تفسير سورة فصّلت

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة فصلت
وتسمى السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل ( أفلم يسيروا في الأرض ) الخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى :( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة عاد وثمود ) ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى :( أفلم يسيروا ) الآية وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.

سورة فصّلت
وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [غافر: ٨٢] إلخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله ﷺ كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.
347
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم أن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره تَنْزِيلٌ على المبالغة أو التأويل المشهور، وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل حم مسرودا على نمط التعديد عند الفراء، وقوله تعالى: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره كِتابٌ وحكي ذلك عن الزجاج والحوفي، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف، وجملة فُصِّلَتْ آياتُهُ على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب، وإضافة التنزيل إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومبادئ السور وخواتمها، ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن. وعن السدي فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقال الحسن: فصلت بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أولا أعم ولعل ما ذكروه من باب التمثيل لا الحصر، وقيل: المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك. وقرىء «فصلّت» بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل، وقال ابن زيد: بين النبي ﷺ ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى: فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: ٩٤].
وقرىء «فصلت» بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل: من كِتابٌ لتخصصه بالصفة، وقيل: من آياتُهُ وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها، وقيل: نصب على المصدر أي يقرؤوه قرآنا، وقال الأخفش: هو مفعول ثان لفصلت، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش، وأيا ما كان ففي قُرْآناً عَرَبِيًّا امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام لِقَوْمٍ تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى- لقرآنا- أو صلة- لتنزيل- أو- لفصلت- قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً وموصوفها وهو قُرْآناً بناء على أنه صفة له بالصلة وهي لِقَوْمٍ على تقدير تعلقه- بتنزيل- أو- بفصلت- وبين الصلة- وموصولها بالصفة أي تَنْزِيلٌ أو فُصِّلَتْ ولِقَوْمٍ والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين آخرين:
لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل مِنَ الرَّحْمنِ بموصوله ولا يتصل لِقَوْمٍ وكذلك بين الصفتين وهو عَرَبِيًّا بموصوفه ولا يتصل بَشِيراً والجمع لذلك أيضا. واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة فُصِّلَتْ وقال: يبعد تعلقه- بتنزيل- لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان مِنَ الرَّحْمنِ في موضع الصفة أو أبدل منه كِتابٌ أو كان خبرا- لتنزيل
348
- فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه قبل أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه، وكون بَشِيراً صفة قُرْآناً هو المشهور، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من كِتابٌ أو من آياتُهُ وقرأ زيد بن علي «بشير» و «نذير» برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره وقبوله، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به ما من شأنهم العلم والنظر فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور.
وفي الكشف أن قوله تعالى: فَأَعْرَضَ مقابل قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وقوله سبحانه: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ مقابل قوله جل شأنه: بَشِيراً وَنَذِيراً أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر.
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية متكاثفة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا ومِنْ على ما في البحر لابتداء الغاية وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وأصله الثقل.
وقرأ طلحة بكسر الواو وقرىء بفتح القاف وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ غليط يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا.
وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل: بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا، وأما إذا قيل: من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد مِنْ أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهي باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهي غيره البتة، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل: ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول ﷺ وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم.
وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول ﷺ شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا: وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف: ٥٧] ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب، وهاهنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى، وقيل: هي ما يجعل فيها السهام. أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ قالوا كالجعبة للنبل
349
فَاعْمَلْ على دينك وقيل في إبطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا وقيل: في ابطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، ومقصودهم أننا عاملون، والأول توطئة له، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه كما نثبت على دينك، وعلى الثاني هو مبارزة بالخلاف والجدال، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش.
ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: أقبلت قريش إلى رسول الله ﷺ فقال لهم: ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟
فقالوا: يا محمد ما نفقة ما تقول ولا نسمعه وأن على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم السلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: الحمد لله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرا وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا: يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه
ض. وهو رد لقولهم: بيننا وبينك حجاب يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع، وهذا جواب عن قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستتووا إليه تعالى بالتوحيد وإخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد: قلوبنا في أكنة إلخ وَاسْتَغْفِرُوهُ مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قبله، وفي ارشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبىء عنه قولكم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إِلهُكُمْ محكي منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى، وقال صاحب الفرائد: ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم، سلمنا أنه جواب لكن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم، وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه
فقوله عليه الصلاة والسلام: إني لست بملك وإنما أنا بشر
من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه ﷺ قال: ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الإعراض.
وقوله: يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى: حم الآيات ومجملا ثانيا بقوله: يُوحى إِلَيَّ ثم قيل: أَنَّما إِلهُكُمْ بيانا للمقصود فقوله يُوحى إِلَيَّ مسوق
350
للتمهيد، وفيه رمز إلى إثبات النبوة، وهذا المعنى على القول بأن المراد من فَاعْمَلْ إلخ فاعمل في ابطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بوساطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل، وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا، وفي الكشف أن قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ في مقابلة إنكارهم الإعجاز والنبوة وقوله: فَاسْتَقِيمُوا يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل، وقرأ ابن وثاب والأعمش قال إنما فعلا ماضيا، وقرأ النخعي والأعمش «يوحي» بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلي أنما إلهكم إله واحد.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من شركهم بربهم عزّ وجلّ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ مبتدأ وخبر- وهم- الثاني ضمير فصل وبِالْآخِرَةِ متعلق بكافرون، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب، وروي عن قتادة والحسن والضحاك ومقاتل، وقيل: الزكاة بالمعنى اللغوي أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة.
وعن مجاهد والربيع لا يزكون أعمالهم، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس أنه قال: في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله، وكذا الحكيم الترمذي. وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك، واختار ذلك الطيبي قال: والمعنى عليه فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاة ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم، وجعل قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع مذكورا على جهة الاستطراد تعريضا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع حيث لم يزكّوا أنفسهم كما زكوا، واستدل على الاستطراد بالآية بعد، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيد لا يخفى حاله على ذي لب، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف، وقد قيل: المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء:
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح
والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: ٥٤] لحسن لا يقال: إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول: إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة، وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى.
351
ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي. بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحققت الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الإتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه وممن لا يقول به قال: هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان، وقيل: المعنى لا يقرون بفرضيتها، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل، وقيل كلمة وَيْلٌ تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا، وفيه بحث لا يخفى، هذا وقيل: في مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على الممنون عليه، وعن ابن عباس تفسيره بالمنقوص، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني:
إني لعمرك ما بابي بذي غلق عن الصديق ولا زادي بممنون
والآية على ما روي عن السدي نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدأ بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول: هذا إنكار وتشنيع لكفرهم، وأن اللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عزّ وجلّ، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف، وقيل: لعل المراد منها ما في جهة السفل من الأجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها تنوعت إلى أنواع، واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق وأريد منه هاهنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام، وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غير توزيع.
وقال بعض الأجلة: إنه تعالى خلق أصلها ومادتها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] والمراد بكفرهم به تعالى إلحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عزّ وجلّ وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت اللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون أنه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى، وقوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ، وجعله حالا من الضمير في خَلَقَ لا يخفى حاله، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا وأكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد ذلِكَ
352
إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة، وإفراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة رَبُّ الْعالَمِينَ أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ على ما اختاره غير واحد عطف على خَلَقَ الْأَرْضَ داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى:- تكفرون- بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أن خَلَقَ الْأَرْضَ كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات.
وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال:
هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال: أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد رَبُّ الْعالَمِينَ أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل تَجْعَلُونَ عطفا على (تكفرون) باتحاده بما قبله على أسلوب وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة.
والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل، وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِها متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لراوسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة مِنْ فَوْقِها الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار ولعمري إنّ في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
وَبارَكَ فِيها أي كثر خيرها، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بين كميتها وأقدارها، وقال في الإرشاد: أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام السدي حيث قال: أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه.
وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم «وقسم فيها أقواتها» فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام وكان الزجاج يعلقه- بقدر- كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في
353
القيد إذا وقع بعد متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار، والشافعي يقول: المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم:
فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف جَعَلَ فِيها رَواسِيَ على مقدر لأن الربط المعنوي كاف. والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال: سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وهاهنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام.
وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السماوات والأرض في ستة أيام، وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى: سَواءً فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب «سواء» بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في أَقْواتَها مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى.
ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبر المبتدأ محذوف أي هو سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون: فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا مثلا، ومنه قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: ١٩٧] فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا.
ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى هاهنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل أولا خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والأخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات.
وقال بعض الأجلة: إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر، وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق- بقدر- السابق أي وقدر فيها أقواتها
354
لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل: متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوي على غيره.
وذكر الراغب أن الاستواء متى عدي بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] وإذا عدي بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ الآية، وكلام السلف في الاستواء مشهور.
وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف، وقيل: إن عرشه تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السماوات.
وقيل: كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان، وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كره النار التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب.
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السماوات سبعا أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالإتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء.
وقال بعض: الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات إلخ فقال لها وللأرض ائتيا إلخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا وأحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل: فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وأحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى: كُنْ وقوله تعالى: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران
355
وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل: طائِعِينَ بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند أخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط، وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير (هن) إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل: هو اسم جمع- فسبع- حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي.
وقال أبو حيان: انتصب سَبْعَ على الحال وهو حال مقدرة، وقال بعضهم: بدل من الضمير، وقيل: مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات، وقال الحوفي: على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما، وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها عطفا على (قضاهن) أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كمل قيل: فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى: وَحِفْظاً فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى:
زَيَّنَّا أي وحفظناها حفظا، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر.
وجعل قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه: فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير، ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقربه، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.
356
وقيل: إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا» و «قالتا أتينا» على أن ذلك من المواتاة بمعنى الموافقة، قال الجوهري: تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جني: هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى.
واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ إلخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى: في آية [البقرة: ٢٩] خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأول آية النازعات أعني قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: ٢٧- ٣٣] لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها إلخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس.
فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذلك فقال: اسمع الله تعالى يقول:
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ- حتى بلغ- طائِعِينَ فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى أَمِ السَّماءُ بَناها- ثم قال- وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى، قال الخفاجي: يعني أن قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعيدة كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا. فإن قلت: كيف هذا مع
357
ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي ﷺ فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام: «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة»
فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت:
الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي، ولا يخفى أن قول ابن عباس السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذا كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: ٣٢] وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السماوات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة
لخبر مسلم عن أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل»
واستدل في شرح المهذب بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر: هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال: في يوم الاثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفي فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف.
وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ على ابن المدائني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في صحيحه فوجب قبولها.
وذكر أحمد بن أحمد المقرئ المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أبو القاسم ﷺ وقال: «خلق الله تعالى الأرض يوم السبت» الحديث
، وفي الدر المنثور عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضا
أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «جاء اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي ﷺ ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
. واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك.
ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال: لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت
358
وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأوّلوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عزّ وجلّ بذلك مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] ولا بد على هذا من تأويل جَعَلَ وبارَكَ بنحو ما سمعت عن الإرشاد، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا: إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: ١٧] فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل فَلَا اقْتَحَمَ [البلد: ١١] وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: ١٣- ١٦] تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا، وفي الكشف أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين ثُمَّ في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السماوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة تم خلق آدم عليه السلام، وفي البخر الذي نقوله: إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وإن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الأخبار كما في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بعد قوله سبحانه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وقوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الأنعام: ١٥٤] بعد قوله عزّ وجلّ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام:
١٥١] ويكون قوله جل شأنه فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ بعد إخباره تعالى أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته انتهى، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى: فَقالَ لَها إلخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه: فَقَضاهُنَّ أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السماوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع.
وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر هاهنا وفي سورة البقرة على خلق السماوات والعكس في
359
سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروي عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: ٣٠] الآية.
وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي الإرشاد أنه ليس نصا في ذلك فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا، وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال ذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات. واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات كذلك، ومتى ساغ حمل ثُمَّ للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم. ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان: ٥٩، السجدة: ٤] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: ٣٨] وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض والزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعا كما يشعر به قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: ٢] وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] وقوله تعالى هنا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ- إلى قوله سبحانه- فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي
360
لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سماوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السماوات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السماوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر
على ذلك ما روي عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والاثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد، فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال.
والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفيّة وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقا منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجوز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سر كون خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جوابا عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة سمع منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقا بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعي لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للإنصاف مجانبا وللتعصب مصاحبا والله تعالى الموفق.
وما تقدم من حمل قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة: إنهما نطقتا نطقا حقيقيا وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكا، قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وأن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكا لائقا بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك. وذكر بعضهم في قوله سبحانه: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجها في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقرأ الأعمش «أو كرها» بضم الكاف، قال أبو حيان: والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة فَإِنْ أَعْرَضُوا متصل بقوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ إلخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ لهم: أَنْذَرْتُكُمْ أي أنذركم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبئ عن تحقق المنذر صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي عذابا مثل عذابهم قاله قتادة، وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب، ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازا، والمراد عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم، وأيا ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة.
وقرأ ابن الزبير والسلمي وابن محيصن «صعقة مثل صعقة» بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة به إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الاثنين وهو شائع وكذا الرُّسُلُ وقيل: يحتمل أن يراد ما يعم رسول
361
الرسول، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين، وذكروا في إِذْ أوجها من الإعراب. الأول أنه ظرف لأنذرتكم. الثاني أنه صفة لصاعقة الأولى، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك. الثالث أنه صفة لصاعقة الثانية، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة. الرابع واختاره أبو حيان أنه معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى. الخامس واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة، وبعضهم يجوز كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة، وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بجاءتهم، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جميع جهاتهم، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤوهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة.
وروي هذا عن الحسن، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقوله تعالى:
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وروي هذا الوجه عن ابن عباس والضحاك، وإليه ذهب الفراء. ونص بعض الأجلة على أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم، وجمع الرسل عليه ظاهر، وقيل: يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ [النحل: ١١٢] وقال الطبري: الضمير في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لعاد وثمود وفي قوله تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ للرسل وتعقبه في البحر بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائدا في مِنْ خَلْفِهِمْ على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر، وبعده لا يخفى.
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر، و (أن) يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و (لا) ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه، وجعل الحوفي (لا) نافية و (أن) ناصبة للفعل، وقيل: إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف، وأورد عليه أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وأن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وأن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه وعلى احتمال كونها مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل: لأنزل، قيل: ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير
362
مطرد، وقال أبو حيان: إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤوه في البشر وهو وجه حسن.
فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم كافِرُونَ لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و (ما) كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير بِهِ لقولهم: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ خلاف الظاهر،
أخرج البيهقي في الدلائل.
وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد ﷺ فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله ﷺ ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام: «بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- فقرأ حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فأمسك عتبة علي فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد ﷺ وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد ﷺ فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا ﷺ إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب»
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظم فيها على أهلها بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير استحقاق للتعظم.
وقيل: تعظموا عن امتثال أمر الله عزّ وجلّ وقبول ما جاءتهم به الرسل وَقالُوا اغترارا بقوتهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوي على ما لا يقدر عليه غيره عزّ وجلّ مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عزّ وجلّ أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب.
363
وزعم بعضهم أن القوة عرض ينزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة.
وأورد في حيز الصلة خَلَقَهُمْ دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة، وفيه ضرب من التهكم بهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على فَاسْتَكْبَرُوا أو قالُوا فجملة أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ مع ما عطف هو عليه اعتراض، وجوز أن يكون هو وحده اعتراضا والواو اعتراضية لا عاطفة.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً قال مجاهد: شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر، وقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر
364
جلد الإنسان ويقبضه والأول أنسب لديار العرب، وقال السدي أيضا وأبو عبيدة وابن قتيبة والطبري وجماعة: مصوتة من صريصر إذا صوت، وقال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: ٢٩] وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا، وروي أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحسا كعلم علما نقيض سعد سعدا.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج «نحسات» بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به مبالغة، واحتمل أن يكون صفة مخففا من فعل كصعب. وفي البحر تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين وإنما ذكروا فعلا بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلا كسالم، وهو صفة أَيَّامٍ وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل، والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصين فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه، ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب، وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات، لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال: الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا، وتفسير نَحِساتٍ بمشائيم مروي عن مجاهد وقتادة والسدي، وقال الضحاك: أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم، وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافه مزجت بنحس وقيل: نحسات ذوات غبار، وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز:
قد اغتدي قبل طلوع الشمس للصيد في يوم قليل النحس
يريد قليل الغبار، وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز، وكانت فيما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وروي ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال السدي: أولها غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة، فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم: شعر شاعر، وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم. وقرىء «لتذيقهم» بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس وقتادة والسدي: أي بينا لهم، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠] وهو أنسب بقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال: أي أعلمناهم الهدى من الضلال، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر فَاسْتَحَبُّوا إلخ عنه.
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على أن قوله تعالى: (هديناهم) دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى إلخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى.
365
والجواب كما في الكشف أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية إنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه يشير قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: ١٨٩] أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها، وهو المراد
بقوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة»
وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه. وقرأ ابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب «وأما ثمود» بالرفع مصروفا.
وقد قرأ الأعمش وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ [الإسراء: ٥٩] لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق وابن هرمز بخلاف عنه والمفضل، قال ابن عطية: والأعمش وعاصم وروي عن ابن عباس «ثمودا» بالنصب والتنوين، وروى المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة، ومن صرفه جعله اسم رجل، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم. وقرىء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي الذل وهو صفة للعذاب أو بدل منه، ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم، وقيل: المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما وردت في آيات أخر، ولا مانع من الجمع بينهما.
وقرأ ابن مقسم «الهوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة على الهدى، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء وَنَجَّيْنَا من تلك الصاعقة الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى، والمراد بها تقوى الله عز وجل، وقيل: تقوى الصاعقة والمتقي عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة، والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل: المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين.
وتعقب بأن قوله تعالى الآتي: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [فصلت: ٢٥] كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين، والمراد من قوله تعالى: إِلَى النَّارِ قيل: إلى موقف الحساب، والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد
366
عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى، ويَوْمَ إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١٢] أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاما لقصور العبارة عن تفصيله، وقيل: ظرف لما يدل عليه قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم، وقيل: يساقون ويدفعون إلى النار، والفاء تفصيلية. وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة «نحشر» بالنون «أعداء» بالنصب وكسر الأعرج الشين. وقرىء «يحشر» على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب «أعداء الله» وقوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي النار جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي حتى إذا حضروها، وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، وإِذا دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما فى زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤوها وسألوا عما أجرموا فأنكروا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل: هي الجوارح كني بها عنها، وقيل: كني بها عن الفروج، قيل: وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي الإرشاد أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة الظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: ٥٦] قال الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله: فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال: ويلوح بما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره. واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر.
وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وأولى ما قيل من أوجه التخصيص: إن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع.
وفي الحديث- إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك فعنك كنت أدافع، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال: لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس
367
على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال. وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية.
وقد أشير إلى كل في قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ على وجه، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الآخر، ولا بعد في شمول ما كانُوا يَعْمَلُونَ لإدراك الآيات والاحساس بها بقسميها فتدبر.
ولعل قوله تعالى: لِمَ شَهِدْتُمْ سؤال عن العلة الموجبة، وصيغة جمع العقلاء في شَهِدْتُمْ وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء. وقرأ زيد بن عليّ «لم شهدتن» بضمير المؤنثات قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم؟ صلح ما ذكر جوابا له، وقيل: لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب، فقد قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل:
ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة، ولا يقال: الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لأنه يقال: ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له، وقيل: الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص كُلَّ شَيْءٍ بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع، ومنه ما قيل في وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٨٤، آل عمران: ٢٩، المائدة: ١٩، ٤٠، التوبة: ٣٩] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: ٢٥]، وجوز أن يكون النطق في أَنْطَقَنَا بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا، وقوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عزّ وجلّ والأول أظهر، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الانطاق، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المرتقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك
368
من مراعاة الفواصل، وقوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح وأَنْ يَشْهَدَ مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عزّ وجلّ أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل: هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل: هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم.
وقيل: أَنْ تَشْهَدَ مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم إلخ، وقيل: إن تَسْتَتِرُونَ ضمن معنى الظن فعدي تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة: أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم إلخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم:
أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله قال: فذكرت ذلك للنبي ﷺ فأنزل الله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ- إلى قوله سبحانه- مِنَ الْخاسِرِينَ
فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قليل في الكفرة. وفي الإرشاد لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: ٣] ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبا كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وَذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه: ظَنَنْتُمْ وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ بدل منه، وقوله سبحانه:
أَرْداكُمْ أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون ظَنُّكُمُ خبر أو أَرْداكُمْ خبرا بعد خبر. ورده أبو حيان بأن ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم: سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة. وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل: المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها. واختار
369
بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح- بانت سعاد- وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة أَرْداكُمْ أن تكون حالا بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة ظَنُّكُمُ وقيل: الثلاثة أخبار فلا تغفل فَأَصْبَحْتُمْ بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير أن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل: في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: ١٦] وقيل: المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب والقائهم في غيابة دركات النار وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المجابين إليها.
وقال الضحاك: المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين: وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري «وإن يستعتبوا» مبنيا للمفعول «فما هم من المعتبين» اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما
قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بعد الموت مستعتب»
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: ٢٨].
وَقَيَّضْنا لَهُمْ أي قدرنا، وفي البحر أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل: سلطنا وكلنا عليهم قُرَناءَ جمع قرين أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن، وقيل: منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض، وقيل: أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلا عن غيره من قرنائه فَزَيَّنُوا لَهُمْ حسنوا وقرروا في أنفسهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وَما خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وقال الحسن: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، وقال الكلبي: ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هم عاملوه في المستقبل ولكل وجهة، ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥].
فِي أُمَمٍ حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم، وقيل: فِي بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وفي البحر لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في، وتنكير أُمَمٍ للتكثير أي في أمم كثيرة قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم، وجوز كونه لهم بقرينة السياق وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي لا تنصتوا له.
370
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن
وَالْغَوْا فِيهِ وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القارئ، والمراد باللغو ما لا أصل له وما لا معنى له، وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة والسلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز، وقال أبو العالية أي قعوا فيه وعيبوه، وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنهما «وألغوا» بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغي كرضى يرضي ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغي به إذا رمى به فيكون فِيهِ بمعنى به أي ارموا به وانبذوه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تغلبونه على قراءته أو تطمون أمره وتميتون ذكره فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فو الله لنذيقن هؤلاء القائلين، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولا أوليا.
عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ- فأفعل- للزيادة المطلقة، وقيل: إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر، والعذاب إما في الدارين أو في إحداهما، وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى: جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى، وقوله سبحانه: النَّارُ عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف.
وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وجَزاءُ مبتدأ والنَّارُ خبره، والإشارة حينئذ إلى مضمون الجملة السابقة، وقوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جملة مستقلة مقررة لما قبلها، وجوز أن يكون النَّارُ مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل: في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١] وقول الشاعر:
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها، وجوز أن يقال: المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل: لهم فيها الخلود، وقيل: الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية، والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والأول أبلغ.
جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الإسراء: ٦٣] والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها، وجعل بعضهم الجحود مجازا عن اللغو المسبب عنه أي جزاء بما كانوا بآياتنا يلغون وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين،
وعن علي كرم الله وجهه وقتادة أنهما إبليس وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق.
وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص، والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إراءة
371
المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «أرنا» بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ، وفي الكشاف «أرنا» بالكسر للاستبصار وبالسكون للاستعطاء ونقله عن الخليل، فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما بها انتقاما منهما، وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا، وقرىء في السبعة «اللذين» بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ذلا ومهانة أو مكانا.
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد ثُمَّ اسْتَقامُوا ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك، فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا قال: قد حملتم الأمر على أشده قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا الله تعالى بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أخلصوا العمل،
وعن الأمير علي كرم الله وجهه أدوا الفرائض
، وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال الربيع:
أعرضوا عما سوى الله تعالى، وفي الكشاف أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال: ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عزّ وجلّ مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتضاه أن لا تزل قدمه عن طريق العبودية قلبا وقالبا ولا يتخطاه وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات ولهذا
قال ﷺ لمن طلب أمرا يعتصم به:
«قل ربي الله تعالى ثم استقم»
وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل، ولعل ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي فإن الاستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار، وجعلت على تفسير الاستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضا بناء على أن الإقرار مبدأ الاستقامة على ذلك ومنشؤها، وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولا لأن المعطوف عليه فيه أعلى مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس، وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ من الله ربهم عزّ وجلّ الْمَلائِكَةُ قال مجاهد والسدي: عند الموت، وقال مقاتل: عند البعث، وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث، وقيل: تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، قيل: وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاث السابقة وغيرها، وقد قمنا لك أن جميعا من الناس يقولون:
بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر.
أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروي هذا عن مجاهد، وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وقيل: المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق.
والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا و (أن) إما مصدرية و (لا) ناهية أو
372
نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة، وإما مخففة من الثقيلة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي بأن لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن. وإما مفسرة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى القول ولا ناهية أيضا.
وفي قراءة عبد الله «لا تخافوا» بدون (أن) أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف.
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة، وقوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام، ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَفِي الْآخِرَةِ
نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوى والخصام.
وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضا على معنى كنا نحن أولياؤكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة، وقيل: هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة وَلَكُمْ فِيها
أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من فنون الملاذ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية، وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده، وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم، نعم قيل: إذا أريد بالمتمنى ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك.
وقال ابن عيسى: المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم بحكم ربكم وَلَكُمْ
في الموضعين خبر وما
مبتدأ وفِيها
حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ما تَدَّعُونَ
على ما تَشْتَهِي
للإيذان باستقلال كل منهما نُزُلًا قال الحسن: منّا وقال بعضهم: ثوابا، وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى: مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعد من الكرامة، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى ما تَدَّعُونَ
لا من الضمير المحذوف الراجع إلى ما
لفساد المعنى لأن التمني والادعاء ليس في حال كونه نزلا بل ثبت لهم ذلك المدعي واستقر حال كونه نزلا، وجعله حالا من المبدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقال ابن عطية: نُزُلًا نصب على المصدر، والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل، وقيل: هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أيضا أي نازلين، وذو الحال على ما قال أبو حيان:
الضمير المرفوع في تَدَّعُونَ
ولا يحسن تعلق مِنْ غَفُورٍ به على هذا القول فقيل: هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل.
وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إليه تعالى، وإلى ذلك ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وقيل: بالخصوص فقال ابن عباس:
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضا هم أصحاب محمد ﷺ وقالت عائشة وقيس بن أبي حازم وعكرمة ومجاهد: نزلت
373
في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة، والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى، والظاهر أن المراد الدعاء باللسان، وقيل: به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد، وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية، وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالما بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر.
ويقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، والاستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وَعَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل صالح كان.
وقال أبو أمامة: صلى بين الأذان والإقامة، ولا يخفى ما فيه، وقال عكرمة: صلى وصام، وقال الكلبي: أدى العرائض والحق العموم وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي تلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام دينا له من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده، وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد، والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي ﷺ اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد لا تسمعوا لهذا القرآن وتعجب منه، وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال «وقال إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية.
واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الاستثناء في قول القائل: أنا مسلم أو أنا مؤمن. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملا عملا صالحا ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن.
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عزّ وجلّ ترغيبا لرسول الله ﷺ في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: ٢١] لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضا وضع أَحْسَنُ موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم
، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي: الدعوتان إليهما، وقال الضحاك: الحلم والفحش، وقيل: الصبر، وقيل: المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روي عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس ولا الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في ادْفَعْ إلخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين
374
متفاوت الإفراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق. قال ابن عطية: دخلت (كأن) المفيدة للتشبيه لأن العدو لا يعود وليا حميما بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل:
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات
والَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوا مبينا لرسول الله ﷺ فصار عند أهل السنة وليا مصافيا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عزّ وجلّ ما يستحق وَما يُلَقَّاها أي ما يلقى ويؤتى هذه الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل: الضمير للجنة وليس بشيء.
وقرأ طلحة وابن كثير في رواية «وما يلاقاها» من الملاقاة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روي عن ابن عباس، وقال قتادة: ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل: الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر وَما يُلَقَّاها تأكيدا لمدح تلك الفعلة الجميلة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الأشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت.
وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ومن الثاني وهو قوله سبحانه: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال: كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فيه كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره فافهم.
375
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزع النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغا للمبالغة على طريقة جد جده- فمن- على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان- فمن- بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضا لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و «إن» شرطية و «ما» مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه إِنَّهُ عزّ وجلّ هُوَ السَّمِيعُ فيسمع سبحانه استعاذتك الْعَلِيمُ فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل: السميع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيا عن انتقامك، وقيل: العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.
وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول: إنه عدوك الذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبدا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده.
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صرد قال: استبّ رجلان عند النبي ﷺ فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل:
أمجنونا تراني؟ فتلا رسول الله ﷺ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله»
.
ولعل الغضب من آثار الوسوسة وَمِنْ آياتِهِ الدالة على شؤونه الجليلة جل شأنه: اللَّيْلُ وَالنَّهارُ في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلا، وقدم ذكر الليل قيل: تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارئ عليها من جرم آخر، وقيل: هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه
376
وتعالى المسخّرة على وفق إرادته تعالى مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثني الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك.
وحكم جماعة ما لا يعقل- على ما قال الزمخشري- حكم الأنثى فيقال: الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالإناث تكلف عنه غنى بالقاعدة المذكورة. نعم قال أبو حيان: ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح والأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحد تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح في الثاني أن يكون بضمير الإناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل:
الضمير للشمس والقمر والاثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعا، وقيل: الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عزّ وجلّ، وكان علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود يسجدان عند تَعْبُدُونَ ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند لا يَسْأَمُونَ ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن ابن وهب ومسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن وثاب والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الكشف أصح الوجهين عند أصحابنا- يعني الشافعية- أن موضع السجدة لا يَسْأَمُونَ كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عند مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند تَعْبُدُونَ جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند يَسْأَمُونَ لم يجز تعجيلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي في حضرة قدسه عزّ وجلّ من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي دائما وإن لم يكن عندهم ليل ونهار وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الإخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس أنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس.
وقرئ «لا يسأمون» بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا. واستدل الشيخ أبو إسحاق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى يا من تصح منه الرؤية: الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي المطر اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهوا فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرا فحذف المشبه واستعمل الخشوع
377
والاهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل. وقرئ «ربأت» أي زادت، وقال الزجاج: معنى ربت عظمت وربأت بالهمز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع إِنَّ الَّذِي أَحْياها بما ذكر بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى بالبعث إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الأحياء قَدِيرٌ مبالغة في القدرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه، وأصله من ألحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ويقال لحد. وقرئ «يلحدون» و «يلحدون» باللغتين، وقال قتادة: هنا الإلحاد التكذيب، وقال مجاهد:
المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراءته، وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع. وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والاعراض عنها، وهذا أوفق بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إلخ، وما تقدم أوفق بقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦] وبما بعد، والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق.
والمراد بقوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد، وقوله تعالى:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ تنبيه على كيفية الجزاء، وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الأمن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمنا، وجوز أن تكون الآية من الاحتباك بتقدير من يأتي خائفا ويلقى في النار ومن يأتي آمنا ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد. والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ أبو جهل أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد الرزاق وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار، والآية نزلت فيهما، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل: فيه وفي عمر، وقيل: فيه وفي حمزة، وقال الكلبي: فيه وفي الرسول ﷺ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بحسب أعمالكم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ وهو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتكفرون وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته، وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب، وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعا، وقيل: غالب للكتب لنسخه إياها. وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به، وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية.
378
وقيل: الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضا وقوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي محمود على ما أسدى من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه: بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية.
وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ إلخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن، واختلفوا في خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف فقيل: مذكور وهو قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد، وذهب أبو حيان إلى أنه قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا إبطالا له لم يصلوا إليه أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير به على قول الكوفين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه: ما يُقالُ لَكَ إلخ والعائد أيضا محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال:
وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحن السمن منوان بدرهم والبر كر بدرهم أي منه.
ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وتعقبه بأنه لا يتعقل، وقيل: هو محذوف وخبر إِنَّ يحذف لفهم المعنى، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وأنه لكتاب عزيز فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم:
تقديره معاندون أو هالكون، وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار، ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد حَمِيدٍ وفي الكشاف أنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بدل من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال في البحر: ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعي أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقدير إن الذين يلحدون في آياتنا إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا. وفي الكشف فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر، وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم، وما في لَمَّا من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء، وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه، ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلا عن الجملة لأن البدل بتكرير العامل إنما جوز في المجرور لشدة الاتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق ما يُقالُ لَكَ إلى آخره تسلية له ﷺ عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن إِلَّا ما قَدْ قِيلَ أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: ٥٢].
379
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ قيل: تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل: ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضا، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر إِنَّ أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك إلخ، وقد يجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ باعتبار مضمونه تفسيرا للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل:
المقول هو الشرائع أي ما يوحى إليك إلا مثل ما أوحى إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ تعليلا لما يستفاد من السياق أيضا، وجعله بعضهم تفسيرا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولا ذهب قتادة.
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: ما يُقالُ لَكَ من التكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار أَلِيمٍ على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير الذكر لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بهمزتين الأولى للاستفهام والثاني همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي كلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا وقالوا ما لك وللعجمة أو ما لنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازا لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل: عَرَبِيٌّ على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال: عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدا أو جمعا، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباسا طويلا على امرأة قصيرة قال: اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلا فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ. وقرأ عمرو بن ميمون «أعجميّ» بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى.
380
وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما «أعجميّ» بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام اخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي.
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرا آخر وهكذا.
قُلْ ردا عليهم هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يهدي إلى الحق وَشِفاءٌ لما في الصدور من شك وشبهة وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على أن فِي آذانِهِمْ خبر مقدم ووَقْرٌ مبتدأ أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل: خبر الموصول فِي آذانِهِمْ ووَقْرٌ فاعل الظرف، وقيل:
وَقْرٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن وفِي آذانِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من وَقْرٌ.
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول ووَقْرٌ على هُدىً على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى:
فِي آذانِهِمْ ذكر بيانا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى وَقْرٌ والأول أبلغ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرا بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضا، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى مرتبطا بقوله سبحانه: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أو ضمير هُوَ عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى.
وأولى الأوجه ما تقدم وجيء بعلى في عَلَيْهِمْ عَمًى للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ بأنه لغيرهم مرض فظيع أُولئِكَ إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامّ عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادى من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم:
أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه
. ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم، وقرأ ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وابن هرمز «عم» بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري وأبو حاتم: لا ندري نوّنوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار وسليمان
381
بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ على ما سمعت أولا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: ٤٦] وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: ٤٥] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من القرآن مُرِيبٍ موجب للقلق والاضطراب، وقيل: الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، ومَنْ يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى: وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضره لا على الغير وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر.
382

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سئل عنها قيل الله تعالى يعلم أو لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التفصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى.
أما الثاني فظاهر، وأما فلأنك إذا سئلت عن مسألة وقلت. فلان يعلمه كان فيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلانا أهل أن يسأل عنه دونك وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء كجف الطلعة من كمه إذا ستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأ الحسن في رواية والأعمش وطلحة وغير واحد من السبعة «من ثمرة» على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع. وقرىء «من ثمرات من أكمامهن» بجميع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الاستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا ما في قوله تعالى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ أي حملها، وقوله تعالى: إِلَّا بِعِلْمِهِ في موضع الحال والباء للملابسة أو المصاحبة والاستثناء من أعم الأحوال أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا أو مصاحبا بشيء من
3
الأشياء إلا مصاحبا أو ملابسا بعلمه المحيط سبحانه واقعا حسب تعلقه به، وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة على الساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجار والمجرور في موضع الحال ومن الثانية على حالها، وتأنيث تَخْرُجُ باعتبار المعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل: ولا يجوز في الثانية ذلك لمكان الاستثناء المفرغ وأجازه بعضهم، ويكفي لصحة التفريغ النفي في قوله تعالى: وَلا تَضَعُ وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة إِلَيْهِ يُرَدُّ إلخ، ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم إن الاستثناء متعلق بالكل وتبيين القدر المشترك بين الأفعال الثلاثة وجعله الأصل في تعلق المفرغ كما سمعت لإظهار المعنى والإيماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب. وقد حيل بين العير والنزوان. لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنى ذلك فعل الحيلولة وليس ذاك من باب الاستثناء المتعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غير المفرغ فقد ذكر النحويون في باب التنازع وإن كان منفيا بإلا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل، والكلام على ما في شرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عزّ وجلّ فيكون كالبرهان على الحشر، وجوز أن يكون متصلا بقوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: ٣٧] إلخ وبقوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً [فصلت: ٣٩] إلخ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا، والأول وأقرب.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: ٦٢، ٧٤] وفيه تهكم بهم وتقريع لهم. ويَوْمَ منصوب باذكر أو ظرف بمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: ١٠٩] وضمير يُنادِيهِمْ عام في كل من عبد غير الله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان. قالُوا أي أولئك المنادون آذَنَّاكَ أي أعلمناك والمراد بالإعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فإنه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي بأنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول آذَنَّاكَ وقد علق عنها وفي تعليق باب أعلم وأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح، وشَهِيدٍ فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم لأن الكفرة يوم القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرءوا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالإنكار لعبادتهم غير الله تعالى وشركهم كذبا منهم وافتراء كقوله تعالى حكاية عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] وظاهر «آذناك» يقتضي سبق الإيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانيا حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى، واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله، وجوز أن يقال: إنه إخبار بإعلام سابق وذلك الاعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامة إنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه اعلام منهم بلسان الحال وهذا لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدب كأنهم يقولون أنت أعلم به ثم يأخذون في الجواب.
قال في الكشف: وهذا الوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب، ويحتمل أن يكون المعنى آذناك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفي
4
مشاهدتهم الظاهر أنه على الحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدة مقرين بمعبوداتهم في آخر فلا تنافي بينهما، وقيل: هو كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك: لا نرى لك مثلا تريد لا مثل لك لنراه، والكلام في آذَنَّاكَ على ما آذناك، وقيل: ضمير قالُوا للشركاء أي قال الشركاء: ليس منا أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير، والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر، ومعنى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ على ما قيل: إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي يقابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع وما اسم موصول عبارة عن الشركاء، ويحسن جمع من يعقل ومن لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام، وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى، والمعنى نسوا ما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم. ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا، وذكر بعض الأجلة أنه يتعين الأخير على القول بأن ضمير قالُوا للشركاء وكون الضلال مجازا عن عدم النفع فتدبر وَظَنُّوا أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العالم كثيرا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب، والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي ظن وهي معلقة عنها بحرف النفي، وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: وَظَنُّوا والظن على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ منجاة لهم أو أمر يموهون به، والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجى أو موضع روغان لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يمل ولا يفتر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة، ودُعاءِ مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو.
وقرأ عبد الله «من دعاء بالخير» بباء داخلة على الخير وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة والعسر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي فهو يؤوس قنوط من فضل الله تعالى ورحمته، وهذا صفة الكافر، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولا من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ولما كان أثره الدال عليه لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانيا بطريق أبلغ، وقدم اليأس لأنه صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤل والانكسار وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي حقي أستحقه لما لي من الفضل والعمل لا تفضل من الله عن وجل فاللام للاستحقاق أو هو لي دائما لا يزول فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب.
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي تقوم فيما سيأتي وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي على تقدير قيامها إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة، والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزيا بالحسنى باستحقاقه للكرامة لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين إن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتقين وبين التأكيد بالقسم وإن واللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للإهانة لا الكرامة كما توهموا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ لا يمكنهم التفصي عنه لشدته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: ٤٦] وقول الشاعر:
5
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قيل:
نأى بنفسه ثم كنى بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد بِجانِبِهِ عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبير البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في الكشف، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازا في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه إن نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيرا ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن الصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير:
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة فدعه مصونا بالجلال محجبا
ومن هنا قال الطيبي: إن ما هنا وارد على التهكم. وقرىء «ونآ» بإمالة الألف وكسر النون للاتباع «وناء» على القلب كما قالوا راء في رأى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضا لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولا، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها.
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله هذا لِي مدمجا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله عن المنعم في الحالتين، أما في الأول فظاهر، وأما في الثاني فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم بل تأسف على الفقد المشغل عن المنعم كل الأشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أن القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل: كونه يدعو دعاء عريضا متكررا ينافي وصفه بأنه يؤوس قنوط لأن الدعاء فرع الطعم والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال: الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ على أن الإيجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الإطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدنها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للاقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد وتنبيها على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به، وثُمَّ كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ غاية البعد عن
6
الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحا لحالهم بالصلة وتعليلا لمزيد ضلالهم، وجملة مَنْ أَضَلُّ على ما قال ابن الشيخ سادّة مسد مفعولي رَأَيْتُمْ وفي البحر المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري:
تقديره مثلا فمن أضل منكم، وقيل: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر. وقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ إلخ مرتبط على ما اختاره صاحب الكشاف بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بما جاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموما من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإرادة كائنة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة وَفِي أَنْفُسِهِمْ في بلاد العرب خصوصا وهو من عطف جبريل على ملائكته، وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة حَتَّى يَتَبَيَّنَ يظهر لَهُمْ أَنَّهُ أي القرآن هو الْحَقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرا، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشىء فتحا بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسليا عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل: الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإرادة.
والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد و (ربك) فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضي للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى بما لاقت لبون بني زياد
شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل:
هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه إلخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي أنكروا إراءة ذلك الدالة على حقيقة القرآن ولم يكفهم دليلا أنه عزّ وجلّ مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم.
وفي الكشف أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلا قاطعا ولما كان ما وعده غيبا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل: أو لم يكفهم اطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلا على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة
7
فائدتان: إحداهما تحقيق إنجاز ذلك الموعد كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع. والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة.
والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقية القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعا وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى. ولا يخفى أن في الآية عليه نوعا من الالغاز، وقيل: أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عزّ وجلّ، وهو كما ترى، وقيل: المعنى ولم يكفك أنه تعالى على كل شيء محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة. وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلّى الله عليه وسلّم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم.
وقوله تعالى أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ لبيان ما يترتب على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جلّ وعلا خافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة.
وقيل: دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي إنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث.
هذا وما ذكر في تفسير سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ في معنى ما روي عن الحسن ومجاهد والسدي وأبي المنهال وجماعة قالوا: إن قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ إلخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ فتح مكة، وقال الضحاك وقتادة: في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من القرآن. وأورد عليه أن سَنُرِيهِمْ يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئيا لهم قبل. وقال عطاء وابن زيد: إن معنى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفا. وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليها زمانا قريبا حالا فحالا فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكرا ازداد وقوفا فصح معنى الاستقبال.
واختار ذلك صاحب الكشف تبعا لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ لله عزّ وجلّ فقال: إن قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إشعارا بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وإنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عزّ وجلّ ولذا جعل نحو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: ٢٤] في جواب قولهم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [النحل: ٢٤] أنه إعراض عن كونه منزلا وجواب بأنه أساطير لا منزل فأريد أن يبين
8
إثبات كونه حقا من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الإنصاف فقيل: سَنُرِيهِمْ أي سيرى الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي إن الله جلّ جلاله هو الحق من كل وجه ذاتا وصفة وقولا وفعلا وما سواه باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل: أو لم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي العيني، وفي قوله تعالى: بِرَبِّكَ مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وإيثاره على أولم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلا وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشهدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيمانا متمحضا عن التقليد.
وإطلاق المرية للتغلب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ تتميما لقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ لأن من أحاط بكل شيء علما وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن ومجاهد وأجري على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف، ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ إلخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ إلى المرئي وتفسير الْحَقُّ بالله عزّ وجلّ، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود، وقرىء «إنه على كل شيء شهيد» بكسر همزة إن على إضمار القول، وقرأ السلمي. والحسن «في مرية» بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها خفية يضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء.
ومن كلمات القوم في الآيات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل الشوق والمحبة وصدق الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الأسرار كالإعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ أي أرض البشرية فِي يَوْمَيْنِ يومي الهوى والطبيعة وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً من الهوى والطبيعة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ العقول الإنسانية وَبارَكَ فِيها بالحواس الخمس وَقَدَّرَ فِيها أقواتها من القوى البشرية ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ سماء القلب وَهِيَ دُخانٌ هيولى إلهية فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ هي الأطوار السبعة للقلب فالأول محل الوسوسة والثاني مظهر الهواجس والثالث معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع منبع الحكمة ويسمى القلب
9
والخامس مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع مورد التجلي ومركز الأسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة فِي يَوْمَيْنِ يومي الروح الإنساني والإلهام وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي أنوار الاذكار والطاعات إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ يوم خوطبوا بأ لست بربكم؟ ثُمَّ اسْتَقامُوا على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذلك أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقا إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ تنزلا متفاوتا حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ هي أيضا متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه وَعَمِلَ صالِحاً لئلا يخالف حاله قاله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد:
خلت الرقاع من الرخاخ... وتفرزنت فيها البيادق
وتصاهلت عرج الحمير... وذاك من عدم السوابق
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة وَلَا السَّيِّئَةُ وهي طلب السوي والرضا بالدون ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي طلب الله تعالى ما سواه سبحانه فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ وهو النفس الأمارة بالسوء كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
لتميل إلى ما يهوى فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عزّ وجلّ وهي كشف الحجب ليظهر أن الإيمان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا وأنه عزّ وجلّ هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره:
ما آدم في الكون ما إبليس... ما ملك سليمان وما بلقيس
الكل إشارة وأنت المعنى... يا من هو للقلوب مغناطيس
وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عزّ وجلّ الهادي إلى سواء السبيل، تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاما باقيين إلى يوم لقائه.
10
Icon