تفسير سورة آل عمران

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

[٣] شرح إعراب سورة آل عمران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس بمصر في قول الله عزّ وجلّ:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)
الم اللَّهُ وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «١» وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي الم اللَّهُ «٢» بقطع الألف. قال الأخفش سعيد: ويجوز الم اللَّهُ بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلّم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه «٣» أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين واختاروا لها الفتح لئلا يجمعوا بين كسرة وياء وكسرة قبلها. قال سيبويه: ولو أردت الوصل لقلت:
الم الله ففتحت الميم لالتقاء الساكنين كما فعلت بأين وكيف. قال الكسائي: حروف التهجّي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حرّكتها بحركة الألف فقلت: الم الله والم اذكروا والم اقتربت. وقال الفراء «٤» : الأصل: الم الله كما قرأ الرؤاسي ألقيت حركة الهمزة على الميم، وقال أبو الحسن بن كيسان: الألف التي مع اللام بمنزلة «قد» وحكمها حكم ألف القطع لأنهما حرفان جاءا لمعنى وإنما وصلت لكثرة الاستعمال فلهذا ابتدئت بالفتح. قال أبو إسحاق «٥» : الذي حكاه الأخفش من كسر الميم خطأ لا يجوز ولا تقوله العرب لثقله. الْحَيُّ الْقَيُّومُ وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(١) عمرو بن عبيد، أبو عثمان البصري، روى الحروف عن الحسن البصري، وهو رأس المعتزلة. وردت له رواية في حروف القرآن (ت ١٤٤ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٦٠٢. [.....]
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٩
(٣) انظر الكتاب ٤: ٢٦٥
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٩.
(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٢٧.
القيّام وقال «١» خارجة «٢» في مصحف عبد الله الحيّ القيّم «٣». قال أبو جعفر:
القيّوم فيعول الأصل فيه قيووم ثم وقع الإدغام، والقيّام الفيعال الأصل فيه القيوام ثم أدغم وقيّم فيعل عند البصريين الأصل فيه قيوم ثم أدغم، وزعم الفراء «٤» أنّه فعيل. قال ابن كيسان: لو كان كما قال لما أعلّ كما لم يعلّ سويق وما أشبهه. اسم الله عزّ وجلّ مرفوع بالابتداء، والخبر نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ والْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت، وإن شئت كان الخبر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم جيء بخبر بعد خبر. مُصَدِّقاً نصب على الحال، وعند الكوفيين على القطع قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اشتقاق التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ في الكتاب الذي قبل هذا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤ الى ٦]
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
مِنْ قَبْلُ غاية وقد ذكرناه «٥» وهُدىً في موضع نصب على الحال ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. إِنَّ الَّذِينَ اسم إنّ والصلة كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ والخبر لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ابتداء وخبر، وكذا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وروى العباس بن الفضل «٦» عن أبي عمرو هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
هذه الآية كلها مشكلة. وقد ذكرناها، وسنزيدها شرحا إن شاء الله. قال أبو جعفر: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٤]
(١) انظر معاني الفراء ١/ ١٩٠، وهي قراءة إبراهيم النخعي والأعمش وابن مسعود وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء أيضا. وانظر المحتسب ١/ ١٥١.
(٢) خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي: أخذ القراءة عن نافع وأبي عمرو، وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه، وروى أيضا عن حمزة حروفا. (ت ١٦٨ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٦٨.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه (١٩)، والمحتسب ١/ ١٥١، وهي قراءة علقمة بن قيس.
(٤) انظر الإنصاف مسألة ١١٥.
(٥) انظر إعراب الآية (٢٥) سورة البقرة.
(٦) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الأنصاري، قاضي الموصل، حاذق من أكابر أصحاب أبي عمرو (ت ١٨٦ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٥٣.
143
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: ٨٢] والمتشابهات نحو إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:
٥٣] يرجع فيه إلى قوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: ٨٢] وإلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] فأما ترك صرف «أخر» فلأنها معدولة عن الألف واللام. وقد ذكرناه «١». فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ «الذين» في موضع رفع بالابتداء والخبر فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ويقال زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ مفعول من أجله أي ابتغاء الاختبار الذي فيه غلوّ وإفساد ذات البين ومنه فلان مفتون بفلانة أي قد غلا في حبّها. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ عطف على الله جلّ وعزّ. هذا أحسن ما قيل فيه لأن الله جلّ وعزّ مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم جهّال. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أكثر من هذا الاحتجاج فأما القراءة المرويّة عن ابن عباس وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم «٢» فمخالفة لمصحفنا وإن صحّت فليس فيها حجة لمن قال الراسخون في العلم ويقول الراسخون في العلم آمنا بالله فأظهر ضمير الراسخين ليبيّن المعنى كما أنشد سيبويه: [الخفيف] ٧٠-
لا أرى الموت يسبق الموت شيء... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «٣»
فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين في العلم بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأواه [التوبة: ١١٤] وما غِسْلِينٍ [الحاقة: ٣٦] فهذا لا يلزم لأن ابن عباس رحمه الله قد علم بعد ذلك وفسّر ما وقف عنه، وجواب أقطع من هذا إنما قال الله عزّ وجلّ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ولم يقل جلّ وعزّ: وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحدهم علمه الآخر. قال ابن كيسان:
ويقال: الراصخون بالصاد لغة لأنّ بعدها خاء. يَقُولُونَ في موضع نصب على الحال من الراسخين كما قال: [مجزوء الكامل] ٧١-
الرّيح تبكي شجوه... والبرق يلمع في الغمامه «٤»
ويجوز أن يكون الراسخون في العلم تمام الكلام ويكون يقولون مستأنفا.
(١) انظر إعراب الآية ١٨٤- سورة البقرة.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١٩١.
(٣) الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه ٦٥، والأشباه والنظائر ٨/ ٣٠، وخزانة الأدب ١/ ٣٧٨، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٦، ١١٨، ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه ١/ ١٢٥، وشرح شواهد المغني ٢/ ١٧٦، والكتاب ١/ ١٠٦، ولسوادة أو لعدي في لسان العرب (نغص)، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/ ١٥٣، وخزانة الأدب ٦/ ٩٠ و ١١/ ٣٦٦، والخصائص ٣/ ٥٣، ومغني اللبيب ٢/ ٥٠٠.
(٤) الشاهد ليزيد بن مفرغ الحميري في ديوانه ص ٢٠٨.
«الريح تبكي شجوها... والبرق يضحك في الغمامه»
وفي لسان العرب (درك)، وفي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ١٢٧، وغير منسوب في الأضداد لابن الأنباري ٤٢٤. [.....]
144

[سورة آل عمران (٣) : آية ٨]

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا جزم لأن لفظه لفظ النهي، ويجوز لا تزغ قلوبنا رفع بفعلها، ويجوز لا يزغ قلوبنا على تذكير الجميع. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً لم تعرب لدن لأنها غير متمكّنة وفيها تسع لغات: لغة أهل الحجاز لدن ويقال: لدن بإسكان النون ولدن بكسرها. قال الفراء: بعض بني تميم يقول لد قال العجاج: [الرجز] ٧٢-
من لد شولا فإلى إتلائها «١»
وحكى الكسائي لد يا هذا، وحكى أبو حاتم لد بإسكان الدال. قال الفراء: ربيعة تقول: من لدن يا هذا بإسكان الدال وكسر النون، وأسد يقولون: لدن بضم اللام والدال وإسكان النون، وحكى أبو حاتم لدن يا هذا بضم اللام وإسكان الدال، ويقال:
لدي بمعنى لدن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ويجوز جامع الناس بالتنوين والنصب وهو الأصل وحذف التنوين استخفافا، ويجوز جامع الناس بغير تنوين وبالنصب، وأنشد سيبويه:
[المتقارب] ٧٣-
فألفيته غير مستعتب... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «٢»
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وقرأ أبو عبد الرّحمن لن يغني عنهم أموالهم لأنه قد فرق وهو تأنيث غير حقيقي. قال أبو حاتم: بالتاء أجود مثل شَغَلَتْنا أَمْوالُنا [الفتح: ١١]. وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرّف وَقُودُ بضم الواو ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن يقول: أقود مثل أُقِّتَتْ [المرسلات: ١١].
(١) الرجز بلا نسبة في شرح المفصّل ٤/ ١٠١، و ٨/ ٣٥، والكتاب ١/ ٣٢٢، ولسان العرب (لدن)، ومغني اللبيب ٢/ ٤٢٢، والمقاصد النحوية ٢/ ٥١، وهمع الهوامع ١/ ١٢٢، وهو غير موجود في ديوان العجاج.
(٢) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ٥٤، والأشباه والنظائر ٦/ ٢٠٦، وخزانة الأدب ١١/ ٣٧٤، والدرر ٦/ ٢٨٩، وشرح أبيات سيبويه ١/ ١٩٠، وشرح شواهد المغني ٢/ ٩٣٣، والكتاب ١/ ٢٢٤، ولسان العرب (عتب) و (عسل)، والمقتضب ٢/ ٣١٣، والمنصف ٢/ ٢٣١، وبلا نسبة في الإنصاف ٢/ ٦٥٩، ورصف المباني ص ٤٩، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٥٣٤، وشرح المفصل ٢/ ٦، ٩/ ٣٤، ومجالس ثعلب ص ١٤٩، ومغني اللبيب ٢/ ٥٥٥، وهمع الهوامع ٢/ ١٩٩.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١١]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
قد ذكرنا موضع الكاف، وزعم الفراء «١» أن المعنى: كفرت العرب كفرا ككفر آل فرعون. قال أبو جعفر: لا يجوز أن تكون الكاف متعلّقة بكفروا لأن كفروا داخل في الصلة وكدأب خارج منها. قال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر «كدأب» «٢» بفتح الهمزة وقال لي وأنا غليّم: على أيّ شيء يجوز «كدأب» فقلت: أظنّه من دئب يدأب دأبا فقيل ذلك منّي وتعجّب من جودة تقديري على صغري ولا أدري أيقال ذلك أم لا؟
قال أبو جعفر: هذا القول خطأ لا يقال البتّة: دئب، وإنما يقال: دأب يدأب، دؤبا ودأبا، هكذا حكى النحويون منهم الفراء، حكى في «كتاب المصادر» كما قال:
[الطويل] ٧٤-
كدأبك من أمّ الحويرث قبلها وجارتها أمّ الرّباب بمأسل «٣»
فأما الدأب فإنه يجوز كما يقال: شعر وشعر ونهر ونهر لأن فيه حرفا من حروف الحلق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى إحداهما فئة وقرأ الحسن ومجاهد فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ بالخفض على البدل قال أحمد بن يحيى ويجوز النصب على الحال أي التقتا مختلفتين قال أبو إسحاق «٤» :
النصب بمعنى أعني. ترونهم مّثليهم «٥» نصب على الحال، ومن قرأ ترونهم «٦» فالنصب عنده على خبر ترى وقد ذكرنا المعنى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
(١) انظر معاني الفراء ١/ ١٩١.
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ٤٠٧.
(٣) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص ٩، وجمهرة اللغة ص ٦٨٨، وخزانة الأدب ٣/ ٢٢٣، والمنصف ١/ ١٥٠، وتاج العروس (أسل).
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٣٥.
(٥) انظر تيسير الداني ٧٢.
(٦) انظر البحر المحيط ٢/ ٤٠٧، والمحتسب ١/ ١٥٤.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ اسم ما لم يسمّ فاعله، وحرّكت الهاء من الشهوات فرقا بين الاسم والنعت ويجوز إسكانها لأن بعدها واوا. قال ابن كيسان: قال بعضهم لا تكون الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ أقلّ من تسعة لأن معناها المجمّعة فالثلاثة قناطير فإذا جمعتها صارت مثل قولك: ثلاث ثلاثات. الذَّهَبِ مؤنثة، يقال: هي الذهب الحسنة، وجمعها ذهاب وذهوب ويجوز أن يكون جمع ذهبة وجمع فضة فضض، والخيل مؤنّثة. قال ابن كيسان: حدّثت عن أبي عبيدة أنه قال: واحد الخيل خائل مثل طائر وطير وقيل له: خائل لأنه يختال في مشيته قال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم تك إلّا للإبل فإذا قلت: أنعام وقعت للإبل وكلّ ما ترعى. لا يجوز أن تدغم الثاء من «الحرث» في الذال من «ذلك» كما فعلت في يَلْهَثْ ذلِكَ [الأعراف: ١٧٦] لأن الراء من الحرث ساكنة فلو أدغمت اجتمع ساكنان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ، لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي رفع بالابتداء أو بالصفة. قال أبو حاتم: ويجوز جنات «١» بالخفض على البدل من خير، سمعت يعقوب يذكر ذلك وغيره ويجوز بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج: ٧٢] بالخفض. قال ابن كيسان: ويجوز «جنّات» بالخفض على البدل وبالنصب على إعادة الفعل ويكون للذين متعلقا بقوله: أَأُنَبِّئُكُمْ على قول الفراء «٢» وتبيينا على قول الأخفش أي ملغاة.
وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ عطف على جنات.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦)
قال الَّذِينَ يَقُولُونَ في موضع خفض أي للذين اتقوا عند ربهم الذين يقولون، إن شئت كان رفعا أي هم الذين ونصبا على المدح أي أعني الذين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧]
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
الصَّابِرِينَ بدل من الذين إذا كان نصبا أو خفضا وإن كان رفعا كان الصابرين
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٤١٧، وهي قراءة يعقوب.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١٩٦.
بمعنى أعني الصابرين. وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ عطف كلّه. بِالْأَسْحارِ واحدها سحر تقول: سير به سحر يا فتى، لا ينصرف لأنه معدول عن الألف واللام وهو معرفة ولا يجوز أن يرفع إذا كان معرفة لأن الظروف إنما ترفع هاهنا مجازا فإذا وقعت فيها علّة أقرّت على بابها نصبا فإن نكّرته جاز فيه الرفع وصرف. قال أبو إسحاق «١» : السحر من حيث يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قد ذكرنا فيه قراءات وفسّرنا إعرابها فأما قراءة أبي المهلب «٢» شُهَداءَ لِلَّهِ «٣» فهي نصب على الحال وروي عنه شُهَداءَ لِلَّهِ أي هم شهداء لله ويروى عنه شهداء الله ويروى عنه شهداء الله. قائِماً بِالْقِسْطِ نصب على الحال المؤكّدة وعند الكوفيين على القطع وفي قراءة عبد الله القائم بالقسط على النعت وفي قراءته «٤».
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وهذا بكسر «إنّ» لا غير. قال الأخفش: المعنى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلّا من بعد ما جاءهم العلم. قال أبو إسحاق «٥» :
الذي هو أجود عندي أن يكون «بغيا» منصوبا بما دلّ عليه «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» أي اختلفوا بغيا بينهم. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ شرط والجواب فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ويجوز رفع يكفر بجعل «من» بمعنى الذي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
وَمَنِ اتَّبَعَنِ حذفت الياء في السواد لأن الكسرة تدلّ عليها والنون عوض
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٣٣٨.
(٢) أبو المهلّب: محارب بن دثار السدوسي الكوخي، عرض على أبيه عن عمر بن الخطاب، وروى عن جابر وابن عمر ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٤٢.
(٣) انظر المحتسب ١/ ١٥٥.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٢٠٠. [.....]
(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٣٤٠.
وَإِنْ تَوَلَّوْا شرط والجواب فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ابتداء وخبر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الذين اسم إن والخبر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فإن قيل: كيف دخلت الفاء في خبر «إنّ» ولا يجوز: إن زيدا فمنطلق؟ فالجواب أنّ «الذي» إذا كان اسم «إن» وكان في صلته فعل كان في الكلام معنى المجازاة فجاز دخول الفاء، ولا يجوز ذا في ليت ولعلّ وكأنّ، لأنّ «إنّ» تأكيد. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وقرأ حمزة ويقاتلون الذين يأمرون بالقسط «١» وهو وجه بعيد جدّا لأنّ بعض الكلام معطوف على بعض والنسق واحد والتفسير يدلّ على «يقتلون». قال أبو العالية: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيّون يدعونهم إلى الله جلّ وعزّ فقتلوهم فقام أناس من المؤمنين بعدهم فأمروهم بالإسلام فقتلوهم فيهم نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ إلى آخرها وروى شعبة «٢» عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة «٣» عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيّا ثم يقوم سوق بقتلهم من آخر النهار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٢]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
قرأ أبو السمّال العدوي أولئك الذين حبطت أعمالهم «٤» وهي لغة شاذة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا «ذلك» في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي أمرهم ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
قال الكسائي لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ.
أي في يوم. وقال البصريون: المعنى لحساب يوم واللام في موضعها. ويجوز في غير القرآن وأفيت مثل أُقِّتَتْ [المرسلات: ١١].
(١) انظر تيسير الداني ٧٣.
(٢) شعبة بن الحجاج بن الورد، أبو بسطام الأزدي العتكي مولاهم نزيل البصرة ومحدّثها (ت ١٦٠ هـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ ١٩٣.
(٣) انظر تفسير الطبري ١/ ٥١، وحلية الأولياء ٤/ ٢٠.
(٤) هذه قراءة أبي واقد وأبي الجراح، انظر مختصر ابن خالويه ١٩، والبحر المحيط ٢/ ٤٣١.

[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٦]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الفراء «١» يذهب فيما يرى إلى أن الأصل في اللَّهُمَّ يا الله أمّنا منك بخير فلما كثر واختلط حذفوا منه وإن الضمّة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمّنا لمّا حذفت انتقلت. قال أبو جعفر: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم حتى قال بعضهم: هذا الحاد في اسم الله عزّ وجلّ. قال أبو جعفر: القول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه «٢» أن الأصل يا الله ثم جاءوا بحرفين عوضا من حرفين وهما الميمان عوضا من «يا» والدليل على هذا أنه ليس أحد من الفصحاء يقول «يا اللهمّ» لأنهم لا يجمعون بين الشيء وعوضه، والضمة التي في اللهمّ عندهما هي ضمّة المنادى المرفوع. فأمّا قول الفراء: إنّ الأصل يا الله أمّنا فلو كان كذا لوجب أن يقال:
أؤمم وأن يدغم فيضم ويكسر وكان يجب أن تكون ألف وصل لا حكم لها، وكان يجب أن يقال: يا اللهمّ، وأيضا فكيف يصحّ المعنى أن يقال: يا الله أمّنا منك بخير.
مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وهذا لا يقدّمه أحد بين يدي دعائه مالِكَ الْمُلْكِ منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ولا يجوز أن يكون عنده صفة لقوله: «اللهمّ» من أجل الميم وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السّريّ في هذا وقالا: يجوز أن يكون صفة كما يكون صفة إذا جئت بيا. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: أنّ وفد نجران أتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة آل عمران وفسّر لهم من أولها إلى رأس الثمانين فقال: تؤتي الملك من تشاء «ملك النبوة». قال ابن إسحاق: وكانوا نصارى فأعلم الله جلّ وعزّ بعنادهم وكفرهم وأنّ عيسى صلّى الله عليه وسلّم وإن كان الله جلّ وعزّ أعطاه آيات تدلّ على نبوّته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عزّ وجلّ منفرد بهذه الأشياء من قوله:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٧]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
فلو كان عيسى إلها لكان هذا إليه فكان في ذلك اعتبار وآية بيّنة ثم حذّر الله جلّ وعزّ المؤمنين، وأمرهم ألّا يتخذوهم أولياء فقال:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٠٣.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ١٩٨.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ جزما على التي وكسرت الذّال لالتقاء الساكنين. قال الكسائي: ويجوز لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ بالرفع على الخبر كما يقال: ينبغي أن تفعل ذلك.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ شرط وجوابه أي فليس من أولياء الله مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢]. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر وكذا تقيّة والأصل الواو وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قال أبو إسحاق: أي ويحذّركم الله إيّاه ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل. قال: وأما تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة:
١١٦] فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك، وقال غيره: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقابه مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وقال تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي مغيّبي فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ على الازدواج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٠]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يَوْمَ نصب بتقدير: ويحذّركم الله نفسه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا، ويجوز أن يكون التقدير: وإلى الله المصير يوم تجد كل نفس ما عَمِلَتْ مفعول. مُحْضَراً حال. وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ معطوف على «ما» الأولى ولو كانت «ما» منقطعة من الأولى على أن تكون شرطا وتعطف جملة على جملة لم يجز إلّا أن تجزم تودّ ولا نعلم أحدا قرأ به وإن كان جائزا في النحو.
أَمَداً اسم أنّ. بَيْنَها ظرف. بَعِيداً من نعته. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ابتداء وخبر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣١]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ شرط. تُحِبُّونَ خبر كنتم. فَاتَّبِعُونِي أمر والفاء وما بعدها جواب الشرط. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب الأمر وفيه معنى المجازاة والمحبة من الله جلّ وعزّ الثناء والثواب وروي أنّ المسلمين قالوا: يا رسول الله إنّنا لنحبّ ربّنا فأنزل الله عزّ وجلّ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يحبّه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وأن لا يؤذي جاره» «١» وقرأ أبو رجاء العطارديّ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «٢» بفتح الياء. قال الكسائي: يقال: يحبّ وتحبّ واحبّ، ويحبّ بكسر الياء وتحبّ ونحبّ وإحبّ قال: وهذه لغة بعض قيس يعني الكسر قال: والفتح لغة تميم
(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٤/ ٦١، والطبري في تفسيره ٣/ ٢٢٣.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠، والبحر المحيط ٢/ ٤٤٨.
وأسد وقيس وهي على لغة من قال: حبّ وهي لغة قد ماتت. قال الأخفش: لم تسمع حببت. قال الفراء: لم تسمع حببت إلّا في بيت أنشده الكسائي: [الطويل] ٧٥-
وأقسم لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عبيد ومشرق»
قال أبو جعفر: لا يجوز عند البصريين كسر الياء من يحب لثقل الكسرة في الياء فأما فتحها فمعروف يدلّ عليه محبوب. وَيَغْفِرْ لَكُمْ عطف على يحببكم وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من «يغفر» في اللام من «لكم». قال أبو جعفر: لا يجيز الخليل وسيبويه «٢» إدغام الراء في اللام لئلا يذهب التكرير وأبو عمرو أجلّ من أن يغلط في مثل هذا ولعلّه كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
فَإِنْ تَوَلَّوْا شرط إلّا أنه ماض لا يعرب والتقدير فإن تولوا على كفرهم والجواب فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٣]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً قال الفراء «٣» : أي إنّ الله اصطفى دينهم. قال أبو جعفر:
هذا التقدير لا يحتاج إليه لأن المعنى اختارهم وروي عن ابن عباس أنه قال: أدم خلق من أديم الأرض. قال أبو جعفر: أديم الأرض وجهها فسمّي آدم لأنه خلق من وجه الأرض. قال أحمد بن يحيى من قال سمّي آدم من أديم الأرض فقد أخطأ في العربية لأنه يجب أن يصرفه لأنه فاعل مثل طابق قال: ولكنه مشتق من شيئين أحدهما أن يكون مشتقا من قولهم: أدمت فلانا بنفس أي خلطته فقيل آدم لأنه خلق من أخلاط قال:
والقول عندي أنّ آدم أفعل من الأدمة في اللون. قال أبو جعفر: الذي أنكره أحمد بن يحيى قول أكثر النحويين وقد يجوز أن يكون آدم أفعل مشتقا من أديم الأرض وأن يكون فاعلا كما قال إلّا أنا نقدّره أفعل فلا ينصرف. ونوح اسم أعجمي إلّا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يشتقّ من ناح ينوح. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٤]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
ذُرِّيَّةً قال الأخفش: هي نصب على الحال، وقال الكوفيون: على القطع وقال
(١) يروى في صدر هذا البيت «والله لولا تمره»، والشاهد لعيلان بن شجاع النهشلي في لسان العرب (حبب)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٤١٠، وخزانة الأدب ٩/ ٤٢٩، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٨٠، وشرح المفصّل ٧/ ١٣٨، والخصائص ٢/ ٢٢٠، ومغني اللبيب رقم (٥٨٥).
(٢) انظر الكتاب ٤/ ٥٨٤.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٠٧.
أبو إسحاق «١» هي بدل. وذرّية مشتقة من الذرّ لكثرتها وفيها تقديران تكون فعليّة وتكون فعلولة أصلها ذرّورة فاستثقلوا التضعيف فأبدلوا من الراء الأخيرة ياء ثم أدغموا الواو في الياء فقالوا ذرّيّة ويقال: ذرّيّة. بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٥]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ قال أبو عبيدة «٢» :«إذ» زائدة وقال محمد بن يزيد: التقدير أذكر إذ قال وقال أبو إسحاق «٣» : المعنى: واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحال، وقيل: هو نعت لمفعول محذوف أي نذرت لك ما في بطني غلاما محرّرا أي يخدم الكنيسة. قال أبو جعفر:
القول الأول أولى من جهة التفسير وسياق اللام والإعراب، فأمّا التفسير فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنّت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ما صنعت ويحك فولدت أنثى فقبلها ربّها بقبول حسن وكان لا يحرّر إلّا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي فكفلها زكرياء واتّخذ لها مرضعا فلما شبّت جعل لها محرابا لا يرتقى إليه إلّا بسلم فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء قال يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: ٣٧] فعند ذلك طمع زكرياء في الولد. قال: إنّ الذي يأتيها بهذا قادر على أن يرزقني ولدا، وقال الضحاك: كان أكثر من يجعل خادما للأحبار ينبّأ فلذلك كان لا يقبل إلّا الغلمان. فهذا التفسير، وسياق الكلام أنها قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أي وليست الأنثى مما يقبل فقال الله جلّ وعزّ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران: ٣٧] وأما الإعراب فإنّ إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع ويجوز على المجاز في أخرى، وحذف اللام في مثل هذا لا يستعمل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٦]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى حال، وإن شئت بدل. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وقد ذكرنا أنه يقرأ بِما وَضَعَتْ «٤» وهي قراءة بعيدة لأنها قد قالت: إنّي وضعتها أنثى وروي عن ابن عباس بِما وَضَعَتْ «٥» بكسر التاء أي قيل لها هذا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى الكاف
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥١، والبحر المحيط ٢/ ٤٥٤.
(٢) انظر مجاز القرآن ١/ ٩٠. [.....]
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٢.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٢٠٧، والبحر المحيط ٢/ ٤٥٦، وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر ويعقوب.
(٥) انظر البحر المحيط ٢/ ٤٥٦.
في موضع نصب على خبر ليس أو على الظرف. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مفعولان ولم تنصرف مريم لأنه اسم مؤنث معرفة وهو أيضا أعجميّ. وَذُرِّيَّتَها عطف على الهاء والألف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ مصدر تقبّل تقبّل إلّا أن معنى تقبّل وقبل واحد فالمعنى فقبلها ربّها بقبول حسن ونظيره «١» :[الرجز] ٧٦-
وقد تطوّيت انطواء الحضب «٢»
لأن معنى تطوّيت وانطويت واحد. قال أبو جعفر: الحضب الحيّة ومثله للقطامي: [الوافر] ٧٧-
وليس بأن تتّبعه اتّباعا «٣»
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ولم يقل: إنباتا لأنه لما قال: أنبتها دلّ على نبت كما قال:
[الطويل] ٧٨-
فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال «٤»
وإنما مصدر ذلّت ذلّ ولكنه قد دلّ على معنى أذللت، وقرأ مجاهد فَتَقَبَّلَها بإسكان اللام على الطلب والمسألة رَبُّها نداء مضاف وَأَنْبَتَها بإسكان التاء وَكَفَّلَها «٥» بإسكان اللام زكرياء بالمدّ والنصب، وقرأ الكوفيّون وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٢، وخزانة الأدب ٩/ ١٨٧، وشرح شواهد المغني ١/ ٣٤١، ولسان العرب (روض)، والمقتضب ١/ ٧٤، وبلا نسبة في المحتسب ٢/ ٢٦٠.
(٢) الشاهد لرؤبة في ديوانه ص ١٦، ولسان العرب (حضب)، والدرر ٣/ ٥٩، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٢٩١، وشرح المفصّل ١/ ١١٢، والكتاب ٤/ ١٩٦، وتهذيب اللغة ٤/ ٢٢٠، وتاج العروس (حضب)، وبلا نسبة في لسان العرب (طوى)، وهمع الهوامع ١/ ١٨٧، والمخصص ٨/ ١١٠ و ١٠/ ١٨٢، وبعده:
«بين قتادة ردهة وشقب»
(٣) الشاهد للقطامي في ديوانه ص ٣٥، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٣٣٢، والشعر والشعراء ٢/ ٧٢٨، والكتاب ٤/ ١٩٥، ولسان العرب (تبع)، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٦٣٠، والأشباه والنظائر ١/ ٢٤٥، وجمهرة الأمثال ١/ ٤١٩، وشرح المفصّل ١/ ١١١، والمقتضب ٣/ ٢٠٥. وصدره:
«وخير الأمر ما استقبلت منه»
(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٢، وخزانة الأدب ٩/ ١٨٧، وشرح شواهد المغني ١/ ٣٤١، ولسان العرب (روض)، والمقتضب ١/ ٧٤، وبلا نسبة في المحتسب ٢/ ٢٦٠.
(٥) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٢/ ٤٦٠.
أي وكفّلها الله زكرياء، وروى هارون بن موسى «١» عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المدني «٢» وكفلها زكريّاء بكسر الفاء. قال الأخفش سعيد: يقال: كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل وقد ذكرت. قال الفراء «٣» : أهل الحجاز يمدّون زكريّاء ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون: زكريّ. قال الأخفش:
فيه أربع لغات زكرياء بالمدّ وزكريّا بالقصر وزكريّ بتشديد الياء والصرف وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكريّ بلا صرف لأنه أعجميّ. وهذا غلط لأن ما كانت فيه ياء مثل هذه انصرف، ولم ينصرف زكريّاء في المدّ والقصر لأن فيه ألف تأنيث والدليل على هذا أنه لا يصرف في النكرة وقال قوم: لم ينصرف لأنه أعجميّ. كُلَّما دَخَلَ منصوب بوجد أي كلّ دخوله أي كلّ وقت دخوله، وإن شئت أملت الألف من حساب لكسرة الحاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
هُنالِكَ في موضع نصب لأنه ظرف يتضمّن المكان وأحوال الزمان وهو مبني لأنه بمنزلة ذلك وهنا بمنزلة هذا، وبنو تميم يقولون: هناك بمنزلة هنالك واللام مكسورة لالتقاء الساكنين، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً على اللفظ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٩]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس فناداه الملائكة «٤» وهو اختيار أبي عبيد وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم كان عبد الله يذكّر الملائكة في كلّ القرآن قال أبو عبيد: أنا اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا الملائكة بنات الله. قال أبو جعفر: هذا احتجاج لا يحصل منه شيء لأن العرب تقول: قالت الرجال وقال الرجال وكذا النساء وكيف يحتجّ عليهم بالقرآن ولو جاز أن يحتجّ عليهم بهذا لجاز أن يحتجّوا بقوله وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: ٤٢] ولكن الحجة عليهم في قوله جلّ وعزّ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: ١٩] أي فلم يشاهدوا خلقهم فكيف يقولون: إنهم إناث فقد علم أنّ هذا ظنّ وهوى، وأما فناداه فهو جائز على تذكير
(١) هارون بن موسى الأعور البصري الأزدي، صدوق، له قراءة معروفة، روى القراءة عن عاصم الجحدري وعاصم بن أبي النجود وعن أبي عمرو (ت ٢٠٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٣٤٨.
(٢) أبو عبد الله المدني: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الصادق، قرأ على آبائه محمد الباقر فزين العابدين فالحسين فعلي. (ت ١٤٨ هـ)، ترجمته في غاية النهاية ١/ ١٩٦.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٠٨.
(٤) انظر تيسير الداني ٧٣.
الجميع ونادته على تأنيث الجماعة. وَهُوَ قائِمٌ ابتداء وخبر. يُصَلِّي في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على أنه حال من المضمر. أَنَّ اللَّهَ وقرأ حمزة «١» والكسائي أَنَّ اللَّهَ أي قالت الملائكة: إن الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى هذه قراءة أهل المدينة وقرأ حمزة يُبَشِّرُكَ «٢» وقرأ حميد بن قيس المكيّ الأعرج يُبَشِّرُكَ بضم الياء وإسكان الباء.
قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد وقال محمد بن يزيد: يقال: بشرته أي أخبرته بما أظهر في بشرته السرور وبشّرته على التكثير قال أبو إسحاق «٣» يقال: بشرته أبشره وأبشره. قال الكسائي: سمعت غنيّا تقول: بشرته أبشره. قال الأخفش: يقال:
بسرته فبشر وابشر أي سررته فسرّ ومنه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: ٣٠]. قال الفراء:
لا يقال: من هذا إلّا أبشر «٤» وحكي عن محمد بن يزيد بشّرته فأبشر مثل قرّرته فأقرّ وفطّرته فأفطر أي طاوعني بِيَحْيى لم ينصرف لأنه فعل مستقبل سمّي به وقيل: لأنه أعجمي، ومذهب الخليل وسيبويه أنك إن جمعته قلت يحيون بفتح الياء في كل حال، وقال الكوفيون: إن كان عربيا فتحت الياء وإن كان أعجميا ضممتها لأنه لا يعرف أصلها مُصَدِّقاً حال. بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ عيسى صلّى الله عليه وسلّم قيل: فرض عليه أن يتّبعه. وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا عطف. مِنَ الصَّالِحِينَ. قال أبو إسحاق «٥» : الصالح الذي يؤدّي لله جلّ وعزّ ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)
وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وبلغت الكبر واحد. وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ابتداء وخبر في موضع الحال، وعاقر بلا هاء على النسب ولو كان على الفعل لقيل: عقرت فهي عقيرة كأنّ بها عقرا يمنعها من الولادة. قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ الكاف في موضع نصب أي يفعل ما يشاء مثل ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً اجْعَلْ بمعنى صيّر فلذلك وجب أن يتعدّى إلى مفعولين
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٤٦٥.
(٢) انظر تيسير الداني ٧٣، والبحر المحيط ٢/ ٤٦٥. [.....]
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٦.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٢١٢.
(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٨.
و «لي» في موضع الثاني وإذا كان بمعنى خلق لم يتعدّ إلّا إلى واحد نحو قوله: خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [الأنبياء: ٣٣]. قالَ آيَتُكَ ابتداء. أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ خبره ويجوز رفع تكلّم بمعنى أنك لا تكلّم الناس مثل أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: ٨٩] والكوفيون يقولون: الرفع على أن تكون «لا» بمعنى ليس. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ظرف وقد ذكرنا قول قتادة أن زكريّاء عوقب بمنع الكلام حين سأل وهذا قول مرغوب عنه لأن الله عزّ وجلّ لم يخبرنا أن زكرياء أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدلّ على كون الولد إذ كان ذلك مغيّبا عنّي. قال الأخفش: إِلَّا رَمْزاً استثناء ليس من الأول. قال الكسائي يقال: رمز يرمز ويرمز، وقرأ علقمة بن قيس «١» إِلَّا رَمْزاً «٢» وقرأ الأعمش إِلَّا رَمْزاً «٣» وهما اسمان والمسكّن المصدر.
وَسَبِّحْ أمر أي نزّه الله جلّ وعزّ عمّا يقول المشركون وقيل: سبّح أي صلّ ومنه فرغ فلان من سبحته. بِالْعَشِيِّ قيل: هو جمع وقيل: هو واحد والأولى أن يكون واحدا للمستقبل. قال الأصمعي: يقال: أنا آتيك عشيّ غد وأنا آتيك عشيّة اليوم وأتيته عشيّة أمس وعشيّ أمس.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٢]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٣]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي أمر فلذلك حذفت منه النون. وَاسْجُدِي عطف عليه يقال: سجد إذا تطامن وذلّ، وركع إذا انحنى، ومنه يقال: ركع الشيخ مع الراكعين يجوز أن يكون معناه اركعي مع الذين يصلّون في جماعة ويجوز أن يكون معناه كوني مع الراكعين وإن لم تصلّي معهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
ذلِكَ في موضع رفع أي الأمر ذلك فهو خبر الأمر ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وخبره مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ «إذ» في موضع نصب أي: وما كنت لديهم ذلك الوقت أَقْلامَهُمْ جمع قلم من قلمه إذا قطعه
(١) علقمة بن قيس النخعي الفقيه، خال إبراهيم النخعي، عرض على ابن مسعود وسمع عليا وعمر وعائشة (ت ٦٢ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٥١٦.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠، والمحتسب ١/ ١٦١ والبحر المحيط ٢/ ٤٧٢، وهي قراءة يحيى بن وثاب أيضا.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠، والبحر المحيط ٢/ ٤٧٢.
وقد ذكرنا أنه قيل: أقلامهم سهامهم «١» وأجود من هذا القول: أي أقلامهم التي يكتبون بها الوحي جمعوها فرموا بها في نهر لينظروا أيّها يستقبل جري الماء فيكون صاحبه الذي يكفل مريم أي يضمن القيام بأمرها. فأما أن تكون الأقلام القداح فبعيد لأن هذه هي الأزلام التي نهى الله عزّ وجلّ عنها إلّا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت الجاهلية تفعلها. أَيُّهُمْ ابتداء وهو متعلق بفعل محذوف أي ينظرون أيّهم يكفل مريم وحكى سيبويه «٢» : اذهب فانظر زيد أبو من هو؟ وإن نصبت انقلب المعنى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٥]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ متعلّقة بيختصمون ويجوز أن تكون متعلقة بقوله «وما كنت لديهم»، بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ولم يقل: اسمها لأن معنى كلمة ولد قال إبراهيم النخعيّ «٣» المسيح الصدّيق. قال أبو عبيد: هو في لغتهم مسيحا، وقيل: إنما سمّي المسيح لأنه مسح بدهن كانت الأنبياء تتمسّح به طيّب الرائحة فإذا مسّح به علم أنه نبيّ. «عيسى» «٤» اسم أعجميّ فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف التأنيث، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه، ويجوز أن يكون مشتقا من العيس ومن العيس. قال الأخفش وَجِيهاً منصوب على الحال، وقال الفراء «٥» : هو منصوب على القطع. قال أبو إسحاق «٦» : النصب على القطع كلمة محال لأن المعنى أنه بشّر بعيسى في هذه الحال ولم يبيّن معنى القطع فإن كان القطع معنى فلم يبيّنه ما هو؟ وإن كان لفظا فلم يبيّن ما العامل؟ وإن كان يريد أنّ الألف واللام قطعتا منه فهذا محال لأن الحال لا تكون إلّا نكرة والألف واللام بمعهود فكيف يقطع منه ما لم يكن فيه قطّ. قال الأخفش وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على وجيه أي ومقرّبا وجمع وجيه وجهاء ووجاه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٦]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
قال الأخفش: وَيُكَلِّمُ.
(١) انظر إعراب الآية ٣٥.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٢٩٤.
(٣) إبراهيم النخعي: بن يزيد بن قيس بن الأسود الكوفي، قرأ على علقمة بن قيس، وقرأ عليه سليمان الأعمش (ت ٩٦ هـ). انظر غاية النهاية ١/ ٢٩.
(٤) انظر تاج العروس (عيس).
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢١٣.
(٦) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٦٢.
عطف على «وجيها». قال الأخفش والفراء «١» وَكَهْلًا معطوف على وجيها.
قال أبو إسحاق «٢» : وكهلا بمعنى ويكلّم الناس كهلا. وروى ابن جريج «٣» عن مجاهد قال: الكهل الحليم. قال أبو جعفر: هذا لا يعرف في اللغة وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين وقال بعضهم: يقال له: حدث إلى ستّ عشرة سنة ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين سنة ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين. قال الأخفش: وَمِنَ الصَّالِحِينَ عطف على وجيها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عطف على «يقول»، ويجوز أن يكون منقطعا أي فهو يكون. وقد تكلم العلماء في معناه فقيل: هو بمنزلة الموجود المخاطب لأنه لا بدّ أن يكون ما أراد جلّ وعزّ فعلى هذا خوطب وقيل: أخبر الله جلّ وعزّ بسرعة ما يريد أنه على هذا وقيل: علامته لما يريد كما كان نفخ عيسى عليه السلام في الطائر علامة لخلق الله جلّ وعزّ إيّاه. وقيل: أي يخرجه من العدم إلى الوجود فخوطب العباد على ما يعرفون. وقيل له أي من أجله كما تقول: أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٨]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونعلّمه بالنون يردّونه على قوله نُوحِيهِ [آل عمران: ٤٤] والياء أولى لقوله وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فالياء أقرب. قال الأخفش وَيُعَلِّمُهُ في موضع نصب عطفا على «وجيها».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٩]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ في نصبه قولان أحدهما أنّ التقدير ويجعله رسولا والآخر ويكلمهم رسولا. أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أي بأني فإنّ في موضع نصب
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢١٣.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٦٣. [.....]
(٣) ابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز القرشي، روى القراءة عن ابن كثير (ت ١٥٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٤٦٩.
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بدل منها ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من آية ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هي أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ هذه قراءة أبي عمرو وأهل الكوفة وقرأ يزيد بن القعقاع كهيئة الطّائر فأنفخ فيه فيكون طائرا وقرأ نافع كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا «١» والقراءتان الأوليان أبين والتقدير في هذه فانفخ في الواحد منها أو منه لأن الطير يذكّر ويؤنث فيكون الواحد طائرا، وطائر وطير مثل تاجر وتجر.
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي بالذي تأكلونه ويجوز أن يكون ما والفعل مصدرا. وَما تَدَّخِرُونَ وقرأ مجاهد والزهريّ وأيوب السختيانيّ وما تذخرون «٢» بالذال معجمة مخفّفا. قال الفراء: أصلها الذال يعني تذخرون من ذخرت فالأصل تذتخرون فثقل على اللسان الجمع بين الذال والتاء فأدغموا وكرهوا أن تذهب التاء في الذال فيذهب معنى الافتعال فجاءوا بحرف عدل بينهما وهو الدال فقالوا: تدّخرون. قال أبو جعفر: هذا القول غلط بيّن لأنهم لو أدغموا على ما قال لوجب أن يدغموا الذال في التاء وكذا باب الإدغام أن يدغم الأول في الثاني فكيف تذهب التاء والصواب في هذا مذهب الخليل وسيبويه أنّ الذال حرف مجهور يمنع النفس أن يجري والتاء حرف مهموس يجري معه النفس فأبدلوا من مخرج التاء حرفا مجهورا أشبه الذال في جهرها فصار تذدخرون ثم أدغمت الذال في الدال فصار تدّخرون: قال الخليل وسيبويه: وإن شئت أدغمت الدال في الذال فقلت تذّخرون وليس هذا بالوجه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٠]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي وجئتكم مصدّقا. قال أحمد بن يحيى: لا يجوز أن يكون معطوفا على «وجيها» لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون لما بين يديه.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ فيه حذف ليتعلق به لام كي، أي ولأحلّ لكم جئتكم وقد ذكرنا معناه ونزيده شرحا قيل إنّما أحلّ لهم عيسى عليه السلام ما حرّم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة نحو أكل الشحوم وكلّ ذي ظفر وقيل: إنّما أحلّ لهم عيسى عليه السلام أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة عليهم في التوراة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥١]
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ بكسر «إن» على الابتداء وحكى أبو حاتم عن الأخفش:
(١) انظر تيسير الداني ٧٤.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٢١٥، والبحر المحيط ٢/ ٤٩٠.
«أنّ» بالفتح على البدل من آية ورده أبو حاتم وزعم أنه لا وجه له قال: لأن الآية العلامة التي لم يكونوا رأوها فكيف يكون قولا. قال أبو جعفر: ليس هكذا روى من يضبط عن الأخفش ولا كذا في كتبه والرواية عنه الصحيحة أنه قال: وحكى بعضهم «أنّ الله» بفتح «أن» على معنى وجئتكم بأن الله ربّي وربّكم وهذا قول حسن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٢]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قال الفراء: أرادوا قتله. قال أبو جعفر: يقال:
أحسست وأحست مثل ظللت وظلت، وحكي حسيت بمعنى علمت وعرفت. قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قال الأخفش: واحد الأنصار نصير مثل شريف وأشراف وناصر مثل صاحب وأصحاب وقال محمد بن يزيد: العرب تقول في واحد الأنصار نصر شبّهوا فعلا بفعل. وَاشْهَدْ بِأَنَّا الأصل بأننا حذفت النون تخفيفا وكذا إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: ٥٥] والماكر الذي يحتال لمن يكيده والمكر من الله جلّ وعزّ مجازاة وعدل فعلى هذا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: ٥٤].
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الأصل متوفيك حذفت الضمّة استثقالا وهو خبر «إنّ». وَرافِعُكَ عطف عليه وكذا وَمُطَهِّرُكَ وكذا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ويجوز وجاعل الذين اتبعوك وهو الأصل وقد قيل: إن التمام عند قوله ومطهّرك من الذين كفروا وهو قول حسن يدلّ عليه الحديث والنظر فأما الحديث فحدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء الزبيديّ قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن معاوية بن أبي سفيان قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المسجد نتحدّث فقال: «أإنكم لتتحدثون أني من آخركم موتا قلنا: نعم يا رسول الله قال: إني من أولكم موتا» «١» وذكر الحديث، وقال في آخره وتلا إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يا محمد. فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. قال أبو جعفر: وأما من جهة النظر فإن القرآن منزّل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فكل ما كان فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يقع دليل، وعلى هذا قوله جلّ
(١) انظر تفسير الطبري ١٩/ ٣٨٧.
وعزّ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: ٢٧] يجب أن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء، وخبره فَأُعَذِّبُهُمْ ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل وكذا. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وحكى سيبويه وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] بالنصب وحدّثنا أحمد بن محمد بن خالد قال: حدّثنا خلف بن هشام قال: حدّثنا الخفّاف عن إسماعيل عن الحسن أنه قرأ وأما الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فنوفّيهم أجورهم «١». قال أبو جعفر: والمعنى واحد أي فيوفيهم الله أجورهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء وخبره نَتْلُوهُ ويجوز أن يكون في موضع رفع بإضمار مبتدأ أي الأمر ذلك ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل. قال أبو إسحاق «٢» : يجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ونتلوه صلته، والخبر مِنَ الْآياتِ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٩]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
كَمَثَلِ آدَمَ تمّ الكلام ثم قال خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فكان والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٠]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
قال الفراء: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مرفوع بإضمار هو.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ شرط والجواب الفاء وما بعدها. قال ابن عباس: هم أهل نجران السيّد والعاقب وأبو الحارث. تَعالَوْا أمر فيه معنى التحريض وبيان الحجّة.
نَدْعُ جواب الأمر مجزوم. ثُمَّ نَبْتَهِلْ عطف عليه وحكى أبو عبيدة «٣» بهله الله
(١) انظر الحجّة لابن خالويه ٨٥، والبحر المحيط ٢/ ٤٩٩.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٧١.
(٣) انظر مجاز القرآن ١/ ٩٦، والبحر المحيط ٢/ ٥٠٢.
يبهله بهلة أي لعنه ونبتهل ندعو باللعنة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عطف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٢]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو زائدة فاصلة عند البصريين ويجوز أن تكون مبتدأة والْقَصَصُ خبرها والجملة خبر إنّ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ ويجوز النصب على الاستثناء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٣]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ شرط وجوابه وتولّوا فعل ماض لا يتبيّن فيه الجزم ويجوز أن يكون مستقبلا ويكون الأصل تتولّوا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ وقرأ قعنب كلمة «١» ألقى حركة اللام على الكاف كما يقال: كبد قال أبو العالية: الكلمة لا إله إلّا الله. سَواءٍ نعت لكلمة وقرأ الحسن «٢» سَواءٍ بالنصب أي استوت استواء: قال قتادة: السواء العدل. قال الفراء:
ويقال في معنى العدل سوى وسوى. قال: وفي قراءة عبد الله إلى كلمة عدل بيننا وبينكم «٣». أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ على البدل من كلمة وإن شئت كان التقدير هي أن لا نعبد إلّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً قال الكسائي والفراء: ويجوز وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً بالجزم على التوهّم إنّه ليس في أول الكلام «أن» قال أبو جعفر التوهّم لا يحصل منه شيء ولكن مذهب سيبويه أنه يجوز في «نعبد» وما بعده الجزم على أن تكون أن مفسّرة بمعنى أي كما قال عزّ وجلّ: أَنِ امْشُوا [ص: ٦] وتكون «لا» جازمة ويجوز على هذا أن يرفع نعبد وما بعده ويكون خبرا ويجوز الرفع بمعنى أنّه لا نعبد، ومثله أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: ٨٩] ومعنى وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ لا نعبد عيسى لأنه بشر مثلنا ولا نقبل من الرهبان تحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله جلّ وعزّ علينا فنكون قد اتّخذناهم أربابا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ الأصل «لما» حذفت الألف لأن حرف
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٢١.
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ٥٠٦.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٠.
الجر عوض منها وللفرق بين الاستفهام والخبر ولم يجز الحذف في الخبر لأن الألف متوسطة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٦]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ قال أبو عمرو بن العلاء الأصل أأنتم فأبدل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن وللفراء «١» في هذا الاسم إذا دخلت عليها الهاء مذهب وسنذكره بعد هذا. قال الحسن والضحّاك قال كعب بن الأشرف اليهوديّ وأصحابه ونفر من النصارى: إبراهيم منّا فأنزل الله جلّ وعزّ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: ٦٧] يعني بالحنيف الحاجّ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: زعمتم أنّ إبراهيم كان منكم وقد كان إبراهيم يحجّ.
قال أبو جعفر: الحنيف في اللغة: إقبال صدر القدم على الأخرى من خلقة لا تزول فمعنى الحنيف عند العرب المائل إلى الإسلام على الحقيقة فأما إخباره جلّ وعزّ عن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه كان مسلما فبيّن، ويعلم أنه كان مسلما وجمع الأنبياء والصالحين بأن يعرف ما الإسلام وما الإيمان؟ وهو أصل من أصول الدين لا يسع جهله ومعرفته من اللغة. قال أبو جعفر: معنى مسلم في اللغة: متذلّل لأمر الله منطاع له، ومعنى مؤمن:
مصدّق بما جاء من عند الله قابل له عامل به في كلّ الأوقات، فهذا ما لا يدفع أنه دين كل نبيّ وملك وصالح.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ اسم «إنّ» وخبرها وَهذَا النَّبِيُّ معطوف على الذين، ويجوز و «هذا النبيّ» بالنصب تعطفه على الهاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ يقال: أهذا عذر لهم ففيه جوابان: جملتهما أنه لا عذر لهم فقيل: معنى لا يشعرون لا يعلمون بصحّة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا لأنّ البراهين ظاهرة والحجج باهرة وجواب آخر أنهم لا يشعرون بأنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
ويجوز «وتكتموا الحق» على جواب الاستفهام.
(١) انظر إعراب الآية ١١٩ آل عمران.

[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]

وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ على الظرف وكذا آخِرَهُ ومذهب قتادة أنهم فعلوا هذا ليشكّكوا المسلمين وروي عن ابن عباس قال: نظر اليهود إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الصبح إلى بيت المقدس قبلتهم فأعجبهم ذلك ثم حوّلت القبلة في صلاة الظهر إلى الكعبة فقالت اليهود: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يعنون صلاة الصبح حين صلّى إلى بيت المقدس وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعنون صلاة الظهر حين صلّى إلى الكعبة. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى قبلتكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٣]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قال أبو جعفر: هذه الآية من أشكل ما في السورة وقد ذكرناه، والإعراب يبيّنها. فيها أقوال: فمن قال: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا فإنّ المعنى: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا من اتّبع دينكم وجعل اللام زائدة فهو عنده استثناء ليس من الأول وإلّا لم يجز التقديم ومن قال: المعنى على غير تقديم ولا تأخير جعل اللام أيضا زائدة أو متعلقة بمصدر أي لا تجعلوا تصديقكم إلّا لمن اتّبع دينكم بأن يؤتى أحد من العلم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أوتيتم وتقدير ثالث أي كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقال الفراء «١» : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله إلّا لمن تبع دينكم ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إنّ البيان بيان الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي بيّن أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وصلحت أحد لأن «أن» بمعنى «لا» مثل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦] أي أن لا تضلّوا قال أبو جعفر: في قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ قولان: أحدهما أنّ الهدى إلى الخير والدلالة على الله بيد الله جلّ وعزّ يؤتيه أنبياءه فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والقول الآخر: قل إنّ الهدى هدى الله الذي أتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لا غيره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من البراهين والحجج والأخبار بما في كتبهم أو يحاجّوكم عند ربكم. قال الأخفش: أي ولا يؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجّوكم يذهب إلى أنه معطوف وقال الفراء «٢» :«أو» بمعنى حتّى وإلّا أن.
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٢.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٣، والبحر المحيط ٢/ ٥١٨.

[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٥]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ وقرأ أبو الأشهب «١» من إن تيمنه «٢» «من» في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة والشرط وجوابه من صلتها عند البصريين وعند الكوفيين بإضمار القول وتيمنه، على لغة من قال: تستعين «٣» وفي يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ خمسة أوجه قرئ منها بأربعة: أجودها قراءة نافع والكسائي يؤدّهي إليك «٤» بياء في الإدراج، وقرأ يزيد بن القعقاع يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «٥» بكسر الهاء بغير ياء وقرأ أبو المنذر سلّام يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بضم الهاء بغير واو كذا قرأ أخواته نحو نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى [النساء:
١١٥] و «عليه» و «إليه» قال أبو عبيد: واتّفق أبو عمرو والأعمش وحمزة على وقف الهاء فقرءوه يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «٦». قال أبو جعفر: والوجه الخامس يؤدّهو إليك بواو في الإدراج فهذا الأصل لأن الهاء خفيّة فزعم الخليل: أنها أبدلت بحرف جلد وهو الواو. وقال غيره: اختير لها الواو لأن الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. وقال سيبويه «٧» : الواو في المذكّر بمنزلة الألف في المؤنّث وتبدل منها ياء لأن الياء أخفّ إذا كانت قبلها كسرة أو ياء وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها، ومن قال «يؤدّه إليك» فحجّته أنه حذف الواو وأبقى الضمة كما كان مرفوعا أيضا فأما إسكان الهاء فلا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين وبعضهم يجيزه وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه مثل هذا والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش إِلَّا ما دُمْتَ بكسر الدال من دمت تدام مثل خفت تخاف لغة أزد السراة وحكى الأخفش: دمت تدوم شاذا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي فعلهم ذلك وأمرهم ذلك بأنّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي طريق ظلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
قال الله جلّ وعزّ: بَلى.
(١) أبو الأشهب العطاردي البصري، جعفر بن حيان، قرأ على رجاء العطاردي، وقرأ عليه يعقوب ابن إسحاق (ت ١١٥ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ١٩٢. [.....]
(٢) هذه قراءة يحيى بن وثاب وابن مسعود، انظر مختصر ابن خالويه ٢١، والبحر المحيط ٢/ ٥٢٣.
(٣) هذه لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، انظر إعراب آية ٥- أم القرآن.
(٤) انظر الحجة لابن خالويه ٨٦، وتيسير الداني ٧٤.
(٥) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط ٢/ ٥٢٤.
(٦) هذه قراءة عاصم أيضا، انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٣، وتيسير الداني ٧٤.
(٧) انظر الكتاب ٤/ ٣٠٥.
أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم. قال أبو إسحاق «١» : وتمّ الكلام ثم قال مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى. قال أبو جعفر: مَنْ رفع بالابتداء وهو شرط وأَوْفى في موضع جزم وَاتَّقى معطوف عليه أي واتقى الله فلم يكذب ولم يستحلّ ما حرّم عليه فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يحبّ أولئك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
الَّذِينَ اسم. وأُولئِكَ ابتداء وما بعده خبره والجملة خبر «إن». وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ قد ذكرنا معناه ونشرحه بزيادة. يكون المعنى: لا يسمعهم الله كلامه بلا سفير كما كلّم الله موسى صلّى الله عليه وسلّم فهذا معناه لا يكلّمهم على الحقيقة ويكلّمهم مجازا بأن يأمر الملائكة أن تحاسبهم كما قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ٩٢، ٩٣] وكذا أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: ٢٧] فإذا قالت لهم الملائكة يقول الله لكم كذا فقد كلّمهم مجازا وقيل معنى لا يكلّمهم يغضب عليهم وقيل: المعنى على المجاز أي ولا يكلمهم كلام راض عنهم ولكن كلام موبّخ لهم ومقرّر وموقّف. ووَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ برحمته ولا يؤتيهم خيرا كما يقال: فلان لا ينظر إلى ولده.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً اسم «إنّ» واللام توكيد. يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وقرأ أبو جعفر وشبية يلوّون ألسنتهم على التكثير وقرأ حميد بن قيس يلون ألسنتهم «٢» وتقديره يلوون ثم همز الواو لانضمامها وخفّف الهمزة وألقى حركتها على ما قبلها. ألسنة جمع لسان في لغة من ذكّر ومن أنّث قال: ألسن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٩]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ نصب بأن. ثُمَّ يَقُولَ عطف عليه وروى محبوب عن أبي عمرو ثم يقول بالرفع. والنصب أجود. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حذف القول والتقدير:
ولكن يقول وقال علي بن سليمان: المعنى ولكن ليقل ودخلت الواو على لكن وهما حرفا عطف على قول قوم لضعف لكن. قال ابن كيسان: الواو هي العاطفة ولكن
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٨٢.
(٢) انظر مختصر في شواذ القرآن (٢١).
للتحقيق. بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قراءة أبي عمرو وأهل المدينة «١» وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة تُعَلِّمُونَ بضم التاء وتشديد اللّام وقرأ مجاهد تعلمون «٢» بفتح التاء وتشديد اللام أي تتعلّمون ويدرسون فخولف أبو عبيد في هذا الاختيار لأن شعبة روى عن عاصم عن زيد «٣» «٤» عن عبد الله بن مسعود وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، قال حكماء علماء وقال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله جلّ وعزّ يقول: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي فقهاء علماء فقيل: يبعد أن يقال: كونوا حكماء علماء بتعليمكم والحسن: كونوا حكماء علماء بعلمكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٠]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
قال سيبويه: وَلا يَأْمُرَكُمْ «٥» فجاءت منقطعة من الأول لأنه أراد ولا يأمركم الله، وقال الأخفش: أي وهو لا يأمركم وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين وأما رواية اليزيدي عن أبي عمرو أنه أسكن الراء فغلط «٦». قال سيبويه: وقرأ بعضهم وَلا يَأْمُرَكُمْ «٧» على قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ [آل عمران: ٧٩]. قال أبو جعفر: النصب قراءة ابن أبي إسحاق وحمزة وعاصم. أَنْ تَتَّخِذُوا أي بأن تتخذوا. الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً وهذا موجود في النصارى يعظّمون الملائكة والأنبياء حتى يجعلوهم أربابا، ويروون عن سليمان صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ربّي لربّي: اجلس عن يميني. يعنون قال الله جلّ وعزّ للمسيح صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
أي واذكر. قال سيبويه «٨» : سألت الخليل في قوله جلّ وعزّ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ
(١) انظر تيسير الداني ٧٤.
(٢) انظر مختصر في شواذ القرآن ٢١.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ٥٨.
(٤) زرّ بن حبيش الأسدي الكوفي، عرض على ابن مسعود وعثمان وعلي، وعرض عليه عاصم والأعمش (ت ٨٢ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٩٤.
(٥) انظر تيسير الداني ٧٤.
(٦) انظر تيسير الداني ٧٤. [.....]
(٧) قراءة عاصم وحمزة وابن عامر، انظر تيسير الداني ٧٤.
(٨) انظر الكتاب ٣/ ١٢٢.
فقال: «ما» بمعنى الذي. قال أبو جعفر: التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه ثم حذف الهاء لطول الاسم فالذي رفع بالابتداء، وخبره مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ و «من» لبيان الجنس وقال الأخفش: هي زائدة ويجوز أن يكون الخبر لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وقال الكسائي: «ما» للشرط فعلى قوله موضعها نصب بآتيتكم وقرأ أهل الكوفة لَما آتَيْتُكُمْ بكسر «١» اللام، وقال الفراء: أي أخذ الميثاق للذي آتاهم من كتاب وحكمة وجعل لنؤمنن به من أخذ الميثاق كما تقول: أخذت ميثاقك لتفعلنّ. قال أبو جعفر:
ولأبي عبيدة في هذا قول حسن، قال: المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمننّ به لما آتيتكم من ذكره في التوراة وقيل: في الكلام حذف والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمنّ الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة ولتأخذنّ على الناس أن يؤمنوا ودل على هذا الحذف وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٢]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ شرط والمعنى فمن تولى عن الإيمان بعد أخذ الميثاق والجواب فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ «٢» نصبت «غير» يبغون. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وإن شئت أدغمت الميم في الميم وقد ذكرنا في معناه، قولين: أولهما أن يكون المعنى وله خضع وذلّ من في السموات والأرض كما تقول: أسلم فلان نفسه للموت، فالمعنى أن الله جلّ وعزّ خلق الخلق على ما أراد فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا فالصحيح منقاد. طائع محبّ لذلك والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها وطَوْعاً وَكَرْهاً مصدر في موضع الحال أي طائعين مكرهين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٤]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ فيه ثلاثة أجوبة يكون قل بمعنى قولوا لأنّ المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمّته ويكون المعنى قل لهم قولوا آمنا بالله ويكون المراد الأمّة ونظيره يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١].
(١) هذه قراءة يحيى بن وثاب، انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٥، والبحر المحيط ٢/ ٥٣٢.
(٢) هذه قراءة السبعة عدا أبي عمرو وحفص فقراءتهما بالياء، انظر تيسير الداني ٧٥.

[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وَمَنْ يَبْتَغِ «١» شرط فلذلك حذفت منه الياء والجواب فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وزعم أبو حاتم: أنّ أبا عمرو والأعمش قرءا وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً مدغما. قال أبو جعفر: وهذا ليس بالجيّد من أجل الكسرة التي في الغين. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ قال هشام: أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول وقال المازني: الألف واللام مثلهما في الرجل وقال محمد بن يزيد:
الظرف متعلّق بمصدر محذوف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها وحذفت الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وثبتت في الخطّ لأنّ الكتب على الوقف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ اسم «إنّ» والخبر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد ذكرنا في معناه أقوالا. وقد قيل أيضا فيه: إن المعنى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم عند الموت. قال أبو جعفر: وهذا القول حسن كما قال عزّ وجلّ:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: ١٨] وقيل: لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأنّ الكفر قد أحبطها. قال أبو جعفر: حدّثنا عليّ بن سليمان قال: حدّثنا أبو سعيد السّكريّ قال:
حدّثنا محمد بن حبيب قال: حدّثنا محمد بن المستنير وهو قطرب في قول الله جلّ وعزّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد قال الله جلّ وعزّ في موضع آخر وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: ٢٥] فهذه الآية في قوم من أهل مكة قالوا: نتربّص بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ريب المنون فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا فأنزل الله جلّ وعزّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر فسمّاها توبة غير مقبولة لأنه لم يصح من القوم عزم والله جلّ وعزّ يقبل التوبة كلّها إذا صحّ العزم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اسم «إنّ» والخبر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٥٤٠.
ذَهَباً منصوب على البيان. قال الفراء «١» : يجوز رفعه على الاستئناف كأنه يريد هو ذهب. وقال أحمد بن يحيى: يجوز الرفع على التبيين لملء.
تم الجزء الثالث «٢» من كتاب إعراب القرآن الحمد لله رب العالمين وصلوات على محمد الأمين وعلى آله أجمعين
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
لَنْ تَنالُوا نصب بلن وعلامة النصب حذف النون وكذا حَتَّى تُنْفِقُوا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
كُلُّ الطَّعامِ ابتداء والخبر كانَ حِلًّا يقال: حلّ وحلال وحرم وحرام.
إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ استثناء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٥]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
قال علي بن سليمان:
حَنِيفاً بمعنى أعني.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٦]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ اسم «إنّ» والخبر لَلَّذِي بِبَكَّةَ واللّام توكيد. مُبارَكاً على الحال ويجوز في غير القرآن مبارك على أن يكون خبرا ثانيا وعلى البدل من الذي وعلى إضمار مبتدأ. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ عطف عليه ويكون بمعنى «وهو هدى للعالمين» والمعنى إنّ أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين للّذي ببدكة كما روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عنه: أهو أول بيت وضع للناس؟ فقال: لا قد كان نوح صلّى الله عليه وسلّم وقومه في البيوت من قبل إبراهيم عليه السّلام ولكنّه أول بيت وضعت فيه البركة ويجوز في غير القرآن مبارك بالخفض نعتا لبيت.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٦، والبحر المحيط ٢/ ٥٤٣.
(٢) حسب تقسيم المؤلف.
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ رفع بالابتداء أو بالصفة، مقام إبراهيم: في رفعه ثلاثة أوجه:
قال الأخفش: أي منها مقام إبراهيم وحكي عن محمد بن يزيد قال: «مقام» بدل من آيات والقول الثالث بمعنى هي مقام إبراهيم وقول الأخفش معروف في كلام العرب كما قال زهير: [البسيط] ٧٩-
لها متاع وأعوان غدون لها قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا «١»
وقول أبي العباس إنّ مقاما بمعنى مقامات لأنه مصدر قال الله جلّ وعزّ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: ٧] وقال جرير: [البسيط] ٨٠-
إنّ العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا «٢»
ويقوّي هذا الحديث المرويّ «الحجّ كلّه مقام إبراهيم» «٣». وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يجوز أن يكون معطوفا على مقام أي وفيه آيات من دخله كان آمنا لأن ذلك من الآيات كان الناس يتخطّفون حوالى الحرم فإذا قصده ملك هلك. ويجوز أن يكون مَنْ رفعا بالابتداء والخبر كانَ آمِناً. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مَنْ في موضع خفض على بدل البعض من الكلّ هذا قول أكثر النحويين وأجاز الكسائي أن تكون «من» في موضع رفع، واسْتَطاعَ شرط والجواب محذوف أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ وقبل هذا وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران: ٧٠] فالله شهيد عليهم وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر بآيات الله وقد ظهرت البراهين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً أي تبغون لها وحذف اللام مثل وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣] أي قالوا لهم يقال: بغيت له كذا وأبغيته أي أعنته
(١) الشاهد لزهير في ديوانه ص ٣٩، وبلا نسبة في لسان العرب (سحق)، وتهذيب اللغة ٤/ ٢٥، وفي الديوان (لها أداة).
(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ص ١٦٣، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧١٢، والمقاصد النحوية ٣/ ٣٦٤، والمقتضب ٢/ ١٧٣، وبلا نسبة في شرح المفصل ٥/ ٩.
(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ٤/ ١٤٠.
عليه. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ قيل: هذا للذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقيل «شهداء» أي عالمون أنها سبيل الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً شرط فلذلك حذفت منه النون والجواب يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠١]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ كَيْفَ في موضع نصب وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين واختير لها الفتح لأن قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة.
وقال الكوفيون: إذا التقى ساكنان في حرف واحد فتح أحدهما وإذا كانا في حرفين كسر. وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ ابتداء وخبر في موضع الحال. وَفِيكُمْ رَسُولُهُ رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة على قول الكسائي: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ شرط والجواب فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ مصدر والأصل في تقاة تقية قلبت الياء ألفا والتاء منقلبة من واو لأنّه من وقى ويجوز أن تأتي بالواو فتقول: وقاة وإن شئت أبدلت من الواو همزة فقلت: أقاة مثل: «أقّتت» وقد ذكرنا وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «١».
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يقال: اعتصمت بفلان واعتصمت فلانا والمعنى واعتصموا بالقرآن من الكفر والباطل. جَمِيعاً على الحال عند سيبويه. وَلا تَفَرَّقُوا نهي فلذلك حذفت منه النون والأصل تتفرقوا وقرئ وَلا تَفَرَّقُوا بإدغام التاء في التاء.
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً خبر أصبح ويقال: أخوان مثل حملان والأصل في أخ أخو والدليل على هذا قولهم في التثنية أخوان وكان يجب أن يقال: مررت باخا كما يقال:
مررت بعصا إلا أنه حذف منه لتشبيهه بغيره وقد حكى هشام: «مكره أخاك لا بطل» «٢».
(١) انظر إعراب الآية (١٣٢ سورة البقرة).
(٢) المثل رواه الميداني في مجمع الأمثال ٢/ ٣١٨.
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الأصل في شفا شفو ولهذا يكتب بالألف ولا يمال.
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها الهاء تعود على النار لأنها المقصود أو على الحفرة أي فأنقذكم منها بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وَلْتَكُنْ «١» أمر، والأصل ولتكن حذفت الكسرة لثقلها وحذفت الضمة من النون للجزم وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. أُمَّةٌ اسم تكن. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ في موضع النعت وما بعده عطف عليه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٥]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا الكاف في موضع نصب على الظرف وهي في موضع الخبر. قال جابر بن عبد الله «٢» كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ اليهود والنصارى «٣»، جاءهم مذكّر على الجميع وجاءتهم على الجماعة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٦]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ويجوز تبيضّ وتسودّ بكسر التاء لأنك تقول: ابيضّت فتكسر التاء كما تكسر الألف ويجوز تبياضّ «٤» وقد قرئ به ويجوز كسر التاء فيه أيضا، ويجوز يوم يبيّض وجوه على تذكير الجميع «٥» ويجوز «أجوه» مثل «أقّتت» فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ رفع بالابتداء وقد ذكرناه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٧]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ابتداء والخبر فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تكون «هم» زائدة وتكون مبتدأة ويجوز نصب خالدين على الحال في غير القرآن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٨]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ ابتداء وخبر أي تلك المذكورة حجج الله جلّ وعزّ ودلائله ويجوز
(١) وهي قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط ٣/ ٢٣.
(٢) جابر بن عبد الله بن عمرو، أبو عبد الله الأنصاري الفقيه، كان آخر من شهد بيعة العقبة في السبعين من الأنصار (ت ٧٨ هـ). ترجمته في تذكرة الحفاظ ٤٣. [.....]
(٣) وهذا قول الحسن أيضا، انظر البحر المحيط ٣/ ٢٤.
(٤) هذه قراءة الزهري، انظر مختصر ابن خالويه ٢٢.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢٨.
أن تكون آيات الله بدلا من تلك ولا تكون نعتا، لا ينعت المبهم بالمضاف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يجوز أن تكون كنتم زائدة أي أنتم خير أمّة وأنشد سيبويه: [الوافر] ٨١-
وجيران لنا كانوا كرام «١»
ويجوز أن يكون المعنى كنتم في اللوح المحفوظ خير أمة وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: تجرّون الناس في السلاسل إلى الإسلام، فالتقدير على هذا: كنتم خير أمة، وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وقيل: إنّما صارت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، وقيل هذا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني الذين بعثت فيهم» «٢».
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ نصب بلن وتمّ الكلام. إِلَّا أَذىً استثناء ليس من الأول.
وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ شرط وجوابه وتم الكلام. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ مستأنف فلذلك ثبتت فيه النون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا تم الكلام. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ استثناء ليس من الأول أي لكنهم يعتصمون بحبل الله من الله وهو العهد.
(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٢٩٠، والأزهيّة ص ١٨٨، وتخليص الشواهد ٢٥٢، وخزانة الأدب ٩/ ٢١٧، وشرح الأشموني ١/ ١١٧، وشرح التصريح ١/ ١٩٢، وشرح شواهد المغني ٢/ ٦٩٣، والكتاب ٢/ ١٥٥، ولسان العرب (كنن)، والمقاصد النحوية ٢/ ٤٢، والمقتضب ٤/ ١١٦، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٣٦، والأشباه والنظائر ١/ ١٦٥، وأوضح المسالك ١/ ٢٥٨، وشرح ابن عقيل ١٤٦، والصاحبي في فقه اللغة ١٦١، ولسان العرب (كون)، ومغني اللبيب ١/ ٢٨٧، وصدره:
«فكيف إذا رأيت ديار قوم»
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٤/ ٢٧٦، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠/ ١٩.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٣]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
لَيْسُوا سَواءً تم الكلام. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ ابتداء إلّا أنّ للفراء «١» فيه قولا زعم أنه يرفع أمة بسواء وتقديره ليس تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع أمة بسواء فلا يعود على اسم ليس شيء يرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه لأنه قد تقدم ذكر الكافرين فليس لاضمار هذا وجه، وقال أبو عبيدة «٢» : هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وهذا غلط لأنه قد تقدّم ذكرهم وأكلوني البراغيث لم يتقدّم لهن ذكر، قال ابن عباس: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ من آمن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة أي ذو طريقة حسنة وأنشد:
[الطويل] ٨٢-
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع «٣»
آناءَ اللَّيْلِ ظرف زمان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٤]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع نعت لأمة، ويجوز أن يكون مستأنفا وما بعده، عطف عليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» والخبر لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ابتداء وخبر، وكذا هُمْ فِيها خالِدُونَ وكذاثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ
والتقدير كمثل مهلك ريح. قال ابن عباس: الصرّ البرد الشديد.
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٠، والبحر المحيط ٣/ ٣٦.
(٢) انظر مجاز القرآن ١/ ١٠١.
(٣) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٣٥، ولسان العرب (أمم)، ومقاييس اللغة ١/ ٢٨، وكتاب العين ٨/ ٤٢٨، وتهذيب اللغة ١٥/ ٦٣٥، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ٢٤٧، ومجمل اللغة ١/ ١٥٢. وصدره:
«حلفت فلم أترك لنفسك ريبة»

[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال الضحاك «١» : هم الكفار والمنافقون. قال أبو جعفر: فيه قولان أحدهما مِنْ دُونِكُمْ من سواكم. قال الفراء «٢» : وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ [الأنبياء: ٨٢] أي سوى ذلك، والقول الآخر:
لا تتّخذوا بطانة من دونكم في الستر وحسن المذهب وهذا يدلّ على أنه يجب على أهل السّنّة مجانبة أهل الأهواء وترك مخالطتهم لأنهم لا يتقون في التلبيس عليهم قال الله جلّ وعزّ: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ إلى آخر الآية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٩]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ زعم الفراء «٣» أنّ العرب إذا جاءت باسم مكنّى فأرادت التقريب فرقت بين «ها» وبين الاسم المشار إليه بالاسم المكنّى يقول الرجل للرجل: أين أنت؟ فيقول: ها أنا ذا، ولا يجوز هذا عنده إلّا في التقريب والمضمر. وقال أبو إسحاق: هو جائز في المضمر والمظهر إلّا أنه في المضمر أكثر. قال أبو عمرو بن العلاء: ها أنتم الأصل فيه أاأنتم بهمزتين بينهما ألف كما قال ذو الرمّة: [الطويل] ٨٣-
أاأنت أم أمّ سالم «٤»
ثم ثقل فأبدلوا من الهمزة هاء. ها أَنْتُمْ رفع بالابتداء. وأُولاءِ الخبر تُحِبُّونَهُمْ في موضع نصب على الحال وكسرت أولاء لالتقاء الساكنين ويجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين وتحبّونهم صلة. وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ عطف والكتاب بمعنى الكتب.
(١) وهذا قول ابن عباس وقتادة والسدي والربيع، انظر البحر المحيط ٣/ ٤١.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٢٠٩.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣١.
(٤) تمام البيت:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النّقا ءاأنت أم أم سالم
والشاهد لذي الرمة في ديوانه ص ٧٦٧، وأدب الكاتب ص ٢٢٤، والأزهيّة ص ٣٦، والأغاني ١٧/ ٣٠٩، والخصائص ٢/ ٤٥٨، والدرر ٣/ ١٧، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٧٢٣، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٢٥٧، وشرح شواهد الشافية ٣٤٧، وشرح المفصل ١/ ٩٤، ولسان العرب (جلل)، واللمع ١٩٣، والمقتضب ١/ ١٦٣.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٠]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ شرط. تَسُؤْهُمْ مجازاة وكذا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً «١» حذفت الياء لالتقاء الساكنين لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء وكانت أولى بالحذف لأن قبلها ما يدلّ عليها وحكى الكسائي أنه سمع ضاره يضوره وأجاز لا يَضُرُّكُمْ «٢» وزعم أن في قراءة أبي ابن كعب لا يضرركم فهذه ثلاثة أوجه، وقرأ الكوفيون لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بضم الراء وتشديدها. وفيه ثلاثة أوجه، والثلاثة ضعاف منها أن يكون في موضع جزم وضمّ لالتقاء الساكنين واختاروا الضمة وفيه ثلاثة أوجه لضمة الضاد، وهذا بعيد لأنه يشبه المرفوع والضم ثقيل وزعم الكسائي والفراء «٣» أنّ ذلك على إضمار الفاء كما قال:
[البسيط] ٨٤-
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشرّ بالشرّ عند الله مثلان «٤»
وتقدير ثالث يكون لا يضرّكم أن تصبروا وأنشد سيبويه: [الرجز] ٨٥-
إنّك إن يصرع أخوك تصرع «٥»
وزعم الفراء أنه على التقديم والتأخير. وروى المفضّل الضبيّ عن عاصم لا يَضُرُّكُمْ «٦» بفتح الراء لالتقاء الساكنين لخفّة الفتح. والوجه السادس لا يَضُرُّكُمْ بكسر الراء لالتقاء الساكنين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قال ابن عباس: هذا في يوم أحد.
(١) قراءة السبعة عدا ابن عامر والكوفيين، انظر تيسير الداني ٧٥، والحجة لابن خالويه ٨٨.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٢، والبحر المحيط ٣/ ٤٦. [.....]
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٢، والبحر المحيط ٣/ ٤٦.
(٤) مرّ الشاهد رقم (٣٤).
(٥) الشاهد لجرير بن عبد الله البجلي في الكتاب ٣/ ٧٦، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ١٢١، ولسان العرب (بجل)، وله أو لعمرو بن خثارم العجلي في خزانة الأدب ٨/ ٢٠، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٩٧، والمقاصد النحوية ٤/ ٤٣٠، ولعمرو بن خثارم البجلي في الدرر ١/ ٢٧٧، وبلا نسبة في جواهر الأدب ٢٠٢، والإنصاف ٢/ ٦٢٣، ورصف المباني ١٠٤، وشرح الأشموني ٣/ ٥٨٦ وشرح التصريح ٢/ ٢٤٩، وشرح عمدة الحافظ ٣٥٤، وشرح المفصل ٨/ ١٥٨، ومغني اللبيب ٢/ ٥٥٣، وقبله:
«يا أقرع بن حابس يا أقرع»
(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٢٢.
إِذْ في موضع نصب أي اذكر. وحكى الفراء: وإذي بالياء، وفي قراءة ابن مسعود تبوّى للمؤمنين «١» والمعنى واحد أي تتّخذ للمؤمنين مقاعد ومنازل ولم ينصرف مقاعد لأن هذا الجمع لا نظير له في الواحد ولهذا لم يجمع. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ابتداء وخبر أي سميع لما قالوا عليم بما يخفون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٢]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
إِذْ في موضع نصب بتبوّئ، والمصدر همّا ومهمة وهمّة وهمما. أَنْ تَفْشَلا نصب بأن فلذلك حذفت منه النون. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ابتداء وخبر. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وإن شئت كسرت اللام الأولى وهو الأصل ومعنى توكّلت على الله، تقوّيت به وتحفّظت.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٣]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل وجمع فعيل إذا كان نعتا على فعلاء فكرهوا أن يقولوا: ذللاء لثقله فقالوا: أذلّة جعلوه بمنزلة الاسم نحو رغيف وأرغفة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٤]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ وإن شئت أدغمت اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين لأن أحدهما حرف مدّ ولين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٥]
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
بَلى تم الكلام. وإِنْ تَصْبِرُوا شرط. وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ نسق.
هذا نعت لفورهم. يُمْدِدْكُمْ جواب. بِخَمْسَةِ آلافٍ دخلت الهاء لأن الألف مذكّر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٦]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ لام كي أي ولتطمئنّ قلوبكم به جعله وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٣، والبحر المحيط ٣/ ٤٩.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل أي ليقطع طرفا نصركم ويجوز أن يكون متعلقا بيمددكم. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مصدر في موضع الحال. مُضاعَفَةً نعته.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٣]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
وفي مصاحف أهل الكوفة وَسارِعُوا عطف جملة على جملة وفي مصاحف أهل المدينة بغير واو لأنه قد عرف المعنى. وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ابتداء وخبر في موضع خفض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ نعت للمتّقين وإن شئت كان على إضمار مبتدأ وإن شئت أضمرت أعني. قال عبيد بن عمير «١» : السرّاء والضرّاء الرّخاء والشدة.
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ عطف، وإن جعلت الأول في موضع رفع كان هذا منصوبا على أعني مثل يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:
١٦٢] وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ عطف قال أبو العالية: أي عن المماليك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً نسق. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلّا الله جلّ وعزّ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ قيل:
أي وهم يعلمون أنّي أعاقب على الإصرار وقيل: وهو قول حسن وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ولم يعلمه أن يتوب منه بعينه ولكن يعتقد أنّه كلّما ذكر ذنبا تاب منه.
(١) وهذا قول الضحاك أيضا، انظر البحر المحيط ٣/ ٦٢.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٦]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ابتداءان. وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ نسق.
خالِدِينَ على الحال.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٧]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ السنّة في كلام العرب الطريق المستقيم وفلان على السنّة أي على الطريق المستقيم لا يميل إلى شيء من الأهواء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وَلا تَهِنُوا نهي، والأصل: توهنوا حذفت الواو لأن بعدها كسرة فأتبعت يوهن. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ابتداء وخبر وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لأن الفتحة تدلّ عليها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وقرأ الكوفيون قَرْحٌ «١» وقرأ محمد اليماني قَرْحٌ «٢» بفتح الراء. قال الفراء «٣» : كأن القرح ألم الجراح وكأن القرح الجراح بعينها، وقال الكسائي والأخفش: هما واحد. قال أبو جعفر: هذا مثل فقر وفقر فأمّا القرح فهو مصدر قرح يقرح قرحا. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ قيل: هذا في الحرب تكون مرّة للمؤمنين لينصر الله دينه وتكون مرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم الله وليمحّص ذنوبهم.
وقيل: معنى نداولها بين الناس من فرح وغمّ وصحّة وسقم لنكد الدنيا وفضل الآخرة عليها. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وحذف الفعل أي وليعلم الله الّذين آمنوا داولها.
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء يوم القيامة على الناس بأعمالهم فقيل لهذا شهيد. قيل: إنّما سمّي شهيدا لأنه مشهود له بالجنّة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤١]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نسق أيضا وفي معناه ثلاثة أقوال قيل: يمحّص يختبر،
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٤، والبحر المحيط ٣/ ٦٨، وهذه قراءة أبي بكر والأعمش أيضا.
(٢) انظر المحتسب ١/ ١٦٦، والبحر المحيط ٣/ ٦٨، وهذه قراءة أبي السمال وابن السميفع.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٥.
وقال الفراء: أي وليمحّص الله ذنوب الذين آمنوا، والقول الثالث أي يمحّص يخلص وهذا أعرفها. قال الخليل رحمه الله يقال: محص الحبل يمحص محصا إذا انقلع وبره منه اللهمّ محّص عنّا ذنوبنا أي خلّصنا من عقوبتنا. وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «أن» وصلتها يقومان مقام المفعولين. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي علم شهادة والمعنى ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم وفرق سيبويه بين لم ولمّا «١»، فزعم أنّ لم يفعل نفي فعل وأنّ لمّا يفعل نفي قد فعل. وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ جواب النفي، وهو عند الخليل «٢» منصوب بإضمار أن، وقال الكوفيون: هو منصوب على الصرف، فيقال لهم ليس يخلو الصرف من أن يكون شيئا لغير علّة أو لعلة فلعلّة نصب ولا معنى لذكر الصرف. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «٣» فهذا على النسق، وقرأ مجاهد وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَنْ في موضع نصب على البدل من الموت وقَبْلِ غاية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ابتداء وخبر وبطل عمل ما روي عن ابن عباس أنه قرأ قد خلت من قبله رسل بغير ألف ولام. أَفَإِنْ ماتَ شرط. أَوْ قُتِلَ عطف عليه والجواب انْقَلَبْتُمْ وكلّه استفهام ولم تدخل ألف الاستفهام في انقلبتم لأنها قد دخلت في الشرط، والشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد وكذا المبتدأ وخبره تقول: أزيد منطلق؟ ولا تقول: أزيد أمنطلق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «أن» في موضع اسم كان. قال أبو إسحاق «٤» : المعنى وما كان لنفس لتموت إلا بإذن الله. قال أبو جعفر: لنفس تبيين
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٥، والإنصاف مسألة ٧٥.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٥، ومختصر ابن خالويه ٢٢.
(٣) انظر مصحف عبد الله، والبحر المحيط ٣/ ٧٤.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤٢٠.
ولولا ذلك لكنت قد فرقت بين الصلة والموصول. كِتاباً مُؤَجَّلًا مصدر ودل بهذه الآية على أن كلّ إنسان مقتول أو غير مقتول قد بلغ أجله وأن الخلق لا بدّ أن يبلغوا آجالهم آجالا واحدة كتبها الله عليهم لأن معنى مؤجّلا إلى أجل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٦]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ «١» قال الخليل وسيبويه «٢» : هي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم فالوقف على قوله وكأيّن وقرأ أبو جعفر وابن كثير وكاإن وهو مخفّف من ذاك وهو كثير في كلام العرب. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء ربيّون «٣» بضم الراء. قال أبو جعفر: وقد ذكر سيبويه مثل هذا وقد ذكرنا معنى الآية: وقرأ أبو السمّال العدوي فما وهنوا لما أصابهم «٤» بإسكان الهاء وهذا على لغة من قال: وهن. حكى أبو حاتم: وهن يهن مثل ورم يرم ويجوز ما ضَعُفُوا بإسكان العين بحذف الضمة والكسرة لثقلها وحكى الكسائي وَما ضَعُفُوا بفتح العين ولا يجوز حذف الفتحة لخفتها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٧]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
وقرأ الحسن وَما كانَ قَوْلَهُمْ جعله اسم «كان» ومن نصب جعله خبر كان وجعل اسمها أَنْ قالُوا لأنه موجب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٠]
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
وأجاز الفراء «٥» بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ بمعنى أطيعوا الله مولاكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
سَنُلْقِي فعل مستقبل وحذفت الضمة من الياء لثقلها وقرأ أبو جعفر والأعرج
(١) هذه قراءة نافع وأبي عمر وابن كثير، أما قراءة الباقين فبالألف وفتح القاف والتاء. انظر تيسير الداني ٧٥. [.....]
(٢) انظر البحر المحيط ٣/ ٧٧.
(٣) هذه قراءة علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس أيضا، انظر مختصر ابن خالويه ٢٢، والمحتسب ١/ ١٧٣.
(٤) انظر البحر المحيط ٣/ ٧٨، ومختصر ابن خالويه ٢٢.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢٣٧.
وعيسى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وهما لغتان. مَثْوَى الظَّالِمِينَ رفع بئس.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
ويجوز وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ مدغما وكذا إِذْ تَحُسُّونَهُمْ. وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة أي منكم من يريد الغنيمة بقتاله ومنكم من يريد الآخرة بقتال. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ في هذه الآية غموض في العربية وذاك أن قوله جلّ وعزّ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ليس بمخاطبة للذين عصوا وإنما هو مخاطبة للمؤمنين، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم أن ينصرفوا إلى ناحية الجبل ليتحرّزوا إذ كان ليس فيهم فضل للقتال. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ للعاصين خاصة وهم الرماة وهذا في يوم أحد كانت الغلبة بدئا للمؤمنين حتى قتلوا صاحب راية المشركين فذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فلمّا عصى الرماة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشغلوا بالغنيمة صارت الهزيمة عليهم ثم عفا الله عنهم ونظير هذا من المضمر فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة: ٤٠] أي على أبي بكر الصدّيق قلق حتّى تبين له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسكن وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة: ٤٠] للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وقرأ الحسن ولا تلون «١» بواو واحدة وقد ذكرنا نظيره «٢»، وروى أبو يوسف الأعشى عن أبي بكر بن عيّاش عن عاصم ولا تلوون بضم التاء وهي لغة شاذة. فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ لمّا صاح صائح يوم أحد قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم زال غمّهم بما أصابهم من القتل والجراح لغلط ما وقعوا فيه، وقيل: وقفهم الله جلّ وعزّ على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم وقيل فأثابكم أن غمّ الكفار كما غموكم لكيلا تحزنوا بما أصابكم دونهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣، والبحر المحيط ٣/ ٨٩.
(٢) انظر إعراب الآية ٧٨- آل عمران.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً «أمنة» منصوبة بأنزل ونعاس بدل منها، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولا من أجله ونعاسا بأنزل يغشى للنعاس وتغشى للأمنة.
وَطائِفَةٌ ابتداء والخبر قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، ويجوز أن يكون الخبر يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ والواو بمعنى إذ والجملة في موضع الحال، ويجوز في العربية وطائفة بالنصب على إضمار أهمّت. ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ مصدر أي يظنّون ظنّا مثل ظنّ الجاهلية وأقيم النعت مقام المنعوت والمضاف مقام المضاف إليه. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ «من» الأولى للتبعيض والثانية زائدة. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اسم إنّ وكلّه توكيد، وقال الأخفش: بدل. وقرأ أبو عمرو وابن أبي ليلى «١» وعيسى قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ «٢» رفع بالابتداء «ولله» الخبر والجملة خبر «إنّ». قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وقرأ الكوفيون في بيوتكم بكسر الباء أبدل من الضمة كسر لمجاورتها الياء. لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ «٣» وقرأ أبو حيوة لَبَرَزَ «٤» والمعنى: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم في اللوح المحفوظ القتل إلى مضاجعهم، وقيل: كتب بمعنى فرض.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وحذف الفعل الذي مع لام كي والمعنى: وليبتلي الله ما في صدوركم فرض عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحّص عنكم سيّئاتكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
الَّذِينَ اسم «إنّ» والخبر إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي استدعى زللهم بأن ذكّرهم خطاياهم فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، وقيل: ببعض ما كسبوا بانهزامهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
(١) ابن أبي ليلى: عبد الرّحمن الأنصاري الكوفي، تابعي كبير، عرض على علي بن أبي طالب (ت ٨٢ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٧٦.
(٢) انظر تيسير الداني ٧٥.
(٣) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط ٣/ ٩٧.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣، والبحر المحيط ٣/ ٩٧.
غُزًّى جمع غاز مثل صائم وصوّم، ويقال: غزّاء كما يقال: صوّام، ويقال:
غزاة وغزيّ كما قال: [الكامل] ٨٦-
قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا «١»
وروي عن الزهري أنه قرأ غُزًّى بالتخفيف لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فيه قولان أحدهما أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ جعل ظنّهم أن إخوانهم لو قعدوا عندهم ولم يخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قتلوا، والقول الآخر أنهم لما قالوا هذا لم يلتفت المؤمنون إلى قولهم فكان ذلك حسرة. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يقدر على أن يحيي من خرج إلى القتال ويميت من أقام في أهله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٧]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ قال عيسى أهل الحجاز يقولون: متّم وسفلى مضر يقولون: متّم بضم الميم. قال أبو جعفر: قول سيبويه «٢» إنه شاذ جاء على متّ يموت ومثله عنده فضل يفضل وأما الكوفيون فقالوا من قال: متّ قال: يمات مثل خفت تخاف ومن قال: متّ قال يموت، وهذا قول حسن وجواب «أو» لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وهو محمول على المعنى لأن معنى ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم ليغفرنّ لكم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٨]
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فوعظهم بهذا أي لا تفرّوا من القتال ومما أمرتكم به وفرّوا من عقاب الله فإنكم إليه تحشرون لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «ما» زائدة وخفضت رَحْمَةٍ بالباء ويجوز أن تكون «ما»
(١) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ص ٥٣، ولسان العرب (غزا)، وتهذيب اللغة ٨/ ١٦٣، وذيل الأمالي ٢/ ٨، والحماسة البصرية ١/ ٢٠٦، وخزانة الأدب ١٠/ ٤، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى ٢/ ١٩٩، وبلا نسبة في كتاب العين ٤/ ٤٣٤، وعجزه:
«والباكرين وللمجدّ الرّائح»
(٢) انظر الكتاب ٤/ ٤٨٦.
اسما نكرة خفضا بالباء ورحمة نعتا لما ويجوز فبما رحمة أي فبالذي هو رحمة أي لطف من الله جلّ وعزّ. لِنْتَ لَهُمْ كما قال: [الكامل] ٨٧-
فكفى بنا فضلا على من غيرنا «١»
وغير أيضا وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا على فعل- الأصل فظظ. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ والمصدر مشاورة وشوار فأما مشورة وشورى فمن الثلاثي. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وقرأ جابر بن زيد أبو الشعثاء وأبو نهيك فَإِذا عَزَمْتَ أي فتوكّل على الله أي لا تتّكل على عدّتك وتقوّ بالله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ شرط والجواب في الفاء وما بعدها وكذا وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليثقوا بالله وليرضوا بجميع ما فعله. هذا معنى التوكل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «٢» قد ذكرناه «٣» وذكرنا قراءة ابن عباس يَغُلَّ «٤» وَمَنْ يَغْلُلْ شرط. يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ جوابه أي ومن يغلل بما غلّه يوم القيامة يحمله على رؤوس الأشهاد عقوبة له وفي هذا موعظة لكل من فعل معصية مستترا بها وتمّ الكلام ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ عطف جملة على جملة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٣]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ابتداء وخبر يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ودخل الجنة أي هم متفاضلون ويجوز أن يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ولمن باء بسخطه، ويكون المعنى لكل واحد منهم حظّه من عمله.
(١) مرّ الشاهد (٣٠).
(٢) هذه قراءة السبعة عدا ابن كثير وأبي عمر وعاصم فقد قرءوا بفتح الياء وضمّ العين. انظر تيسير الداني ٧٦. [.....]
(٣) انظر معاني ابن النحاس ورقة (٥٥ ب).
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٢٤٦.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
إِذْ ظرف والمعنى في المنّة فيه أقوال منها أن يكون معنى من أنفسهم أنه بشر مثلهم فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أنّ ذلك من عند الله جل وعز، وقيل:
من أنفسهم منهم، فشرفوا به فكانت تلك المنة، وقيل: من أنفسهم أي يعرفونه بالصدق والأمانة فأما قول من قال معناه «من العرب» فذلك أجدر أن يصدقوه إذ لم يكن من غيرهم فخطأ لأنه لا حجة لهم في ذلك لو كان من غيرهم كما أنه لا حجة لغيرهم في ذلك. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب نعت لرسول.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها المصيبة التي قد أصابتهم يوم أحد أصابوا مثليهما يوم بدر، وقيل: أصابوا مثليها يوم بدر ويوم أحد جميعا
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٦]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)
فَبِإِذْنِ اللَّهِ قيل: بعلمه ولا يعرف في هذا إلّا الإذن ولكن يكون فبإذن الله فبتخليته بينكم وبينهم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٧]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وحذف الفعل أي خلّى بينكم وبينهم والمنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه وانهزموا يوم أحد إلى المدينة فلما وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فأكذبهم الله جلّ وعزّ فقال: قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في موضع نصب على النعت للذين نافقوا أو على أعني يجوز أن يكون رفعا على إضمار مبتدأ. قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فكما لا تقدرون أن تدفعوا عن أنفسكم الموت كذا لا تقدرون أن تمنعوا من القتل من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يقتل.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٩]

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً مفعولان. بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٠]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
فَرِحِينَ نصب على الحال ويجوز في غير القرآن رفعه يكون نعتا لأحياء.
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ قيل: لم يلحقوا بهم في الفضل وقيل: هم في الدنيا. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بدل من «الذين» وهو بدل الاشتمال ويجوز أن يكون المعنى بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٢]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ابتداء والخبر لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ويجوز أن يكون الذين بدلا من المؤمنين وبدلا من الذين لم يلحقوا بهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٣]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ بدل من الذين قبله. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ابتداء وخبر أي كافينا الله. يقال: أحسبه إذا كافأه. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ مرفوع بنعم أي نعم القيّم والحافظ الله والناصر لمن نصره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٥]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
وقد ذكرنا إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هذه أفصح اللغتين وقال: «يحزنك». ويقال:
إنّ هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدّوا خوفا من المشركين فاغتمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله جلّ وعزّ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لن يضرّوا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله جلّ وعزّ ناصرهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ مجاز جعل- مما استبدلوا به من الكفر وتركوه من الإسلام بمنزلة البيع والشراء.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ لام النفي وأن مضمرة إلّا أنها لا تظهر.
ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمنين بالمنافقين حتى يميّز بينهما بالمحنة والتكليف فتعرفوا المؤمن من المنافق والخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل: المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الإقرار فقط حتى يفرض عليهم الفرائض، وقيل: هذا خطاب للمنافقين خاصة أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ما كان ليعيّن لكم المنافقين حتّى تعرفوهم ولكن يظهر ذلك بالتكليف والمحنة وقيل: ما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على ما يشاء من ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
قرأ هل المدينة وأكثر القراء: وَلا يَحْسَبَنَّ بالياء في الموضعين جميعا وقرأ حمزة بالتاء «١» فيهما، وزعم أبو حاتم: أنه لحن لا يجوز وتابعه على ذلك جماعة، وقرأ يحيى بن وثاب أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران: ١٧٨] بكسر «إن» فيهما جميعا. قال أبو حاتم: وسمعت الأخفش يذكر كسر «إن» يحتجّ به لأهل القدر لأنه كان منهم ويجعله على التقديم والتأخير أي ولا يحسبنّ الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار: إنّما نملي لهم ليزدادوا إيمانا، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبيّن اللحق فحكّه.
قال أبو جعفر: التقدير على قراءة نافع أنّ «أنّ» تنوب عن المفعولين، وأما قراءة حمزة فزعم الكسائي والفراء «٢» أنّها جائزة على التكرير أي ولا تحسبنّ الذين كفروا لا تحسبنّ إنما نملي لهم. قال أبو إسحاق «٣» :«أنّ» بدل من الذين أي ولا يحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم أي إملاءنا للذين كفروا خيرا لأنفسهم كما قال: [الطويل] ٨٨-
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنّه بنيان قوم تهدّما «٤»
(١) انظر تيسير الداني ٧٧.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٢٤٨، والبحر المحيط ٣/ ١٢٩.
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤٤١.
(٤) مرّ الشاهد رقم (٤٨).
قال أبو جعفر: قراءة يحيى بن وثاب بكسر إن فيهما جميعا حسنة كما تقول:
حسبت عمرا أبوه خارج. فأما وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على قراءة نافع فالذين في موضع رفع والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والكسائي والفراء «١» والمعنى: البخل هو خيرا لهم، «وهو» زائدة، عماد عند الكوفيين وفاصلة عند البصريين ومثل هذا المضمر قول الشاعر: [الوافر] ٨٩-
إذا نهي السّفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف «٢»
لمّا أن قال السفيه دلّ على السفل فأضمره ولما قال جلّ وعزّ: يبخلون دلّ على البخل ونظيره قول العرب: «من كذب كان شرا له» «٣» فأما قراءة حمزة ولا تحسبنّ الذين يبخلون فبعيدة جدا وجوازها أن يكون التقدير: ولا تحسبنّ الذين يبخلون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] ويجوز في العربية وهو خير لهم ابتداء وخبر. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ابتداء وخبر وكذا وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكذا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، البخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل لأنه لا يذمّ بذلك، وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون وبعض بني عامر يقولون: يجدبي أي يجتبي فيبدلون من التاء دالا إذا كان قبلها جيم ويقولون يجدلون أي يجتلدون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨١]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ وإن شئت أدغمت الدال في السين لقربها منها قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كسرت إن لأنها حكاية وبعض العرب يفتح. قال أهل التفسير: لما أنزل الله جلّ وعزّ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: ٢٤٥] قال قوم من اليهود إن الله فقير يقترض منا وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم لا إنهم يعتقدون هذا لأنهم أهل كتاب ولكنهم كفروا بهذا القول لأنهم أرادوا تشكيك المؤمنين وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم أي إنه فقير على قول محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه اقترض منا. سَنَكْتُبُ ما قالُوا نصب بسنكتب وقرأ الأعمش وحمزة سيكتب ما قالوا «٤» فما هاهنا اسم ما لم يسمّ فاعله واعتبر حمزة بقراءة ابن مسعود ويقال ذوقوا عذاب الحريق. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي ونكتب قتلهم أي رضاهم بالقتل وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي نوبّخهم بهذا.
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٤٨.
(٢) مرّ الشاهد رقم (٦٧).
(٣) انظر الكتاب ٢/ ٤١٢.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٢٤٩، وتيسير الداني ٧٧.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٢]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في موضع خفض بدلا من الذين في قوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا [آية: ١٨١] أَلَّا نُؤْمِنَ في موضع نصب. قال الملهم صاحب الأخفش من أدغم بغنّة كتب أن لا منفصلا ومن أدغم بغير غنّة كتب ألّا متصلا وقيل بل يكتب منفصلا لأنها «أن» دخلت عليها «لا» وقيل: من نصب الفعل كتبها متصلة ومن رفع كتبها منفصلة حَتَّى يَأْتِيَنا نصب بحتى. وقرأ عيسى بن عمر بِقُرْبانٍ «١» بضم الراء. إن جمعت قربانا قلت: قرابين وقرابنة. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي على تذكير الجميع أي جاء أوائلكم وإذا جاء أوائلهم فقد جاءهم. بِالْبَيِّناتِ بالآيات المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ بالقربان. فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين إن الله جلّ وعزّ عهد إليكم ألّا تؤمنوا حتى تؤتوا بقربان تأكله النار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ شرط فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جوابه فهذا تعزية له صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ابتداء وخبر. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «ما» كافة ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي ولو كان ذلك لقلت: أجوركم فرفعت على خبر «إن» وفرقت بين الصلة والموصول. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ابتداء وخبر أي أنها فانية فهي بمنزلة ما يغر ويخدع.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ لا ما قسم فإن قيل: لم ثبتت الواو في «لتبلونّ» وحذفت من «لتسمعنّ» ؟ فالجواب أنّ الواو في لتبلونّ قبلها فتحة فحركت
(١) انظر المحتسب ١/ ١٧٧، والبحر المحيط ٣/ ١٣٨.
لالتقاء الساكنين ولم يجز حذفها لأنه ليس قبلها ما يدلّ عليها وحذفت في ولتسمعنّ لأن قبلها ما يدلّ عليها ولا يجوز همز الواو في لتبلونّ لأن حركتها عارضة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ على حكاية الخطاب، وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء «١» لأنهم غيب والهاء كناية عن أهل الكتاب، وقيل: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أي عن أمره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٨]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش بما آتوا «٢» أي أعطوا. قيل: يراد بهذا اليهود وفي قراءة أبيّ بما فعلوا «٣»، وقال ابن زيد: هم المنافقون كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نخرج ونحارب معك ثم يتخلّفون ويعتذرون ويفرحون بما فعلوا لأنهم يرون أنهم قد تمّت لهم الحيلة فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ كرّر «تحسبنّ» لطول الكلام ليعلم أنه يراد الأول كما تقول: لا تحسب زيدا إذا جاءك وكلّمك لا تحسبه مناصحا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٩]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ابتداء وخبر، وكذا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٠]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ في موضع نصب على أنه اسم «إن» لِأُولِي خفض باللام وزيدت فيها الواو فرقا بينها وبين «إلى». الْأَلْبابِ خفض بالإضافة وحكى سيبويه «٤» عن يونس: قد لببت ولا يعرف في المضاعف سواه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩١]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ في موضع خفض على النعت لأولي الألباب. قِياماً وَقُعُوداً
(١) وهذه قراءة ابن كثير أيضا، انظر تيسير الداني ٧٧.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤، والبحر المحيط ٣/ ١٤٣. [.....]
(٤) انظر الكتاب ٤/ ١٤٧.
نصب على الحال. وَعَلى جُنُوبِهِمْ في موضع حال أي مضطجعين. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليكون ذلك أزيد في بصائرهم ويكون «ويتفكّرون» عطفا على الحال أو على يذكرون أو منقطعا. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي ما خلقته من أجل باطل أي خلقته دليلا عليك، والتقدير: يقولون «باطلا» مفعول من أجله. سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن يكون خلقت هذا باطلا. حدّثنا عبد السلام بن أحمد بن سهل قال: حدّثنا محمد بن علي بن محرّر قال: حدّثنا أبو أسامة قال: حدّثنا الثوريّ عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى «سبحان الله» فقال:
«تنزيه الله عن السوء» «١». سُبْحانَكَ مصدر وأضيف على أنه نكرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٣]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
رَبَّنا نداء مضاف. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ في موضع نصب أي بأن آمنوا. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ المعنى وتوفّنا أبرارا مع الأبرار، ومثل هذا الحذف كلّه قوله: [الوافر] ٩٠-
كأنّك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشنّ «٢»
وواحد الأبرار بارّ كما يقال: صاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون واحدهم برّا مثل كتف وأكتاف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٤]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على ألسن رسلك مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢].
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي أي بأنّي، وقرأ عيسى بن عمر فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي «٣»
(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١١/ ٦٤.
(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ١٢٦، وخزانة الأدب ٥/ ٦٧، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٥٨، وشرح المفصّل ٣/ ٥٩، والكتاب ٢/ ٣٦٣، ولسان العرب (وقش)، و (قعع) و (شنن)، والمقاصد النحوية ٤/ ٦٧، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ١/ ٢٨٤، وشرح الأشموني ٢/ ٤٠١، وشرح المفصّل ١/ ٦١، ولسان العرب (خدر) و (أقش) و (دنا)، والمقتضب ٢/ ١٣٨.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤.
بكسر الهمزة أي فقال إني. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر أي دينكم واحد. فَالَّذِينَ هاجَرُوا ابتداء. وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي في طاعة الله جلّ وعزّ. وَقُتِلُوا أي قاتلوا أعدائي. وَقُتِلُوا أي في سبيلي، وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا «١» على التكثير، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا «٢» لأن الواو لا تدلّ على أن الثاني بعد الأول. قال هارون القارئ: حدّثني يزيد بن حازم «٣» عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه أنه قرأ وقتلوا وقتلوا «٤» خفيفة بغير ألف. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأسترنّها عليهم في الاخرة فلا أوبّخهم بها ولا أعاقبهم عليها. ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مصدر مؤكد عند البصريين، وقال الكسائي: وهو منصوب على القطع، قال الفراء «٥» : هو مفسّر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٦]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نهي مؤكد بالنون الثقيلة، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب لا يَغُرَّنَّكَ بنون خفيفة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٧]
مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك متاع قليل أي ابتداء وخبر، وكذا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ والجمع مآو.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ في موضع رفع بالابتداء، وقرأ يزيد بن القعقاع لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا «٦» بتشديد النون نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مثل ثوابا عند البصريين، وقال الكسائي: يكون مصدرا وقال الفراء «٧» : هو مفسّر، وقرأ الحسن نزلا «٨» بإسكان الزاي وهي لغة تميم، وأهل الحجاز وبنو أسد يثقّلون.
(١) انظر تيسير الداني ٧٧.
(٢) انظر تيسير الداني ٧٧.
(٣) يزيد بن حازم بن زيد الأزدي الجهضمي البصري. روى عن سليمان بن يسار وعكرمة (ت ١٤٨ هـ) ترجمته في تهذيب التهذيب ١١/ ٣١٧.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤، والبحر المحيط ٣/ ١٥٢.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢٥١، والبحر المحيط ٣/ ١٥٣.
(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤.
(٧) انظر معاني الفراء ١/ ٢٥١.
(٨) وهذه قراءة مسلمة بن محارب والأعمش أيضا، وانظر مختصر ابن خالويه ٢٤.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اسم «إنّ» واللام توكيد. قال الضحاك: وما أنزل إليكم القرآن وما أنزل إليهم التوراة والإنجيل. قال الحسن: نزلت في النجاشيّ «١». خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من المضمر الذي في يؤمن، وقال الكسائي: يكون قطعا من من لأنها معرفة وتكون قطعا من وما أنزل إليهم. قال الضحاك: خاشِعِينَ أي أذلّة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أمر فلذلك حذفت منه النون. وَصابِرُوا وَرابِطُوا عطف عليه وكذا وَاتَّقُوا اللَّهَ أي لا يكن وكدكم الجهاد فقط اتقوا الله في جميع أموركم. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتكونوا على رجاء من الفلاح. قال الضحّاك: الفلاح البقاء.
(١) انظر البحر المحيط ٣/ ١٥٥.
Icon