تفسير سورة غافر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة غافر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم، وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهاره للآيات، وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات؛ لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحي على من يشاء من عباده؛ لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاق.. أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة، تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة.. أردفه بتخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم، ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاؤوهم بالبينات.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك: أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾: اسم (٢) للسورة، ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هذه السورة مسماة بحم، نزلت منزلة الحاضر المشار إليه؛ لكونها على شرف الذكر والحضور.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: حمَ اسم الله الأعظم، وعنه قال: ﴿حم (١)﴾ اسم الله الأعظم، وعنه قال: ﴿آلر﴾ و ﴿حم (١)﴾ و ﴿نَ﴾: حروف، اسمه الرحمن مقطعة، وقيل الحاء: افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنَّان،
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
116
والميم: افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل: ﴿حم (١)﴾ معناه: حم بضم الحاء؛ أي: قضي وبين ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقرأ الجمهور (١): بفتح الحاء مشبعًا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بإمالته إمالةً محضةً، وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش: بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: ﴿حم (١)﴾ بسكون الميم، كسائر الحروف المقطعة، وقرأ الزهري: بضمها، على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: بفتحها، على أنه منصوب بفعل مقدر؛ أي: اقرأ حم، وإنما منعت من الصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية وشبه المعجمة، وذلك أنه ليس في الأوزان العربية وزن فاعيل، بخلاف الأعجمية، نحو قابيل وهابيل، أو على أنها حركة بناء تخفيفًا، كأين وكيف، وعلة البناء فيه: الشبه الوضعي، وقرأ أبو السمال: بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم، وقرأ الجمهور: بوصل الحاء بالميم، وقرأ أبو جعفر؛ بقطعها.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿حم (١)﴾ تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغني عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك: أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام، نحو ﴿ألا﴾ و ﴿يا﴾ وينطق بأسمائها، فيقال: حاميم بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجوالقي والحريري وابن الجوزي، وقالوا: لا يقال ذلك، بل يقال: آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب "الصحاح": نقل عن الفراء أن قول العامة: الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم.. فقد وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِيْ آلِ حَم آيَةً تَأَوَّلَهَا منَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ
يريد بذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. انتهى.
وقال الشوكاني: وقد اختلف في معناه، فقيل هو اسم من أسماء الله تعالى،
(١) الشوكاني.
117
وقيل: اسم من أسماء القرآن، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ووقع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وجعلاه بمعنى حم؛ أي: قضي ووقع، وقيل: معناه حم أمر الله؛ أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه، وهذا تكلف لا موجب له، وتعسف لا مُلجِىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله سبحانه بعلم معناه، كما قدمنا تحقيقه في أول سورة البقرة. انتهى.
٢ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ هو خبر لـ ﴿حم (١)﴾ على تقدير أنه مبتدأ؛ أي: سورة حم الكتاب المنزل ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ إلخ. فالمصدر بمعنى اسم المفعول، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ والمصدر على معناه، وهذا أولى الوجوه؛ أي: تنزيل هذا الكتاب الكريم كائن من الله تعالى، لا كما يقول الكفار ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب القاهر على ما أراد ﴿الْعَلِيمِ﴾ بكل المعلومات، ولعل تخصيص هذين الوصفين لما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلم الدالين على القدرة الكاملة والعلم البالغ، وفي "فتح الرحمن": العزيز الذي لا مثل له، العليم بكل المعلومات، أو الكثير العلم بخلقه، وبما يقولونه ويفعلونه.
والمعنى: أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب، القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه وبما يقولون وما يفعلون، وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقول ولا مما يجوز أن يكذب به
٣ - ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ صفة أخرى للجلالة، والإضافة حقيقيّة؛ لأنه لم يرد به زمان مخصوص؛ لأن صفات الله تعالى أزلية منزهة عن التجدد والتقيد بزمان دون زمان، وإن كان تعلقها حادثًا بحسب حدوث المتعلقات كالذنب في هذا المقام، واسم الفاعل يجوز أن يراد به الاستمرار، بخلاف الصفة المشبهة، والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره، ولم يقل: غافر الذنوب بالجمع، إرادةً للجنس، كما في الحمد لله.
والمعنى: ساتر جميع الذنوب، صغائرها وكبائرها، بتوبة وبدونها، ولا يفضح صاحبها يوم القيامة، كما يقتضيه مقام المدح العظيم ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ والقابل في الأصل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، والتوب مصدر، كالتوبة: وهو ترك الذنوب على أحد الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت، وأقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا
118
الثالث هو التوبة، والتوبة في الشرع: هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربعة.. فقد كملت شرائط التوبة، فالتوبة هي الرجوع عما كان مذمومًا في الشرع إلى ما هو محمود في الدين، والاستغفار: عبارة عن طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية والإعراض عنها، فالتوبة مقدمة على الاستغفار، والاستغفار لا يكون توبة بالإجماع، ما لم يقل معه: تبت وأسأت ولا أعود إليه أبدًا، فاغفر لى يارب.
وتوسيط الواو بين الغافر والقابل؛ لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة في موصوف واحد بالنسبة إلى طائفة هي طائفة المذنبين التائبين، فالمغفرة بمحو الذنوب بالتوبة، والقبول بجعل تلك التوبة طاعة مقبولًا يثاب عليها، فقبول التوبة كناية عن أنه تعالى يكتب تلك التوبة للتائب طاعة من الطاعات، وإلا لما قبلها؛ لأنه لا يقبل إلا ما كان طاعة، أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهم الاتحاد، بأن يذكر الثاني لمجرد الإيضاح والتفسير، أو لتغاير موقع الفعلين ومتعلقهما؛ لأن الغفر: هو الستر مع بقاء الذنب، وذلك لمن لم يتب من أصحاب الكبائر، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والقبول بالنسبة إلى التائبين عنها.
وفي "الأسئلة المقحمة": قدم المغفرة على التوبة؛ ردًا على المعتزلة، ليعلم أنه تعالى ربما يغفر من غير توبة ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾؛ أي: مشدد العقاب لمن مات على الشرك، فهو اسم فاعل، كما قبله، فصح جعله نعتًا للمعرفة، حيث يراد به الدوام والثبوت، وليس بصفة مشبهة، حتى تكون الإضافة لفظية، بأن يكون من إضافة الصفة إلى فاعلها، ولئن سلم.. فالمراد الشديد عقابه باللام فحذفت للازدواج مع ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ في الخلو عن الألف واللام ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾؛ أي: صاحب الفضل والإحسان على من آمن به بترك العقاب المستحق، وذي الغنى على من لم يؤمن به، والطول بالفتح: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول؛ أي: زيادة وفضل، وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر؛ لأنه إذا كان طويلًا.. ففيه كمال وزيادة، كما أنه إذا كان قصيرًا.. ففيه قصور ونقصان، وسمي الغني أيضًا طولًا؛ لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر، كما أنه بالطول ينال ما لا ينال بالقصر، كذا في "تفسير الإِمام" في سورة النساء، والمراد هنا:
119
الفضل بترك العقاب المستحق، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات الرحمة: دليل سبقها ورجحانها.
والمعنى: أي وهو سبحانه الإله الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعثا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم، التي لا يطيقون القيام بشكرها، ولا شكر واحدة منها، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
وذكر: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾؛ لترغيب عباده العاصين، وذكر: ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحث على فعل المراد من تنزيل الكتاب، وهو التوحيد والإيمان بالبعث، والإخلاص لله في العمل، والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه، كقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)﴾ ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ ليبقى العبد بين الخوف والرجاء ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه، فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى فحسب، لا إلى غيره، لا استقلالًا ولا اشتراكًا ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع والمآب؛ أي: رجوع الخلق إليه سبحانه في الآخرة، فيجازي كلا من المطيع والعاصي.
٤ - ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله، أنزله ليهتدى به في الدين.. ذكر أحوال من يجادل فيه بقصد إبطاله، فقال: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: ما يخاصم وينازع في دفع آيات الله وإبطالها. وتكذيبها؛ أي: ما يخاصم في آيات الله تعالى التنزيلية، أو التكوينية بالطعن فيها، بأن يقول في حقها سحرًا أو شعرًا أو أساطير الأولين أو نحو ذلك، وباستعمال المقدمات الباطلة لإدحاضه وإزالته وإبطاله، لقوله تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ فحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وأريد بالجدال المذكور هنا: الجدال بالباطل، أما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم.. فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، ومن أفضل الطاعات، كالجهاد في سبيل الله تعالى.
120
﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بها، وأما الذين آمنوا.. فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها، فضلًا عن الطعن فيها، ولما حكم سبحانه وتعالى على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾ يا محمد ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾؛ أي: تنقلهم ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ للتجارات النافقة، والمكاسب المربحة، سالمين غانمين بمراداتهم، فإنهم يمهلون ولا يهلون، و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾: واقعة في جواب شرط محذوف، والغرة: غفلة في اليقظة، والتقلب: التنقل في البلاد والتصرف فيها بالتجارة.
والمعنى: فإذا علمت يا محمد أنهم محكوم عليهم بالكفر.. فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم، وتقلبهم في بلاد الشام واليمن للتجارات المربحة، وهي رحلة الشتاء والصيف.
وقرأ الجمهور: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾ بالفك، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير: ﴿فلا يغرك﴾ بالإدغام مفتوح الراء، وهي لغة تميم.
ومعنى الآية: أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه، كقولهم مرة: أنه شعر، وأخرى: أنه سحر، وثالثة: أنه أساطير الأولين، إلى أشباه ذلك من سخيف المقال، إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره، وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الإشارة بقوله - ﷺ -: "لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر". أما الجدل لتقرير الحق، وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن.. فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى عن قوم نوح لنوح ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنه - قال: هاجرت إلى رسول الله - ﷺ - يومًا، فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". رواه مسلم.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علي ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. وقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - أن
121
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر.. نهى رسوله - ﷺ - أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾؛ أي: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة في البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمن، ورحلة الصيف في الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا.. فإنهم لا يهملون، قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
وقال في "عين المعاني": فلا يغررك أيها المغرور، والمراد غيره - ﷺ - خطاب للمقلدين من المسلمين. انتهى.
وفي هذا تسلية له - ﷺ -، ووعيد لهم،
٥ - ثم قال مسليًا رسول الله - ﷺ - على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوةً في سلفه الأنبياء، فان أقوامهم كذبوهم، وما آمن منهم إلا قليل، فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل قريش ﴿قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ﴾؛ أي: القبائل من الكفار الذين تحزبوا على الرسل وعادوهم وحاربوهم ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد قوم نوح، مثل عاد وثمود وأضرابهم، وبدأ بقوم نوح إذ كان أول رسول في الأرض؛ أي: لأن آدم إنما أرسل إلى أولاده.
أي: كذبت (١) قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم، كما هي سنتنا في أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك. ﴿وَهَمَّتْ﴾؛ أي: قصدت وعزمت ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾ من تلك الأمم المكذبة أن يوقعوا الشر ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾ الذي أرسل إليهم، والهم كما سيأتي: تصميم القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، قال في "الأسئلة المقحمة": لم يقل: برسولها؛ لأنه أراد بالأمة هاهنا الرجال دون النساء، وبذلك فسروه، وقال في "عين المعاني": برسولهم تغليب للرجال ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾؛ أي: ليأسروه ويحبسوه فيعذبوه أو يقتلوه، من الأخذ بمعنى الأسر.
وفيه (٢): إشارة إلى أن كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد له من أرباب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الجحود والإنكار وأهل الاعتراض، كما كانوا في عهد كل نبي ورسول، وقال قتادة والسدي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ والعرب تسمي الأسير الأخيذ.
وقرأ الجمهور: ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾، وقرأ عبد الله: ﴿برسولها﴾، عاد الضمير إلى لفظ أمة.
والمعنى: أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه ﴿وَجَادَلُوا﴾؛ أي: وخاصموا رسولهم ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ من القول الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلًا. قال في "فتح الرحمن": الباطل: ما كان فائت المعنى من كل وجه، مع وجود الصورة، إما لانعدام الأهلية، أو لانعدام المحلية، كبيع الخمر وبيع الصبي، انتهى. ﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾؛ أي: ليزيلوا بذلك الباطل، الحق الذي لا محيد عنه، كما فعل هؤلاء المشركون من قومك؛ أي: وخاصموا رسولهم بالباطل، بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها، كقولهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله تعالى، وليطفئوا النور الذي أوتيه.
قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا الإيمان ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ بالإهلاك جزاء لهمّهم بالأخذ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾؛ أي: عقابي الذي عاقبتهم به، فإن آثار دمارهم ترونها حين تمرون على ديارهم عبرة للناظرين، ولآخذنّ هؤلاء أيضًا لاتحادهم في الطريقة، واشتراكهم في الجريمة.
والاستفهام فيه (١) استفهام تعجيب من استئصالهم، واستعظام لما حل بهم، وليس استفهامًا عن كيفية عقابهم، واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة؛ لأنها فاصلة، والأصل: عقابي.
والمعنى (٢): فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم، فلم أبق منهم ديارًا ولا نافخ نار، وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين، كما قال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾
٦ - وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
123
الأمم المكذبة، المتحزبة على رسلهم، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به.. وجب أيضًا ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك؛ أي: كفروا ربك، وتحزبوا عليك، وهموا بما لم ينالوا، فالموصول عبارة عن كفار قومه - ﷺ -، وهم قريش، لا عن الأمم المهلكة.
وقوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ في حيز النصب بحذف لام التعليل، وإيصال الفعل؛ أي: كذلك حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من قومك؛ لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها، التي هي عذاب النار، وملازموها أبدًا لكونهم كفارًا معاندين، متحزبين على الرسول - ﷺ -، كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة، فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقًا، وأحق استيجابًا، فعلة واحدة تجمعهم، وهي أنهم أصحاب النار.
والمعنى (١): أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها، أن يحل بها عقابي.. وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك؛ لأن الأسباب واحدة، والعلة متحدة، وهي كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء، لإصلاح نظم العالم وسعادته في دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية، والسمو بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعًا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله تعالى.
وقيل: هو؛ أعني قوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ في محل الرفع على أنه بدل من ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ بدل الكل.
والمعنى عليه: أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار؛ أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال، كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة، فالتشبيه واقع بين حالتيهم، والجامع للطرفين: إيجاب العذاب، ومحل الكاف على كلا التقديرين، النصب، على أنه نعت لمصدر محذوف، وفي الآية إشارة إلى أن الإصرار مؤد إلى الأخذ والانتقام في الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يرجع إلى الله، ويتوب ويتعظ بغيره، قبل أن يتعظ الغير به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه.
(١) روح البيان.
124
به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه.
وفي مصحف عبد الله (١): ﴿وكذلك سبقت﴾ وهو تفسير معنى، لا قراءة، وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر: ﴿كلمات﴾ على الجمع، وأبو رجاء وقتادة وباقي السبعة: على الإفراد.
٧ - ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله، فقال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ والموصول: مبتدأ، ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾: معطوف على ﴿الَّذِينَ﴾: وخبر المبتدأ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن تكون من في محل نصب عطفًا على ﴿الْعَرْشَ﴾، والأول أولى. ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل، متلبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: بربهم إيمانًا حقيقًا بحالهم، والتصريح به مع إغناء ما قبله عن ذكره، لإظهار فضيلة الإيمان، وإبراز شرف أهله، وقد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.
وقال بعضهم (٢): أشار بالإيمان إلى أنهم في مرتبة الإدراك بالبصائر، محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار، كحال البشر ما داموا في موطن الدنيا، وأما في الجنة.. فقيل: لا يراه الملائكة، وقيل: يراه منهم جبريل خاصة مرةً واحدة، ويراه المؤمنون من البشر في الدنيا بالبصائر، وفي الآخرة بالأبصار؛ لأن قوله ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ قد استثني منه المؤمنون، فبقي على عمومه في الملائكة والجن، وذلك لأن استعداد الرؤية إنما هو لمؤمني البشر؛ لكمالهم الجامع ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ استغفارهم: شفاعتهم وحملهم على التوبة، وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم، وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة، وإن تخالفت الأجناس؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
وقال أبو حيان: فإن قلت: ما فائدة قوله: ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟
قلت: فائدته: إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه، كما وصف
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
125
الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك. انتهى.
والمعنى (١): إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله، ينزهون الله تعالى متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو، ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به، من توحيد الله، والبراءة من كل معبود سواه.
ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم، من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته، ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة، فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذي العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه وتوسطهم في نفاذ أمره.
ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين، فقال حاكيًا عنهم: ﴿رَبَّنَا﴾ فهو على (٢) تقدير القول على أنه بيان لاستغفارهم؛ أي: يقولون: ربنا، أو على أنه حال؛ أي: يستغفرون للذين آمنوا قائلين: ربنا ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ نصب كل من ﴿رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ على التمييز المحول عن الفاعل؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، والمراد: أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وتقديم الرحمة على العلم، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقًا من الرحمة؛ لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي "عين المعاني": ملأت كل شيء نعمةً وعلمًا به، قال بعضهم: دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه؛ لأن كل موجود له رحمة دنيوية ألبتة، وأقلها الوجود، وللشيطان إنظار إلى يوم الدين، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك. ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ عن الشرك والمعاصي ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾؛ أي: تمسكوا بدينك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. و ﴿الفاء﴾ فيه: لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، فما بعد ﴿الفاء﴾ مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم، إذ المعنى: فاغفر للذين علمت منهم التوبة من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
126
الكفر والمعاصي، واتباع سبيل الإيمان والطاعة.
وفيه: إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى. ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: واحفظهم من عذاب جهنم، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد، وذلك لأن معنى الغفران: إسقاط العذاب، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة، فلا بدّ من الثبات عليها، وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة، وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.
والمعنى (١): فاصفح عن المسيئين إذا تابوا، وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية، بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدل القول لديك، قال مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية.
قيل (٢): هذا الاستغفار في مقابلة قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فلما صدر هذا منهم أولًا.. تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم، وهو كالتنبيه لغيرهم، على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه، أن يستغفر له، وعلى كل مَنْ آذى غيره، أن يَجْبُرَهُ بإيصال نفع إليه، ذكره في "المراح".
٨ - ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ﴾ عطف على ﴿وَقِهِمْ﴾ وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار، وهو رفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾؛ أي: بساتين إقامةٍ وخلودٍ ﴿الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ إياها، وقد وعد الله تعالى بأن يدخل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، جنات عدن، إما ابتداءً، أو بعد أن يعذبهم بقدر عصيانهم.
وروي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة، يدخلها النبيون وأئمة العدل، فعلى هذا
(١) المراغي.
(٢) المراح.
127
يكون ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: موضع أهل الخصوص لا أهل العموم، ومثلها: الفردوس، إذ لكل مقام عمل يخص به، فإذا كان العمل أخص وأرفع.. كان المقام أرقى وأعلى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿جَنَّاتِ﴾ جمعًا، وزيد بن علي والأعمش ﴿جنة عدن﴾ بالإفراد، وكذا في مصحف عبد الله.
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ في محل النصب عطفًا على الضمير في ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾.
والمعنى: وأدخل معم من صلح من هؤلاء صلاحًا مصححًا لدخول الجنة في الجملة، وإن كان دون صلاح أصولهم، وذلك ليتم سرورهم، ويتضاعف ابتهاجهم، وفيه إشارة إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته؛ لينالوا بها الجنة ونعيمها.
وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿صلح﴾ بضم اللام، يقال: صلح فهو صليح، وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى: ﴿وذريتهم﴾ بالإفراد، والجمهور: بالجمع.
والمعنى (٢): أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية؛ لتقر بهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور، يكون أكمل للبهجة وأتم للانس.
قال سعيد بن جبير: يدخل المؤمن الجنة فيقول: يا رب، أين أبي وجدي وأمي، وأين ولدي وولد ولدي. وأين زوجاتي؟ فيقال: إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؟ فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم تلا: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ ويقرب من هذه الآية قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا كان يوم القيامة.. نودي في أطفال المسلمين: أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، فينادى فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: يا ربنا، ووالدينا معنا، فينادى فيهم الثانية: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: ووالدينا معنا، فيبتسم
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
128
الرب تعالى، فيقول: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم".
﴿إِنَّكَ﴾ يا ربنا ﴿أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ما ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة، من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد والوفاء به
٩ - ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي (١): واحفظهم عما يسوْءُهم يوم القيامة، وادفع عنهم العقوبات؛ لأن جزاء سيئة سيئة، فتسميتها سيئة. إما لأن السيئة اسم للملزوم، وهو الأعمال السيئة، فأطلق على اللازم، وهو جزاؤها، أو المعنى: قهم جزاء السيئات، على حذف المضاف، على أن ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ بمعنى الأعمال السيئة، وهو تعميم بعد تخصيص، لقوله: ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أو عذاب القبر وموقف القيامة والحساب والسؤال والصراط ونحوها، أو مخصوص بمن صلح من الأتباع، والأول دعاء للأصول، قال أبو السعود: والضمير في ﴿وَقِهِمْ﴾: راجع للمعطوف، وهو الآباء والأزواج والذرية.
﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم القيامة ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ ونجيته من عذابك؛ لأن (٢) المعافى من العذاب مرحوم، ويجوز أن يكون المراد بـ ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ الأولى: المعاصي في الدنيا، فمعنى قوله: ﴿وَمَنْ تَقِ....﴾ إلخ؛ أي: ومن تقه المعاصي في الدنيا.. فقد رحمته في الآخرة، كأنهم طلبوا لهم السبب بعدما سألوا المسبب ﴿وَذَلِكَ﴾ المذكور من الرحمة والوقاية ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز أجمل منه، والظفر الجسيم الذي لا مطمع وراءه لطامع؛ إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكًا لا تصل العقول إلى كنه جلاله.
١٠ - ولما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار.. ذكر أحوالهم بعد دخول النار، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسله ﴿يُنَادَوْنَ﴾؛ أي: تناديهم الملائكة، وهم خزنة جهنم من مكان بعيد، تنبيهًا على بعدهم عن الحق: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾ جواب قسم محذوف، والمقت: البغض
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
129
الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء، ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ لدلالة المقت الثاني عليه، والمعنى: والله لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء ﴿أَكبَرُ﴾ وأشد ﴿مِنْ مَقْتِكُمْ﴾ وبغضكم ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ الأمارة بالسوء، وذلك أن الكفار يمقتون في جهنم أنفسهم الأمارة بالسوء، التي وقعوا بها فيما وقعوا فيه من العذاب المخلد باتباع هواها؛ أي: يغضبون عليها حتى يأكلوا أناملهم، ويبغضونها أشد البغض، وينكرونها أشد الإنكار، ويظهرون ذلك على رؤوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة من مكان بعيد.
والظرف في قوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ في الدنيا من جهة الأنبياء ﴿إِلَى الْإِيمَانِ﴾ فتأبون قبوله ﴿فَتَكْفُرُونَ﴾ بالله تعالى وتوحيده، اتباعًا لأنفسكم، ومسارعة إلى هواها.. متعلق بالمقت الأول، ولا يقدح فيه وجود الخبر في "العين"؛ لأنَّ في الظروف اتساعًا.
والمعنى: إن الذين كفروا تناديهم الملائكة يوم القيامة، وهم يتلظون النار، ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيء الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار، والله إن مقت الله إياكم في الدنيا حين تدعون إلى الإيمان، فتكفرون، أشد من مقتكم أنفسكم اليوم، وأنتم على هذه الحال.
وقال الأخفش: ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾: لام الابتداء، دخلت على معمول خبر ﴿إنَّ﴾. وقيل: الظرف في قوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: اذكروا إذ تدعون في الدنيا.
والخلاصة (١): أن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الايمان في الدنيا فتركوه، وأبو أن يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة. قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.
(١) المراغي.
130
١١ - ثم ذكر ما يقولونه حين ينادون بهذا النداء، فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الكفرة حين خوطبوا بهذا الخطاب: ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا ربنا ويا مالك أمرنا ﴿أَمَتَنَا﴾ إماتتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾؛ أي: جعلتنا نطفًا لا حياة لنا في أصلاب آبائنا، وجعلتنا أمواتًا بانقضاء آجالنا ﴿وَأَحْيَيْتَنَا﴾ إحياءَتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾؛ أي: إحياءةً بنفخ الروح فينا في بطن أمهاتنا، وإحياءةً بالبعث من قبورنا، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾. ووجه هذا القول: أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، ولا يلزم منه أن لا عذاب في القبر، ولا حياة ولا موت، فإنهم إنما لم يذكروها؛ لأن حياة القبر ليست كحياة الدنيا، ولا كحياة الآخرة، كما في "الأسئلة المقحمة". وقد ذهب إلى هذا المعنى جمهور السلف.
وقيل المعنى (١): أمتنا إماتتين اثنتين: مرةً بقبض أرواحنا، ومرةً بعدما سألنا منكر ونكير في القبور، وأحيَيتنا إحياءَتين اثنتين مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور ومرةً عند البعث، وهذا أنسب بحالهم، فإنَّ مقصودهم تعديد أوقات البلاء، وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة، فهذه الأربعة أوقات المحنة؛ فأما الحياة في الدنيا، فليست من أقسام أوقات البلاء، فلهذا السبب لم يذكروها.
وقال ابن زيد: المراد بالآية: أنهم خلقهم في ظهر آدم، واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم.
وحاصل المعنى على القول الأول: أي قالوا: ربنا خلقتنا أمواتًا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أولًا بنفخ الأرواح فينا، ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث. نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -، وجعلوا ذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا...﴾ الآية.
ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا، فقال حاكيًا عنهم: ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾ التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل،
(١) المراح.
والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ﴾ لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ أي: من طريق؛ أي: فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ فإنك قادر على ذلك، وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيرًا أو تعللًا: عسى أن يتاح لهم الفرج، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)﴾ وقوله: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)﴾
١٢ - فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض البات مع ذكر السبب، فقال: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي أنتم فيه من العذاب، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿بِأَنَّهُ﴾؛ أي: بسبب أن الشأن ﴿إِذَا دُعِيَ اللَّهُ﴾ في الدنيا؛ أي: عبد ﴿وَحْدَهُ﴾ أي: حال كونه منفردًا، فهو في موضع الحال من الجلالة.. ﴿كَفَرْتُمْ﴾ بتوحيده؛ أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب كائن بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره.. كفرتم به وتركتم توحيده ﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ﴾ غيره من الأصنام أو غيرها ﴿تُؤْمِنُوا﴾ بالإشراك به، وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهذه الجملة علة لمحذوف، تقديره: فأجيبوا بأنه لا سبيل إلى رجوعكم إلى الدنيا، ولا إلى خروجكم من النار؛ لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه؛ لأنكم كنتم فيها إذا دعي الله وحده... كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصةً، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا، كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم، فقال: ﴿فَالْحُكْمُ﴾ حينئذ ﴿لِلَّهِ﴾ وحده دون غيره الذي لا يحكم إلا الحق، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها ﴿الْعَلِيِّ﴾؛ أي: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا في صفاته ﴿الْكَبِيرِ﴾ الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك، إذ ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ولا نهاية لعقوبته، فلا سبيل لكم إلى الخروج من النار أبدًا، إذ أشركتم به سواه.
وكأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذه الآية (١)، وقيل للخوارج: حرورية؛ لتجليتهم بحروراء واجتماعهم فيها، وهي كحلولاء، وقد تقصر، قرية بالكوفة، والخوارج: قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن طاعة علي - رضي الله عنه - عند التحكيم بينه وبين معاوية، وذلك أنه لما طالت محاربة على ومعاوية.. اتفق الفريقان على التحكيم إلى أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - في أمر الخلافة، وعلي - رضي الله عنه - ارتضى بما يريانه، فقال القوم المذكور: إن الحكم إلا لله، فقال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل، وكانوا اثني عشر ألف رجلٍ أنكروا الخلافة، واجتمعوا ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الداء وقطعوا السبيل، ، فخرج إليهم علي - رضي الله عنه - وأمرهم بالرجوع فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان، هي كزعفران، بليدة قديمة بالقرب من بغداد، فقتلهم واستأصلهم ولم ينج منهم إلا قليل، وهم الذي قال - ﷺ - في حقهم: "يخرج قوم من أمتي في في آخر الزمان، يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم، وصومه في جنب صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم".
والحاصل: أن الخوارج من الفرق الضالة لفسادهم في الاعتقاد، وبإنكار الحق وفساد الاعتقاد، ساء حال أكثر العباد في أكثر البلاد، خصوصًا في هذه الأعصار، فعلى العاقل أن يجيب دعوة الله ودعوة رسوله قولًا وعملًا وحالًا واعتقادًا، حتى يفوز بالمرام، ويدخل دار السلام، ولا يكون كالذين أرادوا أن يتداركوا الحال بعد مضي الفرصة.
١٣ - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كبريائه وعظمته، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: دلائل قدرته وشواهد وحدته في الأنفس والآفاق، رعايةً لمصالح أديانكم، وفيه إشارة إلى أن ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق الأشياء، إلا بإراءة الحق تعالى إياه.
﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾؛ أي: سبب رزق، وهو المطر مراعاةً لمصالح أبدانكم، فإن آيات الحق بالنسبة إلى حياة الأديان بمنزلة الأرزاق بالنسبة إلى حياة
(١) روح البيان.
الأبدان.
والمعنى: أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في العالم العلويّ والسفلي من الآيات العظام، الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرّده بالألوهية، كما قال:
وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ تدلُّ على أنَّه واحدُ
ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو المطر فقال: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾؛ أي: وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشته بأبدع الحلي والمناظر.
وقرأ الجمهور: ﴿يُنَزِّلُ﴾ بالتشديد من نزل المضاعف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتخفيف، من أنزل الرباعي.
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ﴾ ويتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة، فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد ﴿إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ ويرجع إلى طاعة الله وتوحيده عن الإنكار به، ويتفكَّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونعمته الشاملة، الظاهرة والباطنة، الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى، ومن ليس كذلك وهو المعاند، فهو بمعزل من التذكر والاتعاظ.
والخلاصة: أن دلائل التوحيد مركوزة في العقول، لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه.. زال الغِطاء وظفر بالفوز، وظهرت له سبيل النجاة.
١٤ - ولما ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد.. أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له، فقال: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾ والفاء: فيه للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه أيها المؤمنون، واعبدوه وحده حال كونكم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾؛ أي: مخلصين له دينكم وطاعتكم وعبادتكم التي أمركم بها، من الشرك، والالتفات إلى ما سواه بموجب إنابتكم إليه، وإيمانكم به، وخالفوا
المشركين في مسلكهم ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ إخلاصكم وغاظهم إنابتكم إلى ربكم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
وقد ثبت في "الصحيح" عن عبد الله بن الزبير - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - ﷺ - كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاهٍ".
١٥ - وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق.. ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته، فقال:
١ - ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾؛ أي: هو سبحانه أرفع الموجودات وأعظمها شأنًا؛ لأن كل شيء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وأنه أزلي أبدي، ليس لوجوده أول ولا آخر، وأنه العالم بكل شيء.
٢ - ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر ثان عن المبتدأ المتقدم؛ أي: هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات، وكذلك قوله:
٣ - ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ خبر ثالث، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، والرفيع: صفة مشبهة، أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور، وتفسيره بالرافع؛ ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، بعيد في الاستعمال كما في "الإرشاد".
والمعني: رفيع الصفات والأفعال عن كل ما لا يليق به ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ العظيم أي: مالك العرش وخالقه ومدبره، فهو مستول على معالم الأجسام، وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح، وهي مسخرة له، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ﴾ وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك.. فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ
135
مِنْ أَمْرِهِ} في محل رفع على أنها خبر رابع للمبتدأ المتقدم، أو هي خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وسبحانه وتعالى يلقي الوحي بقضائه وإرادته ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه، وسمي الوحي روحًا؛ لأن القلوب تحيا به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالروح.
والمعنى (١): ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد، فكما أن الروح سبب لحياة الأجسام، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب، فإن حياة القلوب إنما هي بالمعارف الإلهية الحاصلة بالوحي، فاستعير الروح للوحي؛ لأنه يحيى به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة، وقوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾، و ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء، أو لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف على أنه حال من الروح؛ أي: حال كونه ناشئًا، ومبتدأ من أمره تعالى.
وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ﴾: غاية للإلقاء؛ أي: لينذر الله تعالى، أو الملقى عليه أو الروح، والإنذار: دعوة إبلاغ مع تخويف.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لِيُنْذِرَ﴾ مبنيًا للفاعل ونصب اليوم، والفاعل: هو الله سبحانه، أو الرسول، أو من يشاء، والمنذر به: محذوف تقديره: لينذر العذاب الواقع ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ وقرأ أبي وجماعة: كذلك، إلا أنهم رفعوا ﴿يَوْمَ﴾ على الفاعلية مجازًا، وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب "اللوامح": ﴿ليُنذَر﴾ مبنيًا للمفعول، ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ الرفع، وقرأ ابن عباس والحسن واليماني: فيما ذكر ابن خالويه ﴿لتنذر﴾ بالتاء، فقالوا: الفاعل: ضمير الروح؛ لأنها تؤنث أو فيه ضمير المخاطب وهو الرسول، وقرىء: ﴿التَّلَاقِ﴾ و ﴿اْلتَّنَادِ﴾ بياء وبغير ياء، و ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: هو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد، وأهل السموات وأهل الأرض، والعابدون والمعبودون، والعاملون والأعمال، والأولون والأخرون، والظالمون والمظلومون، وأهل النار مع الزبانية.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
136
والمعنى: لينذر الله سبحانه، أو الرسول الموحى إليه الناس العذاب يوم القيامة.
١٦ - وقوله: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾؛ أي: لينذر الرسول الناس عذاب يوم هم خارجون من قبورهم، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ مستويةً، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون كما في الحديث: "يحشرون حفاةً عراةً غرلًا"؛ أي: لينذر الناس عذاب يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون يوم هم ظاهرون، لا يكنهم شيء ولا يسترهم شيء ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أعيانهم وأعمالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة ﴿شَيْءٌ﴾ ما مع كثرتهم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)﴾ وكانوا في الدنيا يتوهمون أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب.. فإن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم يومئذ لا يتوّهمون ذلك أصلًا، وهذه الجملة مستأنفة، مبنية لبروزهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ﴿بَارِزُونَ﴾ ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا للمبتدأ؛ أي: لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ يعني: يوم القيامة، جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال: لمن الملك اليوم؛ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ وقيل: ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟ فيجيب ذلك المنادي بعينه ويقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أو يجيبه أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم؛ لحصول العلم الضروري بالوحدانية للكافر أيضًا، لكن الكافر يقوله صغارًا وهوانًا وعلى سبيل التحسر والندامة، والمؤمن ابتهاجًا وتلذذًا.
وهذا يسمى سؤال التقرير، فإن قلت: كيف خص ذلك بيوم مخصوص، والملك لله في جميع الأيام والأوقات.
قلت: هو وإن كان لله في جميع الأيام، إلا أنه سبحانه ملك عباده في الدنيا،
ثم تكون دعاويهم منقطعة يوم القيامة، لا يدعي مدع مُلكًا ومِلكًا يومئذ، ولذا قال - سبحانه وتعالى -: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾.
والمعنى على الأول: أي يقول الرب تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه، فيقول ﴿لِلَّهِ﴾؛ أي: هو ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله، الذي لا مثل له ولا ند ﴿الْقَهَّارِ﴾ لكل شيء سواه بقدرته، الغالب بعزته.
١٧ - وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم.. أردفها ببيان صفات عدله وفضله، فقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ من تمام الجواب على القول: بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم، فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم؛ أي: يقول الله سبحانه في هذا اليوم الرهيب: تجزى كل نفس من النفوس المكلفة، برةً أو فاجرةً بما كسبت من خير أو شر، لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص ثواب، أو زيادة عذاب.
والمعنى: أي اليوم يثاب كل عامل بعمله فيلاقي أجره، ففاعل الخير يجزى الخير، وفاعل الشر يجزى بما يستحق، ولا يبخس أحد ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا، فينقص منه إن كان محسنًا، ولا يحمل على مسيء إثم ذنب لم يعمله.
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ -، فيما يحكيه عن ربه - عزَّ وجلَّ -: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظَّالموا" إلى أن قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا.. فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك.. فلا يلومن إلا نفسه".
ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاءٍ، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسًا واحدة، لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، ويصل إليهم ما يستحقونه سريعًا، فالجملة: تعليل لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ إلخ. فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاق ويوم البروز، ربما يوهم استبعاد وقوع الكل فيه.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يعصَ الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿الْحِسَابِ﴾، ونحو الآية قوله ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾.
١٨ - ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: وخوف يا محمد مشركي قومك ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾؛ أي: عذاب يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب و ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: منصوب على أنه مفعول به لـ ﴿أنذرهم﴾؛ لأنه المنذر به، و ﴿الْآزِفَةِ﴾: فاعلة من أزف الأمر على وزن علم، إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة؛ لأزوفها، وهو القرب؛ لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده.
وفي الحديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين، إن كادت لتسبقني" والإشارة بهاتين: إلى السباسة والوسطى؛ يعني أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان، مقدار فضل الوسطى على السبابة، شبه القرب الزماني بالقرب المساحي؛ لتصوير غاية قرب الساعة.
وجملة قوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ فإن القلوب ترتفع عن أماكنها من شدة الفزع، فتكون عند الحناجر، جمع حنجرة، وهي: الحلقوم؛ أي: وأنذرهم يوم الآزفة، إذ تزول القلوب عن أماكنها، وترتفع من شدة الفزع إلى الحلقوم، فتلتصق بها، فلا تعود إلى أماكنها، فيستروحوا ويتنفّسوا ولا تخرج فيستريحوا بالموت، وقيل: ينتفخ السحر؛ أي: الرئة؛ خوفًا، فيرتفع القلب إلى الحنجرة حال كون أصحاب تلك القلوب ﴿كَاظِمِينَ﴾؛ أي: مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويظهروا خوفهم، فهو حال من أصحاب القلوب على المعنى، إذ الأصل إذ قلوبهم لدى حناجرهم، بناء على أن التعريف اللامي بدل من التعريف الإضافي، يقال: كظم غيظه: إذا ردّ غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر.
والمعنى: حال كونهم كاظمين صابرين على الغم والكربة، ساكتين حال
امتلائهم بهما؛ يعني لا يمكنهم أن ينطقوا ويصرّحوا بما عندهم من الحزن والخوف من شدة الكربة وغلبة الغمّ عليهم، فقوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾: تقرير للخوف الشديد، وقوله: ﴿كَاظِمِينَ﴾: تقرير للعجز عن الكلام، فإن الملهوف إذا قدر على الكلام، وبث الشكوى.. حصل له نوع خفة وسكون، وإذا لم يقدر عظم اضطرابه واشتدّ حاله.
والخلاصة: أن ذلك اليوم يعظم فيه الخوف، حتى يخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هي ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم، فيموتوا.
ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد، فقال: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: ما للكافرين في ذلك اليوم ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: قريب مشفق ﴿وَلَا﴾ من ﴿شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾؛ أي (١): ولا من شفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معًا، وعلى أن يطاع مجاز عن يجاب وتقبل شفاعته؛ لأن المطيع في الحقيقة يكون أسفل حالًا من المطاع، وليس في الوجود من هو أعلى حالًا من الله تعالى، حتى يكون مطاعًا له تعالى، وفي الآية بيان أن لا شفاعة في حق الكفار؛ لأنها وردت في ذمهم، وإنما قال: ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ موضع للكافرين، وإن كان أعم منهم ومن غيرهم من العصاة بحسب الظاهر، تسجيلًا لهم بالظلم، ودلالة على اختصاص انتفاء كل واحد من الحميم والشفيع المشفع بهم، فثبت أن لعصاة المسلمين حميمًا وشفيعًا، وهو النبي - ﷺ - وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين والملائكة أجمعين.
والمعنى (٢): أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطّعت بهم الأسباب من كل خير.
١٩ - ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء، فقال: ﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾؛ أي: النظرة الخائنة للأعين، وإسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر، أو المعنى: يعلم سبحانه خائنة الأعين؛ أي: خيانة الأعين واستراقها النظر على أنها مصدر كالعافية، كقوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: خيانة منهم، والخيانة: مخالفة الحق، بنقض العهد في السر، ونقيضها الأمانة، والمراد هنا: استراق النظر إلى غير المَحْرم، كفعل أهل الريب والنظرة الثانية إليه.
وفي الخبر: "يا ابن آدم، لك النظرة الأولى معفوة" لوقوعها مفاجأةً دون الثانية، لكونها مقارنة للقصد وهي منْ قبيل زنى النظر، وذلك لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنةً.
والمعنى: أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده، وما نظرت به إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب.
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: في الآية هي الرجل يكون في القوم، فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غضوا.. نظر إليها، وإذا نظروا.. غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها. أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.
وقال الشوكاني: ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ (١): هي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهذه الجملة خبر آخر لقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ﴾؛ قال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير؛ أي: يعلم الأعين الخائنة، وقال قتادة: ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: الغمز بالعين فيما لا يحب الله، وقال الضحاك: هو قول الإنسان: ما رأيت وقد رأى، ورأيت وما رأى، وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة، والأول: أولى، وبه قال مجاهد. اهـ.
﴿و﴾ يعلم سبحانه ﴿مَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ والقلوب من الضمائر وتسره من معاصي الله؛ أي: لا يخفى عليه شيء من أمورهم، حتى ما يحدّثون به أنفسهم، وتضمره قلوبهم خيرًا كان أو شرًا، فقوله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
٢٠ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يَقْضِي﴾؛ أي: يحكم ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، ففيه تشديد لخوف المكلف.
والمعنى (٢): أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
الصدور من النوايا، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزي الذين رددوا النظر وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾؛ أي: يعبدونهم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى، وهم الأصنام والأوثان ﴿لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا، ولا يقدرون على شيء. وفي "الإرشاد": هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال في حقه: يقضي ولا يقضي.
والمعنى: أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك، لا يقضون بشيء؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا ولا يقدرون على شيء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَدْعُونَ﴾ بياء الغيبة؛ لتناسب ضمائر الغيبة قيل: يعني: يدعو الظالمون، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وشيبة وهشام: بالفوقية على الخطاب لهم؛ أي: قل لهم يا محمد والذين تدعون من دونه ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿العَلِيمُ﴾ بأحوالهم وأفعالهم، فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية؛ أي: إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل شيء ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعًا يوم الجزاء، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله تعالى، وهذا تقرير (٢) لعلمه تعالى بخائنة الأعين، وقضائه بالحق، فإن من يسمع ما يقولون ويبصر ما يفعلون، إذا قضى.. قضى بالحق، ووعيد لهم على ما يفعلون ويقولون، وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فإنهم عارون عن التلبس بهاتين الصفتين، فكيف يكونون معبودين؟
٢١ - ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة.. أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿الهمزة﴾: فيه: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن شدة
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
بأس الله، ولم يسيروا في نواحي الأرض وأرجائها ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ يجوز أن يكون مجزومًا بالعطف على ﴿يَسِيرُوا﴾ وأن يكون منصوبًا على أنه جواب الاستفهام ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كيف كان حال من قبلهم، ومآلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد وثمود وأضرابهم، وكانت ديارهم ممر تجار قريش ﴿كَانُوا﴾؛ أي: كان الذين من قبلهم ﴿هُمْ أَشَدَّ﴾ وأكثر ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من مشركي مكة ﴿قُوَّةً﴾؛ أي: قدرةً وتمكنًا من التصرفات.
وإنما (١) جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه.
وقرأ الجمهور: ﴿أَشَدُّ مِنْهُمْ﴾ بالغيبة، وقرأ ابن عامر ﴿أشد منكم﴾ على الالتفات.
﴿و﴾ أكثر ﴿آثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ مثل: القلاع الحصينة والمدن المتينة ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: عاقبهم وأهلكهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: للأمم المكذبة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من عذاب الله تعالى ﴿مِنْ وَاقٍ﴾ يقيهم وحافظ يحفظهم ودافع يدفع عنهم العذاب. وقرأ ابن كثير: ﴿واقي﴾ بالياء في الوقف
٢٢ - ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من الأخذ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة والحجج الواضحة ﴿فَكَفَرُوا﴾ بما جاؤوهم به وكذّبوا رسلهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى أخذًا عاجلًا ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿قَوِيٌّ﴾؛ أي: متمكن مما يريد غاية التمكن ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لأهل الشرك، لا يعتبر عقاب دون عقابه، فهؤلاء المشركون من أهل مكة قد شاهدوا مصارعهم وآثار هلاكهم، فباي وجه أمنوا أن يصيبهم مثل ما أصابهم من العذاب، أو المعنى: أنه قوي على الانتقام من الأعداء للأولياء، شديد العقاب في الانتقام من الأعداء. وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ...﴾ الآية. فإن قلت: لم قال هنا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ بضمير الجمع، وفي التغابن: بإفراده، حيث قال هناك: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا....﴾ الآية؟
(١) روح البيان.
143
قلت: جمع الضمير هنا؛ موافقة لما قبله في قوله: ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وأفرده ثم؛ لأنه ضمير الشأن، زيد توصلًا إلى دخول ﴿أن﴾ على ﴿كان﴾.
والحال: أن الله سبحانه (١) حذّر هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارًا، كعاد وثمود، والسعيد من وعظ بغيره، فقال واعظًا ومذكّرًا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد، فيروا عاقبة الذي كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشدّ منهم بطشًا، وأبقى في الأرض أثرًا، فلم تنفعهم شدة قواهم وعظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي، واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعًا، وصارت مساكنهم خاويةً بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم.
فائدة: وفي "شرح الأسماء" للزورقي: القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يمسّه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام، ومن عرف أن الله تعالى هو القوي.. رجع إليه عن حوله وقوته، وخاصيته: ظهور القوة في الوجود، فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة، ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك، ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة.. كان له ذلك، وكفي أمره.
الإعراب
﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤)﴾.
﴿حمَ (١)﴾ تقدم القول في إعراب فواتح السور، وأيسر ما فيها: أنها خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مسماة بـ ﴿حم (١)﴾، والخبر؛ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف على قراءة السكون، أو ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الزهري، والجملة: مستأنفة
(١) المراغى.
144
استئنافًا نحويًا. ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، خبره، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿الْعَزِيزِ﴾: صفة أولى للجلالة. ﴿الْعَلِيمِ﴾: صفة ثانية لها. ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾: صفة ثالثة. ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾: معطوف على ﴿غَافِرِ﴾. فإن قلت: لم زيدت الواو في هذه الصفة دون باقيها؟ قلت: زيدت هنا لإفادة الجمع بين رحمتي: مغفرة الذنب وقبول التوب. ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾: صفة رابعة. ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾: صفة خامسة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿إلَهَ﴾: اسمها، وخبرها: محذوف، تقديره: موجود. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُو﴾: بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة، أو حال لازمة من لفظ الجلالة. ﴿إليه﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل النصب حال من ضمير ﴿هُوَ﴾، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يُجَادِلُ﴾ فعل مضارع. ﴿فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المجادلين في آيات الله كفار.. فلا يغررك إمهالهم وتقلبهم في أسفارهم للتجارة المربحة، فإنهم مأخوذون بكفرهم. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَغرُرْكَ﴾: فعل مضارع ومفعول به، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾: فاعل. ﴿فِي الْبِلَادِ﴾: متعلق بـ ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض. ﴿قَبْلَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل. ﴿وَالْأَحْزَابُ﴾: معطوف على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: حال من ﴿الْأَحْزَابُ﴾، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿بِرَسُولِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿همت﴾. ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يأخذوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿همت﴾؛ أي: وهمت كل أمة برسولها إيقاعه
145
في الشر لأخذهم إياه وقتله. ﴿وَجَادَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿همت﴾ ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: متعلق بـ ﴿جادلوا﴾. ﴿لِيُدْحِضُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يدحضوا﴾: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يدحضوا﴾. ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جادلوا﴾؛ أي: جادلوا بالباطل لدحضهم الحق بالباطل. ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أخذتهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿جادلوا﴾، ﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كيف﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر كان مقدم عليها وجوبًا. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عِقَاب﴾: اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿كاَنَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أخذتهم﴾. ﴿وَكَذَلِكَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: حقًا مثل ما حق قضاءه، وحكمه بالتعذيب على الأمم المكذبة المذكورة ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾، ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿حَقَّتْ﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أنّ﴾: في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلًا من ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: بدل كل من كل؛ أي: حق على الذين كفروا كونهم من أصحاب النار.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧)﴾.
﴿اَلَذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ صلة الموصول. ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾: معطوف على الموصول، ﴿حَوْلَهُ﴾: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿يُسَبِّحُونَ﴾؛ أي: ملابسين بحمده تعالى. ﴿وَيُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُسَبِّحُونَ﴾، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يومنون﴾، ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف
146
منصوب حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء: في محل النصب مقول لقول محذوف، وقع حالًا من فاعل ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾؛ أي: حال كونهم قائلين ﴿رَبَّنَا﴾، ﴿وَسِعْتَ﴾: فعل وفاعل، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به. ﴿رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾: تمييزان محولان من فاعل ﴿وَسِعْتَ﴾؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف. ﴿فَاغفِر﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كانت رحمتك واسعةً، وعلمك واسعًا.. فنقول لك: ﴿اغفر﴾، (اغفر): فعل دعاء وفاعل مستتر، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق به، والجملة الدعائية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول للقول المحذوف، وجملة ﴿تَابُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿تَابُواْ﴾، ﴿وَقِهِمْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به أول معطوف على ﴿فَاغفِر﴾. ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾: مفعول ثان.
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، كرره للمبالغة في الجؤار. ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول. ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: مفعول ثان، والجملة: معطوفة على جملة ﴿قِهِمْ﴾ ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتِ﴾. ﴿وَعَدتهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة ﴿الَّتِي﴾، والعائد: محذوف، تقديره: إياها. ﴿وَمَن﴾، في قوله: ﴿وَمَنْ صَلَحَ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ضمير ﴿أدخِلْهُم﴾ أو على ضمير ﴿وَعَدْتَهُمْ﴾ والأول: أرجح، كما قاله الفراء. ﴿صَلَحَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿مِنْ آبَائِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿صَلَحَ﴾. ﴿وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾: معطوفان على ﴿آبَائِهِمْ﴾. ﴿إنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَنْتَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول للقول المحذوف.
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)﴾.
147
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿تَقِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿السَّيِّئَاتِ﴾: مفعول به. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿تَقِ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: مضاف. ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين. ﴿فَقَد﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿رَحِمْتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: مقول للقول المحذوف. ﴿وَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْفَوْزُ﴾: خبر. ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على ما قبلها، على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿يُنَادَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة. ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، أو لام قسم. ﴿مقت الله﴾: مبتدأ، ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر لفاعله، والمعفول به محذوف؛ أي: إياكم. ﴿أَكبَرُ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِنْ مَقْتِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَكبَرُ﴾ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: مفعول ﴿مَقْتِكُمْ﴾: وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يُنَادَوْنَ﴾ أو جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يُنَادَوْنَ﴾. ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿مقت الله﴾. ﴿تُدْعَوْنَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذْ﴾. ﴿إِلَى الْإِيمَانِ﴾: متعلق بـ ﴿تُدْعَوْنَ﴾. ﴿فَتَكْفُرُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿تكفرون﴾: فعل وفاعل
148
معطوف على ﴿تُدْعَوْنَ﴾. ﴿قَالُواْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَمَتَّنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول قالوا على كونها جواب النداء. ﴿اثْنَتَيْنِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مما ناب فيه العدد عن المصدر؛ أي: إماتتين اثنتين. ﴿وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة أيضًا؛ أي: إحياءَتين اثنتين. ﴿فَاعْتَرَفْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اعترفنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أحييتنا﴾، ﴿بِذُنُوبِنَا﴾: متعلق به. ﴿فَهَل﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿هل﴾: حرف استفهام. ﴿إِلَى خُرُوجٍ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾: ﴿من﴾ حرف جر زائد. ﴿سَبِيلٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿اعترفنا﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)﴾.
﴿ذَلكُم﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. ﴿أنه﴾: ناصب واسمه، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿دُعِيَ اللَّهُ﴾: فعل ماض ونائب فاعل، ﴿وَحْدَهُ﴾: حال من الجلالة، والجملة الفعلة: في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿كَفَرْتُمْ﴾: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: من فعل شرطها وجوابها: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾: وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلكم كائن بسبب كفرانكم توحيد الله تعالى وقت دعائه. ﴿وَإِن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿يُشْرَكْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط له. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يشُرَك﴾، ﴿تُؤْمنُواْ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾، ﴿فالحكم﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة؛ لأن هذا الكلام من جملة ما يقال لهم. ﴿الحكم﴾: مبتدأ. ﴿لله﴾: خبره، ﴿الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾: صفتان للجلالة، والجملة معطوفة على جملة قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ...﴾ إلخ؛ لأنها من جملة ما يقال لهم في الآخرة.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣)
149
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥)}.
﴿هُوَ اْلَذِى﴾: مبتدأ وخبر ﴿يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأنه من رأي البصرية، تعدى بالهمزة إلى مفعولين، والجملة: صلة الموصول، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتعليل كون الحكم لله تعالى. ﴿وَيُنَزِّلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يُرِيكُمْ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿ينزل﴾ وكذلك ﴿لَكمُ﴾. ﴿رِزْقًا﴾: مفعول به. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَتَذَكَّرُ﴾: فعل مضارع. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية أو حال من ضمير المخاطبين، وجملة ﴿يُنِيبُ﴾: صلة الموصول، ﴿فَادْعُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم ﴿ادْعُوا اللَّهَ﴾. ﴿ادْعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به. ﴿مُخْلِصِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادعوا﴾. ﴿لَه﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾. ﴿الدِّينَ﴾: مفعول ﴿مُخْلِصِينَ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف، تقديره: إخلاصكم أو دعوتكم، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجوابها محذوف دل عليه السياق، تقديره: ولو كره الكافرون فادعوه: وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: معطوفة على جملة شرط محذوف، تقديرها: إن رضي الكافرون دعوتكم.. فادعوه وإن كره الكافرون.. فادعوه والجملة المحذوفة: في محل النصب حال من فاعل: فادعوا؛ أي: ﴿فَادْعُوُه﴾ حال كونكم سواء عليكم رضاؤهم وكراهتهم. ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو سبحانه رفيع الدرجات، والجملة: مستأنفة. ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿يُلْقِي الرُّوحَ﴾ خبر ثالث ﴿يُلْقِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿الرُّوحَ﴾: مفعول به، والمراد بـ ﴿الرُّوحَ﴾ هنا: الوحي ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾: حال من ﴿الرُّوحَ﴾؛ أي: حال كونه ناشئًا ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾. ﴿عَلَى مَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: على من يشاؤه
150
﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: حال من العائد المحذوف. ﴿لِيُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿ينذر﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، أو على الرسول، ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: مفعول به على التوسع ومضاف إليه، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لإنذاره الناس عذاب ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾. والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿يُلْقِي﴾.
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾: بدل كل من كل منصوب على المفعولية. ﴿هُمْ بَارِزُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل الجر بإضافة ﴿يَوْمَ﴾ إليه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَخْفَى﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من ﴿شَيْءٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَيْءٌ﴾: فاعل ﴿يَخْفَى﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير ﴿بَارِزُونَ﴾. ﴿لِمَنِ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر. ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الجر بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور: خبر مقدم. ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿الْمُلْكُ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الرب سبحانه لهم ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ وجملة القول المحذوف: مستأنفة، أو حال من الجلالة؛ أي: لا يخفي على الله منهم شيء حال كون الله قائلًا لهم: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ ﴿لِلَّهِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الملك كائن لله سبحانه. ﴿الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾: صفتان للجلالة، والجملة الاسمية: مقول لقول محذوف، تقديره: ويقول الرب أيضًا في الجواب: الملك ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ وجملة القول المحذوف: معطوفة على القول المحذوف قبله، وقال الزمخشري: ينادي منادٍ فيقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فيجيبه أهل المحشر: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تُجْزَى﴾، ﴿تُجْزَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية من تتمة المقول للقول المحذوف سابقًا. ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: موصولة أو مصدرية، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُجْزَى﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: بما كسبته أو لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: بكسبها، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: جزاء ما
151
كسبته. ﴿لا﴾: نافية للجنس. ﴿ظُلْمَ﴾: اسمها. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف خبر ﴿لَا﴾، تقديره: لا ظلم كائن اليوم، وجملة ﴿لَا﴾: من اسمها وخبرها من تتمة القول المحذوف. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل عدم الظلم؛ أي: إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب، فهو سريع في حسابه، عادل في حكمه.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨)﴾.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أنذرهم﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿إِذِ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾: بدل كل من كل. ﴿الْقُلُوبُ﴾: مبتدأ ﴿لَدَى﴾: منصوب على الظرفية بفتحة مقدرة. ﴿الْحَنَاجِرِ﴾: مضاف إليه، والظرف: متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: إذ القلوب مرتفعة لدى الحناجر، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذِ﴾، ﴿كَاظِمِينَ﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر، وعوملت ﴿الْقُلُوبُ﴾ في جمعها بالياء والنون معاملة أصحابها؛ أي: حال كون أصحابها ﴿كَاظِمِينَ﴾. ﴿مَا﴾: نافية، تميمية أو حجازية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: خبر مقدم أو خبر لـ ﴿مَا﴾ الحجازية مقدم على اسمها. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿حَمِيمٍ﴾: مبتدأ مؤخر أو اسمها مؤخر. ﴿وَلَا شَفِيعٍ﴾: معطوف على ﴿حَمِيمٍ﴾ وجملة ﴿يُطَاعُ﴾: صفة لـ ﴿شَفِيعٍ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب حال من أصحاب ﴿الْقُلُوبُ﴾ أيضًا، وقوله: ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ إظهار في مقام الإضمار؛ أي: حالة كونهم عادمي ﴿حَمِيمٍ﴾ ينفعهم وعادمي ﴿شَفِيعٍ﴾ يقبل في حقهم.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: مفعول به، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الأعين الخائنة، والجملة الفعلية: خبر رابع للمبتدأ المحذوف الذي أخبر عنه بـ ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ وما بعده، أو هو خبر من أخبار ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ﴾ أو حال لازمة من ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. ﴿وَمَا﴾: اسم
152
موصول في محل النصب معطوف على ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾. ﴿تُخْفِي الصُّدُورُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: تخفيه الصدور ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿اللهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَقْضِي﴾: خبره. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضِي﴾ أو حال من فاعل ﴿يَقْضِي﴾. والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمُ﴾ عطف اسمية على فعلية. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَدْعُونَ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يدعونهم. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، وجملة ﴿لَا يَقْضُونَ﴾: خبر المبتدأ. ﴿بِشَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضُونَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾: خبران لـ ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن انتقام الله سبحانه من الأمم المكذبة للرسل، ولم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَسِيرُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، و ﴿الواو﴾: فاعل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ينظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: اسمها، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب ساد مسد مفعول ﴿ينظروا﴾: معلق عنها باسم الاستفهام. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانُوا﴾: وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة الموصول. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿هُمْ﴾ ضمير فصل ﴿أَشَدَّ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَشَدَّ﴾، ﴿قُوَّةً﴾: تمييز محول عن اسم ﴿كَانَ﴾، ﴿وَآثَارًا﴾: معطوف على ﴿قُوَّةً﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة لـ ﴿آثارا﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة، وجاز دخول ضمير الفصل بين معرفة ونكرة، وهو لا يقع إلا بين معرفتين؛ لأن النكرة هنا وهي ﴿أَشَدَّ﴾ بمثابة المعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها؛ لأن اسم التفضيل
153
المقرون بـ ﴿مِنَ﴾ لا تدخل عليه أل. ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أخذهم الله﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَانُوا﴾. ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أخذهم﴾ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَهُمْ﴾: خبر كان مقدم. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَاقٍ﴾. ﴿مِنَ﴾: زائدة ﴿وَاقٍ﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿كَانَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أخذ﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿أنهم﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَتْ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على الرسل. ﴿تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿تَأْتِيهِمْ﴾ والجملة الفعلية: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مجرور بالياء، والتقدير: ذلك الأخذ والعذاب كائن بسبب إتيان رسلهم بالبينات وكفرهم بها. ﴿فَكَفَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كفروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَانَتْ﴾. ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره الأول، ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره.
﴿قابل التوب﴾ والقابل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، وقبلتُ عذره وتوبته وغير ذلك، والتوب: مصدر، كالتوبة وهو ترك الذنب على أحد الوجوه كما مر. وفي "المختار": التوبة: الرجوع عن الذنب، وبابه: قال، يقال: تاب يتوب توبًا وتوبة أيضًا، وقال الأخفش: والتوب: جمع توبة، كدوم ودومة، اهـ.
﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ والطول: الفضل والزيادة والإنعام الواسع، وفي "الصحاح": والطول بالفتح: المن، يقال منه: طال يطول - من باب قال - إذا امتن عليه. وقال
154
الماوردي: الفرق بين المن والفضل: أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق، والطَّول: مأخوذ من الطَّول، كأنه طال بإنعامه على غيره، وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. اهـ.
﴿الْمَصِيرُ﴾: المرجع، وأصله: المصير، بوزن المفعل بكسر العين؛ لأنه من يفعِل المكسور العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: من جدلت الحبل، أحكمت فتله، فإن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ والغرة: غفلة في اليقظة، قال في "المفردات": التقلب: التصرف، وقال الراغب: البلد: المكان المحدود، المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه: بلاد وبلدان.
﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾ قصدت، والهم: عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر.
﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ من الأخذ بمعنى الأسر، والأخيذ: الأسير؛ أي: ليأسروه ويحبسوه. كما مر.
﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾؛ أي: ليزيلوا الحق. ﴿حَقَّتْ﴾؛ أي: وجبت. ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾؛ أي: حكمه بالإهلاك. ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ أمر من وقى يقي وقايةً، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، وفيه إعلالان، حذف فاء الكلمة وهي الواو، إذ قياس مضارعه: يوقي، حذفت الواو التي هي فاء الكلمة؛ لوقوعها بين عدوّتَيها الياء والكسرة، وحذف لام الكلمة؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، فلم يبق إلا عين الكلمة. ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾ أصله: توقي، حذفت فاء الكلمة التي هي الواو للعلة السابقة، ثم حذفت لام الكلمة وهي الياء للجازم، فلم يبق من الكلمة إلا عينها فصار الفعل على وزن "تع".
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ﴾ من المناداة، وهي وكذا النداء: الدعوة ورفع الصوت، أصله: يناديون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان،
155
فحذفت الألف دالة عليها.
﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾ والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ أي: مقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء. ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ أصله: تدعوون، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
﴿أَمَتَّنَا﴾ من أمات الرباعي، أصله: أموت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار أمات، ثم أسند الفعل إلى تاء الفاعل فسكن آخره، وهو التاء لام الكلمة، فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف لبقاء دالها، فصار أمتْتَنا، فأدغمت التاء الأولى التي هي لام الكلمة في تاء الفاعل فصارت ﴿أَمَتَّنَا﴾.
﴿إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: دعو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة.
﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ أصله: العليو، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنةً فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء.
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: ينوب، نقلت حركة الواو إلى النون فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مد. ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ والرفيع: إما صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور بمعنى عظيم الصفات، أو صيغة مبالغة محولة عن اسم الفاعل، فيصح فيه الوجهان. كما في "السمين".
﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ التلاقي: مصدر تلاقى الخماسي، وقياسه: أن يكون ما قبل آخره مضمومًا، لكنه كسر لمناسبة الياء. ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ يقال: برز بروزًا: خرج إلى البراز؛ أي: الفضاء، كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر. ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ أصله: تجزى، بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ هو يوم القيامة، سميت بذلك لأزوفها؛ أي: لقربها من أزف الرحيل؛ أي: قرب. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزفًا من باب تعب وأزوفًا: دنا وقرب، وأزفت الآزفة: القيامة. وفي "الأساس": أزف الرحيل: دنا وعجل، ومنه
156
أقبل يمشي الأزفى بوزن الجمزى، وكأنه من الوزيف، و ﴿الهمزة﴾: بدل عن واو. وفي "الروح": الآزفة فاعلة من أزف الأمر على وزن علم: إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة لأزوفها، وهو القرب، لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده.
﴿لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾ جمع حنجرة، وهي الحلقوم، وفي "القاموس": والحنجور: السِقط الصغير، وقارورة للذريرة، والحلقوم كالحنجرة، والحناجر جمعه. ﴿كَاظِمِينَ﴾ يقال: كظم غيظه؛ أي: رد غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر. ﴿وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: يطوع، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: خاونة؛ لأنه من خان يخون، واوي العين، قلبت الواو في الوصف همزةً حملًا له في الإعلال على فعله خان، حيث أعل بقلب الواو عينه ألفًا لتحركها بعد فتح، ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾: أصله يدعوون بواوين: الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، فاستثقلت الضمة على الواو لام الكلمة فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة وبقيت واو الجماعة، فوزنه يَفعون. ﴿لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ أصله: يقضيون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضمت الضاد لمناسبة الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿الذَّنْبِ﴾ و ﴿التَّوْبِ﴾، وبين ﴿أَمَتَّنَا﴾ ﴿وَأَحْيَيْتَنَا﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: المقابلة في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾ فقد قابل بين التوحيد والإشراك، والكفر والإيمان.
157
ومنها: إيراد ﴿إِذَا﴾ وصيغتي الماضي في الشرطية الأولى، و ﴿إِنَّ﴾ وصيغتي المضارع في الشرطية الثانية؛ للدلالة على كمال سوء حالهم، كما في "أبي السعود".
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ...﴾ إلخ. في كلا الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، كما في "أبي السعود".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ فإنه من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأنه أطلق الرزق وأراد المطر؛ لأن الماء سبب في جميع الرزق.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ﴾ فإنه كناية عن الوحي؛ لأنه كالروح للجسد، فهو مجاز مرسل، علاقته: السببية، وجعله الزمخشري استعارة تصريحية، وليس ببعيد.
ومنها: الإسجال بغير مغالطة في قوله: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ وهو فن طريف من فنون البلاغة، وهو أن يقصد المتكلم غرضًا من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض إسجالًا منه على الممدوح به، وبيان ذلك: أن يذكر شرطًا يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يخبر بوقوعه وإن لم يكن قد وقع بعد ليقع المشروط، اهـ "درويش".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾؛ لأن المراد بالإماتتين الإثنتين: خلقهم أمواتًا أولًا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ثانيًا، وقد أوضح ذلك بقوله في آية أخرى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ففي تسمية خلقهم أمواتًا إماتة مجاز مرسل؛ لأنه باعتبار ما كان، اهـ "درويش".
ومنها: الاستفهام بمعنى اليأس في قوله تعالى: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ففي هذا الاستفهام يأس مقنط، واستحالة مفرطة، كأنهم لفرط ما يكابدونه يتمنون الخروج من هذا الأسى المطبق من الهول المستحكم.
ومنها: تنكير ﴿خُرُوجٍ﴾ للدلالة على أي خروج كان، سواء أكان سريعًا أم بطيئًا، وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا.
158
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ﴾ لتجسيد الهول في ذلك اليوم الذي تكون فيه مشارفتهم للنار، فعند ذلك ترفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا ويستريحوا، ولا هي ترجع إلى مواطنها فيتنفسوا الصعداء ويتروّحوا، ولكنها معترضة كالشَّجا.
ومنها: عكس الظاهر في قوله: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ إذ لا شفيع لهم أصلًا، فضلًا عن أن يكون مطاعًا، وكان الظاهر أن يقال: ولا يطاع فيهم شفيع.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾؛ لأن إسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾؛ لأن هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال فيه: يقضي ولا يقضي.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا...﴾ إلخ. وفيه تهديد للمشركين بذكر عاقبة من كانوا قبلهم من الأمم المكذبة للرسل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
159
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
160
لما قبلها: أن الله سبحانه لما سلى (١) رسوله - ﷺ - بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الرسل قبله، بمشاهدة آثارهم.. سلاه أيضًا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتي من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه، وأمروا بقتل أبناء بني إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفًا أن يبدل دينهم، أو يعيث في الأرض فسادًا، فتعوذ موسى بربه ورب بني إسرائيل من كل جبار متكبر، لا يؤمن بالجزاء والحساب.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن ذلك المؤمن لما سمع رأي فرعون في موسى، وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك.. أعاد النصح مرةً أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم، ويتوبون إلى رشدهم، فذكرهم بأس الله سبحانه وسننه في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل، من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلًا في الأخرين، وكان لسان حاله يقول: هاأناذا قد أسمعت ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون. اهـ.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته.. أبان هنا أنه بلغ من عتوِّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى - عليه الصلاة والسلام - أن أمر وزيره هامان أن يبني له قصرًا شامخًا من الآجر؛ ليصعد به إلى السماء ليطلع إلى إله موسى - عليه الصلاة والسلام -، ومقصده من ذلك الاستهزاء به، ونفي رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى (٢) عن موسى أنه ما زاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله على أن استعاذ بالله من شره.. أردف ذلك ببيان أن الله
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
161
قيض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم، ويذب عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد في إزالة ذلك الشر.
التفسير وأوجه القراءة
٢٣ - ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا بها، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران حال كونه متلبسًا ومؤيدًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ وهي المعجزات التسع ﴿و﴾ بـ ﴿سُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: وبحجةٍ قاهرةٍ ظاهرة واضحة، وهي العصا، وأفردها بالذكر مع اندراجها تحت الآيات، تفخيمًا لشأنها، فهو من قبيل عطف الخاص على العام.
وقيل (١): هو التوراة.
٢٤ - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ أعظم عمالقة مصر ﴿وَهَامَانَ﴾ وزيره وخصهما بالذكر؛ لأن الإرسال إليهما إرسال إلى القوم؛ لكونهم تحت تصرف الملك والوزير تابعين لهما، والناس على دين ملوكهم. ﴿وَقَارُونَ﴾ ابن عم موسى، خصه (٢) بالذكر؛ لكونه بمنزلة الملك من حيث كثرة أمواله وكنوزه، ولا شك أن الإرسال إلى قارون متأخر عن الإرسال إلى فرعون وهامان، لأنه كان إسرائيليًا ابن عم موسى، مؤمنًا في الأوائل، أعلم بني إسرائيل، حافظًا للتوراة، ثم تغير حاله بسبب الغنى، فنافق كالسامري، فصار ملحقًا بفرعون وهامان في الكفر والهلاك، فاحفظ هذا ﴿فَقَالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء الثلاثة وأتباعهم في حق ما أظهره موسى من المعجزات خصوصًا في أمر العصا: إنه ﴿سَاحِرٌ﴾ وقالوا فيما ادعاه عليه السلام من رسالة رب العالمين: إنه ﴿كَذَّابٌ﴾ والكذاب: الذي عادته الكذب، بأن يكذب مرة بعد أخرى، ولم يقولوا: سحار؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر، وأن سحرتهم أسحرُ منه، كما قالوا: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾.
وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ -، وبيان عاقبة من هو أشد من قريش، بطشًا، وأقربهم زمانًا،
٢٥ - ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة.. لجؤوا إلى استعمال القوة، ما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ موسى ﴿بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
162
﴿قَالُوا﴾ لاستكمال شقاوتهم ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾؛ أي: تابعوه في الإيمان والتوحيد، والقائل فرعون وذوو الرأي من قومه، أو فرعون وحده؛ لأنه بمنزلة الكل، كما قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ﴿وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾؛ أي: أبقوا بناتهم أحياءً لخدماتنا فلا تقتلوهن.
والمعنى (١): أعيدوا عليهم القتل، وذلك أنه قد أمر بالقتل قُبيل ولادة موسى عليه السلام بإخبار المنجمين بقرب ولادته، ففعله زمانًا طويلًا ثم كف عنه؛ مخافة أن تفنى بنو إسرائيل، وتقع الأعمال الشاقة على القبط، فلما بعث موسى وأحسّ فرعون بنبوته.. أعاد القتل غيظًا وحنقًا، ظنًا منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى.. أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبةً لهم، فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتدّ عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ﴾ فرعون وقومه أو غيرهم؛ أي (٢): وما مكرهم وسوء صنيعهم بالأنبياء والمؤمنين ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: في ضياع وبطلان وخسران لا يغني عنهم شيئًا، وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم.
وفي "التأويلات النجمية": عزم على إهلاك موسى وقومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، إتمامًا لاستحقاقهم العذاب، ولكن من حفظ الحق تعالى كان كما قال: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: في ازدياد ضلالتهم بربهم، يشير إلى أن من حفر بئرًا لولي من أوليائه.. ما يقع فيه إلا حافره، وبذلك أجرى الحق سنته. انتهى.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
163
والمعنى (١): أي وما مكر الكافرين وقصدهم وهو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب سدًى وباطلًا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان، وإن فعل بهم ما فعل، وأن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بد واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
والخلاصة: أن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة، ويذهب هباءً أمام تلك القوة القاهرة، وسيكون النصر للمتقين.
٢٦ - ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بني إسرائيل، بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ اللعين لملئه: ﴿ذَرُونِي﴾؛ أي: اتركوني ﴿أَقْتُلْ مُوسَى﴾ إنما قال هذه لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى؛ مخافة أن ينزل بهم العذاب، أو كانوا يكفونه عن قتله؛ تهوينًا لأمره، واستصغارًا لشأنه؛ أي: أتركوني أقتله ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك؛ أي: لا يهولنكم شأنه؛ لأنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، وكان إذا هم بقتله.. كفوه، وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه، وهو أضعف ن ذلك شأنًا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته.. أدخلت الشبهة في نفوس الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويدارونه حتى يكف عن قتله.
وربما يكون قد قال ذلك تمويهًا على قومه، وإيهامًا أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفّه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ فإن ظاهره الاستعانة به بدعائه ربه سبحانه، كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به، مظهرًا أنه لا يبالي بدعائه ربه، كما يقول القائل ذروني أفعل كذا وما كان فليكن.
(١) المراغي.
164
ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله، فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾ إن لم أقتله ﴿أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾؛ أي: أن يغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادة فرعون وعبادة الأصنام لتقربهم إليه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر ﴿الْفَسَادَ﴾؛ أي: يوقع بين الناس ما يفسد دنياهم من التخالف والتجارب والتهارج، إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية.
فمعنى (١): ﴿أو﴾ وقوع أحد الشيئين، جَعَلَ اللعين ظهور ما دعا إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادًا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه، وبدأ فرعون بذكر الدين أولًا لأن حبّ الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم اهـ. "خطيب" وفي الآية إشارة إلى أن فرعون من عمى قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوّته، أو يذره قومه، ولم يعلم أن الله يهلكه ويهلك قومه، وينجي موسى وقومه، وقد خاف من تبديل الدين أو الفساد في الأرض، ولم يخف هلاك نفسه وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين.
والمعنى: أي (٢) إني أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله سبحانه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشرد، ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر، وتعدم المكاسب.
والخلاصة: أنه يقول: إنّي أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مر.
وقرأ الكوفيون ويعقوب (٣): ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ﴾ بأو التي للإبهام وترديد الخوف بين تبديل الدين وظهور الفساد، وقرأ باقي السبعة ﴿وأن يظهر﴾ بدون ألفٍ، على معنى وقوع الأمرين جميعًا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء من ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾، وقرأ أنس بن مالك وابن المسيب ومجاهد وقتادة وأبو رجاء والحسن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر والشوكاني.
165
والجحدري ونافع وأبو عمرو وحفص: ﴿يُظْهِرَ﴾ بضم الياء وكسر الهاء، من أظهر الرباعي، وفاعله: ضمير ﴿مُوسَى﴾ و ﴿الْفَسَادَ﴾: منصوب على أنه مفعول به، وقرأ باقي السبعة والأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى: ﴿يَظهَر﴾ بفتح الياء والهاء من ظهر الثلاثي، مبنيًا للفاعل ورفع ﴿الفساد﴾ على الفاعلية، وقرأ زيد بن علي: ﴿يُظهَر﴾ بضم الياء وفتح الهاء، مبنيًا للمفعول ﴿الفساد﴾ رفعًا على النيابة عن الفاعل، وقرأ مجاهد: ﴿يظّهّرَ﴾ بشد الظاء والهاء ﴿الفساد﴾ رفعًا.
٢٧ - ولما سمع موسى عليه السلام بمقالة فرعون.. استعاذ بالله من شر كل متكبر عن الإيمان به منكر بالبعث والنشور، فصانه من كل بلية، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ عليه السلام لقومه حين سمع بما يقوله اللعين من حديث قتله عليه السلام: ﴿إِنِّي عُذْتُ﴾ واستجرت ﴿بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي هنا وفي الدخان (١): ﴿عذتُّ﴾ بإدغام الذال في التاء، وقرأ الباقون: بالإظهار، وخص (٢) اسم الرب؛ لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وإضافته إليه وإليهم للحث على موافقته في العياذ به تعالى، والتوكل عليه، فإن في تظاهر النفوس تأثيرًا قويًا. في استجلاب الإجابة، وهو السبب الأصلي في اجتماع الناس لأداء الصلوات الخمس والجمعة والأعياد والاستسقاء ونحوها.
﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾؛ أي: من شر كل متعظم عن الإيمان بالله سبحانه، والتكبر: تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته. ﴿لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ والجزاء صفة لما قبله، عقب به لأن طبع المتكبر القاسي وشأنه إبطال الحق، وتحقير الخلق، لكنه قد ينزجر إذا كان مقرًّا بالجزاء، وخائفًا من الحساب، وأما إذا اجتمع التكبر والتكذيب بالبعث.. كان أظلم وأطغى، فلا عظيمة إلا ارتكبها، فيكون بالاستعاذة أولى وأحرى.
وصدر (٣) الكلام بـ ﴿إنّ﴾ تأكيدًا وإشعارًا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، والمسلم إذا قال عند القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساس شياطين الجن، فكذلك إذا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
166
قال: أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس.
والمعنى (١): أي إني استجرت بالله ربي وربكم، واستعصمت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء؛ لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب.. لم يكن للثواب على الإحسان راجيًا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفًا، وإنما لم يسم فرعون باسمه، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من جبابرة أركانه وغيرهم؛ لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله، وهي التكبر وما يليه من عدم الإيمان بالبعث، وإنما قال: ﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ ولم يقل منه سلوكًا لطريق التعريض، وتحاشيًا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه، فهو واف بالغرض، ومبين للعلة
التي لأجلها أبى واستكبر.
فائدة: سئل أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أي ذنب أخوف على سلب الإيمان؟ قال: ترك الشكر على الإيمان، وترك خوف الخاتمة، وظلم العباد، فإن من كان فيه هذه الخصال الثلاث.. فالأغلب أن يخرج من الدنيا كافرًا إلا من أدركته السعادة.
وفي الخبر: "إن الله سخر الريح لسليمان عليه السلام فحملته وقومه على السرير، حتى سمعوا كلام أهل السماء، فقال ملك - لآخر إلى جنبه -: لو علم الله في قلب سليمان مثقال ذرة من كبر.. لأسفله في الأرض مقدار ما رفعه مِنَ الأرض إلى السماء".
وفي الحديث: "ما من أحد إلا وفي رأسه سلسلتان: إحداهما إلى السماء السابعة، والأخرى إلى الأرض السابعة، فإذا تواضع.. رفعه الله بالسلسلة التي في السماء السابعة، وإذا تكبر.. وضعه الله بالسلسلة التي في الأرض السابعة" فالمتكبر
(١) المراغي.
167
أيًا كان مقهور لا محالة، ما يقال (١): إن أول ما خلق درة بيضاء، فنظر إليها بالهيبة فذابت وصارت ماء، وارتفع زبدها، فخلق الله منه الأرض فافتخرت الأرض وقالت: من مثلي، فخلق الله الجبال فجعلها أوتادًا في الأرض، فقهر الأرض بالجبال، فتكبرت الجبال فخلق الحديد، وقهر الجبال به، فتكبر الحديد فقهره بالنار، فتكبرت النار فخلق الماء فقهرها به، فتكبر الماء فخلق السحاب، ففرق الماء في الدنيا فتكبر السحاب فخلق الرياح، ففرقت السحاب فتكبرت الرياح، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتًا وكنًا من الحر والبرد والرياح، فتكبر الآدمي فخلق النوم فقهره به، فتكبر النوم فخلق المرض فقهره به، فتكبر المرض فخلق الموت فقهره به، فتكبر الموت فقهره بالذبح يوم القيامة، حيث يذبح بين الجنة والنار، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ يعني إذا ذبح الموت.. فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة بالسوء، فلا بد من إزالته
٢٨ - ولما استعاذ موسى عليه السلام بالله، واعتمد على فضله ورحمته.. فلا جرم صانه الله تعالى من كل بلية، وأوصله إلى كل أمنية، وقيض له إنسانًا أجنبيًا، حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة، كما حكى الله تعالى عنه بقوله: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ﴾ كائن ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ فهو صفة ثانية لـ ﴿رَجُلٌ﴾ وقوله: ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾: صفة ثالثة، قدم الأول؛ أعني مؤمن، لكونه أشرف الأوصاف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود، وذلك لأنه لو أخر عن ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾.. لتوهم أن ﴿من﴾ صلته، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون، وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون؛ أي: ابن عمه، وهو منذر موسى عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾، كما سبق في سورة القصص، واسمه شمعان بالشين المعجمة بوزن سلمان، وهو أصح ما قيل فيه، قاله الإِمام السهيلي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَجُلٌ﴾ بضم الجيم، وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون الجيم، وهي لغة تميم ونجد،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
168
وقرىء: بكسر الجيم، وفي "تاريخ الطبري": اسمه جبر، وقيل: حبيب النجار، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم، وهو غير حبيب النجار صاحب يس، وقيل: خربيل بن نوحائيل أو حزقيل، ويدل عليه قوله - ﷺ -: "سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو - رضي الله عنه - أفضلهم" كما في "إنسان العيون" نقلًا عن "العرائس".
وقال ابن الشيخ في "حواشيه": روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، والثالث: أبو بكر الصديق وهو أفضلهم" انتهى. وقال صاحب "روح البيان": يمكن أن يقال لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية، وتفضيل علي في السبق، وعدم صدور الكفر عنه، ولو لحظةً، فأفضلية كل منهما من جهة أخرى.
ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطيًا، لا إسرائيليًا، وأيضًا أن فرعون أصغى إلى كلامه واستمع منه، ولو كان إسرائيليًا لكان عدوًا له، ولم يكن ليصغي إليه.
قال في "التكملة": فإن قلت: الآل قد يستعمل في غير القرابة بدليل قوله تعالى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم؟
فالجواب: أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون وإنما كان مؤمنًا، فإذا لم يكن من أهل دينه.. فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته. انتهى، وقيل: كان إسرائيليًا ابن عم قارون، أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل، وقيل: كان عربيًا موحدًا ينافقهم لأجل المصلحة، ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾؛ أي: يستره ويخفيه من فرعون وملثه، لا خوفًا بل ليكون كلامه بمحل من القبول، وقيل: خوفًا، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمئة سنة، وكتمه، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى.. قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا﴾؛ أي: أتقصدون قتله ظلمًا بلا دليل، والاستفهام إنكاري، ﴿أَنْ يَقُولَ﴾؛ أي: لأن يقول أو كراهة أن يقول: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾
169
وحده لا شريك له، وهو في موضع نصب بنزع الخافض، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة، مثل: صديقي زيد لا غير ﴿و﴾ الحال أنه ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ والمعجزات الظاهرة الواضحة التي شاهدتموها ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لم يقل من ربه، لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم.. دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره، والاعتراف به وترك المكابرة معه؛ لأن ما كان من قِبَلِ رَبِّ الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه.
وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - ﷺ -، قال: أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله يصلي عند الكعبة، أو لقيه في الطواف، فأخذ بمجامع ردائه - ﷺ -، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقًا شديدًا، وقال له: أنت الذي تنهانا عما يعبد آباؤُنا، فقال النبي - ﷺ -: "أنا ذاك"، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ بمنكبيه - ﷺ - والتزمه من ورائه، ودفعه عن رسول الله - ﷺ - وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ رافعًا صوته، وعيناه تسفحان دمعًا أي: تجريان حتى أرسلوه، أخرج البخاري بمعناه. وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى، لأنه كان يظهر إيمانه، وكان بمجمع طغاة قريش، وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر، وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه، فقال:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه، وخصهم بمشاهدته، وتلقى الروح عنه؟ وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأَسرَّهُ، فجعله في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -! إذ جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرًا بعد اليوم، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه.
والمعنى (١): أي وقال رجل من آل فرعون بكتم إيمانه منهم، خوفًا على
(١) المراغي.
170
نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلًا ما زاد على أن قال: ربي الله، وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه، ومثل هذه المقالة لا تستدعي قتلًا، ولا تستحق عقوبةً، فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله، وتوقف عن قتله.
وخلاصة ذلك: أترتكبون هذه الفعلة، القبيحة الشنعاء وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله، وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله، ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط، بإيراده في صورة الاحتمال من الظن بعد القطع يكون قتله منكرًا، فقال: ﴿وَإِنْ يَكُ﴾ الرجل الذي تريدون قتله ﴿كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فيحتاج في دفعه إلى قتله؛ يعني: أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره، كالزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته، وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين، لكون طباع الناس آبية عن قبوله، ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾ في قوله فكذبتموه وقصدتم له بسوء ﴿يُصِبْكُمْ﴾ ويحل بكم ﴿بَعْضُ﴾ العذاب ﴿الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ ويخبركم بوقوعه عليكم، وهو عذاب الدنيا، فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيًا.
والحاصل: أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله، بل يكفيكم أن تعرضوا عنه، وأن تمنعوه عن إظهار دينه.
أي (١): إن لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه، وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وحذفت النون من يكن في الموضعين؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، كما قاله سيبويه، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم من شِقَّي الترديد كونه كاذبًا، وصرح بإصابة البعض دون الجميع، مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله، وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون، ويجوز أن يكون المعنى: يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض ما يعدهم، لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، كأنه خوّفهم بما هو ظهر احتمالًا عندهم. وفي "عين المعاني":
(١) روح البيان.
171
لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر، وقد يكون البعض بمعنى الكل، كما في قوله:
قَدْ يُدَرِكُ الْمُتَأَنِّيْ بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُوْنُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
إِنَّ الأُمُوْرَ إِذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا دُوْنَ الشُّيُوْخِ تَرَى فِيْ بَعْضِهَا خَلَلاَ
وكما في قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾؛ أي: جميعه، وفي قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بكلها، كما في "كشف الأسرار" وقال أبو الليث: ﴿بَعْضُ﴾ هنا: صلة يريدُ يُصِبْكم الذي يعدم.
وعبارة "فتح الرحمن" هنا: وإن قلت: كيف قال المؤمن ذلك في حق موسى عليه السلام، مع أنه صادق عنده وفي الواقع، ويلزم منه أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟.
قلت: كلمة ﴿بَعْضُ﴾: صلة، أو هي بمعنى كل، كما قيل به في البيتين السابقين وفي الآيتين، أو ذكر البعض تنزلًا وتلطفًا بهم، مبالغًا في نصحهم، لئلا يتهموه بميل ومحاباة، أو هي باقية على معناها، لأنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فهلاكهم في الدنيا بعض ما وعدهم به.
والمعنى: أي إن كان كاذبًا في قيله: أن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه.. فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقًا في قيله ذلك.. أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطًا على الكفر، وسخطًا على قتل رسوله، وفي قوله: ﴿بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ مبالغة في التحذير، فإنه إذ حذرهم من بعض العذاب.. أفاد أنه مهلك مخوف، فما بال كله إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وهذا من تمام كلام الرجل المؤمن، والمسرف: هو الذي يتجاوز الحد في المعصية، أو هو السفاك للدم بغير حق، والكذاب: هو الذي يكذب مرةً بعد أخرى، وقيل: هو الكذاب على الله سبحانه، لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وهو احتجاج آخر ذو وجهين:
172
أحدهما: أنه لو كان مسرفًا كذابًا.. لما هداه الله تعالى إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيهما: أنه إن كان كذلك.. خذله الله تعالى وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم، وقد عرّض به لفرعون، لأنه ﴿مُسْرِفٌ﴾ حيث قتل الأبناء بلا جرم ﴿كَذَّابٌ﴾ حيث ادعى الألوهية، لا يهديه الله سبيل الصواب، ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره،
٢٩ - ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى.. خوفهم في ذلك بعذاب الله تعالى فقال: ﴿يَا قَوْمِ﴾؛ أي: يا قومي ﴿لَكُمُ الْمُلْكُ﴾ والسلطان ﴿الْيَوْمَ﴾ حال كونكم ﴿ظَاهِرِينَ﴾ أي غالبين عالين على بني إسرائيل والعامل في الحال وفي قوله: ﴿الْيَوْمَ﴾ ما تعلق به لكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أرض مصر، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت، ومعنى الظهور: الاستعلاء على الناس والغلبة عليهم.
﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا﴾ ويمنعنا ويحفظنا ﴿مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾؛ أي: من سطوته وأخذه وعذابه، ويحول بيننا وبينه ﴿إِنْ جَاءَنَا﴾ وحل بنا، وفي هذا (١) تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، والاستفهام فيه: إنكاري؛ أي: لا ناصر لنا؛ أي: فلا تفسدوا أمركم، ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله، فإنه إن جاءنا.. لم يمنعنا منه أحد.
وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصةً، ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوْءُهم من مجيء بأس الله سبحانه؛ تطييبًا لقلوبهم، وإيذانًا بأنه ناصح لهم، ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه.
ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح.. جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكًا يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم، كما حكى سبحانه عنه بقوله: {قَالَ
(١) روح البيان.
فِرْعَوْنُ} بعدما سمع نصحه، إضرابًا عن المجادلة ﴿مَا أُرِيكُمْ﴾؛ أي: ما أشير عليكم ﴿إِلَّا مَا أَرَى﴾ وأستصوبه من قتله، قطعًا لمادة الفتنة ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ﴾ بهذا الرأي ﴿إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ وطريق الصواب، فهو من الرأي، ويجوز أن يكون من الرؤية بمعنى العلم؛ أي: لا أعلمكم إلا ما أعلم، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره، ولقد كذب حيث كان مستشعرًا للخوف الشديد، ولكنه كان يظهر الجلادة وعدم المبالاة، ولولاه لما استشار أحدًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿الرَّشَادِ﴾ بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل: بتشديدها، على أنه صيغة مبالغة، كضراب، وقال النحاس: هي لحن ولا وجه لذلك، وقال أبو الفتح: هو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي، يقال: رشد فهو رشّاد كعبّاد من عبد، وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم.
والمعنى (٢): أي قال فرعون مجيبًا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأي سوى ما ذكرته، من وجوب قتله حسمًا للفتنة، وإني لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أَعدُّ غير هذا صوابًا.
٣٠ - ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكيًا عنه: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ﴾ من آل فرعون، مخاطبًا لقومه واعظًا لهم.
وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وذلك من أجل علة الخوف والقهر، ولأن الجهاد بالحجة والبرهان أكبر من الجهاد بالسيف والسنان ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ في تكذيب موسى عليه السلام، والتعرض له بسوء، كالقتل والأذى ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾؛ أي: مثل عذاب أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم العظيمة، وعقوباتهم الهائلة، على طريق ذكر المحل وإرادة الحال.
فإن قلت: الظاهر أن يقال: مثل أيام الأحزاب، إذ لكل حزب يوم على حدة.
قلت: جمع الأحزاب مع تفسيره بالطوائف المختلفة المتباينة الأزمان
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
والأماكن، أغنى عن جمع اليوم، إذ بذلك ارتفع الالتباس، وتبين أن المراد الأيام لا اليوم الواحد،
٣١ - ثم فسر الأحزاب فقال: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ بدل من المثل الأول، والمراد بالدأب واليوم واحد، إذ المعنى: إني أخاف عليكم مثل حال قوم نوح وشأنهم في العذاب، حيث أغرقوا بالطوفان الذي استأصل كل ما على وجه الأرض؛ أي: أخاف عليكم مثل عذاب قوم نوح ﴿وَ﴾ مثل عذاب ﴿عَادٍ﴾ قوم هود، حيث أهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَ﴾ مثل عذاب ﴿ثَمُودَ﴾ قوم صالح، حيث أهلكوا بالصيحة الطاغية ﴿وَ﴾ مثل عذاب الأقوام ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد هؤلاء المذكورين من كفار الأمم المكذبة لرسلها، كقوم لوط وشعيب عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
والحاصل: أن حزقيل خوفهم بعذاب معجل في الدنيا.
والمعنى: أي وقال ذلك المؤمن ناصحًا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم إن كذبتم موسى، وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيًا ولا عاصمًا، وهذه سنة الله في المكذبين جميعًا، فحذار حذار أيها القوم، إني لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم، وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي، وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم، ولا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام؛ أي: وما أهلك الله سبحانه هذه الأمم المذكورة ظلمًا لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم وتكذيبهم رسله، بعد أن جاؤوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره وحكمه، وأحلّ بهم وعيده وانتقامه، حيث استأصلهم وقطع دابرهم كالأمس الدابر.
٣٢ - وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي، خوفهم العذاب الأخروي فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢)﴾؛ أي: عذاب يوم التناد، وهو يوم القيامة، لما فيه من العذاب على المصرين والمؤذين للرسل والأنبياء، فهو منصوب على المفعولية به، ولكنه على حذف مضاف كما قدرنا، سمي يوم التناد؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة، كقولهم: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا﴾ أو يتصايحون بالويل
والثبور، بنحو قولهم: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الجنة والنعيم المقيم حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من عذاب النار حقًا؟ قالوا: نعم، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله.
وقرأ الجمهور (١): ﴿التَّنَادِ﴾ بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل: التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم؛ أي: نادى بعضهم بعضًا، وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس والضحَّاك وعكرمة: بتشديد الدال؛ أي: يوم فرار بعضهم من بعض، قال بعض أهل اللغة: هو لحن؛ لأنه من ند يندّ: إذا مرّ على وجهه هاربًا، قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنةٌ على معنى التنافي، قال الضحاك: معناه: أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم.. ندّوا هربًا فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفًا من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾.
والمعنى على قراءة الجمهور: يوم ينادي بعضهم بعضًا، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، أو ينادى فيه بسعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادى فيه: كل أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني.
٣٣ - وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ﴾ بدل من يوم التناد، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم يولّي بعضكم بعضًا دبره، حال كونكم ﴿مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: منصرفين من الموقف إلى النار، أو فارّين منها، لأنهم إذ سمعوا زفير النار.. ندّوا هاربين، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكةُ صفوفًا، فبينما هم يموج بعضهم في بعض.. إذا سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، وحال كونكم ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾؛ أي: ما لكم من عاصم يعصمكم من عذابه تعالى، ويحفظكم في فراركم حتى تعذَّبوا في النار، والجملة: حال أخرى من ضمير ﴿تُوَلُّونَ﴾.
(١) الشوكاني.
176
والمعنى: أي إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضًا ليستغيث به من شدّة الهول، أو حين ينادي أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قالوا: نعم، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله، قالوا: إن الله حرّمهما على الكافرين يوم تولّون مدبرين هربًا من زفير النار وشهيقها، فلا يُجْديكم ذلك شيئًا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب فتردّون إليه، ونالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.
ولما يئس الرجال المؤمن من إيمانهم.. نبّه إلى شدّة ضلالتهم وعظيم جهالتهم، فقال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يهديه إلى طريق النجاة، ويوفّقه إلى الخلاص، وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.
وفي الآيات (١): إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهارًا لفضله ومنته، يخرج الحيّ من الميّت، كما أخرج من آل فرعون مؤمنًا حيًّا قلبه بالإيمان، من بين كفارٍ أموات قلوبهم بالكفر، ليتحقق قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ وإذا شاء إظهارًا لعزته وجبروته يعمي ويصمّ الملوك، والعقلاء مثل: فرعون وقومه، لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة، ولا يسمعوا الحجج الباهرة، مثل: ما ناصحهم با مؤمن آل فرعون ليتحقّق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ قوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي...﴾ الآية. كما في "التأويلات النجمية".
وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه خالق الضلالة، وإنما الشيطان ونحوه من الوسائط، فالجاهل يرى القلم مسخّرًا للكاتب، والعارف أنه مسخر في يده لله تعالى؛ لأنه خالق الكاتب والقلم وكذا فعل الكاتب.
وفي قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ إشارة (٢) إلى أنّ التوفيق والاختيار للواحد القهار، فلو كان لآدم.. لاختار قابيل، ولو كان لنوح.. لاختار كنعان، ولو كان لإبراهيم.. لاختار آزر، ولو كان لموسى.. لاختار فرعون، ولو كان لمحمد - ﷺ -..
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
177
لاختار عمّه أبا طالب.
ويقال: سبعة أمور عامة، وسبعة في جنبها خاصة، الأمر عام والتوفيق خاص، والنهي عام والعصمة خاص، والدعوة عام والهداية خاص، والموت عام والبشارة خاص، والحشر يوم القيامة عام والسعادة خاص، وورود النار عام والنجاة منها خاص، والخلق عام والاختيار خاص؛ يعني: ليس كل من خلقه الله تعالى اختاره، بل خص منه قومًا، وكذا خلق أمورًا وأشياء فخصّ منها البعض ببعض الخواص.
ثم العجب أنّ مثل موسى عليه السلام يكون وسط قومه لا يهتدون به، وذلك لأنّ صاحب المُرة لا يجد حلاوة العسل، والضرير لا يرى الشمس، وليس ذلك إلا من سوء المِزاج وفساد الحال وفقدان الاستعداد.
٣٤ - ثم قال مؤمن آل فرعون موبّخًا لهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ﴾؛ أي: وعزة الله وجلاله لقد جاءكم يا أهل مصر ﴿يُوسُفُ﴾ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان قد أقام فيهم نبيًا عشرين سنةً، وقيل: المراد بيوسف هنا: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، وحكى النقاش عن الضحاك: أن الله بعث إليهم رسولًا من الجن، يقال له: يوسف، والأول أولى.
أي: ولقد جاء أيها القبطيون آباءَكم الأقدمين يوسف بن يعقوب ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل موسى ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الواضحة التي من جملتها تعبير الرؤيا وشهادة الطفل على براءة ذمته، وقد كان بعث إلى القبط قبل موسى بعد موت الملك، وكان فرعون موسى قد أدرك أيام يوسف بن يعقوب، فعاش إلى زمانه، وذلك لأنّ فرعون موسى قد عُمّر أكثر من أربع مئة سنة.
وكان (١) بين إبراهيم وموسى تسع مئة سنة على ما رواه ابن قتيبة في كتابه "المعارف"، فيجوز أن يكون بين يوسف وموسى مدة عمر فرعون تقريبًا، فيكون الخطاب لفرعون، وجُمع لأنّ المجيء إليه بمنزلة المجيء إلى قومه، وإلا فأهل
(١) روح البيان.
178
عصر موسى لم يروا يوسف بن يعقوب، والأظهر أنه على نسبة أحوال الآباء إلى الأبناء، وتوبيخ المعاصرين بحال الماضين ﴿فَمَا زِلْتُمْ﴾؛ أي: فما برحتم مستمرين ﴿فِي شَكٍّ﴾ وريب ﴿مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾؛ أي: في حقية الذي جاءكم به من الدين الحق، الذي هو التوحيد ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ﴾ ومات يوسف ﴿قُلْتُمْ﴾ ضمًّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد موت يوسف ﴿رَسُولًا﴾ أصلًا فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أنَّ ذلك لا يحدد عليهم الحجة، وقرىء (١): ﴿ألن يبعث﴾ بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا على نفي البعثة.
والمعنى (٢): أي ولقد جاء آباءَكم يوسفُ من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولًا من بعده يدعو إليه، ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائِكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم لما تقدم من أنّ الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها إذا تواطؤوا واتفقوا عليه، كما جاء في قصص ثمود حين كذب قدار فعقر الناقة، فنسب التكذيب والعقر إلى ثمود جميعها، كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾. وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهِّي والتمنِّي من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارًا منهم برسالته، بل هو ضمّ إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده.
وفي الآية (٣): إشارة إلى أنَّ في الإنسان ظلوميةً وجهوليةً لو خلّي وطبعه.. لا يؤمن بنبّي من أنبياء الله ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى، وهذه طبيعة المتقدّمين والمتأخرين منهم، وإنما المهتدي من يهديه الله تعالى بفضله وكرمه، ومن إنكارهم الطبعيّ: أنهم ما آمنوا بنبوّة يوسف، فلما هلك.. أنكروا أن يكون بعده رسول الله، وذلك من زيادة شقاوة الكافرين، كما أن من كمال سعادة المؤمنين أن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
179
يؤمنوا بالأنبياء قبل نبيهم.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: أضلالًا مثل ذلك الإضلال الفظيع الواقع لهم ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ سبحانه ويصد عن سبيل الحق وقصد السبيل ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ منهمك في المعاصي متجاوز الحد فيها، مستكثر منها ﴿مُرْتَابٌ﴾ شاك في وحدانيته ووعده ووعيده؛ لغلبة الوهم عليه وانهماكه في التقليد.
٣٥ - والموصول في قوله (١): ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾: بدل من ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجمع باعتبار معناها؛ إذ لا يريد مسرفًا واحدًا بل كل مسرف، أو عطف بيان لها، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، أو مبتدأ وخبره ﴿يَطْبَعُ﴾. والمراد بالمجادلة: ردّ الآيات والطعن فيها ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾؛ أي: بغير حجة وبرهان صالحة للتمسك بها ﴿أَتَاهُمْ﴾ صفة لسلطان ﴿كَبُرَ﴾؛ أي: عظم من هو مسرف مرتاب أو الجدال، ففاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾. وقيل: ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، وهذا أولى كما في "الشوكاني"؛ أي: عظم الجدال ﴿مَقْتًا﴾؛ أي: من جهة البغض الشديد والنفور القوي ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه، متعلق بـ ﴿كَبُرَ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن، يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وقيل: ابتداء كلام من الله سبحانه.
والمعنى (٢): أي إنّ هؤلاء المسرفين المرتابين هم الذين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسّكون بتقليد الآباء والأجداد ويتمسَّكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأي، كبر ذلك الجدال بغضًا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
180
ثم بيَّن أنّ هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما طبع الله سبحانه على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم وختم عليها ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ سبحانه، ويختم ﴿عَلَى كُلِّ قَلْبِ﴾ شخص ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ عن الإيمان ﴿جَبَّارٍ﴾ عن قبول الحق والهدى، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل.
أي (١): يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبو أن يوحدوا الله تعالى ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف وغيره مما مرّ قريبًا.
قال صاحب "الروح": واعلم (٢): أنّ الطابع هو الله تعالى، والمطبوع هو القلب، وسبب الطبع هو التكبّر والجبارية، وحكمه أن لا يخرج من القلب ما فيه من الكفر والنفاق والزيغ والضلال، فلا يدخل فيه ما في الخارج من الإيمان والإخلاص والسداد والهدى، وهو أعظم عقوبة من الله سبحانه، فعلى العاقل أن يتشبّث بالأسباب المؤدّية إلى شرح الصدر لا إلى طبع القلب، قال إبراهيم الخوَّاص: - رحمه الله -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبّر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقرأ الجمهور (٣): بإضافة ﴿قَلْبِ﴾ إلى ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وعليها ففي الكلام حذف تقديره: كذلك يطبع الله على كل قلب كل شخص متكبر جبار، فحذف كل الثاني لدلالة الأول عليه.
والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام، والأعرج بخلاف عنه: بتنوين ﴿قلب﴾ على أنّ ﴿متكبّر﴾ صفة له فيكون القلب مرادًا به الجملة، ونسب التكبر إلى القلب؛ لأنه هو الذي يتكبَّر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي - ﷺ -: "إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
181
الجسد كله ألا وهي القلب". وقال مقاتل: المتكبّر: المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبّار: المسلّط على خلق الله، وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.
قال في "الكواشي": وكل على كلا القراءَتين لعموم الطبع جميع القلب لا لعموم جميع القلوب. انتهى. وقرأ ابن مسعود: (على قلب كل متكبر). وفي الآية ذم للمتكبر والجبار، وقال - ﷺ -: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطأهم الناس لهوانهم على الله" وذلك لأنّ الصورة المناسبة لحال المتكبر الجبار صورة الذر، كما لا يخفى على أهل القلب.
٣٦ - ثمّ لمّا سمع فرعون هذا.. رجع إلى تكبّره وتجبّره، معرضًا عن الموعظة، نافرًا من قبولها ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ اللعين لوزيره، قصدًا إلى صعود السموات لغاية تكبره وتجبره: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي﴾ أمر من بني يبني بناء، ﴿صَرْحًا﴾؛ أي: قصرًا مشيدًا بالآجر؛ أي: بناء عاليًا رفيعًا مكشوفًا ظاهرًا لا يخفى على الناطرين، وإن بعد من الآجر وهو الطوب المحروق، كما قال في سورة القصص: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾ ولهذا كره الآجر في القبور، كما في "عين المعاني"؛ أي: لأنّ فرعون أول من اتخذه.
قال في "كشف الأسرار": كان هامان وزير فرعون، ولم يكن من القبط ولا من بني إسرائيل؛ يقال: إنه لم يغرق مع فرعون وعاش بعده زمانًا شقيًا محزونًا يتكفف الناس. ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ﴾ وأصعد من ذلك الصرح ﴿الْأَسْبَابَ﴾ والطرق العلوية
٣٧ - ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: طرقها وأبوابها، وهو بيان للأسباب؛ لأن الشيء إذا أبهم ثم فسّر.. كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقيل: أسباب السموات: الأمور التي يستمسك بها، وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: ما فائدة التكرار هنا؟.
قلت: فائدته: أنه إذا أبهم ثم أوضح.. كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات.. أبهمها ثم أوضحها. اهـ.
﴿فأطلع﴾ وأنظر ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ بفتح الهمزة ونصب العين على جواب الترجي، وقرأ الجمهور ﴿فأطلع﴾ بالرفع عطفًا على ﴿أبلغ﴾، فهو على هذا داخل
182
في حيّز الترجي، وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى بن عمر وحفص وأبو حيوة وزيد بن علي والزعفراني وابن مقسم ﴿فَأَطَّلِعَ﴾ بالنصب على جواب الترجي، كما قاله أبو عبيد وغيره، أو على جواب الأمر في قوله: ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ نظير قوله:
يَا نَاقُ سِيْرِيْ عَنَقًا فَسِيْحَا إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيْحَا
قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأنّ معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ ولعلي أطلع بذلك، وفي هذا دليل على أنّ فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾؛ أي: أظن موسى ﴿كَاذِبًا﴾ في ادعائه بأن له إلهًا، أو فيما يدّعيه من الرسالة.
يقول الفقير: لم يقل: كذّابًا، كما قال عند إرساله إليه لأن القائل هنا هو فرعون وحده وحيث قال كذّاب. رجعت المبالغة إلى فرعون وهامان وقارون، فافهم.
والمعنى: أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن، وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان، ابن لي قصرًا منيفًا عالي الذرا، رفيع العماد، علَّني أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها.. رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكُّم وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.
والخلاصة: أن هذا نفي لرسالته من عند ربه، ثم أكّد هذا النفي الضمني بالتصريح به بقوله: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ فيما يقول ويدعي من أنّ له في السماء ربًا أرسله إلينا، وقد قال هذا (١) تمويهًا وتلبيسًا على قومه، توصلًا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أنّ الإله ليس في السماء فحسب، وكأنه يقول: لو كان الإله موجودًا لكان له محل، ومحله إما الأرض، وإما السماء، ولم نره في الأرض فإذًا هو في السماء، والسماء لا يتوصّل إليها إلا بسلّم، فيجب أن يبني الصرح لنصل إليه.
(١) روح البيان.
183
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط ﴿زُيِّنَ﴾ وحسَّن ﴿لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾؛ أي: عمله السيء فانهمك فيه انهماكًا بليغًا لا يرعوي عنه بحال ﴿وَصُدَّ﴾؛ أي: صرف فرعون ومنع ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن سبيل الرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، وبالتوسط هو الشيطان، ولذا قال في آية أخرى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ وهذا عند أهل السنة، وأما عند المعتزلة فالمزيّن والصاد هو الشيطان.
أي (١): ومثل ذلك التزيين المذكور من بناء الصلاح والإطلاع إلى إله موسى، زيّن الشيطان لفرعون عمله السيىء من الشرك والتكذيب، فتمادى في غيّه واستمرّ في طغيانه، ولم يرعو عنه بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا بسوء استعداده وتدسيته نفسه، والسير بها قدمًا في شهواتها، دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيّها، ويثوب بها إلى رشدها.
والنفسُ كالطِّفلِ إِنْ تهملْهُ شبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإِنْ تفطمْهُ يَنفَطِمِ
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَصُدَّ﴾ بفتح الصاد والدال؛ أي: صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون: ﴿وصدَّ﴾ بضم الصاد مبنيًا للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في ﴿زُيِّنَ﴾ من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثّاب وعلقمة: ﴿صدّ﴾ بكسر الصاد وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منوّنًا على أنه مصدر معطوف على ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾؛ أي: زين له الشيطان سوء العمل والصدّ.
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدًى، وأنّ الله ناصرٌ أولياءَهُ ومهلكٌ أعداءَهُ، متَبّرُ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾ واحتياله الذي يحتال به ليطلع على إله موسى ﴿إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾؛ أي: إلا في خسار وهلاك وذهاب مال؛ لأنها نفقة تذهب باطلًا سُدًى، دون أن يصل إليه شيء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
184
٣٨ - ثم إنّ ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير، كما حكى الله عنه بقوله: ﴿وَقَالَ﴾ الرجل ﴿الَّذِي آمَنَ﴾ من آل فرعون ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ فيما دلَلْتكم عليه، أصله: يا قومي اتبعوني ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾؛ أي: أدلُّكم سبيلًا يصل إلى المقصود والرشد، والرشاد: الاهتداء لمصالح الدين والدنيا، وفيه تعريض بأن ما سلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال، وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء، وللوليّ أن يهدي سبيل الرشاد بتبعيّة النبي عليه السلام، كما يهدي النبي إليه؛ أي: اقتدوا بي في الدين، أهدكم سبيل الرشاد وهو الجنة.
وقرأ معاذ بن جبل (١): ﴿الرشّاد﴾ بتشديد الشين، ما تقدم قريبًا الكلام على هذه القراءة، والرد على من جعلها في كلام فرعون، ووقع في المصحف ﴿اتبعون﴾ بدون ياء، كذلك قرأ أبو عمرو ونافع: بحذفها في الوقف، وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب وابن كثير: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأ الباقون: بحذفها وصلًا ووقفًا، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف.
والمعنى (٢): أي يا قوم إن اتبعتموني فقبلتم منّي ما أقول لكم.. سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى،
٣٩ - ثم زهّدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدّوا عن التصديق برسول الله فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ يتمتّع بها أيامًا، ثم تنقطع وتزول؛ أي: تمتّع يسيرٌ وانتفاعٌ قليل لسرعة زوالها؛ لأنَّ الدنيا بأسرها ساعة، فكيف عمر إنسان واحدٍ، قال محمد بن علي الترمذي - رحمه الله -: لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم، ولم يزل طالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أُمة إلا حذّر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال: ﴿اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، كأنهم قالوا: وما سبيل الرشاد؟، فقال: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ...﴾ إلخ. يعني: لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبّة للدنيا وطلب لها ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾؛ أي: الاستقرار؛ لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرّة لا تزول لخلودها ودوام ما فيها، فالدائم خير من المنقضي، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا، والآخرة خزفًا باقيًا.. لكانت الآخرة خيرًا من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
الدنيا، فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ، والآخرة ذهب باقٍ.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله لو أمرتنا أن لنبسط لك لنفعل، فقال: "ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثمّ راح وتركها" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...﴾ الآية. قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنّ الحياة الدنيا متاع، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها.. سرّتك، وإذا غبت عنها.. حفظتك في نفسها ومالها". وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ النبي - ﷺ - قال: "يا بنيّ أكثر ذكر الموت، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت.. زهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وإنّ الآخرة دار قرار، والدنيا غرّارة، والمغرور من اغْترّ بها".
والمعنى (١): أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجِّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى، تستمتعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هي دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيمْ وإما عذاب أليم.
٤٠ - ثم بيّن كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار إلى أنّ جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب، فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ في هذه الدار الدنيا ﴿سَيِّئَةً﴾؛ أي: معصيةً من المعاصي كائنةً ما كانت ﴿فَلَا يُجْزَى﴾ في الآخرة ﴿إِلَّا مِثْلَهَا﴾ ولا يعذب إلا بقدرها، عدلًا من الله سبحانه، فخلود الكافرين في النار مثل لكفره ولو ساعةً لأَبديّة اعتقاده، وأما المؤمن العاصي فعقابه منقطع، إذ ليس على عزم أن يبقى مصرًّا على المعصية.
والظاهر: شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك، وفي الآية دليل على أنّ الجنايات سواء كانت في النفوس
(١) المراغي.
186
أو الأعضاء أو الأموال تغرم بأمثالها، والزائد على الأمثال غير مشروع ﴿وَمَنْ عَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ وهو (١) كل ما طلب به رضي الله تعالى أيّ عملٍ كان من الأعمال المشروعة، سواء كان ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ﴾ كان من ﴿أُنْثَى﴾ ذكرهما ترغيبًا لهما في الصالحات ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنه ﴿مُؤْمِنٌ﴾ بالله وبما جاءت به رسله جعل العمل عمدة، والإيمان حالًا للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدون الإيمان، إذ الأحوال مشروطة على ما تقرّر في علم الأصول ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ حالة كونهم ﴿يُرْزَقُونَ فِيهَا﴾؛ أي: يُعطَون فيها من نعيمها ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: بغير تقدير وموازنة بعملهم، بل أضعافًا مضاعفة، فضلًا من الله ورحمة.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: مما لم يكن في حساب العبد أن يرزق مثله، قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير، وقيل: العمل الصالح هو لا إله إلا الله، وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأخوان - حمزة والكسائي - والصاحبان نافع وابن عامر وحفص (٢): ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى: بضمها مبنيًا للمفعول.
والمعنى: أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي، كائنةً ما كانت فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره وانتهى عمّا نهى عنه، ذكرًا كان أو أنثى وهو مؤمن بربّه، مصدق بأنبيائه ورسله.. فأولئك يدخلون الجنة، ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل، بل يجازون أضعافًا مضاعفةً بلا انقضاء ولا نفاد.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥)﴾.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
187
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى﴾: مفعول به، والجملة الفعلية، جواب لقسم محذوف، تقديره: والله لقد أرسلنا موسى، وجمله القسم: مستأنفة. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿مُوسَى﴾؛ أي: حالة كونه مؤيّدًا بآياتنا التكوينية والتنزيلية ﴿وَسُلْطَانٍ﴾: معطوف على ﴿آياتنا﴾ ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿وَسُلْطَانٍ﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ ﴿وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾: معطوفان على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ وكل من الثلاثة مجرور بالفتحة، لأنها من الأسماء الأعجمية. ﴿فَقَالُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾: خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ساحر كذاب، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾. ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لما﴾ في محل جر بالإضافة ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بجاءهم. ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾: متعلق بمحذوف حال من الحق. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة. ﴿اقْتُلُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿أَبْنَاءَ الَّذِينَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾ ﴿وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اقْتُلُوا﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿مَا﴾: نافية ﴿كَيْدُ الْكَافِرِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، وهو إظهار في مقام الإضمار؛ أي: وما كيدهم بموسى عليه السلام. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرّغ. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا﴾ والرابط اسم الظاهر القائم مقام الضمير؛ لأنّ الأصل أن يقال: وما كيدهم.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالُوا﴾ ﴿ذَرُونِي﴾: فعل أمر وفاعل، ونون وقاية، ومفعول به، والجملة: في محل النصب
188
مقول قال. ﴿أَقْتُلْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، مجزوم بالطلب السابق. ﴿مُوسَى﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَلْيَدْعُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿واللام﴾: حرف جزم وطلب. ﴿يدع﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿رَبَّهُ﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿ذَرُونِي﴾، والمقصود بالأمر هنا: التعجيز بزعمه. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخَافُ﴾: من الفعل المضارع، والفاعل المستتر: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾، على كونها مسوقة لتعليل القتل ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يُبَدِّلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، ﴿دِينَكُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إني أخاف تبديله دينكم الذي أنتم عليه، ﴿أَوْ﴾ حرف عطف. ﴿أَنْ يُظْهِرَ﴾: معطوف على ﴿أَنْ يُبَدِّلَ﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يُظْهِرَ﴾. ﴿الْفَسَادَ﴾: مفعول ﴿يُظْهِرَ﴾، والتقدير: أو إظهاره الفساد في الأرض.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿قال موسى﴾: فعل وفاعل معطوف على قالوا أيضًا. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿عُذْتُ﴾: فعل وفاعل في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِرَبِّي﴾ متعلق بـ ﴿عُذْتُ﴾، ﴿وَرَبِّكُمْ﴾: معطوف على ﴿ربي﴾. ﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عُذْتُ﴾ وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُ﴾: صفة لـ ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾. ﴿بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾.
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قال رجل﴾: فعل وفاعل. ﴿مُؤْمِنٌ﴾: صفة أولى لـ ﴿رَجُلٌ﴾. ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ نعت ثان له. ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿رَجُلٌ﴾ ومفعوله، والجملة: في محل الرفع صفة ثالثة
189
لـ ﴿رَجُلٌ﴾، وجملة ﴿قال﴾: مستأنفة مسوقة لإيراد الحل الملائم للعقدة القصصية بعد أن عاذ موسى بربه ليكفيه شر هذا اللعين. ﴿أَتَقْتُلُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿تقتلون رجلًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول قال ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَقُولَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿رَجُلًا﴾ والجملة الفعلية مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لأجله؛ أي: أتقتلونه لأجل قوله: ﴿رَبِّيَ﴾: مبتدأ، ﴿اللَّهُ﴾: خبره أو بالعكس والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولَ﴾، ﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ: جاء. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: حال من ﴿البينات﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ﴿رَجُلًا﴾ فإن قيل: هو نكرة.. فالجواب: أنه في حيز الاستفهام، وكل ما سَوّغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال منها، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل ﴿يَقُولَ﴾. اهـ "سمين".
﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير مستتر يعود على ﴿رَجُلًا﴾. ﴿كَاذِبًا﴾: خبرها. ﴿فَعَلَيْهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿عليه﴾: خبر مقدم. ﴿كَذِبُهُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم جواب ﴿إن﴾ الشرطية، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿أَتَقْتُلُونَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾ ﴿وَإِنْ يَكُ﴾: جازم ومجزوم. ﴿صَادِقًا﴾: خبر ﴿يَكُ﴾. ﴿يُصِبْكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿بَعْضُ الَّذِي﴾: فاعل ومضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿إِن﴾ الأولى، وجملة ﴿يَعِدُكُمْ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يعدكموه، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَهْدِي﴾: خبره وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾. ﴿هُوَ مُسْرِفٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿كَذَّابٌ﴾: خبر ثان،
190
والجملة الاسمية: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة.
﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩)﴾.
﴿يَا قَوْمِ﴾: ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿قوم﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾؛ لأنه من تتمة كلام الرجل المؤمن. ﴿لَكُمُ﴾: خبر مقدم. ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بما تعلق به الخبر. ﴿ظَاهِرِينَ﴾: حال من الضمير في ﴿لَكُمُ﴾ والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به لكم. اهـ "سمين". ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿ظَاهِرِينَ﴾؛ أي: غالبين في الأرض، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردت النصيحة لكم.. فأقول لكم ﴿مَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَنْصُرُنَا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْصُرُنَا﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ويصح أن تكون ﴿الفاء﴾: عاطفة ما بعدها على جملة قوله: ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ وإن طال الفصل، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿جَاءَنَا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الـ ﴿بَأْسِ﴾ ومفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن جاءنا بأس الله فمن ينصرنا منه، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أُرِيكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أُرِيكُمْ﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب، مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَرَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: إلا ما أراه لنفسي. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَهْدِيكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَهْدِيكُمْ﴾ والجملة الفعلية: في محل
191
النصب معطوفة على جملة ﴿مَا أُرِيكُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قال الذي﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾، وجملة ﴿آمَنَ﴾: صلة الموصول، وجملة النداء. في قوله ﴿يَا قَوْمِ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخَافُ﴾: خبره. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَافُ﴾، ﴿مِثْلَ﴾: مفعول به لـ ﴿أَخَافُ﴾. ﴿مِثْلَ﴾: مضاف. ﴿يَوْمِ﴾: مضاف إليه. ﴿يَوْمِ﴾: مضاف. ﴿الْأَحْزَابِ﴾: مضاف إليه، وكثرة الإضافة لا تخرج الكلام عن الفصاحة، لورودها في الكتاب والسنة. ﴿مِثْلَ﴾: بدل عن ﴿مِثْلَ﴾ الأول، أو عطف بيان له وهو مضاف، ﴿دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ مضاف إليه. ﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾: معطوفان على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل الجر معطوف على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ أيضًا. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، ﴿وَمَا اللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: حجازية: ﴿اللَّهُ﴾ اسمها، وجملة ﴿يُرِيدُ﴾: خبرها، ﴿ظُلْمًا﴾: مفعول به لـ ﴿يُرِيدُ﴾. ﴿لِلْعِبَادِ﴾: متعلق بـ ﴿ظُلْمًا﴾ وجملة ﴿ما﴾ الحجازية: معطوفة على جملة ﴿يَا قَوْمِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾: معطوف على جملة النداء الأول، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أَخَافُ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾ ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَافُ﴾ ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾: مفعول به لـ ﴿أَخَافُ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: مضاف، ﴿التَّنَادِ﴾: مضاف إليه مجرور بالمضاف، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة تبعًا لرسم المصحف، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. ﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ﴾ الأول. ﴿تُوَلُّونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون. ﴿مُدْبِرِينَ﴾: حال من فاعل ﴿تُوَلُّونَ﴾، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿مَا﴾: نافية حجازية. ﴿لَكُمْ﴾: خبرها مقدم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿عَاصِمٍ﴾ ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿عَاصِمٍ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية: في محل النصب
192
حال ثانية من فاعل ﴿تُوَلُّونَ﴾، ولك أن تهمل ﴿مَا﴾؛ لتقدم خبرها، ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يُضْلِلِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة. ﴿ما﴾: تميمية أو حجازية. ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم أو خبر مقدم ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿هَادٍ﴾: اسمها مؤخر أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾.
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ يُوسُفُ﴾: فعل ماض ومفعول به وفاعل، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿يُوسُفُ﴾؛ أي: من قبل موسى، فبناء الظرف على الضم؛ لأن المضاف إليه منوي معناه ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَكُمْ﴾ ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿زِلْتُمْ﴾: فعل ماض ناقص و ﴿التاء﴾: اسمها. ﴿فِي شَكٍّ﴾: خبرها، وجملة ﴿زال﴾ معطوفة على جملة ﴿جَاءَكُمْ﴾ ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾ وجملة ﴿جَاءَكُمْ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَكُمْ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية لقوله: ﴿ما زلتم﴾، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما: يستقبل من الزمان. ﴿هَلَكَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿يُوسُفُ﴾. والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب. ﴿قُلْتُمْ﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها: في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ إلى قولكم وقت هلاكَه: ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾: الجار والمجرور صفة ثانية لـ ﴿شَكٍّ﴾ أو متعلق بـ ﴿زال﴾ ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ﴾ ناصب وفعل وفاعل ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رَسُولًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول
193
﴿قُلْتُمْ﴾.
﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يُضِلُّ الله﴾: فعل وفاعل، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يُضِلُّ﴾. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾: خَبرَانِ لَهُ، والجملة الاسمية: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والتقدير: ﴿يُضِلُّ الله﴾ سبحانه ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾: إضلالًا مثل الإضلال الفظيع الواقع لفرعون وقومه، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿يُجَادِلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿في آيَاتِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾، ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾: متعلق به أيضًا، وجملة ﴿أَتَاهُمْ﴾: في محل الجر صفة لـ ﴿سُلْطَانٍ﴾. ﴿كَبُرَ﴾: فعل ماض قال على التعجب والاستعظام لجدالهم، وفاعله: ضمير مستتر يعود على المصدر المفهوم من ﴿يُجَادِلُونَ﴾. ﴿مَقْتًا﴾: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: كبر مقت جدالهم؛ أي: المقت المرتب على جدالهم. ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ متعلق بـ ﴿كَبُرَ﴾، ﴿وَعِنْدَ الَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿عِنْدَ اللهِ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾ وجملة ﴿كَبُرَ﴾: من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، كبر جدالهم وعظم عند الله وعند الذين آمنوا من جهة كونه ممقوتًا، والجملة الاسمية: مستأنفة؛ لأنه ابتداء كلام من الله تعالى. قال أبو حيان في "النهر": والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وخبره ﴿كَبُرَ﴾ والفاعل: ضمير المصدر المفهوم من ﴿يُجَادِلُونَ﴾، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب لحسن مجاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وهنا أوجه عن الإعراب، أوصلها بعضهم إلى عشرة لا طائل تحتها، وأولاها بالذكور، وأقربها إلى المعقول ما ذكرناه، وقال أبو البقاء: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، وهم يرجع على قوله: ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾؛ لأنه في معنى الجمع.
194
والثاني: أن يكون مبتدأ، والخبر ﴿يَطْبَعُ الله﴾ والعائد: محذوف؛ أي: على كل قلب متكبر منهم. ﴿كَذَلِكَ﴾: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، وما بينهما معترض.
الثالث: أن يكون الخبر ﴿كَبُرَ مَقْتًا﴾؛ أي: كبر قولهم مقتًا.
والرابع: أن يكون الخبر محذوفًا؛ أي: معاندون، ونحو ذلك.
والخامس: أن يكون منصوبًا بإضمار أعني. وقال الزمخشري: الذين يجادلون بدل من ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ نظرًا لمعنى مَنْ لا للفظ بها، لأنها جمع في المعنى لأنه لا يريد مسرفًا واحدًا، فكأنه قال: كل مسرف، ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: طبعًا مثل ذلك الطبع. ﴿يَطْبَعُ الله﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى كُلِّ﴾: متعلق بـ ﴿يطبع﴾، ﴿كُلِّ﴾: مضاف. ﴿قَلْبِ﴾: مضاف إليه. ﴿قَلْبِ﴾: مضاف. ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾: مضاف إليه. ﴿جَبَّارٍ﴾: صفة ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ أو ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ على تنوين ﴿قَلْبِ﴾ صفة أولى له، ﴿جَبَّارٍ﴾: صفة ثانية له.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا في تَبَابٍ (٣٧)﴾.
﴿وَقَالَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قال فرعون﴾: فعل وفاعل معطوف على الجمل التي قبلها، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿يَا هَامَانُ﴾: منادى مفرد العلم في محل النصب مبني على الضم، وجملة النداء، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿ابْنِ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿هامان﴾، تقديره: أنت، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿لِي﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿صَرْحًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليه. ﴿صَرْحًا﴾: مفعول به، ﴿لَعَلِّي﴾: ناصب واسمها، وجملة ﴿أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾: خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾: بدل من الأسباب بدل كل من كل، وفائدة الإبدال: أن الشيء إذا أبهم ثم أوضح.. كان تفخيمًا لشأنه، وهذا هو مراد فرعون. ﴿فَأَطَّلِعَ﴾: بالنصب ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية. ﴿أطلعَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿الفاء﴾ السببية
195
الواقعة في جواب الأمر، وهو ﴿ابْنِ﴾ أو في جواب الترجي وهو ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ وفاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾ تقديره: أنا، والجملة الفعلية، صلة أن المضمرة وأن مع صلتها: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ليكن بناؤُك صرحًا لي فاطلاعي إلى إله موسى، أو ليكن بلوغي الأسباب أسباب السموات، فاطلاعي على إله موسى، وقرىء ﴿فأطلع﴾ بالرفع، على أن ﴿الفاء﴾: عاطفة مجردة عن معنى السبب على ﴿أَبْلُغُ﴾ فهو داخل في حيز الترجي، ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أطلع﴾ ﴿وَإِنِّي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إني﴾: ناصب واسمه، ﴿لَأَظُنُّهُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿أظنه﴾: فعل مضارع ناسخ، وفاعل مستتر، ومفعول أول. ﴿كَاذِبًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على جملة ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾، ﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: ﴿الكاف﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: تزيينًا مثل ذلك التزيين المذكور؛ أي: كتزيين القول المذكور له، ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِفِرْعَوْنَ﴾: متعلق به، ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾: نائب فاعل لـ ﴿زُيِّنَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَصُدَّ﴾: فعل ماض مغير الصيغة معطوف على ﴿زُيِّنَ﴾، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ متعلق بـ ﴿صُدَّ﴾ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿في تَبَابٍ﴾: خبر المبتدأ، والجملة، معطوفة على جملة ﴿زُيِّنَ﴾: أو حال من نائب فاعل ﴿زُيِّنَ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾، ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر صلة ﴿الَّذِي﴾ ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿اتَّبِعُونِ﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿النون﴾: للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية: في محل النصب مفعول به، وقرىء: بإثباتها وحذفها وصلًا ووقفًا، هذا بالنظر للفظ، وأما في الرسم فهي محذوفة لا غير، لأنها من ياءات الزوائد، والجملة
196
الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿أَهْدِكُمْ﴾؛ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله: ضمير مستتر وجوبًا، تقديره: أنا و ﴿الكاف﴾: مفعول به، ﴿سَبِيلَ﴾: مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض، ﴿الرَّشَادِ﴾: مضاف إليه، والجملة الفعلية. جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، ولكنها في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠)﴾.
﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، بمعنى ما النافية وإلا المثبتة، ﴿هَذِهِ﴾: مبتدأ. ﴿الْحَيَاةُ﴾ بدل، ﴿الدُّنْيَا﴾: نعت ﴿الْحَيَاةُ﴾ ﴿مَتَاعٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الْآخِرَةَ﴾: اسمها ﴿هِيَ﴾: ضمير فصل أو مبتدأ. ﴿دَارُ الْقَرَارِ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ أو خبر ﴿هِيَ﴾، والجملة خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾: في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قال﴾، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿عَمِلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿سَيِّئَةً﴾: مفعول به ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية جوازًا. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُجْزَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر تقديره: هو يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مِثْلَهَا﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُجْزَى﴾ والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿ومن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفه. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿عَمِلَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾: حال من فاعل ﴿عَمِلَ﴾. ﴿أَوْ أُنْثَى﴾: معطوف على ﴿ذَكَرٍ﴾. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل
197
النصب حال من فاعل ﴿عَمِلَ﴾. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مِنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿يُرْزَقُونَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿واو﴾: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ أو متعلق به ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لمفعول به محذوف، تقديره: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ رزقًا واسعًا بلا حساب ولا تبعة، وجملة ﴿يُرْزَقُونَ﴾: في محل النصب حال من ﴿واو﴾ ﴿يَدْخُلُونَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَسُلْطَانٍ﴾ والسلطان: الحجة والبرهان. ﴿فِرْعَوْنَ﴾: ملك القبط بالديار المصرية. ﴿وَهَامَانَ﴾: وزيره. ﴿وَقَارُونَ﴾: كان أكثر الناس في زمانه تجارةً ومالًا. ﴿كَذَّابٌ﴾ والكذاب: هو الذي عادته الكذب، بأن يكذب مرةً بعد أخرى، ولم يقولوا: سحار؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر، وأن سحرتهم أسحر منه، كما قالوا: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾ كما مر في مبحث التفسير.
﴿أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه مبدلة من واو أصله أبناو أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿واستحيوا﴾: أصله استحييوا: أمر من استحيي من باب استفعل، ومضارعه: يستحييون استثقلت الضمة على الياء الثانية، فنقلت إلى الأولى بعد سلب حركتها، ثم حذفت الياء الثانية لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ لأنها لما سلبت حركتها.. سكنت فوزنه استفعوا.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي﴾ من عاذ يعوذ، كقال يقول، أصله: عوذ، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار عاذ، كقال، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك.. سكن آخره، فالتقى ساكنان: الألف والذال الساكنة، فحذفت الألف ثم سلبت حركة الفاء وعوض عنها شكلة مجانسة للعين المحذوفة التي هي الواو، والمجانس لها هو الضمة، فقيل: عذت بوزن قلت بضم الفاء، والعوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به.
﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾؛ أي: اتركوني، يقال: ذره؛ أي: دعه، يذره تركًا ولا
198
تقل وذرًا، وأصله: وذره يذره، كوسعه يسعه، لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل كما في "القاموس".
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ﴾ والرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون، وولى عهده وصاحب شرطته، وهو الذي نجا مع موسى - عليه الصلاة والسلام -، وهو المراد بقوله: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾. ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وآل الرجل، خاصته الذي يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، واسمه: شمعان، بالمعجمة على وزن سلمان، كما مر. وأصله: أهل أبدلت الهاء همزةً توصلًا لإبدالها ألفًا، ثم أبدلت ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الهمزة المفتوحة قبلها، وقيل: إن أصله أول، قلبت الواو همزةً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
قال الشاطبي - رحمه الله تعالى - مبينًا الخلاف في كلمة آل:
فإِبدالُهُ من هَمزةٍ هاءٌ اصْلُها وقد قالَ بعضُ النَّاسِ مِنْ واوٍ ابْدِلا
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ وهي الشواهد الدالة على صدقه. ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا﴾: ﴿يَكُ﴾: مضارع كان، وأصله: يكون بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت إثر ضم فصارت حرف مد، ولما دخل الجازم ﴿إِنْ﴾ الشرطية على الفعل.. سكن آخره فصار اللفظ يكونْ، فالتقى ساكنان فحذفت الواو لذلك، ثم حذفت النون أيضًا حذفًا غير مطرد، كما ذكره في "الخلاصة" بقوله:
وَمِنْ مُضَارعٍ لكَانَ مُنْجَزِمْ تُحْذَفُ نُوْنٌ وَهُوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ المسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري. ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾ هو يوم القيامة، تَسَمَّى بذلك لأن الناس ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة. قال أمية بن أبي الصلت:
وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيْهَا إِذْ دَحَاهَا فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِ
وأصله: يوم التنادي بالياء، على أنه مصدر تنادى القوم بعضهم بعضًا تناديًا بضم الدال، ثم كسر لأجل مناسبة الياء المحذوفة لتناسب الفواصل، وأصل هذه الياء واو من الندوة، وهو مكان الالتقاء. ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ﴾ أصله: توليون استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت اللام لمناسبة الواو.
199
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ الدأب: العادة المستمر عليها والشأن. ﴿فَمَا زِلْتُمْ﴾ من زال يزال، كخاف يخاف أصل زال: زول، كخاف أصله: خوف قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، سكن آخره فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار اللفظ: زلتم فحذفت حركة الفاء، ونقلت إليه شكلة العين المحذوفة، وهي الكسرة لأن ماضيه من باب فعل بكسر العين، فقيل ﴿زِلْتُمْ﴾ بوزن فِلتم.
﴿يُضِلُّ الله﴾ أصله: يضال نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية، ﴿مُرْتَابٌ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: مرتيب بصيغة اسم الفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿صَرْحًا﴾ والصرح: القصر الشامخ المنيف. وفي "المصباح": الصرح بيت واحد يبنى مفردًا طويلًا ضخمًا. وفي "الكشاف": الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعد اشتقوه من صرح الشيء بالتشديد إذا ظهر، فإنه يكون لازمًا أيضًا، وفي "السمين" في سورة النمل: الصرح: القصر أو صحن الدار أو بلاط يتخذ من زجاج، وأصله: من التصريح، وهو: الكشف. اهـ.
وهذه المادة عجيبة في مدلولها، لإنها تدل في جميع مشتقاتها على الظهور والإبانة، قالوا: لبن صريح: إذا ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح، من عرب صرحاء غير هجناء، ونسب صريحٍ، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحةً؛ أي: مجاهرةً، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، وصرح بما في نفسه وبنى صرحًا وصروحًا وقعد في صرحة داره؛ أي: في ساحتها.
﴿الْأَسْبَابَ﴾: جمع سبب، وهو ما يتوصل به إلى شيء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا: الأبواب، قال زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
والسبب أيضًا: من مقطعات الشعر حرف متحرك وحرف ساكن، أو حرفان متحركان، والأول يسمى خفيفًا، والثاني ثقيلًا. ﴿إِلَّا في تَبَابٍ﴾ والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾. ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ أصله:
200
فأطتلع، أبدلت تاء الافتعال طاءً وأدغمت فيها الطاء. ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾ أصله: أظننه بوزن أفعله، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء فسكنت فأدغمت في الثانية. ﴿سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ والرشد والرشاد: الاهتداء لمصالح الدنيا والدين. ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ والمتاع: اسم مصدر من تمتّع بمعنى المتعة، وهي التمتع والانتفاع، لا بمعنى السلعة؛ لأنّ وقوعه خبرًا عن الحياة الدنيا يمنع منه. اهـ من "الروح".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ تفخيمًا لشأن الخاص.
ومنها: تخصيص فرعون وهامان بالذكر؛ لأنّ الإرسال إليهما إرسال إلى القوم كلهم.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿كَذَّابٌ﴾، وفي قوله: ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾.
ومنها: المقابلة بين القتل والاستحياء في قوله: ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾.
ومنها: إطلاق الجمع على الواحد في قوله: ﴿قَالُوا اقْتُلُوا﴾ لأنّ القائل هو فرعون وحده؛ لأنه بمنزلة الكل، كما في قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ﴾ إشعارًا بعلة الحكم، وذمًّا لهم بالكفر، وحق العبارة أن يقال: وما كيدهم.
ومنها: الاعتراض بهذه الجملة في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه، وإضمحلاله بالمرة، اهـ "أبو السعود".
ومنها: الإتيان بلام الأمر في قوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ للتعجيز؛ لأنه أمر تعجيز بزعمه أنّ موسى لا يمنعه ربّه منه.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا﴾.
201
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾.
ومنها: إعادة النكرة نكرة في قوله تعالى: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا﴾ بعد قوله: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ لأنّ المراد بالنكرة الثانية غير الأولى، لأنّ المراد بالأولى شمعان ابن عمّ فرعون، وبالثانية موسى جريًا على القاعدة المشهورة عندهم المذكورة في قول بعضهم:
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ إِذَا أَتَت نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِيْ تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
ومنها: الحصر المستفاد من تعريف طرفي الجملة في قوله: ﴿رَبِّيَ الله﴾ مثل: صديقي زيد لا غير.
ومنها: الإتيان بضمير المخاطبين في قوله: ﴿وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ حيث لم يقل من ربه، تهييجًا لهم على التأمل في أمره، والاعتراف به، وترك المكابرة معه؛ لأنّ ما كان من قبل رب الجميع يجب اتباعه، وإنصاف مبلغه. اهـ من "الروح".
ومنها: التعريض في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ لأنه عرّض به لفرعون؛ لأنه ﴿مُسْرِفٌ﴾ حيث قتل الأبناء بلا جرم ﴿كَذَّابٌ﴾ حيث ادّعى الألوهية، لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره.
ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١)...﴾ إلخ.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ﴾، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ﴾.
ومنها: الإسناد العقلي في قوله: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي﴾ لما فيه من إسناد ما للعَمَلَةِ إلى الآمر.
ومنها: الإبهام ثم الإيضاح في قوله: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ لأنّ في إبهامها أولًا، ثم إيضاحها تفخيمًا لشأنها، وتشويقًا للسامع إلى معرفتها.
202
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ فقد قابل بين الدنيا والآخرة، وهي من المحسنات البديعية.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿مَتَاعٌ﴾ إفادة للتقليل.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فإن فيها تعريضًا بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
203
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدُّنْيَا وَلَا في الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١) ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥)﴾.
204
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (١) هذا المؤمن لما رأى تمادي قومه في تمردهم وطغيانهم.. أعاد إليهم النصح مرةً أخرى، فدعاهم أولًا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بيّن لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هي الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله، الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا ببيان أنْ الأصنام لا تستجاب لها دعوه، فلا فلائدة في عبادتها، ومردُّ الناس جميعًا إلى الله العلم بكل الأشياء، وهو الذي يجازي كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار، ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله، وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به، ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبّروه له، وحفظه مما أرادوه به من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم ردّ على أولىك المبطلين المجادلين، تسليةً لرسوله، وتصبيرًا له على تحمل أذى قومه.. أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله تعالى، فهو ينصر الأنبياء والرسل، ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم، ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أنّ النصرة لهم آخرًا مهما تقلبت بهم الأمور.
وعبارة أبي حيان هنا قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر (٢) ما حل بآل فرعون، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة.. عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
205
السلام، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى﴾ تأنيسًا لمحمد - ﷺ -، وتذكيرًا لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه السلام. انتهى.
قوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله (١) سبحانه لما ذكر (٢) فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أَقْبسة وَهْميّة وقَضايا جَدلية، كقولهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)﴾ وقولهم: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨)﴾.. ذكر هنا برهانًا يؤيد إمكان حدوثه، ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداءً على عِظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك.. فهو قادر على إعادتكم، كما جاء في الآية الأخرى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلّا بطاعة الله، والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء؛ أي العبادة لا جرم، أمر الله تعالى بها في هذه الآية، ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود.. ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار، وخلق السموات والأرض، وخلق الإنسان في أحسن صورة، ورزقه من الطيبات.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية: إن اليهود أتوا النبي - ﷺ - فقالوا: إن الدجال يكون منّا في آخر الزمان، ويكون من أمره كذا وكذا، فعظّموا أمره وقالوا: نصنع كذا وكذا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾، قال: لا يبلغ الذي يقول: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ فأمر نبيّه
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
206
أن يتعوّذ من فتنة الدجال، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية. قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: ﴿إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ﴾ قال عظمة قريش.
التفسير وأوجه القراءة
٤١ - ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءَهم إلى الله، وصرّح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة، من إبهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى لتذكيرهم، كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرًا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة، فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي﴾ الاستفهام فيه: للتوبيخ المضمن للتعجب؛ أي: أي شيء ثبت لي من المصالح حال كوني ﴿أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ﴾؛ أي: إلى الإيمان الذي يوجب لكم النجاة من النار، شفقةً عليكم، واعترافًا بحقكم. ﴿و﴾ أيّ شيء ثبت لكم من المصالح في أنكم ﴿تَدْعُونَنِي إِلَى﴾ الكفر الذي يوجب لي الهلاك في ﴿النَّارِ﴾. وفي "روح البيان" قوله: ﴿أَدْعُوكُمْ﴾ في موضع (١) الحال من المنويّ في الخير، وتدعونني عطف عليه، ومدار التعجب دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قيل: أخبروني كيف هذا الحال، أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر، وقال بعضهم: معنى ﴿مَا لِي أَدْعُوكُمْ﴾ ما لكم أدعوكم. إلخ. فهو من قبيل ما لي أراك حزينًا؟ أي: ما لك تكون حزينًا؟
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: لِمَ جاء بالواو في النداء الأول والثالث دون الثاني؟.
قلت: لأنّ الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث: فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. اهـ "سمين". وعبارة الكرخي: ترك العطف في النداء الثاني؛ لأنه تفصيل لإجمال الأول، وهنا عطف لأنه ليس بتلك المثابة؛ لأنه كلام مباين للأول والثاني،
(١) روح البيان.
(٢) الكشاف.
فحسن إيراد الواو العاطفة فيه. اهـ.
والمعنى: أي أخبروني كيف أنتم وما حالكم أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله، وإجابة رسوله، وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعونني إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟
٤٢ - ثم فسّر الدعوتين على سبيل السلف والنشر المشوّش بقوله: ﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ﴾ أي: بوحدانيته ﴿و﴾ لـ ﴿أُشْرِكَ بِهِ﴾ سبحانه ﴿مَا﴾؛ أي: مخلوقًا ﴿لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: ليس لي علم بشركته مع الله في المعبودية، وقيل: علم بربوبيته، والمراد: نفي المعلوم رأسًا، وهو المعبود، فضلًا عن عبادته.
وهذه الجملة (١): بدل من ﴿تَدْعُونَنِي﴾ الأول على جهة البيان والتعليل لها والدعاء، كالهداية في التعدية بإلى واللام، وأتي في قوله: ﴿تَدْعُونَنِي﴾ بجملة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وأتي في قوله: ﴿وَأَنَا أَدْعُوكُمْ﴾ إلخ. بجملةٍ اسمية؛ ليدل على ثبوت دعوته وتقويتها. اهـ "سمين".
أي: وأنا أدعوكم ﴿إِلَى﴾ توحيد ﴿الْعَزِيزِ﴾ في انتقامه ممن أشرك به، وإلى عبادة ﴿الْغَفَّارِ﴾ لذنب من آمنَ بِهِ؛ أي: أدعوكم إلى الإيمان بالعزيز الذي لم يكن له كفوًا أحد، وأما المخلوقات فبعضها أكفاء بعض، وأيضًا إلى القادر على تعذيب المشركين به، الغفار لمن تاب ورجع إليه، القادر على غفران ذنوب المذنبين.
والمعنى: أي تدعونني إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة، والقدرة على التعذيب والغفران.
٤٣ - ثم أكّد ما سلف بقوله: ﴿لَا جَرَمَ﴾ ﴿لا﴾: كلمة (٢) نفي ورد لما ادعوه وزعموه من الكفر والإشراك، و ﴿جَرَمَ﴾: فعل ماض بمعنى حق: وثبت، وفاعله: قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى عبادته وإشراكه من الأوثان والأصنام ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ﴾ للناس ﴿في الدُّنْيَا﴾ إلى عبادته ﴿وَلَا﴾ استجابة دعوة أحدٍ لها ﴿في الْآخِرَةِ﴾ للشفاعة.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
208
والمعنى: لا أكفر بالله ولا أشرك به ما ليس لي به علم، لأنه قد حق ووجب وثبت عدم دعوة آلهتكم إلى عبادة نفسها أصلًا، ومن حق المعبود أن يدعو الناس إلى عبادته بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهذا الشأن منتفٍ عن الأصنام بالكلية، لأنها في الدنيا جمادات لا تستطيع دعاء غيرها، وفي الآخرة إذا أنشأها الله حيوانًا ناطقًا.. تتبرأ من عبدتها. أو المعنى: حتى وثبت عدم استجابة دعوة أحد من الناس لها؛ أي: ليس لها استجابة دعوة أحد من الناس، لا في الدنيا بالبقاء والصحة والغنى ونحوها، ولا في الآخرة بالنجاة ورفعة الدرجات وغيرهما، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ فكيف تكون الأصنام ربًّا وليس لها قدرة على إجابة دعاء الداعين، ومن شأن الرب استجابة الدعوات وقضاء الحاجات.
وقيل: ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى: كسب وفاعله: مستكن فيه؛ أي: لا أكفر بالله ولا أشرك به شيئًا لدعوتكم إيّاي إلى ذلك، بل كسب ذلك الدعاء إلى الكفر والإشراك، وأفاد وأثبت بطلان دعوته؛ أي: بطلان دعوة المدعو إليه بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته؛ كأنه قيل: إنكم تزعمون أن دعاءكم إلى الإشراك يبعثني على الإقبال عليه، وأنه سبب الإعراض وظهور بطلانه، وقال: ﴿جَرَمَ﴾: فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بد من لا بد، فعل من التبديد، وهو التفريق.
والمعنى: لا قطع؛ أي: لا انقطاع لبطلان ألوهية الأصنام؛ أي: لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقًا، فيكون ﴿جَرَمَ﴾ اسم لا مبنيًا على الفتح لا فعلًا ماضيًا، كما هو على الوجهين الأولين.
وفي "القاموس": ﴿لَا جَرَمَ﴾؛ أي: لا بدّ أو حقًا أو لا محالة، أو هذا أصله، ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم، فلذلك يجاب عنه باللام فيقال: لا جرم لآتينّك. انتهى. وفي "المختار": وقولهم لا جرم، قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرَت على ذلك وكثرت، حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنه باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: لا جرم لآتينك. اهـ.
والخلاصة: حقًا إن ما تدعونني إليه من الأصنام لا يجب دعوة من يدعوه،
209
فهو لا ينفع ولا يضرّ في الدنيا ولا في الآخرة.
وقوله: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا﴾؛ أي: مرجعنا ﴿إِلَى اللهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: بالموت ومفارقة الأرواح الأجسادَ: معطوف على قوله: ﴿إنما تدعونني﴾ داخل في حكمه، وكذا قوله: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: المجاوزين الحدّ في الضلال والطغيان، كالإشراك وسفك الدماء ﴿هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها وخالدون فيها.
والمعنى: وحق أن مرجعنا ومصيرنا إليه سبحانه بالموت أولًا، وبالبعث آخرًا، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، وحق أن المسرفين؛ أي: المستكبرين من معاصي الله هم أصحاب النار، قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين، وقال مجاهد والشعبيُّ: هم السفهاء السفّاكون للدماء بغير حقها، الذين ركبوا أهواءَهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي،
٤٤ - ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم؛ ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم، فقال: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ﴾؛ أي: فسيذكر بعضكم بعضًا عند معاينة العذاب ﴿مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ من النصائح وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، فتندمون حيث لا ينفع الندم، وفي هذا الإبهام من التهديد والتخويف ما لا يخفي.
ثمّ ابتدأ كلامًا آخر يبيِّن به اطمئنانه إلى ما يجري به القدر، ويخبئه له الغيب، كما هو دأب المؤمنين الصادقين، فقال: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي﴾؛ أي: أرد أمري وشأني ﴿إِلَى اللهِ﴾ سبحانه وتعالى، وأسلمه إليه وأتوكل عليه ليعصمني من كل سوء، قاله؛ لما أنهم كانوا توعّدوه بالقتل. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فطلبوه فلم يقدروا عليه، وقيل (١): القائل هو موسى عليه السلام، والأول أولى.
وحقيقة التفويض: تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى، كما في "عين المعاني": وكمال التفويض أن لا يرى لنفسه ولا للخلق جميعًا قدرةً على النفع والضرّ، كما في "عرائس" البقلي: قال بعضهم: التفويض قبل نزول القضاء، والتسليم بعد نزوله.
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال: ﴿إِنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ يعلم المحق من المبطل، فيحرس من يلوذ به من المكاره ويتوكل عليه؛
(١) الشوكاني.
أي: إن الله سبحانه خبير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.
ودلت الآية (١): على أن الله تعالى مطلع على العباد وأحوالهم، فلا بد من تصحيح الحال ومراقبة الأحوال، وروي أنّ نبيًّا من الأنبياء كان يتعبّد في جبل وكان في قرية عين جارية، فجاز بها فارس، وشرب منها ونسي عندها صرّة فيها ألف دينار، فجاء آخر فأخذ الصرة، ثم جاء رجل فقير على ظهره حزمة حطب، فشرب واستلقى ليستريح، فرجع الفارس لطلب الصرة فلم يرها، فأخذ الفقير فطلبها منه فلم يجدها عنده، فعذبه حتى قتله، فقال ذلك النبي: إلهي، ما هذا أخذ الصرة، بل أخذها ظالم آخر، وسلّطت هذا الظالم عليه حتى قتله، فأوحى الله تعالى إليه أن اشتغل بعبادتك، فليس معرفة مثل هذا من شأنك، إن هذا الفقير قد قتل أبا الفارس، فمكّنته من القصاص، وأنّ أبا الفارس قد كان أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة فرددته إليه من تركته، ذكره الغزالي - رحمه الله تعالى -.
٤٥ - ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوة، فقال: ﴿فَوَقَاهُ الله﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: فوّض ذلك المؤمن أمره إلى الله تعالى، فوقاه الله تعالى؛ أي: حفظه الله سبحانه وتعالى ﴿سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾؛ أي: حفظه الله تعالى من شدائد مكرهم، وما همُّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم؛ أي: حفظه الله مما أرادوا به من المكر السيء في الدنيا، إذ نجّاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم. ﴿وَحَاقَ﴾؛ أي: أحاط ونزل بـ ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وقومه ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾؛ أي: العذاب السيء في الدنيا بالغرق في اليم.
والمراد بآل فرعون: فرعون وقومه، وترك التصريح به (٢) للاستغناء بذكرهم عن ذكره؛ لكونه أولى منهم بذلك من حيث كونه متبوعًا لهم، ورئيسًا ضالًا، أو المراد بآل فرعون: نفسه، والأول أولى، وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوا بالسوء، وقد روي عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه.. قصد فرعون قتله فهرب ونجا، وهذا عذابهم في الدنيا.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
٤٦ - ثم بيَّن عذابهم في البرزخ بقوله: ﴿النَّارُ﴾؛ أي: نار جهنم، وهو مبتدأ، خبره: ﴿يُعْرَضُونَ﴾؛ أي: يعرض فرعون وآله ﴿عَلَيْهَا﴾؛ أي: على النار، ومعنى عرضهم على النار: إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها ﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾؛ أي: في أول النهار وآخره، وذكر الوقتين: إما للتخصيص، وإما فيما بينهما، فالله تعالى أعلم بحالهم إما أن يعذّبوا بجنس آخر، أو بنفس عنهم، وإما للتأييد كما في قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾؛ أي: على الدوام، فارتفاع ﴿النَّارُ﴾ (١) علي أنها بدل من ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ وقيل: على أنها خبر مبتدإٍ محذوف، أو مبتدأً، خبره: ﴿يُعْرَضُونَ﴾ كما مر، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب، وهي على تقدير فعل يفسره ﴿يُعْرَضُونَ﴾ من حيث المعنى؛ أي: يدخلون النار، يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفراء الخفض على البدل من ﴿الْعَذَابِ﴾.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار مرتين، فيقال: يا آل فرعون هذه داركم، قال ابن الشيخ في "حواشيه": وهذا يؤذن بأنّ العرض ليس بمعنى التعذيب والإحراق بل بمعنى الإظهار والإبراز، وأنّ الكلام على القلب، كما في قولهم: عرضت الناقة على الحوض، فإن أصلح: عرضت الحوض على الناقة بسوقها إليه، وإيرادها عليه (٢)، فكذا هنا أصل الكلام: تعرض عليهم؛ أي: على أرواحهم، بأن يساق الطير التي أرواحهم فيها؛ أي: في أجوافها إلى النار، وفي الحديث: إن أحدكم إذا مات.. عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة.. فمن الجنة، وإن كان من أهل النار.. فمن النار، يقال: هذا مقعدك حين يبعثك الله يوم القيامة. أخرجه البخاري ومسلم.
يقول الفقير: أما كون أرواحهم في أجواف طير سود.. فليس المراد ظرفية الأجواف للأرواح حتى لا يلزم التناسخ، بل هو تصوير لصور أرواحهم البرزخية، وأما العرض بمعنى الإظهار.. فلا يقتضي عدم التعذيب، فكل روح إما معذَّب أو منعم، وللتعذيب والتنعيم مراتب، ولأمر ما ذكر الله تعالى عرض أرواح آل فرعون على النار، فإنّ عرضها ليس كعرض سائر الأرواح الخبيثة.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
212
وهذا العرض ما دامت الدنيا ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ وتعود الأرواح إلى الأبدان، يقال للملائكة: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: فرعون وقومه ﴿أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وأغلظه؛ أي: عذاب جهنم، فإنه أشد مما كانوا فيه، فإنه للروح والجسد جميعًا، وهو أشد مما كان للروح فقط، كما في البرزخ، وذلك أن الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسي جسماني، ولكن ذلك نعيم أو عذاب معنوي روحاني، حتى تبعث أجسادها فترد إليها، فتعذب عنه ذلك حسًا ومعنًى أو تنعم.
ويجوز أن المعنى (١): أدخلوا آل فرعون أشد عذاب جهنم، فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض، وفي الحديث: "أهون أهل النار عذابًا رجل في رجليه نعلان من نار، يغلي منهما دماغه".
ومعنى الآية (٢): أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشي، وينفس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.
قال بعض العلماء: وفي الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن أحدكم إذا مات.. عرض عليه مقعده بالغداة والعشي"... الحديث. كما مر ثم قرأ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾.
قال العلماء (٣): عذاب القبر هو عذاب البرزخ، أضيف إلى القبر؛ لأنه الغالب، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما أراد به، قبر أو لم يقبر، بأن صلب أو غرق في البحر، أو أحرق حتى صار رمادًا، وذري في الجو، قال إمام الحرمين: من تفرقت أجزاؤه يخلق الله الحياة في بعضها أو كلها، ويوجه السؤال عليها، ومحل العذاب والنعيم؛ أي: في القبر هو: الروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة، قال اليافعي: وتختص الأرواح دون الأجساد بالنعيم والعذاب ما دامت في علّيين أو سجين، وفي القبر يشترك الروح والجسد.
قال الفقيه أبو الليث: الصحيح عندي أن يقر الإنسان بعذاب القبر ولا يشتغل بكيفيته، وروى ابن مسعود عن النبي - ﷺ - قال: "ما أحسن محسن مسلم أو كافر..
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
213
إلا أثابه الله" قلنا يا رسول الله: ما إثابة الكافر؟ قال: "المال والولد والصحة وأشباه ذلك" قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: "عذابًا دون العذاب" وقرأ: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.
وقد أثبت علماء الأرواح حديثًا (١): نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد، يقوم أحدهما مذعورًا كئيبًا وجلًا مما شاهد في نومه بينما نرى الثاني مستبشرًا فرحًا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروي أنه كان في حديقةً غناء، وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء وجمال ورواء.
وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة ونافع وحمزة والكسائي وحفص (٢): ﴿أَدْخِلُوا﴾ أمرًا للخزنة، من أدخل الرباعي، وهو على تقدير القول كما ذكرنا، وقرأ علي والحسن وقتادة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر: ﴿ادخلوا﴾ بهمزة وصل من دخل الثلاثي، أمرًا لآل فرعون بالدخول، بتقدير حرف النداء؛ أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب.
٤٧ - والظرف في قوله: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ﴾ متعلق (٣) بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك وقت محاجة ومخاصمة أهل النار في النار، سواء كانوا آل فرعون أو غيرهم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، ثم شرح مخاصمتهم بقوله: ﴿فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ﴾ منهم في القدر والمنزلة والحال في الدنيا ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن الانقياد للأنبياء والاتباع لهم، أي: أظهروا الكبر باطلًا، وهم رؤساؤُهم، ولذا لم يقل الكبراء؛ لأنه ليس الكبرياء صفتهم في نفس الأمر ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَبَعًا﴾؛ أي: أتباعًا في كل حال خصوصًا فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب، جمع تابع، كخدم جمع خادم، كما سيأتي البحث عنه في المفردات. ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾ ونافعون لنا اليوم ودافعون ﴿عَنَّا نَصِيبًا﴾؛ أي: بعضًا وجزءًا ﴿مِنَ النَّارِ﴾ باتباعنا إياكم، فقد كنا في الدنيا ندفع المؤونة عنكم، يقال: ما يغني عنك هذا؛ أي: ما يجزيك وينفعك، و ﴿نَصِيبًا﴾: منصوب بمضمر يدل عليه ﴿مُغْنُونَ﴾ فإن أغنى إذا عدي بكلمة عن.. لا يتعدى إلى مفعول آخر
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
بنفسه، كما سيأتي.
٤٨ - ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: تكبروا وتعظموا عن الإيمان، وهم القادة للسفلة ﴿إِنَّا كُلٌّ﴾؛ أي: كلنا نحن وأنتم، وبهذا صح وقوعه مبتدأَ خبره: ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في النار، فكيف نغني عنكم، ولو قدرنا.. لأغنينا عن أنفسنا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كُلٌّ﴾ بالرفع على الابتداء، وخبره: ﴿فِيهَا﴾ والجملة: خبر ﴿إِنَّ﴾ وقرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر ﴿إنا كلًّا﴾ بنصب كل. قال الزمخشري وابن عطية: على التوكيد لاسم ﴿إن﴾ وهو معرفة، والتنوين عوض عن المضاف إليه، فكأنه قال: إنا كلنا فيها، وخبر ﴿إن﴾ هو ﴿فِيهَا﴾. قال أبو حيان: والذي أختاره في هذه القراءة: أن ﴿كلا﴾: بدل من اسم ﴿إن﴾ لأن ﴿كلًّا﴾ يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه، فكأنه قال: إنّ كلًّا فيها، وقيل: حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إن﴾ أعني فيها؛ أي: إنا كائنون فيها، حال كوننا كلًّا.
ومعنى الآية (٢): أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا، فهل تقدرون أن تحملوا عنا قسطًا من العذاب فتخففوه عنا؟ فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولولا أنتم.. لكنا مؤمنين، ومقصدهم من هذا المقال: تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، فرد عليهم أولىك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ الخ؛ أي: قال: رؤساؤهم الذي أبو الانقياد للأنبياء: إنا جميعًا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا.. لدفعناه عنكم.
وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء.
﴿إِنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قَدْ حَكَمَ﴾ وقضى ﴿بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ بماهية (٣) كل أحد، فأدخل المؤمنين الجنة على تفاوتهم في الدركات، والكافرين النار على طبقاتهم في الدرجات، ولا معقب لحكمه؛ أي: حكم بينهم بفصل قضائه، فلا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، وكل منا كافر وكل منا يستحق العقاب، ولا يغني أحد عن أحد شيئًا.
٤٩ - ولما يئس الأتباع من المتبوعين.. رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء، كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ﴾ من الضعفاء والمستكبرين جميعًا لما ذاقوا شدة العذاب، وضاقت حيلهم. ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: للقوام بتعذيب أهل النار، جمع خازن من الخزن وهو: حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل حفظ، كحفظ السر ونحوه، ووضع ﴿جَهَنَّمَ﴾ موضع الضمير؛ للتهويل والتفظيع، وهي اسم لنار الله الموقدة: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ شافعين لنا ﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا﴾؛ أي: في مقدار يومٍ واحدٍ من أيام الدنيا ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾؛ أي: شيئًا منه، فقوله: ﴿يَوْمًا﴾: ظرف لـ ﴿يُخَفِّفْ﴾ ومفعوله: محذوف و ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: بيان لذلك المحذوف، واقتصارهم (١) في الاستدعاء على تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأسًا، أو تخفيف قدر كثير منه في زمان مديد لعلمهم بعدم كونه في حيز الإمكان.
والمعنى (٢): أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، رجاء أن يجدوا لديهم فرجًا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم شيئًا من العذاب.
٥٠ - فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب، فـ ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الخزنة لهم بعد مدة ﴿أَوَلَمْ تَكُ﴾: ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام التوبيخي التقريعي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: ألم تنبهوا على هذا ولم تك ﴿تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ﴾ في الدنيا على الاستمرار ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالحجج الواضحة الدالة على سوء عاقبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي، أرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة؛ أي: أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به، وتبرؤوا مما دونه من الآلهة، فأجابوهم فـ ﴿قَالُوا﴾ أي الكفرة في جواب الخزنة ﴿بَلَى﴾ أي أتونا بها فكذبناهم كما في سورة المُلك أي قالوا أتونا بها فكذبناهم ولم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
216
نؤمن بهم ولا بما جاؤوا به من البينات الواضحة والبراهين الساطعة وحينئذ، تهكم بهم خزنة جهنم فـ ﴿قَالُوا﴾ لهم: إذا كان الأمر كذلك. ﴿فَادْعُوا﴾ أنتم بأنفسكم، فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره منا، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم في الإجابة، بل إقناطهم منها، وإظهار حقيقتهم حسبما صرحوا به في قولهم ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ لأنفسهم، فالمصدر مضاف لفاعله، أو وما دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب عنهم، فالمصدر مضاف إلى مفعوله ﴿إِلَّا في ضَلَالٍ﴾؛ أي: إلا في ضياع وبطلان لا يجاب، لأنهم دعوا في غير وقته.
والمعنى (١): أي قالوا لهم؛ أي: قالت الخزنة لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم.. فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا نعدو لمن كفر بالله، وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئًا، فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا، فإنه لا يستجاب لكم، ولا يخفف عنكم.
روى الترمذي وغيره، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يلقى على أهل النار الجوع، حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلون لا يغني عنهم شيئًا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم.. شواها، فإذا وقع في بطونهم.. قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ فيجيبونهم ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ﴾.
وقد اختلف العلماء (٢) في أنه هل يجوز أن يقال: يستجاب دعاء الكافرين فمنعه الجمهور لقوله تعالى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ﴾ ولأن الكافر لا يدعو الله، لأنه لا يعرفه، لأنه وإن أقر به لما وصفه بما لا يليق به نقض إقراره، وما روي في الحديث: "إن دعوة المظلوم وإن كان كافرًا تستجاب". فمحمول على كفران النعمة، وجوزه بعضهم لقوله تعالى حكايةً عن إبليس: ﴿رب أنظرني﴾؛ أي: أمهلني ولا تمتني سريعًا، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ فهذه إجابة لدعائه.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
217
فإذا ثبت أن الله تعالى يجيب الدعوات، لا ما سواه من الأصنام ونحوها.. فلا بد من توحيده، وإخلاص الطاعة والعبادة له، وعرض الافتقار إليه، إذ لا ينفع الغير لا في الدنيا ولا في الآخرة، جعلنا الله سبحانه وإياكم من التابعين للهدى، المحفوظين من الهوى، آمين.
٥١ - وجملة قوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾: مستأنفة من جهته تعالى، والإتيان بالنون دلالةً على استحقاقه العظمة، أو باعتبار الصفات أو المظاهر، والنصر: العون؛ أي: نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾: معطوف على ﴿رُسُلَنَا﴾؛ أي: لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم واتبعوهم ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة المغلوبية امتحانًا، إذ العبرة إنما هي بالعقوبات وغالب الأمر، وأيضًا ما يقع في بعض الأحيان من الانهزام إنما كان يعارض كمخالفة أمر القائد، كما في غزوة أحد، وكطلب الدنيا والعجب والغرور كما في بعض وقائع المؤمنين، وأيضًا أن الله تعالى ينتقم من الأعداء ولو بعد حين، كما بعد الموت؛ ألا ترى أن الله انتقم ليحيى عليه السلام بعد استشهاده من بني إسرائيل، بتسليط بختنصر عليهم حتى قُتل منهم سبعون ألفًا.
والظاهر (١) في دفع التعارض بين قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ وبين قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن - رحمه الله تعالى - من أنه: لم يقتل من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر كما في "تفسير القرطبي" في سورة البقرة، وكان زكريا ويحيى وشعيب ونحوهم عليهم السلام ممن لم يؤمر بقتال ﴿وَ﴾ ننصرهم ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ وهو يوم القيامة؛ أي: لننصرنهم في الدنيا والآخرة، وعبّر عن يوم القيامة بذلك للاشعار بكيفية النصرة، وإنها تكون عند جمع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب، وهم الملائكة والمؤمنون من أمة محمد - ﷺ - قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
(١) روح البيان.
وقرأ الجمهور: ﴿يَقُومُ﴾ بالياء، وابن هرمز وإسماعيل والمنقري عن أبي عمرو: بتاء تأنيث الجماعة. ذكره أبو حيان. قال الزجاج: الأشهاد: جمع شاهد مثل: صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال، ولكن ما جاء منه مسموعًا أدي على ما سمع ولا يقاس عليه، فهو على هذا جمع شهيد مثل: شريف وأشراف.
والمعنى (١): أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا، إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد - ﷺ - بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل، كما فعلنا شرح وقومه، من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقًا ونجينا موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا، كما نصرنا شعيبًا بعد مهلكِه، بتسليطنا على من قَتلهُ مَنْ سلطنا حتى انتصرنا بهم ممن قَتله.
٥٢ - وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها بالشهادة، بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، وأن الأمم قد كذبتهم، فيجازيهم الله بأعمالهم، فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم ويدخلهم النار، وهو معنى قوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ بدل من اليوم الأول، والمعذرة: مصدر ميمي بمعنى العذر؛ أي: يوم لا ينفع الظالمين عذرهم عن كفرهم لو اعتذروا في بعض الأوقات؛ لأن معذرتهم باطلة، فيقال لهم: اخسؤُوا ولا تكلمون، ويجوز أن يكون عدم نفع المعذرة لأنه لا يؤذن لهم فيعتذرون، فيكون من نفي المقيد والقيد لا معذرة ولا نفع يومئذ، وفي "عرائس البيان" ظلمهم عدولهم عن الحق إلى الخلق، واعتذارهم في الآخرة لا في الدنيا.
وقرأ الجمهور: ﴿تنفع﴾ بالفوقية، وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية، والكل جائز
(١) المراغي.
في اللغة. ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾؛ أي: البعد عن الرحمة ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾؛ أي: الدار السيء، والمقر الفظيع، وهي جهنم بخلاف المؤمنين العارفين، فإنهم تنفعهم معذرتهم لتنصلهم، فلهم من الله الرحمة ولهم حسن الدار، وإنما قال: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾ (١): فإن جهنم حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليها حديد، وشرابها صديد، وكلامها هل من مزيد، وأسوأ الظالمين المشركون كما قال تعالى حكايةً عن لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وأسوأ المشركين المنافقون، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ لاستهزائهم بالمؤمنين.
فليحذر العاقل عن الظلم سواء كان لنفسه بالإشراك والمعصية، أو لغيره بكسر العرض وأخذ المال ونحوهما، وليتذكر الإنسان يومًا بقول فيه الظالمون: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)﴾ فيجيبهم الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾. وروي أن أهل النار يبكون بكاءً شديدًا حتى الدم، فيقول مالك: ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا.
فعلم: أنه لا تنفع المعذرة والبكاء في الآخرة، فليتدارك العاقل تقصيره في الدنيا بالندامة والصلاح والتقوى، ليستريح في الآخرة، ويصل إلى الدرجات العلى، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فمن أراد اللحوق بزمرتهم فليكن على حالهم وسيرتهم، فإن الله ينصرهم في دنياهم وآخرتهم، فإن طاعة الله وطاعة الرسول توصل العبد إلى المراد وإلى حيز القبول.
والمعنى (٢): أي إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل، كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ ﴿وَلَهُمْ﴾ في هذا اليوم طرد من رحمة الله تعالى، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم.
٥٣ - ولما بين سبحانه أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة.. ذكر نوعًا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
من تلك النصرة في الدنيا فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي فقد أعطينا بمحض فضلنا ﴿مُوسَى﴾ بن عمران ﴿الْهُدَى﴾؛ أي: ما يهتدي به من الضلالة إلى الحق من المعجزات والصحف والشرائع والتوراة ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: وأبقينا في بني إسرائيل من بعد موت موسى من الهدى المذكور ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة فإن معجزاته انقرضت بموته.
والإيراث (١): ميراث الدين، والمراد بالكتاب: التوراة، ولما كان الإيراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال.. تعذّر حمله على معناه هنا، فأريد به الترك مجازًا، إشعارًا بأن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب في باب الدين.
والمعنى: وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة، إذ سائر ما اهتدى به في أمر الدين قد ارتفع بموت موسى عليه السلام، وبقيت فيهم التوراة، وتوارثوها خلفًا عن سلف، وقرنًا بعد قرن، وقيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى من الزبور والإنجيل.
٥٤ - وقوله: ﴿هُدًى وَذِكْرَى﴾: منصوبان على أنه مفعولان لأجله؛ أي: أورثناهم الكتاب لأجل هدايتهم من الضلالة إلى الحق، ولأجل البيان لهم أحكام شريعتهم وعظةً وتذكرةً ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول السليمة، العاملين بما في تضاعيف ذلك الكتاب دون الذين لا يعقلون، أو حالان من ﴿الْكِتَابَ﴾ على أنهما مصدران بمعنى اسم الفاعل؛ أي: أبقينا فيهم الكتاب حال كونه هاديًا لهم من الضلالة والجهالة، وحال كونه مذكرًا وواعظًا لأصحاب العقول الكاملة منهم.
والفرق بين الهدى والذكر (٢): أن الهدى ما يكون دليلًا على شيء آخر، وليس من شرطه أن يذكر شيئًا آخر كان معلومًا ثم صار منسيًا، وأما الذكرى فليس من ذلك، وكتب الأنبياء مشتملة على هذين القسمين، فإن بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة.
والمعنى (٣): أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدي به
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفًا عن سلف، وصارت هدايةً لهم، وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة، التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.
٥٥ - وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين، وضرب لذلك مثلًا بحال موسى.. خاطب نبيه محمدًا - ﷺ - بقوله: ﴿فَاصْبِرْ﴾ وهذا كلام مرتب على قوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى﴾ إلخ جملة معترضة سيقت للبيان والتأكيد لنصرة الرسل، و ﴿الفاء﴾ فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت يا محمد ما وعدت به من نصرة الرسل، وما فعلناه بموسى، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: اصبر على ما أصابك من أذية المشركين، فهو غير منسوخ بآية السيف، إذ الصبر محمود في كل المواطن، وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ سبحانه إياك بالنصرة، وظهور الإِسلام على الأديان كلها، وفتح مكة ونحوها ﴿حَقٌّ﴾ لا يحتمل الإخلاف أصلًا، واستشهد بحال موسى وفرعون ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ تداركًا لما فرط منك من ترك الأولى في بعض الأحيان، فإنه تعالى كافيك في نصرة دينك وإظهاره على الدين كله، وفي "عين المعاني": واستغفر من ذنب إن كان منك، وقيل: هذا تعبد من الله لرسوله؛ ليزيد به درجة، لأنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو ليصير ذلك سنة لمن بعده، وفي "عرائس البقلي": واستغفر لما جرى على قلبك من أحكام البشرية. اهـ. وقيل: المراد ذنب أمتك، فهو على حذف مضاف. وقيل المراد: الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾؛ أي: ودم على اعتقاد تنزيه ربك عن كل ما لا يليق به، حال كونك متلبسًا بحمده بلسانك، أو المعنى: دم على قولك: سبحانه الله وبحمده ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾؛ أي: في آخر النهار وأوله. وقيل المراد: صل في الوقتين: صلاة العصر وصلاة الفجر: قاله الحسن وقتادة، وقيل: هما صلاتان: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
فالمقصود من ذكر العشي والإبكار: الدلالة على المداومة عليهما في جميع الأوقات، بناءً على أن الإبكار عبارة: عن أول النهار إلى نصفه، والعشي عبارة: عن نصف النهار إلى أول النهار من اليوم الثاني، فيدخل فيهما كل الأوقات.
والمعنى (١): أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك على من كذبك، وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرًا له طرفي النهار كما جاء في الآية الأخرى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾.
وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله، وأن لا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب، حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)﴾.
٥٦ - ولما ابتدأ سبحانه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله، واتصل الكلام بعضه ببعض، على النسق المتقدم.. نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ ويخاصمون ﴿في آيَاتِ اللهِ﴾ سبحانه ويجحدون بها ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ وحجة قاهرة ﴿أَتَاهُمْ﴾ في ذلك من جهته تعالى؛ أي: جادلوا في ردها بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهته تعالى، وتقييد (٢) المجادلة بذلك مع استحالة إتيانه؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين البتة ﴿إِنَّ﴾: نافية ﴿في صُدُورِهِمْ﴾؛ أي: في قلوبهم، عبر بالصدر عن القلب؛ لكونه موضع القلب ﴿إِلَّا كِبْرٌ﴾ وحسد، وفي الحصر إشعار بأن قلوبهم قد خلت عن كل شيء سوى الكبر؛ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق، وتعظم عن التكبر والتعليم، أو إلا إرادة الرياسة والتقدم على النبي والمؤمنين، أو إلا إرادة أن تكون النبوة لهم دونك يا محمد، حسدًا وبغيًا، ولذلك يجادلون فيها، لأن فيها موقع جدال ما، أو أن لهم شيئًا يتوهم أن يصلح مدارًا لمجادلتهم في الجملة، واعتبرت الإرادة في هذين الوجهين؛ لأن نفي الرياسة والنبوة ليستا في قلوبهم. وجملة قوله: ﴿مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾: صفة ﴿كِبْرٌ﴾ فالضمير راجع إلى الكبر، بتقدير مضاف؛ أي: ما هم ببالغي مقتضى كبرهم، وهو دفع الآيات، فإني أنشر أنوارها في الآفاق، وأعلي قدرك، أو ما هم بمدركي مقتضى ذلك الكبر، وهو ما أرادوه من الرياسة والنبوة، وقال ابن قتيبة: المعنى: إن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
223
في صدورهم إلا كبر؛ أي: تكبر على محمد - ﷺ -، وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك.
والمعنى (١): أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة، وهم المشركون أوِ اليهود، ما يحملهم على هذا الجدال إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك، وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوّتك.. لزمهم أن يكونوا تحت لوائك، وطوع أمرك ونهيك، لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا في خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر، وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس ذلك بالذي يدرك بالأماني.
والخلاصة: أنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلّهم.
قال المفسرون: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ الآية، وإن نزل في مشركي مكة، لكنه عام لكل مجادل مبطل، فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم، ويكلؤه ويحفظه منهم، فقال: ﴿فَاسْتَعِذْ﴾ يا محمد ﴿بِاللهِ﴾ سبحانه والتجىء إليه من شرهم وكيدهم وبَغيهمْ عليك، واطلب السلامة منه من كيد كل من يحسدك ويبغي عليك ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْبَصِيرُ﴾ لأفعالهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
وقيل (٢): المجادلون هم اليهود كما مرت الإشارة إليه، وكانوا يقولون لرسول الله - ﷺ -: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح بن داود، يريدون أن الدجال يخرج في آخر الزمان، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله تعالى، فرِجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرًا، ونفى أن يبلغوا متمنّاهم، فإن الدجال وإن كان يخرج في آخر الزمان، لكنه
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
224
ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون، بحيث لا ينجو منهم واحد، فمعنى قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾؛ أي: من فتنة الدجال، فإنه ليس فتنة أعظم من فتنة الدجال.
٥٧ - وقوله: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه، وهو أمر البعث؛ أي: لخلق السموات والأرض ابتداءً من غير مثال سابق مع عظمهن ﴿أَكْبَرُ﴾؛ أي: أعظم في النفوس، وأجل في الصدور ﴿مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ مرةً ثانيةً، وهي الإعادة لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فمن قدر على خلق الأعظم الأقوى بلا أصل ولا مادة.. وجب أن يقدر على خلق الأذل الأضعف من الأصل والمادة بطريق الأولى، فكيف يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وينكرون الخلق الجديد يوم البعث؟ وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشقّ من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك.. قدر على ما دونه، كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾ وقال أيضًا: ﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)﴾.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ يعني الكفار ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ الإعادة أهون من البداية، لقصورهم في النظر والتأمل، لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم؛ أي: ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبّرون هذه الحجة ولا يتأملونها، ولا يعلمون أنّ الله سبحانه لا يعجزه شيء.
قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظّمته اليهود، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال.

فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الدجال


وعن هشام بن عروة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة، خلق أكبر من الدجال" أخرجه مسلم، معناه: أكبر فتنةً، وأعظم شوكة من الدجال.
وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - ﷺ - ذكر الدجال فقال: "إنه
225
أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية" متفق عليه. ولأبي داود والترمذي عنه قال: قام النبي - ﷺ - في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، لكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأنّ الله ليس بأعور.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "بين عينيه كافر، ثم تهجّي ك ف ر، يقرؤه كل مسلم".
وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله - ﷺ - في بيتي، فذكر الدجال فقال: "إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالث تمسك السماء قطرها، والأرض نباتها كله، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت، ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك، قال: فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعًا، وأعظمه أسمنةً، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك.. ألست تعلم أني ربك، فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه" قالت: ثم خرج رسول الله - ﷺ - لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدّثهم، قالت: وأخذ بلحمتي الباب فقال: "مه يا أسماء" فقلت: يا رسول الله، لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال: "إن يخرج وأنا حي.. فأنا حجيجُه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن" قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله، والله. إنا لنعجن عجينًا فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: "يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس" وفي رواية عنها قالت: قال النبي - ﷺ -: "يمكث الدجّال في الأرض أربعين سنةً، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار" هذا حديث أخرجه البغوي بسنده، والذي جاء في "صحيح مسلم" قال: قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض قال: "أربعون يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه" قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم كسنة، أتكفينا صلاة يوم، قال: "لا، أقدروا
226
له قدرة" قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض، قال: "كالغيث استذرته الريح" وفي رواية أبي داود عنه: "فمن أدركه منكم.. فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته" وفيه: "ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله".
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن مع الدجال إذا خرج ماءً ونارًا، فأما الذي يرى الناس أنه نار.. فماء بارد، والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة، فمن أدرك ذلك منكم.. فليقع في الذي يرى أنه نار، فإنه ماء عذب بارد". متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا أحدّثكم حديثًا عن الدجال ما حدَّث به نبي قومه، إنه أعور، وإنه يجيء بمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه". متفق عليه.
وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ما سأل أحد رسول الله - ﷺ - عن الدجال ما سألته، وإنه قال لي: "ما يضرّك" قلت: إنهم يقولون: إن معه جبل خبر ونهر وماء، قال: "هو أهون على الله من ذلك". متفق عليه. وسيأتي تفسير هذه الجملة الأخيرة إن شاء الله تعالى.
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "من سمع الدجال.. فليتأمنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات" أو قال: "لما يبعث به من الشبهات" أخرجه أبو داود.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافّين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق" متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة، حتى ينزل مدبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك" أخرجه مسلم.
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - ﷺ - قال:
227
"الدجال يخرج بأرض بالمشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة" أخرجه مسلم.
وعن مجمع بن جارية الأنصاري، قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وقال النواوي - رحمه الله تعالى -: قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذاهب الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه عورٌ، ابتلى الله تعالى به عباده، فأقدره على أشياء من المقدورات، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا، والخصب معه وجنته وناره، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء، خلافًا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافًا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنها لو كانت حقًا.. لضاهت معجزات الأنبياء، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدّع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الربوبية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذا الدلائل لا يغترّ بها إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة، رغبةً في سد الرمق، أو خوفًا من فتنته، لأنّ فتنته عظيمةٌ جدًّا، تدهش العقول وتحير الألباب، ولهذا حذّرت الأنبياء من فتنته، فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه؛ لما سيق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرةً.
قوله في حديث المغيرة بن شعبة: قلت يا رسول الله: إنهم يقولون: إنّ معه
228
جبل خبز ونهر ماء، قال: "هو أهون على الله من ذلك" معناه: هذا أهون على الله تعالى من أن يجعل ما خلقه الله عزّ وجل على يده مضلًا للمؤمنين، ومشككًا لقلوبهم، بل إنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس معناه: أنه ليس معه شيء من ذلك، لأنه ثبت في الحديث أنَّ معه ماءً ونارًا، فماؤه نار، وناره ماء بارد. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى من "الخازن".
٥٨ - ولمّا ذكر سبحانه الجدال بالباطل.. ذكر مثالًا للباطل والحق، وأنهما لا يستويان، فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾؛ أي: المشرك الجاهل الغافل ﴿وَالْبَصِيرُ﴾؛ أي: الموحد العالم المستبصر، والمراد بالأعمى: من عمي قلبه عن رؤية الآيات والاستدلال بها، والبصير: من أبصرها، قال الشاعر:
أَيُّهَا الْمُنْكِحَ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا عَمْرُكَ اللَّهُ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِيْ
أي: فكما لا تساوي بينهما فكذلك لا تساوي بين المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، وقدَّم الأعمى على البصير في نفي التساوي؛ لمناسبة ما قبله من نفي النظر والتأمل، وفي "السمين": وقدم الأعمى مع كونه أخسّ الوصفين؛ لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَ﴾ ما يستوي ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ وقدمهم على المسيء لمجاورة البصير ولشرفهم عليه ﴿وَلَا الْمُسِيءُ﴾؛ أي: ولا الذين كفروا بالله ورسوله وعملوا السيئات، والمسيء (١): اسم جنس يعم المسيئين.
والمعنى: وما يستوي المحسن والمسيء؛ أي: الصالح والطالح، فلا بد أن يكون لهم حالة أخرى، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت، وهي فيما بعد البعث وهو احتجاج آخر على حقيقة البعث والجزاء، وزيادة ﴿لَا﴾ في المسيء؛ لتأكيد النفي لطول الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين، ولأنّ المقصود نفي مساواته للمحسن، لأنه كما لا يساوي المحسن المسيء فيما يستحقه المسيء من المهانة
(١) روح البيان.
229
والحقارة، كذلك لا يساوي المسيء المحسن فيما يستحقه المحسن من الفضل والكرامة.
والعاطف في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير، مع أنَّ المجموع؛ أي: مجموع الغافل والمستبصر هو مجموع المسيء والمحسن، لتغاير الوصفين؛ يعني: أن المقصود في الأولين إلى العلم، فإن العمى والبصيرة في القلب، وفي الأخيرين إلى العمل، لأن الإيمان والأعمال في الجوارح، وإلا ففي الحقيقة المراد بالبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات واحد، وبالأعمى والمسيء واحد، ويجوز أن يراد الدلالة بالصراحة والتمثيل على أن يتحد الوصفان في المقصود، بأن يكون المراد بالأولين أيضًا: المحسن والمسيء، فالصراحة بالنسبة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء، والتمثيل بالنسبة إلى ما قبله، فإن الأعمى والبصير من قبيل التمثيل. ﴿قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿مَا﴾: زائدة لتأكيد معنى القلة، و ﴿قَلِيلًا﴾: مفعول مطلق على أنه صفة لموصوف محذوف؛ أي: تتذكرون تذكرًا قليلًا أيها الكفار المجادلون؛ يعني: وإن كنتم تعلمون أن التبصر خير من الغفلة، ولا يستويان، وكذا العمل الصالح خير من العمل الفاسد، لكنكم لا تتذكرون إلا تذكرًا قليلًا، أو لا تتذكرون أصلًا، فإنه قد يعبّر بقلة الشيء عن عدمه، مثل: أن يقال: فلان قليل الحياء، أي: لا حياء له.
وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة (١): ﴿يتذكرون﴾ بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم للمناسبة؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ قتادة وطلحة وأبو عبد الرحمن وعيسى والكوفيون ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ: هو إظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ. كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله تعالى.
ومعنى الآية (٢): أي وما يستوي الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه، فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته، وقدرته على خلق ما يشاء، ويؤمن بذلك ويصدق به، والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكّر فيها ويتعظ بها، ويعلم ما
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
230
تدل عليه من توحيده، وعظيم سلطانه، وقدرته على خلق الأشياء جميعها، صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للإيضاح، تبيّن للناس المعقولات وهي لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما انْبَهَم منها، وخفي من أمرها، كما قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا...﴾ إلخ؛ أي: وكذلك لا يستوي المؤمنون المطيعون لربهم، والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠)﴾.
﴿قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: ما أقل ما تتذكرون حجج الله، فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم.. لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فني من خلقه، وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.
٥٩ - ولمّا قرّر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر.. أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة، فقال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾؛ أي: إن القيامة، ومر وجه التسمية بها مرارًا ﴿لَآتِيَةٌ﴾ أكّد؛ باللام (١) لأنّ المخاطبين هم الكفار، وجرّد في سورة طه حيث قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾؛ لكون المخبَر ليس بشاك في الخبر. كذا في "برهان القرآن" ﴿لَا رَيْبَ فِيهَا﴾؛ أي: لا شك في مجيئها لوضوح شواهدها، ومنها ما ذكر بقوله: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ...﴾ إلخ. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾؛ يعني الكفار ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يصدقون بها لقصور أنظارهم على الظواهر، وقوة اللهم بالمحسوسات، وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس، إلا من عصمه الله تعالى، ونظر إلى قلبه بنظر العناية.
والمعنى (٢): أي إن يوم القيامة الذي يحيي الله فيه الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فايقنوا بمجيئه، وإنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم، واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
على قلب بشر، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رؤوسهم، وعاثوا في الأرض فسادًا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.
٦٠ - ثمّ لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة.. أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله - ﷺ - أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه، وهو قوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ﴾ أيها الناس ﴿ادْعُونِي﴾؛ أي: وحّدوني واعبدوني ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؛ أي: أثبكم بقرينة قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾؛ أي: يتعظمون عن طاعتي أو توحيدي ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ﴾ يوم القيامة حال كونهم ﴿دَاخِرِينَ﴾؛ أي: صاغرين ذليلين، ﴿وإن﴾: فسر الدعاء بالسؤال بجلب النفع، ودفع الضر كان الاستبكار الصارف عنه منزّلًا منزلة الاستكبار عن العبادة، فأقيم الثاني مقام الأول للمبالغة، أو المراد بالعبادة: الدعاء، فإنه من أفضل أبوابها، فأطلق العام على الخاص، ففيه مجاز مرسل، والأول (١) أولى؛ لأنّ الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة.
قلت: بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء لغةً وشرعًا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك.. فهو مجاز.
وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول على المنبر: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)﴾، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من لم يسأل الله.. يغضب عليه". أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
وعن أنس بن مالك عن النبي - ﷺ - قال: "الدعاء مخ العبادة" أخرجه الترمذي.
وعنه عن النبي - ﷺ - قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
فإن قلت (٢): كيف قال سبحانه: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وقد يدعو الإنسان
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
232
كثيرًا فلا يستجاب له.
قلت: الدعاء له شروط: منها: الإخلاص في الدعاء، وأن لا يدعو وقلبه لاهٍ مشغول بغير الدعاء، وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحةً للإنسان، وأن لا يكون فيه قطيعة رحم، فإذا كان الدعاء بهذه الشروط.. كان حقيقًا بالإجابة، فإما أن يعجّلها، وإما أن يؤخّرها له، يدل له ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء.. إلا استجيب له، فإما أن يعجّل له به في الدنيا، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل" قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: دعوت ربي فما استجاب لي" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
يقال: ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة، ادعوني بلا خفاء استجيب لكم بالوفاء، ادعوني بلا خطأ استجيب لكم بالعطاء، ادعوني بشرط الدعاء، وهو الأكل من الحلال. قيل: الدعاء مفتاح الحاجة، وأسنانه لقمة الحلال، وقوله: ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله تعالى، وفيه لطفٌ بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل، حيث توعّد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشرِّ به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة.
وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيّد بالمشيئة؛ أي: أستجب لكم إن شئت، كقوله تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾؛ أي: الله، وقرأ الجمهور والحسن وشيبة (١): ﴿سَيَدْخُلُونَ﴾ مبنيًا للفاعل، وقرأ زيد بن علي بن وابن كثير وابن محيصن وورث وأبو جعفر: ﴿سيُدخلون﴾ بضم الياء وفتح الخاء مبنيًا للمفعول، واختلف عن عاصم وأبي عمرو.
فيا عباد الله، وجّهوا رغباتكم، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم، بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه،
(١) البحر المحيط.
233
ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.
٦١ - ولما أمر بالدعاء والاشتغال به، لا بد أن يسبق بمعرفة المدعو.. ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه، فقال: ﴿الله﴾ الذي أمرتم بالدعاء له، واللجوء إليه هو ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾؛ أي: خلق لمصالحكم ﴿اللَّيْلَ﴾ مظلمًا ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ من الحركات في طلب الكسب، ولتستريحوا فيه من تعب النهار، فإن الليل لكونه باردًا رطبًا، تضعف فيه القوى المحرّكة، ولكونه مظلمًا، يؤدّي إلى سكون الحواسّ، فتستريح النفس والقوى والحواس بقلة أشغالها وأعمالها والنوم ﴿و﴾ جعل لكم ﴿النَّهَارَ مُبْصِرًا﴾؛ أي: مضيئًا لتبصروا فيه حوائجكم، وتتصرّفوا في طلب معايشكم؛ أي: مبصرًا فيه أو به، يعني: يبصر به المبصرون الأشياء، ولكونه حارًّا يقوّي الحركات في اكتساب المعاش، فإسناد الإبصار إلى النهار مجاز فيه مبالغة، ولقصد المبالغة عدل به عن التعليل إلى الحال، بأن قال: ﴿مُبْصِرًا﴾ دون لتبصروا فيه أو به؛ يعني: أنّ نفس النهار لما جُعِلَ مبصرًا.. فُهم أنّ النهار لكمال سببيّته للإبصار، وكثرة آثار القوة الباصرة، جعل كأنه هو المبصر.
فإن قيل (١): فلِمَ لَمْ يَسْلك في الليل سبيل المبالغة؟.
قلنا: لأنّ نعمة النهار لشبهها بالحياة أتمّ وأولى من نعمة الليل، التي تشبه الموت، فكانت أحق بالمبالغة، إذ المقام مقام الامتنان، ولأنّ الليل يوسف بالسكون؛ لسكون هوائه وصفًا مجازيًا متعارفًا، فسلوك سبيل المبالغة فيه يرفع الاشتباه، كما أشير إليه في "الكشاف".
ثمّ إذا حملت الآية على الاحتباك كما جرينا عليه أولًا.. فقيل: التقدير حينئذ: الله الذي جعل لكم الليل مظلمًا لتسكنوا فيه، والنهار مبصرًا لتنتشروا فيه، ولتبتغوا من فضله، فحذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر كذا أفاده سعدي المفتي.
والمعنى (٢): أي إنّ الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له، ولا تنبغي العبادة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
لغيره، وهو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة، والتردّد في طلب المعاش، والحصول على ما يفي بحاجات الحياة، وجعل النهار مضيئًا بشمسه. ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات، وصنوف الزراعات والحراثات.
ثمّ ذكر نتيجة لما تقدم فقال: ﴿إِنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾ عظيم، وإحسان قديم ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ بخلق الليل والنهار لا يوازيه فضل، ولا يدانيه طول، فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى.
ثمّ بيّن أن كثيرًا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم، فقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها، كما هو شأن الكفّار، وإما لإهمالهم النظر، وغفلتهم عمّا يجب من شكر المنعم، كما هو حال الجاهلين، وتكرير ﴿النَّاسِ﴾ (١)؛ لتنصيص تخصيص الكفران بهم، بإيقاعه على صريح اسمهم الظاهر، الموضوع موضع الضمير الدال على أنّ ذلك كان شأن الإنسان وخاصته في الغالب.
أي: لا يشكرون فضل الله وإحسانه، لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم؛ أي: رفعة شأنها، وعلوّ قدرها، وإذا فقدوا شيئًا منها.. يعرفون قدرها، مثل أن يتفق لبعض والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في بئر عميق مظلم مدة مديدة، فإنه حينئذ يعرف قدر نعمة الهواء الصافي، وقدر نعمة الضوء.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
٦٢ - ثم بين كمال قدرته، المقتضية لوجوب توحيده، فقال: ﴿ذَلِكُمُ﴾ المتفرّد بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية ﴿الله﴾؛ أي: المعبود بالحق، المستحق منكم العبادة دون غيره ﴿رَبُّكُمْ﴾؛ أي: مالككم ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المخلوقات، علويّها وسُفليّها ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى، أخبار مترادفة، تخصّص السابقة منها اللاحقة وتقرّرها. قال في "كشف
(١) روح البيان.
الأسرار": ﴿كُلِّ﴾ هنا بمعنى البعض، وقيل: عام خصّ منه ما لا يدخل في الخلق.
وقرأ الجمهور: ﴿خَالِقُ﴾ بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي ﴿خالق﴾ بفتح القاف بنصبه على الاختصاص، ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: فكيف تنقلبون أيها المشركون عن توحيده، ومن أيّ وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره، وقرأ طلحة في رواية ﴿يؤفكون﴾ بياء الغيبة، والجمهور: ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ بتاء الخطاب، وقال الراغب: قوله: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: تصرفون من الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، كما سيأتي.
ومعنى الآية: أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد، خالق جميع الأشياء، لا إله غيره، ولا ربّ سواه فكيف تنقلبون عن عبادته والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئًا، وهي مخلوقة منحوتة بأيديكم.
٦٣ - ثم ذكر أنّ هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير، فقال ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له ولا مصحّح له أصلًا؛ أي: كما صرف قومك وهم قريش عن الحق، وحرموا من التحلي به مع قيام الدلائل ﴿يُؤْفَكُ﴾ ويصرف عنه ﴿الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾؛ أي: يصرف عنه كل جاحد قبلهم أو بعدهم بآياته أيّ آية كانت، لا إفكًا آخر له وجه ومصحح في الجملة؛ أي: كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله.. ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى.
٦٤ - وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار، ذكر منها خلق الأرض والسماء، فقال: ﴿الله﴾ الذي يستحق منكم العبادة هو ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وسير ﴿لَكُمُ﴾؛ أي: لمصالحكم وحوائجكم ﴿الْأَرْضَ قَرَارًا﴾؛ أي (١): مستقرًا. أي: موضع قرار ومكان ثبات وسكون، فإن القرار كما يجيء بمعنى الثبات والسكون،
(١) روح البيان.
236
ويجيء بمعنى ما قرّ فيه، وبمعنى المطمئن من الأرض. كما في "القاموس" قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ﴿قَرَارًا﴾؛ أي: منزلًا في حال الحياة وبعد الممات ﴿و﴾ جعل ﴿السَّمَاءَ بِنَاءً﴾ قبةً مبينةً ومظلةً مرفوعة فوقكم، فالبناء بمعنى المبني، ومنه أبنية العرب لمضاربهم، لأن السماء في نظر العين كقبة مضروبة على فضاء الأرض. وفي "التأويلات النجمية": خلق الأرض لكم استقلالا، ولغيركم طفيليًّا. وتبعًا، لتكون مقركم، والسماء أيضًا خلق لكم لتكون سقفكم، مستقلّين به، وغيركم تبع لكم فيه.
والمعنى (١): أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرًا تعيشون عليها، وتتصرّفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفًا محفوظًا مزيّنًا بنجوم، ينشأ عنها الليل والنهار، والظلام والضياء.
وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان.. ذكر دلائل الأنفس فقال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ في الأرحام ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ من صور الدوابّ، ويقال: أحكم صوركم، ويقال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾؛ أي: أحدث صورتكم على غير نظام واحد ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ ولم يخلق الله تعالى حيوانًا أحسن صورةً من الإنسان.
وهذا بيان لفضله المتعلق بأنفسهم، و ﴿الفاء﴾ (٢): في ﴿فَأَحْسَنَ﴾: تفسيرية، فإن "الإحسان عين التصوير، كما في قوله - ﷺ -: "إن الله أدّبني فأحسن تأديبي" فإن "الإحسان عين التأديب، فإن تأديب الله لمثله لا يكون إلا حسنًا بل أحسن.
والمعنى: وصوّركم أحسن تصوير، حيث خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء والتخطيطات، متهيِّئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: خلق ابن آدم قائمًا معتدلًا، يأكل ويتناول بيده، وغير ابن آدم يتناول بفيه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿صُوَرَكُمْ﴾ بضم الصاد وفتح الواو، وقرأ الأعمش وأبو رزين: بكسرها؛ فرارًا من الضمة قبل الواو استثقالًا، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها: شاذٌّ، وقالوا: قوة وقوى بكسر القاف على الشذوذ أيضًا، قال
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
237
الجوهري: والصور بكسر الصاد: لغة في الصور بضمها، وقرأت فرقة: ﴿صوركم﴾ بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾؛ أي: من المأكولات اللذيذة، والمشروبات الحلوية.
والمعنى: أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلًّا منكم منتصب القامة، بادي البشرة، متناسب الأعضاء، متهيأً لمزاولة الصناعات واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.
﴿ذَلِكُمُ﴾ الموصوف بما ذكر من الصفات الجميلة، مبتدأ، خبره: ﴿الله﴾؛ أي: المستحق منكم العبادة ﴿رَبُّكُمْ﴾ الذي ربَّاكم بما يصلحكم، خبر آخر ﴿فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ صفة خاصة بالله تعالى، أي: تقدّس وتنزّه وتعالى بذاته عن أن يكون له شريك في العبادة، إذ لا شريك له في شيء من تلك النعم، أو المعنى: كثر خيره، وتزايد برّه، ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: مالكهم ومربّيهم، والكل تحت ملكوته، مفتقرٌ إليه في ذاته ووجودهِ وسائر أحواله جميعًا، بحيثُ لو انقطع فيضه عنه آنًا.. لانعدم بالكلية.
أي (١): ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا ينبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا مَنْ لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزّه، وهو رب العالمين.
٦٥ - ثم نبَّه إلى وحدانيته، وأمر بإخلاص العبادة له، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْحَيُّ﴾؛ أي: المتصف بالحياة الدائمة، المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقة لا يموت، ويميت الخلق ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى، إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ﴿فَادْعُوهُ﴾؛ أي: فاعبدوه خاصةً لاختصاص ما يوجبه به تعالى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾؛ أي: الطاعة والعبادة من الشرك الجلي والخفيّ، مقرين له بالعبودية، قائلين ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: من قال: لا إله إلا الله.. فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
(١) المراغي.
238
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فعلى هذا هو من كلام المأمورين بالعبادة؛ أي: ولما كان تعالى موصوفًا بصفات الجلال والعزّة.. استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى، على أنه استئناف لحمد ذاته بذاته. اهـ "شهاب".
والمعنى: أي هو سبحانه الحيّ الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة، غير دائمها، لا معبود بحق غيره، ولا تصلح الألوهية إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئًا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندًّا ولا عدلًا، ثمّ أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه، وجليل إحسانه فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾؛ أي: احمدوه سبحانه، فهو مالك جميع أصناف الخلق، من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها، ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن نفع غيرها وضرّه.
الإعراب
﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف معطوف على المنادى الأول. ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل الرفع مبتدأ، ﴿لِي﴾: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿أَدْعُوكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر. ﴿إِلَى النَّجَاةِ﴾: متعلق بـ ﴿أَدْعُوكُمْ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير ﴿لِي﴾. ﴿وَتَدْعُونَنِي﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿تدعونني﴾: فعل وفاعل ومفعول به مرفوع بثبات النون والنون الثانية للوقاية، و ﴿الياء﴾: مفعول به. ﴿إِلَى النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿تدعونني﴾، وهذه الجملة (١) مستأنفة أخبر عنهم بذلك بعد استفهامه عن دعائه لهم، ويجوز أن يكون التقدير: وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالًا؛ أي: ما لي أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلى النار. اهـ "سمين". وعبارة أبي السعود: ﴿مَا لِي أَدْعُوكُمْ﴾: ﴿مَا﴾: مبتدأ، والظرف بعدها خبر عنها، وجملة
(١) الفتوحات.
239
﴿أَدْعُوكُمْ...﴾ إلخ. حال، والاستفهام المفاد بـ ﴿مَا﴾ تعجبي، ومدار التعجب: دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قال: أخبروني، كيف هذه الحال، أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر؟!.
﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)﴾.
﴿تَدْعُونَنِي﴾: فعل مضارع وفاعل ونون وقاية ومفعول به مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية: بدل من جملة ﴿وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ أو مستأنفة مسوقة لبيانها ﴿لِأَكْفُرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿أكفر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على المؤمن. ﴿بِاللهِ﴾: متعلق بـ ﴿أكفر﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: تدعونني إلى كفري بالله، والدعاء يتعدى كالهداية بـ ﴿إلى﴾ وباللام. ﴿وَأُشْرِكَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿أكفر﴾ ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أشرك﴾، و ﴿مَا﴾: مفعول به، ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص، و ﴿لِي﴾: خبرها المقدم، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾ و ﴿عِلْمٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة ﴿وَأَنَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أنا﴾: ضمير المتكلم في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَدْعُوكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ياء المتكلم في ﴿تَدْعُونَنِي﴾ أو معطوفة على ﴿تَدْعُونَنِي﴾، ﴿إِلَى الْعَزِيزِ﴾: متعلق بـ ﴿أَدْعُوكُمْ﴾، ﴿الْغَفَّارِ﴾ صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾.
﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدُّنْيَا وَلَا في الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣)﴾.
﴿لَا﴾: نافية لرد ما قبلها، كما مر في مبحث التفسير. ﴿جَرَمَ﴾: فعل ماض بمعنى حق ووجب. ﴿أَنَّمَا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب وتوكيد ومصدر. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب اسمها، فكان حقها أن تكتب مفصولة من النون، كما هو القاعدة: أن الموصولة مفصولة، والكافَّة متصلة بها لكنها رسمت في المصحف متصلةً بالنون؛ تبعًا للرسم العثماني. ﴿تَدْعُونَنِي﴾: فعل مضارع وفاعل ونون وقاية
240
ومفعول به. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَدْعُونَنِي﴾ وهو العائد إلى ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة الفعلية: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم، ﴿دَعْوَةٌ﴾: اسمها مؤخر، ﴿في الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿دَعْوَةٌ﴾. ﴿وَلَا في الْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿في الدُّنْيَا﴾ وجملة ﴿لَيْسَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿جَرَمَ﴾ تقديره: حق وثبت بطلان دعوة ما تدعونني إليه في الدنيا والآخرة. ﴿وَأَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أَن﴾: حرف نصب. ﴿مَرَدَّنَا﴾: اسمها. ﴿إِلَى اللهِ﴾ خبرها، وجملة ﴿أَن﴾: معطوفة على جملة ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي﴾ على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، تقديره: جرم بطلان دعوة ما تدعونني إليه، وكون مردنا إلى الله تعالى. ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ناصب واسمه ﴿هُمْ﴾: ضمير فصل. ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾: خبره، وجملة ﴿أَن﴾: في تأويل مصدر معطوفة على ما قبله؛ أي: وحق كون المسرفين من أصحاب النار.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)﴾.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان عاقبتكم.. فأقول لكم، و ﴿السين﴾: حرف استقبال. ﴿تذكرون﴾: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: ما أقوله، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿تذكرون﴾، ﴿إِلَى اللهِ﴾. متعلق بـ ﴿أفوض﴾. ﴿إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿بِالْعِبَادِ﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول ﴿قال﴾. ﴿فَوَقَاهُ الله﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: وقصدوا قتله فهرب منهم فوقاه الله، ﴿وقاه الله﴾: فعل ماض ومفعول به أول وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. ﴿سَيِّئَاتِ﴾: مفعول به ثان ﴿سَيِّئَاتِ﴾: مضاف ﴿مَا﴾: اسم موصول
241
في محل الجر مضاف إليه. ﴿مَكَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما مكروه. ﴿وَحَاقَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿وقاه﴾. ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾: متعلق بـ ﴿حاق﴾، ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿النَّارُ﴾: مبتدأ، ﴿يُعْرَضُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يُعْرَضُونَ﴾، ﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾: ظرفان متعلقان بـ ﴿يُعْرَضُونَ﴾، ﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بقول محذوف، تقديره: ويقال يوم تقوم الساعة، والقول المحذوف: مستأنف، وجملة ﴿تَقُومُ السَّاعَةُ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿أَدْخِلُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾: مفعول به أول. ﴿أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾: مفعول به ثان، والجملة الفعلية: في محل الرفع نائب فاعل محكي للقول المحذوف.
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر لقومك يا محمد قصة ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ﴾، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿في النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾. ﴿فَيَقُولُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿يقول الضعفاء﴾: فعل وفاعل والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يقول﴾، وجملة ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا﴾ فعل ماض ناقص واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَعًا﴾، ﴿تَبَعًا﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿يقول﴾. ﴿فَهَلْ﴾: الفاء عاطفة. ﴿هل﴾: حرف استفهام. ﴿أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾، ﴿عَنَّا﴾: متعلق بـ ﴿مُغْنُونَ﴾، ﴿نَصِيبًا﴾: منصوب بفعل محذوف دل عليه مغنون تقديره: هل أنتم دافعون عنا نصيبًا، كما مر في بحث التفسير. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ صفة لـ ﴿نَصِيبًا﴾.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ
242
الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩)}.
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد العموم. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿كُلٌّ﴾، وجملة المبتدأ مع خبره: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿إِنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿قَدْ حَكَمَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ ﴿بَيْنَ الْعِبَادِ﴾: متعلق بـ ﴿حَكَمَ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ﴾ الأول، ﴿في النَّارِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿الَّذِينَ﴾. ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿يُخَفِّفْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله. ﴿عَنَّا﴾: متعلق بـ ﴿يُخَفِّفْ﴾، ﴿يَوْمًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يُخَفِّفْ﴾ أيضًا ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: صفة لمحذوف هو مفعول ﴿يُخَفِّفْ﴾؛ أي: يخفف عنا شيئًا من العذاب في يوم، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب الطلب.
﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ (٥٠)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿أَوَلَمْ تَكُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف دل عليه السياق، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تنتهوا عن هذا ولم تك تأتيكم إلخ. والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿تَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير مستتر يعود على الرسل. ﴿تَأْتِيكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به. ﴿رُسُلُكُمْ﴾: فاعل ﴿تَأْتِيكُمْ﴾ وقد تنازعه كل من ﴿تَكُ﴾ فأعطي فاعلًا للثاني وأضمر في الأول، ويجوز العكس. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿تَأْتِيكُمْ﴾ وجملة ﴿تَأْتِيكُمْ﴾: في محل النصب خبر تك، وجملة تك معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات النفي نائب عن الجواب، تقديره: بلى أتتنا رسلنا فكذبنا، والجملة المحذوفة
243
في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿فَادْعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك، وأردتم بيان جزائكم.. فأقول لكم: ادعوا ﴿ادعوا﴾: فعل أمر وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾: ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة: ﴿ما﴾: نافية. ﴿دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿في ضَلَالٍ﴾: خبر المبتدأ، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَادْعُوا﴾.
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَنَنْصُرُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿ننصر﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿رُسُلَنَا﴾: مفعول به ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿رُسُلَنَا﴾، وجملة ﴿ننصر﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ضياع دعائهم، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿في الْحَيَاةِ﴾: متعلق بـ ﴿ننصر﴾ ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾. ﴿وَيَوْمَ﴾: ظرف معطوف على ﴿في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: لننصرنهم في الحياة الدنيا وفي يوم يقوم الأشهاد، وجملة ﴿يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ من الفعل والفاعل: في محل الجر مضاف إليه ﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ﴾ قبله، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَنْفَعُ﴾: فعل مضارع ﴿الظَّالِمِينَ﴾: مفعول به، ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه. لـ ﴿يوم﴾ ﴿وَلَهُمُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَهُمُ﴾: خبر مقدم. ﴿اللَّعْنَةُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿لَا يَنْفَعُ﴾. ﴿اللَّعْنَةُ﴾: خبر مقدم. ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى﴾: مفعول أول. ﴿الْهُدَى﴾: مفعول ثان،
244
والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم، مستأنفة مسوقة لإيراد نموذج عظيم من نماذج النصر الذي وعد الله أنبياءه في الدنيا. ﴿وَأَوْرَثْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾، ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول أول، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان. ﴿هُدًى وَذِكْرَى﴾: منصوبان على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: لأجل الهدى والذكرى، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بذكرى أو صفة له. ﴿فَاصْبِرْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت وعد الله النصر لأنبيائِهِ، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿اصبر﴾، ﴿اصبر﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾: ناصب واسمه، ﴿حَقٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر. ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿اصبر﴾ ﴿لِذَنْبِكَ﴾: متعلق بـ ﴿استغفر﴾، ﴿وَسَبِّحْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف أيضًا على ﴿اصبر﴾ ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: حال من فاعل ﴿سبح﴾، ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ متعلق بـ ﴿سبح﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿يُجَادِلُونَ﴾: صلة الموصول. ﴿في آيَاتِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾: ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يُجَادِلُونَ﴾ تقديره: حال كونهم غير مستندين في جدالهم إلى حجة، وجملة ﴿أَتَاهُمْ﴾ صفة ﴿سُلْطَانٍ﴾ ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿في صُدُورِهِمْ﴾: خبر مقدم، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿كِبْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِنْ﴾ وجملة ﴿إِنْ﴾: مستأنفة. ﴿مَا﴾: حجازية ﴿هُمْ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِبَالِغِيهِ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة في خبر ﴿مَا﴾ الحجازية. ﴿بالغيه﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية، وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية: في محل الرفع صفة لـ ﴿كِبْرٌ﴾. ﴿فَاسْتَعِذْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المجادلين، وأردت بيان ما هو الأصلح له.. فأقول لك: ﴿استعذ بالله﴾ ﴿استعذ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ﴿بِاللهِ﴾: متعلق بـ ﴿استعذ﴾
245
والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿السَّمِيعُ﴾: خبر أول لها، ﴿الْبَصِيرُ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩)﴾.
﴿لَخَلْقُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿خلق السموات﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿أَكْبَرُ﴾: خبره، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿أَكْبَرُ﴾، ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبرها، والجملة الاستدراكية: معطوفة على الجملة التي قبلها، أو في محل النصب حال، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالْبَصِيرُ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾، ﴿آمَنُوا﴾: صفة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة للتوكيد. ﴿الْمُسِيءُ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾. ﴿قَلِيلًا﴾: مفعول مطلق أو ظرف زمان؛ لأنه صفة مصدر أو ظرف محذوف؛ أي: تذكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، ﴿مَا﴾ زائدة لتأكيد القلة. ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَآتِيَةٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آتية﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿إن﴾ ﴿وَلَكِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية، ﴿لكنَّ﴾: حرف نصب واستدراك ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لكن﴾: معطوفة أو حالية كما سبق.
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ
246
اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)}.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قَالَ رَبُّكُمُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿كَلِمَتُ﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية. ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَسْتَجِبْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بالطلب السابق. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب الطلب. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿عَنْ عِبَادَتِي﴾ متعلق بـ ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾، ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به على السعة. ﴿دَاخِرِينَ﴾: حال، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿الله الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول، ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾؛ لأنه بمعنى خلق، ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول به، ﴿لِتَسْكُنُوا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تسكنوا﴾: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿تسكنوا﴾ والجملة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿لَكُمُ﴾، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿تسكنوا﴾، ﴿وَالنَّهَارَ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾. ﴿مُبْصِرًا﴾: حال من ﴿النهار﴾. ﴿إِنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿فَضْلٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لكن﴾: معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)﴾.
﴿ذَلِكُمُ الله﴾: مبتدأ وخبر أول، والجملة: مستأنفة. ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر ثان. ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: خبر ثالث، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: خبر رابع. ﴿فَأَنَّى﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية أو عاطفة، ﴿أنى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال مبني على السكون. ﴿تُؤْفَكُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لإفادة التعجب من حالهم، أو معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إفكًا مثل إفك هؤلاء
247
المشركين. ﴿يُؤْفَكُ الَّذِينَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿كَانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه. ﴿بِآيَاتِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: صلة الموصول.
﴿الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥)﴾.
﴿الله الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض بمعنى صير، وفاعل مستتر. ﴿لَكُمُ﴾: حال من ﴿قَرَارًا﴾. ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول أول، ﴿قَرَارًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: صلة ﴿الَّذِي﴾، ﴿وَالسَّمَاءَ﴾: معطوف على ﴿الْأَرْضَ﴾، ﴿بِنَاءً﴾: مفعول ثان. ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿جَعَلَ﴾، ﴿فَأَحْسَنَ﴾ عطف على صوركم ﴿صُوَرَكُمْ﴾ مفعول به ﴿وَرَزَقَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ ﴿مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿رزقكم﴾. ﴿ذَلِكُمُ الله﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر ثان، والجملة: مستأنفة. ﴿فَتَبَارَكَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة أو استئنافية. ﴿تبارك الله﴾: فعل وفاعل. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾: نعت للجلالة، والجملة الفعلية: مستأنفة أو معطوفة على الجملة الاسمية. ﴿هُوَ الْحَيُّ﴾: مبتدأ وخبر أول، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: خبر ثان ﴿فَادْعُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من الصفات لله تعالى، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿ادعوه﴾ ﴿ادعوه﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به. ﴿مُخْلِصِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادعوه﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾، ﴿الدِّينَ﴾: مفعول لـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: نعت للفظ الجلالة، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لقول محذوف، حال من فاعل ﴿ادعوه﴾ تقديره: فادعوه مخلصين له الدين حال كونكم قائلين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
248
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَى النَّجَاةِ﴾؛ أي: إلى الإيمان بالله، الذي ثمرته وعاقبته النجاة. ﴿إلى النار﴾؛ أي: إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار. ﴿أَدْعُوكُمْ﴾ أصله: أدعوكم بوزن أفعل سكنت الواو لوقوعها بعد ضَمة فصارت حرف مَدّ ﴿النجاة﴾ أصله: النجوة، بوزن فعلة كالدعوة، نقلت حركة الواو إلى الجيم، ثم قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. ﴿تَدْعُونَنِي﴾ أصله: تدعوونني، حذفت الضمة التي على الواو تخفيفًا، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعونني. ﴿مَرَدَّنَا﴾ أصله مرددنا، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء فسكنت، ثم أدغمت في الدال الثانية. ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي﴾ قال في "القاموس": فوض إليه الأمر: رده إليه. انتهى. وحقيقة التفويض: تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى كما في "عين المعاني".
﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: الذين يغلب شرهم على خيرهم. ﴿فَوَقَاهُ الله﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: وفيه، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ ومعنى عرضهم على النار: إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف: إذا قتلوا به. قال في "القاموس": عرض القوم على السيف: قتلهم، وعلى السوط: ضربهم. ﴿غُدُوًّا﴾ وزنه فعول، أصله: غدووًا، أدغمت واو فعول في واو لام الكلمة. ﴿وَعَشِيًّا﴾ لامه واو، أصله: عشيو، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنة فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء.
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ﴾ أصله: يتحاججون، سكنت الجيم الأولى وأدغمت في الثانية، والتحاج بالتشديد: التخاصم كالمحاجة. ﴿مُغْنُونَ﴾ أصله: مغنيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت النون لمناسبة الواو. ﴿تَبَعًا﴾: جمع تابع، كخدم جمع خادم، قال في "القاموس": التبع: محركة التابع يكون واحدًا وجمعًا؛ أي: أتباعًا في كل حال، خصوصًا فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب، أو مصدر وصف به. ﴿نَصِيبًا﴾ وهو الحظ المنصوب؛ أي: المعين كما في "المفردات". ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ جمع خازن، والخزن: حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل حفظ، كحفظ السر
249
ونحوه. قاله الراغب. ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾: جمع شاهد، مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء فيه مسموعًا أدي على ما سمع فهو على هذا جمع شهيد مثل شريف وأشراف. ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ والمعذرة: بمعنى العذر. ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أصله: أتيهم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ أصله: استعوذ، بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى العين فسكنت، فالتقت ساكنةً، مع الذال آخر الفعل المسكن لبناء الأمر، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. ﴿الْمُسِيءُ﴾ أصله: المسوىء، بوزن الفعل، نقلت حركة الواو إلى السين فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مد. ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والحذف، أصله: أستجوب: فعل مضارع مرفوع بالضمة، ثم وقع جوابًا للأمر فجزم بالسكون، ثم نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان فحذفت الواو، فوزنه استفل. ﴿دَاخِرِينَ﴾: اسم فاعل من دخر كمنع وفرح إذا صغر وذل. وفي "المصباح": دخر الشخص يدخر بفتحتين دخورًا: ذل وهان؛ وأدخرته بالألف لتعدية.
﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ السماء، أصله: السماو من السمو، والهمزة: مبدلة من واو لتطرفها إثر ألف زائدة، وكذلك قوله: ﴿بِنَاءً﴾: أصله: بناو؛ لأنك تقول: بنيت البنيان، أبدلت الياء همزةً لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ﴾ قال الراغب: الأفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب: المؤتفكات.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تكرير نداء قومه في قوله: ﴿يَا قَوْمِ﴾؛ مبالغة في التنبيه والتحدي وقرع العصا وإمحاض النصيحة لهم، والإيقاظ من سنة الغفلة.
ومنها: الإتيان بالواو في النداء الثالث دون الثاني، لأن النداء الثاني بمثابة بيان للأول، وتفسير له، فأعطي حكمه في عدم دخول الواو عليه، وأما الثالث:
250
فداخل على كلام ليس بتلك المثابة.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾، وبين الأعمى، والبصير في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)﴾ وفيه الاستعارة اللطيفة: استعار ﴿الْأَعْمَى﴾ للكافر ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ للمؤمن.
ومنها: المقابلة بين ﴿الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ وبين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿والمسيء﴾.
فائدة: واعلم: أن التقابل يجيء على ثلاث طرق:
إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية.
والثانية: أن يتأخر المتقابلان، كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾.
والثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠)﴾ وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم ﴿الْأَعْمَى﴾ في نفي التساوي؛ لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ كما مر اهـ "سمين".
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ لإفادة التهويل والتفظيع، لأن مقتضى السياق أن يقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ﴾ لخزنتها، والتفخيم فيه من وجهين:
أحدهما: وضع الظاهر موضع المضمر.
والثاني: ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه، لأن جهنم أفظع من النار إذ النار مطلقة وجهنم أشدها.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ لأن الايراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال، فلما تعذّر حمله على معناه هنا.. أريد به الترك مجازًا كما مر، فاستعير الإيراث للترك ثم اشتق من الإيراث بمعنى الترك، وأورثنا بمعنى تركنا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ على
251
قراءة التاء الفوقانية، لأن ما قبله وما بعده على الغيبة، وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ: هي إظهار العنف الشديد والإنكار البليغ، كما في "الكرخي" وغيره.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿ادْعُونِي﴾ لأن الدعاء مجاز عن العبادة، علاقته السببية، لأن الدعاء سبب العبادة.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ فقد أسند الإبصار إلى النهار، لأنه يبصر فيه، ولأن الإبصار في الحقيقة لأهل النار.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ فقد كان السياق يقتضي أن يقول: ولكن أكثرهم لا يشكرون، فلا يتكرر ذكر الناس، ولكن في هذا التكرار تخصيصًا لكفران النعمة بهم، وأنهم هم المتميزون بهذه الصفة المستولية على الطباع، تتوالى عليهم النعم وتترادف الآلاء، وهم مصرون على الجحود والكفران، وكان ذلك شأن الإنسان وخاصته.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾.
ومنها: التأكيد بأن واللام في قوله: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ لأن المخاطبين هنا هم الكفار وهم منكرون، وجرد في طه عن اللام حيث قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾؛ لكون المخبر ليس بشاك في الخبر كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
252
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) في الْحَمِيمِ ثُمَّ في النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا في الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما أثبت لنفسه صفات الجلال
(١) المراغي.
253
والكمال.. أمر رسوله - ﷺ - أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهي هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة لا الأحجار المنصوبة والخشب المصورة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفةً وجنينًا إلى الشيخوخة ثم الموت.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ...﴾ الآيات، وهذه الآيات عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة، وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله تعالى.. أمر هنا رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، فإن الله سبحانه سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أوعد المبطلين، وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته، بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أطال الكلام في هذه السورة في توبيخ الذين يجادلون في آيات الله طلبًا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا.. ختمها بتهديدهم، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر
254
منهم عددًا، وأشد قوةً وآثارًا في الأرض، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا العباس، تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنى لهم ذلك، هيهات هيهات فذلك لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا، سنة الله في عباده أن لا ينفع الإيمان حين حلول العذاب، وأحاط بهم، وما أحسن قول بعضهم:
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ رَدَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلاَبِ
أَسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول وعليك بدين آبائك وأجدادك، فأنزل الله سبحانه: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٦٦ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي مكة حين قالوا لك: ارجع إلى دين آبائك: ﴿إِنِّي نُهِيتُ﴾ وزجرت ومنعت، من النهي، وهو طلب الترك ﴿أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: منعت من عبادة الأصنام والأوثان التي تعبدونها من دون الله تعالى ﴿لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ﴾؛ أي: حين جاءني الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، الدالة على وحدانيته تعالى: ﴿مِنْ رَبِّي﴾ فإنها توجب التوحيد؛ أي: منعني ربي من الإشراك وقت مجيء الآيات القرآنية من ربي، وذلك (١) لأنه لا نهي ولا وجوب عند أهل السنة إلا بعد ورود الشرع، ويجوز أن يقال: كان منهيًا عن عبادتها عقلًا بحسب دلالة الشواهد على التوحيد، فأكد النهي بالشرع، ويجوز أنه نهي له - ﷺ -، والمراد: غيره. وفي قوله: ﴿مِنْ رَبِّي﴾ إشارة إلى أن دلائل التوحيد، وشواهد أنوار الحقيقة لا تطلع إلا من مطلع الهداية الأزلية، ولكن ينبغي للملتمسين أن يتوجهوا إلى ذلك الجانب بالإعراض عن السوى وترك أصنام البدع والهوى.
(١) روح البيان.
وفي "الخطيب" (١): لما أورد على المشركين تلك الأدلة، الدالة على إثبات إله العالم.. أمره بقوله: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾ إلخ؛ أي: قل لهؤلاء الذين يجادلونك في ألبعث، مقابلًا لانكارهم بالتوكيد ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾؛ أي: نهيًا عامًا ببراهين العقول، ونهيًا خاصًا بأدلة النقل، أن أعبد الذين تعبدون من دون الله حين جاءني البينات من ربي؛ أي: دلائل التوحيد العقلية والنقلية. اهـ.
وخلاصة المعنى (٢): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك من قريش وغيرهم: إني نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتني الأدلة من عند ربي، وهي آيات الكتاب الذي أنزله علي، وهي مؤيدة لأدلة العقل، ومنبهة لها، وجملة ذلك: أن الايات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.
ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله تعالى.. أردف ذلك بأنه أمر بعبادته تعالى فقال: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: أمرت بأن أنقاد أو أخلص، فالأول على أن يكون ﴿أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ من قولم: أسلم أمره إلى الله؛ أي: سلم وفوض، وذلك إنما يكون بالرضا والانقياد لحكمه، والثاني مفعول ﴿أُسْلِمَ﴾ محذوفًا؛ أي: أمرت أن أسلم أمري أو أخلص توحيدي وطاعتي له. اهـ "زاده"؛ أي: أمرت بالانقياد والخضوع أو بالإخلاص له.
قال في "برهان القرآن": مدح سبحانه نفسه وختم ثلاث آيات على التوالي بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وليس له في القرآن نظير.
٦٧ - ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ...﴾ وعبارة زاده هنا: لما استدل على ثبوت الإله ووجوده بأربع من دلائل الآفاق، وهي الليل والنهار، والأرض والسماء، وبثلاث من دلائل الأنفس، وهي التصوير وحسن الصورة، ورزق الطيبات.. ذكر من دلائل الأنفس كيفية تكون البدن من ابتداء كونه نطفة إلى آخر الشيخوخة والموت، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ الخ. انتهى.
أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي خلقكم وأوجدكم يا بني آدم ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾؛
(١) الخطيب.
(٢) المراغي.
256
أي: في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب؛ أي: خلق أباكم الأول - وهو آدم - من تراب وخلقه من تراب، يستلزم خلق ذريته منه. ﴿ثُمَّ﴾ خلقكم خلقًا تفصيليًا ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾؛ أي: من منى، قال الراغب: النطفة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل؛ أي: ماء الصلب يوضع في الرحم. كما قال ابن سينا:
لَا تُكْثِرَنَّ مِنَ الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ مَاءُ الحَيَاةِ يُصَبُّ فِيْ الأَرْحَامِ
والمعنى: خلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلقكم من نطفة نسلًا بعد نسل، أو خلق كل واحد منكم من التراب، بمعنى أن كل إنسان مخلوق من المني، وهو من الدم، وهو من الأغذية الحيوانية والنباتية، والحيوانية لا بد أن تنتهي إلى النباتية، وإلا لزم أن يتسلسل الحيوانيات إلى غير النهاية، والنبات إنما يتولد من الماء والتراب، أو خلق قالبكم في بدء أمركم من الذرة الترابية، التي استخرجها من صلب آدم، ثم أودعها في قطرة نطفة بنيه.
﴿ثُمَّ﴾ خلقكم ﴿مِنْ عَلَقَةٍ﴾ وهي الدم الجامد، لأن المني يصير على هذا الشكل بعد أربعين يومًا في بطن الأم. ﴿ثُمَّ﴾ خلقكم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾ من بطون أمهاتكم حالة كونكم ﴿طِفْلًا﴾؛ أي: أطفالًا صغارًا، حال من الكاف في ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾ ولما كانت الحال مفردة، وصاحبها جمعًا، وهذا لا يسوغ.. أولناها بالجمع ليحصل التطابق، وأفرده هنا؛ لكونه اسم جنس وضع موضع الجمع؛ أي: الأطفال، أو المعنى: ثم يخرج كل واحد منكم من رحم الأم حال كونه طفلًا، لتكبروا شيئًا فشيئًا. ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾؛ أي: كمالكم في القوة والعقل، قال في "القاموس": الأشد واحد، جاء علي بناء الجمع بمعنى القوة، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وفي "كشف الأسرار": يقال: إذا بلغ الإنسان إحدى وعشرين سنة.. دخل في الأشد، وذلك حين اشتد عظامه، وقويت أعضاؤه ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾؛ أي: تصيروا إلى حالة الشيخوخة، والشيخ: يقال لمن طعن في السنن، واستبانت فيه، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، أو إلى ثمانين. كما في "القاموس".
قال في "كشف الأسرار" يقال: إذا ظهر البياض بالإنسان.. فقد شاب. وإذا دخل في الهرم.. فقد شاخ. قال الشاعر:
257
وَمَنْ عَاشَ شَبَّ وَمَنْ شَبَّ شَابَ وَمَنْ شَابَ شَاخَ وَمَنْ شَاخَ مَاتَ
روي: أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، قد شبت فقال: "شيبتني هود وأخواتها"؛ يعني: سورة هود، وكان الشيب برسول الله - ﷺ - قليلًا، يقال: كان شاب منه إحدى وعشرون شعرةً بيضاء، ويقال: سبع عشرة شعرة. قال أنس: لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء، وقال بعض الصحابة: ما شاب رسول الله - ﷺ -، وسئل آخر منهم، فأشار إلى عنفقته؛ يعني كان البياض في عنفقته؛ أي: في شعيرات بين الشفة السفلى والذقن، وإنما اختلفوا لقلتها، يقال: كان إذا ادهن خفي شيبة.
والحاصل (١): أن ﴿اللام﴾ التعليلية في ﴿لِتَبْلُغُوا﴾: معطوفة على علة أخرى ليخرجكم مناسبة لها، والتقدير: لتكبروا شيئًا فشيئًا، ثم لتبلغوا غاية الكمال، وقوله ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ معطوف على ﴿لِتَبْلُغُوا﴾.
وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام: ﴿شُيُوخًا﴾ بضم الشين، وقرأ الباقون: بكسرها، وقرىء: ﴿شيخًا﴾ بالإفراد لقوله: طفلًا.
يعني: أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث: الطفولية وهي حالة النمو، والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف، ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيخوخة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾؛ أي: يقبض روحه ويموت ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضًا، وقوله: ﴿وَلِتَبْلُغُوا﴾: متعلق (٢) بفعل مقدر بعده؛ أي: ولتبلغوا جميعًا ﴿أَجَلًا مُسَمًّى﴾؛ أي: وقتًا محدودًا معينًا لا تتجاوزونه هو وقت الموت، أو يوم القيامة يفعل ذلك؛ أي: ما ذكر من خلقكم من تراب وما بعده من الأطوار المختلفة، ولكون المعنى على هذا لم يعطف على ما قبله من ﴿لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ و ﴿لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾، وإنما قلنا: أو يوم القيامة؛ لأن الآية تحتوي على جميع مراتب الإنسان، من مبدأ فطرته إلى منتهى أمره، فجاز أن يراد أيضًا يوم الجزاء؛ لأنه المقصد الأقصى، وإليه كمِّيَّةُ الأحوال ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾؛ أي: ولكي تعقلوا ما في ذلك الانتقال من طور، إلى طور من فنون
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
258
الحكم والعبر، وتستدلوا به على وجود خالق القوى والقدر؛ أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم، وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة.
ومعنى الآية (١): أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المني، والمني مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهي إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء، ثم ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً إلى مراتب كثيرة، حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.
وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب:
١ - الطفولة.
٢ - بلوغ الأشد.
٣ - الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة، وهو يفعل ذلك ويبقيكم لتبلغوا الأجل المسمى، وهو يوم القيامة، وتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
٦٨ - وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر، استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُحْيِي﴾ الأموات كما في الأرحام وعند البعث ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء كما عند انقضاء الأجل وفي القبر بعد السؤال، وأيضًا يحيي القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه، ويميت القلوب بنار قهره، فإذا حيي القلب.. مات النفس، وإذا مات القلب.. حيي النفس ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾؛ أي: فإذا قدر شيئًا من الأشياء، وأراد كونه وحصوله.. ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ﴾ سبحانه ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك الأمر ﴿كُنْ﴾؛ أي: أحدث ﴿فَيَكُونُ﴾ ذلك الأمر؛ أي: فهو يحدث ويوجد من غير توقف على شيء من الأشياء أصلًا.
وهذا تمثيل (٢) لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور حقيقةً، وذهب بعضهم إلى أنه حقيقة، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة، فيقول
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو مركب من الأصواب والحروف: ﴿كن﴾؛ أي: احدث، فيكون؛ أي: فيحدث.
ومعنى الآية (١): أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء، وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها.. فإنما يقول له: كن فيكون، بلا معاناةٍ ولا كلفةٍ.
٦٩ - ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد أو أيها المخاطب ﴿إِلَى﴾ حال ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ ويخاصمون ﴿فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: في إبطالها ودفعها ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾؛ أي: كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها؟
أي: انظر يا محمد إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة، الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها، وتعجب من أحوالهم الشنيعة، وآرائهم الركيكة، كيف يصرفون عن تلك الآيات القرآنية، والتصديق بها إلى تكذيبها، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها بالإيمان وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وتكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع من هذه السورة (٢): إما لتعدد المجادل بأن يكون في أقوام مختلفة، أو المجادل فيه بأن يكون في آيات مختلفة أو للتأكيد.
وعبارة أبي السعود قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ...﴾ إلخ، تعجيب من أحوالهم الشنيعة، وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ...﴾ الخ: بيان لابتناء جدالهم على معنى فاسد، لا يكاد يدخل تحت الوجود، فلا تكرار فيه.
والخلاصة: أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة، الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها، كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها، وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.
٧٠ - ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾؛ أي: بكل القرآن. وعبارة "السمين" هنا: يجوز في الموصول أوجه من الإعراب؛ إما أن يكون بدلًا من الموصول قبله، أو بيانًا له، أو نعتًا أو خبرًا لمبتدأ محذوف، أو منصوبًا على الذم، وعلى هذه الأوجه فقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾: جملة مستأنفة سيقت للتمهيد، ويجوز (١) أن يكون مبتدأ، والخبر: الجملة من قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾، ودخول ﴿الفاء﴾ فيه: واضح اهـ.
قال في "الإرشاد": إنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة؛ لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها. اهـ.
﴿وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ من سائر الكتب؛ أي: هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الالهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات، ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وكته جدالهم، وتكذيبهم عند مشاهدتهم لعقوباته، وهي جملة مستأنفة مسوقة للتهديد،
٧١ - والظرف (٢) في قوله: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وقت كون الأغلال في أعناقهم.
فإن قلت (٣): إن ﴿إِذِ﴾ ظرف للزمن الماضي، و ﴿يَعْلَمُونَ﴾ مستقبل لفظًا ومعنًى، فهو مثل قولك: سوف أصوم أمس، فهو لا يجوز؟.
قلت: إن وقت العلم مستقبل تحقيقًا، وماضٍ تنزيلًا وتأويلًا؛ لأن ما سيعلمونه يوم القيامة، فكأنهم علوه في الزمن الماضي، لتحقق وقوعه ﴿فَسَوْفَ﴾ بالنظر إلى الاستقبال التحقيقي، و ﴿إذ﴾ بالنظر إلى المضي التأويلي، و ﴿الْأَغْلَالُ﴾: جمع غل بالضم، وهو: ما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه كما سيأتي؛ يعني: تغل
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
أيديهم إلى أعناقهم مضمومةً إليها ﴿وَالسَّلَاسِلُ﴾ معطوف على ﴿الْأَغْلَالُ﴾، والجار: في نية التأخير، والتقدير: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وهو جمع سلسلة بالكسر، وذلك لأن السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، ولما كان في السلسلة بالكسر إيصال بعض الخلق بالبعض.. سميت بها.
٧٢ - وجملة قوله: ﴿يُسْحَبُونَ﴾ ﴿فِي الْحَمِيمِ﴾: حال من فاعل ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أو من ضمير ﴿أَعْنَاقِهِمْ﴾؛ أي: سوف يعلمون عاقبة وبالهم حال كونهم مسحوبين؛ أي: مجرورين، تجرّهم على وجوههم خزنة جهنم بالسلاسل إلى الحميم؛ أي: إلى الماء المسخن بنار جهنم، ولا يكون إلا شديد الحرارة جدًّا، لأن ما سخن بنار الدنيا التي هي جزء واحد من سبعين جزءًا من نار جهنم، إذا كان لا يطاق حرارته.. فكيف ما يسخن بنار جهنم، وفي كلمة ﴿فِي﴾ إشعار بإحاطة حرارة الماء لجميع جوانبهم، كالظرف للمظروف، حتى كأنهم في عين الحميم ويسحبون فيها، والظاهر أن معنى ﴿يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ﴾؛ أي: يجرون إلى النار على وجوههم.
ويجوز (١) أن يرتفع ﴿السلاسل﴾ على أنه مبتدأ، وخبره: محذوف لدلالة ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ عليه، ويجوز أن يكون الخبر ﴿يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ﴾ بحذف العائد؛ أي: يسحبون بها في الحميم، وعلى هذا قراءة الجمهور برفع ﴿السلاسل﴾، وقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وعكرمة وزيد بن علي وأبو الجوزاء: ﴿والسلاسل﴾ بالنصب (٢) على المفعول، وقرؤوا ﴿يسحبون﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل، فيكون ﴿السلاسل﴾ مفعولًا مقدمًا، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية، وقرأ فرقة منهم ابن عباس ﴿والسلاسل﴾ بجر اللام، قال ابن عطية: على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، وقال الزجاج: المعنى على هذه القراءة وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل ﴿يُسْحَبُونَ﴾ على تقدير عطف ﴿السلاسل﴾ على ﴿الْأَغْلَالُ﴾ وعلى تقدير كونها مبتدأ، وخبرها: ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
﴿ثُمَّ﴾ بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم ﴿فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾؛ أي: يحرقون بالنار، وهي محيطة بهم، من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود، ومن كانوا في النار وكانت هي محيطة بهم، وصارت أجوافهم مملوءة بها، لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون، والمراد: بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب، وينقلون من لون إلى لون.
حكي: أنه توفيت النوارة - امرأة الفرزدق - فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة، وخرج فيها الحسن البصري، فقال الحسن للفرزدق: يا أبا فراس، ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت.. قام الفرزدق على قبرها وأنشد هذه الأبيات:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِيْ أَشَدَّ مِنَ القَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ عَنِيْفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوْقُ فَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا
ومعنى الآية: أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به، وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار، ونحو الآية قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)﴾ وقوله: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)﴾.
٧٣ - ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فقال: ﴿ثُمَّ﴾؛ أي: بعد الإحراق ﴿قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ﴿أَيْنَ مَا﴾؛ أي: أين الشركاء الذين ﴿كُنْتُمْ﴾ في الدنيا على الاستمرار ﴿تعبدون﴾ هم
٧٤ - ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ رجاء شفاعتهم ادعوهم ليشفعوا لكم ويعينوكم، وهو نوع آخر من تعذيبهم ﴿قَالُوا﴾؛ أي: يقولون: ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾؛ أي: الشركاء؛ أي: غابوا ﴿عَنَّا﴾؛ أي: عن أعيننا، وإن كانوا قائمين؛ أي: غيرها لكين، من قول العرب: ضل المسجد والدار؛ أي: لم
263
يعرف موضعهما، وذلك (١) قبل أن يقرن بهم آلهتهم، فإن النار فيها أمكنة متعددة، وطبقات مختلفة، فلا مخالفة بينه وبين قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، على أن يكون ﴿ضل﴾ بمعنى ضاع وهلك، تنزيلًا لوجودهم منزلة الضيفاع والهلاك، لفقدهم النفع الذي يتوقعونه منهم، وإن كانوا مع المشركين في جميع الأوقات.
ثم أضربوا عن ذلك، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم، فقالوا: ﴿بَل﴾ تبين لنا أنا ﴿لَمْ نَكُنْ نَدْعُو﴾ ونعبد ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: في الدنيا بعبادتهم ﴿شَيْئًا﴾ ينفع لما ظهر لنا اليوم، أنهم لم يكونوا شيئًا يعتد به، كقولك: حسبته شيئًا فلم يكن؛ أي (٢): بل لم نكن نعبد من قبل هذا البعث شيئًا يضر وينفع، ويبصر ويسمع، وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلةً، قالوا ذلك: لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا ينفع ولا يضر. وليس هذا إنكار لوجود عبادتهم لها، بل اعتراف ببطلانها وعدم نفعها لم، أو المعنى: بل لم نكن نعبد من قبل هذا اليوم شيئًا من دون الله أصلًا، فيكون إنكارًا لعبادة الأصنام ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي (٣): مثل ضلال آلهتهم عنهم ﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الالهة أو طلبتهم الالهة.. لم يتصادفوا، وهذا بالنظر إلى التفسير الأول في قوله: ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾؛ أي: غابوا عن أعيننا، أو كما أضل الله هؤلاء المجادلين حيث لم يهتدوا في الدنيا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، من العقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة، يضل الله سائر الكافرين، الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين، وهذا بالنظر إلى التفسير الثاني في ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾، ومعنى إضلال الله سبحانه عبده: هو عدم عصمته إياه مما نهاه عنه، وعدم معونته وإمداده بما يتمكن به من الإتيان بما أمره به، أو الانتهاء عما نهاه عنه، كما في "تفسير الفاتحة" للشيخ صدر الدين القنوي - رحمه الله -.
والمعنى (٤): أي ثم يسألون، ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتهم تعبدونها من
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) النسفي.
(٤) المراغي.
264
دون الله، ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا، وأخذوا طريقًا غير طريقنا، وتركونا في البلاء، لا بل الحق أننا ما كنا ندعو في الدنيا شيئًا يعتد به، وهذا كما تقول: حسبت أن فلانًا شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرًا.
والخلاصة: أنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة عاطلة ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: كما أضل الله تعالى هؤلاء المجادلين، وأبطل كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر، فلا ينتفعون بشيء منها.
٧٥ - ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب، فقال: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الإضلال أيا الكفار، والالتفات؛ للمبالغة في التوبيخ، أو ذلكم العذاب الذي نزل بكم وهو العذاب المذكور بقوله: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ﴾، قال ابن الشيخ: ولا يخلو عن بعد. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: سببية؛ أي: بسبب ما ﴿كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ﴾ وتبطرون وتتكبرون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في الدنيا ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وهو الشرك والطغيان، و ﴿الباء﴾: صلة الفرح؛ أي: تفرحون فرحًا بغير الحق، وهو الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله وكتبه، أو الفرح بالمال والأتباع والصحة ﴿وبـ﴾ سبب ﴿مَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ وتختالون وتتوسعون في العدوان. وفي "المفردات": الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، ولم يرخص إلا في الفرح بفضل الله ورحمته وبنصر الله، والمرح بفضل الله ورحمته وبنصر الله، والمرح: شدة الفرح والنشاط والتوسع فيه. كما سيأتي. والمعنى (١): أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب بسبب فرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتّعكم باللّذّات
٧٦ - ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾ السبعة المقسومة لكم، كما قال تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)﴾ حال كونكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في جهنم؛ أي: مقدّرين الخلود فيها أبدًا ﴿فَبِئْسَ﴾ وقبح ﴿مَثْوَى﴾؛ أي: مقرّ ومنزل ﴿الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن قبول الحق، والمخصوص بالذم: جهنم؛ أي: فحينئذ يقال ﴿بِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ على الله في الدنيا، من أن يوحدوه ويؤمنوا برسله.
(١) المراغي.
وكان (١) مقتضى النظم القرآني أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، ليناسب عجز الكلام صدره كما يقال: زر بيت الله فنعم المزار، فصلّ في المسجد الحرام فنعم المصلى، لكن لما كان الدخول المقصود بالخلود سبب الثواء؛ أي: الإقامة.. عبّر بالمثوى الذي هو محل الإقامة، فاتحد آخر الكلام بأوله.
وفي الآية: ذمّ الكبر، فلا بدّ من علاجه بضدّه وهو التواضع، وعن بعض الحكماء افتخر الكلأ في المفازة على الشجر، فقال: أنا خير منك، يرعاني البهائم التي لا تعصي الله طرفة عين، فقال الشجر: أنا خير منك، يخرج منّي الثمار ويأكلها المؤمنون، وتواضع القصب، قال: لا خير فيّ، لا أصلح للمؤمنين ولا للبهائم، فلما تواضع رفعه الله، وخلق فيه السكّر الذي هو أحلى شيء، فلما نظر إلى ما وضع الله فيه من الحلاوة وتكبّر، فأخرج الله منه رأس القصب، حتى اتخذ منه الآدميون المكنسات، فكنسوا بها القاذورات، فهذا حال كبر غير المكلف، فكيف حال المكلف؟
٧٧ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - بالصبر، فقال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد على أذيّة قومك لك، بسبب تلك المجادلات وغيرها، إلى أن يلاقوا ما وعدت لهم من العذاب ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: إنّ وعده بتعذيبهم والانتقام منهم ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: ثابت كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾؛ أي: فإن نرك، و ﴿مَا﴾: مزيدة لتأكيد الشرطية، ولذا لحقت النون الفعل، ولا تلحقه مع إن وحدها، فلا تقول: إن تكرمني.. أكرمك بنون التأكيد، بل إما تكرمني.. أكرمك؛ أي: فإن نرك يا محمد في الدنيا ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب بالقتل والأسر والقهر، وجوابه: محذوف؛ أي: فذاك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل أن تراه؛ أي: أو نُمتْكَ قبل إنزال العذاب بهم ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ وهو جواب ﴿نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾؛ أي: يردون إلينا يوم القيامة لا إلى غيرنا لنجازيهم بأعمالهم.
ومعنى الآية (٢): أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلها عليك، وعلى تكذيبهم إيّاك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك، من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الآخرة، كما قال: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ إلخ؛ أي: فإما نرينك في حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة، كالقتل والأسر يوم بدر، فذاك ما يستحقّونه، أو نتوفّينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، وننتقم منهم أشدّ الانتقام، وناخذهم أخذ عزيز مقتدر، ونحو الآية قوله: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُرْجَعُونَ﴾ بياء الغيبة مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب: بفتح الياء، وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب.
٧٨ - ثم ردّ سبحانه وتعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ روي إن الذين كانوا يجادلون في آيات الله تعالى، اقترحوا معجزات زائدة على ما أظهره الله على يده - ﷺ -، من تفجير العيون، وإظهار البساتين، وصعود السموات ونحوها، مع كون ما أظهره من المعجزات كافية في الدلالة على صدقه، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا ﴿رُسُلًا﴾ ذوي عدد كثير إلى قومهم ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: من قبل بعثتك يا محمد، أو من قبل زمانك ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أولئك الرسل، خبر مقدم ﴿مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: صفة ﴿رُسُلًا﴾ من قصّ عليه إذا بيّن، وأخبر؛ أي: من بيّناهم وأخبرناهم وسميناهم لك في القرآن، فأنت تعرفهم؛ أي: أنبأناك بأخبارهم، وما لقوه من قومهم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾؛ أي: لم نسمّهم، ولم نخبرك خبرهم، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين قومهم.
وعن علي وابن عباس: أن الله بعث نبيًا أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص على محمد - ﷺ -، أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه. قال بعضهم: لعل معناه: أن الله بعث نبيًا أسود إلى السودان، فلا يخالف ما ورد من أنّ الله تعالى ما بعث نبيًا إلا حسن الاسم، حسن الصورة حسن الصوت، وذلك لأنَّ في كل جنس حسنًا بالنسبة إلى جنسه. انتهى.
(١) البحر المحيط.
267
والحاصل (١): أنّ المذكور قصصهم من الأنبياء أفراد معدودة، وقد قيل: عدد الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألفًا، قال في "شرح المقاصد": روى أحمد في "مسنده" عن أبي ذرّ الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: قلت لرسول الله - ﷺ -: كم عدد الأنبياء؟ فقال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" فقلت: فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلاث مئة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا" وفي رواية مئتا ألف وأربعة وعشرون ألفًا، كما في "شرح العقائد" للتفتازاني. قال ابن أبي شريف: لم أر هذه الرواية.
لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر على عددهم؛ لأنّ خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط، لا يفيد إلا الظن، ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقادات، وهاهنا حصر عددهم يخالف ظاهر قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا﴾ إلخ. ويحتمل أيضًا مخالفة الواقع، وإثبات من ليس بنبي إن كان عددهم في الواقع أقلّ مما ذكر، ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر، فالأولى عدم التنصيص على عدد.
والمذكور في القرآن باسم العلم على ما ذكر بعض المفسرين: ثمانية وعشرون، وهم: آدم ونوح وإدريس وصالح وهود وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويوسف ولوط ويعقوب وموسى وهارون وشعيب وزكريا ويحيى وعيسى وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وأيوب ويونس ومحمد وذو القرنين وعزيز ولقمان على القول بنبوة هذه الثلاثة الأخيرة، وفي "الأمالي":
وَذُوْ القَرْنَينِ لَم يُعْرَفْ نَبِيًّا كَذَا لُقْمَانُ فَاحْذَرْ عَنْ جِدَالِ
وذلك لأنّ ظاهر الأدلّة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى، وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما، كتبع، فإنه عليه السلام قال: "لا أدري أهو نبي أم ملك" وكالخضر، فإنه قيل: نبي، وقيل: ولي، وقيل: رسول، فلا ينبغي لأحد أن يقطع بنفي أو إثبات، فإن اعتقاد نبوّة من ليس بنبي كفر، كاعتقاد نفي نبوة نبي من الأنبياء، يعني إذا كان متفقًا على نبوته أو عدم نبوته، وأما إذا كان فيه خلاف.. فلا يكفر؛ لأنه كالدليل الظنّي، والكفر في القطعيّ.
(١) روح البيان.
268
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ لاستغنائك عن ذلك، تخفيفًا لك عمَّا لا يعنيك، وهذا أمارة كمال العناية فيما قصّ عليه، وفيما لم يقصص عليه.
والمعنى: أي ولقد أرسلنا رسلًا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن، وبما لاقوه من قومهم، وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ﴾، أي: وما صحّ وما استقام لرسول منهم ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ﴾ ومعجزة تقترح عليه ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وإرادته، لا من قبل نفسه فإن المعجزات تشعب فنونها عطايا من الله تعالى، قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنيّة على الحكم البالغة، كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها، ولا استبداد بإتيان المقترح بها، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ -، كأنه قيل: ما من رسول من قبلك سواء كان مذكورًا أو غير مذكور، أعطاه الله آيات ومعجزات إلا جادله قومه فيها، وكذّبوه عنادًا وعبثًا، فصبروا وظفروا، فاصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ سبحانه بالعذاب في الدنيا والآخرة.. ﴿قُضِيَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: حكم بين الرسل ومكذّبيهم بإنجاء المحق، وإهلاك المبطل وتعذيبه ﴿وَخَسِرَ﴾؛ أي: هلك أو تحقّق، وتبيّن أنه خسر ﴿هُنَالِكَ﴾؛ أي: وقت مجيء أمر الله تعالى، وهو اسم مكان استعير للزمان ﴿الْمُبْطِلُونَ﴾ المتمسّكون بالباطل على الإطلاق، فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولًا أوليًا، جمع مبطل، والمبطل: صاحب الباطل والمتمسك به العامل له، كما أن المحق صاحب الحق والعامل به، والباطل؛ ضد الحق.
ولم يقل هنا (١): وخسر هنالك الكافرون، لما سبق من نقيض الباطل الذي هو الحق. كما في "برهان القرآن". وفي الآية إشارة إلى أنه يجب الرجوع إلى الله قبل أن يجيء أمرُه وقضاؤه بالموت والعذاب، فإنه ليس بعده إلا الأحزان.
وحاصل المعنى (٢): أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذّبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك، فصبر على ما أوذي، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل التعنّت والعناد، لا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
269
للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوّتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحًا ولا جرم، لم يجابوا إلى ما طلبوا لأنَّ المصلحة في عدم إجابتهم إليه، فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين.. قضي بالعدل، فنجّي رسله والذين امنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته، وزعموا أن له شريكًا.
٧٩ - ثمّ امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ الذي يستحق منكم العبادة هو ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وخلق ﴿لَـ﴾ أجلـ ﴿كُمْ﴾ ومصلحتكم ﴿الْأَنْعَامَ﴾؛ أي: الإبل، جمع نعم بفتحتين، وهو في الأصل الماشية الراعية، والكثير استعماله في الإبل، وقيل: الأنعام: الأزواج الثمانية. كما سيأتي عن بعضهم ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿من﴾: لابتداء الغاية، ومعناها: ابتداء الركوب، والأكل منها؛ أي: تعلقهما بها أو للتبعيض؛ أي: لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها، لا أن كلًّا من الركوب والأكل مختص ببعض معيّن منها، بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر، بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما، وهذا أولى.
وتغيير (١) النظم في الجملة الثانية؛ لمراعاة الفواصل مع الإشعار بأصالة الركوب؛ لأنّ الغرض إنما يكون في المنافع، والركوب: متعلق بالمنفعة؛ لأنه إتلاف المنفعة، بخلاف الأكل، فإنه متعلق بالعين، لأنه إتلاف العين، ولا يقدح في ذلك كون الأكل أيضًا من المنافع، ولهذا جاء ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾.
٨٠ - ﴿وَلَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في الأنعام أيضًا ﴿مَنَافِعُ﴾ أخرى غير الركوب والأكل، كألبانها وأوبارها وجلودها، أو كالصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك، وقوله: ﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا﴾، و ﴿حَاجَةً﴾: مفعول ﴿لِتَبْلُغُوا﴾؛ أي: ولتقضوا بها حاجة في قلوبكم، يحمل أثقالكم عليها من بلد إلى بلد ﴿وَعَلَيْهَا﴾؛ أي: على الإبل في البر ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾؛ أي: السفن في البحر ﴿تُحْمَلُونَ﴾ نظيره ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾.
(١) روح البيان.
قال في "الإرشاد": لعل المراد به (١) حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب، والجمع بينها وبين الفلك؛ لما بينهما من المناسبة التامة، حتى سمّيت سفائن البر؛ وإنما قال: ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾، ولم يقل: في الفلك، كما قال ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا﴾ للمزاوجة؛ أي: ليزاوج ويطابق قوله: ﴿وَعَلَيْهَا﴾ فإن محمولات الأنعام مستعلية عليها، فذكرت كلمة الاستعلاء في الفلك أيضًا للمشاكلة. انتهى.
وفي "المدارك": الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له، يستعليها، فلما صحّ المعنيان. صحت العبارتان. انتهى.
وقال بعض المفسرين: المراد (٢) بالأنعام في هذا المقام: الأزواج الثمانية. كما ذكرناه أولًا: وهي الإبل والبقر والضان والمعز باعتبار ذكورتها وأنوثتها. فمعنى الركوب والأكل منها: تعلقهما بالكل، لكن لا على أنّ كلًّا منهما يجوز تعلقه بكل منها، ولا على أنّ كلًّا منهما مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر، بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم، وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل والبقر، والمنافع تعمُّ الكل، وبلوغ الحاجة عليها يعمّ البقر. انتهى.
٨١ - ثمّ ذكر أنّ هناك آيات من آياته الباهرة، التي لا مجال لإنكارها، فقال: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: يبين لكم سبحانه دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ فإن كلًّا منها من الظهور بحيث لا يكاد يتجرأُ على إنكارها من له عقل في الجملة؛ أي: فإنها كلها من الظهور وعدم الخفاء، بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم.
والمعنى (٣): أَيْ أَيَّ آيَةٍ من تلك الآيات تنكرون، فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار، وإضافة (٤) الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة، وتهويل إنكارها كما سيأتي.
فإن قلت: كان الظاهر أن يقال: فأية آيات الله بتاء التأنيث، لكون ﴿أيّ﴾
(١) أبو السعود.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
(٤) روح البيان.
عبارةً عن المؤنث لإضافته إليها..
قلت: تذكير ﴿أيّ﴾ هو الشائع المستفيض، والتأنيث قليل؛ لأنّ التفرقة بين المذكّر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة، وإنسان وإنسانة غريب، وهو في أيّ أغرب لإبهامه، فإن قصد التمييز والتفرقة ينافي الإبهام، وهذا في غير النداء، فإن اللغة الفصيحة الشانعة أن تؤنث أيّ الواقعة في نداء المؤنث، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)﴾ ولم يسمع أن يقال: يا أيها المرأة بالتذكير، ومن قلة تأنيث أيّ قوله:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبِ
واعلم: أنّ جميع أجزاء العالم آيات بينات، وحجج واضحات، ترشدك إلى وحدانية الله تعالى وكمال قدرته.
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
لكن هداية الله تعالى إلى جهة الإرشاد، وكيفيته أصل الأصول.
والمعنى (١): أي إنّ له تعالى آيات يراها خلقه عيانًا، ويشاهدونها متجدّدةً كل يوم، وفي كل آن فأيًا منها تنكرون، وبأيها تعترفون، وهي ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.
وقصارى ذلك: أنكم لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا.
٨٢ - و ﴿الهمزة﴾ (٢) في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على مقدر يقتضيه السياق؛ أي: أقعد قومك قريش في منازلهم فلم يسيروا ولم يسافروا ﴿فِي﴾ نواحي ﴿الْأَرْضِ﴾ وأرجائها ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم المهلكة فيعتبروا بهم؛ يعني: أنهم قد ساروا في أطراف الأرض، وسافروا إلى جانب الشام واليمن، وشاهدوا مصارع المكذبين من الأمم السالفة، وآثارهم، فليحذروا من مثل عذابهم، فلا يكذّبوك يا محمد، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة، وما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
صاروا إليه من سوء العاقبة.
ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة، فقال: ﴿كَانُوا﴾؛ أي: تلك الأمم ﴿أَكْثَرَ﴾ عددًا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من قومك ﴿قُوَّةً﴾ في الأبدان والعدد ﴿وَآثَارًا﴾ باقية بعدهم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ من الأبنية والقصور والمصانع وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيه ماء المطر، ويقال له: الصهريج وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار فيها؛ أي: كانوا أكثر منهم عددًا، وأقوى منهم أجسادًا، وأوسع منهم أموالًا، وأظهر منهم آثارًا في الأرض بالعمائر والمصانع والحرث ﴿فَمَا أَغْنَى﴾ ودفع ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن تلك الأمم المهلكة ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد شيئًا من عذاب الله تعالى حين جاءهم؛ فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخبيبة والخسار.. فكيف هؤلاء الفقراء المساكين، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ الأولى استقهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم، أو نافية؛ أي: لم يغن عنهم، و ﴿مَا﴾ الثانية: يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية، وهذه ﴿الفاء﴾؛ أعني: قوله: ﴿فَمَا أَغْنَى﴾ لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، وما كانوا يكسبون بذلك، زعمًا منهم أنَّ ذلك يغني عنهم، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب، كما في قولك: وعظته فلم يتعظ؛ أي: لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ، مع أنه عكس المتوقع.
وحاصل معنى الآية (١): أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى ما حلّ بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددًا، وأشد بطشًا، وأقوى جندًا، وأبقى في الأرض أثرًا؛ لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهرامًا ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلّت بهم نقمتنا.. لم يغن ذلك عنهم شيئًا، ولا ردّ عنهم العذاب الذي حل بهم.
٨٣ - و ﴿الفاء﴾ في قوله (٢): ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
273
والدلالات الواضحة تفسيرية وتفصيلية لما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، إذ التفسير يعقب المفسّر، وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾؛ أي: أظهروا الفرح بذلك، واستحقروا علم الرسل، والمراد بعلمهم: ما لهم من العقائد الزائفة، والشبه الباطلة، كما قالوا: لا نبعث ولا نعذّب، وما أظنّ الساعة قائمة ونحو ذلك، وتسميتها علمًا مع أنّ الاعتقاد الغير المطابق للواقع حقّه أن يسمّى جهلًا؛ للتهكُّم بهم، فهي علم على زعمهم لا في الحقيقية، أو المراد: علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)﴾.
فلما (١) جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، والإعراض عن الملاذّ والشهوات.. لم يلتفتوا إليها، وصغّروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به، أو المراد: علم الفلاسفة والدهريين، وهو علم الطبائع والتنجيم، فإن الحكماء كانوا إذا سمعوا بوحي الله.. دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم، ويكتفون بما يكسبونه بنظر العقل، ويقولون: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا، كما قال سقراط لما ظهر موسى عليه السلام: نحن قوم مهذّبون، لا حاجة بنا إلى من يهذّبنا، وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم؛ لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة، فكناه النبيّ - ﷺ - بأبي جهل، لأنه لو كان له علم حقيقة.. لآمن بالرسول عليه السلام، وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنه لما كذّبهم قومهم.. أعلمهم الله تعالى بأنه مهلك الكافرين، ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه، واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين به مرحين، ويدل عليه قوله: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾؛ أي: نزل بالكفار وأصحابهم ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: وبال استهزائهم بالأنبياء، واستحقارهم لعلومهم، وما أخبروا به من العذاب ونحوه، فلم يعجزوا الله في مراده منهم.
والمعنى (٢): أي فلما جاء هذه الأمم المكذّبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
274
الواضحة، والبراهين الظاهرة.. فرحوا بما عندهم من شبهات ظنّوها علمًا نافعًا، كقولهم: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾، وقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾، وقولهم: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاءً وسخريةً.
٨٤ - ثمّ ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا﴾؛ أي: فلما رأت الأمم السالفة المكذبة، وعاينوا ﴿بَأْسَنَا﴾؛ أي: شدّة عذابنا في الدنيا، ووقعوا في مذلة الخيبة، ومنه قوله تعالى: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾؛ أي: شديد.. ﴿قَالُوا﴾ مضطزين ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ لا شريك له ﴿وَكَفَرْنَا﴾؛ أي: حجدنا ﴿بِمَا كُنَّا بِهِ﴾؛ أي: بسبب الإيمان به يعنون الأصنام التي يعبدونها، وهذه ﴿الفاء﴾: (١) لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعًا لما قبلها، واقعًا عقيبه؛ لأن مضمون قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ﴾ إلخ. هو أنهم كفروا، فصار مجموع الكلام بمنزلة أن يقال: فكفروا ثم لما رأوا باسنا.. آمنوا.
أي (٢): فلما عاينوا عذابنا النازل بهم.. قالوا: آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدي فتيلًا ولا قطميرًا.
ثم بيّن أن ذلك لا يفيدهم شيئًا، فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئًا.
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ والْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ
٨٥ - فقال سبحانه: ﴿فَلَوْ يَكُ﴾ أصله يكن حذفت النون لكثرة استعماله ﴿يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ﴾؛ أي: تصديقهم بالوحدانية اضطرارًا، وقوله: ﴿إيمانهم﴾: يجوز (٣) أن يكون اسم ﴿كان﴾ و ﴿يَنْفَعُهُمْ﴾: خبره مقدما عليه، وأن يكون فاعل ﴿يَنْفَعُهُمْ﴾ واسم ﴿كان﴾: ضمير الشأن المستتر فيه ﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾؛ أي: حين رؤيتهم شدة عذابنا، والوقوع فيه لامتناع قبوله حينئذٍ امتناعًا عاديًا، كما يدل عليه قوله: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ...﴾ إلخ.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
275
فامتنع القبول؛ لأنهم لم يأتوا به في الوقت المأمور به، لذلك قيل: ﴿فَلَمْ يَكُ﴾ بمعنى: لم يصحّ ولم يستقم، فإنه أبلغ في نفي النفع من لم ينفعهم إيمانهم، وهذه الفاء: للعطف على ﴿آمَنُوا﴾ كأنه قيل: فآمنوا فلم ينفعهم، لأنّ النافع هو الإيمان الاختياري الواقع مع القدرة على خلافه، ومن عاين نزول العذاب.. لم يبق له القدرة على خلاف الإيمان فلم ينفعه، وعدم نفعه في الدنيا دليل على عدم نفعه في الآخرة.
والمعنى (١): أي فلم يفدهم إيمانهم عندما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئًا، كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)﴾.
وبعد إذ ذكر سبحانه أنّ هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذّبين فقال: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ وقوله: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ (٢): من المصادر المؤكدة لفعل محذوف، و ﴿خَلَتْ﴾ من الخلوّ، يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصوّر في الزمان المضي.. فسّر أهل اللغة قولهم: خلا الزمان، بقولهم: مضى وذهب؛ أي: سنّ الله سبحانه عدم قبول إيمان من آمن وقت رؤية البأس ومعاينته، سنةً ماضيةً في عباده مطّردةً؛ أي: في الأمم السالفة المكذبة كلها، ويجوز أن ينتصب ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ على التحذير؛ أي: احذروا يا أهل مكة سنة الله المطّردة في المكذبين السابقين، والأول أولى، والسنة: الطريقة والعادة المسلوكة، وسنة الله: طريقة حكمته.
والمعنى: أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا، إذا عاينوا عذابه أن لا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به، وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.
وقصارى ذلك (٣): أن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب أن لا تقبل منه توبة، وقد جاء في الحديث: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
276
فإذا غرغر، وبلغت الروح الحلقوم.. فلا توبة، ولهذا قال: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمبطِلُونَ﴾ و ﴿هُنَالِكَ﴾ (١): اسم مكان، في الأصل موضوع للإشارة إلى المكان، وقد استعير في هذا المقام للزمان، لأنه لم أشير به إلى مدلول قوله: ﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ و ﴿لَمَّا﴾ للزمان.. تعيَّن أن يراد به الزمان، تشبيهًا له بالمكان في كونه ظرفًا للفعل كالمكان.
والمعنى على ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هلك الكافرون بوحدانية الله تعالى، المكذبون بها وقت رؤيتهم البأس والعذاب. وقال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه تبيّن لهم خسرانهم، إذا رأوا العذاب، ولم يرج فلاحهم، ولم يقل: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمبطِلُونَ﴾ كما قال فيما سبق، لأنه متصل بإيمان غير مسجد، ونقيض الإيمان: الكفر كما في "برهان القرآن"؛ أي فحسن موقعه هنا، كما حسن موقع قوله: ﴿الْمبطِلُونَ﴾ هناك على ما عرف سره في موضعه.
الإعراب
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿نُهِيتُ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول لـ ﴿قُل﴾، ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿أَعْبُدَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿أَعْبُدَ﴾ والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافص تقديره: قل: إني نهيت عن عبادة الذين. وجملة ﴿تَدْعُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: تدعونهم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾؛ أي: مجاوزين الله، أو من العائد المحذوف. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًا، والظرف: متعلق
(١) روح البيان.
277
بـ ﴿نُهِيتُ﴾، ﴿جَاءَنِيَ﴾: فعل ونون وقاية ومفعول به. ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ فاعل؛ والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿مِنْ رَبِّي﴾: حال من ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ أو متعلق بـ ﴿جاء﴾، ﴿وَأُمِرْتُ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل في محل النصب معطوف على ﴿نُهِيتُ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿أُسْلِمَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل يعود على محمد منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: وأمرت بالإسلام. و ﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أُسْلِمَ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية تكوّن البدن. ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿خلق﴾ ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾: معطوفان على ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾ ﴿طِفْلًا﴾: حال من ﴿الكاف﴾ في ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾ على تأويله بالجمع؛ أي: أطفالًا، ليطابق الحال صاحبه، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿لِتَبْلُغُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تبلغوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة ﴿أَشُدَّكُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾. والجار والمجرور: متعلق بمحذوف معطوف على ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾ والتقدير: ثم يخرجكم طفلًا، ثم يبقيكم لبلوغكم أشدكم. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿لِتَكُونُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تكونوا﴾: فعل مضارع ناقص واسمه ﴿شُيُوخًا﴾: خبره، والجملة مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾؛ أي: ثم لكونكم شيوخًا، الجار والمجرور: معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَمِنْكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿منكم﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. ﴿يُتَوَفَّى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿يُتَوَفَّى﴾. والجملة الفعلية: صلة ﴿مَّن﴾ الموصولة ﴿وَلِتَبْلُغُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لِتَبْلُغُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف
278
جر وتعليل. ﴿تبلغوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. ﴿أَجَلًا﴾: مفعول به ﴿مُسَمًّى﴾: صفة لـ ﴿أَجَلًا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ والجار والمجرور: متعلق بمحذوف معطوف على ﴿يُتَوَفَّى﴾، والتقدير: ومنكم من يتوفى من قبل، ومنكم من يبقي لبلوغكم أجلًا مسمى ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لعل﴾: حرف ترّج وتعليل. و ﴿الكاف﴾: اسمها، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لعل﴾: معطوفة على جملة ﴿لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾؛ أي: ثم يبقيكم لبلوغكم أشدكم، ولجعلكم عاقلين.
﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. وجملة ﴿يُحْيِي﴾: صلة الموصول. ﴿وَيُمِيتُ﴾. معطوف على ﴿يُحْيِي﴾. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قَضَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به، والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب. ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿إنما﴾: كافة ومكفوفة. ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿يَقُولُ﴾، والجملة الفعلية: جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة ﴿يُحْيِي﴾؛ أي: وهو الذي يحيي ويميت، يقول: كن وقت قضائه أمرًا ﴿كُنْ﴾: فعل أمر تام، وفاعل مستتر يعود على ﴿أَمْرًا﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فَيَكُونُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿يكون﴾: فعل مضارع تام، وفاعله: ضمير يعود على ﴿أَمْرًا﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو يكون، والجملة الاسمية: مستأنفة.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التعجبي. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، والجملة: مستأنفة. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿تَرَ﴾. ﴿يُجَادِلُونَ﴾:
279
فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال، ﴿يُصْرَفُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، ومتعلقه: محذوف، تقديره: كيف يصرفون عن الإيمان بالكلية. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الجر بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ الأول. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: صلة الموصول. ﴿بِالْكِتَابِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾ ﴿وَبِمَا﴾: جار ومجرور معطوف على ﴿بِالْكِتَابِ﴾ ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿رُسُلَنَا﴾: مفعول به، والجملة: صلة الموصول ﴿فَسَوْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿سوف﴾: حرف تنفيس. ﴿يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للتهديد، هذا ويجوز أن تعرب الذين خبرًا لمبتدأ محذوف، أو منصوبًا على الذم، ويجوز أن يكون مبتدأ، خبره: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ و ﴿الفاء﴾: رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، ﴿إِذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون المقدر، والظرت: متعلق بـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾، أو هي في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ولا يتنافى كون الظرف ماضيًا، و ﴿سوف يعلمون﴾ مستقبلًا، ففي جعلها مفعولًا به تناف من استحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي، ولك أن تقول: لا منافاة؛ لأنّ الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقّنة مقطوعًا بها.. عبّر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. ﴿الْأَغْلَالُ﴾ مبتدأ، ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: خبر. ﴿وَالسَّلَاسِلُ﴾: معطوف على ﴿الْأَغْلَالُ﴾، والظرف: في نية التأخير عنهما، فهو خبر عنهما معًا، والجملة الاسمية: في محل الجرّ مضاف إليه لـ ﴿إِذِ﴾؛ أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وقت كون الأغلال والسلاسل في أعناقهم. ﴿يُسْحَبُونَ﴾: فعل ونائب فاعل.
﴿فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤)﴾.
﴿فِي الْحَمِيمِ﴾: متعلق بـ ﴿يُسْحَبُونَ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير ﴿أَعْنَاقِهِمْ﴾ لوجود شرطه وهو كون المضاف بعضًا من المضاف إليه. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿فِي النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُسْجَرُونَ﴾. وجملة ﴿يُسْجَرُونَ﴾: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يُسْحَبُونَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿قيِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قيِلَ﴾ وجملة ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾:
280
نائب فاعل محكي لـ ﴿قيِلَ﴾. وجملة ﴿قِيلَ﴾: معطوفة على جملة ﴿يُسْجَرُونَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿أَيْنَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف: متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيِلَ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تُشْرِكُونَ﴾: خبره ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿تُشْرِكُونَ﴾. وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿ضَلُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنَّا﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿بَل﴾: حرف إضراب للإضراب الانتقالي. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿نَكُنْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ واسمها ضمير يعود على المتكلمين. وجملة ﴿نَدْعُو﴾: خبرها. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿شَيْئًا﴾ أو متعلق بـ ﴿نَدْعُو﴾. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به لـ ﴿نَدْعُو﴾ وجملة ﴿لَمْ نَكُنْ﴾: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ضَلُّوا﴾ على كونا مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة؛ أي: يضل الله الكافرين كلهم إضلالًا مثل إضلالهم المذكور. ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿بِمَا﴾: خبر، والجملة: في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وتقول لهم الخزنة: ذلكم... إلخ. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَفْرَحُونَ﴾: خبره. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿تَفْرَحُونَ﴾، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿تَفْرَحُونَ﴾ وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة أو لـ ﴿ما﴾ المصدرية، وقوله: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾: معطوف على قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ﴾. ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: أيضًا مقول لقول محذوف؛ أي: ويقال لهم: ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾. ﴿أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾: مفعول به على السعة ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادْخُلُوا﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿فَبِئْسَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية أو عاطفة ﴿بئس﴾: فعل ماض من أفعال الذم. ﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم: محذوف، تقديره: هي،
281
وجملة ﴿بئس﴾: مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم، أو معطوفة على جملة ﴿ادْخُلُوا﴾.
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧)﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بدا لك منهم ما بدا من صد وإعراض، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿اصبر﴾ ولا تبتئس فإنا سننتقم لك منهم ﴿اصبر﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، تقديره: أنت، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على أنها مسوقة لتعليل الأمر بالصبر. ﴿فَإِمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إما﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾ الزائدة، و ﴿ما﴾: زائدة، ﴿نُرِيَنَّكَ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و ﴿نون﴾ التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن. والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول أول ﴿بَعْضَ الَّذِي﴾: مفعول ثان لـ ﴿رأى﴾، لأنه من رأى البصرية، تعدّت إلى المفعول الثاني بالهمزة. ﴿نَعِدُهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية: محذوف، تقديره: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ وهو القتل والأسر يوم بدر، فذاك غاية أملك، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اصبر﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف: ﴿نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية بالعطف على ﴿نُرِيَنَّكَ﴾ مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن، و ﴿الكاف﴾: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به. ﴿فَإِلَيْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية جوازًا. ﴿إلينا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُرْجَعُونَ﴾، ﴿يُرْجَعُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: في محل الجزم جواب للشرط الثاني، وجواب الشرط الأول: محذوف كما مرّ آنفًا، والتقدير: فإما نرينّك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل والأسر يوم بدر، فذاك المطلوب ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل
282
يوم بدر ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام. وإنما حذف جواب الأول دون الثاني؛ لأن الأول إن وقع.. فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه معلوم، وهو حصول المراد على التمام، وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم.. فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس، على أنه وإن تأخر جزاؤُهم عن الدنيا.. فهو حتم في الآخرة ولا بد منه.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿رُسُلًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، أو صفة لـ ﴿رُسُلًا﴾ والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿مِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. وجملة ﴿قَصَصْنَا﴾: صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: قصصناهم ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿قَصَصْنَا﴾، والجملة الاسمية: في محل النصب صفة لـ ﴿رُسُلًا﴾ أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوف على جملة قوله: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿نَقْصُصْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وفاعله: ضمير مستتر، تقديره: نحن. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿نَقْصُصْ﴾ والجملة: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. والعائد: محذوف، تقديره: من لم نقصصهم عليك.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص ﴿لِرَسُولٍ﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَأْتِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿رسول﴾. ﴿بِآيَةٍ﴾:
283
متعلق بـ ﴿يَأْتِيَ﴾ والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كاَنَ﴾ مؤخرًا، والتقدير: وما كان الإتيان بآية كائنًا لرسول من الرسل إلا بإذن الله تعالى، وجملة ﴿كاَنَ﴾: معطوفة على جملة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ أو مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِيَ﴾؛ أي: وما كان لرسول أن يأتي بآية في جال من الأحوال، إلا بإذن الله، ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب. ﴿قُضِىَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قُضِيَ﴾، وجملة ﴿قُضِيَ﴾: جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة ﴿كاَنَ﴾ أو مستأنفة. ﴿وَخَسِرَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿خسر﴾: فعل ماض. ﴿هُنَالِكَ﴾: ظرف مكان متعلق بـ ﴿خسر﴾، ﴿الْمُبْطِلُونَ﴾: فاعل لـ ﴿خسر﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿قُضِيَ﴾ على كونها جواب ﴿إذا﴾ الشرطية.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعداد بعض آلائه سبحانه. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض بمعنى خلق، وفاعله: ضمير مستتر، والجملة: صلة الموصول. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿الْأَنْعَامَ﴾: مفعول به ﴿لِتَرْكَبُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل. ﴿تركبوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿مِنْهَا﴾ - أي: بعضها - متعلق بـ ﴿تركبوا﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة. في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، والتقدير: الله الذي خلق لكم الأنعام لمنفعة ركوبكم إياها. ﴿وَمِنْهَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَأْكُلُونَ﴾: قدمه عليه لرعاية الفواصل. ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿تركبوا﴾؛ أي: خلقها لركوبكم إياها ولأكلكم منها. ﴿وَلَكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية. ﴿لَكُمُ﴾: خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: حال من ﴿مَنَافِعُ﴾، و ﴿مَنَافِعُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معترضة لا محل لها من
284
الإعراب، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَلِتَبْلُغُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل، ﴿تبلغوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿تبلغوا﴾ ﴿حَاجَةً﴾ مفعول به. ﴿فِي صُدُورِكُمْ﴾: صفة لـ ﴿حَاجَةً﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ والجار والمجرور: معطوف. على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِتَرْكَبُوا﴾ والتقدير: الله الذي خلق لكم الأنعام لركوبها، ولبلوغ حاجة في صدوركم عليها. ﴿وَعَلَيْهَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُحْمَلُونَ﴾، ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾: معطوف على ﴿عَلَيْهَا﴾، ﴿تُحْمَلُونَ﴾: فعل مضارع مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿وَيُرِيكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول أول. ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾، ﴿فَأَيَّ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿أي﴾: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي، منصوب على أنه مفعول مقدم وجوبًا لـ ﴿تُنْكِرُونَ﴾؛ لأن اسم الاستفهام مما يلزم الصدارة. ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ مضاف إليه ﴿تُنْكِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للتوبيخ والتقريع.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد قومك قريب في منازلهم ولم يسيروا في الأرض؛ والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَسِيرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرُوا﴾ والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة أو سببية واقعة في جواب الاستفهام ﴿ينظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾ ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كاَنَ﴾ مقدم وجوبًا ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ﴾: اسم ﴿كاَنَ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾، وجملة ﴿كاَنَ﴾: في محل النصب مفعول ﴿ينظروا﴾: معلق عنها باسم الاستفهام.
﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
﴿كَانُوا أَكْثَرَ﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَكْثَرَ﴾
285
وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة مسوقة لبيان مبدأ أحوالهم وعواقبها، ﴿وَأَشَدَّ﴾: معطوف على ﴿أَكْثَرَ﴾ ﴿قُوَّةً﴾. تمييز محوّل عن اسم ﴿كان﴾ ﴿وَآثَارًا﴾: معطوف على ﴿قُوَّةً﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة لـ ﴿آثارًا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية أو استفهامية في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَغْنَى﴾. ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض ﴿عَنْهُم﴾: متعلق بـ ﴿أَغْنَى﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع فاعل ﴿أَغْنَى﴾ أو مصدرية والمصدر المؤوّل بها: فاعل ﴿أَغْنَى﴾؛ ﴿كَانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه. وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما كانوا يكسبونه، أو صلة لـ ﴿مَا﴾ المصدرية، والمصدر المؤوّل فاعل ﴿أَغْنَى﴾؛ أي: لم يغن عنهم، أو أيّ شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم، وجملة ﴿فَمَا أَغْنَى﴾: معطوفة على جملة ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣)﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: تفصيلية تفسيرية. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية ﴿جَاءَتْهُمْ﴾: فعل ومفعول به ﴿رُسُلُهُمْ﴾: فاعل. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَتْهُمْ﴾ أو حال من ﴿الرسل﴾ والجملة: فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾ في محل جر بالإضافة. ﴿فَرِحُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة لما: جملة مفسرة لجملة قوله: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾: لا محل لها من الإعراب، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرِحُوا﴾، ﴿عِندَهُم﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾ ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾: حال من ﴿ما﴾ الموصولة، أو من الضمير المستكن في الظرف ﴿وَحَاقَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿فَرِحُوا﴾. ﴿بِهِم﴾: متعلق بـ ﴿حاق﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿حاق﴾ ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. ﴿رَأَوْا﴾: فعل وفاعل. ﴿بَأْسَنَا﴾: مفعول به لرأى
286
لأنها بصرية، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾ في محل جر بالإضافة، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾: معطوفة على جملة ﴿لما﴾ الأولى، ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَحْدَهُ﴾: حال من الجلالة حال لازمة. ﴿وَكَفَرْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنَّا﴾. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿كفرنا﴾ ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُشْرِكِينَ﴾ ﴿مُشْرِكِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥)﴾.
﴿فَلَمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لم﴾: حرف جزم: ﴿يَكُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير الشأن. ﴿يَنْفَعُهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿إِيمَانُهُمْ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر ﴿يكون﴾، وجملة ﴿يكون﴾: معطوفة على جملة ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف زمان مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿إِيمَانُهُمْ﴾. ﴿رَأَوْا بَأْسَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لمّا﴾. ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل مقدر من لفظه؛ أي: سنّ الله سبحانه وتعالى بهم ذلك سنة من قبلهم؛ أي: سنته فيمن قبلهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ﴿فِي عِبَادِهِ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾، ﴿وَخَسِرَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿خسر﴾: فعل ماض ﴿هُنَالِكَ﴾: متعلق به ﴿الْكَافِرُونَ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾: ماض مغيّر الصيغة من النهي، وهو الزجر عن شيء. ﴿أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يقال: أسلم أمره لله: إذا سلّم، وذلك إنما يكون بالرضى والانقياد لحكمه، وأسلمت له الشيء: إذا جعلته سالمًا خالصًا له. ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾
287
قال الراغب: النطفة: الماء الصافي، ويعبّر بها عن ماء الرجل؛ أي: ماء الصلب يوضع في الرحم كما مرّ. ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ وهو الدم الجامد. ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ والطفل: الولد ما دام ناعمًا، كما في "المفردات" والصغير من كل شيء أو المولود. كما في "القاموس" وحد الطفل: من أول ما يولد يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام كما مرّ. ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ قال في "القاموس": الأشد: مفرد جاء علي بناء الجمع من الشدة بمعنى القوّة، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين. ﴿شُيُوخًا﴾: جمع شيخ، وهو: من طعن في سنّ الكبر واستبانت فيه الشيخوخة، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، أو إلى ثمانين كما في "القاموس".
﴿أَجَلًا مُسَمًّى﴾؛ أي: وقتًا محدّدًا معيّنًا لموتكم. ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أصل يميت يموت بوزن بفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ. ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ من القضاء بمعنى التقدير، عبّر به عن لازمه الذي هو إرادة التكوين، كأنه قيل: إذا قدّر شيئًا من الأشياء وأراد كونه. ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ﴾: جمع غلّ بضم الغين المعجمة، وهو: ما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه، وغل فلان: قيد به؛ أي: وضع في عنقه أو يده الغلّ. ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ جمع عنق وهي الرقبة. ﴿وَالسَّلَاسِلُ﴾ جمع سلسلة بالكسر، وهي الدائرة من حديد أو نحوه تتصل أجزاؤُها أو حلقاتها بعضها ببعض، ومنه سلاسل البرق؛ أي: ما استطال منه في عرض السحاب وسلاسل الكتاب سطوره. قال الراغب: وتسلسل الشيء: اضطرب كأنه تصوّر منه تسلسل متردد، فتردّد لفظه تنبيه على تردد معناه، وماء مسلسل؛ أي: متردد في مقرّه، وأما السلسلة بالفتح فهو إيصال الشيء بالشيء، ولما كان في السلسلة بالكسر إيصال بعض الخلق بالبعض؛ سميت بها. ﴿يُسْحَبُونَ﴾ من السحب، وهو: الجرّ بعنف، ومنه السحاب؛ لأنّ الريح تجرُّه، أو لأنه يجرّ الماء، وسحبه كمنعه، جرّه على وجه الأرض. ﴿فِي الْحَمِيمِ﴾ والحميم: الماء الذي تناهى حرّه. قال في "القاموس": الحميم: الماء الحار، والماء البارد ضد، والقيظ والعرق؛ أي: على التشبيه. كما في "المفردات". ﴿ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود. ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾ من قول العرب، ضل المسجد والدار؛ أي: لم يعرف موضعهما.
288
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ قال في "القاموس": الفرح السرور والبطر انتهى، والبطر النشاط والأشر وقلّة احتمال النعمة والأشر شهدّة البطر، وهو أبلغ عن البطر، والبطر: أبلغ من الفرح، وفي "المفردات" الفرح: انشراح الصدر بلذّة عاجلة، ولم يرخّص إلا في الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبنصر الله، والبطر: دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها. ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ أصله؛ نرئينّك: نقلت حركة الهمزة إدي الراء، ثم حذفت للتخفيف فوزنه نُفِلَنَّكَ. ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ قياسه نوعدهم، حذفت فاؤه حذفًا مطردًا لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة. وقوله: ﴿أشَدُّ قُوَة﴾ أصله أشدد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ يقال: أغنى عنه كذا: إذا كفاه ونفعه، وهو إذا استعمل بعن.. يتعدّى إلى مفعول؛ أي: لم يدفع ولم ينفع، وأصله: أغني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿فَلَمَّا رَأَوْا﴾ أصله: رأيوا، بوزن فعلوا قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين. ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ﴾ أصله: يكون، دخل الجازم ﴿لم﴾: فصار يكون فالتقي ساكنان فحذفت الواو فصار يكن بوزن يفل، ثم حذفت النون حذفًا غير مطرد، فصار بوزن يفُ، وقد تقدم القول في حذف نون المضارع المجزوم بشرط كونه مجزومًا بالسكون، غير متصل بضمير نصب ولا بساكن، وقد وقع ذلك في التنزيل في ثمانية عشر موضعًا، وقد سمع حذفها في الشعر إذا وليها ساكن، كما في قول الخنجر بن صخر الأسديّ:
فَإِنْ لَمْ تَكُ الْمِرْآةُ أَبْدَتْ وَسَامَةً فَقدْ أَبْدَتِ الْمِرْآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
فحذف النون مع ملاقاة الساكن، والمرآة بكسر الميم ومدّ الهمزة: آلة الرؤية، فكأنه نظر وجهه فيها فلم يره حسنًا، فتسلّى بأنه يشبه الضيغم وهو الأسد، والوسامة بفتح الواو: الحسن والجمال، وحمله جمهور النحاة على الضرورة. ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ من المصادر المؤكدة لعاملها المحذوف من لفظها، والسنة الطريقة والعادة المسلوكة، وسنة الله: طريقته وحكمته كا مرّ. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ من الخلوّ وهو المضي، أصله: خلو قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلا فصار خلا، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فالتقى ساكنان الألف والتاء، فحذفت الألف لذلك فوزنه:
289
فعت.
فائدة: رسمت ﴿سُنَّتَ﴾ مجرور التاء ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون: بالتاء، وأمال الكسائي الهاء في الوقف. اهـ "خطيب".
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿نُهِيتُ﴾ و ﴿أمرت﴾ في قوله: ﴿إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾؛ أي: خلق أصلكم آدم من تراب.
ومنها: وضع المفرد موضع الجمع في قوله: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾؛ أي: أطفالًا لإرادة الجنس.
ومنها: الطباق بين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾.
ومنها: تكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع من هذه السورة. إما لتعدد المجادل، بأن يكون في أقوام مختلفة، أو تعدّد المجادل فيه بأن يكون في آيات مختلفة أو للتأكيد.
ومنها: وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة في قوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾ لأنّ المعتاد وقوع المجادلة في بعض موضوع الكتاب لا في الكل.
ومنها: صيغة الماضي في الصلة الثانية أعني: ﴿كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾ للدلالة على التحقق كما أنّ صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكرُّرها.
290
ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)﴾ للدلالة على التحقيق والوقوع، لأنّ مقتضى الظاهر أن يقال: ثمّ يقال لهم، وفي قوله: ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾؛ أي: يقولون.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿ذَلِكُم﴾ الإضلال أيها الكفار للمبالغة في التوبيخ.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿تَفْرَحُونَ﴾ و ﴿تَمْرَحُونَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿رُسُلًا﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾.
ومنها: الإتيان بخلاف مقتضى الظاهر في قوله: ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ لأن الظاهر أن يقال: فبئس مدخل المتكبّرين، فعبّر عن المدخل بالمثوى؛ لكون دخولهم بطريق الخلود. اهـ "أبو السعود". وفي "السمين": ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين؛ لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم الثواء، فلذلك خصّه بالذّم، وإن كان الدخول أيضًا مذمومًا. اهـ.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ لأن ﴿هُنَالِكَ﴾: موضوع للإشارة إلى المكان، فاستعير هنا للزمان.
ومنها: التعبير بالماضي في قوله: ﴿وَخَسِرَ﴾ للدلالة على تحقق الوقوع.
ومنها: المزاوجة في قوله: ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ لأنّ مقتضى الظاهر أن يقال: وفي الفلك، كما في قوله: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا﴾ ليزاوج ويطابق قوله: ﴿وَعَلَيْهَا﴾.
ومنها: الاستطراد في قوله: ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ وهو ذكر الشيء في غير موضعه لمناسبة بينه وبين ذلك الموضوع، لأنّ المقام مقام الامتنان بخلق الأنعام.
ومنها: إضافة الآيات إلى الاسم الجليل في قوله: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ لتربية المهابة وتهويل إنكارها.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾.
291
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ وهو في اصطلاح البيانيين الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجل الذي موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد، والعلم في موضع الجهل تهاونًا من القائل بالمقول له، واستهزاءً به.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
292
مجمل ما حوته هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وصف الكتاب الكريم.
٢ - الجدل بالباطل في آيات الله.
٣ - وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.
٤ - طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول، ثم رفض هذا الطلب.
٥ - إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.
٦ - إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.
٧ - قصص موسى عليه السلام مع فرعون، وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.
٨ - أمر الرسول - ﷺ - بالصبر على أذى قومه، كما صبر أولوا العزم من الرسل.
٩ - تعداد نعم الله سبحانه على عباده في البر والبحر.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
293
سورة فصلت
سورة فصلت: وتسمى (١) سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح: مكية، قال القرطبي: في قوله الجميع. وآيها: ثلاث أو أربع وخمسون آية. وكلماتها: سبع مئة وتسع وتسعون كلمةً. وحروفها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسون حرفًا.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه (٢) "الناسخ والمنسوخ": سورة فصلت كلها محكمة، إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ الآية (٣٤) نسخت بآية السيف. اهـ.
مناسبتها لما قبلها: (٣) أنهما اشتركتا في شيئين:
أحدهما: في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلخ. وهددهم هنا بقوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾.
وثانيهما: أن كلتيهما بُدِئت بوصف الكتاب الكريم.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (٤): أنه قال في آخر السابقة ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخرها. فضمن وعيدًا وتهديدًا وتقريعًا لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتابًا مفصلًا آياته، بشيرًا لمن اتبعه، ونذيرًا لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه، ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي، ثم قال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ فكان هذا كله مناسبًا لآخر سورة المؤمن، من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي
(١) المراح.
(٢) الناسخ والمنسوخ.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
294
واستئصال أعداء رسول الله - ﷺ - ما حل بعاد وثمود من استئصالهم. انتهى.
ومن فضائلها: ما روى عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة السجدة أعطاه الله تعالى بكل حرف منها عشر حسنات" ذكره البيضاوي. ولكن لا أصل له.
ومما يدل على فضلها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم، وصححه ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في "الدلائل" وابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: اجتمعت قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر بم يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله - ﷺ - قال عتبة: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك.. فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم.. فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل، إن كان إنما بك الحاجة.. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وإن كان إنما بك الباءة.. فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله - ﷺ -: فرغت قال: نعم، فقال رسول الله - ﷺ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ حتى بلغ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾ فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا، قال: "لا" فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك، قال ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك قال: والذي نصبها بنيةً - يريد الكعبة - ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال، لا والله ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة.
ومنه ما أخرجه أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي - ﷺ - علي بن ربيعة: ﴿حم (١)﴾ أتى أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذني
295
قط كلامًا مثله، وما دريْت ما أردّ عليه، وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - ﷺ - أول هذه السورة عليه.
وعرض هذه السورة على عتبة بن ربيعة للرد عليهم مما يدل على فضلها وجزالتها وبلاغتها، وفي رواية أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله - ﷺ - ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينَه وبينَه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة.. قرأ رسول الله - ﷺ -: ﴿حم (١)﴾ ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾ فأرعد الشيخ ووقف شعره، وأمسك على فم رسول الله - ﷺ - بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئًا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
296

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)﴾.
297
المناسبة
المناسبة بين آخر السابقة وأول هذه السورة: أن السابقة ختمت بتهديد المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، وهذه بدئت ببيان سبب إعراضهم بأن على قلوبهم أكنةً، وفي آذانهم وقر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (١) ما يذكر المشركون من الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته.. أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان، وحملهم عليه قسرًا، فإنه بشر مثلهم، ولا ميزة له عليهم، إلا بأن الله أوحى إليه ولم يودع إليهم.
ثم ذكر أن خلاصة الوحي علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسُّه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك بالتهديد لمن يشرك بالله، ولا يزكي نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات، بأن لهم عند ربهم أجرًا دائمًا غير مقطوع ولا ممنوع.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحي، أن إلهكم إله واحد، فاخلصوا له العبادة.. أردف هذا بما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض، على أطوار مختلفة متعاقبة، وأكمل لكل منها ما هي مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب؛ فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العلم بكل ما فيها، لا يخفى عليه شيء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شيء في خلقهما وتقديرهما تعالى عن ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً...﴾ الآيات، مناسبتها لما
(١) المراغي.
298
Icon