أبيات فى نوادر أبى زيد ١٥٢، نسبها إلى رجل جاهلىّ.
(٤) آية ١٨٨ سورة البقرة.
(٥) آية ٢٧ سورة الأنفال.
33
قلت: أن تأتي بالواو «١» معطوفةً على كلامٍ فى أوّله حادثة لا تستقيم إعادتُها على ما عُطِف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصَّرْفُ «٢» كقول الشاعر «٣» :
لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فَعلتَ عظِيمُ
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة «لا» فِي «تأتي مثله» فلذلك سُمّي صَرْفًا إذْ كان «٤» مَعطوفًا ولم يستقم أن يُعاد فِيهِ الحادث الَّذِي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العربُ وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تُركت والأسد لأكلك، ولو خُلِّيت ورأيَك لَضَلَلْتَ: لمَّا لم يحسن فِي الثاني أن تقول: لو تُركت وتُرك رأيُك لضللت تهبّيوا أن يعطِفوا حرفًا لا يستَقيمُ فِيهِ ما حَدَثَ فِي الَّذِي قبله. قال «٥» : فإنّ العرب تجيزُ الرفع لو تُرك عَبْد الله والأسد لأكله، فهل «٦» يجوز فِي الأفاعيل «٧» الّتي نصبت بالواو على الصرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصرف؟ قلت: نعم العرب تقول: لستُ لابي إِنْ لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لاضربنك أو تسبقني فِي الأرض، فهذا مردودٌ على أول الكلام، ومعناه الصرف لأنه لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بِلَمْ، ولا إعادة اليمين على والله لتسبقني، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام. والصرف فِي غير «لا» كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه.
(١) فى ش، ج: «الواو».
(٢) يسمى الكوفيون هذه الواو (واو الصرف) إرشاد بصرفه عن سنن الكلام إلى أنها غير عاطفة، وشرط هذه الواو أن يتقدمها نفى أو طلب.
(٣) نسبه سيبويه فى كتابه ١/ ٤٢٤ (باب الواو) للأخطل. ويروى لأبى الأسود الدؤلي فى قصيدة طويلة.
(٤) فى أ: «كان به».
(٥) كأن الأصل: «قال قائل».
(٦) فى ش، ج: «وهل».
(٧) الأفاعيل جمع أفعال جمع فعل، عبر به إشارة إلى كثرة الوارد منه.
34
وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها... «١» (٧٢)
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» «٢» يقول القائل: وأين جواب «إِذْ» وعلام عُطِفت؟ ومثلها «٣» فى القرآن كثير بالواو ولا جواب معها ظاهر؟ والمعنى- والله أعلم- على إضمار «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ» أو «إذ كنتم» فاجتزئ بقوله: «اذْكُرُوا» فِي أول الكلام، ثُمَّ جاءت «إِذْ» بالواو مردودةً على ذلك. ومثله من غير «إِذْ» قول اللَّه: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» «٤» وليس قبله شيءٌ تراه ناصبًا لصالح فعُلم بذكر النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم والمُرسَل إليه أن فِيهِ إضمار أرسلنا، ومثله قوله: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» «٥» «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» «٦» «وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» «٧» يجرى هذا على مثل ما قال فِي «ص» :«وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» «٨» ثُمَّ ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير «وَاذْكُرْ» لأن معناهم مُتّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل على أن «واذكروا» مضمرة مع «إِذْ» أنه قال:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» «٩» «وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» «١٠» فلو لم تكن هاهنا «وَاذْكُرُوا» لاستدْلَلت على أنها تُراد لانّها قد ذُكرت قبلَ ذلك. ولا يجوزُ مثلُ ذلك فِي الكلام بسقوط الواو إلا أن يكون معه جوابه متقدمًا أو متأخِّرا كقولك: ذكرتُك إذ احتجت إليك «١١» أو إذ احتجت ذكرتك.
(١) كذا فى الأصل، ويلاحظ أن هذه الآية على غير ترتيب.
(٢) آية ٥٠ سورة البقرة.
(٣) فى ش، ج «منها». [.....]
(٤) آية ٧٣ سورة الأعراف.
(٥) آية ٧٦ سورة الأنبياء.
(٦) آية ٨٧ من سورة الأنبياء.
(٧) آية ١٦ سورة العنكبوت.
(٨) آية ٤٥ من السورة المذكورة.
(٩) آية ٢٦ سورة الأنفال.
(١٠) آية ٨٦ سورة الأعراف.
(١١) «إليك أو إذ احتجت» : ساقط من ج، ش.
35
وقوله: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) يقال: قد كانوا فِي شُغل من أن ينظروا، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرفة، ولكنه فِي الكلام كقولك: قد ضُرِبتَ وأهلك يَنْظُرون فما أتَوْك ولا أغاثوك يقول: فهم قريبٌ بمرأى ومسمع. ومثله فِي القرآن: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» «١»، وليس هاهنا رؤيةٌ إنما هُوَ علمٌ، فرأيت يكونُ على مذهبين: رؤية العلم ورؤية العين كما تقول: رأيتُ فرعون أعتى الخلق وأخْبَثَه، ولم تره إِنما هُوَ بلغك «٢» ففي هذا بيانٌ.
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... (٥١)
ثُمَّ «٣»
قال فِي موضع أخر: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «٤» فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمها بالعشر «٥» والأربعون «٦» قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟ قيل:
كان ذلك- والله أعلم- أن الثلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشهر وأنها ذو القعدة وأتممناها بعشر من ذي الحجة، كذلك قال المفسرون.
ولهذه القصة خصت العشر والثلاثون بالانفصال.
وقوله: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
(١) آية ٤٥ سورة الفرقان.
(٢) العبارة فى ج، ش: «ولم تره ونظرت. هذا بيان» ووجد بهامش نسخة أبعد قوله: بلغك «ونظرت إلى... ولم تأت إنما هو العلم». وفى موضع النقط كلمة غير واضحة، قد تكون: منزلك.
(٣) فى أ: «و».
(٤) آية ١٤٢ سورة الأعراف.
(٥) فى أ: «بعشر».
(٦) فى ش، ج: «أربعون». [.....]
ففيه وجهان:
أحدهما- أن يكون أراد وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التوراة، ومحمدا صلى اللَّه عليه وسلم الْفُرْقانَ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وقوله: «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» كأنه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم مُوسَى ومحمد عليهما السلام «لعلكم تهتدون» لأن التوراة أنزلت جملةً ولم تنزل مُفرقة كما فُرق القرآن فهذا وجه.
والوجه الآخر- أن تجعل التوراة هدًى والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا صلى اللَّه عليه وسلم الهدى. وَكُلُّ ما جاءت به الأنبياء فهو هُدًى ونورٌ. «١» وإن العرب لتجمع بين الحرفين وإنهما لواحِد إذا اختلف لفظاهما «٢» كما قال عدي بْن زَيْدُ:
وقدمت «٣» الأديم لراهشيه... وأَلْفَى قَوْلها كذِبًا ومَيْنَا
وقولهم «٤» : بعدا وسحقا، والبعد والسحق واحد، فهذا وجه آخر. وقال بعض المفسّرين: الكتاب التّوراة، والفرقان انفراق البحر لبنى إسرائيل. وقال بعضهم:
الفرقان الحلال والحرام الَّذِي فى التّوراة.
وقوله: الْمَنَّ وَالسَّلْوى... (٥٧)
بلغنا أن المنّ هذا «٥» هذا الّذى يسقط على الثّمام «٦» والعشر، وهو حلو كالعسل وكان بعض المفسرين يسميه الترنجبين «٧» الَّذِي نعرف. وبلغنا أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلّم
(١) يبدو أن هنا سقطا، وأن الأصل كما يؤخذ من إعراب القرآن للنخاس: «ويجوز أن يكون الفرقان هو الكتاب، أعيد ذكره تأكيدا» وانظر القرطبي ١/ ٣٩٩.
(٢) فى ش، ج: لفظهما».
(٣) كذا فى الأصول. والرواية المشهورة «وقددت» بمعنى شقت وقطعت، والراهشان عرقان فى باطن الذراعين.
(٤) فى أ: «قوله».
(٥) سقط فى أ.
(٦) الثمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص. والعشر: شجر من العضاه كبار الشجر وله صمغ حلو.
(٧) الترنجبين: تأويله عسل الندى، وهو طلى يقع من السماء ندى شبيه بالعسل جامد متحبب يقع على بعض الأشجار بالشام وخراسان.
37
قال: (الكمأة «١» من المن وماؤها شفاء للعين). وأما السَّلْوَى فطائِر كان يسقط عليهم لما أَجَموا «٢» المنّ شبيهٌ بهذه السماني، ولا واحد للسّلوى.
وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ... (٥٨)
يقول- والله أعلم- قولوا: ما أمرتم به أي هى حطة فحالفوا إلى كلام بالنبطية، فذلك قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
وبلغني أن ابن عَبَّاس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر اللَّه فإن يك كذلك فينبغي أن تكون «حِطَّةٌ» منصوبة فِي القراءة «٣» لأنك تقول: قلت لا إله إلا اللَّه، فيقول القائل: قلت كلمة صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمارُ ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك: مررت بزيد، ثُمَّ تجعل هَذِهِ كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا ثُمَّ تقول:
قلت زَيْد قائم، فيقول: قلت كلاما «٤». وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا:
قلت كلمة صالحة.
فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «٥» إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفع لأن قبله ضمير أسمائهم سيقولون: هَم ثلاثة، إلى آخر الآية.
وقوله: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» «٦» رفع أي قولوا: اللَّه واحدٌ، ولا تقولوا
(١) هذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما. وانظر الجامع الصغير فى حرف الكاف.
(٢) أجم الطعام واللبن وغيرهما: كرهه ومله من المداومة عليه.
(٣) النصب على وجهين أحدهما- إعمال الفعل فيها وهو «قولوا» أي قولوا كلمة تحط عنكم أو زاركم. والثاني- أن تنسب على المصدر بمعنى الدعاء والمسألة أي حط اللهم أوزارنا وذنوبنا حطة. وبالنصب قرأ ابن أبى عبلة وطاوس اليماني. والقراءة العامة بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي مسئلتنا حطة، أو أمرك حطة قال النيسابورى: وأصله النصب، ومعناه اللهم حط عنا ذنوبنا فرفعت لإفادة الثبوت.
(٤) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(٥) آية ٢٢ سورة الكهف.
(٦) آية ١٧١ سورة النساء.
38
الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: «قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ» «١» ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الَّذِي قُلْنَا معذرة إلى ربكم رفعت، وهو الوجه. وإن أردت: قُلْنَا ما قُلْنَا معذرة إلى اللَّه فهذا وجهُ نصب «٢». وأما قوله: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا» «٣» فإن العرب لا تقوله إلا رفعًا وذلك أن القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أي قد دخلنا أول هذا الدين على أن نسمع ونُطيعَ فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثُمَّ يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل:
«فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ] » [أي] فإذا خرجوا من عندك بدلوا «٤». ولو أردت فِي مثله من الكلام: أي نطيع، فتكون «٥» الطاعة جوابا للأمر بعينه جازَ النصبُ، لأن كل مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبهُ، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ» «٦» [معناه والله أعلم:
نعوذ بالله أن نأخذ]. ومثله فِي النور: «قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
«٧» الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهل السمع والطاعة. وأما قوله فِي النحل: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «٨» فهذا قول أَهْل الجحد لانهم قَالُوا لم ينزل شيئا، إنما هَذَا أساطير الأولين وأما الذين آمنوا فإنهم أقروا فقالوا: أنزل ربنا خيرًا «٩»، ولو رُفع خيرٌ على: الَّذِي أنزله خير لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله:
«يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» «١٠» و «قُلِ الْعَفْوَ» النّصب على الفعل: ينفقون
(١) آية ١٦٤ سورة الأعراف. [.....]
(٢) فى ش، ج: «النصب».
(٣) آية ٨١ سورة النساء.
(٤) فى الأصول: «فإذا خرجوا من عندك بدلوا»، وقد زدنا «أي» وأكلنا الآية كما ترى، ليكون هذا تفسيرا لها.
(٥) فى أ: «تكون».
(٦) آية ٧٩ سورة يوسف.
وما بين المربعين ساقط من أ.
(٧) آية ٥٣ من السورة المذكورة.
(٨) آية ٢٤ وما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(٩) يشير إلى قوله تعالى: «قالُوا خَيْراً» آية ٣٠ من سورة النحل.
(١٠) آية ٢١٩ سورة البقرة.
39
العفو، والرفعُ على: الَّذِي ينفقون عفو الأموال. وقوله: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» «١» فأما السلام (فقول يقال) «٢»، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنك قلت: قلت كلامًا.
وأما قوله: «قالَ سَلامٌ» فإنه جاء فيه نحن «سَلامٌ» وأنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ».
وبعض المفسرين يقول: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» يريد سلموا عليه فرد عليهم، فيقول القائل: ألا كان السلام رفعًا كله أو نصبًا كله؟ قلت: السلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه «عليكم» رفعته. فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته فِي أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلام: سلامٌ، على معنى قَالُوا السلام عليكم فرد عليهم الآخرون. والنصب يجوز فِي إحدى القراءتين «قَالُوا سلامًا قال سلامًا». وأنشدني بعضُ بني عُقَيْل:
فقلنا السَّلام فاتقت من أميرها... فما كَانَ إلا ومؤها بالحواجب
فرفع السلام لأنه أراد سلمنا عليها فاتقت أن ترد علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك «٣» : قُلْنَا الكلام، قُلْنَا السلام، ومثله: قرأت «الْحَمْدَ» «٤» وقرأت «الحمد» إذا قلت قرأت «الحمد» أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية «٥» على قرأتُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ».
وقوله: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً... (٦٠)
معناه- والله أعلم- فضرب فانفجرت، فعُرِف بقوله: «فَانْفَجَرَتْ» أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب لأنه قد أدى عن المعنى، فكذلك قوله: «أَنِ اضْرِبْ
(١) آية ٦٩ سورة هود.
(٢) فى ج، ش: «فتسليمهم»
بدل «فقول يقال».
(٣) «قلنا الكلام» : ساقط من ج، ش.
(٤) فى ش، ج: «الحمد لله».
(٥) سقط هذا الحرف فى أ. [.....]
40
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «١» ومثله (فِي الكلام) «٢» أن تقول: أَنَا الَّذِي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجَرت فاكتسبت.
وأما قوله: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ... (٦٠)
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمن من اللَّه والتفضل على عباده، ولم يقل: قد علم كل أناسٍ مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك- والله أعلم- لأنه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سِبْطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيونُ، فإذا احتاجوا انفجرت العيونُ من تلك المواضع، فأتى كل سِبْطٍ عَيْنَهم التي كانوا يشربون منها.
وأما قوله: وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها... (٦١)
فإن الفوم فيما ذكر لغةٌ قديمة (وهي) «٣» الحِنْطَة والخُبْز جميعا قد ذُكِرا. قال بعضهم:
سمعنا (العرب «٤» من) أهل هذه اللغة يقولون: فَوِّموا لنا بالتشديد لا غير «٥»، يريدون اختبزوا وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «وَثُومِهَا» بالثاء، فكأنّه أشبهُ المعنيين بالصواب لأنه مع ما يشاكله: من العدس وَالْبَصَلِ وشِبْهه. والعرب تُبدل الفاء بالثاء فيقولون: جدث وجَدَفٌ، ووقعوا فِي عاثُور شَرٍّ «٦» وعافُور شرٍّ، والأثاثي والأثافيّ. وسمعت كثيرًا من بْني أسد يسمّى (المغافير «٧» المغاثير).
(١) آية ٦٣ سورة الشعراء.
(٢، ٣، ٤) سقط فى أ.
(٥) «لا غير» : سقط من ج، ش.
(٦) وقعوا فى عاثور شر: أي فى اختلاط من الأمر وشدّة.
(٧) فى أ: «يقولون:
المغاثير والمغافير»
. والمغافير: صمغ يسيل من شجر الرمث والعرفط وهو حلو يؤكل غير أن رائحته ليست بطيبة.
41
وقوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ... (٦١)
أي الَّذِي هُوَ أقرب، من الدُّنُوِّ، ويقال من الدَّناءة. والعرب تقول:
إنه لَدنيٌّ [ولا يهمزون «١» ] يُدَنَّى فِي الأمور أي «٢» يتَّبِع خَسيَسها وأصاغرها. وقد كان زُهير «٣» الفُرْقُبي يَهْمِز: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذى هو أدنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ولم نر العرب تهمزُ أَدْنَى إذا كان من الحسة، وهم فِي ذلك يقولون إنه لدانىء خَبِيثٌ [إذا كان ماجنا «٤» ] فيهمزون. وأنشدني بعض بني كلاب:
باسِلَةُ الْوَقْعِ سَرَابِيلُها... بيضٌ إلى دانئها الظّاهر «٥»
يعنى «٦» الدروع «٧» على خاصتها- يعني الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كُنَّا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانِئًا ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلّا وقد سمعوه.
وقوله: اهْبِطُوا مِصْراً... (٦١)
كتبت بالألف، وأسماءُ البلدان لا تنصرف خَفَّت أو ثَقُلت، وأسماء النساء «٨» إذا خَفَّ منها شيءٌ جرى «٩» إذا كان على ثلاثة أحْرفٍ وأوسطها ساكن مثل دعد وهند
(١) «ولا يهمزون» ساقط من أ.
(٢) سقط فى ش، ج.
(٣) هو من القرّاء النحويين، وكان فى زمن عاصم، ويعرف بالكسائي. وانظر طبقات القراء لابن الجزري رقم ١٣٠١.
والفرقبىّ نسبة إلى فرقب، كقنفذ. وفى القاموس: فرقب موضع ومنه الثياب الفرقبية: ثياب بيض من كتان. وقال شارحه: وردت هذه النسبة فى الثياب والرجال، فيمكن أن تكون إلى موضع، أو يكون الرجل منسوبا إلى حمل الثياب.
(٤) ما بين المربعين ساقط من أومن عبارة الفراء المنقولة فى اللسان. وهو صحيح لغة، قال فى اللسان: دنؤ الرجل دناءة إذا كان ماجنا.
(٥) البيت من قصيدة طويلة للأعشى قالها فى منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامرىّ مطلعها:
شأقتك من قتلة أطلالها... بالشط فالوتر إلى حاجر
وبسل الرجل بسولا فهو باسل وبسل إذا عبس غضبا أو شجاعة. والسربال: الدرع أو كل ما لبس والجمع سرابيل، والمراد هنا الدروع كما قال المؤلف.
(٦) فى ج، ش: «وفسر فقال يعنى... إلخ».
(٧) فى ج، ش: «فى خاصتها».
(٨) فى ج، ش: «الناس».
(٩) أي (انصرف) ونون. وهذا اصطلاح الكوفيين. فالجارى عندهم المنصرف، وغير الجاري هو الممنوع من الصرف. ويعبرون أيضا بالمجرى وغير المجرى، من الإجراء. [.....]
42
وَجُمْلُ. وإنما انصرفت إذا سمى بها النساء لأنها تردد وتكثر بها التسمية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود «١». فإن شئت جعلت الألف التي فى «مصرا» ألفا يُوقَفُ عليها، فإذا وصلت لم تنوِّن فيها، كما كتبوا «سلاسلا» وَوارِيرَ»
«٢» بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت «مِصْر» غير المصر التي تُعرَف، يريد اهبطوا مِصرًا من الأمصار، فإن الَّذِي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار. والوجه الأول أحب إلى لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «اهْبِطوا مِصْرَ» بغير ألف، وفي قراءة أُبَيٍّ: «اهْبِطُوا فَإِنّ لَكُمْ ما سَأَلْتُم وَاسْكُنُوا مِصْر» «٣» وتصديق ذلك أنها فِي سورة يوسف بغير ألف: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» «٤».
وقال الأعمش وسئل عَنْهَا فقال: هِيَ مصر التي عليها صالح بْن عليّ «٥».
وقوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ... (٦٣)
يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فِيهِ.
وقوله: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها... (٦٦)
يعني المسخة التي مُسِخوها جُعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مُسِخوا فَيْمسخوا.
وقوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ... (٦٧)
وهذا فِي القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أولهُ عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قَالَ لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا فكأنّ «٦» حسن
(١) أي تتكرر فى الذكر والكلام.
(٢) آية ٤ وآية ١٥ سورة الإنسان.
(٣) هذه القراءة المنسوبة لأبى لم نقف عليها فى غير أصول الفرّاء مما بين أيدينا من المراجع.
(٤) آية ٩٩ من السورة المذكورة.
(٥) صالح بن على بن عبد الله بن العباس أوّل من ولى مصر من قبل أبى العباس السفاح سنة ١٣٣ وتوفى بقنسرين وهو عامل على حمص سنة ١٥٤.
(٦) فى ج، ش: «فلما حسن السكوت... إلخ».
43
السكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه فِي رءوس الآيات- لأنها فصولٌ- حَسَنًا «١» من ذلك: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا» «٢» والفاء حسنة مثل قوله: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا» «٣» ولو كان على كلمة واحدة لم تُسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قُمتُ ففَعَلْت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حَتَّى يقولوا: قُلْتُ فقال، وَقُمْتُ فقام لأنها نَسَقٌ وليست باستفهام يوقف عليه ألا ترى أنه: «قالَ» فرعون «لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «٤» فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثيرٌ فِي كتاب اللَّه بالواو وبغير الواو فأما الذي بالواو فقوله: «قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» «٥» ثُمَّ قَالَ بعد ذلك: «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ». وقال فِي موضع آخر: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» «٦» وقال فِي غير هذا: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «٧» ثُمَّ قال فِي الآية بعدها: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: وإنّ.
فاعْرِفْ بما جَرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الَّذِي أنْبَاتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعضُ العرب:
لما رأيتُ نَبَطًا أنْصَارا... شَمَّرتُ عن رُكْبَتِيَ الإزَارَا
كُنْتُ لها مِنَ النَّصارى جَارَا وقوله: لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ... (٦٨)
والعَوان ليست بنَعْتٍ لِلْبِكْرِ لأنها ليست بَهرِمَة ولا شابةً انقطع الكلام عند قوله: وَلا بِكْرٌ ثم استأنف فقال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ والعوان يقال منه
(١) فى ش، ج: «حسنة».
(٢) آية ٣١ و ٣٢ سورة الذاريات.
(٣) آية ٢٧ سورة هود.
(٤) آية ٢٥ و ٢٦ سورة الشعراء.
(٥) آية ١٥ و ١٧ سورة آل عمران.
(٦) آية ١١٢ سورة التوبة.
(٧) آية ١٠ سورة البروج.
44
قد عوَّنَت. والفارِضُ: قد فرضت، وبعضهم: قد فرَضت (وأما البكر فلم «١» ) نسمع فيها بِفعْل. والبِكر يُكْسر أوّلها إذا كانت بِكرْا من النساء «٢». والبكر مفتوح أَوّلَه من بِكَارَة الإبل. ثم قال «بَيْنَ ذلِكَ» و «بَيْنَ» لا تصلح إلا مع اسمين فما زاد، وإنّما صلحت مع «ذلِكَ» وحْدَه لأنه فِي مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان ب «ذلك» و «ذاك» ألا ترى أنك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بد لكان من شيئين، ولا بد لأظن من شيئين «٣»، ثُمَّ يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فِي الاسمين اللذين ضَمَّهما ذلك: بين الهرم والشباب. ولو قال فِي الكلام: بين هاتين، أو بين تَيْنِك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما «٤» (لم يظهر إلا بتثنية) «٥» لانهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول فِي الأفعال فتوحِّد فعلهما بعدها.
فتقول: إِقْبالك وإِدْبارُك يَشُقُّ على، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورُنِي. ومما يجوز أن يقع عليه «بَيْنَ» وهو واحدٌ فِي اللفظ مما يؤدي عن الاثنين «٦» فما زاد قوله:
«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» «٧» ولا يجوز: لا نفرق بين رَجُل منهم لأن أحدا لا يُثَنّى كما يثنى الرجل ويُجَمع، فإن شئت جعلت أحدا فِي تأويل اثنين، وإن شئت فِي تأويل أكثر من ذلك قول اللَّه عزّ وجل: «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «٨» وتقول: بَيْنَ أَيِّهِم الْمَالُ؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى «من» و «أى».
مجرى «٩» أحد لانهما قد يكونان لواحد ولجمع.
(١) فى ش، ج: «ولم». [.....]
(٢) فى ج، ش: «من الجواري».
(٣) فى ج، ش: «بين هاتين من شيئين». ولا وجه له.
(٤) أي ضميرهما.
(٥) فى ج، ش: «لم تكن إلا بتثنية».
(٦) ساقط من ج.
(٧) آية ١٢٦ سورة البقرة.
(٨) آية ٤٧ سورة الحاقة.
(٩) فى ش، ج: «على مجرى».
45
وقوله: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها... (٦٩)
اللَّوْنُ مرفوعٌ لأنك لم ترد أن تجعل «ما» صلةً فتقول: بين لنا ما لونها «١» ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد- والله أعلم-: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيءٍ لونُها، ولم يصلح للفعل الوقوع على أي لأن أصل «أي» تفرق «٢» جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداءُ هِيَ أم صَفْراء؟ فلما لم يصلح للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام فِي تفرقه لم يقع على أيّ لأنها جمعُ ذلك المتفرق، وكذلك ما كان فِي القرآن مثله، فأعمل فِي «ما» «وأي» الفعل الَّذِي بعدهما، ولا تعمل الَّذِي قبلهما إذا كان مُشتقًّا من العِلْم كقولك:
ما أعلم أَيُّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أَيُّهم قال ذاك، وما أدري أَيَّهم ضربت، فهو فِي العلم والأخبار والأنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ» «٣» «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» «٤» «ما» «٥» الثانية رفعٌ، فرفعتها بيوم كقولك: ما أدراك أيُّ شيء يومُ الدين، وكذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» «٦» رفعته بأَحْصَى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أيّ «٧» : ما أدري أَيَّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي
(١) «لونها» بالنصب فى المثال مفعول يبين، وتكون «ما» زائدة. ما بين النجمتين ساقط من نسخ ج، ش.
(٢) يريد أن أيا نابت عن جمع من الاستفهام متفرّق. فبدل أن يقال: بين أسوداء هى أم صفراء أم حمراء. يقال: بين أي شىء لونها، فتغنى أي عن هذا الجمع من الاستفهام، فمن ثمّ كان أصلا لها.
وعبارة الطبري: «لأن أصل «أي» و «ما» جمع متفرق الاستفهام». ويريد الطبري بالأصل ما يوضع له اللفظ ويدل عليه، وهذا غير ما يريد الفراء. وكل صحيح.
(٣) آية ١٠ سورة القارعة.
(٤) آية ١٧ سورة الانفطار.
(٥) فى ش، ج: «وموضع ما».
(٦) آية ١٢ سورة الكهف. [.....]
(٧) أي: اسم استفهام عما يعقل وعما لا يعقل، وأدوات الاستفهام (كغيرها من المعلقات) تعلق العامل عن العمل لفظا لأن لها صدر الكلام، فلو أعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها لخرجت عن أن يكون لها صدر الكلام. ولا يكون التعليق إلا فى أفعال القلوب التي تلغى نحو علم وظن، ولذلك لا تقول: لأضربن أيهم قام (بالرفع) لأنه فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه فلا يجوز تعليقه.
وقال الفرّاء: «أي» يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» فرفع، وقوله: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» -
46
الفعل الَّذِي قبلها من العلم وأشباهه لأنك تجد الفعل غير واقع على أي فِي المعنى ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الَّذِي أعلمك، كما أنك تقول: سل أَيُّهُمْ قام، والمعنى: سل الناس أيُّهُمْ قام. ولو أوقعت الفعل على «أَيَّ» فقلت: أسأل أيَّهُمْ قام لكنت كأنك تضمر أيًّا مرة أخرى لأنك تقول: سل زيدًا أيُّهُمْ قام، فإذا أوقعت الفعل على زَيْدُ فقد جاءت «أي» بعده. فكذلك «أي» إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته، جائز، تقول: لاضْرِبَنَّ أيَّهُم يقول ذاك لأن الضرب لا يقع على [اسم ثُمَّ يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على «١» ] اثنين، وأنت تقول فِي المسألة: سل عَبْد اللَّه عن كذا، كأنك قلت:
سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عَبْد اللَّه كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول اللَّه: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «٢» من نصب أيًّا أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثُمَّ لنستخرجن العاتي الَّذِي هُوَ أشد. وفيها وجهان من الرفع أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن فِي الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا «٣» من كل طعام، ثُمَّ تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها، كما قال جل وعز: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»
- فنصب، وقال الفراء أيضا: «أي» إذا أوقعت الفعل المتقدّم عليها خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته جائز، يقولون: لأضربن أيهم يقول ذلك (بالنصب). وقال الكسائي: تقول لأضربن أيهم فى الدار (بالنصب) ولا تقول: ضربت أيهم فى الدار، ففرق بين الواقع والمنتظر.
والكوفيون يجرون «أيا» مجرى من وما فى الاستفهام والجزاء، فإذا وقع عليها الفعل وهى بمعنى الذي نصبوها لا محالة، فيقولون: اضرب أيهم أقبح، وأكرم أيهم هو أفضل. وحكى أنهم قرءوا بالنصب فى الآية «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا».
(١) ما بين المربعين ساقط فى أ.
(٢) آية ٦٩ سورة مريم.
(٣) فى ج، ش: وأكلنا.
47
«أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» «١» أي ينظرون أيهم أقرب «٢». ومثله «يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» «٣». وأما الوجه، الآخر فإن فِي قوله تعالى: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشد وأخبث، وأيهم أشد على الرَّحْمَن عتيًّا، والشيعة «٤» ويتشايعون سواء فِي المعنى. وفيه «٥» وجه ثالث من الرفع أن تجعل «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» بالنداء أي لننادين «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» «٦» فقال بعض المفسرين «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» : ألم يعلم، والمعنى- والله أعلم- أفلم ييأسوا علما بأن اللَّه لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك «لَنَنْزِعَنَّ» يقول يريد ننزعهم بالنداء.
وقوله: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها... (٧١)
غير مهموز يقول: ليس فيها لون غير الصّفرة. وقال بعضهم: هِيَ صفراء حَتَّى ظلفها وقرنها أصفران.
وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها...
(٧٢)
يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضُرِب بالذَّنَب.
ثُمَّ قال اللَّه عز وجل: «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
معناه والله أعلم اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فيحيا كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أي اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر
(١) آية ٥٧ سورة الإسراء.
(٢) «أيهم أقرب» ابتداء وخبر فى موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام التقدير: ينظرون أيهم أقرب. ولا يعمل الفعل فى لفظ أي لأنها استفهام.
(٣) آية ٤٤ سورة آل عمران.
(٤) فى الأصول: «التشيعة» ويبدو أن ما أثبت هو الصواب.
(٥) فى ج، ش: «وفيها».
(٦) آية ٣١ سورة الرعد.
فيحيا، كما قال: «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «١» والمعنى- والله أعلم- فضرب البحر فانفلق.
وقوله: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ... (٧٣)
تذكير مِنْهُ على وجهين إن شئت ذهبت به- يعني «مِنْهُ» «٢» - إلى أن البعض حَجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا فِي المعنى فذكَّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضُكنّ، وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ» «٣» «ومن تقنت» بالياء والتاء، على المعنى، وهي فِي قراءة أَبيّ: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ منها الأنْهَارُ».
وقوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ... (٧٨)
فالأماني على وجهين فِي المعنى، ووجهين فِي العربية فأما فِي العربية فإن من العرب من يخفف الياء فيقول: «إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ» ومنهم من يشدد، وهو أجودُ الوجهين.
وكذلك ما كان مثل أمنية، ومثل أضحية، وأغنية، ففي جمعه وجهان: التخفيف والتشديد، وإنما تشدد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشددة لاجتماع الياء من جمع «٤» الفعل والياء الأصلية. وإن خففت «٥» حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القَراقير «٦» والقراقر، (فمن قال الأماني بالتخفيف) «٧» فهو الَّذِي يقول القراقر، ومن شدد الأماني فهو الَّذِي يقول القراقير. والأمنية فِي المعنى التلاوة، كقول اللَّه عز وجل:
«إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» «٨» أي فِي تلاوته، والأماني أيضا أن يفتعل
(١) آية ٦٣ سورة الشعراء.
(٢) يعنى «منه» ليست فى ج، ش، ويبدو أنها تفسير لعبارة المؤلف من المستملي.
(٣) آية ٣١ سورة الأحزاب. و «يقنت» حملا على لفظ «من» وبالتاء من فوق حملا على المعنى. [.....]
(٤) فى أ: «جميع» يريد الحادثة فى صيغة الأفاعيل.
(٥) فى ج، ش: «وإذا خففت... ».
(٦) قراقير وقراقر جمع قرقور بالضم وهى السفينة العظيمة الطويلة.
(٧) فى أ: «فمن خفف الأمانى».
(٨) آية ٥٢ سورة الحج.
الرجل الأحاديث المفتعلة قال بعض العرب لابن دأب «١» وهو يحدث الناس «٢» : أهذا شيء رويته أم شيء تَمنَّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب اللَّه «٣». وهذا أبين الوجهين.
وقوله: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً... (٨٠)
يقال «٤» : كيف جاز فِي الكلام: لاتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نَوَوُا الأيام التي عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال اللَّه: قل يا مُحَمَّد: هَلْ عندكم من اللَّه عهدٌ بهذا الَّذِي قلتم أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وقوله: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ... «٥» (٧٦)
هذا من قول اليهود لبعضهم أي لا تحدثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فِي التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم. أَفَلا تَعْقِلُونَ قال اللَّه: «أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» هذا جوابهم من قول اللَّه.
وقوله: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ... (٨٥)
إن شئت جعلت هُوَ كناية عن الإخراج وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي وهو محرم عليكم يريد: إخراجهم محرم عليكم، ثم أعاد الإخراج
(١) ابن دأب: أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المدني، كان يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسب إلى العرب، فسقط، وذهبت روايته. وتوفى سنة ١٧١ هـ.
(٢) زيادة فى أ.
(٣) فى ج، ش: «من كتب الله».
(٤) فى أ: «فقال».
(٥) يلاحظ أن هذه الآية والتي تليها ليست على الترتيب من الآية السابقة.
50
مرة أخرى تكريرا على «هُوَ» لما حال (بين «١» الإخراج وبين «هُوَ» كلام)، فكان رفع الإخراج بالتكرير على «هُوَ» وإن شئت جعلت «هُوَ» عمادا ورفعت الإخراج بمحرم «٢» كما قال اللَّه جل وعز: «وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» «٣» فالمعنى- والله أعلم- ليس بمزحزحه من العذاب التعمير فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد فِي الظَّنّ لأنه ناصب، وفي «كان» و «ليس» لانهما يرفعان، وفي «إنّ» وأخواتها لانهن ينصِبْن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع فِي كل موضع يبتدأ فِيهِ بالاسم قبل الفعل، فإذا رَأَيْت الواو فِي موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح فِي ذلك العمادُ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أَبُوهُ، وأتيت زَيْدًا ويقوم أَبُوهُ لأن الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الْوَاوُ الاسم أدخلوا لها «هو» لأنّه اسم. قال الفرّاء «٤» : سمعت بعض العرب يقول:
كَانَ مرة وهو ينفع النّاس أحسابهم «٥». وأنشدنى بعض العرب:
(١) فى ش، ج: «بينهما كلام».
(٢) مراده بالعماد الضمير المسمى عند البصريين ضمير فصل، وسمى ضمير فصل لأنه فصل بين المبتدأ والخبر أو بين الخبر والنعت. ويسميه الكوفيون عمادا لأنه يعتمد عليه فى الفائدة إذ به يتبين أن الثاني خبر لا تابع. وبعض الكوفيين يسميه دعامة لأنه يدعم به الكلام أي يقوى به ويؤكد.
وقد قال النحاس: وزعم الفراء أن «هو» عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون فى أوّل الكلام.
(٣) آية ٩٦ من سورة البقرة.
(٤) «قال الفراء» : ساقط من أ. [.....]
(٥) هكذا المثال فى جميع الأصول.
51
فأَبِلغْ أَبَا يحيى إذا ما لقيتهُ... على العيس فِي آباطها عرق يبسُ «١»
بأن السلامي الَّذِي بضريةٍ... أمير الحمى قد باع حقي بني عبس «٢»
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرهمٍ... فَهَل هُوَ مَرفوعٌ بما هاهنا رَأْسُ
فجعل مع «هَل» العماد وهي لا ترفع ولا تنصب لأن هَلْ تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا «٣» قال: وكذلك «ما» و «أما»، تقول: ما هُوَ بذاهب أحدٌ، وأما هُوَ فذاهبٌ زَيْدُ، لقبح أمّا ذاهب فزيد.
وقوله: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً... (٨١)
وضعت بَلى لكل أقرار فِي أوله جحد، ووضعت «نعم» للاستفهام الذي لا جحد فيه، ف «بَلى» بمنزلة «نعم» إلا أنها لا تكون إلا لما فِي أوله جحد قال اللَّه تبارك وتعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ» «٤» ف «بَلى» لا تصلح فى هذا الموضع. وأما الجحد فقوله: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» «٥» ولا تصلح هاهنا «نعم» أداة وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب ب «نعم» و «لا» ما لم يكن فِيهِ جحدٌ، فإذا دخل الجحد فِي الاستفهام لم يستقم أن تقول «٦» فِيهِ «نعم» فتكون كأنك مقر بالجحد وبالفعل الَّذِي بعده ألا ترى أنك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت «نعم» كنت مقرًّا بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت «نعم» مالي مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما
(١) عرق يبس: جاف.
(٢) السلامى: نسبة إلى سلام: موضع بنجد. وضرية: قرية قديمة فى طريق مكة من البصرة من نجد، أو أرض بنجد ينزلها حاج البصرة. وفى البيت إقواء لأن روىّ قافية البيت الأوّل والثالث مرفوع والثاني مجرور.
(٣) كذا. والوجه: فعلا، وعذره أن الفاعل حليف الفعل ورديفه. وفى الأصول: «فاعل» وكأن وجهه أن كلا يطلب الآخر، فهل تطلب الفاعل، والفاعل يطلبها، ولا يطلبها الاسم.
(٤) آية ٤٤ سورة الأعراف.
(٥) آية ٨، ٩ سورة الملك.
(٦) «أن تقول» : ساقط من ج، ش.
52
بعده فاختاروا «بَلى» «١» لأن أصلها كان رجوعا مَحْضا عن الجحد إذا قَالُوا: ما قال عَبْد اللَّه بل زيدٌ، فكانت «بل» كلمة عطف ورُجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الَّذِي بعد الجحد، فقالوا: «بَلى»، فدلت «٢» على معنى الإقرار والأنعام، ودّل لفظ «بل» على الرجوع عن الجحد فقط.
وقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ... (٨٣)
رفعت تَعْبُدُونَ لأن دخول «أن» يصلح فيها، فلما حذف الناصب رُفِعت، كما قال اللَّه: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ» «٣» (قرأ الآية) «٤» وكما قال:
«وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» «٥» وفي قراءة عَبْد اللَّه «وَلا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ» فهذا وجه من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت. وفي قراءة أُبيٍّ: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُوا» ومعناها الجزم بالنهي، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» «٦» فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين لا يكون فِي الكلام أن تقول: والله قم، ولا أن تقول: والله لا تقم. ويدل على أنه نهى وجزمٌ أنه قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت
(١) هذا على رأى من يقول: إن أصل «بلى». «بل» والألف فى آخرها زائدة للوقف، فلذا كانت للرجوع بعد النفي، كما كانت للرجوع عند الجحد فى: ما قام زيد بل عمرو، وقال قوم: إن «بلى» أصل الألف.
(٢) أي الألف.
(٣) آية ٦٤ سورة الزمر.
(٤) أي قرأ الفرّاء الآية كلها، وهذا من المستملي. وسقط هذا فى ش، ج.
(٥) آية ٦ سورة المدثر.
(٦) آية ٦٣ من سورة البقرة.
53
«لا تَعْبُدُونَ» جوابا لليمين لأن أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد. وإنما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غيب كما قال: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سيغلبون» «١» و «سَتُغْلَبُونَ» بالياء والتاء «سَيُغْلَبُون» بالياء على لفظ الغيب، والتاء على المعنى لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين «٢». وكذلك قولك: استحلفت عَبْد اللَّه ليقومن لغيبته، واستحلفتُه لتقومن (لاني) «٣» قد كنت خاطبته. ويجوز فِي هذا استحلفت عَبْد اللَّه لأقومن أي قلت له: احلف لأقومن، كقولك: قُلْ لأقومن «٤». فإذا قلت: استحلفت فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعلُه أن يكون بالياء والتاء والألف، وَإِذَا كان هُوَ حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء من ذلك حلف عَبْد اللَّه ليقومن فلم يقم، وحلف عَبْد اللَّه لأقومن لأنه كقولك قال لأقومن، ولم يجز بالتاء لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه لأن التاء لا تكون إلا لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلف سقط الخطاب.
وقوله: «قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ» «٥» فيها ثلاثة أوجه: «لتبيّتنّه» و «ليبيّتنّه» و «لَنُبَيِّتَنَّهُ» بالتاء والياء والنون. إذا جعلت «تَقاسَمُوا» على وجه فعلوا «٦»، فإذا جعلتها فِي موضع جزمٍ «٧» قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنك تقول للرجل: احلف لتقومن، أو احلف لأقومن، كما تقول: قل لأقومن. ولا يجوز أن تقول للرجل احلف ليقومن، فيصير كأنه لآخر، فهذا ما فِي اليمين.
(١) آية ١٢ سورة آل عمران. [.....]
(٢) فى أ: «الذي تلقاهم به فصاروا مخاطبين».
(٣) كذا فى الأصول، وفى الطبري: «لأنك» ولكل وجه.
(٤) وجدت العبارة الآتية بهامش نسخة (أ) ولم يشر إلى موضعها: «ولا يجوز احلف لأقومنّ، ولكن احلف لتقومنّ، وقل لأقومنّ».
(٥) آية ٤٩ سورة النمل.
(٦) أي فعلا ماضيا فى معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله.
(٧) أي فعل أمر أي قال بعضهم لبعض احلفوا.
54
وقوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ... (٨٩)
[إن شئت] رفعت المصدق ونويت أن يكون نعتًا للكتاب لأنه نكرة، ولو نصبته على أن تجعل المصدق فعلا للكتاب لكان صوابا «١». وفي قراءة عَبْد اللَّه فِي آل عِمْرَانَ: «ثُمَّ جاءكم رسول مصدقا» «٢» فجعله فعلا. وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى نعتها ثُمَّ جاء النعت، فالنصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأن صلة النكرة تصير كالموقته لها، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل فِي دارك، أو بعبدٍ لك فِي دارك، فكأنك قلت: بعبدك أو بساس دابتك، فقس على هذا وقد قال بعض الشعراء:
لو كان حَيٌّ ناجيًا لَنَجا... من يومه المزلم الأعصم «٣»
فنصب ولم يصل النكرة بشيء وهو جائز. فأما قوله: «وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا» «٤» فإن نصب اللسان على وجهين أحدهما أن تضمر شيئًا يقع عليه المصدق، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراة والإنجيل «لِساناً عَرَبِيًّا» (لأن التوراة والإنجيل لم يكونا عربيين) «٥» فصار اللسان العربي «٦» مفسرا. وأما الْوَجْهُ الآخر فعلى ما فسّرت «٧»
(١) يريد المؤلف أنه حال من كتاب، وجاز ذلك لأنه قد تخصص بالوصف فقرب من المعرفة.
وفى ج، ش: «لأنه نعت للكتاب وهما جميعا نكرتان كان صوابا».
(٢) «مصدقا» بالنصب قراءة شاذة، وحسن نصبه على الحال من النكرة كونها فى قوّة المعرفة من حيث أريد بها شخص معين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
(٣) البيت من قصيدة طويلة للمرقش الأكبر، وهو عوف بن سعد بن مالك شاعر جاهلى قالها فى مرثية عم له. والمزلم: الوعل، وزلمتا العنز زنمتاها، والزلمة تكون للمعز فى حلوقها متعلقة كالقرط، وإن كانت فى الأذن فهى زنمة. والأعصم من الظباء والوعول ما فى ذراعيه أو فى أحدهما بياض.
(٤) آية ١٢ سورة الأحقاف.
(٥) فى أ: «لأن التوراة لم تكن عربية، ولا الإنجيل».
(٦) سقط فى أ.
(٧) فى ج. وش: «وصفت».
55
لك، لما وصلت الكتاب بالمصدق أخرجت «لسانا» مما فِي «مصدق» من الراجع من ذكره «١». ولو كان اللسان مرفوعا لكان صوابًا على أنه نعتٌ وإن طال.
وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ... (٩٠)
معناه- والله أعلم- باعوا به أنفسهم. وللعرب فِي شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما جميعا فِي معنى باعوا، وكذلك البيع يقال: بعت الثوب. على معنى أَخْرَجَتهُ من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللغة فِي تميم وربيعة. سمعت أَبَا ثروان يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم. يريد اشتر لي وأنشدني بعض ربيعة «٢» :
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعدٍ
على معنى لم تشتر له بتاتا قال الفراء: والبتات الزاد. وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «أن يكفروا» فِي موضع خفض ورفع فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي فِي «به» على التكرير على كلامين «٣» كأنك قلت أشتروا أنفسهم بالكفر «٤». وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع «ما» التي تلى «بئس «٥» ».
ولا يجوز أن يكون رفعًا على قولك بئس الرجل عَبْد اللَّه، وكان الكسائي يقول ذلك «٦» قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوب موقّت، ولها
(١) يريد أن (لسانا) حال من المضمر الذي فى مصدق. [.....]
(٢) البيت لطرفة من معلقته.
(٣) فى نسخة (أ) على كلامهم.
(٤) يريد أن المصدر من أن والفعل فى محل جر بدل من الهاء فى «به» والبدل على نية تكرار العامل.
(٥) وجه الرفع أن يكون المصدر فى محل رفع على أنه المخصوص بالذم، وفى الآية أعاريب أخرى فى كتب التفسير.
(٦) الكسائي يقول:
«ما» و «اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود فإن «نعم» و «بئس» لا يدخلان على اسم معين معروف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير.
56
وجهان فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفة بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلا عمرو، ونعم رجلا عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقتة، فِي سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو «١»، وبئس الرجل عمرو «٢»، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك: نعم غلام سفر زَيْدُ، وغلام سفر زَيْدُ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زَيْدُ، ولا يجوز النصب إلا أن يضطر إليه شاعر، لانهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألا ينصبوا. وإذا أوليت نعم وبئس من النكرات ما لا يكون معرفة مثل «مثل» و «أى» كان الكلام فاسدًا خطأ أن تقول: نعم مثلك زَيْدُ، ونعم أي رَجُل زَيْدُ لأن هذين لا يكونان مفسرين «٣»، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] «٤» درك من أي رجل، كما تقول: لله درك من رَجُل، ولا يصلح أن تولي نعم وبئس «الَّذِي» ولا «من» ولا «ما» إلا أن تنوي بهما الاكتفاء «٥» دون أن يأتي بعد ذلك اسم مرفوع «٦». من ذلك قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائي فِي كتابه على هذا المذهب. قال الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال «٧» : أرادت العرب أن تجعل «ما» بمنزلة الرجل حرفا تاما، ثُمَّ أضمروا لصنعت «ما» كأنه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا لا أجيزه. فإذا جعلت «نعم» (صلة لما) «٨» بمنزلة قولك «كلما» و «إنما» كانت بمنزلة «حبذا» فرفعت بها الأسماء من ذلك قول اللَّه عز وجل:
«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ» رفعت «هِيَ» ب «نعما» ولا تأنيث فِي «نعم»
(١، ٢) فى أ: «عبد الله».
(٣) لاشتراط النحاة فى فاعل نعم وبئس أن يكون غير متوغل فى الإبهام بخلاف نحو «غير» و «مثل» و «أي».
(٤) زيادة يقتضيها المثال.
(٥) أي الاستغناء عن المخصوص. وهذا إذا كان هذان اللفظان موصولين بما يوصل به الذي.
(٦) أي مخصوص.
(٧) أي الكسائىّ.
(٨) كذا فى الأصول. والوجه فى العبارة:
«موصولة بما» أو «جعلت ما صلة نعم» كما سيأتى له. وقد ركب الفراء متن التسامح فى هذا.
57
ولا تثنية إذا جعلت «ما» صلة لها فتصير «ما» مع «نعم» بمنزلة «ذا» من «١» «حبذا» ألا ترى أن «حبذا» لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو جعلت «ما» على جهة الحشو «٢» كما تقول: عما قليل آتيك، جاز فِيهِ التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جارية جاريتك. وسمعت العرب تقول فِي «نعم» المكتفية بما: بئسما «٣» تزويج ولا مهر، فيرفعون التزويج ب «بِئْسَمَا».
وقوله: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... (٩٠)
موضع «أن» جزاء، وكان الكسائي يقول فِي «أن» : هِيَ فِي موضع خفض، وأنما هِيَ جزاءٌ «٤».
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله (وكان) «٥» ينوى بها الاستقبال كسرت «إن» وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني. وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أن أتيتني كذلك قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودّع... وحبل الصفا من عزّة المتقطع
يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك. ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر «إن» وجزم بها، كقول اللَّه جل ثناؤه: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا» «٦» فقرأها القراء بالكسر، ولو قرئت بفتح «أن» على معنى [إذ لم يؤمنوا «٧» ] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] «٨» وتأويلُ «أن» فِي موضع نصب، لأنها إنما كانت «٩» أداة بمنزلة «إذ» فهي فِي موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ
(١) فى ش، ج: «مع».
(٢) يريد بالحشو أنها زائدة غير كافة عن العمل. [.....]
(٣) يريد رفع التزويج ببئس، و «ما» لا موضع لها لتركيبها مع بئس تركيب «ذا» مع «حب».
(٤) فى ش، ج بعد هذا زيادة: «فى قول الفراء».
(٥) فى أ: «فكان».
(٦) آية ٦ سورة الكهف.
(٧) ساقط من أ.
(٨) زيادة تقتضيها العبارة.
(٩) فى ج، ش: «إنما أداة إلخ». وكتب فى ش فوق السطر «هى» بين «إنما» و «أداة».
58
ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي فِي موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض «١».
وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ... (٨٩)
وقبلها «وَلَمَّا» وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه فِي الفاء التي فِي الثانية، وصارت كَفَرُوا بِهِ كافية من جوابهما جميعا. ومثله فِي الكلام:
ما هُوَ إلا أن أتاني عَبْد اللَّه فلما قعد أوسعت له وأكرمته. ومثله قوله: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» فى البقرة «٢» «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» فى «طه» «٣» اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا «٤» «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» فِي البقرة «فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى» فِي «طه». وصارت الفاء فِي قوله «فَمَنْ تَبِعَ» كأنها جواب ل «فإما»، ألا ترى أن الواو لا تصلحُ فِي موضع الفاء، فذلك دليل على أن الفاء جواب وليست بنَسَقٍ «٥».
وقوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) يقول القائل: هَلْ كان لهم قليل من الإيمَان أو كثير؟ ففيه وجهان من العربية: أحدهما- ألا يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب بالقلة على أن ينفوا الفعل كله قولهم: قل ما رأيتُ مثل هذا قط. وحكي الكسائي عن العرب: مررتُ بِبلادٍ قل ما تُنبت إلا البصل والكرّاث. أي ما تنبت
(١) راجع الطبري فى تفسير قوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» سورة «الزخرف» ففيه الكلام على فتح همزة «إن» وكسرها.
(٢) آية ٣٨ من السورة المذكورة.
(٣) آية ١٢٣ من السورة المذكورة.
(٤) زيادة فى أ.
(٥) فى جواب «لما» وجه آخر انظره فى تفسير الطبري.
59
إلا هذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أَبرحُ منزلي وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا. والوجه الآخر- أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم فيكونون كافرين وذلك أنه يقال: من خلقكم؟
ومن رزقكم؟ فيقولون: اللَّه تبارك وتعالى، ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبآيات اللَّه، فذلك قوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وكذلك قال المفسرون فِي قول اللَّه: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «١» على هذا التفسير.
وقوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ... (٩٠)
لا يكون باؤ مفردة حَتَّى توصل بالباء. فيقال: باء بإثم يبوء بوءا.
وقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أن اللَّه غضب على اليهود فِي قولهم: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» «٢». ثُمَّ غضب عليهم فِي تكذيب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلّم حين دخل المدينة، فذلك قوله: «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ».
وقوله: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ... (٩١)
يريد سواه، وذلك كثير فِي العربية أن يتكلم الرجلُ بالكلام الْحَسَن فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيءٌ، أي ليس عنده شيءٌ سواه.
وقوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ... (٩١)
يقول القائل: إنما «تَقْتُلُونَ» للمستقبل فكيف قال: «مِنْ قَبْلُ» ؟ ونحن لا نجيز فِي الكلام أَنَا أضربك أمس، وذلك جائز إذا أردت بتفعلون الماضي،
(١) آية ١٠٦ سورة يوسف.
(٢). ٦٤ سورة المائدة. [.....]
60
ألا ترى أنك تعنف الرجل بما سلف من فعله فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغض نفسك إلى الناس! ومثله قول اللَّه: «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» «١».
ولم يقل ما تلت الشياطين، وذلك عربي كثير فِي الكلام أنشدني بعض العرب:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة... ولم تجدي من أَنْ تُقِرِّي بها «٢» بُدًّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروف ومثله فِي الكلام: إذا نظرت فِي سير «٣» عمر رحمه الله لم يسىء المعنى لم تجده أساء فلما كان أمر عُمَر لا يشك فِي مضيه لم يقع فِي الوهم أنه مستقبل فلذلك صلحت «مِنْ قَبْلُ». مع قوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وليس الذين خوطبوا بالقتل هُمُ القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم.
وقوله «٤» : سَمِعْنا وَعَصَيْنا... (٩٣)
معناه سمعنا قولك وعصينا «٥» أمرك.
وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ... (٩٣)
فإنه أراد: حب العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثير قال الله:
«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها» «٦» والمعنى سل أهل القرية وأهل العير وأنشدني المفضّل:
(١). ١٠٢ سورة البقرة.
(٢) فى تفسير الطبري وفى المغني «به» أي بهذا الكلام، وهو لم تلدنى لئيمة. وقائله زائد بن صعصعة الفقعسي يعرض بزوجته وكانت أمها سرية وقبله:
رمتنى عن قوس العدوّ وباعدت... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
(مغنى اللبيب ج ١: ٢٥).
(٣) فى ج، ش: سيرة.
(٤) فى ج، ش:
«وأما قوله».
(٥) فى ش، ج: «ولكن عصينا».
(٦) آية ٨٢ سورة يوسف.
61
حَسِبْتَ بُغَامَ راحِلَتي عَنَاقًا... وما هِيَ وَيْبَ غيرك بالعناق «١»
ومعناه «٢» : بغام عناق ومثله من كتاب اللَّه: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» معناه والله أعلم: ولكن البر «٣» برُّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف اللَّه. والعرب قد تقول: إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم.
وأنشدني بعضهم «٤» :
يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بغَزْوَةٍ... وإنّ جهادا طىّء وقتالها
يجزىء ذكر الاسم من فعله «٥» إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه ذلك.
وقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ... (٩٤)
يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فأبوا، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: (والله لا يقوله أحد إلا غص بريقه) «٦». ثُمَّ إنه وصفهم فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معناه والله أعلم: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة. ومثله أن تقول: هذا أسخى
(١) البيت من أبيات لذى الخرق الطهوىّ يخاطب ذئبا تبعه فى طريقه، وقبله:
ألم تعجب لذئب بات يسرى... ليؤذن صاحبا له باللحاق
و «ويب» كلمة مثل «وبل» تقول: ويبك وويب زيد كما تقول ويلك معناه: ألزمك الله ويلا نصب نصب المصادر. فإن جئت باللام رفعت، قلت: ويب لزيد ونصبت منونا فقلت ويبا لزيد.
وبغام الناقة صوت لا تفصح به. والعناق: الأنثى من المعز.
(٢) فى ج، ش: «أراد بغام راحلتى بغام عناق إلخ».
(٣) «معناه والله أعلم ولكن البر» ساقط من ج، ش.
(٤) فى ج، ش: بعض العرب.
(٥) فى الطبري: «من ذكر فعله».
(٦) هكذا نص الحديث فى كل الأصول، ورواية البيهقىّ عن ابن عباس مرفوعا: (لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه) ولهذا الحديث روايات أخرى تطلب من مظانها.
62
الناس ومن هرم. لأن التأويل للأول هُوَ أسخى من الناس ومن هرم ثُمَّ إنه وصف المجوس فقال: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك أن تحيتهم فيما بينهم: (زِهُ «١» هَزَارْ سَالْ). فهذا تفسيره: عش ألف «٢» سنة.
وأما قوله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ،... (٩٧)
[يعنى القرآن] «٣» عَلى قَلْبِكَ [هذا أمر] «٤» أمر اللَّه به محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل وأخبره اللَّه بذلك، فقال: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ يعني قلب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم، فلو كان فِي هذا الموضع «على قلبي» وهو يعني محمدًا صلى اللَّه عليه وسلم لكان صوابا. ومثله فِي الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندي، وعندك أما عندك فجاز لأنه كالخطاب، وأما عندي فهو قول المتكلم بعينه. يأتي هذا من تأويل قوله:
«سَتُغْلَبُونَ» و «سَيَغْلِبُونَ» «٥» بالتاء والياء.
وقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ... (١٠٢)
(كما تقول فِي ملك سُلَيْمَان) «٦». تصلح «فِي» و «على» فِي مثل هذا الموضع تقول: أتيته فِي عهد سليمان وعلى عهده سواء.
(١) زه معناها فى العربية: عش، وهزار معناها: ألف، وسال معناها: سنة.
(٢) فى تفسير الطبري: عن ابن عباس فى قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» قال هو قول الأعاجم: سال زه نوروز مهرجان، وعن ابن جبير قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:
زه هزار سال. [.....]
(٣) ساقط من أ.
(٤) ساقط من أ.
(٥) آية ١٢ سورة آل عمران، والقراءة بياء الغيبة أي بلغهم أنهم سيغلبون، وبتاء الخطاب أي قل لهم فى خطابك إياهم ستغلبون.
(٦) سقط ما بين القوسين فى أ.
63
وقوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ... (١٠٢)
القراء يقرءون «الْمَلَكَيْنِ» من الملائكة. وكان ابن عَبَّاس يقول:
«الْمَلَكَيْنِ» من الملوك.
وقوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ... (١٠٢)
أما السحر فِمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أخذ «١» به الرجل عن امرأته. ثُمَّ قال: ومن قول الملكين إذا تعلم منهما ذلك: لا تكفر.
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ ليست بجواب لقوله: وَما يُعَلِّمانِ إنما هى مردودة على قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فهذا وجه. ويكون «فَيَتَعَلَّمُونَ» متصلة بقوله: «إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» فيأبون فيتعلمون ما يضرهم، وكأنه أجود الوجهين فِي العربية «٢». والله أعلم.
وقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها... (١٠٦)
أو ننسئها- أَوْ نُنْسِها عامة القراء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عَبْد اللَّه: / «مَا ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها أو خير منها» وَفِي قراءة سالم مَوْلَى أبي حُذَيْفة: «ما ننسخ من آية أو ننسكها»، فهذا يقوي النسيان.
والنسخ أن يعمل بالآية ثُمَّ تنزل الأخرى فيعمل بها وتترك الأولى. والنسيان هاهنا على وجهين: أحدهما- على الترك نتركها فلا ننسخها كما قال اللَّه جل ذكره:
«نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «٣» يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر- من النسيان الذي
(١) أخذ (بتشديد الخاء) : حبس ومنع. وقد أخذت الساحرة الرجل تأخيذا.
(٢) لعل الوجه الأوّل هو ما أشار إليه المؤلف أوّلا، وهو عطف «فيتعلمون» على موضع «ما يعلمان» وقد أجازه بعضهم لأن قوله: «وما يعلمان» وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب فى التعليم. وهناك أعاريب أخرى.
(٣) آية ٦٧ سورة التوبة.
64
ينسى، كما قال اللَّه: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» «١» وكان بعضهم يقرأ: «أَوْ نَنْسَأْهَا» يهمز يريد نؤخرها من النسيئة وكل حسن. حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: «٢» وَحَدَّثَنِي قَيْسٌ «٣» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بإسناد برفعه إلى النبي ﷺ أنه سمع رجلا يَقْرَأُ فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ هَذَا، هَذَا أَذْكَرَنِي آيَاتٍ قَدْ كُنْتُ أُنِسِيتَهُنَّ).
وقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ... (١٠٢)
من فِي موضع رفع وهي جزاء «٤» لأن العرب «٥» إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم ألا ترى أنهم يقولون: سل عما شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش لأن «ما» فِي تأويل جزاء
(١) آية ٢٤ سورة الكهف.
(٢) فى ج، ش: «قال حدثنا قيس».
(٣) هو قيس ابن الربيع الأسدىّ الكوفىّ. مات سنة ١٦٥ هـ. وانظر الخلاصة والتهذيب وتاريخ بغداد.
(٤) «ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» اللام للقسم و «من» اسم موصول مبتدأ وجملة «اشتراه» صلة الموصول، وجملة «ما له فى الآخرة من خلاق» مبتدأ وخبر، و «من» زائدة فى المبتدأ «خلاق» للتوكيد، و «فى الآخرة» متعلق بمحذوف حال منه، ولو أخر عنه لكان صفة له، وهذه الجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «من» والجملة كلها «لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» فى محل نصب سادة مسدّ مفعولى «علموا». هذا هو الظاهر عند النحويين وقال الفرّاء: إن «من» أداة شرط مبتدأ، واللام فى «لمن» موطئة للقسم.
والمشهور أن اللام الداخلة على «قد» فى مثل الآية إنما هى لام القسم، أما اللام الداخلة على أداة الشرط فهى للإيذان بأن الجواب بعدها مرتب على قسم قبلها لا على الشرط، ولذلك تسمى اللام المؤذنة، وتسمى الموطئة أيضا لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهدته له. وحيث أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم كون فعل الشرط ماضيا ولو معنى كالمضارع المنفي بلم غالبا- هذا- وقد يغنى عن القسم جوابه لدليل يدل عليه كما إذا وقع بعد «لقد» أو بعد «لئن» نحو «ولقد صدقكم الله وعده» و «لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون». وراجع إعراب الآية فى تفسير الطبري.
(٥) فى ج، ش: «إلا أن العرب».
65
وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فعل لأن الحزم لا يستبين فِي فعل، فصيروا حدوث اللام- وإن كانت لا تُعِّرب شيئًا- كالذي يُعَرِّب، ثُمَّ صيروا جواب الجزاء بما تُلْقي به اليمين- يريد تستقبل به- إما بلامٍ، وإما ب «لا»، وإما «إن» وإمّا ب «ما» فتقول فِي «ما» : لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع، وفي «إن» : لئن أتيتني إن ذلك لمشكور لك- قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن «١» - وفي «لا» :«لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «٢» وفى اللام «وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ» «٣» وإنما صيروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التي دخلت فِي قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ» وفي قوله:
«لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» «٤» وفى قوله: «لَئِنْ أُخْرِجُوا» إنما هِيَ لام اليمين كان موضعها فِي آخر الكلام فلما صارت فِي أوله صارت كاليمين، فلقُيت بما يُلْقَى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر «٥» :
لئن تَكُ قد ضاقْت عليكم بيوتُكم ليعلم ربّى أنّ بيتي واسع
(١) ما بين الخطين ساقط من ج، ش.
(٢، ٣) آية ١٢ سورة الحشر. [.....]
(٤) آية ٨١ من سورة آل عمران: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي فى ضمن أخذ الميثاق، وجواب القسم جملة «لتؤمنن به» و «ما» جعلها الفراء شرطية، والأولى أن تكون موصولا مبتدأ خبره محذوف. وقال العكبري: وفى الخبر وجهان أحدهما أنه «من كتاب وحكمة» أي الذي أوتيتموه من الكتاب، والنكرة هنا كالمعرفة. والثاني أن الخبر جملة القسم المحذوف وجوابه الذي هو جملة «لتؤمنن به». وراجع السمين والزمخشري فى الآية.
(٥) البيت للكميت بن معروف، وهو شاعر مخضرم، والشاهد فيه أن فعل الشرط المحذوف جوابه قد جاء مضارعا فى ضرورة الشعر، والقياس «لئن كانت». وفيه شاهد آخر وهو أن المضارع الواقع جوابا للقسم إن كان للحال لا للمستقبل وجب الاكتفاء فيه باللام، وامتنع توكيده بالنون كما هنا فإن المعنى: ليعلم الآن ربى.
66
وأنشدني بعضُ «١» بني عقيل:
لئِن كَانَ ما حُدِّثْتُهُ اليومَ صادِقًا أَصُمْ فِي نهار الْقَيْظِ للشَّمسِ بادِيَا
وأَرْكَبْ حمارًا بين سرجٍ وفروةٍ وأعْرِ من الخاتام صُغْرَى شماليا «٢»
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه فِي الكلام أن يقول: لئن كان كذا لاتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر «٣» :
فَلا يَدْعُنِي قَوْمِي صَرِيحًا لِحُرَّةٍ لئنْ كُنتُ مقتولا ويَسْلَمُ عامِرُ
فاللام فِي «لئن» ملغاة، ولكنها كثرت فِي الكلام حَتَّى صارت بمنزلة «٤» «إن»، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فَلئِنْ قومٌ أصابُوا غِرَّةً وأَصَبْنا من زمانٍ رَقَقَا «٥»
لَلَقدْ كانوا لدى أزماننا لصنيعين لبأس وتقى «٦»
(١) يريد امرأة منهم. ويقول الفراء فى سورة الإسراء فى هذين البيتين: «وأنشدتنى امرأة عقيلية فصيحة».
(٢) الشاهد أنه جاء الفعل «أصم» جوابا مجزوما لإن الشرطية بعد تقدم القسم المشعر به اللام الموطئة، وهو قليل فى الشعر. وقيل إن اللام زائدة. و «ما» عبارة عن الكلام. والقيظ:
شدة الحر. والبادي: البارز. وركوب الحمار بين الفروة والسرج هيئة من يندد به ويفضح بين الناس.
وأعر: مضارع أعراه أي جعله عاريا. والخاتام لغة فى الخاتم. وصغرى الشمال خنصرها فإن الخاتم يكون زينة للشمال، واليمين لها فضيلة اليمين. يقول: إن كان ما نقل لك عنى من الحديث صحيحا فجعلنى الله صائما فى تلك الصفة الشاقة، وأركبنى حمارا للخزى والفضيحة وجعل شمالى عارية من حسنها وزينتها بقطعها.
(خزانة الأدب ج ٤: ٥٣٨).
(٣) قائله قيس بن زهير العبسي، وتقدير البيت: لئن قتلت و «عامر» سالم من القتل فلست بصريح النسب حر الأم وأراد عامر بن الطفيل. و «يسلم» على القطع والاستئناف، ولو نصب بإضمار «أن» لأن ما قبله من الشرط غير واجب لجاز. (هامش سيبويه ج ١: ٤٢٧).
وقال ابن مالك: وقد يستغنى بعد «لئن» عن جواب لتقدم ما يدل عليه فيحكم بأن اللام زائدة، فمن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة: ومثله: فلا يدعنى قوم... البيت. وقال فى شرح الكافية: لا قسم فى مثل هذه الصورة، فلا يكون إلا شرط.
ألمم بزينب إن البين قد أفدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
(٤) فى ج، ش: «كأنها».
(٥) «غرة» فى شعراء ابن قتيبة ١/ ٤٧:
«عزة». الرقق: رقة الطعام وقلته، وفى ماله رقق أي قلة، وذكره القراء بالنفي فقال: يقال ما فى ماله رقق، أي قلة.
(٦) كذا. والمعنى غير واضح. وقد يكون الأصل: للقد أ......
67
فأدخل على «لقد» لا ما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام فِي «لقد» حَتَّى صارت كأنها منها. وأنشدني بعض بْني أسد:
لددتهم النصيحة كل لَدٍّ فمجوا النصح ثُمَّ ثنوا فقاءوا
فلا والله لا يلفى لما بي ولا للمابهم أبدًا دَواءُ «١»
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: «كما» ثُمَّ زاد معها «ما» أخرى لكثرة «كما» فِي الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَن غِبِّ مَعْرَكةٍ لا تُلْفِنَا مِن دِماءِ القومِ نَنْتَفِلُ «٢»
فجزم «لا تلفنا» والوجه الرفع كما قال اللَّه: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «٣» ولكنه لما جاء بعد حرفٍ يُنْوى به الجزمُ صُيِّر جزما جوابا للمجزوم وهو فِي معنى رفع. وأنشدني القاسم بْن مَعْنٍ (عن العرب) «٤» :
(١) البيتان من قصيدة طويلة لمسلم بن معبد الوالبي. والشاهد فى قوله: «للما» حيث كررت فيه اللام للتأكيد وهى حرف واحد بدون ذكر مجرور الأولى، وهو على غاية الشذوذ والقلة، والقياس (لما بهم لما بهم). ولددتهم هنا بمعنى ألزمتهم يقول: ألزمتهم النصيحة كل الإلزام فلم يقبلوا، ولا يوجد شفاء لما بي من الكدر ولا لما بهم من داء الحسد. ويروى عجز البيت:
وما بهم من البلوى دواء وانظر الخزانة ١/ ٣٦٤.
(٢) منيت: أي بليت وقدر لك. و «عن غب معركة» «عن» بمعنى بعد، والغب: العاقبة.
وانتقل من الشيء: انتفى منه وتنضل. والشاهد فى البيت أن الشرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه، وهو قليل خاص بالشعر.
وقال ابن هشام: إن اللام فى «لئن» زائدة وليست موطئة كما زعم الفراء.
(٣). ١٢ آية سورة الحشر.
(٤) سقط فى أ.
68
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل... أمامك بيت من بيوتى سائر «١»
والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صير جوابا للجزم. ومثله فِي العربية: آتيك كى (إن تحدّثنى «٢» بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم).
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا... (١٠٤)
هُوَ «٣» من الارعاء والمراعاة، (وفي) «٤» قراءة عَبْد اللَّه «لا تقولوا راعُونا» وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلما سمعت اليهود أصحاب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم يقولون:
يا نبي اللَّه راعنا «٥»، اغتنموها فقالوا: قد كُنَّا نسبه فِي أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السَّبَّ، فجعلوا يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: راعِنا، ويضحك بعضهم إلى بعض، ففطن لها رَجُل «٦» من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل
(١) البيت شاهد على جزم «لا يزل» فى ضرورة الشعر بجعله جواب الشرط وكان القياس أن يرفع ويجعل جوابا للقسم، لكنه جزم للضرورة، فيكون جواب القسم محذوفا مدلولا عليه بجواب الشرط.
وتدلج: مضارع أدلج أي سار الليل كله. وأراد بالبيت جماعة من أقاربه يقول: إن سافرت بالليل أرسلت جماعة من أهلى يسيرون أمامك يخفرونك ويحرسونك إلى أن تصل إلى مأمنك.
(٢) فى ج، ش: «إن تحدث بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد الجزم جزم». [.....]
(٣) فى ج: «وهو».
(٤) فى ج: «وهو فى».
(٥) راعنا: أمر من المراعاة وهى الحفظ. وفى الصحاح: «أرعيته سمعى أي أصغيت إليه، ومنه قوله تعالى: «راعِنا» قال الأخفش: «هو فاعلنا من المراعاة على معنى أرعنا سمعك، ولكن الياء ذهبت للأمر». والأقرب أن المراعاة هنا مبالغة فى الرعي أي حفظ المرء غيره، وتدبير أموره. وقراءة عبد الله بن مسعود «راعونا» على إسناد الفعل إلى ضمير الجمع للتوقير.
(٦) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسى رضى الله عنه وكان يعرف لغتهم. شهد بدرا وأحدا، وتوفى سنة خمس من الهجرة بسبب جرح أصابه فى غزوة الخندق.
69
إلا ضربت عنقه، فأنزل اللَّه «١» «لا تَقُولُوا راعِنا» ينهى المسلمين «٢» عَنْهَا إذ كانت سبا عند اليهود. وقد قرأها الْحَسَن الْبَصْرِيّ: «لا تَقُولُوا راعِنا» بالتنوين، يقول:
لا تقولوا حُمْقا، وينصب بالقول كما تقول: قَالُوا خيرا وقالوا شرا.
وقوله: وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا. وانْظُرْنا: أخِّرنا، (قال اللَّه) «٣» :
« [قالَ] أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» يريد «٤» أخّرنى، وفى سورة الحديد [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ] «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» «٥» خفيفة الألف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيات: «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا» على معنى التأخير.
وقوله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ... (١٠٥)
معناه: ومن المشركين «٦»، ولو كانت «المشركون» رفعًا مردودة على «الَّذِينَ كَفَرُوا» كان صوابا [تريد ما يود الذين كفروا ولا المشركون] «٧»، ومثلها فى المائدة: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ «٨»، قرئت بالوجهين: [والكفار، والكفار] «٩»، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «ومن الكفار أولِياء». وكذلك قوله:
(١) فى ش، ج زيادة قبل الآية: «ينهى المسلمين».
(٢) فى نسخة أ: «ينهى المسلم».
(٣) فى أ: «كقوله».
(٤) فى ج، ش: «يقول».
(٥) آية ١٣ من السورة المذكورة.
(٦) «ومن المشركين» ساقط من أ.
(٧) ما بين المربعين ساقط من أ.
(٨) آية ٥٧ من السورة المذكورة.
(٩) ساقط من أ.
70
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» «١» فِي موضع خفض على قوله:
«مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» : ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان صوابا ترد على الذين كفروا.
وقوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ... (١٠٨)
أَمْ (فِي المعنى) «٢» تكون ردا على الاستفهام على جهتين إحداهما: أن تفرق «٣» معنى «أي»، والأخرى أن يستفهم بها. فتكون «٤» على جهة النسق، والذي يُنوى بها الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ، ثُمَّ استفهمت لم يكن إلا بالألف أو بهل ومن ذلك قول اللَّه: «الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» «٥»، فجاءت «أَمْ» وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ على كلامٍ قد سبقه. وأما قوله:
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فرد عليه وهو قول اللَّه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». وكذلك قوله: «مَا لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» «٦» فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: «ما لَنا لا نَرى رِجالًا»
وقد قرأ بعض
(١) آية ١ سورة البينة. [.....]
(٢) سقط فى أ.
(٣) فى الطبري: «تعرّف».
(٤) هذا إيضاح لجهتى (أم). فهى فى الجهة الأولى أداة نسق، وفى الجهة الثانية ليست أداة نسق بل ينوى بها الابتداء على ما وصف.
(٥) آية ٣ سورة السجدة.
(٦) آية ٦٢، ٦٣ سورة ص.
71
القرّاء: «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» يستفهم فى «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» بقطع الألف لينسّق عليه «أَمْ» لأن أكثر ما تجىء مع الألف وكل صواب. ومثله: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» ثُمَّ قال: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» والتفسير فيهما واحد. وربما جعلت العرب «أَمْ» إذا سبقها استفهام لا تصلح أي فِيهِ على جهة بل فيقولون: هَلْ لك قبلنا حق أم أنت رَجُل معروفٌ بالظلم.
يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظلم وقال الشاعر:
فو الله ما أدْرِي أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ «١» أَمِ النَّوْمُ أَمْ كُلُّ إِلَيّ حَبِيبٌ
معناه [بل كل إلى حبيب] «٢».
وكذلك تفعل العرب فِي «أو» فيجعلونها نسقًا مفرقة لمعنى ما صلحت فِيهِ «أحَدٌ»، و «إحدى» كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت فِي كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل كقولك فِي الكلام:
اذهب إلى فلانٍ أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأول وجعل «أو» فِي معنى «بل» ومنه قول اللَّه:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» وأنشدني بعض العرب «٣» :
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمس فِي رونق الضحى وصورتها أو أنت فِي العين أملح «٤»
يريد: بل أنت.
(١) تغوّلت المرأة: تلونت.
(٢) الزيادة من تفسير الطبري.
(٣) آية ١٤٧ سورة والصافات.
(٤) قرن الشمس: أعلاها. «وصورتها» بالجرّ عطف على قرن. وأملح: من ملح الشيء (بالضم) ملاحة أي بهج وحسن منظره. والبيت نسبه ابن جنى فى المحتسب إلى ذى الرمة، ولم نجده فى ديوانه.
72
وقوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) و «سَواءَ» «١» فِي هذا الموضع قصد، وقد تكون «سَواءَ» «٢» فِي مذهب غير كقولك للرجل: أتيت سواءك.
وقوله: كُفَّاراً... (١٠٩)
هاهنا «٣» انقطع الكلام، ثم قال: حَسَداً كالمفسر لم ينصب على أنه نعت للكفار «٤»، إنما هُوَ كقولك للرجل: هُوَ يريد بك الشر حسدا وبغيا.
وقوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ... (١٠٩)
من قبل أنفسهم لم يؤمروا به فِي كتبهم.
وقوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى... (١١١)
يريد يهوديًّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية. وهي فِي قراءة أَبِي وعبد اللَّه: «إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيّا» وقد يكون أن تجعل اليهود جمعًا واحده هائد (ممدود «٥»، وهو مثل حائل ممدود) «٦» - من النوق- وحُول، وعائط «٧» وعُوط وعيط وعوطط.
(١) فى ج: «سواء للسبيل».
(٢) كذا فى أ، وفى ج: «على».
(٣) «هاهنا» ساقط من أ.
(٤) فى القرطبي: «حسدا» مفعول له أو مصدر دل ما قبله على الفعل.
(٥) فى أ: «وهود، مثل حائل». [.....]
(٦) الناقة الحائل: التي حمل عليها الفحل فلم تلقح.
(٧) العائط من النوق: الحائل.
وقوله: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ (١١٤) هذه «١» الروم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا وحرقوا وخربوا المسجد. وإنما أظهر اللَّه عليهم المسلمين فِي زمن عُمَر- رحمه اللَّه- فبنوه، (ولم) «٢» تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا.
وقوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ... (١١٤)
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر اللَّه عليها المسلمين فقتلوا مقاتلهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي.
وقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) يقول فيما وعد اللَّه المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد «٣».
وقوله: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) يريد مطيعون، وهذه خاصة لأهل الطاعة ليست بعامة.
وقوله: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) رفع ولا يكون نصبا، إنما «٤» هى مردودة على «يَقُولُ» [فإنما يقول فيكون] «٥».
وكذلك قوله: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ» «٦» رفعٌ لا غير. وأما التي فِي النحل: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فإنها نصب «٧»،
(١) فى ج: «فهذه».
(٢) فى ج: «فلم».
(٣) فى ج، ش: «ولما يكن بعد».
(٤) فى ج، ش: «إنها مردودة».
(٥) ما بين المربعين من ج، ش.
(٦) آية ٧٣ سورة الأنعام.
(٧) قوله: «نصب» هذا فى قراءة ابن عامر والكسائي عطفا على «أن نقول». والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.
وكذلك التي فِي «يس» نصبٌ لأنها مردوةٌ على فعل قد نُصب بأن، وأكثر القراء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله:
«إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ» فقد تم الكلام، ثُمَّ قال: فسيكون ما أراد اللَّه.
وإنه لاحب الوجهين إليّ، وإن كان الكسائي لا يُجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النّسق.
وقوله: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ... (١١٨)
يقول: تشابهت قلوبهم «١» فِي اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشابهت بالتثقيل لأنه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين فِي تفاعلت ولا فِي أشباهها.
وإنما يجوز الادغام إذا قلت فِي الاستقبال: تتشابه (عن قليل) «٢» فتدغم التاء الثانية عند الشين.
وقوله: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) قرأها ابن عَبَّاس [وأبو جَعْفَر] «٣» مُحَمَّد بْن علىّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أَهْل المدينة جزما، وجاء التفسير بِذَلِك، [إلا أن التفسير «٤» ] على فتح التاء على النهى.
والقراء [بعد] «٥» على رفعها على الخبر: ولست تسئل، وَفِي قراءة أبي «وما تسئل» وَفِي قراءة عَبْد اللَّه: «ولن تسال» وهما شاهدان «٦» للرفع.
وقوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ... (١٢٣)
يقال: فدية.
(١) سقط فى أ.
(٢) كأنه يريد: عن قليل من العرب أو من القرّاء، وهو متعلق بقوله:
«يجوز الإدغام... ».
(٣) ساقط من أ.
(٤، ٥) ما بين المربعين ساقط من أ.
«بعد» ساقط من أ.
(٦) فى ج، ش: «وكلاهما يشهد». [.....]
75
وقوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ... (١٢٤)
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السنة خمس فِي الرأس، وخمس فِي الجسد فأما اللاتي فِي الرأس فالفرق «١»، وقص الشارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسواك.
وأما اللاتي فِي الجسد فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرفغين يعني الإبطين. قال الفرّاء: ويقال للواحد رفع «٢» والاستنجاء.
فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن فقال اللَّه تبارك وتعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً:
يهتدى بهداك ويستنّ بك، فقال: ربّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي على المسألة «٣».
وقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ... (١٢٤)
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفي قراءة عَبْد اللَّه: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِون». وقد فسر هذا لأن «٤» ما نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالني خيرك.
وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ... (١٢٥)
يثوبون إليه- من المثابة والمثاب- أراد: من كل مكان. والمثابة «٥» فِي كلام العرب كالواحد مثل المقام والمقامة.
(١) أي فرق الشعر. وهو تفريقه فى وسط الرأس، لا يترك جملة واحدة، ليكون ذلك أعون على تسريحه وتنظيفه.
(٢) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(٣) أي مسألة من إبراهيم ربه، سأله إياها أن يكون من ذرّيته مثاله: من يؤتم به ويقتدى به ويهتدى بهديه.
(٤) كذا والأحسن: «بأن».
(٥) المثابة فى اللغة: مجتمع الناس بعد تفرقهم كالمثاب، والموضع الذي يئاب إليه أي يرجع إليه مرة بعد أخرى. وقوله: «كالواحد» يريد به المثاب. وهو يريد الردّ على من زعم أن تأنيث مثابة لمعنى الجماعة كالسيارة. وانظر تفسير الطبري.
76
وقوله: وَأَمْناً... (١٢٥)
يقال «١» : إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثُمَّ عاذ بالحرم لم يُقَم عليه حده حَتَّى يخرج من الحرم، ويؤمر بأَلا يخالط ولا يبايع، وأن يضيق عليه (حَتَّى يخرج) «٢» ليقام عليه الحد، فذلك أمنه. ومن جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فِي الحرم.
وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى... (١٢٥)
وقد قرأت القراء بمعنى «٣» الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم] «٤»، ومن قرأ «وَاتَّخِذُوا» ففتح الخاء كان خبرا يقول «٥» : جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكل صواب إن شاء اللَّه.
وقوله: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ... (١٢٥)
يريد: من الأصنام ألا «٦» تعلق فِيهِ.
وقوله: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ... (١٢٥)
يعنى أهله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يعنى أهل الإسلام.
(١) فى أ: «يقول».
(٢) فى ج: «فيخرج».
(٣) فى ج، ش: «بعد بالجزم» يريد بالجزم الأمر.
(٤) ما بين المربعين فى ج، ش.
(٥) فى أ: «أي».
(٦) كذا فى ج. وفى أ: «لا» وقوله: «ألا تعلق» أي إرادة ألا تعلق.
77
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ... (١٢٦)
من قول الله تبارك وتعالى فَأُمَتِّعُهُ على الخبر. وفي قراءة أَبِي «وَمَن كَفَرَ فَنُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ» (فهذا وجه) «١». وكان ابن عَبَّاس يجعلها متصلة بمسئلة إبراهيم «٢» صلى الله عليه على معنى: رب «وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» (منصوبة موصولة) «٣». يريد ثُمَّ أَضْطَرِرْه فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز فِي هذا المذهب كسر الراء فِي لغة الَّذِين يقولون مُدِّهِ. وقرأ يحيى بْن وَثَّاب:
«فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» بكسر الألف كما تقول: أَنَا أعلم ذاك.
وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ (١٢٧) يقال هى إساس «٤» البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء «٥» اللواتي قد قعدن عن المحيض قاعد بغيرها. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
وقوله: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا... (١٢٧)
يريد: يقولان ربنا. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «ويقولان ربنا».
(١) سقط فى أ.
(٢) فى الطبري: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا بتخفيف التاء وسكون العين وفتح الراء من اضطره، وفصل ثم اضطره بغير قطع همزتها على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.
(٣) (منصوبة) أي مفتوحة الراء، و (موصولة) أي بهمزة الوصل لا بهمزة القطع. [.....]
(٤) هو جمع أس، بضم الهمزة. وهذا الضبط عن اللسان فى قعد. وضبط فى أ: «آساس» وهو جمع أس أيضا.
(٥) يريد: والواحدة من النساء... أي الواحدة من القواعد بهذا المعنى.
78
وقوله: وَأَرِنا مَناسِكَنا... (١٢٨)
وفى قراءة عبد الله: «وأرناهم مناسكهم» ذهب إلى الذرية. «وَأَرِنا» ضمهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلمين عن أنفسهم يدلك على ذلك قوله: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا رجع إلى الذرية خاصة.
وقوله: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ... (١٣٠)
العرب توقع سفه على (نفسه) وهي معرفة. وكذلك قوله: «بَطِرَتْ مَعِيشَتَها» «١» وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسر، والمفسر فِي أكثر الكلام نكرة كقولك:
ضِقت به ذَرْعا، وقوله: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» «٢» فالفعل للذرع لأنك تقول: ضاق ذرعي به، فلما جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الذّرع مفسرا لأن الضيق فِيهِ كما تقول: هُوَ أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدل على أن السعة فيها لا فِي الرجل وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت رأيك- أو- وفقت، [قال أَبُو عَبْد اللَّه «٣» : أكثر ظني وثقت بالثاء] «٤» إنما الفعل للأمر، فلما أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيه سفه زيدٌ، كما لا يجوز دارا أنت أوسعهم لأنه وإن كان معرفة فإنه فِي تأويل نكرة، ويصيبه النصب فِي موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
(١) آية ٥٨ سورة القصص.
(٢) آية ٤ سورة النساء.
(٣) هو محمد بن الجهم السمري مستملى الفراء وراوى الكتاب عنه.
(٤) ما بين الخطين ساقط من ج، ش- هذا- وجاء فى اللسان مادة «وفق» :«وفق أمره يفق قال الكسائي يقال رشدت أمرك ووفقت رأيك، ومعنى وفق أمره وجده موافقا، وقال اللحيائى:
وفقه وفهمه»
.
وقوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ... (١٣٢)
فِي مصاحف أهل المدينة «وأوصى» وكلاهما صوابٌ كثير فى الكلام.
وقوله: وَيَعْقُوبُ... (١٣٢)
أي ويعقوب وصى بهذا أيضا. وَفِي إحدى القراءتين قراءة عَبْد اللَّه أو «١» قراءة أُبَيٍّ: «أن يا بني إن اللَّه اصطفى لكم الدين» يوقع وصى على «أَنْ» يريد وصاهم «بأن»، وليس فِي قراءتنا «أن»، وكل صواب. فمن ألقاها قال: الوصية قول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فِيهِ دخول أن، وجاز إلقاء أن كما قال اللَّه عز وجل فِي النساء «٢» :«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» لأن الوصية كالقول وأنشدني الكسائي:
إني سأُبدي لك فيما أبدى... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السِنْد لأن الإبداء فِي المعنى بلسانه ومثله قول اللَّه عز وجل «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» «٣» لأن العدة قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون فِي معنى القول وغيره.
(١) أو هنا للشك. فقد كان المؤلف حين الكتابة لهذا غير متثبت من الأمر، وفى الحق أن هذه قراءة الرجلين معا، كما فى البحر والقرطبىّ.
(٢) آية ١١ منها.
(٣) آية ٢٩ سورة الفتح.
80
وإذا كان الموضع فِيهِ ما يكون معناه معنى القول ثُمَّ ظهرت فِيهِ أن فهي منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأما الَّذِي يأتي بمعنى القول فتظهر فِيهِ أن مفتوحة فقول اللَّه تبارك وتعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» «١» جاءت أن مفتوحة لأن الرسالة قول.
وكذلك قوله «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا» «٢» والتخافت قول. وكذلك كل ما كان فِي القرآن. وهو كثير. منه قول اللَّه «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» «٣».
ومثله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ [عَلَى الظَّالِمِينَ] » «٤» الأذان قول، والدعوى قول فِي الاصل.
وأما ما ليس فِيهِ معنى القول فلم تدخله أن فقول اللَّه «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا» «٥» فلمّا لم يكن فى «أَبْصَرْنا» كلام يدل على القول أضمرت القول فأسقطت أن لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول اللَّه «وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» «٦». معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا». معناه يقولان «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» وهو كثير. فقس بهذا ما ورد عليك.
(١) آية ١ سورة نوح.
(٢) آية ٢٣- ٢٤ سورة القلم.
(٣) آية ١٠ سورة يونس.
(٤) آية ٤٤ سورة الأعراف.
(٥) آية ١٢ سورة السجدة. [.....]
(٦) آية ٩٣ سورة الأنعام.
81
[وقوله:... قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ١٣٣].
قرأت القرّاء نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ، وبعضهم قرأ «وإله أبيك» واحدا. وكأن الَّذِي قال: أبيك (ظن أن العم لا يجوز فِي الآباء) «١» فقال «وإله أبيك إِبْرَاهِيم»، ثُمَّ عدد بعد الأب العم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأم كالأخوال. وذلك كثير فِي كلامهم.
وقوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً... (١٣٥)
أمر اللَّه محمدا صلى اللَّه عليه وسلم. فإن نصبتها ب (نكون) «٢» كان صوابا وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا كقولك بل نتّبِع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ»، وإنما أمر اللَّه النَّبِيّ محمدا صلى اللَّه عليه وسلم فقال «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ».
وقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ... (١٣٦)
يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ... (١٣٨)
نَصْب، مردودة «٣» على المِلَّة، وإنما قيل «صِبْغَةَ اللَّهِ» لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه فِي ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك
(١) فى ج، ش: «ظن أن العرب لا تجوز إلا فى الآباء». وليس له معنى.
(٢) كذا فى البحر. أي نكون ذوى ملة إبراهيم. وفى نسخ الفراء: «بيكون» ولعل المراد إن صحت: يكون ما تختاره، مثلا:
(٣) يريد أنها بدل من «مِلَّةِ إِبْراهِيمَ».
هِيَ فِي إحدى القراءتين. قل «صِبْغَةَ اللَّهِ» وهي الختانة، اختتن إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قل «صِبْغَةَ اللَّهِ» يأمر بها مُحَمَّدا صلى اللَّه عليه وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان فِي الماء، ولو رفعت الصبغة والملة كان صوابا كما تقول العرب: جدك لا كدك، وجدك لا كدك. فمن رفع أراد: هِيَ ملة إِبْرَاهِيم، هِيَ صبغة الله، هو جدّك. ومن نصب أضمر مثل الَّذِي قلت لك من الفعل.
وقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... (١٤٣)
يعنى عدلا «١» لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يقال: إن كل نبي يأتي يوم القيامة فيقول: بلغت، فتقول أمته: لا، فيكذبون الأنبياء، «٢» (ثُمَّ يجاء بأمة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فيصدقون الأنبياء ونبيهم)، ثُمَّ يأتي النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم فيصدق أمَّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، ومنه قول اللَّه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] » «٣».
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ... (١٤٣)
أسند الإيمَان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة. فقالوا للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ
(١) كذا فى أصول الكتاب بالإفراد. ووجه ذلك أن عدلا فى الأصل مصدر، فيصلح للفرد والجمع.
وفى غير هذا الكتاب: «عدولا».
(٢) سقط ما بين القوسين فى أ.
(٣) آية ٤١ من سورة النساء.
83
يريد إيمانهم لانهم داخلون معهم فِي الملة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.
وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ... (١٤٤)
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله فِي الكلام: وَلِّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتُجَاهه.
وقوله: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ... (١٤٥)
أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو فِي المعني ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأُجيبتا بجواب واحدٍ، وشُبِّهت كل واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن) بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنَّ، ولئن أحسنت لتُكرمنّ، ولئن أسأت لا يُحْسَنْ إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنَّ. فهذا الَّذِي عليه يُعمل، فإذا أُجيبت لو بجواب لئن فالذي قلت لك من لفظ فعليهما بالمضي، ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تفعل تأتي) «١» بعدهما، وهي جائزة، فلذلك قال «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا» «٢» فأجاب (لئن) بجواب (لو)، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» «٣» الآية
(١) كذا فى ش. وفى أ: «يفعل يأتى» وعلى هذا فقوله بعد: «وهى» راعى فيها الكلمة، فلذلك أنث.
(٢) آية ٥١ سورة الروم.
(٣) آية ١٠٣ سورة البقرة.
84
وقوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ... (١٤٧)
المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم قبلة إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقّ) فقال: يا مُحَمَّد هُوَ «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ»، إنها قبلة إِبْرَاهِيم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: فلا تشكن فِي ذلك. والممتري: الشاك.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ...
(١٤٨)
يعنى قبلةوَ مُوَلِّيها
: مستقبلها، الفعل لكلٍ، يريد: مولٍ وجهه إليها.
والتولية فِي هذا الموضع إقبال، وفي «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» «١»، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «٢» انصراف. وهو كقولك فِي الكلام: انصرف إلى، أي أقبل إلى، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عَبَّاس وغيره «هُوَ مُوَلاها»، وكذلك قرأ أبو «٣» جَعْفَر مُحَمَّد بْن علي، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.
وقوله: يْنَ ما تَكُونُوا...
(١٤٨)
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت ب (ما)، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأي ما، وحيث «٤» ما، وكيف ما، و «أَيًّا مَا تَدْعُوا» «٥» كانت جزاء ولم تكن استفهاما.
فإذا لم توصل ب (ما) كان الاغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء.
(١) آية ١١١ سورة آل عمران.
(٢) آية ٢٥ سورة التوبة.
(٣) هو الإمام الباقر، لقب بذلك لأنه بقر العلم، أي شقه وعرف ظاهره وخفيه. وانظر طبقات القراء لابن الجزرىّ الترجمة رقم ٣٢٥٤
(٤) كذا فى الأصول، ولا تعرف هذه الأداة فى أدوات الاستفهام. [.....]
(٥) آية ١١٠ سورة الإسراء.
85
فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الَّذِي مع أينما وأخواتها، وجوابه كقولهَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ»
«١» فإن أدخلت الفاء فِي الجواب رفعت الجواب فقلت فِي مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول اللَّه- تبارك وتعالى- «وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ».
فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الَّذِي يلي أَيْنَ وكيف، ثُمَّ تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» «٢» ثُمَّ أجاب الاستفهام بالجزم فقال- تبارك وتعالى- «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «٣».
فإذا أدخلت فِي جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال اللَّه- تبارك وتعالى- «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» «٤» فنصب.
فإذا جئت إلى العطوف التي تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فِي العطف ثلاثة أوجه إن شئت رفعت العطف مثل قولك: إن تأتني فإني أهل ذاك، وتُؤْجَرُ وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفعُ على ما بعد الفاء. وقد قرأت القراء «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ» «٥». رفع وجزم. وكذلك «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ
(١) آية ١٤٨ سورة البقرة.
(٢) آية ١٠ سورة الصف.
(٣) آية ١٢ سورة الصف.
(٤) آية ١٠ سورة المنافقين. وقد عدّ لولا فى أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي، كما فى المغني، ومثل له بالآية. وقال الأمير فى كتابته على المغني: «الاستفهام هنا بعيد جدّا»
أي والقريب فى الآية معنى العرض أو التحضيض.
(٥) آية ١٨٦ سورة الأعراف.
86
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ» «١» جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت كما قال الشاعر «٢» :
فإن يهلك النعمان تعر مطِيَّةٌ وتُخْبَأَ فِي جوفِ العِيابِ قُطُوعُها «٣»
وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت ترده على الأول، كان صوابا كما قَالَ بعد هَذَا البيت:
وتنحط حصان آخر اللّيل نحطه تقصم منها- أو تكاد- ضلوعها «٤»
وهو كثير فِي الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فِي العطوف إذا لم تكن فِي جواب الجزاء الفاءُ، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فِي المنافقين «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ» «٥» رددت «وَأَكُنْ» على موضع الفاء لأنها فِي محل جزمٍ إذ كان الفعل إذا «٦» وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن ترده على ما بعدها، فتقول:
«وأكون» وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود «وأكون» بالواو، وقد قرأ بها بعض «٧» القراء. قال: وأرى ذلك صوابا «٨» لأن الواو ربما حذفت من الكتاب
(١) آية ٢٧١ سورة البقرة.
(٢) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان له وشرحه فى مجموعة الدواوين الخمسة. وهذا الشعر يقوله فى مدح النعمان بن الحارث الأصغر الغساني.
(٣) القطوع: جمع قطع. وهو كالطنفسة. والعياب: جمع عيبة وهو ما يوضع فيه الثياب. يقول: إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم يستعمل مطيته وخبأ فى جوف العياب الطنفسة التي توضع على الرحل استعدادا للرحيل.
(٤) تنحط: تزفر من الحزن. والحصان: المرأة العفيفة. يقول: إذا تذكرت الحصان معروفه هاج لها حزن وزفرات تنكسر لها ضلوعها أو تكاد تنكسر. وخص آخر الليل لأنه وقت الهبوب من النوم.
(٥) آية ١٠ سورة المنافقين.
(٦) سقط فى أ.
(٧) يريد أبا عمرو بن العلاء، وانظر البيضاوي، والبحر ٨/ ٢٧٥
(٨) يريد دفع ما يرد على قراءة أبى عمرو أنها مخالفة لرسم المصحف إذ ليس فيه: «أَكُونَ» بالواو. فذكر أن الواو قد تحذف فى الرسم وهى ثابتة فى اللفظ. [.....]
87
وهي تراد لكثرة ما تنقص وتزاد فِي الكلام ألا ترى أنهم يكتبون «الرحمن» وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «١» ومن قوله «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ» «٢» الآية، والقراءة على نيَّة إثبات الواو. وأسقطوا من الايكة ألفين فكتبوها فِي موضع ليكة «٣»، وهي فِي موضع آخر الايكة «٤»، والقراء «٥» على التمام، فهذا شاهد على جواز «وأكون من الصالحين».
وقال بعض الشعراء «٦» :
فأَبلُوني بَلِيَّتَكُم لَعَلِّي أصلكم وأَسْتَدْرِجْ نَوَيّا
فجزم (وأستدرج)، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فِي لعلى، وإن شئت جعلته فِي موضع رفع فسكنت الجيم لكثرة توالي الحركات. وقد قرأ بعض القراء «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا «أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» والرفع أحبّ إلىّ من الجزم.
(١) آية ١٨ سورة القلم.
(٢) آية ١١ سورة الإسراء.
(٣) كما فى آية ١٧٦ من الشعراء، وآية ١٣ من ض.
(٤) كما فى آية ٧٨ من الحجز، وآية ١٤ من ق.
(٥) قرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وابن عامر: ليكة بفتح اللام وسكون الياء وفتح التاء، فى الموضعين اللذين سقط فيها الألفان، وكأن الفرّاء ينكر هذه القراءة كما أنكرها بعض النحويين. وانظر البحر ٧/ ٣٧
(٦) هو أبو داود الإيادىّ، كما فى الخصائص ١/ ١٧٦، يقوله فى قوم جاورهم فأساءوا جواره، ثم أرادوا مصالحته. وقوله: «فأبلونى» من أبلاه إذا صنع به صنعا جميلا. والبلية اسم منه.
و «نويا» يريد نواى، والنية: الوجه الذي يقصد. و «أستدرج» : أرجع أدراجى من حيث كنت. يقول: أحسنوا الصنيع بي واجبروا ما فعلتم معى، فقد يكون هذا حافزا لى أن أصالحكم أو أرجع إلى ما كنت عليه. وانظر التعليق على الخصائص فى الموطن السابق طبعة الدار.
88
وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ... (١٥٠)
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا فِي هذا الموضع؟
ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلا يخالف ما قبلها فإن كان ما قبل إلا فاعلا كان الَّذِي بعدها خارجا من الفعل الَّذِي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا كما تقول: ذهب الناس إلا زَيْدًا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زَيْدُ، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله «١» «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» [معناه «٢» : إلا الذين ظلموا منهم]، فلا حجة لهم «فَلا تَخْشَوْهُمْ» وهو كما تقول فِي الكلام: الناس كلهم [لك] «٣» حامدون إلا الظالم لك المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتد بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة.
وكذلك الظالم لا حجة له. وقد سمي ظالما.
وقد قال بعض النحويين «٤» : إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو كأنه قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فِي التفسير، خطأ فِي العربية إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد: (إلّا) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهمّ
(١) هذا أخذ منه فى الردّ على الاعتراض السابق وكأن هنا سقطا فى الكلام. وفى هامش أفى هذا الموطن سطران لم تحسن قراءتهما. وكأن فيهما هذا السقط.
(٢) زيادة من اللسان فى إلا فى آخر الجزء العشرين.
(٣) زيادة من اللسان فى الموطن السابق.
(٤) القائل بهذا أبو عبيدة، وقد أبطل الزجاج والفراء هذا القول.
89
إلا مائة. فالمعنى له على ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهم إلا أباك، فتستثني الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك كما قال الشاعر «١» :
ما بالمدينة دار غير واحدةٍ... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ...
(١٤٨)
العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه وسمعتهم يقولون: وجه الحجر، جهة ماله، ووجهة ماله، ووجه ماله. ويقولون:
ضعه غير هذه الوضعة، والضِّعة، والضَعَة. ومعناه: وجه الحجر فله جهة وهو مثل، أصله فِي البناء يقولون: إذا رَأَيْت الحجر فِي البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته «٢». ولو نصبوا على قوله: وجهه جهته لكان صوابا.
وقوله: وَاخْشَوْنِي... (١٥٠)
أثبتت فيها الياء ولم تثبت فِي غيرها، وكل ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها، وليست تهيب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك «رَبِّي أَكْرَمَنِ- وأَهانَنِ» فى سورة «الفجر» «٣» وقوله: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» «٤» ومن غير النون «الْمُنادِ» «٥» و «الدَّاعِ» «٦» وهو كثير، يكتفي من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله:
(١) نسب فى كتاب سيبويه ١/ ٣٧٣ إلى الفرزدق. وانظر فى تخريج إعرابه السيرافي على الكتاب ٣/ ٣٠٦ من التيمورية.
(٢) وهذا المثل أورده الميدانىّ فى حرف الواو، وقال بعد أن أورد نحو ما ذكر هنا: «يضرب فى حسن التدبير، أي لكل أمر وجه، لكن الإنسان ربما عجز ولم يهتد إليه».
(٣) آيتا ١٥، ١٦ من السورة.
(٤) آية ١٢٦ سورة النمل. [.....]
(٥) آية ٤١ سورة ق.
(٦) آيتا ٦، ٨ سورة القمر.
90
«سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «١» - «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» «٢» وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو وهي واو جماع، اكتفى بالضمة قبلها فقالوا فِي ضربوا: قد ضرب، وفي قَالُوا: قد قال ذلك، وهى فى هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضروا من أرادوا ولا يألو لهم أحد ضرارا «٣»
وأنشدني الكسائي:
مَتَى تقول خلت من أهلها الدار كأنهم بجناحي طائر طاروا
وأنشدني بعضهم:
فلو أن الأطباء كان عندي وكان مع الأطباء الأساة «٤»
وتفعل ذلك فِي ياء التأنيث كقول عنترة:
إن العدو لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضب «٥»
يحذفون (ياء التأنيث) «٦» وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
(١) آية ١٨ سورة العلق.
(٢) آية ١١ سورة الإسراء.
(٣) أورده البغدادىّ فى شرح شواهد المغني ٢/ ٨٥٩ وقال: «وهذا البيت مشهور فى تصانيف العلماء، ولم يذكر أحد منهم قائله».
(٤) بعده:
إذا ما أذهبوا ألما بقلبي... وإن قيل: الأساة هم الشفاة
والأساة جمع آس، وهو هنا من يعالج الجرح. وانظر الخزانة ٢/ ٣٨٥.
(٥) نسب هذا البيت فى أبيات أخر الجاحظ فى البيان ٣/ ١٧٦ وفى الحيوان ٤/ ٣٦٣ إلى خزز بن لوذان، وكذلك رجّح صاحب الأغانى ١٠/ ١٨٠ طبعة الدار نسبتها إلى خزز. وذكر صاحب الخزانة ٣/ ١١ عن الصاغاني أن الشعر فى ديوانى الرجلين. وانظر اللسان (نعم).
(٦) نسخة أ: (الياء). والحق أن لا حذف فى البيت لأن القافية مطلقة، والياء ثابتة فى اللفظ، كما يجب أن تثبت فى الكتابة. نعم هناك طريقة فى الإنشاء تقطع الترنم، فتسكن الياء. وقد روى أحد الأبيات التي منها هذا بالإسكان. وانظر سيبويه ٢/ ٣٠٢.
91
وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ... (١٥٠)
جواب لقوله: (فاذكرونى أذكركم) : كما أرسلنا، فهذا جواب (مقدم ومؤخر) «١».
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: «أَذْكُرْكُمْ» ألا ترى أنه قد جعل لقوله: «فَاذْكُرُونِي» جوابا مجزوما، (فكان فِي ذلك دليل) «٢» على أن الكاف التي فى (كما) لما قبلها لأنك تقول فِي الكلام: كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن تشترط ل (أحسن) لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو فِي العربية أنفذ «٣» من الوجه الأول مما جاء به التفسير وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه. فقد صارت (فأته) و (ترضه) جوابين.
وقوله: وَاشْكُرُوا لِي... (١٥٢)
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك.
ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا قال بعض الشعراء:
هُمْ جمعوا بؤسى ونعمى عليكم... فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة:
نصحت بني عوفٍ فلم يتقبلوا... رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
(١) أي مقدّم فى اللفظ، مؤخر فى النية. والعبارة فى الطبرىّ ٢/ ٢٢: «وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير».
(٢) فى ج، وش «فكان ذلك دليلا».
(٣) فى ج، وش: «أقعد».
وقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ... (١٥٤)
رفع بإضمار مكنى من أسمائهم كقولك: لا تقولوا: هُمْ أموات بل هُمْ أحياء.
ولا يجوز فِي الأموات النصب لأن القول لا يقع على الاسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت كما لا يجوز قلت عَبْد اللَّه قائمًا، فكذلك لا يجوز نصب الأموات لأنك مضمر لاسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم فِي معنى قولٍ من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرا. فترى الخير والشر منصوبين لانهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هُوَ بمنزلة قولك: قلت لك مال.
فابن على ذا ما ورد عليك من المرفوع قوله: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «١» و «خَمْسَةٌ» و «سَبْعَةٌ»، لا يكون نصبا لأنه إخبار عَنْهُمْ فِيهِ أسماء مضمرة كقولك:
هُمْ ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله- تبارك وتعالى-: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» «٢» فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لا بد لكم من الغزو فِي الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة معناه: منا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» «٣». عيّرهم وتهدّدهم بقوله: «فَأَوْلى لَهُمْ»، ثُمَّ ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أمروا «طاعَةٌ». «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» نكلوا
(١) آية ٢٢ سورة الكهف.
(٢) آية ٨١ سورة النساء.
(٣) آية ٢١ من السورة. [.....]
93
وكذبوا فلم يفعلوا. فقال اللَّه تبارك وتعالى «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ»، وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشيء.
والله أعلم. ويقال أيضا: «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» و «طاعَةٌ» فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك موافقا للتفسير فهو صواب.
وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ... (١٥٥)
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن من تدل على أن لكل صنف منها شيئًا مضمرًا: بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء «١» لكان صوابًا.
وقوله: قالُوا إِنَّا لِلَّهِ... (١٥٦)
لم تكسر العرب (إنا) «٢» إلا فِي هذا الموضع مع اللام فِي التوجع خاصة. فإذا لم يقولوا (لله) فتحوا فقالوا: إنا لزيد محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون.
وإنما كسرت فى «إِنَّا لِلَّهِ» لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد «٣»، فأشير إلى النون بالكسر «٤» لكسرة اللام التي فِي «لِلَّهِ» كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف
(١) قرأ الضحاك (بأشياء) على الجمع، كما فى الطبري.
(٢) المراد بالكسر هنا إمالة النون من (إنا) إلى الكسر كما فى النحاس عن الكسائي: إن الألف ممالة إلى الكسرة، وأما على أن تكسر فمحال لأن الألف لا تحرك البتة، وإنما أميلت فى «إنا لله» لكسرة اللام فى لله إلخ. وكذا الكلام على ما يأتى فى هالك وكافر من أن الكسر فى الألف إمالته مع الكاف.
(٣، ٤) يريد أن (نالله) كالكلمة الواحدة، فوقعت الألف فى (نا) قبل الكسرة (كسرة لام لله) متصلّة، وهذا سبب من أسباب الإمالة نحو عالم وكاتب، وإن كان (نا) مما عد مشبها للحرف الذي لا إمالة فيه لأنه مبنىّ أصلىّ فهو اسم غير متمكن، ولكنهم استثنوا من المشبه للحرف (ها) للغائبة، (نا) للتكلم المعظم نفسه أو معه غيره خاصة، فإنهم طردوا الإمالة فيهما لكثرة استعمالهما إذا كان قبلهما كسرة أو ياء، فقالوا: مرّ بنا وبها، ونظر إلينا وإليها، بالإمالة لوقوع الألف مسبوقة بالكسرة أو الياء مفصولة بحرف.
94
من كافر لكسرة الألف لأنه حرف واحد، فصارت «إِنَّا لِلَّهِ» كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قَالُوا: الحمد لله.
وقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما... (١٥٨)
كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وقد قرأها بعضهم «١» «ألا يطوف» وهذا يكون على وجهين أحدهما أن تجعل «لا» مع «أن» صلة على معنى الالغاء كما قال: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» والمعنى: ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخص فِي تركه.
والأول المعمول به.
وقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً... (١٥٨)
تنصب على (جهة فعل) «٢». وأصحاب عَبْد اللَّه «٣» وحمزة «ومن يطوع» لأنها فِي مصحف «٤» عَبْد اللَّه «يتطوع».
وقوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) قال ابن عَبَّاس: «اللَّاعِنُونَ» كل شيء على وجه الأرض إلا الثقلين.
[و] «٥» قال عبد الله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما
(١) فى القرطبي: «روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) وهى قراءة ابن مسعود».
(٢) يريد فتح العين فى «تطوع» على أنه فعل ماض. وفى أ: «جهة ومن تطوع خيرا فعل».
(٣) لا ندرى ماذا يريد بأصحاب عبد الله، فإن قراءة «يطوع» تنسب لحرة والكسائي.
(٤) فى ج، ش: مصاحف.
(٥) زيادة خلت منها الأصول.
مستحق اللعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل اللَّه تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسر.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) ف «الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ» فى موضع خفض تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة اللَّه ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الْحَسَن «لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعون» وهو جائز فِي العربية وإن كان مخالفا للكتاب «١». وذلك أن قولك (عليهم لعنة اللَّه) كقولك يلعنهم اللَّه ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك، فينصبون النفس لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك نفسك، فيرفعون النفس لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.
ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، وبعضها على بعض. فمن رفع رد البعض إلى تأويل «٢» البيوت لأنها رفع ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
وأجود ما يكون فِيهِ الرفع أن يكون الأول الَّذِي فِي تأويل رفع أو نصب قد كنى عَنْهُ مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول هاهنا: عجبت من
(١) أي رسم المصحف. وفى القرطبىّ ٢/ ١٩٠: «وقراءة الحسن هذه مخالفة للصاحف».
(٢) أي محلها فى الإعراب.
تساقطها بعضها على بعض لأن الخفض إذا كنيت عَنْهُ قبح أن ينعت بظاهر، فرد إلى المعنى الَّذِي يكون رفعا فِي الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم فِي إثر بعض تؤثر النصب فِي (بعضهم)، ويجوز الخفض.
وقوله: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ... (١٦٤)
تأتي مرة جنوبا، ومرة شمالا، وقبولا، ودبورا. فذلك تصريفها.
وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ... (١٦٥)
يريد- والله أعلم- يحبون الأنداد، كما يحب المؤمنون اللَّه. ثُمَّ قال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من أولئك لأندادهم.
وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ... (١٦٥)
يوقع «يَرَى» على «أن القوّة لله وأن الله» وجوابه متروك. والله أعلم.
(وقوله) «١» :«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ» «٢» وترك الجواب فِي القرآن كثير لأن معاني «٣» الجنة والنار مكرر «٤» معروف. وإن شئت كسرت إن وإن وأوقعت «يَرَى» على «إِذْ» فِي المعنى. وفتح إن وإن مع الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ «ولو ترى الذين ظلموا» بالتاء كان وجه الكلام أن يقول «أَنَّ الْقُوَّةَ... » بالكسر «وَأَنَّ... » لأن «ترى» قد وقعت على (الذين ظلموا)
(١) يبدو أن هنا سقطا، والأصل: ومنه قوله. وهذا سقط فى ش.
(٢) آية ٣١ سورة الرعد.
(٣) فى ش: «معنى». وكأنها مصلحة عن «معانى».
(٤) أي أمر مكرر. [.....]
فاستؤنفت «إن- (وإن) «١» » ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من «ترى» ومن «يَرَى» لكان صوابا كأنه قال: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ» يرون «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً».
وقوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ... (١٧٠)
تنصب هذه الواو لأنها ولو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام، وليست ب (أو) التي واوها ساكنة لأن الألف من أو لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط فتقول: ولو كان، أو لو كان إذا استفهمت.
وإنما غيّرهم اللَّه بهذا لما قَالُوا «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» قال اللَّه تبارك وتعالى: يا مُحَمَّد قل «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ» فقال «آباؤُهُمْ» لغيبتهم، ولو كانت «آباؤكم» لجاز لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا مثل قولك: قل لزيد يقم، وقل له قم. ومثله «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» «٢»، «أَوَلَمْ يَسِيرُوا» «٣».
ومن «٤» سكن الواو من قوله: «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» «٥» فى الواقعة وأشباه «٦» ذلك فِي القرآن، جعلها «أو» التي تثبت الواحد من الاثنين. وهذه الواو فِي فتحها بمنزلة قوله «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» «٧» دخلت ألف الاستفهام على «ثُمَّ» وكذلك «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» «٨».
(١) سقط ما بين القوسين فى أ.
(٢) آية ٢١ سورة لقمان.
(٣) آية ٩ سورة الروم.
(٤) من هؤلاء ابن عامر، ونافع فى رواية قالون، وأبو جعفر. وانظر البحر ٧/ ٣٥٥.
(٥) آية ٤٨ سورة الواقعة.
(٦) كالآية ١٧ من الصافات.
(٧) آية ٥١ سورة يونس.
(٨) آية ١٠٩ سورة يوسف.
98
وقوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ... (١٧١)
أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثُمَّ شبههم بالراعي. ولم يقل: كالغنم. والمعنى- والله أعلم- مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) «١» التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها: أرعى أو اشربي، لم تدر ما يقول لها. فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرَّسُول. فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى- والله أعلم- فِي المرعى. وهو ظاهر فِي كلام العرب أن يقولوا:
فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد لأن الأسد هُوَ المعروف بأنه «٢» المخوف «٣». وقال الشاعر «٤» :
لقد خفت حَتَّى ما تزيد مخافتي... على وعلٍ فِي ذي المطارة عاقِل «٥»
والمعنى: حَتَّى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي. وقال الآخر «٦» :
كانت فريضة ما تقول كما... كان الزناء فريضة الرجم
والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحتها لاتضاح المعنى عند العرب. وأنشدني بعضهم:
إن سراجًا لكريم مفخره... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذا ما تجهره «٧»
والعين لا تحلى به، إنما يحلى هُوَ بها.
(١) فى أ: «كالبهائم».
(٢) فى أ: «أنه».
(٣) فى أ: «مخوف».
(٤) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان.
(٥) ذو المطارة: اسم جبل. وفى معجم البلدان فى رواية البيت: من ذى مطارة. و (عاقل) : صفة وعل. يقال: عقل الظبى والوعل إذا امتنع وصعد فى الجبل العالي. وانظر أمالى ابن الشجري ١/ ٥٢
(٦) هو النابغة الجعدىّ. وانظر اللسان (زنى) والإنصاف ١٦٥، والخزانة ٤/ ٣٢. [.....]
(٧) يقال: حلى الشيء بعيني إذا أعجبك، ومن ثم كان ما فى البيت من المقلوب. ويقال:
جهرت فلانا إذا راعك وأعجبك. والرجز فى اللسان (حلى)، وهو فى مدح من يدعى سراجا.
99
وفيها معنى آخر: تضيف المثل إلى (الَّذِينَ كفروا)، وإضافته فِي المعنى إلى الوعظ كقولك مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل الناعق كما تقول:
إذا لقيت فلانا فسلم عليه تسليم الأمير. وإنما تريد به: كما تسلم على الأمير.
وقال الشاعر:
فلست مُسَلِّمًا ما دمتُ حيًّا... عَلَى زَيْدٍ بتَسليم الأمير
وكل صواب.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) رفع وهو وجه الكلام لأنه مستأنف خبرٍ، يدلّ عليه قوله «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» كما تقول فِي الكلام: هُوَ أصم فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلم. ولو نصب على الشتم مثل الحروف «١» فى أوّل سورة البقرة فِي قراءة عَبْد اللَّه «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُما بُكْما عُمْيًا» لجاز.
وقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ... (١٧٣)
نصب لوقوع «حَرَّمَ» عليها. وذلك أن قولك «إِنَّما» على وجهين:
أحدهما أن تجعل «إِنَّما» حرفا واحدا، ثُمَّ تعمل الأفعال التي تكون بعدها [فِي] «٢» الاسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت فقلت: إنما دخلت دارك، وإنما أعجبتني دارك، وإنما مالي مالك. فهذا حرف واحد.
(١) يريد بالحروف الكلمات الثلاث: صما وبكما وعميا. وفى أ: «الحرف».
(٢) زيادة يقتضيها السياق، خلت منها الأصول.
100
وأمّا الوجه الآخر فأن يجعل «ما» منفصلة من (إن) فيكون «ما» على معنى الَّذِي، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الَّذِي، ثُمَّ يرفع الاسم الَّذِي يأتي بعد الصلة كقولك إن ما أخذت مالك، إن ما ركبت دابتك. تريد: إن الَّذِي ركبت دابتك، وإن الَّذِي أخذت مالك. فأجرهما على هذا.
وهو فِي التنزيل فِي غير ما موضع من ذلك قوله تبارك وتعالى: «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «١»، «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» «٢» فهذه حرف واحد، هِيَ وإن، لأن «الَّذِي» لا تحسن فِي موضع «ما».
وأما التي فِي مذهب (الَّذِي) فقوله: «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» «٣» معناه:
إن الذي صنعوا كيد ساحرٍ. ولو قرأ قارئ «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» نصبا كان صوابا إذا جعل إن وما حرفا واحدا. وقوله «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ» «٤» قد «٥» نصب المودة قوم، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسرت لك. وَفِي قراءة عَبْد اللَّه «إنّما مَوَدَّةُ بَيْنِكم فِي الحياة الدنيا» «٦» فهذه حجة لمن رفع المودة لأنها مستأنفة لم يوقع الاتخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الَّذِي صنعتموه ليس بنافع، مودة بينكم ثُمَّ تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودة ب «بين» وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها كقوله «سُورَةٌ أَنْزَلْناها» «٧» وكقوله «لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ» «٨».
(١) آية ١٧١ سورة النساء، وهذه أمثلة لإنما التي هى حرف واحد. وأما الأخرى فستذكر عند قوله:
وأما التي فى مذهب الذي إلخ.
(٢) آية ١٢ سورة هود.
(٣) آية ٦٩ سورة طه.
(٤) آية ٢٥ سورة العنكبوت.
(٥) فى ج، ش: «وقد».
(٦) فى نسخ الأصل:
«مودة بينهم» على الغيبة وهى قراءة أبى.
(٧) آية ١ سورة النور.
(٨) آية ٣٥ سورة الأحقاف. و (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف قدّره بعضهم بقوله تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله (إلا ساعة من نهار) وقيل تقديره: هذا (أي القرآن أو الشرع بلاغ) وانظر العكبري والسمين.
101
فإذا رَأَيْت «إنما» فِي آخرها اسم من الناس وأشباههم مما يقع عليه «من» فلا تجعلن «ما» فِيهِ على جهة (الَّذِي) لأن العرب لا تكاد تجعل «ما» للناس.
من ذلك: إنما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك لأن «ما» لا تكون للناس.
فإذا كان الاسم بعد «إنما» وصلتها من غير الناس جاز فِيهِ لك الوجهان فقلت: إنما سكنت دارك. وإن شئت: دارك.
وقد تجعل العرب «ما» فِي بعض الكلام للناس، وليس بالكثير. وفي قراءة عبد اللَّه «وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالذَّكَرَ وَالأنثَى» «١» وفي قراءتنا «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فمن جعل «ما خَلَقَ» للذكر والأنثى جاز أن يخفض «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» كأنه قال والذي خلق: الذكر والأنثى. ومن نصب «الذَّكَرَ» جعل «ما» و «خَلَقَ» كقوله: وخلقه الذكر والأنثى، يوقع خلق عليه. والخفض فِيهِ على قراءة عَبْد اللَّه حسن، والنصب أكثر.
ولو رفعت «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» كان وجها. وقد قرأ بعضهم «٢» :
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم لأنك إن جعلت «إِنَّما» حرفا واحدا رفعت الميتة والدم لأنه فعل لم يسم فاعله، وإن جعلت «ما» على جهة (الذي) رفعت الميتة والدم لأنه خبر ل (ما).
وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ... (١٧٣)
الإهلال: ما نودي به لغير اللَّه على الذباح [وقوله] «٣» فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [ (غير) «٤» فِي هذا الموضع حال للمضطر كأنك قلت: فمن اضطرّ لا باغيا
(١) آية ٣ سورة الليل. فى الشواذ قراءة الحسن «والذكر والأنثى» بالكسر كما فى قراءة عبد الله.
وعند الكسائي «ما خلق الذكر والأنثى» بالكسر أيضا، فالأولى بإسقاط «وما خلق».
(٢) هو أبو جعفر. وانظر القرطبي ٢/ ٢١٦.
(٣، ٤) زيادة فى أ. [.....]
102
ولا عاديا] فهو له حلال. والنصب هاهنا بمنزلة قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» «١» ومثله «إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» «٢» و «غَيْرِ» هاهنا لا «٣» تصلح «لا» فِي موضعها لأن «لا» تصلح فِي موضع غير. وإذا رَأَيْت «غَيْرَ» يصلح «لا» فِي موضعها فهي مخالفة «لِغَيْرِ» التي لا تصلح «لا» فِي موضعها.
ولا تحل الميتة للمضطر إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان فِي سبيل من سبل المعاصي. ويقال: إنه لا ينبغي لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزود منها شيئًا.
إنما رخص له فيما يمسك نفسه.
وقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ... (١٧٥)
فِيهِ وجهان: أحدهما معناه: فما الَّذِي صبرهم على النار؟. والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! قال الكسائي: سألني قاضي اليمن وهو بمكة، فقال: اختصم إلى رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حق صاحبه، فقال له: ما أصبرك على اللَّه! وفي هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب اللَّه، ثُمَّ تلقى العذاب فيكون كلاما كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم.
وقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ... (١٧٧)
إن شئت رفعت «الْبِرَّ» وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فِي موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فِي موضع رفع كما قال: «فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ» «٤»
(١) آية ١ سورة المائدة.
(٢) آية ٥٣ سورة الأحزاب.
(٣) كذا فى الأصول.
فإن صح هذا فالمعنى أن (غيرا) هنا تساوى فى المعنى (لا) كما قدر قبل، وقوله: «تصلح لا... » تفسير لهذا. وأقرب من هذا أن تكون (لا) زيدت فى النسخ.
(٤) آية ١٧ سورة الحشر.
103
فِي كثير من القرآن. وفي إحدى القراءتين «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ»، فلذلك اخترنا الرفع فِي «الْبِرُّ»، والمعنى فِي قوله «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أي ليس البر كله فِي توجهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ثُمَّ وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهي «١» من صفات الأنبياء لا لغيرهم.
وأما قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فإنه من كلام العرب أن يقولوا:
إنما البر الصادق الَّذِي يصل رحمه، ويخفى صدقته، فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبرًا للاسم لأنه أمر معروف المعنى.
فأما الفعل الَّذِي جعل خبرا للاسم فقوله: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ» »
ف (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل «الَّذِينَ» فِي موضع نصب وقرأها «تحسبن» بالتاء. ومن قرأ بالياء جعل «الَّذِينَ» فِي موضع رفع، وجعل (هُوَ) عمادا للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر فى «يَبْخَلُونَ» من ذكر البخل ومثله فِي الكلام:
هُمُ الملوك وأبناء الملوك لهم والآخذون به والساسة الأول «٣»
قوله: به يريد: بالملك، وقال آخر:
إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف «٤»
يريد إلى السفه.
(١) كأنه يريد أن هذه الصفات جميعها لا تكمل إلا للأنبياء. والحق أن اجتماعها كاملة جدّ عسير.
(٢) آية ١٨٠ سورة آل عمران.
(٣) آخر قصيدة القطامىّ التي أوّلها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطيل
وهذا فى مدح قريش وبنى أمية وعبد الواحد الأموى، وانظر الديوان.
(٤) «إليه» فى أ «عليه». وانظر الخزانة ٢/ ٣٨٢
104
وأما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحي... ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى
فجعل «أن» خبرا للفتيان.
وقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (من) فِي موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهى إلى قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فتردّ «الْمُوفُونَ» على «مَنْ» و «الْمُوفُونَ» من صفة «مَنْ» كأنه: من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت «الصَّابِرِينَ» لأنها من صفة «مَنْ» وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجددٍ غير متبع لأول الكلام من ذلك قول الشاعر «١» :
لا يبعدن قومي الذين هُمْ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك... والطيّبين معاقد الأزر
وربما رفعوا (النازلون) و (الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوله. وقال بعض الشعراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام... وليث الكتيبة فِي المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور... بذات الصليل وذات اللّجم «٢»
(١) أي الشخص الشاعر، وهى الخرنق ترثى زوجها ومن قتل معه. وانظر الخزانة ٢/ ٣٠١، وأمالى ابن الشجري ١/ ٣٤٤
(٢) ورد هذا الشعر فى الخزانة ١/ ٢١٦، والإنصاف ١٩٥ غير منسوب. و (تغم الأمور) :
تلتبس وتبهم ولا يهتدى فيها لوجه الصواب، وذات الصليل: الكتيبة يسمع فيها صليل السيوف، وذات اللجم: الكتيبة أيضا فيها الخيل بلجمها، والقرم: السيد المعظم.
105
فنصب (ليث الكتيبة) و (ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحدٍ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه. قال: وأنشدني بعضهم:
فليت التي فيها النجوم تواضعت على كل غث منهم وسمين
غيوث الحيا فِي كل محلٍ ولزبةٍ أسود الشرى يحمين كل عرين «١»
فنصب. ونرى أن قوله: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» «٢» أنّ نصب «الْمُقِيمِينَ» على أنه نعت للراسخين، فطال نعته ونصب على ما فسرت لك.
وفي قراءة عبد اللَّه «والمقيمون والمؤتون» وفي قراءة أَبِي «وَالْمُقِيمِينَ» ولم يجتمع فِي قراءتنا وفي قراءة أَبِي إلا على صوابٍ. والله أعلم.
حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ: قال: وقد حدّثنى أبو معاوية «٣» الصرير عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قوله: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» «٤» وَعَنْ قوله:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» «٥» وعن قوله: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» فقالت: يا بن أخى «٦» هذا كان خطأ من الكاتب.
(١) تواضعت: هبطت، واللزبة الشدّة، المحل القحط، الحيا بالقصر المطر. والذي فى الطبري:
غيوث الورى فى كل محل وأزمة
(٢) آية ١٦٢ سورة النساء.
(٣) هو محمد بن خازم الكوفىّ، من كبار المحدّثين. قال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبى معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة.
وبهذا تعرف ضعف هذه الرواية، فلا يعوّل عليها، وكيف يقرّ الكاتب على الخطأ بإن كان ثم خطأ، وقد قام على كتاب القرآن الثقات الأثبات. وانظر الطبري فى تفسير آية «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» فى النساء والإتقان فى النوع الحادي والأربعين. وانظر ترجمة أبى معاوية فى تهذيب التهذيب.
(٤) آية ٦٣ سورة طه. [.....]
(٥) آية ٦٩ سورة المائدة.
(٦) كذا فى الأصول: تريد أخاها فى الإسلام وفى القرابة، لأنه زوج أختها أسماء. وفى الطبري ٦/ ١٨: «أختى» وقد يكون ما هنا محرّفا عن «أختى».
106
وقال فِيهِ الكسائي «وَالْمُقِيمِينَ» موضعه خفض يرد على قوله: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هُمْ والمؤتون الزكاة.
قال: وهو بمنزلة قوله: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» «١» وكان النحويّون يقولون «الْمُقِيمِينَ» مردودة على «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ- إلى الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» ومن «الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «مِنْ قَبْلِكَ» ومن قبل «الْمُقِيمِينَ».
وإنما امتنع من مذهب المدح- يعني الكسائي- الَّذِي فسرت لك، لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم «٢» يتمم الكلام فى سورة النساء.
ألا ترى أنك حين قلت «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إلى قوله «وَالْمُقِيمِينَ- والْمُؤْتُونَ» كأنك منتظر لخبره «٣»، وخبره فِي قوله «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» والكلام أكثره على ما وصف الكسائي. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام فِي الناقص وفي التام كالواحد ألا ترى أنهم قَالُوا فِي الشعر:
حَتَّى إذا قملت «٤» بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا إن اللئيم العاجز الخب
فجعل جواب (حَتَّى إذا) بالواو، وكان ينبغي ألا يكون فِيهِ واو، فاجتزئ بالاتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ مما وصفت لك.
(١) آية ٦١ سورة التوبة.
(٢) فى الطبري: «لما».
(٣) فى ج وش: لخبرهم وخبرهم إلخ.
(٤) قلت بطونكم: كثرت قبائلكم. وقلب ظهر المجن- والمجن الترس-: المنابذة بالعداء والخب: اللئيم الماكر. والبيتان فى الإنصاف ١٨٩، والخزانة ٤/ ٤١٤، واللسان (قمل) من غير عزو.
107
ومثله فى قوله «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» «١» ومثله فِي قوله «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ» «٢» جعل بالواو. وَفِي قراءة عَبْد اللَّه «فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ» «٣» وفي قراءتنا بغير واو. وكل عربي حسن.
وقد قال بعضهم: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى - وَالصَّابِرِينَ» فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نية المدح لأنه من صفة شيء واحد. والعرب تقول فِي النكرات كما يقولونه فِي المعرفة، فيقولون: مررت برجل جميل وشابًا بعد، ومررت برجل عاقل وشرمحًا «٤» طوالا وينشدون قوله:
ويأوي إلى نسوةٍ بائساتٍ «٥»... وشعثًا مراضيع مثل السعالي
(وشعثٍ) فيجعلونها خفضا بإتباعها أول الكلام، ونصبا على نية ذم فِي هذا الموضع.
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى... (١٧٨)
فإنه نزل فِي حيين من العرب كان لاحدهما طول على الآخر فِي الكثرة والشرف، فكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من
(١) آية ٧٣ سورة الزمر.
(٢) آية ١٠٤ سورة الصافات، وتله للجبين: صرعه عليه وأسقطه على شقه.
(٣) آية ٧٠ سورة يوسف.
(٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل.
(٥) لأمية بن أبى عائذ الهذلىّ. وهو فى وصف صائد وإعساره. البؤس: شدّة الحاجة والفقر.
ويروى: عطل: جمع عاطل وهن اللواتى لا حلى عليهن، وشعث جمع شعثاء، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة، والسعالى ضرب من الغيلان، الواحد سعلاة. وانظر الخزانة ١/ ٤١٧، وأشعار الهذليين طبع الدار ١/ ١٧٢. والبيت فى المرجع الأخير فيه بعض تغيير.
108
الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلن الذكر بالأنثى والحر بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى هذا على نبيه، ثُمَّ نسخه قوله «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» «١» إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها «٢».
وأما قوله: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر فِي الظاهر كما تقول: من لقي العدو فصبرا واحتسابا. فهذا نصب ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فِيهِ وجه الكلام لأنها عامة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم مثل قولك للرجل: إذا أخذت فِي عملك فجدا جدا وسيرا سيرا.
نصبت لأنك لم تنوبه العموم فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله ومثله قوله: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «٣» ومثله «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» «٤» ومثله فِي القرآن كثير، رفع كله لأنها عامة.
فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» «٥» فإنه حثهم على القتل إذا لقوا العدو ولم يكن الحث كالشيء الَّذِي يجب بفعلٍ قبله فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك:
إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة (- قال الفراء:
ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول ذاك وتيك الوقعة «٦» -) كأنه حث لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز
(١) آية ٤٥ سورة المائدة.
(٢) هذا قول أهل العراق. وجمهور الفقهاء يرون أن الآية محكمة، وأن آية المائدة تبينها، أو هى فى شريعة التوراة، وانظر القرطبي ٢/ ٢٤٦
(٣) آية ٩٥ سورة المائدة. [.....]
(٤) آية ٢٢٩ سورة البقرة.
(٥) آية ٤ سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
(٦) ما بين الخطين زيادة فى ج وش.
109
على أن توقع عليه الأمر فليصم ثلاثة أيام، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرح تسريحا بإحسان.
وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ... (١٧٩)
يقول: إذا علم الجاني أنه يقتص منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل فحيي.
فذلك «١» قوله: «حَياةٌ».
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ... (١٨٠)
معناه فِي كل القرآن: فرض عليكم.
وقوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ... (١٨٠)
كان الرجل يوصى بما أحب من ماله لمن شاء من وارثٍ أو غيره، فنسختها آية المواريث «٢». فلا وصية لوارثٍ، والوصية فِي الثلث لا يجاوز، وكانوا قبل هذا يوصى «٣» بماله كلّه وبما أحبّ منه.
و «الْوَصِيَّةُ» مرفوعة ب (كتب)، وإن شئت جعلت (كتب) فِي مذهب قيل فترفع الوصية «٤» باللام فِي «الوالدين» كقوله تبارك وتعالى:
«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «٥».
(١) فى أ: «وذلك».
(٢) هذا القول يقتضى أن الوصية فى الآية منسوخة مطلقا مع أن آية المواريث نسخت وصية الوالدين فقط وأما وصية الأقربين فليست بمنسوخة لأن الأقربين فى الآية هم الطبقة بعد الورثة. هذا هو المعتمد فى تفسير الآية وعليه أهل العلم واختاره الطبري.
(٣) أي الواحد منهم.
(٤) أي أن الوصية مبتدأ، وخبره «لِلْوالِدَيْنِ» والخبر والمبتدأ عند الكوفيين مترافعان، فرافع الوصية هو الخبر وصدره اللام. فهذا وجه مقاله.
(٥) آية ١١ سورة النساء.
110
وقوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً... (١٨٢)
والعرب «١» تقول: وصيتك وأوصيتك، وفي إحدى القراءتين «وأوصى بها إِبْرَاهِيم» «٢» بالألف. والجنف: الجور. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وإنما ذكر الموصى وحده فإنه إنما قال «بَيْنَهُمْ» يريد أهل المواريث وأهل الوصايا فلذلك قال «بَيْنَهُمْ» ولم يذكرهم لأن المعنى يدل على أن الصلح إنما يكون فِي الورثة والموصى لهم.
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... (١٨٣)
يقال: ما كتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفي غير شهرنا، ؟ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قال: وحدثني مُحَمَّد «٣» بْن أبان الْقُرَشِيّ عن أَبِي أمية الطنافسي عن الشَّعْبِيّ أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الَّذِي يشك فِيهِ فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل «٤». وذلك أنهم كانوا ربما صاموه فِي القيظ فعدوه ثلاثين يوما، ثُمَّ جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة فِي أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثُمَّ لم يزل الآخر يستن سنة الأول حَتَّى صارت إلى خمسين. فذلك قوله «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ».
(١) يريد أنه قرىء فى الآية موص بسكون الواو وتخفيف الصاد من أوصى، وموص بفتح الواو وشدّ الصاد، وهذه قراءة حمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم، والأولى قراءة الآخرين. وانظر القرطبي ٢/ ٢٩٦.
(٢) الآية ١٣٢ من سورة البقرة. وانظر ص ٨٠ من هذا السفر.
(٣) هو الواسطىّ الطحان. مات سنة ١٣٩. وانظر الخلاصة.
(٤) يريد أحد فصول السنة الأربعة وتسمى الأزمنة الأربعة أيضا وانظر المصباح (زمن) والمراد:
الفصل المعين الذي يؤقتون به صومهم.
111
وقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ... (١٨٠)
نصبت على أن كل ما «١» لم تسم فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر كما تقول: أعطى عَبْد اللَّه المال. ولا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة، فإن كان الآخر نعتا للأول وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت: ضرب عَبْد اللَّه الظريف، رفعته لأنه عَبْد اللَّه. وإن كان نكرة نصبته فقلت: ضرب عَبْد اللَّه راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.
قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... (١٨٤)
رفع على ما فسرت لك فِي قوله «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» ولو كانت نصبا كان صوابا.
وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ... (١٨٤)
يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم «٢» مسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء. ثُمَّ نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ من الإطعام.
وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ... (١٨٥)
رفع مستأنف أي: ولكم «٣» «شَهْرُ رَمَضانَ» الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقرأ الْحَسَن نصبا على التكرير «٤» «وَأَنْ تَصُومُوا» شهر رمضان «خَيْرٌ لَكُمْ» والرفع أجود.
(١) فى ش، ج: «من».
(٢) فى ش، ح: «ولكم» وهو تحريف. وانظر البحر المحيط فى تفسير الآية. [.....]
(٣) أي الواحد منهم.
(٤) المعروف فى التكرير أنه البدل. وقد وجه هذا فى البحر بأن «شَهْرُ رَمَضانَ» بدل من «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ». والوجه الذي ذكره المؤلف لا يأتى على التكرير. بل على التقديم والتأخير، إذ يربط «شَهْرُ رَمَضانَ» بقوله: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» وكأن هنا سقطا. والأصل بعد قوله: «التكرير» أو على التقديم والتأخير، أو أن التكرير محرف عن التأخير.
112
وقد تكون نصبا من قوله «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» «شَهْرُ رَمَضانَ» توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ قضى ذلك. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فِي الإفطار فِي السفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الصوم فيه.
وقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ... (١٨٥)
«١» فِي قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام فِي قوله «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لام كي لو ألقيت كان صوابا. والعرب تدخلها فِي كلامها على إضمار فعلٍ بعدها. ولا تكون شرطا «٢» للفعل الَّذِي قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إلىّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلى. فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن إلى «٣» جئتك. وهو فِي القرآن كثير. منه قوله «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ «٤» لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ومنه قوله «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «٥» لو لم تكن فِيهِ الواو كان شرطا، على قولك: أريناه ملكوت السَّمَوَاتِ ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أريناه. ومنه (فِي غير) «٦» اللام قوله «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» «٧» ثم قال «وَحِفْظاً» «٨» لو لم تكن الواو كان الحفظ منصوبا ب «زَيَّنَّا». فإذا كانت فِيهِ الواو وليس قبله شيء ينسق عليه
(١) فى أ: «و».
(٢) أي علة.
(٣) سقط فى أ.
(٤) آية ١١٣ سورة الأنعام.
(٥) آية ٧٥ منها.
(٦) فى أ: «بغير».
(٧) آية ٦ سورة الصافات.
(٨) آية ٧ منها.
113
فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ كقولك فِي الكلام: قد أتاك أخوك ومكرما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.
وقوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... (١٨٦)
قال المشركون للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: كيف يكون ربنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا «١» أن بيننا وبينه سبع سَمَوَاتٍ غلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مثل ذلك؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» أسمع ما يدعون فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يقال: إنها التلبية.
وقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ... (١٨٧)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «٢» «فلا رفوث ولا فسوق» «٣» وهو الجماع فيما ذكروا رفعته ب «أُحِلَّ لَكُمْ» لأنك لم تسم فاعله.
وقوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ... (١٨٧)
يقول: عند الرخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يقال: الولد، ويقال: «اتبعوا» بالعين «٤». وسئل عَنْهُمَا ابن عَبَّاس فقال: سواء.
وقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ... (١٨٧)
(١) فى أ: «تخبر».
(٢) كأن هنا سقطا. والأصل بعد «عبد الله» :«الرفوث إلى نسائكم» فقد نقلت هذا القراءة عن ابن مسعود.
(٣) آية ١٩٧ من البقرة.
(٤) قراءة الحسن كما فى القرطبي: اتبعوا، بالعين وذكرها الطبري ولم ينسبها إلا أنه ذكر سؤال ابن عباس عنها. [.....]
114
فقال رَجُل «١» للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: أهو الخيط الابيض والخيط الاسود؟
فقال لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنك لعريض القفا هُوَ الليل من النهار).
وقوله: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ وفي قراءة أَبِي «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكام» فهذا مثل قوله «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» «٢» معناه: ولا تكتموا. وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه «لا» نصبا على الصرف كما تقول: لا تسرق وتصدق. معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم «٣»
والجزم فِي هذا البيت جائز أي لا تفعلن واحدا من هذين.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ... (١٨٩)
سئل النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هُوَ؟ فأنزل «٤» اللَّه تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحل ديونكم وانقضاء عدد نسائكم.
وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها... (١٨٩)
وذلك أن أهل الجاهلية- إلا قريشا ومن ولدته قريش من العرب- كان الرجل منهم إذا أحرم «٥» فِي غير أشهر الحج فِي بيت مدرٍ أو شعرٍ أو خباءٍ نقب فى بيته
(١) هو عدىّ بن حاتم. وانظر البخاري فى الصوم، وفى تفسير سورة البقرة.
(٢) آية ٤٢ فى هذه السورة.
(٣) انظر ٣٤ من هذا الجزء.
(٤) أي أنزل معنى هذا الكلام، لا لفظه كما لا يخفى.
(٥) أي بالعمرة. وكان ذلك زمن الحديبية. وهذا أحد ما جاء فى سبب نزول الآية. انظر تفسير الطبري ٢/ ١٠٩
نقبا من مؤخّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبية والفساطيط خرج من مؤخرة ودخل منه. فبينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو محرم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائط فاتبعه ذلك الرجل، فقال له: تنح عني. قال: ولم؟ قال دخلت من الباب وأنت محرم. قال: إني قد رضيت بسنتك وهديك. قال له النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم: (إني أحْمَس) «١» قال: فإذا كنت أحمس فِإني أحمس. فوفق اللَّه الرجل، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. (١٩١)
فهذا وجه قد قرأت به العامة. وقرأ أصحاب عَبْد اللَّه «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فقتلوهم» والمعنى هاهنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد.
فعلى «٢» هذا قراءة أصحاب عَبْد الله. وكلّ حسن.
وقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فلم يبدءوكم فَلا عُدْوانَ على الذين انتهوا، إنما العدوان على من ظلم: على من بدأكم ولم ينته.
فإن قال قائل: أرأيت قوله «فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» أعدوان هُوَ وقد أباحه اللَّه لهم؟ قُلْنَا: ليس بعدوان فِي المعنى، إنما هُوَ لفظ على مثل ما سبق «٣» قبله
(١) هو وصف من الحماسة بمعنى التشدّد فى الدين والصلابة فيه. وجمعه الأحامس، وقد غلب هذا الوصف على قريش ومن لحق بهم من خزاعة وغيرهم لأنهم كانوا يتشدّدون فى دينهم فى الجاهلية.
(٢) فمعنى «فإن قتلوكم» على هذه القراءة: فإن قتلوا واحدا منكم. وبهذا يندفع سؤال بعضهم:
إذا قتلوهم كيف يقتلونهم. وانظر تفسير الطبري ٢/ ١٢٢
(٣) فى أ: «نسق».
ألا ترى أنه قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فالعدوان من المشركين فِي اللفظ ظلم فِي المعنى والعدوان الَّذِي أباحه اللَّه وأمر به المسلمين إنما هُوَ قصاص. فلا «١» يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا.
ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «٢» وليست من اللَّه على مثل معناها من المسيء لأنها «٣» جزاء.
وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ... (١٩٦)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إلى البيت لله» «٤» فلو قرأ قارئ «وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» فرفع العمرة «٥» لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حل من عمرته. والحج يأتي فِيهِ عرفاتٍ وجميع المناسك وذلك قوله «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: أتموا العمرة إلى البيت «٦» فِي الحج إلى أقصى مناسكه.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ العرب تقول للذي يمنعه من الوصول إلى إتمام حجه أو عمرته خوف أو مرض، وكل «٧» ما «٨» لم يكن مقهورًا كالحبس والسجن (يقال للمريض) «٩» : قد
(١) الأسوغ: «ولا» كما هو الأقرب إلى ما فى أ.
(٢) آية ٤٠ سورة الشورى.
(٣) فى أ «لأنه».
(٤) الذي فى الطبري: «فى قراءة عبد الله: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت». ويدل قول الطبري على أن ابن مسعود يقرأ بنصب العمرة، على خلاف ما فى الشواذ لابن خالويه فإنه ذكر قراءة عبد الله: والعمرة لله بالرفع.
(٥) هنا حذف «بعد العمرة». والأصل: جاز. ويتعلق به قوله بعد: «لأن المعتمر... »
وقد قرأ بالرفع على رضى الله عنه والشعبي، ورويت أيضا عن ابن مسعود. وانظر الشواذ لابن خالويه والبحر ٢/ ٧٢
(٦) كأن «فى» محرّفة عن واو العطف. [.....]
(٧) معطوف على «الذى يمنعه من الوصول... ».
(٨) أوقع «ما» موقع من ذهابا إلى الوصف كقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء...
(٩) هذا تأكيد لقوله قبل: «العرب تقول... » فقوله: «قد أحصر... » مقول «تقول».
117
أحصر، وفي الحبس والقهر: قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت فِي قهر السلطان أنها علة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل.
ولو قلت فِي المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول:
حصرتم. وقوله «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» «١» [يقال] «٢» إنه المحصر عن النساء لأنها علة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابن.
وقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... (١٩٦)
«ما» فِي موضع رفع لأن أكثر ما جاء من أشباهه فِي القرآن مرفوع.
ولو نصبت على قولك: أهدوا «فَمَا اسْتَيْسَرَ» «٣».
وتفسير الهدى فى هذا الموضع بدنة «٤» أو بقرة أو شاة.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى صام ثلاثة أيام يكون أخرها يوم عرفة، واليومان فِي العشر، فأما السبعة فيصومها إذا رجع فِي طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و «السبعة» فيها الخفض على الاتباع للثلاثة. وإن نصبتها «٥» فجائز على فعل «٦» مجدد كما تقول فِي الكلام: لا بد من لقاء أخيك وزيدٍ وزيدا.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة، فأما أهل مكة فليس ذلك عليهم. و «ذلِكَ» فِي موضع رفع. وعلى تصلح فِي موضع اللام أي ذلك على الغرباء.
(١) آية ٣٩ سورة آل عمران.
(٢) زيادة من اللسان فى حصر.
(٣) الجواب محذوف أي جاز مثلا. وفى الطبري: «ولو قيل: موضع (ما) نصب بمعنى فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدى لكان غير مخطئ قائله».
(٤) يراد بالبدنة هنا الناقة أو البعير.
(٥) وهى قراءة زيد بن على، كما فى البحر.
(٦) تقديره: صوموا، أو ليصوموا.
118
وقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معناه: وقت الحج هذه الأشهر. فهي وإن كانت «فِي» تصلح فيها فلا يقال إلا بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» «١» ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح «٢» فِيهِ النصب. ووجه الكلام الرفع لأن الاسم إذا كان فِي معنى صفةٍ «٣» أو محل قوى إذا أسند إلى شيء ألا ترى أن العرب يقولون: هُوَ رَجُل دونك وهو رَجُل دون، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانب، والكفار جانب، فإذا قَالُوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن «٤» الصاحب يدل على محل كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلا تقيده قرب شيء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأشهر الحرم المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فِيهِ الحج وشبهه جعلوه فِي التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» وإنما يتعجل فِي يومٍ ونصف، وكذلك هُوَ فِي اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تام، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هُوَ يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائزٍ فِي غير المواقيت لأن العرب قد تفعل الفعل فِي أقل من الساعة، ثُمَّ يوقعونه على اليوم وعلى
(١) آية ١٢ سورة سبأ.
(٢) ذلك أن الظرف سبيله عنده أن يكون معروفا حتى يصح التوقيت به، فالنكرة غير المحصورة لا تصلح لذلك.
(٣) الصفة هنا الجارّ والمجرور. والمحل الظرف.
وهذا عند الكوفيين.
(٤) فى أ: «لأن».
119
العام والليالي والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالي الحجاج أمير، لأنه «١» لا يراد أول الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين) «٢».
وأما قوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السباب، والجدال المماراة فِي الْحَجِّ فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة «٣» إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكل ذلك جائز. فمن نصب أتبع أخر الكلام أوّله، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون «٤»، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فِي غير القرآن لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها ب «لا» كان فيها وجهان، إن شئت جعلت «لا» معلقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون لأن «لا» فى معنى صلة، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلقة فتنصب بلا نونٍ قال فِي ذلك الشاعر:
رأت إبلى برمل جدود أ [ن] لا مقيل لها ولا شربًا نقوعا «٥»
فنون فى الشرب، ونوى ب «لا» الحذف كما قال الآخر:
فلا أب وابنا مثل مروان وأبنه إذا هُوَ بالمجد ارتدى وتأزّرا «٦»
(١) سقط فى أ. [.....]
(٢) فى الطبري: «إذ ذاك، وفى ذلك الحين».
(٣) يعنى: بلا التبرئة. وهى لا النافية للجنس.
(٤) يعنى نون التنوين يقال: نون الاسم ألحقه التنوين قال فى التاج: وتزاد- أي النون- للصرف فى كل اسم منصرف.
(٥) جدود: موضع فى أرض بنى تميم على سمت اليمامة. والمقيل: موضع القيلولة، وهى الاستراحة نصف النهار. والشرب: النصيب من الماء، والنقوع: المجتمع. وترى زيادة النون فى «أن» وهى لا بدّ منها، وقد سقطت من الأصول.
(٦) ورد هذا البيت فى سيبويه ١/ ٣٤٩. وهو من أبياته الخمسين التي لا يعرف قائلها. ونسبه ابن هشام لرجل من بنى عبد مناة يمدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ونسب فى شرح شواهد الكشاف للفرزدق وانظر الخزانة ٢/ ١٠٢، والعيني على هامشها ٢/ ٣٥٥
120
وهو فِي مذهبه بمنزلة المدعو «١» تقول: يا عمرو والصلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرو وفيه الألف واللام لأنك نويت به أن يتبعه «٢» بلا نية «يا» فِي الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويا أيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت «يا أيها» وأنت تريدها نصبت كقول اللَّه عز وجل «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» «٣» نصب الطير على جهتين: على نية النداء المجدد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له «الطَّيْرَ» فتكون النية على سخرنا. فهو فِي ذلك متبع كقول الشاعر:
ورأيت زوجك فِي الوغى متقلدا سيفا ورمحا «٤»
وإن شئت رفعت بعض «٥» التبرئة ونصبت بعضا، وليس من قراءة القراء ولكنه يأتي فِي الأشعار قال أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به لهم مقيم «٦»
وقال الآخر «٧» :
ذاكم- وجدكم- الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
(١) أي المنادى.
(٢) فى أ. «تتبعه».
(٣) آية ١٠ سورة سبأ.
(٤) فالتقدير: وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد وإنما يتقلد السيف. والبيت ورد فى اللسان (قلد) غير معزوّ. وفيه: «يا ليت» فى مكان: «رأيت».
(٥) قوله: بعض التبرئة يعنى ما بعد لا التبرئة.
(٦) هذا من قصيدة يذكر فيها أوصاف الجنة وأهلها وأحوال يوم القيامة، وأوّلها:
سلامك ربنا فى كل فجر بريئا ما تليق بك الذموم
وانظر العيني على هامش الخزانة ٢/ ٣٤٦.
(٧) هو رجل من مذحج عند سيبويه ١/ ٣٥٢.
وقيل فى نسبته غير ذلك. وانظر العيني على هامش الخزانة ٢/ ٣٣٩. وكان لقائل هذا الشعر أخ يسمى جندبا، وكان أهله يؤثرونه عليه ويفضلونه، فأنف من ذلك وقال هذه.
121
وقبله:
وإذا تكون شديدةٌ أُدْعَى لها... وإذا يحاسُ الحيس يدعى جندب «١»
وقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... (٢٠٠)
كانت العرب إذا حجوا فِي جاهليتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدهم أَبَاه بأحسن أفاعيله: اللهم كان يصل الرحم، ويقري الضيف. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» فأنا الَّذِي فعلت ذلك بكم وبهم.
وقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا... (٢٠٠)
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل «٢» الله: «منهم من يسئل الدنيا فليس له فِي الآخرة خلاق» يعني نصيبا.
وقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ... (٢٠٣)
هى العشر [و] «٣» المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق.
فمن المفسرين من يجعل المعدودات أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات «٤» فإنهم
(١) الحيس: لبن وأقط وسمن وتمر يصنع منه طعام لذيذ. وقد أورد هذا البيت ليبين أن الروىّ مرفوع إذ لا شك فى رفع «جندب» ويروى: وإذا تكون كريهة.
(٢) أي أنزل ما يقوم بهذا المعنى. [.....]
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) المذكورة فى الآية ٢٨ من الحج: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ».
122
يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق لأن الذبح إنما يكون فى هذه الثلاثة الأيام، ومنهم من يجعل الذبح فِي آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر.
وقوله: لِمَنِ اتَّقى... (٢٠٣)
يقول: قتل «١» الصيد فى الحرم.
وقوله: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ... (٢٠٤)
كان ذلك رجلا يعجب النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم حديثه، ويعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: (اللَّه يعلم). فذلك قوله «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» أي ويستشهد اللَّه. وقد تقرأ «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» رفع «عَلى ما فِي قَلْبِهِ».
وقوله: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ... (٢٠٤)
يقال للرجل: هُوَ ألد من قوم لد، والمرأة لداء ونسوة لد، وقال الشاعر:
اللد أقران الرجال اللد... ثُمَّ أردى بهم من يردى «٢»
ويقال: ما كنت ألد فقد لددت، وأنت تلد. فإذا غلبت الرجل فِي الخصومة (قلت: لددته) «٣» فأنا ألدّه لدّا.
(١) هذا مفعول «اتقى».
(٢) فى اللسان: ألد أقران الخصوم اللد ألدّ أي أغلب فى الخصومة، وأقران مفعوله و «أردّى» أي أرمى. يقال: ردى فلانا بحجر: رماه به.
ولم نجد الشطر الثاني فى كتاب مما بيدنا مع أشد البحث.
(٣) فى ج. وش: فقد لددته.
123
وقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ نصبت، ومنهم من يرفع «وَيُهْلِكَ» رفع لا يردّه على «لِيُفْسِدَ» ولكنه يجعله مردودا على قوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ- وَيُهْلِكَ» والوجه الأول أحسن.
وقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ... (٢٠٥)
من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ... (٢٠٨)
أي لا تتبعوا آثاره فإنها معصية.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ... (٢١٠)
رفع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض «١» أهل المدينة. يريد «فِي ظللٍ من الغمام وفي الملائكة». والرفع أجود لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «هَلْ يَنْظُرونَ إِلّا أن يأتيهم اللَّه والملائكة فى ظلل من الغمام».
وقوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ... (٢١١)
لا تهمز «٢» فِي شيءٍ من القرآن لأنها لو همزت كانت «اسأل» بألفٍ. وإنما (ترك همزها) «٣» فِي الأمر خاصة لأنها كثيرة الدور فى الكلام فلذلك ترك همزه كما
(١) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع. وانظر البحر ٢/ ١٢٥
(٢) أي الكلمة «سلى».
(٣) فى ج. وش: «تزول همزتها».
124
قَالُوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه فِي النهى وما سواه. وقد تهمزه العرب. فأما فِي القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزيات يهمز الأمر إذا كانت فِيهِ الفاء أو الواو مثل قوله: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» «١» ومثل قوله:
«فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ» «٢» ولست أشتهى ذلك لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها فِي قوله «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً» «٣»، «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» «٤» بالألف.
وقوله: كَمْ آتَيْناهُمْ... (٢١١)
معناه: جئناهم به [من آية] «٥». والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقوا الباء قَالُوا: آتيتك آية كما جاء فِي الكهف «آتِنا غَداءَنا» «٦» والمعنى: ايتنا بغدائنا.
وقوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا... (٢١٢)
ولم يقل «زينت» وذلك جائز، وإنما ذكر الفعل والاسم مؤنث لأنه مشتق من فعل فِي مذهب مصدر. فمن أنث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» «٧» و «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» «٨»، «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» «٩» على ما فسرت لك.
فأما فِي الاسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنثٍ إلا فى الشعر لضرورته.
(١) آية ٨٢ سورة يوسف.
(٢) آية ٩٤ سورة يونس.
(٣) آية ٧٧ سورة طه.
(٤) آية ١٣ سورة يس.
(٥) زيادة فى أ.
(٦) آية ٦٢ سورة الكهف. [.....]
(٧) آية ٢٧٥ سورة البقرة.
(٨) آية ١٠٤ سورة الأنعام.
(٩) آية ٦٧ سورة هود.
125
وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فعلٍ، ويكون فِيهِ معنى تأنيثٍ وهو مذكر فيجوز فِيهِ تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرّة من ذلك قوله عز وجل «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» «١» ولم يقل «كذبت» ولو قيلت لكان صوابا كما قال «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» «٢» و «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ» «٣» ذهب إلى تأنيث الأمة، ومثله من الكلام فِي الشعر كثير منه قول الشاعر:
فإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت برىء من قبائلها العشر «٤»
وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطنٍ لأن البطن ذكر، ولكنه فِي هذا الموضع فِي معنى قبيلة، فأنث لتأنيث القبيلة فِي المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع فِي مضرٍ تسعة وفي وائلٍ كانت العاشره
فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام لأن العرب تقول فِي معنى الوقائع: الأيام فيقال هُوَ عالم بأيام العرب، يريد وقائعها. فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «٥» فإنه أريد به- والله أعلم-: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فِي الشمس حَتَّى يكون معها القمر بشيءٍ «٦»، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز، وإن شئت ذكّرته
(١) آية ٦٦ سورة الأنعام.
(٢) آية ١٠٥ سورة الشعراء.
(٣) آية ١٦٠ سورة الشعراء.
(٤) فى العيني: «قائله رجل من بنى كلاب يسمى النوّاح» وورد فى اللسان (بطن) من غير عزو.
(٥) آية ٩ سورة القيامة.
(٦) خبر قوله: «ليس قولهم..».
126
لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدل على التأنيث، والعرب ربما ذكرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفراء: أنشدني بعضهم:
فهي أحوى من الربعي خاذلة... والعين بالإثمد الحاري مكحول «١»
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
فلا مزنة ودقت ودقها... ولا أرض أبقل إبقالها «٢»
قال: وأنشدني يونس- يعني النحوي الْبَصْرِيّ- عن العرب قول الأعشى:
إلى رجلٍ منهم أسيفٍ كأنما... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا «٣»
وأما قوله: «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» «٤» فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلما لم يكن فيها هاء مما يدل على التأنيث ذكر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين.
(١) فى سيبويه ١/ ٢٤٠، وهو فيه لطفيل الغنوي. والشطر الأوّل فيه هكذا:
إذ هى أحوى من الربعىّ حاجبه وكذلك هو فى ديوان طفيل ٢٩، وقبله- وهو أوّل القصيدة-:
هل حبل شماء قبل البين موصول... أم ليس للصرم عن شماء معدول
أم ما تسائل عن شماء ما فعلت... وما تحاذر من شماء مفعول
وتراه يشبه شماء بأحوى من الظباء، وهو الذي فى ظهره وجنبتى أنفه سواد، وذكر أن حاجب عينه وعينه مكحولان، واقتصر فى الخبر على أحدهما، ورواية الفرّاء: «خاذلة» فى مكان «حاجبه» والخاذلة:
الظبية تنفرد عن صواحباتها، وتقوم على ولدها، وذلك أجمل لها. شبهها أولا بالظبى، ثم راعى أنها أنثى فجعلها ظبية. فقوله: «خاذلة» ليس من وصف «أحوى» وإنما هو خبر ثان.
(٢) هذا فى سيبويه ١/ ٢٤٠، وقد نسب لعامر بن جوين الطائي. وقال الأعلم: «وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق: المطر. والمزنة: السحاب». وانظر الخزانة ١/ ٢١.
(٣) البيت فى ديوان الأعشى طبع أوربا:
أرى رجلا منكم أسيفا...
والأسيف من الأسف وهو الحزن. وقوله: «كأنما يضم... » أي كأنه قطعت يده فخضبت كفه بالدم، فهو لذلك أسيف حزين.
(٤) آية ١٨ سورة المزمّل.
127
ومن العرب من يذكر السماء لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال:
وأنشدني بعضهم:
فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب «١»
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فِيهِ مكنى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قَالُوا: يذهب به إلى المعنى، وهو فِي التقديم والتأخير سواء قال الشاعر:
فإن تعهدي لامرئ لمةً فإن الحوادث أزرى بها «٢»
ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتى بناقة سعد والعشية بارد
كأن العشية فِي معنى العشي ألا ترى قول اللَّه «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» «٣» وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح»
(١) ورد فى اللسان (سما) من غير عزو. [.....]
(٢) فى سيبويه ١/ ٢٣٩، وفيه بدل الشطر الأول:
فإما ترى لمتى بدّلت وهو من قصيدة للأعشى فى الصبح المنير ١٢٠ يمدح فيها رهط قيس بن معديكرب ويزيد بن عبد المدان.
واللمة: الشعر يلم بالمنكب. وإزراء الحوادث بها: تغييرها من السواد إلى البياض. وقوله: «فإن تعهدى» أي إن كنت تعهدين ذلك فيما مضى من الزمن.
(٣) آية ١١ سورة مريم.
(٤) لزياد الأعجم فى رثاء المغيرة بن المهلب. وبعده:
فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح
وانظر الأغانى ١٤/ ١٠٢، وذيل الأمالى ٨.
128
ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدني الكسائي:
ألا هلك الشهاب المستنير ومدرهنا الكمىّ إذا نغير «١»
وحمال المئين إذا ألمت بنا الحدثان والأنف النصور
فهذا كافٍ مما يحتاج إليه من هذا النوع.
وأما قوله: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» «٢» ولم يقل «بطونها» والأنعام هِيَ مؤنثة لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي فِي المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر:
إذا رَأَيْت أنجمًا من الأسد جَبْهته أو الخرات والكتد «٣»
بال سهيل فِي الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائي يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
ولا تذهبن عيناك فِي كل شرمح طوالٍ فإن الأقصرين أمازره «٤»
(١) ورد البيتان فى اللسان (حدث) من غير عزو. وفيه «وهاب» بدل «حمال» فى البيت الثاني.
(٢) آية ٦٦ سورة النحل.
(٣) الأسد أحد البروج الاثني عشر. والخرات أحد نجمين من كواكب الأسد يقال لهما الخراتان. والتاء فى الخرات أصلية على أحد وجهين، ومن ثم كتبت التاء مفتوحة، كما فى اللسان (جبه). قال ابن سيده: لا يعرف الخراتان إلا مثنى. والكتد- بفتحتين- نجم أيضا من الأسد. والفضيخ البسر المشدوخ. يقول: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه. واللقاح: النوق إلى أن يفصل عنها ولدها. وذلك عند طلوع سهيل. فيرد:
صار هنيئا. رجع بقوله فبرد إلى معنى اللبن، والألبان تكون فى معنى واحد.
(٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل. والأمازر جمع أمزر وهو اسم تفضيل للمزير وهو الشديد القلب القوى النافذ. وقبل البيت:
إليك ابنةَ الأعيار خافي بسالة ال رجال وأصلال الرجال أقاصره
ونقل عن الفراء أن المزير الظريف وأنشد البيت كما فى اللسان.
129
ولم يقل: أمازرهم، فذكر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هُوَ أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقتة يضمر فيها مثل معنى النكرة فلذلك قَالَتِ العرب: هُوَ أحسن الرجلين وأجمله لأن ضمير الواحد يصلح فِي معنى الكلام أن تقول هُوَ أحسن رَجُل فِي الاثنين، وكذلك قولك هِيَ أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء فِي النساء، ومن قال: وأجملهن أَخْرَجَهُ على اللفظ واحتج بقول الشاعر:
مثل الفراخ نتقت حواصله «١» ولم يقل حواصلها. وإنما ذكر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفراء: أنشدني المفضل:
ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواعٍ من هوى ومنازح
فقال: رائح ولم يقل رائحون لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحدة. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز لأن صورة الواحدة فِي الجمع قد ذهب عَنْهُ توهم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعونَ حَلُوبةً سُودا كخافية الغراب الأسحم «٢»
(١) «نتقت» أي سمنت. وانظر رسالة الغفران ٤١٦.
(٢) من معلقته. والضمير فى «فيها» يرجع إلى «حمولة أهلها» فى قوله:
ما راعنى إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
والحمولة: الإبل عليها الأثقال، يريد تهيؤ أهلها للسفر. والحلوبة الناقة ذات اللبن، والسود من الإبل عزيزة. وانظر الحزانة ٣/ ٣١٠
130
فقال: سودا ولم يقل: سود «١» وهي من نعت الاثنتين والاربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» ويقال إنه مجاهد فقط.
وقوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... (٢١٣)
ففيها معنيان أحدهما أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعضٍ «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» للإيمان بما أنزل كله وهو حق. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدلت التوراة. ثُمَّ قال «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» به للحق مما اختلفوا فِيهِ. وجاز «٢» أن تكون اللام فِي الاختلاف ومن فِي «٣» الحق كما قال اللَّه تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» والمعنى- والله أعلم- كمثل المنعوق به لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» كمثل البهائم، وقال الشاعر «٤» :
كانت فريضة ما تقول كما... كان الزناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سراجًا لكريم مفخره... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذا ما تجهره
(١) وقد روى هذا فى البيت أي رفع سود.
(٢) يريد أن الأصل فى تأليف الآية:
فهدى الله الذين آمنوا مما اختلفوا فيه للحق، فجعل كل الحرفين من واللام فى مكان صاحبه، على طريقة القلب المكانىّ. وقد أبان أن هذا منهج مألوف فى القرآن وكلام العرب.
(٣) سقط هذا الحرف (فى) فى أ.
(٤) انظر ص ٩٩ من هذا الجزء لهذا البيت وما بعده.
131
والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عيني بك إلا فِي الشعر.
وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ... (٢١٤)
استفهم بأم فِي ابتداءٍ ليس قبله ألف «١» فيكون أم ردا عليه، فهذا مما أعلمتك «٢» أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز هاهنا أن تقول: أم عندك خير.
ولو قلت: أنت رَجُل لا تنصف أم لك سلطان تدل به، لجاز ذلك إذ تقدمه كلام فاتصل به.
وقوله: أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [معناه «٣» :
أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم] فتختبروا. ومثله:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» «٤» وكذلك فِي التوبة «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» «٥».
وقوله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ... (٢١٤)
قرأها القراء بالنصب إلا مجاهدا وبعض «٦» أهل المدينة فإنهما رفعاها.
ولها وجهان فِي العربية: نصب، ورفع. فأما النصب فلان الفعل الَّذِي قبلها مما يتطاول «٧» كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتى وهو
(١) يريد همزة الاستفهام. [.....]
(٢) انظر ص ٧٢ من هذا الجزء.
(٣) زيادة فى أ.
(٤) آية ١٤٢ سورة آل عمران.
(٥) آية ١٦ من السورة.
(٦) هو نافع.
(٧) قوله «يتطاول كالترداد» يعنى ما فيه امتداد الفعل قال ابن عادل فى تفسيره عن الزجاج:
«أصل الزلزلة فى اللغة من زلّ الشيء عن مكانه. فإذا قلت: زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه كمضاعفة معناه لأن ما فيه تكرير تكرر فيه الفعل نحو صرّ وصر صر وصل وصلصل وكف وكفكف». قال الطبري: الزلزلة فى هذا الموضع الخوف لا زلزلة الأرض، فلذلك كانت متطاولة، وكان النصب فى يقول أهم.
132
فِي المعنى ماضٍ. فإذا كان الفعل الَّذِي قبل حَتَّى لا يتطاول وهو ماضٍ رفع الفعل بعد حَتَّى إذا كان ماضيا.
فأما الفعل الَّذِي يتطاول وهو ماضٍ فقولك: جعل فلان يديم النظر حَتَّى يعرفك ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حَتَّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] «١» المفضل:
مطوت بهم حَتَّى تكل غزاتهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان «٢»
فنصب (تكل) والفعل الَّذِي أداه قبل حَتَّى ماض لأن المطو بالابل يتطاول حَتَّى تكل عَنْهُ. ويدلك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حَتَّى كلت غزاتهم.
فبحسن «٣» فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حَتَّى أقر، لأنك تريد: حَتَّى يكون ذلك منه.
وإنما رفع مجاهد لأن فعل يحسن فِي مثله من الكلام كقولك: زلزلوا حَتَّى قال الرَّسُول. وقد كان الكسائي قرأ بالرفع دهرا ثُمَّ رجع إلى النصب. وهي في قراءة عَبْد اللَّه: «وزلزلوا ثُمَّ زلزلوا ويقول الرَّسُول» وهو دليل على معنى النصب.
(١) زيادة فى أ.
(٢) البيت لامرئ القيس: المطو: الجدّ والنجاء فى السير. والغزاة جمع غاز، والذي فى ديوانه:
حتى تكل مطيهم، والذي فى اللسان فى (مطا) :«غريهم» بالراء وهو تحريف صوابه: «غزيهم» بالزاي كما فى اللسان (غزا) والغزىّ: الغزاة. وأراد بقوله: ما يقدن إلخ أن الجياد بلغ بها الإعياء أشدّه فعجزت عن السير.
(٣) فى الأصول: «فيحسن» وهو تحريف.
133
ولحتى ثلاثة معان فِي يفعل، وثلاثة معان فِي الاسماء.
فإذا رَأَيْت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل فِي معنى مضى وليس ما قبل (حَتَّى يفعل) يطول «١» فارفع يفعل بعدها كقولك جئت حَتَّى أكون معك قريبا، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حَتَّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأول، فيقولون: سرت حَتَّى يدخلها زَيْدُ فزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول: سرنا حَتَّى تطلع لنا الشمس بزبالة «٢»، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني «٣» الكسائي:
وقد خضن الهجير وعمن حَتَّى يفرج ذاك عنهن المساء
وأنشد (قول الآخر) «٤» :
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الطعن حَتَّى نحسب الجون أشقرا «٥»
فنصب هاهنا لأن الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حَتَّى.
وذلك أن يكون ما قبل حَتَّى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فِيهِ وهو ماضٍ فِي المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماضٍ لحسن يفعل فِيهِ. قال الكسائي: سمعت العرب تقول: إن البعير ليهرم حَتَّى يجعل إذا شرب الماء مجه. وهو أمر قد مضى، و (يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنّما حسنت
(١) هذا خبر ليس.
(٢) زبالة كثمالة منزلة من مناهل طريق مكة.
(٣) فى أ: «أنشدنا».
(٤) سقط ما بين القوسين فى ش.
(٥) من قصيدة للنابغة الجعدىّ فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:
خليلى عوجا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقبل بيت الشاهد:
وإنا لقوم ما نعوّد خيلنا إذا ما التقينا أن تحبد وتنفرا
[.....]
134
لأنها صفة تكون فِي الواحد على معنى الجميع، معناه: إن هذا ليكون كثيرا فِي الإبل.
ومثله: إن الرجل ليتعظم حتى يمر فلا «١» يسلم على الناس. فتنصب (يمر) لحسن يفعل فِيهِ وهو ماضٍ وأنشدني أَبُو ثروان:
أحب لحبها السودان حَتَّى أحب لحبها سود الكلاب «٢»
ولو رفع لمضيه فِي المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فِيهِ «لا» اعتدل «٣» فِيهِ الرفع والنصب كقولك: إن الرجل ليصادقك حَتَّى لا يكتمك سرا، ترفع لدخول «لا» إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت «لا» فِي قول اللَّه تبارك وتعالى:
«وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «٤» رفعا ونصبا. ومثله: «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» «٥» ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه «لا» لم يقولوه إلا نصبا وذلك أن «ليس» تصلح مكان «لا» فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع ب (أن) ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حَتَّى ليس يكتمك شيئًا، وتقول فِي «أن» : حسبت أن لست تذهب فتخلفت. وكل موضع حسنت فِيهِ «ليس» مكان «لا» فافعل به هذا: الرفع مرة، والنصب مرة. ولو رفع الفعل
(١) فى أ: «فما».
(٢) ورد فى عيون الأخبار ٤/ ٤٣ غير معزوّ.
(٣) أي جاز على اعتدال واستواء.
(٤) آية ١٧ سورة المائدة، قرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب، على أن أن المخففة من الثقيلة. وقرأ الباقون بالنصب، فتكون أن هى الثنائية الناصبة للمضارع.
(٥) آية ٨٩ سورة طه. والرفع هو قراءة الجمهور. وهو الوجه. وورد النصب فى قراءة أبى حيوة وغيره. وهى قراءة شاذة. والرؤية عليه بصرية. وانظر البحر ٦/ ٢٦٩
135
فِي «أن» بغير «لا» لكان صوابا كقولك حسبت أن تقول ذاك لأن الهاء تحسن فِي «أن» فتقول حسبت أنه يقول ذاك وأنشدنى القاسم «١» بن معن:
إنى زعيم يا نوي... قة إن نجوت من الزواح «٢»
وسلمت من عرض الحتو... ف من الغدو إلى الرواح «٣»
أن تهبطين بلاد قو... م يرتعون من الطلاح «٤»
فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطى.
فإذا كانت «لا» لا تصلح مكانها «ليس» فِي «حَتَّى» ولا فِي «أن» فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حَتَّى لا أحكم أمرك. ومثله فِي «أن» : أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.
والوجه الثالث فِي يفعل من «حَتَّى» أن يكون ما بعد «حَتَّى» مستقبلا، - ولا تبال كيف كان الَّذِي قبلها- فتنصب كقول الله جل وعز «لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» «٥»، و «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» «٦» وهو كثير فى القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة فِي الاسماء فأن ترى بعد حَتَّى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعْد حَتَّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء.
(١) هو قاضى الكوفة، من ذرية عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. توفى سنة ١٧٥، وانظر شذرات الذهب.
(٢) فى ش: الزراح. وهو شدة الضعف فى الإبل حتى تلصق بالأرض فلم يكن بها تهوض، والزواح هو الذهاب، وأزاحه عن موضعه: نحاه. وكتب على هامش أ، جأى الموت وهو تفسير للزواح.
(٣) «من الغدو» فى أ، ش: «مع الغدوّ». والعرض: ما يحدث من أحداث الدهر. والحتوف جمع الحنف وهو الموت.
(٤) الطلاح واحدها طلحة وهى شجرة طويلة لها طل يستظل بها الإنسان والإبل.
(٥) آية ٩١ سورة طه.
(٦) آية ٨٠ من سورة يوسف.
136
فالحرف بعد حَتَّى مخفوض فِي الوجهين من ذلك قول اللَّه تبارك وتعالى «تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» «١» و «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «٢» لا يكونان إلا خفَضا لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حَتَّى، فذهب بحتى إلى معنى «إلى». والعرب تقول: أضمنه حَتَّى الاربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حَتَّى الاربعاء.
والمعنى: أن أضمن القوم فِي الاربعاء لأن الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.
والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثُمَّ يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الاسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حَتَّى فإن كانت الاسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حَتَّى ففيها وجهان: الخفض والاتباع لما قبل حتى من ذلك: قد ضرب القوم حَتَّى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، فِي الوجهين قد أصابه الضرب.
وذلك أن إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول:
أعتق عبيدك حَتَّى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فِيهِ إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فِيهِ أن يصيب الفعل ما بعد حَتَّى:
الأيام تصام كلها حَتَّى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حَتَّى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حَتَّى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك: هُوَ يصوم النهار حَتَّى الليل، لا «٣» يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حَتَّى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.
(١) آية ٤٣ سورة الذاريات.
(٢) آية ٥ سورة القدر.
(٣) فى ش، ج: «ولا». [.....]
137
وأما قول الشاعر:
فيا عجبا حَتَّى كليب تسبني... كأن أباها نهشل أو مجاشع «١»
فإن الرفع فِيهِ جيد وإن لم يكن قبله اسم لأن الاسماء التي تصلح بعد حَتَّى منفردة إنما تأتي من المواقيت كقولك: أقم حَتَّى الليل. ولا تقول أضرب حَتَّى زيدٍ لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زَيْدُ وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال:
يا عجبا أتسبني اللئام حَتَّى يسبني كليبي «٢». فكأنه عطفه على نية أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا فِي كليبٍ ما توهموا فِي المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ كأنه قال: قد انتهى بي «٣» الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبنى.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ... (٢٠٥)
تجعل «ما» فِي موضع نصب وتوقع عليها «يُنْفِقُونَ»، ولا تنصبها ب (يسألونك) لأن المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين أحدهما أن تجعل «ذا» اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الَّذِي ينفقون.
والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الَّذِي فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟
فِي معنى: من الَّذِي يقول ذاك؟ وأنشدوا «٤» :
«٥»
عَدَسْ ما لعبادٍ عليكِ إمارة... أمِنتِ وهذا تحملين طليق
(١) من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا. وكليب رهط جرير. ونهشل ومجاشع ابنا دارم بن مالك ابن حنظلة. ومجاشع قبيلة الفرزدق، وانظر الخزانة ٣/ ١٦٩
(٢) كذا فى ش، ج. والأنسب:
«كليب».
(٣) فى ش، ج: «فى».
(٤) فى أ: «أنشدونا».
(٥) عدس:
اسم صوت لزجر البغل. وعباد هو ابن زياد. وهذا من شعر قاله يزيد بن مفرّغ الحميرى فى عباد. وكان يزيد قد أكثر من هجوه، حتى حبسه وضيق عليه، حتى خوطب فى أمره معاوية فأمر بإطلاق سراحه، فلما خرج من السجن قدّمت له بغلة فركبها فنفرت، فقال هذا الشعر. وانظر الخزانة ٢/ ٥١٤.
138
كأنه قَالَ: والذي تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كل استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا لأن الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الَّذِي إذ لم يعمل فِيهِ «١» الفعل الَّذِي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الَّذِي ضربت أخوك، فيكون الَّذِي فِي موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الَّذِي يليها عليها.
فإذا نويت ذلك رفعت قوله: قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ كما قال الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل «٢»
رفع النحب لأنه نوى أن يجعل «ما» فِي موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضي أم ضلالا وباطلا كان أبين فِي كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيهم لم أضرب وأيهم إلا قد ضربت رفعا للعلة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألا يسبقها شيء.
ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخر عَنْهُ الفعل الَّذِي يقع عليه قولهم: كل الناس ضربت. وذلك أن فِي (كل) مثل معنى هَلْ أحد [إلا] «٣» ضربت، ومثل معنى أي رَجُل لم أضرب، وأي بلدة لم أدخل ألا ترى أنك إذا قلت: كل الناس ضربت كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدني أَبُو ثروان:
وقالوا تعرفها المنازل من منى وما كل من يغشى منى أَنَا عارف «٤»
(١) فى الخزانة ٢/ ٥٥٧: «فيها» وهذا أولى لقوله: «بعدها».
(٢) من قصيدة للبيد، ومنها البيت المشهور:
ألا كل شىء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وانظر الخزانة ٢/ ٥٥٦
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) لمزاحم العقيلىّ من قصيدة غزلية. وانظر الكتاب ١/ ٣٦، ٣٧، وشواهد المغنى للبغدادى ٢/ ١٠٧٥
139
رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:
وما كلّ من يظّنّنى أنا معتب وما كل ما يروى على أقول «١»
ولا تتوهم أنهم رفعوه بالفعل الَّذِي سبق أليه لانهم قد أنشدونا:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي عليَّ ذَنْبا كله لم أصنع «٢»
رفعا. وأنشدنى أبو الجرّاح:
أرجزا تريد أم قريضا أم هكذا بينهما تعريضا
كلاهما أجد مستريضا «٣» فرفع كلا وبعدها (أجد) لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هينا مستريضا.
ويدلك على أن فِيهِ ضمير جحد قول الشاعر:
فكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جهدها واحتفالها
(١) «يظننى» : ينهمنى، من الاظنان، وهو افتعال من الظن، فأصله: اظتنان فأبدلت التاء ظاء وأدغمت فيها الظاء. و «معتب» أي مرضيه ومزيل ما يعتب علىّ فيه. والبيت ورد فى اللسان (ظن) غير معزوّ.
(٢) هذا الرجز لأبى النجم العجلىّ، وأم الخيار زوجه، وانظر الكتاب ١/ ٤٤، والخزانة ١/ ١٧٣، ومعاهد التنصص فى الشاهدين ١٣، ٢٥.
(٣) ينسب هذا الرجز إلى الأغلب العجلى. وهو راجز مخضرم، أدرك الإسلام فحسن إسلامه.
ذكره فى الإصابة تحت رقم ٢٢٣، وفيها أن عمر كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن يستنشد من قبله من الشعراء ما قالوه فى الإسلام، فلما سأل الأغلب ذلك قال هذا الرجز، وإن كان فى الإصابة فيه «قصيدا» بدل «قريضا» والشطر الثاني:
لقد طلبت هينا موجودا وقال ابن برى- كما فى اللسان (روض) - «نسبه أبو حنيفة للأرقط. وزعم أن بعض الملوك أمره أن يقول فقال هذا الرجز» وأبو حنيفة هو الدينوري، والأرقط يريد حميدا الراجز. وقد جعل الرجز غير القريض وهو الشعر. وقوله: «تعريضا» أي غير بين فى أحد الضربين، من قولهم: عرض بالكلام إذا ورى فيه ولم يبنه. و «مستريضا» أي واسعا ممكنا. وقوله: «أجد» فى اللسان (راض) :«أجيد».
وانظر الهمع ١/ ٩٧.
140
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ... (٢١٧)
وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «عن قتال فِيهِ» فخفضته على نية (عن) مضمرة.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ففي الصد وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فِيهِ كبير وصد عن سبيل اللَّه وكفر به.
وإن شئت جعلت الصد كبيرا تريد: قل القتال فِيهِ كبير وكبير الصد عن سبيل اللَّه والكفر به.
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ مخفوض بقوله «١» : يسألونك عن القتال وعن المسجد.
فقال الله تبارك وتعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أهل المسجد مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتال فِي الشهر الحرام. ثُمَّ فسر فقال تبارك وتعالى: وَالْفِتْنَةُ- يريد الشرك- أشد من القتال فِيهِ.
وقوله: قُلِ الْعَفْوَ... (٢١٩)
وجه الكلام فِيهِ النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فضل المال [قد] «٢» نسخته الزكاة [تقول: قد عفا] «٣».
وقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى... (٢٢٠)
يقال للغلام يتم ييتم يتمًا ويتمًا. قال: وحكى لى يتم ييتم.
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ترفع الإخوان على الضمير «٤» (فهم) كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا يريد: فإخوانكم تخالطون، ومثله
(١) فى ش: «لقوله».
(٢، ٣) زيادة فى أ، والأنسب وصلها بقوله: وهو فضل المال. [.....]
(٤) فى أ: «ضمير».
141
«فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» «١» ولو نصبت هاهنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم) «٢». وفي قراءة عَبْد اللَّه «إِن تعذبهم فعبادُكَ» وفي قراءتنا «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» «٣».
وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فِيهِ «هُوَ» مع المرفوع. فإذا لم يحسن فِيهِ «هُوَ» أجريته على ما قبله فقلت: إن اشتريت طعاما فجيدا، أي فاشتر الجيد، وإن لبست ثيابا فالبياض، تنصب لأن «هو» لا يحسن هاهنا، والمعنى فى هذين هاهنا مخالف للأول ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا، ولا تجد كل ما يلبس بياضا، ولا كل ما يشترى جيدا. فإن نويت أن ما ولى شراءه فجيد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض.
وكذلك قول اللَّه «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا» «٤» نصب لأنه شيء ليس بدائم، ولا يصلح فِيهِ «هُوَ» ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما فصلوا رجالا أو ركبانا [رجالا يعني: رجالة] «٥» فنصبا لانهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ المعنى فِي مثله من الكلام: اللَّه يعلم أيهم يفسد وأيهم يصلح. فلو وضعت أيا أو من مكان الأوّل «٦» رفعته، فقلت: أنا أعلم أيّهم قام من القاعة، قال [الفراء] «٧» سمعت العرب تقول: ما يعرف أىّ من أىّ. وذلك أن (أىّ) و (من) استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالي قيامك أو قعودك، ولو جعلت فِي الكلام استفهاما بطل الفعل عَنْهُ فقلت: ما أبالي أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتصل الفعل بما قبله فانتصب.
والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به.
(١) آية ٥ سورة الأحزاب.
(٢) جواب لو محذوف تقديره: كان صوابا.
(٣) آية ١١٨ سورة المائدة.
(٤) آية ٢٣٩ سورة البقرة.
(٥) زيادة فى أ.
(٦) يريد بالأوّل الذي يلى مادة العلم.
(٧) زيادة فى أ.
142
وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ... (٢٢٠)
يقال: قد عنت الرجل عنتا، وأعنته اللَّه إعناتا.
وقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ... (٢٢١)
يريد: لا تزوجوا. والقراء على هذا. ولو كانت: ولا تنكحوا المشركات أي لا تروّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال: نكحها نكحا ونكاحا.
وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ... (٢٢١)
كقوله: وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان فِي المعنى. ولذلك جاز أن يجازى «١» لو بجواب إن، وإن بجواب لو فِي قوله: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» «٢». وقوله: «فَرَأَوْهُ» يعنى بالهاء الزّرع.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ... (٢٢٢)
بالياء. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه إن شاء اللَّه «يتطهرن» بالتاء، والقراء بعد يقرءون «حتى يطهرن، ويطهرن» [يطهرن] «٣» : ينقطع عنهن الدم، ويتطهرن:
يغتسلن بالماء. وهو أحب الوجهين إلينا: يطهرن.
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ولم يقل: فِي حيث، وهو الفرج. وإنما قال:
من حيث كما تقول للرجل: ايْت زيدا من مأتاه أي من الوجه الَّذِي يؤتى منه.
فلو ظهر الفرج ولم يكن عَنْهُ قلت فِي الكلام: ايْت المرأة فِي فرجها. فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يقال: ايت الفرج من حيث شئت.
(١) فى أ: «يجاب».
(٢) آية ٥١ سورة الروم.
(٣) زيادة يقتضيها للسياق.
143
وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ... (٢٢٣)
[أي] «١» كيف شئتم. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ مَيْمُونِ «٢» بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ تَزْعُمُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ وَرَائِهَا فِي قُبُلِهَا خَرَجَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ. قَالَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَتْ يَهُودُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يقول: ايت الْفَرْجَ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ «٣».
وقوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا... (٢٢٤)
يقول: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترضا أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ يقول: لا يمتنعن أحدكم أن يبر ليمين إنّ حلف عليها، ولكن ليكفر يمينه ويات الذي هو خير.
وقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ... (٢٢٥)
فِيهِ قولان. يقال: هُوَ «٤» مما جرى فِي الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله.
والقول الآخر: الإيمَان أربع. فيمينان فيهما الكفارة والاستغفار، وهو قولك:
والله لا أفعل، ثُمَّ تفعل، وو الله لافعلن ثُمَّ لا تفعل. ففي هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل] «٥». واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك: والله ما فعلت وقد فعلت، وقولك: والله لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو إذ لم تكن فيهما كفارة. وكان القول الأول- وهو قول عَائِشَةَ: إن اللغو ما يجرى فِي الكلام على غير عقد- أشبه بكلام العرب.
(١) زيادة فى أ.
(٢) فى أ: «منصور» والصواب ما أثبت تبعا لما فى ش.
وميمون بن مهران الرقىّ يروى عن ابن عباس وأبى هريرة، ماتت سنة ١١٧. وانظر الخلاصة.
(٣) الظاهر أن هذا نهاية كلام ابن عباس. [.....]
(٤) فى ش: «وهو».
(٥) زيادة فى ش.
144
وقوله: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ... (٢٢٦)
التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل فِي مثله من الكلام: تربص أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ» «١» وكما قَالَ «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً» «٢» والمعنى تكفتهم «٣» أحياء وأمواتا.
ولو قيل فِي مثله من الكلام: كفات أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا. ولو قيل:
تربص: أربعة أشهر كما يقال فِي الكلام: بيني وبينك سير طويل: شهر أو شهران تجعل السير هُوَ الشهر، والتربص هُوَ الاربعة «٤». ومثله «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ» «٥» وأربع شهادات. ومثله «فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «٦» فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثل ما قتل. قال: وكذلك رأيتها فِي مصحف عَبْد اللَّه «فَجَزاؤُهُ» بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يجزى مثل ما قتل من النعم.
فَإِنْ فاؤُ يقال: قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.
وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ... (٢٢٨)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «بردتهن».
وقوله: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ... (٢٢٩)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «إلا أن تخافوا» فقرأها حمزة على هذا المعنى «إِلَّا أَنْ يَخافا» ولا يعجبني ذلك. وقرأها بعض «٧» أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهي فِي قراءة أبيّ
(١) آيتا ١٤، ١٥ سورة البلد.
(٢) آيتا ٢٥، ٢٦ سورة المرسلات.
(٣) فى أ: «تكفتهما».
(٤) جواب لو حذف أي جاز مثلا. ويكثر من المؤلف هذا.
(٥) فى آية ٦ سورة النور.
(٦) آية ٩٥ سورة المائدة.
(٧) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة، وانظر البحر ٢/ ١٩٧.
145
«إلا أن يظنا ألا يقيما حدود اللَّه» والخوف والظن متقاربان فِي كلام العرب.
من «١» ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله وما خفت يا سلام أنك عائبي «٢»
وقال الآخر:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمه تروى عظامي بعد موتى عروقها
[ولا تدفنني فِي الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها] «٣»
والخوف فِي هذا الموضع كالظن. لذلك رفع «أذوقها» كما رفعوا «٤» «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «٥» وقد روى عَنْهُ صلى اللَّه عليه وسلم (أمرت بالسواك «٦» حَتَّى خفت لأدْرَدَنَّ «٧» ) كما تقول: ظن ليذهبن.
وأما ما قال حمزة فإنه إنّ كان أراد اعتبار قراءة عَبْد اللَّه فلم يصبه- والله أعلم- لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن «٨» ألا ترى أن اسمهما فِي الخوف مرفوع بما لم يسم فاعله. فلو أراد ألا يخافا على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير
(١) فى ش، ج: «فى» وهو تحريف.
(٢) كذا فى ش. وفى ج «عاينى».
(٣) سقط هذا البيت فى ش، ج، ولا بد منه لأنه موضع الشاهد. وهما لأبى محجن الثقفي.
(٤) أي القراء.
(٥) آية ٧١ سورة المائدة. [.....]
(٦) فى ج: «بالسؤال» وما هنا عن ش. ويبدو فيه أثر الإصلاح.
(٧) الدرد: ذهاب الأسنان. ولفظ الحديث فى الجامع الصغير: «أمرت بالسواك حتى خفت على أسنانى».
(٨) يريد أنه على قراءة حمزة (يخافا ألا يقيما) ببناء الفعل للمفعول يكون الفعل قد عمل فى نائب الفاعل: وفى أن ومعمولها، وكأن الفعل قد عمل فى أكثر من معمول واحد الرفع، وهذا غير مألوف إلا على وجه التبعية. والنحويون يصححون هذا الوجه بأن يكون (ألا يقيما) بدل اشتمال من نائب الفاعل.
146
اعتبار قول عَبْد اللَّه [كان] «١» جائزا كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يقال كيف قال:
فلا جناح عليهما، وإنما الجناح- فيما يذهب إليه الناس- على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟
ففي ذلك وجهان:
أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا فى «٢» سورة الرحمن «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» «٣» وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه «نَسِيا حُوتَهُما» «٤» وإنما الناسي صاحب مُوسَى وحده. ومثله فِي الكلام أن تقول: عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها. ومثله من كتاب اللَّه «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» «٥» فيستقيم فِي الكلام أن تقول: قد جعل اللَّه لنا ليلا ونهارا نتعيش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيش إلى النهار.
والوجه الآخر أن يشتركا جميعا فِي ألا يكون عليهما جناح إذ كانت تعطي ما قد نفى عن الزوج فِيهِ الإثم، أشركت فِيهِ لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هِيَ إلى مثل ذلك. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» «٦» وإنما موضع طرح الإثم فِي المتعجل، فجعل
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) هذا استئناف كلام لذكر نظير لما سلف. وفى الطبري:
«كما قال فى سورة... ».
(٣) آية ٢٢ سورة الرحمن.
(٤) آية ٦١ سورة الكهف.
(٥) آية ٧٣ سورة القصص.
(٦) آية ٢٠٣ سورة البقرة.
147
للمتأخر- وهو الَّذِي لم يقصر- مثل ما جعل على المقصر. ومثله فِي الكلام قولك: إن تصدقت سرا فحسن [وإن تصدقت جهرا فحسن] «١».
وفي قوله «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وجه آخر وذلك أن يريد: لا يقولن هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصر، ولا المتأخر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي فلا يؤثمن أحدهما صاحبه.
وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا يريد: فلا جناح عليهما فِي أن يتراجعا «٢»، (أن) فِي موضع نصب إذا نزعت الصفة «٣»، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائي يقول: موضعه خفض. قال الفراء: ولا أعرف ذلك.
وقوله إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما (أن) فِي موضع نصب لوقوع الظن عليها.
وقوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (٢٣١) كان الرجل منهم إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضر بها تركها حَتَّى تحيض الحيضة الثالثة ثُمَّ يراجعها، ويفعل ذلك فِي التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها.
وقوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (٢٣٢) يقول: فلا تضيقوا عليهن أن يراجعن أزواجهن بمهر جديد إذا بانت إحداهن من زوجها، وكانت هذه أخت معقل، أرادت أن تزوج زوجها الأوّل بعد ما انقضت عدتها فقال معقل لها: وجهي من وجهك حرام إن راجعته، فأنزل اللَّه عز وجل:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ.
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) كذا فى ج. وفى ش: «يراجعا».
(٣) يريد بها حرف الجرّ.
148
وقوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم «بذلك» لأنه حرف قد كثر فِي الكلام حَتَّى توهم بالكاف أنها (من الحرف) «١» وليست بخطاب. ومن قال «ذلِكَ» جعل الكاف منصوبة «٢» وإن خاطب امْرَأَة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال «ذلكم» أسقط التوهم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلك الرجل، وذانك الرجلان، وأولئك الرجال. [و] «٣» يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول فِي سائر الاسماء إذا خاطبت إلا بإخراج «٤» المخاطب فِي الاثنين والجميع والمؤنث كقولك للمرأة: غلامك فعل ذلك لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها فِي الغلام لأن الكاف هاهنا لا يتوهم أنها من الغلام.
ويجوز أن تقول: غلامك فعل ذاك وذاك، على ما فسرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم.
وقوله: الرَّضاعَةَ (٢٣٣) القراء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائي أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهي بمنزلة الوكالة والوكالة، والدلالة والدلالة، ومهرت «٥» الشيء مهارة ومهارة والرضاع والرضاع فِيهِ مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحصاد والحصاد.
وقوله لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يريد: لا تضارر «٦»، وهو فِي موضع جزم. والكسر فِيهِ جائز «لا تُضَارَّ والِدَةٌ» ولا يجوز رفع الراء على نية الجزم، ولكن يرفعه على
(١) أي جزء من الكلمة التي تلحق بها وهى اسم الإشارة كذا وفروعها. ولا يريد بالحرف ما قابل الاسم.
(٢) أي مفتوحة. [.....]
(٣) زيادة يسيغها السياق.
(٤) أي ذكره وإيراده.
(٥) أي حذفته. ويقال أيضا: مهر فيه.
(٦) فى ش، ج: «تضارّوهم» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا. وفى الطبري: «قرأ عامة قرّاء أهل الحجاز والكوفة والشام (لا تضارّ) بفتح الراء بتأويل لا تضارر على وجه النهى، وموضعه إذا قرى كذلك جزم... ».
149
الخبر. وأما قوله «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» «١» فقد يجوز أن يكون رفعا على نية الجزم لأن الراء الأولى مرفوعة فِي الاصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز (لا تضارّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهي مفتوحة، وإن كانت تفاعل فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون فِي معنى رفع. وقد قرأ عُمَر بْن الخطاب «ولا يضارر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ».
ومعنى لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يقول: لا ينزعن ولدها منها وهي صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها. «وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» يعني الزوج. يقول: إذا أرضعت صبيها وألفها وعرفها فلا تضارن «٢» الزوج فِي دفع ولده إليه.
وقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ (٢٣٤) يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغي أن يكون الخبر عن الَّذِينَ؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثُمَّ ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأول ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك لأن المعنى- والله أعلم- إنما أريد به: ومن مات عَنْهَا زوجها تربصت. فترك الأول بلا خبر، وقصد الثاني لأن فِيهِ الخبر والمعنى. قَالَ: وأنشدني بعضهم:
بني أسد إن ابن قيس وقتله بغير دم دار المذلة حلت «٣»
فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذل. ومثله:
لعلى إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبى ذبّان أن يتندّما «٤»
(١) آية ١٢٠ سورة آل عمران.
(٢) فى ش: «تضارون» وهو تحريف.
(٣) فى ج: «خلت» بدل «حلت». وكأنه يريد: إن قتله دار المذلة حلت له، فجملة «حلت» خبر «دار المذلة» والرابط محذوف.
(٤) أبو ذبان كنية عبد الملك بن مروان، كنى بذلك لبخر كان به من أثر فساد كان فى فمه. ويعنى الشاعر بابنه هشام بن عبد الملك. وانظر اللسان (ذنب)، والحيوان ٣/ ٣٨١.
150
فقال: لعلى ثُمَّ قال: أن يتندما لأن المعنى: لعل ابن أَبِي ذبان أن يتندم إن مالت بي الريح. ومثله قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ «١» إلا أن الهاء من قوله وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ رجعت على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين لأن العائد من الذكر قد يكون خبرا كقولك: عَبْد اللَّه ضربته.
وقال: وَعَشْراً ولم يقل: «عشرة» وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلبوا عليه الليالي حَتَّى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان- لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدّكران بالهاء كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» «٢» فأدخل الهاء فِي الأيام حين ظهرت، ولم تدخل فِي «٣» الليالي حين ظهرن.
وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتصل الخافض بما بعده غلبت الليالي أيضا على الأيام. فإن اختلطا فكانت ليالي وأياما غلبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثُمَّ تقول بعد: أيام فيها برد شديد. وأما المختلط فقول الشاعر «٤» :
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجارا
فقال: ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول: عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث لأن الليالي من الأيام تغلب الأيام. ومثل ذلك فى الكلام أن تقول:
(١) آية ٢٤٠ سورة البقرة.
(٢) آية ٧ سورة الحاقة:
(٣) سقط فى ج.
(٤) هو النابغة الجعدي. والبيت من قصيدة مدح فيها النبي ﷺ وأوّلها:
خليلى عوجا ساعة وتهجرا ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقد وصف فى البيت الشاهد بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فأقامت ثلاثة أيام تطلبه حتى وجدت شلوه وبقيته فأضافت أي حزنت وأشفقت أو ضافت أي تردّدت وذهبت هنا وهنا لا تلوى على شىء من فرط أساها، وحأرت وصاحت وكان هذا كل ما وسعها، ولم يكن لها نكير ما أصابها غير ما ذكر. وتضيف بضم التاء من أضاف، أو بفتحها من ضاف. وانظر شواهد العيني على هامش الخزانة ٢/ ١٩٣
151
عندي عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندي عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسر من النوعين قبل صاحبه أجريت العدد فقلت: عندي خمس عشرة ناقة وجملا، فأنثت لأنك بدأت بالناقة فغلبتها.
وإن بدأت بالجمل قلت: عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسرة غلبت التأنيث، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة فقلت: عندي خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندي خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلا بالتذكير لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكر لهذه الهاء التي لزمت المذكر والمؤنث.
وقوله مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ الخطبة مصدر بمنزلة الخطب، وهو مثل قولك:
إنه لحسن القعدة والجلسة يريد القعود والجلوس، والخطبة مثل الرسالة التي لها أول وأخر، قال: سمعت بعض العرب [يقول] «١» : اللهم ارفع عنا هذه الضغطة، كأنه ذهب إلى أن لها أولا وآخرا، ولو أراد مرة لقال: الضغطة، ولو أراد الفعل لقال الضغطة كما قال المشية. وسمعت آخر يقول: غلبني [فلان] «٢» على قطعة لى من أرضى يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شيء [قطع منه] «٣» قلت: قطعة.
وقوله: أَوْ أَكْنَنْتُمْ للعرب فِي أكننت الشيء إذا سترته لغتان «٤» : كننته وأكننته، قال: وأنشدوني «٥» قول الشاعر:
ثلاث من ثلاث قدامياتٍ من اللاتي تكن من الصقيع
(١) زيادة فى اللسان (خطب).
(٢، ٣) زيادة فى اللسان (قطع). [.....]
(٤) كذا فى اللسان (كنن). وفى الأصول: «إذا سرّته لغتان».
(٥) كذا فى اللسان. وفى الأصول: «أنشدنى».
152
وبعضهم [يرويه] «١» تكن من أكننت. وأما قوله: «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» و «بَيْضٌ مَكْنُونٌ» فكأنه مذهب للشيء يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى.
وقوله: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا يقول: لا يصفنَّ أحدكم نفسه فِي عدتها بالرغبة فِي النكاح والإكثار منه. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي حِبَّانُ «٢» عَنِ الْكَلْبِيِّ «٣» عَنْ أَبِي «٤» صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: السِّرُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النِّكَاحُ. وَأَنْشَدَ عَنْهُ بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي... كَبِرْتُ وَأَلا يَشْهَدَ السِّرَّ أَمْثَالِي «٥»
قَالَ الفراء: وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّا كَنَّى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» «٦».
قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ... (٢٣٦)
بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النية، أي ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مثل قول العرب: أخذت صدقاتهم، لكل أربعين شاةً شاة ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.
(١) زيادة فى اللسان.
(٢) يبدو أنه حبان بن على العنزي الكوفي. كان وجها من وجوه أهل الكوفة، وكان فقيها. وتوفى بالكوفة سنة ١٧١، وانظر تهذيب التهذيب.
(٣) هو أبو النضر محمد بن السائب الكوفىّ. توفى سنة ١٤٦، وانظر الخلاصة.
(٤) هو باذام مولى أم هانئ. وانظر الخلاصة.
(٥) من قصيدته التي أوّلها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي... وهل يعمن من كان فى العصر الخالي
وبسبّاسة امرأة من بنى أسد. ويروى «اللهو» فى مكان «السر»، وانظر الخزانة ١/ ٢٨
(٦) الغائط فى أصل اللغة: المطمئن الواسع من الأرض، ويكنى به عن العذرة لأنهم كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا الغائط من الأرض.
153
وقوله مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ منصوب خارجا «١» من القدر لأنه نكرة والقدر معرفة.
وإن شئت كان خارجا «٢» من قوله «مَتِّعُوهُنَّ» متاعا ومتعة.
فأمّا حَقًّا فإنه نصب من نية «٣» الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فِي الكلام: عَبْد اللَّه فِي الدار حقا. إنما نصب الحق من نية كلام المخبر كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات لأن الحق والباطل لا يكونان فِي أنفس الاسماء إنما يأتي بالإخبار «٤». من ذلك أن تقول: لي عليك المال حقا، وقبيح أن تقول: لي عليك المال الحق، أو:
لي عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حق لي عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.
وكل ما كان فِي القرآن مما فِيهِ من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فِي معنى الحق فوجه الكلام فِيهِ النصب مثل قوله «وَعْدَ الْحَقِّ» «٥» و «وَعْدَ الصِّدْقِ» «٦» ومثل قوله «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» «٧» هذا على تفسير الأوّل.
وأمّا قوله «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «٨» فالنصب فِي الحق جائز يريد حقا، أي أخبركم أن ذلك حق. وإن شئت خفضت الحق، تجعله من صفة اللَّه تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله «وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» «٩» تجعله من صفة اللَّه عز وجل. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نية الاستئناف كان صوابا كما قال «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
(١) يريد أنه حال من «قدره».
(٢) يريد أنه مفعول مطلق.
(٣) يوافق هذا قولهم: إنه مفعول مطلق مؤكد للجملة السابقة.
(٤) كذا فى ش. وفى ج: «بأخبار».
(٥) آية ٢٢ سورة إبراهيم.
(٦) آية ١٦ سورة الأحقاف. [.....]
(٧) آية ٤ سورة يونس.
(٨) آية ٤٤ سورة الكهف.
(٩) آية ٣٠ سورة يونس.
154
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «١» وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقا أي] «٢» قلت حقا، والحق، أي ذلك الحق. وأما قوله فِي ص: «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ» «٣» فإن الفرّاء قد رفعت الأول ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عَبَّاس أنهما رفعا الأول وقالا تفسيره: الحق مني، وأقول الحق فينصبان الثاني ب «أقول». ونصبهما جميعا كثير منهم فجعلوا الأول على معنى: والحقّ «٤» «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ» وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ» «٥» رفعه حَمْزَةُ والكسائي، وجعلا الحق هُوَ اللَّه تبارك وتعالى لأنها فِي حرف عَبْد اللَّه «ذلك عيسى ابن مريم قَالَ اللَّه» كقولك: كلمة اللَّه، فيجعلون (قال) بمنزلة القول كما قَالُوا: العاب والعيب.
وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عِيسَى بْن مريم قولا حقا.
وقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ... (٢٣٧)
تماسوهن وتمسوهن واحد، وهو الجماع المماسة والمس.
وإنما قال إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون فِي كل حال. يقال: هن يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهن تأنيث. وإنما قَالَتِ العرب «لن يعفوا» للقوم، و «لن يعفوا» للرجلين لانهم زادوا للاثنين فِي الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدل على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا.
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الزوج.
(١) آية ١٤٧ سورة البقرة.
(٢) زيادة اقتضاها السياق خلت منها الأصول.
(٣) آية ٨٤.
(٤) ونصبه على طرح الخافض على نية القسم أي بالحق.
(٥) آية ٣٤ سورة مريم.
155
وقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى... (٢٣٨)
فِي قراءة عَبْد اللَّه «وعلى الصلاة الوسطى» فلذلك آثرت القراء الخفض، ولو نصب على الحث عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا. وهو كقولك فِي الكلام: عليك بقرابتك والأم، فخصها بالبر.
وقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً (٢٤٠) وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «كتب عليهم الوصية لأزواجهم» «١» وفي قراءة أبي:
«يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم» فهذه حجة لرفع الوصية. وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر أي ليوصوا لأزواجهم وصيةً.
ولا يكون نصبا فى إيقاع «وَيَذَرُونَ» عليه.
غَيْرَ إِخْراجٍ يقول: من غير أن تخرجوهن ومثله فِي الكلام: أتيتك «٢» رغبة إليك. ومثله: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» «٣» لو ألقيت «مِنْ» لقلت: غير سوء. والسوء هاهنا البرص. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ «٤» عَنْ يَزِيدَ «٥» بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ «٦» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ كَأَنَّهُ قَالَ: تخرج بيضاء غير برصاء.
(١) فى الأصلين: «عليكم الوصية لأزواجكم» وهو لا يتفق مع السياق.
(٢) يريد أنه يستوى فى هذا المثال إظهار الحرف وحذفه. تقول أتيتك رغبة إليك، وللرغبة إليك.
وكذلك ما فى الآية: يستوى أن يقال: غير إخراج ومن غير إخراج.
(٣) آية ١٢ سورة النمل.
(٤) هو شريك بن عبد الله الكوفىّ. مات سنة ١٧٧. خلاصة.
(٥) كان من أئمة الشيعة الكبار. يروى عن مولاه عبد الله بن الحارث مولى مقسم. كانت وفاته سنة ١٣٧ هـ.
(٦) هو مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. توفى سنة ١٠١ هـ[.....]
وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ (٢٤٥) تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الَّذِي)، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا ل (من) لأنها استفهام، والذي فِي الحديد «١» مثلها.
وقوله: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (٢٤٦)
(نقاتل) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء «يقاتل» جاز رفعها وجزمها. فأما الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأما الرفع فأن تجعل (يقاتل) صلة للملك كأنك قلت: ابعث لنا الَّذِي يقاتل.
فإذا رَأَيْت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح فِي ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فِيهِ الرفع والجزم تقول فِي الكلام: علمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الَّذِي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت «به» لم يكن إلا جزما لأن الضمير لا يجوز فى (أنتفع) ألا ترى أنك لا تقول: علمني علما أنتفعه.
فإن قلت: فهلا رفعت وأنت تريد إضمار (به) ؟
قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز فى قوله (نقاتل) إلا الجزم.
ومثله «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» «٢» لا يجوز إلا الجزم لأن «يَخْلُ» لم يعد بذكر الأرض. ولو كان «أرضا تخل لكم» جاز الرفع والجزم كما قال: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» «٣»، وكما قال اللَّه تبارك وتعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
(١) آية ١١
(٢) آية ٩ سورة يوسف.
(٣) آية ١٢٩ سورة البقرة.
157
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ» «١» ولو كان جزما كان صوابا لأن فِي قراءة عَبْد اللَّه:
«أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُنْ لَنَا عِيدًا» «٢» وفي قراءتنا بالواو «تكون».
ومنه ما يكون الجزم فِيهِ أحسن وذلك بأن يكون الفعل الَّذِي قد يجزم ويرفع فِي آية، والاسم الَّذِي يكون الفعل صلة له فِي الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته من ذلك: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي» «٣» جزمه يحيى ابن وثاب والاعمش- ورفعه حمزة «يَرِثُنِي» لهذه العلة، وبعض القراء رفعه أيضا- لمّا كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثنى)، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ» «٤» على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة «الحاشرين» قلت: يأتوك.
فإذا كان الاسم الَّذِي بعده فعل معرفة يرجع بذكره، مما جاز فِي نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إلى أخاك يصب خيرا، لم يكن إلا جزما لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» «٥» الهاء معرفة و «غَداً» معرفة فليس فِيهِ إلا الجزم، ومثل قوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ» «٦» جزم لا غير.
ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعل لها جاز فِيهِ الرفع والجزم مثل قوله:
«فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» «٧» وقوله: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا» «٨» ولو كان رفعا لكان صوابا كما قال تبارك وتعالى: «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» «٩» ولم يقل: يلعبوا.
فأمّا رفعه فأن تجعل «يَلْعَبُونَ» فِي موضع نصب كأنك قلت فِي الكلام: ذرهم
(١) آية ١٠٣ سورة التوبة.
(٢) آية ١١٤ سورة المائدة.
(٣) آيتا ٥ و ٦ سورة مريم.
(٤) آيتا ٣٦، ٣٧ سورة الشعراء.
(٥) آية ١٢ سورة يوسف.
(٦) آية ١٤ سورة التوبة.
(٧) آية ٦٤ سورة هود.
(٨) آية ٣ سورة الحجر.
(٩) آية ٩١ سورة الأنعام.
158
لاعبين. وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم. وكل فعل صلح أن يقع «١» على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فِيهِ وجه الكلام لأن الشرط يحسن فِيهِ، ولأن الأمر فِيهِ سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك.
فإن رَأَيْت الفعل الثاني يحسن فِيهِ محنة «٢» الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: «ذَرْهُمْ يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأَمَلُ» «٣».
وفيه «٤» وجه آخر يحسن فِي الفعل الأوّل. من ذلك: أوصه يأت زيدا، أومره، أو أرسل «٥» إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجددا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوله. من ذلك قولك: مر عَبْد اللَّه يذهب معنا ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع فِي موضع (مر)، وقال اللَّه تبارك وتعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» »
ف «يَغْفِرُوا» فِي موضع جزم، والتأويل- والله أعلم-: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للامر فيه تأويل الحكاية. ومثله: «قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «٧» فتجزمه بالشرط «قل»، وقال قوم: بنية الأمر فِي هذه الحروف: من القول والأمر والوصية. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل فِي وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.
فإن قلت: فقد قال الشاعر:
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ولكن يكن للخير فيك نصيب «٨»
(١) وذلك كالأمثلة السابقة نحو دع محمدا يأكل، فكلمة (دع) وقعت على المعرفة (محمد) وعلى فعله وهو (يأكل) وهو فعل محمد.
(٢) المحنة: الاختبار، وهو اسم من الامتحان. [.....]
(٣) آية ٣ سورة الحجر.
(٤) كذا فى ش. وفى ج: «منه».
(٥) فى الأصول: «فأرسل».
(٦) آية ١٤ سورة الجاثية.
(٧) آية ٥٣ سورة الإسراء.
(٨) قال البغدادي فى شرح شواهد المغني ٢/ ١١٧ «خاطب هذا الشاعر ابنه بهذا البيت لما سمع أنه يتمنى موته. ولم أقف على قائله».
159
قلت: هذا مجزوم بنية الأمر لأن أول الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
من كان لا يزعم أني شاعر فيدن مني تنهه المزاجر
فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضمّن (فيدن) لاما يجزم [بها] «١». وقال الآخر:
فقلتُ ادعِي وَأَدْعُ فإنّ أندى لصوتٍ أن ينادي داعيان «٢»
أراد: ولادع. وفي قوله (وادع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوله على أخره. وهو مثل قول اللَّه عز وجل: «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» «٣» والله أعلم. وأما قوله: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» «٤» فليس تأويل جزاء، إنما هُوَ أمر محض لأن إلقاء الواو ورده إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء) ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع كما حسن «اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم».
والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر. وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس «٥» وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رَأَيْت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعنه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوله إذ كان أوله جحد وليس فِي أخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع إذ كان أوله كآخره كما تقول فِي الأمر: دعه ينام، ودعه ينم إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثُمَّ جعلت فى الفعل (لا) رفعت لاختلافهما
(١) زيادة فى شرح شواهد المغني للبغدادى ٢/ ١١٦.
(٢) قائله الأعشى، ونسب إلى غيره. راجع العيني ج ٤/ ٣٩٢ هـ الخزانة.
(٣) آية ١٢ سورة العنكبوت.
(٤) آية ٢٦ سورة غافر.
(٥) هذا متعلق بقوله: «ألحقوا... »، وفى الأصلين ش، ج: «وبليس».
160
أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك كقول اللَّه تبارك وتعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «١» [لما كان] «٢» أول الكلام أمرا وآخره نهيا فِيهِ (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» «٣» وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» «٤» رفع، ومنه قوله: «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ» «٥» ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز فِي قياس النحو.
وقد قرأ يحيى بْن وثاب وحمزة: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تخف دركا ولا تخشى» «٦» بالجزاء المحض.
فإن قلت: فكيف أثبتت الياء فِي (تخشى) ؟ قلت: فِي ذلك ثلاثة أوجه إن شئت استأنفت «وَلا تَخْشى» بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) فِي موضع جزم وإن كانت فيها الياء لأن من العرب من يفعل ذلك قال بعض «٧» بني عبس:
ألم يأتيك والأنباء تنمي... بما لاقت لبون بنى زياد
فأثبتت الياء فِي (يأتيك) وهي فِي موضع جزم لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونها كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:
قال لها من تحتها وما استوى... هزي إليك الجذع يجنيك الجنى
(١) آية ١٣٢ سورة طه.
(٢) زيادة يقتضيها السياق.
(٣) آية ٨٤ سورة النساء. [.....]
(٤) آية ١٠٥ سورة المائدة.
(٥) آية ٥٨ سورة طه.
(٦) آية ٧٧ سورة طه.
(٧) هو قيس بن زهير من قصيدة يقولها فيما كان قد شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي من أجل درع أخذها الربيع من قيس، فأغار قيس على إبل الربيع وباعها فى مكة. وبعد البيت:
ومحبسها على القرشىّ تشرى... بأدراع وأسياف حداد
161
وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم فِي الواو:
هَجَوْتَ زَبَّان ثُمَّ جئتَ معتذِرًا من سبّ زبان لم تهجو ولم تدع
والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين كما قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
فهذه الياء ليست بلام الفعل هِيَ صلة لكسرة اللام كما توصل القوافي بإعراب رويها مثل قول الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا «١»
وقول الآخر:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلمي «٢»
وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فِيهِ (لا) على نية النهي وفيه معنى من الجزاء كما كان فى قوله «وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ» «٣» المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حطمتن، وهو نهي محض لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنك إلا فِي ضرورة شعر كقوله «٤» :
فمهما تشأ منه فزارة تعطكم ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
(١) هذا صدر بيت عجزه:
واحتلت الغور فالجدّين فالفرعا
وانظر الصبح المنير ٧٢
(٢) مطلع معلقة زهير بن أبى سلمى، وعجزه:
بحومانة الدراج فالمنثلم
(٣) آية ١٨ سورة النمل.
(٤) نسب فى سيبويه ٢/ ١٥٢ لابن الخرع، وهو عوف.
وقال البغدادي: «والبيت غير موجود فى ديوانه، وإنما هو من قصيدة للكميت بن ثعلبة أوردها أبو محمد الأعرابىّ فى كتابه فرحة الأديب» وانظر الخزانة ٤/ ٥٦٠، ٥٦١
162
وقوله: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ... (٢٤٦)
جاءت (أن) فِي موضع، وأسقطت من آخر فقال فِي موضع آخر: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ» «١» وقال فِي موضع آخر: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» «٢» فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربية التي لا علة «٣» فيها، والفعل فِي موضع نصب كقول اللَّه- عز وجل-: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ» «٤» وكقوله:
«فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» «٥» فهذا وجه الكلام فى قولك: مالك؟ وما بالك؟
وما شأنك: أن تنصب فعلها «٦» إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوله «٧» الياء أو التاء أو النون أو الألف كقول الشاعر:
مالك ترغين ولا ترغو الخلف الخلفة: التي فِي بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الَّذِي يحتمل دخول (أن) ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلي فِي الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول اللَّه عز وجل:
«مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «٨» وفي موضع آخر: «مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ
(١) آية ٨ سورة الحديد.
(٢) آية ١٢ سورة إبراهيم.
(٣) أى لا ضعف فيها ولا دخل، إذ هو الوجه الكثير. وفى الطبرى: «وذلك هو الكلام الذى لا حاجة للتكلم به للاستشهاد على صحته لفشوّ ذلك على ألسن العرب»
.
(٤) آية ٣٦ سورة المعارج.
(٥) آية ٨٨ سورة النساء.
(٦) يريد الحدث الذى يلى العبارات السابقة فى صورة فعل اصطلاحىّ أو غيره. [.....]
(٧) يريد الفعل المضارع.
(٨) آية ١٢ سورة الأعراف.
163
السَّاجِدِينَ» «١» وقصة إبليس واحدة، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا.
ومثله ما حمل على معنى هُوَ مخالف لصاحبه فِي اللفظ قول الشاعر «٢» :
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ألا هَلْ أخو عيشٍ لذيذ بدائم
فأدخل الباء فِي (هَلْ) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء فِي ما الجحد كقولك: ما أنت بقائل. فلما كانت النية فِي (هَلْ) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله فِي قراءة عبد الله «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ» «٣» : ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:
فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه من يومه ظلم دعج ولا جبل «٤»
(رد عليه بلا) «٥» كأن معنى أي فتى فِي الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: أَيْنَ كنت لتنجو مني! لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام فِي (أَيْنَ) لأن معناها جحد:
ما كنت لتنجو مني. وقال الشاعر:
فهذى سيوف يا صدى بْن مالك كثير ولكن أين بالسيف ضارب «٦»
(١) آية ٣٢ سورة الحجر.
(٢) هو الفرزدق. والبيت من قصيدة يهجو فيها جريرا ورهطه كليبا بإتيان الأتن. وقبله:
وليس كليبىّ إذا جنّ ليله إذا لم يجد ريح الأتان بنائم
وقوله: «يقول» أي الكليبىّ، و (اقلولى عليها) أي نزا عليها (وأقردت) : سكنت. وفى اللسان (فرد) :
«قال ابن برىّ: البيت للفرزدق. يذكر امرأة إذا علاها الفحل أقردت وسكنت وطلبت منه أن يكون فعله دائما متصلا» وهذا على رواية «تقول». وقد علمت أن الأمر وراء ما ذكر ابن برىّ.
(٣) آية ٧ سورة التوبة.
(٤) من قصيدة للمتنخل الهذلىّ فى رثاء ابنه أثيلة. يقول:
لا تقيه من موته الظلم الدعج يستتر بها من الهلاك ولا الجبال يتحصن بها. وانظر ديوان الهذليين طبع الدار ٢/ ٣٥، وقوله: «ولا جبل» فى اللسان (فلا) :«ولا خبل» وهو تحريف.
(٥) هذه العبارة بين القوسين أثبتت فى ش، ج بعد قوله قبيل هذا: «ليس للمشركين».
(٦) فى أمالى ابن الشجري ١/ ٢٦٧: «حداد» فى مكان «كثير».
164
أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدم صلة اسم قبله ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حَتَّى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل لأن (ليس) نظيرة ل (ما) لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.
وقال الكسائي فِي إدخالهم (أن) فِي (مالك) : هُوَ بمنزلة قوله: «ما لكم فِي ألا تقاتلوا» ولو كان ذلك على ما قال لجاز فِي الكلام أن تقول: مالك أن قمت، وما لك أنك قائم لأنك تقول: فِي قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت.
فلذلك جاءت فِي (مالك) فِي المستقبل ولم تأت فِي دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هِيَ مما أضمرت فِيهِ الواو، حذفت من نحو قولك فِي الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها لأن (أن) حرف ليس بمتمكن فِي الاسماء.
فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال] «١» :
لأن القيام اسم صحيح و (أن) اسم ليس بالصحيح. واحتج بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فرد ذلك عليه أن العرب تقول:
إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة فِي (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيانا وتريد قال الشاعر:
فبح بالسرائر فِي أهلها وإياك فِي غيرهم أن تبوحا
(١) زيادة يقتضيها السياق.
165
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (فِي غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو فى (أن) لا يجوز.
وأما قول الشاعر:
فإياك المحاين أن تحينا
فإنه حذره فقال: إياك، ثُمَّ نوى الوقفة، ثُمَّ استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إياك والباطل) لم يجز إلقاء الواو لأنه اسم أتبع اسما فِي نصبه، فكان بمنزلة قوله فِي [غير] «١» الأمر: أنت ورأيك وكل ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كل ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز:
(إياك الباطل) وأنت تريد: إياك والباطل.
وقوله: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ... (٢٩٤)
وفي إحدى «٢» القراءتين: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.
والوجه فِي (إلا) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فِيهِ، فإذا كان ما قبل إلا فِيهِ جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها معرفة كان أو نكرة. فأما المعرفة فقولك: ما ذهب الناس إلا زَيْدُ. وأما النكرة فقولك:
ما فيها أحد إلا غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال اللَّه تبارك وتعالى: «مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» «٣» لأن فِي (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجه فِي الجحد الَّذِي ينفي الفعل عَنْهُمْ، ويثبته لما بعد إلا. وهي فِي قراءة أَبِي «٤» «ما فعلوه إلا قليلا» كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلا كالمنقطع عن أول الكلام كقولك: ما قام القوم، اللهم إلّا رجلا أو رجلين.
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) هى قراءة ابن مسعود وأبىّ والأعمش كما فى البحر ٢/ ٢٦٦
(٣) آية ٦٦ سورة النساء.
(٤) وهى أيضا قراءة ابن عامر.
166
فإذا نويت الانقطاع نصبت، وإذا نويت الاتصال رفعت. ومثله قوله:
«فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» «١» فهذا على هذا «٢» المعنى، ومثله: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» «٣» ثُمَّ قال: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ» فأول الكلام- وإن كان استفهاما- جحد لأن لولا بمنزلة هلا ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلا قمت) أن معناه:
لم تقم. ولو كان ما بعد (إلا) فِي هاتين الايتين رفعا على نية الوصل لكان صوابا مثل قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» «٤» فهذا نية وصل لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).
وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما قام إلا زَيْدُ) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام) إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الَّذِي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها كقولك: ما عندي أَحد إلا أخوك. فإن قدمت إلا نصبت الَّذِي كنت ترفعه فقلت: ما أتاني إلا أخاك أحد. وذلك أن (إلا) كانت مسوقة على ما قبلها فاتبعه، فلما قدمت فمنع أن يتبع شيئًا هُوَ بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
لمية موحشا طلل... يلوح كأنه خلل «٥»
(١) آية ٩٨ سورة يونس. [.....]
(٢) يريد أن (لولا) فيه للتحضيض والتوبيخ. وفيهما معنى النفي لما يطلب بها.
(٣) آية ١١٦ سورة هود.
(٤) آية ٢٢ سورة الأنبياء.
(٥) ينسب إلى كثير عزة. والخلل واحدها الخلة- بكسر الخاء وشدّ اللام- وهى بطانة كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب. وانظر العيني على هامش الخزانة ٣/ ١٦٣، ويروى بدل البيت فى بعض الكتب.
لمية موحشا طلل قديم... عفاه كل أسحم مستديم
وهو بهذه الصورة ينسب إلى ذى الرمة. وانظر الخزانة ١/ ٥٣١.
167
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه على أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عَنْهُ كما تقول: عندي خراسانية جارية، والوجه النصب فِي خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدم فِي إلا على هَذَا التفسير. قال: وأنشدونا:
بالثني أسفل من جماء ليس له إلا بنيه وإلا عرسه شيع «١»
وينشد: إلا بنوه وإلا عرسه. وأنشد أَبُو ثروان:
ما كان منذ تركنا أهل أسنمةٍ إلا الوجيف لها رعى ولا علف «٢»
ورفع غيره. وقال ذو الرمة:
مقزع أطلس الأطمار ليس له إلا الضراء وإلا صيدها نشب «٣»
ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثُمَّ ذكر فِي آخر الكلام (نشب) ويبينه أن تجعل موضعه فِي أول الكلام.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً وفي قراءة أَبِي كأين من فئة قليلة غلبت وهما لغتان. وكذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ «٤» هِيَ لغات كلها معناهن معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان فِي الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رَأَيْت، وكم جيشا جرارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل فِي المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
(١) الثنى: منعطف الوادي ومنقطعه. وجماء موضع. والبيت فى وصف أسد من قصيدة طويلة لأبى زبيد الطائىّ مدونة فى الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمنى ٩٨.
(٢) من قصيدة لجرير يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ويهجو آل المهلب. و (أسنمة) موضع فى بلاد تميم. والرعي: الكلأ يرعى.
(٣) من قصيدة التي أوّلها:
ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب
وهو فى وصف صائد. والمقزع: الخفيف الشعر. وأطلس: أغبر. والأطمار واحدها الطمر، وهو الثوب الخلق. والضراء واحدها ضرو، وهو الكلب الضارى، يريد كلاب الصيد، والنشب: المال.
(٤) آية ١٤٦ سورة آل عمران.
168
والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به «١» النكرة، فتقول: كم رَجُل كريم قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فِيهِ الفعل إن كان واقعا عليه فتقول: كم جيشا جرارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت على عشارى «٢»
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسر كتفسير العدد، فتركناها فِي الخبر على جهتها وما كانت عليه فِي الاستفهام فنصبنا «٣» ما بعد (كم) من النكرات كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة فِي كم، فلما حذفناها أعملنا إرادتها «٤»، فخفضنا «٥» كما قَالَتِ العرب إذا قيل لاحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك اللَّه، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] «٦» نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم. وقال امرؤ القيس:
تبوص وكم من دونها من مفازةٍ وكم أرض جدب دونها ولصوص «٧»
فرفع على نية تقديم الفعل «٨». وإنما جعلت الفعل مقدما فِي النية لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شىء عندى.
(١) فى اللسان: «فيه».
(٢) هو للفرزدق من قصيدة يهجو فيها جريرا. والفدع: اعوجاج وعيب فى القدم. والعشار جمع العشراء. وهى الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر.
(٣) كذا فى اللسان (كمم) وفى الأصول: «فتكتبا» وهو تحريف.
(٤) كذا فى اللسان. وفى الأصول: «أراد بها» وهو تحريف.
(٥) حاصل هذا أن خفض تمييزكم الخبرية بالحرف (من) محذوفا. وهذا مذهب أصحابه الكوفيين.
والبصريون يرون الجر بإضافة كم.
(٦) زيادة من اللسان. [.....]
(٧) قبله مطلع القصيدة:
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص فنقصر عنها خطوة أو تبوص
(تنوص) أي تتحول. «فتقصر عنها خطوة» أي تتأخر عنها «أو تبوص» البوص السبق والفوت، أي تسبقها. أي أنك لا توافقها فى السير معها، وهو يخاطب نفسه.
(٨) يريد بالفعل فى البيت (دونها) فإنها فى معنى استقرّ دونها.
169
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ... (٢٥٨)
وإدخال العرب (إلى) فِي هذا الموضع على جهة التعجب كما تقول للرجل:
أما ترى إلى هذا! والمعنى- والله أعلم-: هَلْ رَأَيْت مثل هذا أو رَأَيْت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فكأنه قال: هَلْ رَأَيْت كمثل الَّذِي حاج إِبْرَاهِيم فِي ربه «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» وهذا فِي جهته بمنزلة ما أخبرتك به فِي مالك وما منعك. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» «١» ثُمَّ قال تبارك وتعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» «٢» فجعل اللام جوابا وليست فِي أول الكلام. وذلك أنك إذا قلت: من صاحب هذه الدار؟
فقال لك القائل: هِيَ لزيد، فقد أجابك بما تريد. فقوله: زَيْدُ ولزيدٍ سواء فِي المعنى. فقال: أنشدني بعض بني عامر:
فأعلم أنني سأكون رمسًا... إِذَا سار النواجع لا يسير «٣»
فقال السائرون لمن حفرتم... فقال المخبرون لهم: وزير «٤»
ومثله فِي الكلام أن يقول لك الرجل: كيف أصبحت؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبته على نفس كلمته لقلت: صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ
(١) آية ٨٥ سورة المؤمنين.
(٢) آية ٨٦ سورة المؤمنين.
(٣) «رمسا»
أى مدفونا. والرمس فى الأصل الستر والدفن، فأطلق على اسم المفعول. ومن معانى الرمس التراب على القبر تعفوه المريح، ويجوز أن يراد هنا، أى يستحيل بعد ترابا. و «النواجع» جمع الناجعة، يريد الفرقة الناجعة أو القوم الناجعة، والناجع الذى يقصد بإبله المرعى والكلأ حيث يكون.
(٤) وزير اسم الشاعر.
170
رَسُولَ اللَّهِ» «١» وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول اللَّه، وإذا رفعت أخبرت، فكفاك الخبر مما قبله. وقوله: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ» «٢» رفع وهُوَ أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على: ولكن احسبهم أحياء فطرح الشكّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول:
لا تظننه كاذبا، بل أظننه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «٣» إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل، كأنه فِي مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء اللَّه، كأنه قال: بلى فاحسبني زائرك. وإن كان الفعل قد وقع على (أَنْ لَنْ نجمع) فإنه فِي التأويل واقع على الاسماء. وأنشدني بعض «٤» بني فقعس:
أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجيةً ذمولا
ولا متداركٍ والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا
فقال: ولا متداركٍ، فدل ذلك على أنه أراد ما أنت براءٍ بثعيلبات كذا ولا بمتداركٍ.
وقد يقول بعض النحويين: إنا نصبنا (قَادِرِينَ) على أنها صرفت «٥» عن نقدر، وليس ذلك بشيء، ولكنه قد يكون فِيهِ وجه آخر سوى ما فسرت لك: يكون خارجا «٦» من (نجمع) كأنه فِي الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادرًا على أكثر من ضربك.
(١) آية ٤٠ سورة الأحزاب.
(٢) آية ١٦٩ سورة آل عمران.
(٣) آية ٤ سورة القيامة.
(٤) الشعر للمرّار بن سعيد. وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة. ونواشغ الوادي أعاليه. والحمول الهوادج، والإبل عليها الهوادج. وانظر الخصائص ١/ ٣٨٨ طبعة الدار.
(٥) يريد أن الأصل: بلى نقدر، ثم حوّل (نقدر) إلى (قادرين) وقوله: «وليس ذلك بشىء» لأنه لا وجه لنصب قادرين على هذا الوجه.
(٦) يريد أنه حال من فاعل (نجمع) المقدرة بعد (بلى).
171
وقوله: كَمْ لَبِثْتَ وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء لقيت التاء وهي مجزومة «١».
وفي قراءة عَبْد اللَّه (اتختم العجل) «٢» (وإنى عت بربي وربكم) «٣» فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان فِي قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الادغام بهما لثقلهما ألا ترى أن مخرجهما من طرف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن فِي الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الادغام بخطأ، إنما هُوَ استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا كقوله: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» «٤» تخرج الطاء فِي اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأول، تجد ذلك إذا امتحنت مخرجيهما.
وقوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ جاء التفسير: لم يتغير [بمرور السنين عليه «٥»، مأخوذ من السنة]، وتكون الهاء من أصله [من «٦» قولك: بعته مسانهة، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو]، وتكون زائدةً صلةً بمنزلة قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «٧» فمن جعل الهاء زائدة جعل فعلت «٨» منه تسنيت ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعلت على صحة، ومن قال فِي [تصغير] «٩» السنة سنينة وأن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعلت أبدلت النون بالياء لمّا كثرت النونات، كما قالوا تظنّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» «١٠» يريد: متغير. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة أي لم تغيره السنون. والله أعلم.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رفعه إلى زيد
(١) أي ساكنة.
(٢) آية ٩٢ سورة البقرة. [.....]
(٣) آية ٢٠ سورة الدخان.
(٤) آية ٢٢ سورة النمل.
(٥، ٦، ٩) زيادة من اللسان.
(٧) آية ٩٠ سورة الأنعام.
(٨) كذا فى الأصول. والمناسب: تفعلت.
(١٠) آية ٢٠ سورة الحجر.
172
ابن ثابت قال: كتب فى حجر؟؟؟ ها ولم؟؟؟ وَانْظُرْ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَنَقَطَ عَلَى الشِّينِ وَالزَّايِ أَرْبَعًا وَكَتَبَ (يَتَسَنَّهْ) بِالْهَاءِ. وإن شئت قرأتها فِي الوصل على وجهين: تثبت الهاء وتجزمها، وإن شئت حذفتها أنشدني بعضهم:
فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا فِي السنين الجوائح «١»
والرجبية: التي تكاد تسقط فيعمد حولها بالحجارة. والسنهاء النخلة القديمة. فهذه قوة لمن أظهر الهاء إذا وصل.
وقوله وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إنما أدخلت فِيهِ الواو لنية فعل بعدها مضمر كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير فِي القرآن. وقوله «آيَةً لِلنَّاسِ» حين بعث أسود اللحية والرأس وبنو بنيه شيب، فكان آية لذلك.
وقوله «نُنْشِزُها» قرأها زَيْدُ بْن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها.
وقرأها ابن عَبَّاس «ننشرها». إنشارها: إحياؤها. واحتج بقوله: «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» «٢» وقرأها الْحَسَن- فيما بلغنا- (ننشرها) ذهب إلى النشر والطي. والوجه أن تقول: أنشر اللَّه الموتى فنشروا إذا حيوا، كما قال الأعشى:
يا عجبا للميت الناشر «٣»
وسمعت بعض بْني الحارث يقول: كان به جرب فنشر، أي عاد وحيي. وقوله:
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جزمها «٤» ابن عبّاس، وهى فى قراءة
(١) هذا الشعر لسويد بن الصامت الأنصارىّ الصحابىّ، يذكر نخله التي يدان عليها. والعرايا جمع العرية، وهى النخلة التي يوهب ثمرها لعامها. وانظر الإصابة، واللسان (عرى).
(٢) آية ٢٢ سورة عبس.
(٣) قبله:
حتى يقول الناس مما رأوا
وهو من قصيدته التي يقولها فى منافرة علقمة وعامر بن الطفيل. وانظر الصبح المنير ١٠٥
(٤) يريد أنه سكن الميم فى اعلم على أنه أمر من علم والهمزة عليه همزة وصل.
173
أَبِي وعبد اللَّه جميعا: (قيل له اعلم)، واحتج ابن عَبَّاس فقال: أهو خير من إِبْرَاهِيم وأفقه؟ فقد قيل له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ والعامة تقرأ: أعلم أن اللَّه وهو وجه حسن لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر اللَّه: (أشهد أن لا إله إلا اللَّه) والوجه الآخر أيضا بيّن.
وقوله فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ضم الصاد العامة. وكان أصحاب عَبْد اللَّه يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأما الضم فكثير، وأما الكسر ففي هذيل وسليم. وأنشدني الكسائي عن بعض بني سليم:
وفرعٍ يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح «١»
ويفسر معناه: قطعهن، ويقال: وجههن. ولم نجد قطعهن معروفة من هذين الوجهين، ولكني أرى- والله أعلم- أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصري، قدمت ياؤها كما قَالُوا: عثت وعثيت «٢»، وقال الشاعر:
صرت نظرة لو صادفت جوز دارع غدا والعواصي من دم الجوف تنعر «٣»
والعرب تقول: بات يصرى فِي حوضه إذا استقى ثُمَّ قطع واستقى فلعله من ذلك.
وقال الشاعر:
يقولون إن الشأم يقتل أهله فمن لي إن لم آته بخلود
تعرب آبائي فهلا صراهم من الموت أن لم يذهبوا وجدودى
(١) يريد بالفرع الشعر التام. والوحف: الأسود. والليت: صفحة العنق. ويريد بقنوان الكروم عناقيد العنب، وأصل ذلك كباسة النخل، والدوالح: المثقلات بحملها.
(٢) يريد أنه يقال عنى أي أفسد، وذلك لغة أهل الحجاز، وعاث فى معناها وهى لغة التميميين، وكأنه يرى الأولى أصل الثانية كصرى وصار.
(٣) صرت نظرة أي قطعت نظرة أي فعلت ذلك. والجوز: وسط الشيء. والعواصى جمع العاصي وهو العرق، ويقال: نعر العرق: فار منه الدم.
174
وقوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ...... (٢٦٦)
ثم قال بعد ذلك (وأصابه الكبر) ثُمَّ قال (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) فيقول القائل: فهل يجوز فِي الكلام أن يقول: أتود أن تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز فِي وددت لأن العرب تلقاها مرة ب (أن) ومرة ب (لو) فيقولون: لوددت لو ذهبت عنا، [و] وددت أن تذهب عنا، فلما صلحت بلو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يردوا فعل بتأويل لو، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهي فِي مذهبه بمنزلة لو إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوضعت فِي مواضعها، وأجيبت إن بجوابٍ لو، ولو بجواب إن قال اللَّه تبارك وتعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» «١» والمعنى- والله أعلم-: وإن أعجبتكم ثُمَّ قال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «٢» [مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ] فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال فِي قراءة أَبِي وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُوا» «٣» رده على تأويل: ودوا أن تفعلوا. فإذا رفعت (فيميلون) رددت على تأويل لو كما قال اللَّه تبارك وتعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «٤» وقال أيضا وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «٥» وربما جمعت العرب بينهما جميعا قال اللَّه تبارك وتعالى وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» «٦» وهو مثل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد قال الشاعر:
(١) آية ٢٢١ سورة البقرة. [.....]
(٢) آية ٥١ سورة الروم.
(٣) آية ١٠٢ سورة النساء.
(٤) آية ٩ سورة القلم.
(٥) آية ٧ سورة الأنفال.
(٦) آية ٣٠ سورة آل عمران.
175
قد يكسب المال الهدان الجافي بغير لا عصفٍ ولا اصطراف «١»
وقال آخر:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر سود الرءوس فوالج وفيول «٢»
وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أحدهما لغوا. ومثله قول الشاعر:
من النفر اللاء الذين إذا هُمْ تهاب اللئام حلقه الباب قعقعوا «٣»
ألا ترى أنه قال: اللاء الذين، ومعنا هما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زَيْدُ، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأما قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ضعيف الكلام شخصه متضائل
فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين [ما] «٤» لأن الأولى وصلت بالكاف، - كأنها كانت هِيَ والكاف اسمًا واحدا- ولم توصل الثانية، واستحسن الجمع بينهما. وهو فِي قول اللَّه كَلَّا لا وَزَرَ «٥» كانت لا «٦» موصولةً، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: (ما ما قلت بحسنٍ) «٧» جاز ذلك على غير عيب لأنه
(١) نسب فى اللسان (هدن) إلى رؤبة. والهدان: الأحمق الثقيل. والعصف: الكسب، وكذلك الاصطراف.
(٢) الفوالج جمع الفالج، وهو جمل ذو سنامين يجلب من السند للفحلة. والفيول جمع الفيل.
(٣) ينسب هذا إلى أبى الربيس أحد اللصوص، يقوله فى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وكان قد سرق ناقة له. وقبله:
مطية بطال لدن شب همه قمار الكعاب والطلاء المشعشع
ويروى هذا الشعر لغير عبد الله بن جعفر. وانظر الخزانة ٢/ ٥٢٩.
(٤) زيادة اقتضاها السياق.
(٥) آية ١١ سورة القيامة.
(٦) ذلك أن كلا مركبة عند الكوفيين من كاف التشبيه ولا النافية. وشدّدت اللام لتقوية المعنى.
وقد نسب هذا القول صاحب المغني إلى ثعلب.
(٧) كذا فى ج. وفى ش: «يحسن».
176
يجعل ما الأولى جحدا والثانية فِي مذهب الَّذِي. [وكذلك لو قال: من من عندك؟
جاز لأنه جعل من الأول استفهاما، والثاني على مذهب الَّذِي] «١». فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
وأما قول الشاعر:
كم نعمةٍ كانت لها كم كم وكم
إنما هذا تكرير حرف، لو وقعت «٢» على الأول أجزأك من الثاني. وهو كقولك للرجل:
نعم نعم، تكررها، أو قولك: اعجل اعجل، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين فِي شيء. وقال الشاعر: «٣»
هلا سألت جموع كن... دة يوم ولوا أَيْنَ أينا
وأما قوله: (لم أره منذ يوم يوم) فإنه ينوى بالثاني غير اليوم الأول، إنما هُوَ فِي المعنى: لم أره «٤» منذ يوم تعلم. وأما قوله:
نحمى حقيقتنا وبع... ض القوم يسقط بين بينا «٥»
فإنه أراد: يسقط هُوَ لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما فِي هذا الموضع بمنزلة قولهم: هُوَ جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة «٦» لأن الكفتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هُوَ جاري بيت بيت معناه: بيتي وبيته لصيقان.
(١) زيادة فى ج.
(٢) كذا. والأنسب: «وقفت». [.....]
(٣) هو عبيد بن الأبرص يقوله فى أبيات يردّ بها على إمرئ القيس بن حجر، وكان توعد بنى أسد قوم عبيد إذ قتلوا أبا امرئ القيس. وكندة قوم امرئ القيس. وانظر الأغانى (بولاق) ١٩/ ٨٥
(٤) من ذلك قول الفرزدق:
ولولا يوم يوم ما أردنا... لقاءك والقروض لها جزاء
قال الشنتمرى «أي لولا نصرنا لك فى اليوم الذي تعلم... » وانظر الكتاب ٢/ ٥٣
(٥) من قصيدة عبيد التي منها البيت السابق. وحقيقة الرجل ما يحق عليه أن يحميه كالأهل والولد.
(٦) أي كفاحا ومواجهة.
177
قال: كيف قال قوله: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ... (٢٦٥)
وهذا الأمر قد مضى؟ قيل: أضمرت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أعتقت عبدين، فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلّا أكن لأنه ماض فلا بد من إضمار كان لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة... ولم تجدي من أن تقرى بها بدا «١»
وقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ... (٢٦٧)
فتحت (أن) بعد إلا وهي فِي مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ يصلح. فإذا رَأَيْت (أن) فِي الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى- والله أعلم- ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أو بإغماض، أو عن إغماض، صفة «٢» غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: إن أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «٣» ومثله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «٤» هذا كله جزاء، وقوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «٥» ألا ترى أن المعنى: لا تقل إني فاعل إلا ومعها إن شاء اللَّه فلما قطعتها (إلا) عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نية الخافض فتحت. ولو لم تكن فيها (إِلا) تركت على كسرتها من ذلك أن تقول:
أحسن إن قبل منك. فإن أدخلت (إلا) قلت: أحسن إلا ألا يقبل منك. فمثله
(١) انظر ص ٦١ من هذا الجزء.
(٢) يريد أن حرف الجر المحذوف فى (أن تغمضوا) يصح تقديره على أو عن أو الباء فهو غير معين.
(٣) آية ٢٢٩ سورة البقرة.
(٤) آية ٢٣٧ سورة البقرة.
(٥) آية ٢٤ سورة الكهف.
178
قوله وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «١»، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ «٢» هُوَ جزاء، المعنى:
إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أن صارت (أن) مرفوعة ب (خير) «٣» صار لها ما يرافعها إن فتحت وخرجت من حد الجزاء. والناصب كذلك.
ومثله من الجزاء الَّذِي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عَنْهُ الجزم قولك: اضربه من كان، ولا آتيك ما عشت. فمن وما فِي موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع «٤» فِي المعنى لأن كان والفعل الَّذِي قبله قد وقعا على (من) و (ما) فتغير عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء قال الشاعر «٥» :
فلست مقاتلا أبدًا قريشا مصيبا رغم ذلك من أصابا
فِي «٦» تأويل رفع لوقوع مصيب على من.
ومثله قول اللَّه عز وجل وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ «٧» إن جعلت (من) مردودة «٨» على خفض (الناس) فهو من هذا، و (استطاع) فِي موضع «٩» رفع، وإن نويت الاستئناف بمن كانت جزاء، وكان الفعل بعدها جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول فِي الكلام: أيهم يقم فاضرب، فإن قدمت الضرب
(١) آية ٢٣٧ سورة البقرة.
(٢) آية ١٨٤ سورة البقرة.
(٣) فى ش، ج: (بخبر).
(٤) يريد أن الفعل لا يكون مجزوما، وإذا كان ماضيا لفظا فهو مراد به الاستقبال، فهو فى تأويل المضارع المرفوع. وفى الأصول: «موقوع» وهو تحريف.
(٥) هو الحارث بن ظالم. والبيت من قصيدة مفضلية. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ٥١٧ [.....]
(٦) يريد أن «أصاب» فى البيت فى موقع رفع لأن «من» مفعول «مصيب» وبهذا خرجت «من» عن معنى الجزاء، فلم يكن الفعل معها فى موضع الجزم.
(٧) آية ٩٧ سورة آل عمران.
(٨) يريد أنها بدل من (الناس).
(٩) كأنه يريد أن (استطاع) فى مكان يستطيع المرفوعة.
179
فأوقعته على أي قلت اضرب أيهم يقوم قال بعض العرب «١» : فأيُّهم ما أخذها ركب عَلَى أيِّهم يريدُ. ومنه قول الشاعر «٢» :
فإني لاتيكم تشكر ما مضى... من الأمر واستيجاب ما كان فِي غد
لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان فِي غد لأن (كان) إنما خلقت للماضي إلا فِي الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال: استيجاب أي شيء كان فِي غد.
ومثل «٣» إن فِي الجزاء فِي انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب: (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول فِي كل تصرفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا فِي معناه مما قد يحدث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أن، فقلت:
ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا، وناديت «٤» بزيد، (وهتفت بزيد) «٥» فتجد هذه الحروف تنفرد «٦» بزيد وحده والقول لا يصلح فِيهِ أن تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية فِي القول ولم تنفذ فِي النداء لاكتفائه بالاسماء. إلا أن يضطر شاعر إلى كسر إن فِي النداء وأشباهه، فيجوز له كقوله: «٧»
إني سأبدي لك فيما أبدى... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد الهند
(١) فى اللسان (أىّ) :«أيهم ما أدرك يركب على أيهم يريد».
(٢) هو الطرماح بن حكيم الطائىّ. وقبله:
من كان لا يأتيك إلا لحاجة... يروح بها فيما يروح ويغتدى
وانظر الديوان ١٤٦
(٣) كذا فى ش. وفى ح: «مثله».
(٤) كذا. وقد يكون: «صحت».
(٥) زيادة فى ش.
(٦) أي لا تحتاج إلى شىء وراءه، بخلاف القول، فلا تقول: قلت زيدا، وتسكت.
(٧) انظر فى هذا الرجز ص ٨٠ من هذا الجزء.
180
لو ظهرت إن فِي هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفي القياس أن تكسر لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول، ويلزم من فتح أن لو ظهرت أن تقول:
لي شجنين «١» شجنا بنجد.
فإذا رَأَيْت القول قد وقع على شيء فِي المعنى كانت أن مفتوحة. من ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم لأن ما فِي موضع نصب. وكذلك قلت:
زَيْدُ صالح أنه صالح لأن قولك (قلت زَيْدُ قائم) فِي موضع نصب. فلو أردت أن تكون أن مردودة على الكلمة التي قبلها كسرت فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، (وهي الكلمة التي قبلها) «٢» وإذا فتحت فهي سواها. قول اللَّه تبارك وتعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا «٣» وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أن فِي موضع خفض، ويجعلها تفسيرًا للطعام وسببه كأنه قال: إلى صبنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع «٤» من النظر عن إنا كأنه قال: فلينظر الانْسَان إلى طعامه، ثُمَّ أخبر بالاستئناف.
وقوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً... (٢٧٣)
ولا غير إلحاف. ومثله قولك فِي الكلام: قلما رَأَيْت مثل هذا الرجل ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.
(١) ونصبه بقوله: «سأبدى».
(٢) يريد أن إن وجملتها على هذا هى الكلمة التي قبلها، وهى (ما قلت). فإن فتحت، فالمقول شىء آخر محذوف، وأنّ فى موقع الجر أي قلت كذا لأن أباك قائم. هذا وفى الأصل: «والكلمة هى التي قبلها» ويبدو أنه مغير عما أثبتنا.
(٣) آية ٢٤ سورة عبس. [.....]
(٤) فى الأصل: «بالانقطاع» والوجه ما أثبت.
وقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا... (٢٧٥)
أي فى الدنيا لا يَقُومُونَ فِي الآخرة إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ والمس: الجنون، يقال رَجُل ممسوس.
وقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا... (٢٧٨)
يقول القائل: ما هذا الربا الَّذِي له بقية، فإن البقية لا تكون إلا من شيء قد مضى؟ وذلك «١» أن ثقيفا كانت تربى على قوم من «٢» قريش، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يحط، وما على ثقيف من الربا موضوع عَنْهُمْ. فلما حل الاجل على قريش، وطلب منهم الحق نزل عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فهذه تفسير البقية. وأمروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسرة، فأبوا أن يحطوا الربا ويؤخروا رءوس الأموال، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى:
[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ].
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ من قريش فَنَظِرَةٌ يا ثقيف (إلى ميسرة) وكانوا محتاجين، فقال- تبارك وتعالى-: وَأَنْ تَصَدَّقُوا برءوس الأموال خَيْرٌ لَكُمْ.
(١) هذا أخذ فى الجواب.
(٢) هم بنو المغيرة من بنى مخزوم، كانت عليهم ديون لبنى عمرو بن عمير من ثقيف.
وقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ... (٢٨١)
حدّثنا محمد بن الجهم عن الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ «١» بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ هَذِهِ، ثُمَّ قَالَ: ضَعْهَا فِي «٢» رَأْسِ الثَّمَانِينَ وَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ، وقوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... (٢٨٢)
هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هُوَ أدب ورحمة من اللَّه تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «٣» أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «٤» ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة، إنما هُوَ إذن.
وقوله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أمر الكاتب ألا يأبى لقلة الكتاب كانوا عَلَى عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فأمر الَّذِي عليه الدين بأن يمل لأنه المشهود عليه.
ثُمَّ قال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً يعنى جاهلا أَوْ ضَعِيفاً صغيرا أو امْرَأَة أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ يكون عييّا بالإملاء فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذي ولي الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب.
كلّ ذلك جائز.
(١) هو أحد الأعلام الثقات. مات سنة ١٩٣
(٢) رأى الآية آخر كلمة فيها. كالقافية فى البيت. فرأس آية ٢٨٠ هو «تَعْلَمُونَ» والمراد بالوضع فى هذه الكلمة الوضع عقبها. وبذلك تكون هذه الآية ٢٨١.
(٣) آية ٢ سورة المائدة.
(٤) آية ١٠ سورة الجمعة.
183
ثُمَّ قال تبارك وتعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليكن رَجُل وامرأتان فرفع بالرد على الكون. وإن شئت قلت: فهو رَجُل وامرأتان.
ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين «١». وأكثر ما أتى فِي القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.
وقوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما بفتح أن، وتكسر. فمن كسرها «٢» نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون «٣» فِيهِ تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه- والله أعلم- استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه.
ومثله فِي الكلام قولك: (إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطي) فالذي يعجبك الإعطاء إن يسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرت بخمسة إجمال أن يسقط مُسْلِم فأحمله، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط، لا لأن يسقط مُسْلِم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.
ومثله فِي كتاب اللَّه وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «٤» ألا ترى أن المعنى: لولا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.
(١) الجواب محذوف، أي لجاز، مثلا.
(٢) وهو حمزة. وفى هذه القراءة «فتذكر» بالرفع على الاستئناف.
(٣) وذلك أن الفتح على تقدير (لأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والأصل فى هذا:
لأن تذكر إحداهما الأخرى إن تضل.
(٤) آية ٤٧ سورة القصص.
184
وقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا إلى الحاكم.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً ترفع وتنصب «١». فإن شئت جعلت تُدِيرُونَها فِي موضع «٢» نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت «تُدِيرُونَها» فِي موضع رفع «٣». وذلك أنه «٤» جائز فِي النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثُمَّ تلقى (أحدا) فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقت «٥» فصلح نعته مكان اسمه إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك فِي المعرفة لأن المعرفة موقتة معلومة، وفعلها «٦» غير موافق للفظها ولا لمعناها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل، فترفع لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا «٧» للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق فِي النكرة؟
قلت: لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصلت «٨»، ونعت النكرة متصل بها كصلة الَّذِي. وقد أنشدني المفضل الضبي:
أفاطم إني هالك فتبيني ولا تجزعي كل النساء يئيم
ولا أنبأن بأن وجهك شانه خموش وإن كان الحميم الحميم «٩»
(١) النصب قراءة عاصم، وقرأ عامة القراء بالرفع.
(٢) أي على قراءة النصب إذ تكون الجملة صفة لتجارة المنصوبة خبرا، واسمها مستتر أي المعاملة والتجارة.
(٣) أي على أن الجملة صفة لتجارة المرفوعة فاعلا لكان التامة. [.....]
(٤) سقط فى ج.
(٥) يريد بالموقت المعرفة.
(٦) يريد بالفعل هنا الصفة.
(٧) أي المعرفتان: وفى ح: «فترتفعا».
(٨) أي قومت. وفى ش، ح: «جعلت» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا.
(٩) يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته، ويكون ذلك عند الحزن، والحميم: القريب.
ينهاها عن الحزن ومظاهره على ميت، وإن كان حميما لها قريبا.
185
فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد «١» للأول. ولو لم يكن فِي الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله فِي الكلام: ما كُنَّا بشيء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفي (كان) بالاسم «٢».
ومما يرفع من النكرات قوله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وفي قراءة عَبْد اللَّه وأبي «وإن كان ذا عسرة» فهما جائزان إذا نصبت أضمرت فِي كان اسما كقول الشاعر «٣» :
لله قومى أي قوم لحرة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا!
وقال آخر:
أعيني هلا تبكيان عفاقا «٤» إذا كان «٥» طعنا بينهم وعناقا
وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم فِي (كان) مع المنصوب لأن بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا.
وقوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» «٦» فقد أظهرت الاسماء «٧». فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع «٨» والنصب. ومثله «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» «٩» ومثله
(١) أى توكيد له.
(٢) يريد بالاسم هنا فاعل كان التامة.
(٣) فى سيبويه ١/ ٢٢ عز ومثل هذا البيت إلى عمرو بن شأس. والبيت فيه:
بنى أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وقوله: «إذا كان يوما» أى إذا كان هو أى يوم الواقعة أو يوم القتال، مثلا.
(٤) عفاق اسم رجل. وقد يكون هذا عفاق بن مرى الذى يقول فيه صاحب القاموس: «أخذه الأحدب بن عمرو الباهلى فى قحط وشواه وأكله».
(٥) أى إذا كان (هو) أى القتال والجلاد.
(٦) آية ١١ سورة النساء.
(٧) يريد نون النسوة اسم كان. أى فإن كانت المتروكات أو الوارثات.
(٨) فالرفع على أن كان تامة، والنصب على أنها ناقصة. [.....]
(٩) الآية ٢٩ سورة النساء.
186
«إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» «١» ومن قال (تكون ميتة) جاز فِيهِ الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة، وقوله «إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» «٢» فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال (تَكُنْ) «٣» ؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبة وفيها المعنى كأنه قال: إنها إن تك حبة وقال الشاعر:
على قبضة مرجوة ظهرُ كَفّه فلا المرء مُسْتحيٍ ولا هُوَ طاعم
لأنه ذهب إلى الكف ومثله قول الآخر «٤» :
وتشرق بالقول الَّذِي قد أَذَعتَه كما شَرِقت صدر القناة من الدم
وقوله:
أَبَا عرو لا تبعد فكل ابن حرة ستدعوه داعي موته فيجيب «٥»
فأنث فعل الداعي وهو ذكر لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر «٦» :
قد صرّح السير عن كتمان وابتذلت وقع المجاجن بالمهرية الذقن «٧»
فأنث فعل الوقع وهو ذكر لأنه ذهب إلى المحاجن.
وقوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ أي لا يدع كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.
(١) آية ١٤٥ سورة الأنعام.
(٢) آية ١٦ سورة لقمان. قرئ مثقال حبة بالرفع والنصب.
(٣) أي التي هى أصل تك، فحذفت منها النون.
(٤) هو الأعشى ميمون يقوله فى عمير- وهو جهام- وكان بينهما عداوة. وانظر الصبح المنير ٩٤، والكتاب ١/ ٢٥. وفى الشنتمرى فى حاشيته أن الأعشى يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني، وهو خلاف ما ذكرناه.
(٥) ذكره فى الخزانة ١/ ٣٧٧ ولم يعزه.
(٦) هو تميم بن أبى بن مقبل.
(٧) كتمان: اسم موضع، وقيل: اسم جبل. والذقن جمع الذقون، وهى من الإبل: التي تميل ذقنها إلى الأرض، تستعين بذلك على السير، وقيل هى السريعة. أي ابتذلت المهرية- وهى المنسوبة إلى مهرة- الذقن بوقع المحاجن فيها تستحث على السير، فقلبه وأنث، وقوله، «صرح السير عن كتمان» أي كشف السير عن هذا المكان.
187
وقوله: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ... (٢٨٣)
وقرأ مجاهد «١» فرهن على جمع الرهان كما قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «٢» لجمع الثمار.
وقوله: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [وأجاز قوم (قلبه) بالنصب] «٣» فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سفهت رأيك وأثمت قلبك.
وقوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا... (٢٨٥)
مصدر وقع فِي موضع أمر فنصب. ومثله: الصلاة الصلاة. وجميع الاسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت. فأمّا الاسماء فقولك: اللَّه اللَّه يا قوم ولو رفع على قولك: هُوَ اللَّه، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز أنشدني بعضهم:
إن قوما منهم عمير وأشبا... هـ عمير ومنهم السفّاح
لجديرون بالوفاء إذا قا... ل أخو النجدة السلاح السلاح
ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليل فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانك ربنا لجاز.
وقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
الوسع اسم فِي مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال فِي مثل الوجد: الوجد، وفي مثل الجهد: الجهد قال فِي مثله من الكلام: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها».
ولو قيل: وسعها لكان جائزا، ولم نسمعه «٤».
(١) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف: وانظر القرطبي ٧/ ٤٩، وإتحاف فضلاء البشر ٢١٤
(٢) آية ١٤١ سورة الأنعام.
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) هو قراءة ابن أبى عبلة.
188
وقوله رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً والإصر: العهد كذلك، قال فِي آل عِمْرَانَ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «١» والإصر هاهنا: الإثم إثم العقد إذا ضيعوا، كما شدد على بني إسرائيل.
وقد «٢» قرأت القرّاء فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ يقول: فاعلموا أنتم به.
وقرأ قوم: فآذنوا أي فأعلمِوا.
وقال ابن عَبَّاس: فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة «٣» وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة.
(١) آية ٨١
(٢) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب. [.....]
(٣) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب.
189
Icon