تفسير سورة الأنبياء

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة الأنبياء
مكية بإجماع، وآيها مئة واثنتا عشرة آية، وحروفها: أربعة آلاف وثماني مئة وتسعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وثمان وستون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)﴾ [الأنبياء: ١].
[١] ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ أي: وقت حسابهم؛ يعني: يوم القيامة،
نزلت تخويفًا لمنكري البعث، وهي عامة في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عما يُفعل بهم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ من التأهب لذلك المقام.
روي أن رجلًا من أصحاب رسول الله - ﷺ - كان يبني جدارًا، فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا أنزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليوم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ فنفض يده من البنيان وقال: والله لا بنيت أبدًا، وقد اقترب الحساب (١).
(١) انظر: "تفسير القرطبي" (١١/ ٢٦٦).
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)﴾ [الأنبياء: ٢].
[٢] ﴿مَا يَأْتِيهِمْ﴾ يعني: المشركين.
﴿مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني: القرآن ﴿مُحْدَثٍ﴾ أي: محدث التنزيل، لا نفس القرآن؛ أي: ما يأتيهم شيء من القرآن.
﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ مستهزئين به؛ لفرط غفلتهم.
...
﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)﴾ [الأنبياء: ٣].
[٣] ﴿لَاهِيَةً﴾ غافلة ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ عما يراد منها.
﴿وَأَسَرُّوا﴾ وأخفوا ﴿النَّجْوَى﴾ هي التناجي سرًّا؛ أي: كتموا ما تناجَوْا به.
﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: أشركوا، ثم بين الله تعالى سرهم الذي تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض: ﴿هَلْ هَذَا﴾ أي: محمد - ﷺ - ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة: ﴿أَفَتَأْتُونَ﴾ أفتحضرون السحر؛ أي: ما يقول، شبهوه بالسحر، المعنى: أفتتبعون ﴿السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ تعلمون أنه سحر؟!
...
﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)﴾ [الأنبياء: ٤].
[٤] ﴿قَالَ﴾ أمر للنبي - ﷺ - أن يقول لهم وللناس أجمعين: {رَبِّي يَعْلَمُ
الْقَوْلَ} أي: أقوالكم ﴿فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وهو بالمرصاد في المجازاة عليها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (قَالَ رَبِّي) بألف بعد القاف؛ أي: أخبرهم النبي - ﷺ - أن ربه يعلم القول. وقرأ الباقون: بغير ألف على الأمر، وتقدم معناه، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار (١).
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم.
...
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)﴾ [الأنبياء: ٥].
[٥] ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ أخلاط أحلام رآها في النوم.
﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ اختلقه.
﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ أي: كذاب، وما جاءكم به شعر؛ يعني: أن المشركين اقتسموا القول فيه، ولما اقتضت الآية المتقدمة أنهم قالوا: إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه الآية جميع ما قالته طوائفهم، ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة؛ ليبين اضطراب أمرهم، فبعد اختلافهم في القرآن، رجعوا إلى مقترحهم من الآيات.
فقالوا: ﴿فَلْيَأْتِنَا﴾ محمد ﴿بِآيَةٍ﴾ كالناقة والعصا.
﴿كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ بالآيات.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢٩).
﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)﴾ [الأنبياء: ٦].
[٦] فنزل: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ قبل مشركي قريش ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أي: أهل قرية عند مجيء الآيات التي اقترحوها، فلذلك ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ وهذه الأمة موعودة ألَّا تستأصل إلى قيام الساعة، فلذلك لم تُعط مقترحَها.
﴿أَفَهُمُ﴾ أي: كفار قريش ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ عند مجيء الآيات؟! هم أعتى من ذلك.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)﴾ [الأنبياء: ٧].
[٧] ونزل جواب ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ وطلبهم (١).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ قرأحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على لفظ الجمع، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يُسم فاعله (٢).
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ أهلَ العلم بالكتابين. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوا) بالنقل، والباقون: بالهمز (٣) ﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
...
(١) "وطلبهم" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٠).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٠).
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨)﴾ [الأنبياء: ٨].
[٨] ثم أعلم تعالى أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ﴾ أي: الأنبياء ﴿جَسَدًا﴾ ولم يقل: أجسادًا؛ لأنه اسم جنس.
﴿لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ هذا رد لقولهم ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان: ٧]؛ أي: لم نجعل الرسل ملائكة، بل جعلناهم بشرًا يأكلون الطعام ﴿وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ في الدنيا.
...
﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)﴾ [الأنبياء: ٩].
[٩] ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ﴾ الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ﴾ من المؤمنين بهم.
﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ المفرطين في غَيهم وكفرهم.
...
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠)﴾ [الأنبياء: ١٠].
[١٠] ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا معشر قريش ﴿كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ شرفُكم وما تحتاجون إليه من مصالح دينكم ودنياكم ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فتؤمنون.
...
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١)﴾ [الأنبياء: ١١].
[١١] ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ أهلكنا ﴿مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ أي: كافرة؛
يعني: أهلها، والقصم: الكسر بانفصال، ظاهر المعنى: أهلكنا كثيرًا من أهل القرى الظالمين.
﴿وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ أي: جئنا ببدلهم، فسكنوا مساكنهم.
...
﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢)﴾ [الأنبياء: ١٢].
[١٢] ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا﴾ أي: المهلكون ﴿بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا﴾ أي: القرية.
﴿يَرْكُضُونَ﴾ مسرعين.
نزلت هذه الآية في أهل حصورا، وهي قرية باليمن كان أهلها من العرب، فبعث الله إليهم نبيًّا يدعوهم إلى الله (١)، فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بُخت نصَّر حتى قتلهم وسباهم، فندموا وانهزموا (٢).
...
﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣)﴾ [الأنبياء: ١٣].
[١٣] فقالت لهم الملائكة: ﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ﴾ نُعِّمْتُم ﴿فِيهِ﴾ من الدنيا ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ﴾ التي كانت لكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ شيئًا من دنياكم؛ استهزاءً بهم.
...
(١) "يدعوهم إلى الله" زيادة من "ت".
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٧/ ٩).
﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤)﴾ [الأنبياء: ١٤].
[١٤] فأتبعهم بخت نصر وأصحابه (١)، وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جَوِّ السماء: يا ثارات الأنبياء! فلما رأوا ذلك ﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ اعترفوا حين لا ينفع الاعتراف.
...
﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)﴾ [الأنبياء: ١٥].
[١٥] ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ﴾ أي: قولهم: يا ويلنا ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ سميت لأنهم دعوا ويلهم ﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا﴾ أي: محصودين بالموت والسيف ﴿خَامِدِينَ﴾ ساكنين.
...
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦)﴾ [الأنبياء: ١٦].
[١٦] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ أي: عبثًا، بل لمصالح الدارين.
...
﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧)﴾ [الأنبياء: ١٧].
[١٧] ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا﴾ هو الولد والمرأة ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ من الحور والولدان والملائكة؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره.
(١) "وأصحابه" ساقطة من "ت".
﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ولكن لم نفعل؛ لاستحالته في حقنا.
...
﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)﴾ [الأنبياء: ١٨].
[١٨] ﴿بَلْ﴾ إضراب عن اتخاذ اللهو.
﴿نَقْذِفُ﴾ نرمي ﴿بِالحَقِّ﴾ الإيمان.
﴿عَلَى الْبَاطِلِ﴾ الشرك ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ يكسره ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ هالك.
﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ اللهَ سبحانه به من الولد ونحوه.
...
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)﴾ [الأنبياء: ١٩].
[١٩] ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ عبيدًا وملكًا ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ من الملائكة، نسبوا إليه تشريفًا، لا أنه تعالى في مكان.
﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ لا يتعظمون عنها ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ يَعْيَون.
...
﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)﴾ [الأنبياء: ٢٠].
[٢٠] ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ يضعُفون، وأصل الفتور: السكون بعد حدَّة.
***
﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)﴾ [الأنبياء: ٢١].
[٢١] ﴿أَمِ﴾ معناها: بل ﴿اتَّخَذُوا﴾ والهمزة لإنكار اتخاذهم ﴿آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾؛ لأن كل الأصنام منها.
﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ يحيون الموتى؛ زيادة توبيخ، أي: ليست آلهتهم كذلك، فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
...
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)﴾ [الأنبياء: ٢٢].
[٢٢] ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾ أي: في السماء والأرض.
﴿آلِهَةٌ إِلَّا﴾ أي: غيرُ ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض، ويهلك من فيهما؛ لوجود التمانع؛ لأن كل أمر بين اثنين أو أكثر لا يجري على نظام واحد، ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه به أهل الجهالة والكفر فقال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
...
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)﴾ [الأنبياء: ٢٣].
[٢٣] ثم وصف تعالى نفسه بأنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ سؤال إنكار؛ إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء؛ لأنه يضع الأشياء في محلها.
﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ لأنهم عبيد حقيقة، وفي أفعالهم خلل كثير.
***
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)﴾ [الأنبياء: ٢٤].
[٢٤] ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ استفهام إنكار، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في الإنكار، وزيادة على الأول، وهي قوله: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ فكأنه قررهم هنا على قصد الكفر بالله تعالى، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان بقوله (١): ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أي: حجتكم على ذلك ﴿هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿ذِكْرُ﴾ عظة ﴿مَنْ مَعِيَ﴾ على ديني. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢) ﴿وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ يعني: الكتب المنزلة، ومعناه: راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدًا؟ فلما لم يرجعوا عن كفرهم، أضرب عنهم فقال:
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي: جميع الكفار.
﴿لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ القرآنَ والتوحيد؛ لجهلهم.
﴿فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن النظر فيما يجب عليهم.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾ [الأنبياء: ٢٥].
(١) "بقوله" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٢).
[٢٥] ولما أخبر تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبعَ ذلك بإعلامه أنه ما أرسل قط رسولًا إلا أوحى إليه: أن الله تعالى فرد صمد.
فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وَحِّدونِ. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على التعظيم؛ لقوله: (أَرْسَلْنَا)، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يسم فاعله (١)، وقرأ يعقوب: (فَاعْبُدُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (٢).
...
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)﴾ [الأنبياء: ٢٦].
[٢٦] ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ نزه نفسه عن ذلك ﴿بَلْ﴾ أي: بل هم.
﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ مشرفون؛ يعني: الملائكة، وهذا تكذيب وردّ لقول خزاعة: الملائكة بنات الله، والعبودية تنافي الولادة.
...
﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾ [الأنبياء: ٢٧].
[٢٧] ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ أي: يتبعون أمره، ولا يتقدمون قولَه بقولهم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٢).
﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ لا يأتون إلا مراده.
...
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)﴾ [الأنبياء: ٢٨].
[٢٨] ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما عملوا، وما هم عاملون.
﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وهو من قال: لا إله إلا الله.
﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ﴾ هيبته ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون.
...
﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾ [الأنبياء: ٢٩].
[٢٩] ثم تهدد المشركين بتهديد من يدعي الربوبية فقال: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ﴾ أي: من جميع الخلائق ﴿إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
وعن ابن عباس قال: "إن الله فضل محمدًا - ﷺ - على أهل السماء، وعلى الأنبياء -صلوات الله عليهم-، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ الآية، وقال لمحمد: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ [الفتح: ١]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٣).
الآية [إبراهيم: ٤]، وقال لمحمد: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ: ٢٨] (١).
﴿فَذَلِكَ﴾ مبتدأ، خبره ﴿نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
...
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)﴾ [الأنبياء: ٣٠].
[٣٠] ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ابن كثير: (أَلَمْ) بغير واو كما هي في المصحف المكي، وقرأ الباقون: بواو قبل اللام كما هي في مصاحفهم (٢)، المعنى: ألم يعلم الكافرون.
﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا﴾ أي: جنساهما.
﴿رَتْقًا﴾ شيئًا واحدًا، والرتق: هو الضم والالتحام.
﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ فصلنا بينهما بالهواء، فجعلت السماء سبعًا، والأرض سبعًا، وعلم الكفار ذلك ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ النازل من السماء.
﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي: أحييناه به؛ لأنه سبب حياته، والنبات داخل فيه.
﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ مع ظهور الآيات؟!
...
(١) رواه الدارمي في "سننه" (٤٦)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١١٦١٠)، والحاكم في "المستدرك" (٣٣٣٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (١٥١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٣).
﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)﴾ [الأنبياء: ٣١].
[٣١] ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ جبالًا ثوابتَ ﴿أَنْ﴾ أي: لئلَّا.
﴿تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أي: تتحرك ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾ في الرواسي ﴿فِجَاجًا﴾ طرقًا واسعة ﴿سُبُلًا﴾ تفسير الفجاج ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إلى مصالحهم.
...
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢)﴾ [الأنبياء: ٣٢].
[٣٢] ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ أي: أن تقع على الأرض إلا بإذنه.
﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا﴾ التي فيها من الشمس والقمر والنيرات.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون فيؤمنون.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)﴾ [الأنبياء: ٣٣].
[٣٣] ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ﴾ تنوينه بدل من محذوف، أي: كل واحد من المذكور ﴿فِي فَلَكٍ﴾ والفلك: مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك.
﴿يَسْبَحُونَ﴾ يجرون بسرعة كالسابح، وذكر ضمير (يسبحون)، وجمع جمع العقلاء؛ لوصفهم بالسباحة، وهي فعل من يعقل.
***
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤)﴾ [الأنبياء: ٣٤].
[٣٤] ونزل نفيًا للشماتة بالموت لما قال المشركون: إن محمدًا سيموت:
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ (١) البقاء.
﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ وحذفت الهمزة من (أَفَهُم)؛ لدلالة الأولى عليها. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتَّ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (٢).
...
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥)﴾ [الأنبياء: ٣٥].
[٣٥] ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ تزهق بملابسة أيسر جزء من الموت، وهذا تهويل لشأنه.
﴿وَنَبْلُوكُمْ﴾ نختبركم ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ بالشدة والرخاء، وكل ما يصح أن يكون ابتلاء.
﴿فِتْنَةً﴾ امتحانًا وكشفًا؛ ليظهر كيف شكركم فيما تحبون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فنجازيكم. قراءة الجمهور: (تُرْجَعُونَ) بالخطاب
(١) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (٧/ ٤٢٧).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٤).
بضم التاء وفتح الجيم، ويعقوب: بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الثعلبي عن ابن ذكوان: بالغيب بفتح الياء وكسر الجيم (١).
...
﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦)﴾ [الأنبياء: ٣٦].
[٣٦] ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ورش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عنه: (رَآكَ) و (رَآهُ) و (رَآهَا) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء (٢).
﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ ما يتخذونك ﴿إِلَّا هُزُوًا﴾ سخريًّا، نزلت في أبي جهل، مر به النبي - ﷺ -، فضحك وقال: هذا نبي بني عبد مناف (٣) ﴿أَهَذَا﴾ أي: يقول بعضهم لبعض: أهذا ﴿الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ أي: يعيب أصنامكم.
﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ أي: بما يذكر به من الوحدانية.
﴿هُمْ كَافِرُونَ﴾ جاحدون، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب، و (هُمْ) الثانية صلة.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٤).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٥).
(٣) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٩٨).
﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)﴾ [الأنبياء: ٣٧].
[٣٧] ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ أي: مستعجلًا، هذا توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب، وطلبهم آية مقترحة، وهي مقرونة بعذاب مجهر، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه خُلق من عجل، وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، لأنه لما دخلت الروح رأسه، أبصر ثمار الجنة، فقام نحوها عَجِلًا قبل أن تبلغ الروح رجليه ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي﴾ نقماتي، قيل لهم ذلك على جهة الوعيد أن الآيات ستأتي.
﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر.
وقرأ يعقوب: (تستَعْجِلُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)﴾ [الأنبياء: ٣٨].
[٣٨] ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ وقت العذاب.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعنون: النبي - ﷺ - وأصحابه.
...
﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)﴾ [الأنبياء: ٣٩].
[٣٩] ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾ السياط ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يمنعون من العذاب، وجواب
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٥).
﴿لَوْ يَعْلَمُ﴾ محذوف، معناه: لو علموا، لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا، ولا قالوا: متى هذا الوعد؟
...
﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)﴾ [الأنبياء: ٤٠].
[٤٠] ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ﴾ الساعة ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة.
﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ فتحيرهم.
﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يمهلون.
...
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١)﴾ [الأنبياء: ٤١].
[٤١] ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف: (وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ) بضم الدال في الوصل، وأبو جعفر: على أصله في فتح الياء من غير همز (١).
﴿بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما استهزئ بك، فصبروا.
﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فنزل بالمستهزئين العذاب جزاء استهزائهم.
...
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٦).
﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)﴾ [الأنبياء: ٤٢].
[٤٢] فاصبر أنت، و ﴿قُلْ﴾ للمستهزئين: ﴿مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ يحفظكم.
﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ من عذابه.
﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ﴾ عن القرآن ومواعظه.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يُخطرونه ببالهم.
...
﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)﴾ [الأنبياء: ٤٣].
[٤٣] ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا﴾ المعنى: أيظنون أن آلهتهم تمنعهم من دوننا؟ ثم وصف الآلهة بالضعف فقال:
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا﴾ من عذابنا.
﴿يُصْحَبُونَ﴾ يُجارون.
...
﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤)﴾ [الأنبياء: ٤٤].
[٤٤] ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ في الكلام تقدير بعد محذوف؛ كأنه قال: ليس ثَمَّ شيء من هذا كله، بل ضل هؤلاء؛ لأنا متعناهم ومتعنا آباءهم، فنسوا عقاب الله، وظنوا أن حالهم لا يبيد، ثم وقفهم تعالى على مواضع العبر في الأمم في قوله:
﴿أَفَلَا يَرَوْنَ﴾ رؤية العين يتبعها رؤية القلب ﴿أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أَطرَافِهَا للمشركين بالفتح على محمد - ﷺ -، ونزيد في أطرافها للمؤمنين نصرًا عليهم.
﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أم نحن؟
﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥)﴾ [الأنبياء: ٤٥].
[٤٥] ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ﴾ أُخَوفكم ﴿بِالْوَحْيِ﴾ بالقرآن.
﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ قرأ ابن عامر: (تُسمِعُ) بالتاء وضمها وكسر الميم من أَسمعَ، خطابًا للنبي - ﷺ -، ونصب (الصُّمَّ الدُّعَاءَ) مفعولين، وقرأ الباقون: بالياء مفتوحة غيبًا، وفتح الميم ورفع (الصُّمُّ) فاعلًا، ونصب (الدُّعَاءَ) مفعولًا (١)؛ من سمع، إخبار عن الكفار.
﴿إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ أي: هم صم عن الدعاء إلى الإيمان وقت الإنذار. واختلاف القراء في الهمزتين من (الدُّعَاءَ إِذَا) كاختلافهم فيهما من (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: ١٠٢].
﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦)﴾ [الأنبياء: ٤٦].
[٤٦] ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ﴾ شيء قليل في الدنيا ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٥)، و "تفسير البغوي" (٣/ ١٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٧).
الذين خُوِّفوا به في الأخرى، ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ عند نزولها بهم:
﴿يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بشركنا؛ أي: لدعوا على أنفسهم بالويل، واعترفوا عليها بالظلم.
...
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)﴾ [الأنبياء: ٤٧].
[٤٧] ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ أي: ذوات القسط، والقسط: العدل.
﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: لأجله ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ من الظلم.
وفي الأخبار: أن الميزان له لسان وكفتان، توزن به الأعمال (١)، ليتيين للناس المحسوس المعروف عندهم، والخفة والثقل متعلقة بأجسام يقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال، فإما أن تكون صحف الأعمال، أو مثالات تخلق، أو ما شاء الله تعالى.
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ صفة لحبة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مِثْقَالُ) برفع اللام على أن (كان) تامة؛ أي: وإن وقع زنة حبة، وقرأ الباقون: بنصب اللام (٢)، على معنى: وإن كان الشيء أو العمل
(١) سلف عند تفسير الآية (٨) من سورة الأعراف، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس، كما في "الدر المنثور" (٤/ ١٩٥)، وأخرج نحوه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة" (١٧٩٣) عن سلمان، وانظر "فتح الباري" لابن حجر (٢١/ ١٦٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٦٢)، و"النشر في =
مثقال حبة؛ أي: زنة مثقال حبة من خردل ﴿أَتَيْنَا﴾ جئنا.
﴿بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ حافظين، تَوَعَّدَهم.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾ [الأنبياء: ٤٨].
[٤٨] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ التوراة ﴿وَضِيَاءً﴾ التوراة أيضًا؛ أي: آتيناهم الفرقان مضيئًا. قرأ قنبل عن ابن كثير: (وَضِئَاءً) بهمزتين قبل الألف وبعدها، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة بعد الألف (١) ﴿وَذِكْرًا﴾ عظة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾.
...
﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)﴾ [الأنبياء: ٤٩].
[٤٩] ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ يخافونه في الخلاء كخوفه بين الناس.
﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ﴾ وأهوالها ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون.
...
﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)﴾ [الأنبياء: ٥٠].
[٥٠] ﴿وَهَذَا﴾ أي: القرآن ﴿ذِكْرٌ مُبَارَكٌ﴾ لمن تذكَّر به وتبرَّك
= القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٨).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٩).
﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ على محمد ﴿أَفَأَنْتُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ جاحدون؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١)﴾ [الأنبياء: ٥١].
[٥١] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ نبوته ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل موسى وهارون؛ أي: كما هديناهما وآتيناهما النبوة، هدينا إبراهيم واصطفيناه من قبل ذلك، وقيل معنى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: هديناه صغيرًا.
﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ أخبر تعالى أنه آتاه ذلك وهو عالم أنه لذلك أهل.
...
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢)﴾ [الأنبياء: ٥٢].
[٥٢] ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ تهاونًا بهم.
﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ الأصنام المصورة.
﴿الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا﴾ أي: عليها ﴿عَاكِفُونَ﴾ والعكوف: الملازمة للشيء، والعامل في (إِذْ) قولُه (آتينا).
...
﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣)﴾ [الأنبياء: ٥٣].
[٥٣] فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ فقلدناهم.
***
﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤)﴾ [الأنبياء: ٥٤].
[٥٤] فثم ﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ الذين قلدتموهم.
﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ خطأ ظاهر.
...
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)﴾ [الأنبياء: ٥٥].
[٥٥] ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ أي: أجادٌّ أنت فيما تقول أم تلعب؟
...
﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)﴾ [الأنبياء: ٥٦].
[٥٦] فثم أضرب عنهم مخبرًا أنه جِدٌّ، ومثبتًا الربوبية وحدوث الأصنام.
﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ عبارة عن الأصنام كأنها تعقل، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد، وقد وصفت في مواضع بما يوصف به (١) من يعقل؛ أي: فكيف يُعبد المخلوق ويُجحد الخالق؟!
﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ﴾ المذكور من التوحيد ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ بصحته.
...
﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)﴾ [الأنبياء: ٥٧].
[٥٧] ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ﴾ لأكسرن ﴿أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا﴾ عنها
(١) "به" زيادة من "ت".
﴿مُدْبِرِينَ﴾ إلى عيدكم، وكان لهم في كل سنة مجمع وعيد، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا على الأصنام، فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد، قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم! لو خرجت معنا إلى عيدنا، لأعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم، فلما كان في بعض الطريق، ألقى نفسه وقال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] يقول: أشتكي رجلي، فلما مضوا، نادى في آخرهم، وقد بقي ضَعِيفُو الناس: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ فسمعوها منه.
...
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)﴾ [الأنبياء: ٥٨].
[٥٨] ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، وكانوا قد وضعوا طعامهم لدى أصنامهم زعموا التبرك عليه، فإذا رجعوا، أكلوه، فلما لم يبق عندهم أحد، أخذ الفأس ودخل عليهم، والطعام لديهم، وقال استهزاء بهم: ﴿أَلَا تَأكُلُونَ﴾ [الصافات: ٩١]، فلم يجيبوه، فأكبَّ عليهم به (١).
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ فتاتًا. قرأ الكسائي: بكسر الجيم، والباقون: بضمها، وهما لغتان معناهما واحد (٢)، وقوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾ ونحوه معاملة للأصنام بحال من يعقل؛ من حيث كانت تُعبد وتُنزل منزلة من يعقل.
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١٧/ ٣٨). وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٣)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ٢٩٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٠).
﴿إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ أي: كسر جميع الأصنام إلا كبيرها؛ فإنه تركه ولم يكسره، وعلق الفأس في عنقه.
﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ﴾ إلى الأصنام (١)؛ أي: الصنم الأعظم.
﴿يَرْجِعُونَ﴾ فيسألونه عن كاسرها، وهذا تبكيت لهم، وإثبات للحجة عليهم.
...
﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)﴾ [الأنبياء: ٥٩].
[٥٩] فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم، ورأوا ذلك ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: من المجرمين.
...
﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠)﴾ [الأنبياء: ٦٠].
[٦٠] ﴿قَالُوا﴾ يعني: الذين سمعوا قول إبراهيم: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ يعيبهم.
﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ هو الذي نظن أنه صنع هذا.
...
﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)﴾ [الأنبياء: ٦١].
[٦١] فبلغ ذلك نمرود الجبار وأصحابه ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ أي: ظاهرًا بمرأى من الناس.
(١) "إلى الأصنام" ساقطة من "ت".
﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ أنه قال لآلهتنا ما قال، وأنه كسرها؛ لئلا نأخذه بلا بينة.
...
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (٦٢)﴾ [الأنبياء: ٦٢].
[٦٢] فلما جيء به ﴿قَالُوا﴾ له: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون عن نافع، ورويس عن يعقوب: (أَأَنْتَ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بإلف، وورش: يبدلها ألفًا خالصة، وروي عنه التسهيل بين بين، وقرأ الباقون وهم الكوفيون، وابن ذكوان، وروح: بتحقيق الهمزتين من غير فصل بينهما كل القرآن، واختلف عن هشام في الفصل بألف مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثانية بين بين وتحقيقها (١).
...
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)﴾ [الأنبياء: ٦٣].
[٦٣] ﴿قَالَ﴾ إبراهيم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار، وهو أكبر منها، فكسرهن، وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله:
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤١ - ١٤٢).
366
﴿فَاسْأَلُوهُمْ﴾ عن حالهم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوهُمْ) بالنقل، والباقون: بالهمز (١).
﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ أي: إن قدروا على النطق، قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق، وفي ضميره: أنا فعلت ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله: قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، وقوله لسارة: هذه أختي" (٢).
وملخص قصة سارة: أنه لما نجى الله خليله - ﷺ - من النمرود الجبار، استجاب له رجال من قومه على خوف من نمرودَ وملئِه، ثم إن إبراهيم وأصحابه أجمعوا على فراق قومهم، فخرج إبراهيم هو وأهله ومن معه، فنزل الرها، ثم سار إلى مصر، وصاحبها فرعون، فَذُكِرَ لفرعون جمال سارة زوج الخليل عليه السلام، وهي ابنة عمه هاران، فسأل إبراهيمَ عنها، فقال: هذه أختي؛ يعني: في الإسلام؛ خوفًا أن يقتله، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فأقبلت سارة إلى الجبار، وقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت إليه ورآها، أهوى إليها يتناولها بيده، فأيبس الله يده ورجله، فلما تخلى عنها، أطلقه الله، وتكرر ذلك منه، فأطلقها، ووهبها هاجر (٣).
(١) المصدران السابقان.
(٢) رواه البخاري (٣١٧٩)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، ومسلم (٢٣٧١)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام-.
(٣) انظر: و"تفسير ابن كثير" (٥/ ٣٥٠)، وأصل القصة في "الصحيح" كما سلف. =
367
وفي بعض الأخبار: أن الله تعالى رفع الحجاب بين إبراهيم وسارة حتى ينظر إليها من وقت خروجها من عنده إلى وقت انصرافها؛ كرامة لهما صلوات الله عليهما، وتطييبًا لقلب إبراهيم عليه السلام.
ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بين الرملة وإيليا، فهو أول من هاجر من وطنه في ذات الله، والحديث الوارد أنه لم يكذب إلا ثلاث كذبات ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يُذم فاعله، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم؛ كما أذن ليوسف عليه السلام حتى أمر مناديه فقال لإخوته: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠]، ولم يكونوا سرقوا (١).
...
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤)﴾ [الأنبياء: ٦٤].
[٦٤] ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: فتفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم.
﴿فَقَالُوا﴾ ما نراه إلا كما قال ﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بعبادتكم من لا يتكلم.
...
= وانظر: "صحيح مسلم" (٢٣٧١)، باب: من فضائل إبراهيم الخليل.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٥).
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)﴾ [الأنبياء: ٦٥].
[٦٥] ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ رُدُّوا إلى الكفر بعد اعترافهم بالظلم، ومنه: نكس المريض: عاد إلى المرض بعد العافية، وأصله قلبُ أعلى الشيء أسفله، وقالوا:
﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ أي: لقد علمت عجزهم عن المنطق، فكيف نسألهم؟!
...
﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦)﴾ [الأنبياء: ٦٦].
[٦٦] فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه السلام ﴿قَالَ﴾ لهم:
﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا﴾ إن عبدتموه.
﴿وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ إن تركتم عبادته؟!
...
﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧)﴾ [الأنبياء: ٦٧].
[٦٧] ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾ أي: نتنًا وقذرًا لكم ﴿وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أليس لكم عقل تعرفون هذا الذي يعرفه كل عاقل فتؤمنون؟! قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (أُفَّ) بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم: بكسر الفاء مع التنوين، وقرأ الباقون: بكسر الفاء من غير تنوين (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩ - ٤٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" =
﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨)﴾ [الأنبياء: ٦٨]}.
[٦٨] فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، أضربوا عن محاجته، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ﴾ بالنار؛ لأنها أوجح وأبشع.
﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ على الذي أهانها ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ النصر لها.
...
﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩)﴾ [الأنبياء: ٦٩].
[٦٩] فلما جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، حبسوه في بيت بكوثا شهرًا، وبنوا بنيانًا كالحظيرة، قيل: طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه من الحطب، وأوقدوا في نواحيه النيران، فصارت نارًا واحدة شديدة، حتى إن الطير لتحترق إذا مرت بها.
وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها، فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق، فعملوه، وعمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فغلُّوه ووضعوه في كفة المنجنيق، فثم قال إبراهيم: "لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فاستغاثت الملائكة قائلة: يا رب! هذا خليلك قد نزل به من عدوك ما أنتَ أعلمُ به، فقال تعالى: إن خليلي ليس في خليل سواه، وأنا إلهه، وليس له إله غيري، فإن استغاث بكم، فانصروه، وإلا، فخلُّوا بيني وبينه، فأتاه خازن المياه فقال له: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال له: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم:
= لابن الجزري (٢/ ٣٠٦ - ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٢).
370
لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل، وتعرض له جبريل وهو يقذف به في لجة الهواء إلى النار، وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله، فبلى، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فلم يستنصر بغير الله، ولا جنحت همته لما سوى الله، بل استسلم لحكم الله مكتفيًا بتدبير الله -عز وجل- عن تدبير نفسه، وكان يومئذ ابن ست عشرة سنة، ولما وقع في النار، لم يحترق سوى وثاقه"، فذلك قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (١) أي: ابردي ليسلم، فذهبت حرارتها وإحراقها، وبقيت إضاءتها وإشراقها.
قال ابن عباس: "لو لم يقل: بردًا وسلامًا، [لمات إبراهيم من بردها، ولو لم يقل: على إبراهيم، لبقيت بردًا وسلامًا] (٢) أبدًا" (٣).
وروي أنه لم يبق في ذلك الوقت نار بمشارق الأرض ومغاربها إلا خمدت، ظانة أنها المعنية بالخطاب، قال كعب الأحبار: "جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ؛ فإنه كان ينفخ في النار" فلذلك أمر النبي - ﷺ - بقتلها، وسماها فويسقًا (٤).
وعن علي رضي الله عنه: "أن البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم، فدعا عليها، فقطع الله نسلها، ولما
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٦ - ١٦٧)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ٣٠٣)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٨/ ١٧٥)، و"روح المعاني" للآلوسي (١٢/ ٤٢٥).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٧).
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٧)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ٣٠٤).
371
سقط في النار، تلقته الملائكة، فأجلسوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وروضة وورد ونرجس، فأقام بها سبعة أيام، وجاءه ملك بقميص من حرير الجنة، وطنفسة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وجعل يحدثه ويقول له: إن ربك يقول لك: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي" (١).
وروي أنه قال: "ما كنت قط أنعمَ مني من الأيام التي كنتُ فيها في النارِ" (٢).
...
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)﴾ [الأنبياء: ٧٠].
[٧٠] فلما رأوه، وقد أكرمه الله بما كرمه، آمن بالله جمع كبير في سر؛ خوفًا من نمرود، وخرج إبراهيم من مكانه يمشي، وفارقه جبريل عليه السلام، فأقبل نحو منزله، فأرسل إليه نمرود وسأله عن كسوته ورفيقه، فقال: "إنه ملك أرسله إلي ربي، وقص عليه القصة"، فقال نمرود: إن إلهك الذي تعبده لإله عظيم، وإني مقرب قربانًا إليه؛ لما رأيت من عزته وعظمته وقدرته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته (٣)، فقرب أربعة آلاف بقرة، ثم احترم إبراهيم بعد ذلك، وكف عنه، وقد عذب الله النمرود بإرسال البعوض عليه وعلى جيشه، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظامًا، ودخلت واحدة منها في منخر الملك نمرود، فلبثت في منخره، عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب حتى أهلكه الله عز وجل،
(١) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (٦/ ١٨٥).
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٧/ ٤٤) عن المنهال بن عمرو.
(٣) "إلا عبادته" زيادة من "ت".
وسلط الله على مدينة كوثا الزلازل حتى خربت.
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ (١) إحراقًا.
﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ في نفقاتهم على كيده.
...
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١)﴾ [الأنبياء: ٧١].
[٧١] ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ ولد هارون أخي إبراهيم من نمرود وقومه من أرض العراق.
﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ هي أرض الشام، بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأنهار والأشجار، ولأن أكثر الأنبياء يبعثون منها.
روي أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما يوم وليلة.
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢)﴾ [الأنبياء: ٧٢].
[٧٢] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ ولده لصلبه بدعائه حيث قال: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾ [الصافات: ١٠٠] ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ ولد الولد ﴿نَافِلَةً﴾ زيادة من غير سؤال.
﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
...
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣)﴾ [الأنبياء: ٧٣].
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٨).
[٧٣] ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ يقتدى بهم في الخير (١) ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ يدعون الناس إلى ديننا. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (أَئِمَّةً) بهمزتين محققتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين، وروي عنهم وجه: أنها تجعل ياء خالصة مكسورة تخفيفًا لاستثقالهم تحقيق همزتين في كلمة واحدة، وأبو جعفر يدخل بينهما ألفًا مع تسهيل الثانية، وهشام راوي ابن عامر روى عنه المد مع تحقيق الهمزة الثانية (٢).
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ وهي جميع الأعمال الصالحة.
﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ المحافظة عليها، وحذفت الهاء من (إقامة)؛ لإضافتها إلى الصلاة.
﴿وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ إعطاءها ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ موحِّدين.
...
﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤)﴾ [الأنبياء: ٧٤].
[٧٤] ﴿وَلُوطًا﴾ سمي بذلك؛ لأن حبه لِيطَ بقلب إبراهيم؛ أي: تعلق ولصق، وكان عمه إبراهيم يحبه حبًّا شديدًا، وهو ممن آمن به وهاجر معه إلى مصر وعاد إلى الشام.
﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ حكمة وفصلًا بين الخصوم ﴿وَعِلْمًا﴾ بما ينبغي علمه
(١) "يقتدى بهم في الخير" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٢ - ١٤٣).
للأنبياء عليهم السلام ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ﴾ سدوم.
﴿الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ﴾ أي: يعمل أهلها.
﴿الْخَبَائِثَ﴾ إتيان الرجال، وقطع السبل، والمكس، وغير ذلك من المعاصي.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ بعملهم الخبائث.
...
﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)﴾ [الأنبياء: ٧٥].
[٧٥] ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾ أي: في أهل رحمتنا.
﴿إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين سبقت لهم منا الحسنى.
...
﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)﴾ [الأنبياء: ٧٦].
[٧٦] ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى﴾ دعا على قومه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل إبراهيم ولوط ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ الغرق، وتكذيب قومه.
...
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)﴾ [الأنبياء: ٧٧].
[٧٧] ﴿وَنَصَرْنَاهُ﴾ منعناه ﴿مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أن يصلوا إليه بسوء.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق، والانهماك في الشر؛ لأنهما لم يجتمعا في قوم إلا أهلكهم الله.
...
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨)﴾ [الأنبياء: ٧٨].
[٧٨] ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ أي: اذكرهما ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ كان زرعًا أو كرمًا ﴿إِذ نَفَشَتْ فِيهِ﴾ دخلت فيه ﴿غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ فأكلته، والنفش: انتشار الغنم ليلًا بلا راع، وأصله الانتشار.
﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ أي: عالمين، لا يخفى علينا علمه، جمع اثنين فقال: ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ وهو يريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ [النساء: ١١]، وهو يريد: أخوين، وقيل: ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ أي: لحكم الحاكمينِ والمتحاكمين، وأقل الجمع ثلاثة حقيقة بالاتفاق.
...
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩)﴾ [الأنبياء: ٧٩].
[٧٩] ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ أي: الحكومة ﴿سُلَيْمَانَ﴾ وعلمناه القضية.
فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان؛ لأن الغنم رعت الزرع بلا راع ليلًا، فتحاكما إلى داود، فحكم لصاحب الزرع بالغنم، فقال سليمان: غير هذا أرفق بهما، وكان سنه إحدى عشرة سنة، فعزم عليه داود بالأبوة
376
والنبوة ليحكمن بينهما، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها، وإلى صاحب الغنم الحرث يصلحه، فإذا عاد كحاله حين هلك، ترادا، فقال له: القضاء ما قضيت، هذا كان في شريعتهم.
وأما في شريعتنا، فما أفسدته البهائم من الزرع والشجر وغيرهما نهارًا بلا راع، فلا ضمان على ربها عند مالك والشافعي وأحمد، وما أفسدته ليلًا، ففيه الضمان عندهم إن فرط، وإلا، فلا؛ لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح.
وعند أبي حنيفة: لا ضمان في ذلك في ليل ولأنهار، إلا أن يكون معها سائق أو قائد، إلا أن ترسل عمدًا.
واختلفوا فيما أتلفت من الأنفس والأموال سوى الزروع والثمار، فقال مالك: لا ضمان على ربها في ليل ولا نهار، وقال الشافعي: يضمن ما أتلفت من نفس ومال إذا كان معها ليلًا أو نهارًا، فإن بالت أو راثت بطريق، فتلف به نفس أو مال، فلا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا كانت يزيد راكب أو سائق أو قائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها، أو وطؤها برجلها، وقيد أحمد بما [إذا كان قادرًا على التصرف فيها، ولا يضمن عندهما ما نفحت برجلها، وقيد أحمد] (١) بما إذا لم يكبحها؛ أي: يجد بها زيادة على المعتاد، أو يضربها على وجهها، ولا يضمن عندهما ما جنت بذنبها، والله أعلم.
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
377
وكان حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بوحي عند بعض، ومنع الأنبياء من الاجتهاد؛ لاكتفائهم بالوحي، فكان حكم سليمان ناسخًا لحكم داود باجتهاد عند بعض؛ ليدركوا فضيلة المجتهدين، وجوز الخطأ عليهم؛ لأن المجتهد لا يقدر على إصابة الحق في كل حادثة، وأما العلماء، فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة، وإذا أخطأوا، فلا إثم عليهم.
وتقدم ذكر مذاهب الأئمة في جواز اجتهاد النبي - ﷺ - في أمر الدنيا، وحكم المجتهدين بعده في سورة التوبة عند ذكر قصة حنين، ومما يوضح أن داود وسليمان كانا على الصواب قوله: ﴿وَكُلًّا﴾ يعني: داود وسليمان.
﴿آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ الفهم في القضاء والنبوة.
قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده (١).
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ يقدسن الله تعالى معهُ.
﴿وَالطَّيْرَ﴾ عطف على الجبال.
﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ قادرين على المذكور من التسبيح والتفهيم، وكان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.
...
_________
(١) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (٧/ ٩٣)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (١٠/ ١١٨).
378
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ دروع ﴿لَكُمْ﴾ واللبوس في اللغة: اسم لكل ما يُلبس في الأسلحة، والمراد: الدروع؛ لأنها كانت من صفائح، فهو أول من سردها وحلقها؛ لتجتمع التحفة والحصانة.
﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ أي: يحرزكم من الحرب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بالتاء على التأنيث، يعني: الصنعة، ورواه أبو بكر، ورويس عن يعقوب: بالنون إلى الله تعالى لقوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير؛ أي: داود (١).
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ نعمتنا عليكم؟ خطاب لداود وأهل بيته، وقيل: لأهل مكة، فهل أنتم شاكرون نعمتي بطاعة الرسول؟
...
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١)﴾ [الأنبياء: ٨١].
[٨١] ﴿وَلِسُلَيْمَانَ﴾ أي: وسخرنا لسليمان ﴿الرِّيحَ﴾ وهي هواء متحرك، وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته، وتذكر وتؤنث. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحَ) بألف بعد الياء على
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٧٣)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٤).
الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد (١) ﴿عَاصِفَةً﴾ قوية.
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ هي الشام، فكانت تسير به وبجنده على البساط، وكان عرضه فرسخًا في فرسخ، منسوج بإبريسم، عملته له الجن -حيث شاء، ثم يعود من يومه إلى منزله، وكان يقيل بمكان بينه وبينه شهر، ويمسي بآخر بينه وبينه شهر، وكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل، وكان مقامه بتدمر، بناها له الشياطين بالصّفّاح والعَمَد وألوان الرخام.
﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ علمناه.
﴿عَالِمِينَ﴾ بصحة التدبير فيه، فنفعل مقتضى الحكمة.
...
﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢)﴾ [الأنبياء: ٨٢].
[٨٢] ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾ أي: وسخرنا منهم ﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾ في البحر لاستخراج الدُّرِ ونحوه ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: سواه من الأعمال.
﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ لئلا يعصوه، ولئلا يفسدوا عملهم، لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل قبل الليل، أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.
...
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٥).
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)﴾ [الأنبياء: ٨٣].
[٨٣] ﴿وَأَيُّوبَ﴾ أي: واذكره ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ لما ابتلي بفقد جميع ماله وولده، وتمزيق جسده، وكان برًّا تقيًّا رحيمًا بالمساكين، مؤديًا لحق الله، شاكرًا لأنعم الله، وتقدم ذكر نسبه في سورة النساء، وكان صاحب أموال عظيمة، وكانت له الثنية جميعها من أعمال دمشق ملكها، فابتلاه الله تعالى بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرًا، ثم ابتلاه في جسده حتى تجذم ودوَّد، وبقي رميًّا على مزبلة لا يطيق أحدٌ أن يشم رائحته (١)، ورفضه كل الناس غير زوجته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام؛ فإنها استمرت صابرة تخدمه حتى باعت ظفيرتها بشيء أكله، فتزايا لها إبليس، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم، فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربنها مئة، ثم عافاه الله تعالى بعد ثلاث سنين، أو سبع، ورزقه، ورد على امرأته شبابها وحسنها، وولدت له ستة وعشرين ذكرًا،
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (١٨/ ٥٠٥) عن الحسن، وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/ ١٧٦ - ١٧٩) في خبر طويل، وانظر "الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٨٥). ومعلوم أن الله تبارك وتعالى حمى أنبياءه -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- من كل ما ينفِّر، وعصمهم من مثل ما روي عن سيدنا أيوب -عليه السلام-. قال العلامة جمال الدين القاسمي في "محاسن التأويل" عند تفسيره لهذه الآية: إن أسانيدها مختلفة واهية، لا يقام لها وزن. وقال صاحب "أضواء البيان" (٤/ ٢٣٩): كل ذلك من الإسرائيليات، وغاية ما دلَّ عليه القرآن أن الله سبحانه ابتلى أيوب، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كلَّ ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم.
ولما عوفي، أمره الله أن يأخذ عرجونًا من النخل فيه مئة شمراخ، فيضرب به زوجته رحمة؛ ليبر في يمينه، ففعل، وكان أيوب نبيًّا في عهد يعقوب، وعاش ثلاثًا وتسعين سنة ﴿أَنِّي﴾ أي: بأني ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ أي: الضرر والشدة. قرأ حمزة: (مَسَّنِي الضُّرُّ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١) ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وشكواه لم تخرجه عن الصبر، ولذلك وصف بالصبر بقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص: ٤٤]؛ لأنها إلى الخالق بأوجز عبارة، وألطف إشارة إلى أنه تعالى أهل أن يَرحم، وأيوب أهل أن يُرحم، وفي الحديث: "إذا أحب الله عبدًا ابتلاه؛ ليسمع تضرعه" (٢).
...
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)﴾ [الأنبياء: ٨٤].
[٨٤] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ نداءه ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ﴾ أولاده، روي أن الله تعالى أحياهم ﴿وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ آتاه الله مثلهم.
﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ لأيوب ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ عظة للمطيعين؛ ليصبروا كصبره، فيثابوا كثوابه، وتأتي تتمة قصته في سورة (ص) إن شاء الله تعالى.
سئل رسول الله - ﷺ -: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٦).
(٢) رواه هنّاد بن السّري في "الزهد" (١/ ٢٣٩)، وابن حبان في "المجروحين" (٣/ ١٢٢)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٩٧٨٨)، والديلمي في "مسند الفردوس" (٩٧٠)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" (١).
...
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)﴾ [الأنبياء: ٨٥].
[٨٥] ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ يعني: ابن إبراهيم.
﴿وَإِدْرِيسَ﴾ تقدم ذكره في سورة مريم.
﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ هو بشر بن أيوب، بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام، وقبره في قرية كفل حارس من أعمال نابلس، وسمي بذلك؛ لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى، فشكر الله له، ونبأه، فسمي ذا الكفل.
﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على أمر الله.
...
﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)﴾ [الأنبياء: ٨٦].
[٨٦] ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا﴾ يعني: النبوة.
﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الكاملين في الصلاح، فإن الأنبياء صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
...
(١) رواه الترمذي (٢٣٩٨)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٤٠٢٣)، كتاب: الفتن، باب: الصبر على البلاء، والنسائي في "السنن الكبرى" (٧٤٨١)، والإمام أحمد في المسند (١/ ١٧٢)، وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)﴾ [الأنبياء: ٨٧].
[٨٧] ﴿وَذَا النُّونِ﴾ أي: اذكر صاحب الحوت، وهو يونس بن متى عليه السلام، سمي به لابتلاع النون إياه، وهو الحوت.
﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ غضب على قومه لكفرهم، لا مغاضبًا لربه؛ إذ مغاضبة الله معاداة له، ومعاداة الله كفر لا تليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء؟!
﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ﴾ أي: نُضَيِّق ﴿عَلَيْهِ﴾ قراءة العامة: بالنون مفتوحة وكسر الدال، وقرأ يعقوب: بالياء مضمومة وفتح الدال مخففة على المجهول (١).
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ بطن الحوت والبحر والليل ﴿أَنْ﴾ أي: بأن ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بمغاضبتي، روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: وإما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له" (٢).
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٨٨ - ١٨٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٦).
(٢) رواه التر مذي (٣٥٠٥)، كتاب: الدعوات، باب: (٨٢)، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٠٤٩٢)، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ١٧٠)، وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)﴾ [الأنبياء: ٨٨].
[٨٨] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أجبناه ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ من تلك الظلمات.
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ من كل كرب إذا استغاثوا بنا. قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُجِّي) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، على معنى: (نُنَجِّي)، ثم حذفت إحدى النونين تَخفيفًا، كما جاء عن ابن كثير وغيره قراءة ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ في الفرقان [الآية: ٢٥]، قال الإمام أبو الفضل الرازي في كتابه "اللوامح": ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ على حذف النون الذي هو فاء الفعل من (نُنَزِّل). قراءة أهل مكة ووجه النضب في المؤمنين: أن المصدر قام مقام الفاعل، فبقي الـ (المؤمنين) مفعولًا به صريحًا، تقديره: نجي النجاء المؤمنين، ونظيره ﴿ليَجْزِىَ قَوْمَا﴾ على قراءة أبي جعفر في الجاثية [الآية: ١٤]؛ أي: ليجزي الجزاء قومًا، وقرأ الباقون: بنونين، الثانية ساكنة مع تخفيف الجيم مستقبل أنجينا، وقد اعترض الزمخشري وغيره على قراءة ابن عامر وأبي بكر، وزعموا أنها لحن، فرد الكواشي اعتراضهم، وبين وجه الصحة فيها، وأشبع الكلام في ذلك (١).
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٠)، و"الكشف" لمكي (٢/ ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٨٩ - ١٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٧).
385
وتقدم ذكر يونس عليه السلام، ووفاته، ومحل قبره في سورة النساء [الآية: ١٦٣]، وتقدم طرف من ذكر قصته في سورة يونس [الآية: ٩٨]، ولنذكر في هذا المحل باقيها باختصار، فنقول وبالله التوفيق: يونس بن متى عليه السلام، قيل: إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وتزوج بنت رجل من الأولياء اسمه زكريا كان مقيمًا بالرملة، فأقام يونس عنده، ثم بعد وفاة زكريا، توجه إلى بيت المقدس يعبد الله تعالى، وكانت بعثته في أيام يوثم بن عَزِّيا هو أحدِ ملوك بني إسرائيل، وبعثه الله إلى أهل نينوى قبالة الموصل، بينهما دجلة، وكانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم وواعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا، وضمن ذلك عن ربه -عز وجل-، وخرج يونس من بين أظهرهم، فلما أظلهم العذاب، آمنوا، فكشفه الله عنهم كما تقدم في سورة يونس، وجاء يونس لذلك اليوم، فلم ير العذاب حل بهم، ولا علم بإيمانهم، فذهب مغاضبًا، ودخل في سفينة من سفن دجلة، فوقفت السفينة ولم تتحرك، فقال رئيسها: فيكم من له ذنب، فتساهموا على من يلقونه في البحر، فوقعت المساهمة على يونس، فرموه، فالتقمه الحوت، وسار به إلى الأيكة، وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به.
وملخص قصته: أن الحوت التقمه، فكان يونس يسجد على قلب الحوت، والحوت يقول: يا يونس! أسمعني تسبيح المغمومين، وهو يقول: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فتقول الملائكة: "إلهنا! إنا نسمع تسبيح مكروب، كان لك شاكرًا، اللهم فارحمه في كربته وغربته"، واختلف في مدة لبثه، فمنهم من قال: أربعين يومًا، وقيل: ثلاثة أيام، فلما انقضت مدة قدرها الله تعالى له، أمر الحوت أن يرده إلى الموضع الذي أخذه منه، فشق ذلك على الحوت؛ لاستئناسه بذكر الله
386
تعالى، فقيل له: اقذفه، فقذفه في الساحل، فذلك قوله تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)﴾ [الصافات: ١٤٥]، وخرج يونس مثل الفرخ المنتوف (١)، وقد ذهب بصره، وهو لا يقدر على القيام، فأنبت الله شجرة من يقطين لها أربعة آلاف غصن، فكانت فِراشه وغطاءه، وأمر الله الظبية فجاءته وأرضعته حتى قوي، وهبط جبريل -عليه السلام-، فسلم عليه، وأمرَّ يده على رأسه وجسده، فأنبت الله لحيته، ورد عليه بصره، وأوحى الله إليه بإيمان قومه حين رأوا العذاب، ثم هبط إليه ملك، ودفع إليه حلتين، وقال: سر إلى قومك؛ فإنهم يتمنونك، فاتزر بواحدة، وارتدى بأخرى، وسار يونس -عليه السلام-، فاجتمع بزوجته وولديه قبل وصوله إلى قومه، ثم وصل الخبر إلى قومه، فوثب الملك عن سريره، وخرجوا كلهم إلى يونس -عليه السلام-، وسلموا عليه، وفرحوا به، وحملوه إلى المدينة، وأقام فيهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى أن توفاه الله تعالى، وفي قصته خلاف بين المفسرين والمؤرخين، والله أعلم.
...
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩)﴾ [الأنبياء: ٨٩].
[٨٩] ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى﴾ دعا.
﴿رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ بلا ولد يرثني.
(١) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٧/ ٤٥٩)، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (٣٨)، و"العقوبات" (١٧١) عن عبد الله بن مسعود، ولم يرفعه، بلفظ: "كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش" ولم أقف على باقيه، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر: (١٠/ ٢١٢).
﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ خير من يبقى بعد من يموت. واختلاف القراء في الهمزتين من (زَكَرِيَّا إِذْ) كاختلافهم فيهما في أول سورة مريم.
...
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ ولدًا.
﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ بتحسين خَلْقها وخُلقها، وجعلِها ولودًا بعد العقم ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي: مَنْ ذُكر من الأنبياء.
﴿كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يبادرون في عمل الطاعات.
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ طمعًا وخوفًا.
﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ متواضعين ذللًا. قرأ الدوري عن الكسائي: ﴿يُسَارِعُونَ﴾ بالإمالة، وأمال أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (مُوسَى) و (عِيسَى) و (يَحْيَى) حيث وقع (١).
...
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ منعته مما لا يحل، وهي مريم بنت عمران.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١١ - ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٨).
﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ أمرنا جبريلَ حتى نفخ في جيب درعها، فأجرينا فيها روح عيسى -عليه السلام- المخلوقة.
﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ دلالة على كمال قدرتنا حمل امرأة بلا مساسة ذكر، وكون ولد من غير أب، ووحد الآية، ولم يقل: آيتين؛ لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما آية؛ لأن الآية فيهما واحدة.
...
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الأمة: الملة، و (هذه) إشارة إلى الإسلام، فأبطل ما سواه من الأديان، و (أمتكم) رفع خبر (إن)، و (أمة واحدة) نصب حال.
﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ قرأ يعقوب: (فَاعْبُدُونِي) بإثبات الياء (١).
...
﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة فقال: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي: اختلفوا في الدين، فصاروا فرقًا.
﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ فنجازيه.
...
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩٤).
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ لا يجحد عمله ﴿وَإِنَّا لَهُ﴾ للسعي ﴿كَاتِبُونَ﴾ في صحيفة عمله، فنثيبه عليه.
...
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي: وحرام على أهل قرية حكمنا بإهلاكهم أن تقبل أعمالهم؛ لأنهم لا يرجعون عن كفرهم، وقيل: المعنى: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا بعد الهلاك. قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (وَحِرْمٌ) بكسر الحاء وإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتح الحاء والراء وألف بعدها، ومعناهما واحد؛ لأنهما لغتان مثل حِلّ وحلال (١).
...
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ أي: فتح سدهما. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (فُتِّحَتْ) بالتشديد على التكثير،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٠).
والباقون: بالتخفيف (١)، وتقدم تفسير يأجوج ومأجوج، واختلاف القراء فيهما في سورة الكهف (٢).
﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ هو المكان المرتفع ﴿يَنْسِلُونَ﴾ يسرعون.
...
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ هو يوم القيامة ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ﴾ مرتفعة الأجفان ﴿أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فلا تكاد تطرف؛ لهول ما ترى، يقولون:
﴿يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾ اليوم.
﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بوضعنا العبادة في غير موضعها.
...
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾.
[٩٨] ونزل خطابًا لعابدي الأصنام وإبليس وأتباعه:
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥١).
(٢) عند تفسير الآية (٩٤) منها.
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ ما يُرمى به فيها للوقود.
﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ فيها داخلون.
...
﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ثم وبخهم، وأخبرهم أن آلهتهم يدخلون النار بقوله: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: الأصنام ﴿آلِهَةً﴾ على الحقيقة ﴿مَا وَرَدُوهَا﴾ لأن المؤاخذ المعذب لا يكون إلهًا.
﴿وَكُلٌّ﴾ من العابد والمعبود منهم ﴿فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا خلاص لهم منها. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: ﴿هَؤُلاَءِ آلِهَةً﴾ بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل ياء (١).
...
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ أنين وتنفس شديد.
﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ شيئًا؛ لشدة غليان النار، ولما بهم من الألم، ومنعوا السمع؛ لأن فيه (٢) أنسًا.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٣).
(٢) في "ت": "فيها".
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١)﴾.
[١٠١] ولما سمع عبد الله بن الزبعرى السهمي ذلك، قال للنبي - ﷺ -: أليس اليهود عبدوا عزيرًا، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟ فنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا﴾ (١) المنزلة ﴿الْحُسْنَى﴾ السعادة، يعني: عزيرًا والمسيح والملائكة.
﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ وأنزل في ابن الزبعرى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)﴾ [الزخرف: ٥٨].
...
﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ خَالِدُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ صوتها الخفي إذا دخلوا الجنة.
﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ﴾ من النعيم ﴿خَالِدُونَ﴾ مقيمون.
...
﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ﴾ قرأ أبو جعفر: بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (٢) ﴿الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ النفخة الآخرة
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٤ - ١٧٥).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٣).
﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ تستقبلهم عند باب الجنة مهنئين يقولون لهم:
﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فيه الجنة والثواب.
...
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿يَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ وطيُّها: تكوير نجومها، ومحو رسومها. قرأ أبو جعفر: (تُطْوَى) بالتاء وضمها على التأنيث وفتح الواو ورفع (السَّمَاءُ) على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بالنون مفتوحة على التعظيم وكسر الواو ونصب (السَّمَاءَ) (١).
﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (لِلْكُتُبِ) بضم الكاف والتاء من غير ألف على الجمع، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح التاء مع الألف على الإفراد (٢)، و (السِّجِل) الصحيفة (للكتب)؛ أي: لأجل ما كتب، معناه: كطي الصحيفة على مكتوبها، والسجل: اسم مشتق من المساجلة، وهي المكاتبة، والطيُّ: هو الدرج الذي ضد النشر، ثم أومأ إلى تبديل السماء فقال:
﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ نرده مثل أول خلقه، وأول خلقه إيجاد
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٩٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٥).
عن عدم، والخلق هنا يعم جميع الخلائق، المعنى: كما أوجدناه عن عدم، فكذلك نعيده عند البعث عن عدم.
﴿وَعْدًا عَلَيْنَا﴾ مصدر مؤكد؛ لأن نعيده عِدة بالإعادة.
﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ذلك.
...
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ وفي جميع الكتب المنزلة. قرأ حمزة، وخلف: (الزُّبُورِ) بضم الزاي، والباقون: بفتحها (١).
﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ أي: اللوح المحفوظ؛ لأنها كلها أخذت منه ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾ أي: أرض الجنة، أو الأرض المقدسة.
﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ هو محمد - ﷺ - وأمته، يفتحون أرض الكفار، ويدخلون الجنة. قرأ حمزة: (عِبَادِي الصَّالِحُونَ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦)﴾ [الأنبياء: ١٠٦].
[١٠٦] ﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿لَبَلَاغًا﴾ لكفاية.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٥).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٥).
﴿لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ عاملين، وهم أمة محمد - ﷺ -.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
[١٠٧] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ جميعًا، فهو رحمة للمؤمن في الدارين، وللكافر في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ ونحوه.
...
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)﴾ [الأنبياء: ١٠٨].
[١٠٨] ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ منزه عما لا يليق بصفات الوحدانية ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ استفهام بمعنى الأمر؛ أي: آمنوا بالمذكور.
...
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩)﴾ [الأنبياء: ١٠٩].
[١٠٩] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الإيمان ﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ﴾ أعلمتكم.
﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ فاستوينا في العلم بما أعلمتكم به ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ وما أعلم.
﴿أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ أي: لا أعلم متى يحل بكم العذاب، وهو (١) أهولُ وأخوفُ.
...
(١) في "ت": "وهذا".
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠)﴾ [الأنبياء: ١١٠].
[١١٠] ﴿إِنَّهُ﴾ الضمير عائد إلى الله عز وجل ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ وفي هذه الآية تهديد؛ أي: يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم، وهو بالمرصاد في الجزاء عليها.
...
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١)﴾ [الأنبياء: ١١١].
[١١١] ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ﴾ أي: تأخير العذاب عنكم.
﴿فِتْنَةٌ لَكُمْ﴾ أي: اختبار؛ ليرى كيف صنيعكم، وهو أعلم.
﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي: تمتعون إلى انقضاء آجالكم.
...
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢)﴾ [الأنبياء: ١١٢].
[١١٢] ﴿قَالَ﴾ قرأ حفص عن عاصم: (قَالَ) بالألف إخبار عن النبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: (قُلْ) بغير ألف على الأمر (١)؛ أي: أمره الله تعالى أن يقول على جهة الدعاء: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقرأ أبو جعفر: (رَبُّ) بضم الباء، وقال ابن الجزري: ووجهه أنه لغة معروفة جائزة في نحو يا غلامي تنبيهًا على الضم، وأنت تنوي الإضافة، وليس ضمه على أنه منادى مفرد؛ كما ذكره أبو الفضل الرازي؛ لأن هذا ليس من نداء النكرة المقبل عليها،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٦).
397
وقرأ الباقون: بكسر الياء اكتفى بها عن الياء (١)، ومعنى ﴿احْكُمْ﴾: افصل بيني وبين مكذبي بالعذاب، فالحق بمعنى العذاب هنا، فعذبوا يوم بدر، وقرأ زيد عن يعقوب: (رَبِّي) بالياء (أَحْكَمُ) بقطع الألف وفتح الكاف ورفع الميم على وزن أفعل على الابتداء والخبر من الإحكام (٢).
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ من الكذب والباطل. قرأ الدوري عن ابن ذكوان: (يَصِفُونَ) بالغيب، وقرأ الباقون: بالخطاب (٣)، والله أعلم.
...
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٦).
(٢) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: ٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٧)، وهذه القراءة ليست متواترة عن يعقوب.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٧).
398
Icon