تفسير سورة الشورى

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة حم عسق وتسمى الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية.

﴿حم عسق﴾ اسمانِ للسورةِ ولذلكَ فصِلَ بينهما وعُدَّا آيتينِ وقيلَ اسمٌ واحدٌ والفصلُ ليناسبَ سائرَ الحواميمِ وقُرىءَ حم سق فعلى الأولِ هُما خبرانِ لمبتدأٍ محذوفٍ وقيلَ حم مبتدأٌ وعسق خبرُهُ وعَلى الثَّانِي الكلُّ خبرٌ واحدٌ وقولُه تعالَى
﴿كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم﴾ كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتحقيق أنَّ مضمونَ السورةِ موافقٌ لما في تضاعف سائرِ الكتبِ المنزَّلةِ على الرسلِ المتقدمةِ في الدعوةِ الى التوحيد الإرشاد الى الحق أو إيحاءَهَا مثلُ إيحائِها بعدَ تنويهِها بذكرِ اسمِها والتنبيه على فخامةِ شأنها والكافُ في حيز النصبِ على أنَّه مفعولٌ ليُوحِي عَلى الأولِ وعلى أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ على الثَّانِي وذلك على الأول إشارةٌ إلى ما فيها وعلى الثَّانِي إلى إيحائِها وما فيه من معنى العبد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل أي مثل ما في هذه السورةِ من المعاني أو حى إليكَ في سائر السورِ وإلى مَنْ قبلك من الرسلِ في كتبِهم على أنَّ مناطَ المماثلةِ ما أُشيرَ إليهِ من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أو مثلَ إيحائِها أُوحيَ إليكَ عند إيحاءِ سائرِ السورِ وإلى سائرِ الرسلِ عند إيحاءِ كتبِهم إليهم لا إيحاءً مغايراً له كما في قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ الآيةَ على أنَّ مدارَ المْثليةِ كونُه بواسطةِ الملكِ وصيغةُ المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ للإيذان باستمرارِ الوحي وأنَّ إيحاءَ مثلِه عادتُه وفي جعلِ مضمونِ السورةِ أو إيحائها مشبهاً به من تفخيمِها مالا يخفى وكذا في وصفِه تعالَى بوصفي العزةَ والحكمةِ وتأخيرُ الفاعلِ لمراعاةِ الفواصلِ مع ما فيه من التشويق وقُرِىءَ يُوحَى على البناءِ للمفعولِ على أنَّ كذلكَ مبتدأ يوحى خبره المسندُ إلى ضميرِه أو مصدر ويحى مسندٌ إلى إليكَ والله مرتفعٌ بما دلَّ عليهِ يوحى كأنه قبل مَنْ يُوحِي فقيلَ الله والعزيزُ الحكيمُ صفتان لهُ أو مبتدأٌ كما في قراءةِ نُوحِي والعزيزُ وما بعدَهُ خبرانِ له أو العزيز الحكيمُ صفتانِ له
21
٤ ٧
وقوله تعالى
22
﴿له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم﴾ خبرانِ له وعلى الوجوهِ السابقةِ استئنافٌ مقرر لعزته وحكمته
﴿تكاد السماوات﴾ وقُرِىَء بالياءِ ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ يتشقّقنَ من عظمةِ الله تعالىَ وقيلَ من دعاءِ الولدِ له كما في سُورةِ مريمَ وقُرِىءَ يَنْفَطرنَ والأولُ أبلغُ لأنَّه مطاوعُ فطَّر وهذا مطاوع فطر وفرىء تتفطرن بالتاءِ لتأكيدِ التأنيثِ وهو نَادرٌ ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أي يبتدأُ التفطرُ من جهتهنَّ الفوقانيةِ وتخصيصُها على الأولِ لما أنَّ أعظمَ الآياتِ وأدلَّها على العظمةِ والجلالِ من تلكَ الجهةِ وعلى الثان للدلالةِ على التفطرِ من تحتهنَّ بالطريقِ الأَولى لأنَّ تلكَ الكلمةَ الشنعاءَ الواقعةَ في الأرضِ حيثُ أثرتْ من جهة الفرق فلأنْ تؤثرَ في جهةِ التحتِ أَوْلى وقيلَ الضميرُ للأرضِ فإنَّها في مَعنْى الأرضينَ ﴿والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ﴾ ينزهونَهُ تعالى عمَّا يليقُ به ملتبسينَ بحمدِه ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض﴾ بالسَّعي فيما يستدعِي مغفرتَهُم من الشفاعةِ والإلهامِ وترتيبِ الأسبابِ المقربةِ إلى الطاعةِ واستدعاءِ تأخيرِ العقوبةِ طمعاً في إيمانِ الكافرِ وتوبةِ الفاسقِ وهذا يعمُّ المؤمنَ والكافرَ بلْ لو فُسِّر الاستغفارُ بالسَّعي فيما يدفعُ الخللَ المتوقعَ عمَّ الحيوانَ بل الجماد وحيث خص بالمؤمنينَ كَما في قولِه تعالى ويستغفرون للذين آمنوا فالمرادُ به الشفاعةُ ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ إذْ ما منْ مخلوق ولَهُ حظٌ عظيمٌ من رحمتِه تعالَى والآيةُ عَلى الأولِ زيادةُ تقرير لعظمتِه تعالَى وعلى الثَّاني بيانٌ لكمالِ تقدُّسهِ عمَّا نُسبَ إليه وأن ترك معالجتهم بالعقابِ على تلك الكلمةِ الشنعاءِ بسببِ استغفارِ الملائكةِ وفرطِ غفرانِه ورحمتِه ففيها رمزٌ إلى أنَّه تعالَى يقبلُ استغفارَهُم ويزيدُهُم على ما طلبُوه من المغفرةِ رحمةً
﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ شركاءَ وأنداداً ﴿الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ رقيبٌ على أحوالِهم وأعمالِهم فيجازيَهمُ بها ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ بموكّلٍ بهم أو بموكولٍ إليه أمرُهم وإنما وظيفتُكَ الإنذارُ
﴿وكذلك أَوْحينا إليكَ قرآناً عربياً﴾ ذلك إشارة إلى مصدر أَوْحَينا ومحلُّ الكافِ النصبُ على المصدريةِ وقرآنا عربياً مفعولا لأوحينَا أي ومثلَ ذلكَ الإيحاءِ البديعِ البيِّنِ المفُهم أَوْحينا إليكَ قرآناً عربياً لا لَبْسَ فيه عليكَ ولا على قومكَ وقيلَ إشارةٌ إلى مَعْنى الآيةِ المتقدمةِ من أنَّه تعالى هُو الحفيظُ عليهم وإنما أنتَ نذيرٌ فحسب فالكافُ مفعول به لاوحينا قرآنا عربياً حالٌ من المفعولِ
22
بِه أيْ أوحيناهُ إليكَ وهو قرآنٌ عربيٌّ بيِّنٌ ﴿لّتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ أيْ أهلَها وهيَ مكةُ ﴿وَمَنْ حولها﴾ من االعرب ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع﴾ أي يومَ القيامةِ لأنه يُجمعُ فيه الخلائق قال تعلى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع وقيلَ تُجمعُ فيه الأرواحُ والأشباحُ وقيلَ الأعمالُ والعُمالُ والإنذارُ يتعدَّى إلى مفعولينِ وقد يستعملُ ثانيهما بالباءِ وقد حذف ههنا ثانِي مفعولَيْ الأولِ وأولُ مفعولي الثان اللتهويل وإيهامِ التعميمِ وقُرِىءَ لينذرَ بالياءِ على أنَّ فاعلَهُ ضميرُ القرآنِ ﴿لاَ رَيْبَ فيه﴾ اعرتاض مقررٌ لما قبلَهُ ﴿فَرِيقٌ فى الجنة وفريق فى السعير﴾ أي بعدَ جمعِهم في الموقفِ فإنَّهم يُجمعونَ فيه أولاً ثمَّ يفرقونَ بعد الحسابِ والتقديرُ منهمُ فريقٌ والضميرُ للمجموعينَ لدلالةِ الجمعِ عليهِ وقِرِئَا منصوبينِ على الحاليةِ منهُم أيْ وتنذرَ يومَ جمعِهم متفرقين أي مشارفينَ للتفرقَ أو متفرقين في ادرى الثوابِ والعقابِ
23
﴿ولو شاء الله لجعلهم﴾ أي في لدنيا ﴿أمة واحدة﴾ قيل مهتدينَ أو ضَالِّينَ وهو تفصيلٌ لما أجملَهُ ابن عباس رضي الله عنهما في قولِه على دينٍ واحدٍ فمعنى قولِه تعالى ﴿ولكن يدخل من يشاء فِى رَحْمَتِهِ﴾ أنه تعالَى يُدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها ويدخلُ في عذابِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيهِ ولا ريب في أن مشيئَته تعالَى لكلَ من الإدخالينِ تابعةً لاستحقاقِ كلَ من الفريقين لدخلول مُدخلِه ومن ضرورةِ اختلافِ الرحمةِ والعذابِ اختلافْ حالِ الداخلينَ فيهما قطعاً فلم يشأْ جعلَ الكلِّ أمةً واحدةً بلْ جعلَهُم فريقينِ وإنَّما قيلَ ﴿والظالمون مَا لَهُمْ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ للإيذانِ بأنَّ الإدخالَ في العذابِ من جهِه الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهتِه تعالَى كما في الإدخال في الرحمة لا لِما قيلَ من المبالغةِ في الوعيدِ وقيلَ مؤمنين كلَّهم وهو ما قالَه مقاتلٌ على دينِ الإسلامُ كما في قوله تعالى ولو شآء الله لجمهم عَلَى الهدى وقوله تعالَى ﴿وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ والمَعنْى ولو شاء لله مشيئةَ قُدرةٍ لقسرَهُم على الإيمانِ ولكنَّه شاءَ مشيئةَ حكمةٍ وكلَّفَهم وبنى أمرَهُم على مَا يختارُون ليدخلَ المؤمنينَ في رحمتِه وهم المُرادونَ بقولِه تعالى يُدْخِلُ مَن يَشَاء وتركَ الظالمينَ بغيرِ وَليَ ولا نصيرٍ وأنت خبيرٌ بأنَّ فرضَ جعلِ الكلِّ مؤمنينَ يأباهُ تصديرُ الاستدراكِ بإدخالِ بعضِهم في رحمته إذِ الكلُّ حينئذٍ داخلونَ فيَها فكانَ المناسب حينئ تصديَرُه بإخراجِ بعضِهم مِنْ بينِهم وإدخالِهم في عذابِه فالذي يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسبقاه أنْ يرادَ الاتحادُ في الكُفرِ كما في قولِه تعالى كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فبعث الله النبين الآيةَ على أحدِ الوجهينِ بأنْ يُرادَ بهم الذين هم في فترة إدريسَ أو في فترةِ نوحٍ عليهما السلامُ فالمَعْنى ولو شاءُ الله لجعلَهُم أُمَّةً واحدةً متّفقةً على الكُفرِ بأنْ لا يرسلَ إليهم رسولاً لينذرَهُم ما ذُكِرَ من يوم الجع وما فيهِ من ألوانِ الأهوالِ فيبقُوا على ما هم عيه من الكُفرِ ولكنْ يدخلُ من يشاء فى رحمته أي شأنُه ذلكَ فيرسلُ إلى الكلِّ مَن ينذرُهم ما ذُكِرِ فيتأثرُ بعضُهم بالإنذارِ فيصرفونَ اختيارَهُم إلى الحقِّ فيوفقُهم الله للإيمانِ والطاعةِ ويُدخلِهُم في رحمتِه ولا يتأثرُ به الآخرونَ ويتمادَوْنَ في غيِّهم وهم الظالمونَ فيبقَونَ في الدُّنيا
23
} ١ ٩
على ما هم عليه من الكُفرِ ويصيرونَ في الآخرة إلى السعير من غير وَليَ يَلي أمرَهُم ولا نصيرٍ يخلصُهم من العذابِ
24
﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أولياء﴾ جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلَها من انتفاءِ أنْ يكونَ للظالمينَ ولي أو نصيرٌ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بَلْ للانتقالِ من بيانِ ما قبلَها إلى بيانِ ما بعدَها والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفيِه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه كما قيل إذا المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياءِ في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ كونِ الأصنامِ أولياءَ وهو أظهرُ الممتنِعاتِ أيْ بلْ أتخذُوا متجاوزينَ الله أولياءَ من الأصنامِ وغيرِها هيهاتَ وقولُه تعالَى ﴿فالله هُوَ الولى﴾ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كإنَّه قيلَ بعدَ إبطالِ ولايةِ ما اتخذُوه أولياءَ إنْ أرادُوا ولياً في الحقيقةِ فالله هُو الولى لاولى سواه ﴿وهو يحيي الموتى﴾ أيْ ومن شأنِه ذلكَ ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ﴾ فهُو الحقيقُ بأنْ يتخذَ ولياً فليخصُّوه بالاتخاذِ دونَ من لا يقدرُ على شيءٍ
﴿وما اختلفتم فيه من شَىْء﴾ حكايةٌ لقولِ رسولِ الله ﷺ للمؤمنينَ أيْ وما خالفَكُم الكفارُ فيهِ منْ أمورِ الدِّينِ فاختلفتُم أنتمُ وهُم ﴿محكمة﴾ راجعٌ ﴿إِلَى الله﴾ وهو إثابةُ المحقِّينَ وعقابُ المُبطلينَ ﴿ذلكم﴾ الحاكمُ العظيمُ الشأنِ ﴿الله رَبّى﴾ مالِكِي عَلَيْهِ توكلت في مجامع أمروى خاصَّة لاَ على غيرِه ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أرجعُ في كلِّ ما يَعنُّ لي من معضلات الأموة ر لا إلى أحدٍ سواهُ وحيثُ كانَ التوكُّل أمراً واحداً مستمراً والإنابةُ متعددة متجددة حسب تجّدُدِ موادّهِا أو ثر في الأولِ صيغةُ الماضِي وفي الثَّانِي صيغةُ المضارعِ وقيلَ وما اختلفتُم فيه وتنزعتم في شيءٍ من الخصوماتِ فتحاكمُوا فيهِ إلى رسولِ الله ﷺ ولا تُؤثروا على حكومتِه حكومةَ غيرِه وقيلَ وما اختلفتُم فيه من تأويلِ آية واشتبَه عليكُم فارجِعوا في بيانه إلى المحكمِ من كتابِ الله والظَّاهرِ من سنة رسول الله ﷺ وقيلَ وما وقعَ بينكُم الخلافُ فيهِ من العلومِ التي لا تتعلق تكليفكم ولا طريق لكُم إلى علمِه فقولُوا الله أعلمُ كمعرفةِ الرُّوحِ ولا مساغَ لحملِ هذا على الاجتهادِ لعدمِ جوازِه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم
﴿فاطر السماوات والأرض﴾ خبرٌ آخرُ لذلكُم أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأ خبرُهُ ﴿جَعَلَ لَكُمُ﴾ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ منَ الضميرِ أو وصفٌ للاسمِ الجليلِ في قولِه تعالَى إلى ﴿الله﴾ وما بينهما اعترضا بينَ الصفةِ والموصوفِ ﴿مّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ من جنسِكم ﴿أزواجا﴾ نساءً وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصريحِ قد مر سره غيره مرةٍ ﴿وَمِنَ الأنعام﴾ أي وجعلَ للأنعامِ من جنْسِها ﴿أزواجا﴾ أو خلقَ لكُم من الأنعامِ أصنافاً أو ذكوراً وإناثاً ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يكثّركم من الذرْءِ وهو البثُّ وفي معناهُ الذَّرو والذَّرُّ ﴿فِيهِ﴾ أي
24
} ٣ ١ ﴿
فيما ذُكِرَ من التدبيرِ فإنَّ جعلَ الناسِ والأنعامِ أزواجاً يكونُ بينَهم توالدٌ كالمنبعِ للبثِّ والتكثيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء﴾
أي ليسَ مثله في شأن من الشئون التي من جملتها هذا التدبيرُ البديعُ والمراد من مثله ذاتُه كَما في قولِهم مثلُكَ لا يفعلُ كَذا على قصدِ المبالغةِ في نفيه عنه فإذا إذا نُفيَ عمَّن يناسبُه كانَ نفيُه عْنهُ أَوُلى ثم سلكت هذهِ الطريقةُ في شأنِ مَنْ لا مثلَ لهُ وقيلَ مثلُه صفتُه أيْ ليسَ كصفتِه صفةٌ ﴿وَهُوَ السميع البصير﴾ المبالغُ في العلمِ بكلِّ ما يسمعُ ويبصر
25
﴿له مقاليد السماوات والأرض﴾ أيْ خَزَائنُهُما ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء ويقدر﴾ يوسعُ ويضيقُ حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المؤسسةُ على الحِكَمِ البالغةِ ﴿إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾ مبالغٌ في الأحاطةِ به فيفعلُ كلَّ ما يَفعلُ على ما ينبغِي أنُ يُفعلَ عليه والجملةُ تعليلٌ لما قبلَها وتمهيدٌ لما بعدَها من قولِه تعالى
﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى﴾ وإيذانٌ بأنَّ ما شرعَ لهم صادرٌ عن كمالِ العلمِ والحكمةِ كما أن بيانَ نسبتهِ إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيهٌ على كونِه ديناً قديماً أجمعَ عليه الرسلُ والخطابُ لأمَّتهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ شرعَ لكُم من الدين ما وصى به نوحاً ومَنْ بعدَه من أربابِ الشرائعِ وأولي العزائمِ من مشاهيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَهُم به أمراً مؤكداً على أنَّ تخصيصَهُم بالذكرِ لما ذُكِرَ من علوِّ شأنِهم ولا ستمالة قلوبِ الكفرةِ إليه لاتفاقِ الكلَّ على نبوةِ بعضِهم وتفردِ اليهودِ في شأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وتفردِ النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وإلا فَما منْ نبيَ إلا وهُو مأمور بما أمره به وهو عبارةٌ عنِ التوحيدِ ودينِ الإسلامِ وما يختلف باخلافت الأممِ وتبدلِ الأعصارِ من أصولِ الشرائعِ والأحكامِ كما ينبىءُ عنه التوصيةُ فإنها معربةٌ عن تأكيد الأمرِ والاعتناء بشأن المأمور به والمراد بإيحائه إليه عله الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا مَا ذُكر في صدرِ السورةِ الكريمةِ وفي قولِه تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا﴾ الآيةَ أو ما يعمُّهما وغيرَهُما مما وقعَ في سائر المواقعِ التي من جملتها قوله تعالَى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وقولُه تعالَى قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ وغيرُ ذلكَ والتعبيرُ عن ذلكَ عند نسبتِه إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالذي لزيادة تفخيمِ شأنِه من تلك الحيثيةِ وإيثارُ الإيحاءِ على ما قبله وما بعده من التوصيةِ لمراعاة ما وقعَ في الآيات المذكورةِ ولِما في الإيحاءِ من التصريحِ برسالته عليه الصلاة والسلام القامعِ لإنكار الكفرةِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بإيحائِه وهو السرُّ في تقديمِه على ما بَعدُه مع تقدِّمهِ عليهِ زماناً وتقديمُ
25
} ٤
توصيةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ للمسارعة إلى بيان كون المشروعِ لهم ديناً قديماً وتوجيه الخطابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيهِ على أنَّه تعالَى شرعَهُ لهم على لسانِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين﴾ أي دينَ الإسلامِ الذي هو توحيدُ الله تعالى وطاعتُه والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاءِ وسائرِ ما يكونُ الرجلُ بهِ مُؤمناً والمرادُ بإقامتِه تعديلُ أركانِه وحفظُه منْ أنْ يقعَ فيه زيف أو المواظبةُ عليه والتشمّرُ له ومحلُّ أنْ أقيمُوا إما النصبُ على أنه بدلٌ منْ مفعول شرع والمعطوفين عليها أو الرفعُ عَلى أنَّه جواب عن سؤال نشأ منْ إبهامِ المشروعِ كأنَّه قيلَ وما ذاكَ فقيلَ هو إقامةُ الدينِ وقيلَ بدلٌ من ضمير به وليسَ بذاكَ لما أنَّه معَ إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاءِ إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مستلزمٌ لكون الخطابِ في قولِه تعالَى ﴿وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فيه﴾ للأنبياء المذكروين عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتوجيه النَّهي إلى أممهم تمحّلٌ ظاهرٌ مع أنَّ الأظهرُ أنَّه متوجهٌ إلى أمته ﷺ وأنَّهم المتفرقونَ كما ستحيطُ به خبرا اي لا تتفرقُوا في الدينِ الذي هُو عبارةَ عمَّا ذُكر من الأصولِ دونَ الفروعِ المختلفةِ حسبَ اختلافِ الأممِ باختلافِ الأعصارِ كما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى ﴿لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرعة ومنهاجا﴾ وقولُه تعالَى ﴿كَبُرَ عَلَى المشركين﴾ شروعٌ في بيانِ أحوالِ بعضِ مَنْ شرعَ لهم ما شرع من الدينِ القويمِ أي عظُم وشق علهيم ﴿ما تدعوهم إليه﴾ من التوحيدِ ورفضِ عبادةِ الأصنامِ واستبعدُوه حيثُ قالُوا ﴿أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ﴾ وقولُه تعالَى ﴿الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء﴾ استئنافٌ واردٌ لتحقيق الحقِّ وفيه إشعارٌ بأنَّ منهُم من يجيبُ إلى الدعوة أي الله يجتلبُ إلى ما تدعُوهم إليهِ مَنْ يشاءُ أنْ يجتبَيُه إليهِ وهُو من صَرفَ اختيارَهُ إلى ما دُعِيَ إليه كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى ﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ أي يُقبلُ إليه حيثُ يمدُّه بالتوفيق والألطافِ وقولُه تعالَى
26
﴿وَمَا تَفَرَّقُواْ﴾ شروعٌ في بيان أحوالِ أهلِ الكتابِ عقيبَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى أحوالِ أهلِ الشركِ قال ابن عباس رضي الله عنُهمَا هُم اليهودُ والنَّصارى لقولِه تعالَى وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتو الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة أيْ وما تفرقُوا في الدينِ الذي دُعوا إليهِ ولم يُؤمنوا كما آمنَ بعضُهم ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم﴾ بحقِّيتِه بما شاهُدوا في رسول الله ﷺ والقرآنِ من دلائلِ الحقِّيةِ حسبما وجدُوه في كتابِهم أو العلم بمبعثه ﷺ وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أو منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا حالَ مجىء العلم أو إلا وقت مجيءَ العلمِ ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ وحميةً وطلباً للرياسة لا لأنَّ لهم في ذلكَ شبهةٌ ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ﴾ وهي العِدَةُ بتأخير العقوبةِ ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو يومُ القيامةِ ﴿لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ لأوقعَ القضاءَ بينَهم باستئصالِهم لاستيجاب جناياتِهم لذلك قطعاً وقولُه تعالَى ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ﴾
26
الخ بيانٌ لكيفية كفر المشركينَ بالقرآنِ إثرَ بيانِ كيفيةِ كفرِ أهلِ الكتابِ وقُرِىءَ وَرِثُوا ووُرِّثُوا أيْ وإنَّ المشركينَ الذينَ أُورثوا القرآنَ من بعدِ ما أُورثَ أهلُ الكتابِ كتابَهم ﴿لَفِى شَكّ مّنْهُ﴾ من القرآن ﴿مُرِيبٍ﴾ موقعٌ في القلق أو في الريبةِ ولذلكَ لا يُؤمنونَ به لا لمحض البغِي والمكابرةِ بعد ما علموا لحقيته كدأب أهلِ الكتابينِ هذا وأمَّا مَا قيلَ من أنَّ ضميرَ تفرقُوا لأمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنَّ المرادَ تفرقُ كلِّ أمةٍ بعدَ نبيِّها مع علمِهم بأنَّ الفرقةَ ضلالٌ وفسادٌ وأمرٌ متوعدٌ عليهِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيردّه قولُه تعالَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وكذا ما قيل من أن الناس كانوا أمةً واحدةً مؤمنينَ بعد ما أهلكَ الله تعالَى أهل الأرضَ بالطوفان فلما ماتَ الآباءُ اختلفَ الأبناءُ فيما بينُهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهُم العلمُ وإنما اختلفوة اللبفى بينَهم فإنَّ مشاهيرَ الأممِ المذكور قد أصابُهم عذابُ الاستئصالِ من غير إنظارٍ وإمهالٍ على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيان أحوالِ هذه الأمةِ وإنما ذُكِرَ من ذكر من الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لتحقيق أنَّ ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامتِه وتشديداً للزجرِ عن التفرق والاختلافِ فيه فالتعرضُ لبيان تفرقِ أممِهم عنه ربَّما يُوهم الإخلالَ بذلكَ المرامِ
27
﴿فَلِذَلِكَ﴾ أي فلأجل ما ذُكِرَ من التفرق والشكِّ المريبِ أو فلأجلِ أنَّه شرع لهم الدين القومم القديم الحقيق بأنْ يتنافسَ فيهِ المتنافسونَ ﴿فادع﴾ أي الناسَ كافةً إلى إقامةِ ذلك الدين والعمل بموجبِه فإنَّ كلاً من تفرقِهم وكونِهم في شكَ مريب ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله ﷺ سببٌ للدعوةِ إليهِ والأمرِ بَها وليسَ المشارُ إليهِ ما ذُكرَ من التوصية والأمرِ بالإقامة والنَّهي عن التفرقِ حتى يُتوهمُ شائبةُ التكرارِ وقيلَ المشارُ إليهِ نفسُ الدينِ المشروعِ واللامُ بمَعْنى إِلى كَما في قولِه تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا أي فإلى ذلكَ الدينِ فادعُ ﴿واستقم﴾ عليه وعلى الدعوة إليه ﴿كَمَا أُمِرْتَ﴾ وأُوحيَ إليكَ ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ الباطلةَ ﴿وقل آمنت بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب﴾ أيَّ كتابٍ كان من الكتبِ المنزلةِ لا كالذينَ آمنُوا ببعضٍ منها وكفرُوا ببعضٍ وفيه تحقيقٌ للحقِّ وبيانٌ لاتفاق الكتبِ في الأوصل وتأليفٌ لقلوب أهلِ الكتابينِ وتعريضٌ بهم وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بها في خاتمةِ سورةِ البقرةِ ﴿وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ في تبليغ الشرائعِ والأحكام وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام وقيل معناه لا سوى بيني وبينكُم ولا آمرَكم بما لاأعمله ولا اخالفكم إلى ماأنهاكم عْنهُ ولا أفرقَ بين أكابرِكم وأصاغرِكم واللام إمَّا على حقيقتها والمأمورُ به محذوفٌ أيْ أمِرتْ بذلكَ لأعدلَ أو زائدةٌ أيْ أمرتُ أنْ أعدلَ والباءُ محذوفةٌ ﴿الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي خالقُنا جميعاً ومتولِّي أمورنا ﴿لَنَا أعمالنا﴾ لا يتخطانَا جزاؤُها ثواباً كانَ
27
} ٨ ١٦
أو عقاباً ﴿وَلَكُمْ أعمالكم﴾ لا تجاوزكم آثارها لنستفيد بحسناتكم ونتضرر بسيآتكم ﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ لا مُحاجَّةَ ولا خصومةَ لأنَّ الحقَّ قد ظهرَ ولم يبقَ للمحاجَّةِ حاجةٌ ولا للمخالفة محل سوى المكابرةِ ﴿الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ يومَ القيامةِ ﴿وَإِلَيْهِ المصير﴾ فيظهرُ هناكَ حالُنا وحالُكم وهذا كما تَرَى محاجزةٌ في مواقف المجاوبةِ لا متارَكةٌ في مواطن المحاربةِ حتى يُصارَ إلى النسخ بآيةِ القتالِ
28
﴿والذين يُحَاجُّونَ فِى الله﴾ أي في دينِه ﴿مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ﴾ من بعدما استجاء له الناسُ ودخلُوا فيهِ والتعبيرُ عن ذلكَ بالاستجابةِ باعتبار دعوتِهم إليهِ أو من بعد ما استجاب الله لرسوله ﷺ وأيَّده بنصره أو من بعدما استجابَ له أهلُ الكتابِ بأن أقروا بنبوته صلى الله عليه سولم واستفتحُوا به قبلَ مبعثِه صلى الله عليه سلم وذلكَ أنَّ اليهودَ والنَّصارى كانوا يقولونَ للمؤمنين كتابُنَا قبلَ كتابِكم ونبيُنا قبلَ نبيِّكُم ونحنُ خير منكُم وأولى بالحقِّ ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ﴾ زالَّةٌ زائلةٌ باطلة بل لا جاحة لهم أصلاً وإنما عبِّر عن أباطيلهم بالحجة مجاراةً معهم على زعمهم الباطلِ ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ عظيمٌ لمكابرتِهم الحقَّ بعدَ ظهورِه ﴿وَلَهُمْ عذاب شَدِيدٍ﴾ لا يقادَر قَدرُهُ
﴿الله الذى أَنزَلَ الكتابَ﴾ أي جنسَ الكتابِ ﴿بالحق﴾ ملتبساً به في أحكامه وأخبارِه أو بما يحقُّ إنزالُه من العقائدِ والأحكامِ ﴿والميزان﴾ والشرعِ الذي يُوزنُ به الحقوقُ ويسوى بينَ الناسِ أو نفسُ العدلِ بأنْ أنزلَ الأمرَ بهِ أو آلةُ الوزنِ ﴿وَمَا يدريك﴾ أيُّ شيءٍ يجعلكَ عالماً ﴿لَعَلَّ الساعة﴾ التي يخبرُ بمجيئها الكتابُ الناطقُ بالحقِّ ﴿قَرِيبٌ﴾ أيْ شيءٌ قريبٌ او قريب مجيئها وقتل القريبُ بمعنى ذاتِ قربٍ أو الساعةُ بمعنى البعثِ والمَعْنى أنَّها على جناحِ الإتيانِ فاتبعِ الكتابَ واعملْ بهِ وواظبْ على العدل قبل أنْ يفاجئكَ اليومُ الذي يوزنُ فيه الأعمالُ ويوفي جزاؤها
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ استعجالَ إنكارٍ واستهزاءٍ كانُوا يقولونَ متى هيَ ليتها قامتْ حَتَّى يظهرَ لنا الحقُّ أهُو الذي نحنُ عليهِ أم الذي عليهِ محمدٌ وأصحابُه ﴿والذين آمنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ خائفونَ منَها معَ اعتناءٍ بها لتوقعِ الثوابِ ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق﴾ أي الكائنُ لا محالةَ ﴿أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ في الساعة﴾ يحادلون فيها منَ المرية أو من مَرَيتُ الناقةَ إذا مسحت صرعها بشدة للحليب ألأن كلاً من المتجادلينِ يستخرجُ ما عند صاحبهِ بكلامٍ فيه شدَّةٌ ﴿لَفِى ضلال بَعِيدٍ﴾ عن الحقِّ فإن البعثَ أشبه الغائباتِ بالمحسوسات فمن لم يهتدِ إلى تجويزه فهو عن
28
} ٢ ١٩
الاهتداءالى ما وراءَهُ أبعدُ وأبعدُ
29
﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ أي برٌّ بليغُ البِرِّ بهم يُفيض عليهم من فنون ألطافه مالا بكاد ينالُه أيدي الأفكارِ والظنونِ ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَاء﴾ أنْ يرزقه كيفما يشاءُ فيخصُّ كلاً من عباده بنوعٍ من البرِّ على ما تقضتيه مشيئته المنبية على الحِكم البالغةِ ﴿وَهُوَ القوى﴾ الباهرُ القدرةِ الغالبُ على كلِّ شيءٍ ﴿العزيز﴾ المنيعُ الذي لا يغلبُ
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة﴾ الحري في الأصل إلقاءُ البَذْرِ في الأرض يُطلقُ على الزرع الحاصل منه ويستعملُ في ثمرات الأعمالِ ونتائجها بطريق الاستعارةِ المبنيَّةِ على تشبيِهها بالغلال الحاصلةِ من البذور المتضمن لتنبيه الاعمال أي مَن كَانَ يُرِيدُ بأعماله ثوابَ الآخرةِ ﴿نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ﴾ نضاعفْ له ثوابَهُ بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ فما فوقها ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ﴾ بأعماله ﴿حَرْثَ الدنيا﴾ وهو متاعُها وطيباتُها ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي شيئاً منها حسبما قسمنَا لهُ لا ما يريدُه ويبتغيه ﴿وَمَا لَهُ فِى الأخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ إذْ كانتْ همتُه مقصورةً على الدُّنيا وقد مرَّ تفصيلُه في سورة الإسراء
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء﴾ أي بلْ ألهُم شركاءُ من الشياطينِ والهمزةُ للتقرير والتقريعِ ﴿شَرَعُواْ لَهُمْ﴾ بالتسويل ﴿مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله﴾ كالشرك وإنكارِ البعثِ والعملِ للدُّنيا وقيلَ شركاؤُهم أوثانُهم وإضافتُها إليهم لأنَّهم الذينَ جعلُوها شركاءَ لله تعالى واستاذ الشرعِ إليها لأنَّها سببُ ضلالتِهم وافتتانِهم كقوله تعالى إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا أو تمثايل مَنْ سنَّ الضلالَة لهُم ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل﴾ أي القضاءِ السابقِ بتأخيرِ الجزاءِ أو العدةُ بأنَّ الفصلَ يكونُ يومَ القيامةِ ﴿لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ أي بين الكافرينَ والمؤمنينَ أو بينَ المشركينَ وشركائِهم ﴿وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقُرِىءَ بالفتحِ عطفاً على كلمة الفصلِ أي ولولا كلمةُ الفصلِ وتقدير عذاب الظالمن في الآخرةِ لقُضيَ بينهم في الدُّنيا فإنَّ العذابَ الأليمَ غالبٌ في عذابِ الآخرةِ
﴿تَرَى الظالمين﴾ يومَ القيامةِ والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له للقصدِ إلى أنَّ سوءَ حالِهم غيرُ مختص برؤية راؤ دونَ راءٍ ﴿مُشْفِقِينَ﴾ خائفينَ ﴿مما كسبوا﴾ من السيآت ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أيْ ووبالُه لاحقٌ بهم لا محالةَ أشفقُوا أو لم يشفقوا أو الجملة حالٌ من ضمير مشفقينَ أو اعتراضص ﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات﴾
29
مستقرونَ في أطيب بقاعِها وأنزهها ﴿لهم ما يشاؤون عِندَ رَبّهِمْ﴾ أي ما يشتهونَهُ من فنون المستلذاتِ حاصلٌ لهم عندَ ربِّهم ظرفٌ للاستقرارِ العاملِ في لهم وقيلَ ظرفٌ ليشاءون ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذُكِرَ من حال المؤمنين وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشارِ إليه ﴿هُوَ الفضل الكبير﴾ الذي لا يُقادَرُ قدرُهُ ولا يبلغ غايته
30
﴿ذلك﴾ الفضلُ الكبيرُ هو ﴿الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ﴾ أي يبشرُهم به فحذفَ الجارُّ ثمَّ العائدَ إلى الموصول كما في قوله تعالى أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً أو ذلكَ التبشيرُ الذي يبشرُه الله تعالى عباده ﴿الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وقريء يببشر منْ أبشرَ ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ رُويَ أنَّه اجتمعَ المشركونَ في مجمعٍ لهم فقالَ بعضُهم لبعضٍ أترونَ أنَّ محمداً يسألُ على ما يتعاطاهُ أجراً فنزلتْ أيْ لا أطلبُ منكُم على ما أنا عليهِ من التبليغ والبشارة ﴿أَجْراً﴾ نفعاً ﴿إِلاَّ المودة في القربى﴾ أي إلاأن تودوني لقرابتي أو تودُّوا أهل قرابتي وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لا أسألُكم أجراً قَطُّ ولكنْ أسألُكم الموَّدةَ وفي القُربي حالٌ منَها أيْ إلا المودَّةَ ثابتةً في القُربى متمكنةً في أهلِها أو في حقَ القرابةِ والقُرْبى مصدرٌ كالزُّلْفى بمَعْنى القَرَابةِ رُويَ أنَّها لما نزلتْ قيلَ يا رسولَ الله مَنْ قرابتُكَ هؤلاءِ الذينَ وجبتْ علينا مودَّتُهم قالَ عليٌّ وفاطمةُ وابناهُمَا وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حُرِّمتْ الجنةُ على مَنْ ظلمَ أهلَ بيتِي وآذانِي في عترتي ومن ااصطنع صنيعةَّ إلى أحدٍ من ولدِ عبدِ المطلبِ ولمْ يجازِهْ فأَنَا أجازيهِ عليها غدا إذا لَقِيَنِي يومَ القيامةِ وقيلَ القُرْبَى التقربُ إلى الله أي إلاأن تودُّوا الله ورسولَهُ في تقربكم إليهِ بالطاعةِ والعملِ الصالحِ وقُرِىءَ إلا مودَّةً في القُربَى ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ أي يكتسبْ أيَّ حسنة كانت فتناول مودَّةَ ذِي القُرْبى تناولاً أولياً وعن السُدِّيِّ أنَّها المرادةُ وقيلَ نزلتْ في الصدِّيقِ رضيَ الله عنه ومودَّتهُ فيهم ﴿نَّزِدْ لَهُ فِيهَا﴾ أيْ في الحسنة ﴿حَسَنًا﴾ بمضاعفةِ الثوابِ وقُرِىءَ يَزِدْ أيْ يزدِ الله وقُرِىءَ حُسْنَى ﴿أَنَّ الله غَفُورٌ﴾ لمن أذنبَ ﴿شَكُورٍ﴾ لمن أطاع بتوفيه الثواب والتفضلِ عليهِ بالزيادةِ
﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ بلْ أيقولونَ ﴿افترى﴾ محمدٌ ﴿عَلَى الله كَذِبًا﴾ بدعوى النبوةِ وتلاوةِ القُرآنِ على أنَّ الهمزةَ للإنكار التوبيحي كأنه قيل أيتما لكون أنْ ينسُبُوا مثلَه عليهِ السَّلامُ وهُوَ هُوَ إلى الافتراء لا سيَّما الافتراءُ على الله الذي هُو أعظم القرى وأفحشُها وقولُه تعالَى ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾ استشهادٌ على بُطلان ما قالُوا ببيان أنَّه عليه السَّلامُ لو افتَرى على الله تعالَى لمنعَهُ من ذلك قطعاً وتحقيقُه أنَّ دعوى كونِ القرآنِ افتراءً عليه تعالَى قولٌ منهم بأنَّه تعالَى لا يشاءُ صدورَهُ عنِ النبِّي صلَّى الله عليه وسلم بلْ يشاءُ عدمَ صدورِه
30
} ٦ ٢٥
عْنهُ ومن ضرورتِه منعُه عنْهُ قطعاً فكأنَّه قيلَ لو كانَ افتراءً عليه تعالَى لشاءَ عدمَ صدورِه عنكَ وإنْ يشأْ ذلكَ يختُم على قلبكَ بحيثُ لم يخطُرْ ببالك معنىً منْ معانيه ولم تنطقْ بحرفٍ من حروفِه وحيثُ لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ بلْ تواترَ الوحي حيناً فحيناً تبين أنَّه من عندِ الله تعالَى هَذا وقيل المعنى إن شاء الله يجعلْكَ من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على الافتراءِ عليه تعالى إلا مَنْ كانَ كذلكَ ومؤدَّاهُ استبعاد الافتراءِ منْ مثله عليه السَّلامُ وأنَّه في البُعد مثلُ الشرك بالله والدخولِ في جملةِ المختومِ على قلوبِهم وعن قَتَادةَ يختمْ على قلبِكَ يُنْسكَ القُرآنَ ويقطعْ عنكَ الوحى يعنى لو افتَرى عَلَى الله الكذبَ لفعل به ذلك وهذا مَعْنى ما قيلَ لو كذب على الله لأنساهُ القرآنَ وقيلَ يختمْ على قلبِكَ يربطْ عليهِ بالصبرِ حتَّى لا يشقَّ عليك أذاهُم ﴿وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته﴾ استئنافٌ مقررٌ لنفي الافتراء غيرُ معطوفٍ عَلَى يختمُ كما ينبىءُ عنه إظهارُ الاسمِ الجليلِ وسقوطُ الواوِ كما في بعض المصاحفِ لاتّباعِ اللفظِ كما في قولِه تعالى وَيَدْعُ الإنسان بالشر أيُ ومن عادته تعالى أنه يمحُو الباطلَ ويثبتُ الحقَّ بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ فلو كان افتراءً كما زعمُوا لمحقه ودفعه أو عِدةٌ لرسولِ الله ﷺ بأنَّه تعالَى يمحُو الباطلَ الذي هم عليهِ من البَهتِ والتكذيبِ ويثبتُ الحق الذي هو عليهِ بالقرآنِ أو بقضائِه الذي لا مردَّ له بنصرته عليهم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ فيُجرِي عليها أحكامَها اللائقةَ بها من المحوِ والإثباتِ
31
﴿وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ التوبةُ هي الرجوعُ عنِ المعاصِي بالندمِ عليها والعزمُ على أنْ لا يعاودها أبداً ورَوَى جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنَّ أعرابياً دخلَ مسجدَ رسول الله ﷺ وقالَ اللهمَّ إنِّي أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ وكبَّرَ فلما فرغَ من صلاتِه قالَ له عليٌّ رضيَ الله عُنهُ يا هَذا إنَّ سرعةَ اللسانِ بالاستغفارِ توبةُ الكذَّابينَ وتوبتُكَ هذهِ تحتاجُ إلى التوبةِ فقالَ يا أميرَ المؤمنينَ وما التوبةُ قالَ اسمٌ يقع على ستةِ معانٍ على الماضِي من الذنوبِ الندامة ولتصنيع الفرائضِ الإعادةُ وردُّ المظالمِ وإذابةُ النفسِ في الطاعةِ كما ربَّيتها في المعصيةِ وإذاقتها مرارةَ الطاعةِ كما أذقتَها حلاوةَ المعصيةِ والبكاءُ بدلُ كل ضحك ضحكته ﴿ويعفو عَنِ السيئات﴾ صغيرها وكبيرِها لمنْ يشاءُ ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ كائناً ما كانَ منْ خير وشر فجيازي ويتجاوزُ حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصالح وقُرِىءَ ما تفعلونَ بالتاءِ
﴿ويستجيب الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي يستجيبُ الله لهم فحُذف اللامُ كما في قولِه تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أي كالُوا لَهُم والمرادُ إجابةُ دعوتِهم والإثابةُ على طاعتهم فإنبا كدعاءٍ وطلبٍ لِما يترتبُ عليها ومنه قوله ﷺ أفضلُ الدُّعاءِ الحمدُ لله او يستجيبون الله بالطاعةِ إذا دَعَاهُم إليَها دَعَاهُم إليَها وعنُ إبراهيِمَ بن أدهم قيلَ لَهُ ما بالُنَا ندعُو فلا
31
} ٩ ٢٧
نجابُ قالَ لأنَّه دعاكُم ولم تجيبُوه ثمَّ قرأَ ﴿والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام﴾ ﴿وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ﴾ على ما سألوا واستحقوا بموجب الوعد ﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ بدلَ مَا للمؤمنينَ من الثوابِ والفضلِ المزيدِ
32
﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض﴾ لتكبَّرُوا وأفسدُوا فيَها بَطَراً أو لعَلاَ بعضُهم على بعض با لاستيلاء والاستعلاء كمَا عليهِ الجِبلَّةُ البشريةُ وأصلُ البَغِي طلب تجاوز الاقتصادِ فيَما يُتحرَّى من حيثُ الكميَّةُ أو الكيفيَّةُ ﴿ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ﴾ أي بتقديرٍ ﴿مَا يَشَاء﴾ أنْ ينزلَهُ مما تقتضيه مشيئتُه ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بصير﴾ محيط بخفايا أموارهم وحلاياها فيقدرُ لكلِّ واحدٍ منهُم في كلِّ وقتٍ من أوقاتِهم ما يليقُ بشأنِهم فيفقرُ ويُغِني ويمنعُ ويُعطِي ويَقْبِض ويبسُط حسبما تقتضيهِ الحكمةُ الربَّانيةُ ولو أغناهُم جميعاً لبغَوا ولو أفقرهُم لهلكُوا ورُويَ أنَّ أهلَ الصُّفَّةِ تمنَّوا الغِنَى فنزلتْ وقيل نزلتْ في العرب كانُوا إذا أخصبوا تحاربُوا وإذا أجدبوا انتجعوا
﴿وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث﴾ أي المطرَ الذي يغيثُهم من الجدب ولذلك خُصَّ باالنافع منه وقرىء يُنْزِل من الانزال ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ يئسوا منه وتقييدُ تنزيله بذلك مع تحقققه بدونه أيضاً لتذكر كمالِ النعمةِ وقُرِىءَ بكسر النون ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أيْ بركاتِ الغيثِ ومنافعَهُ في كلِّ شيءٍ من السهلِ والجبلِ والنباتِ والحيوانِ أو رحمتَهُ الواسعةَ المنتظمةَ لَما ذُكر انتظاماً أولياً ﴿وَهُوَ الولى﴾ الذي يتولَّى عبادَهُ بالإحسان ونشرِ الرحمة ﴿الحميد﴾ المستحقُ للحمدِ على ذلك لا غيره
﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض﴾ على ما هُما من تعاجيب الصنائع فإنَّها بذاتها وصفاتِها تدلُّ على شئونه العظيمةِ ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾ عطفٌ على السموات أو الخلق ﴿مِن دَابَّةٍ﴾ من حَيَ على إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السببِ أو ممَّا يدبُّ على الأرضِ فإنَّ ما يختصُّ بأحد الشيئين المتجاورين يصحُّ نسبتُه إليهما كَما في قولِه تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ وإنما يخرجُ من المِلحِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ للملائكة عليهم السَّلامُ مشيٌ مع الطيرانِ فيوصفُوا بالدبيب وأن يخلقَ الله في السماءِ حيواناً يمشُونَ فيها مشيَ الأنَاسيِّ على الأض كما ينبىء عنه قوله تعالى ويخلق ما لاتعلمون وقد رُويَ أن النبيَّ ﷺ قال فوقَ السماءِ السابعةِ بحر بين أسفله وأعلاهُ كَما بينَ السماءِ والأرضِ ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين رُكَبهن وأظلافهنَّ كما بينَ السماءِ والأرضِ ثم فوقَ ذلكَ العرشُ العظيمُ ﴿وَهُوَ على جَمْعِهِمْ﴾ أي حشرِهم بعدَ البعثِ للمحاسبةِ وقولُه تعالى ﴿إِذَا يَشَاء﴾ متعلقٌ بما قبلَهُ لا بقوله تعالَى
32
} ٥ ٣٠
﴿قَدِيرٌ﴾ فإنَّ المقيدَ بالمشيئةِ جمعه تعالى لاقدرته وإذَا عندَ كونِها بمَعْنى الوقتِ كَما تدخلُ الماضِي تدخلُ المضارعَ
33
﴿وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ﴾ أيُّ مصيبةٍ كانتْ ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي فهيَ معاصيكُم التي اكتسبتمُوها والفاءُ لأن ما شرطة أو متضمنةٌ لمَعْنى الشرطِ وقُرِىءَ بدونِها اكتفاءً بما في الباء من مَعْنى السببية ﴿ويعفو عَن كَثِيرٍ﴾ من الذنوبِ فلا يعاقبُ عليها والآيةُ مخصوصةٌ بالمجرمينَ فإنَّ ما أصابَ غيرَهُم لأسبابٍ أُخرى منها تعريضُه للثوابِ بالصبرِ عليها
﴿وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض﴾ فائتينَ ما قُضِيَ عليكُم من المصائبِ وإن هربتُم من أقطارِها كلَّ مهربٍ ﴿وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ﴾ يحميكُم منَها ﴿وَلاَ نَصِيرٍ﴾ يدفعها ويدفعها عنكم
﴿ومن آياته الجوار﴾ السفنُ الجاريةُ ﴿فِى البحرِ﴾ وقُرِىءَ الجَوَارِي ﴿كالأعلام﴾ أي كالجبالِ على الإطلاقِ لا التي عليها النارُ للاهتداءِ خاصَّة
﴿إن يشأ يسكن الريح﴾ التى يجريها وقُرُىءَ الرياحَ ﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ﴾ فيبقينَ ثوابتَ عل ظهرِ البحرِ أي غيرَ جارياتٍ لا غيرَ متحركاتٍ أصلاً ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ الذي ذُكِرَ من السفنِ اللاتِي يجرينَ تارةً ويركُدنَ أُخْرى على حسب مشيئتِه تعالَى ﴿لاَيَاتٍ﴾ عظيمةً في أنفسها كثيرةً في العددِ دالةً على ما ذُكِرَ من شئونه تعالَى ﴿لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ لكل مكن حبسَ نفسَهُ عن التوجِه إلى ما لا ينبغِي ووكَّلَ همَّتَهُ بالنظرِ في آياتِ الله تعالَى والتفكرِ في آلائِه أو لكلِّ مؤمنٍ كاملٍ فإنَّ الإيمانَ نفصه صبرٌ ونصفُهُ شكرٌ
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ عطفٌ على يُسكنْ والمعنى إن يشأ يسكن الريح ٠ فيركدنَ أو يرسلْهَا فيغرقنَ بعصفِها وإيقاعُ الإيباقِ عليهنَّ مع أنَّه حالُ أهلهنَّ للمبالغةِ والتهويلِ وإجراءُ حُكمِه على العفوِ في قولِه تعالَى ﴿وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾ لِما أنَّ المَعْنى أو يُرسلْها فيوبقْ ناساً ويُنجِ آخرينَ بطريق العفوِ عنهُم وقرءى ويعفوا على الاستئناف
﴿وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى آياتنا﴾ عطفٌ على علة مقدرةٍ مثلُ لينتقمَ منهم وليعلم الخ كما في قولِه تعالى ولنجعله آية لّلْنَّاسِ وقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ونظائِرِهِما وقُرِىءَ بالرفعِ على الاستئنافِ وبالجزمِ عطفاً على يعفُ فيكونُ المَعْنى وإنْ يشأْ يجمعْ بينَ إهلاكِ قومٍ وإنجاءِ قومٍ وتحذيرِ قومٍ ﴿مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ﴾ أي منْ مهربٍ من العذابِ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ
33
٤٠ ٣٦
34
﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء﴾ مما ترغبونَ وتتنافسونَ فيهِ ﴿فمتاع الحياة الدنيا﴾ أي فهُو متاعُها تتمتعونَ به مدةَ حياتِكم ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ من ثواب الآخرةِ ﴿خَيْرٌ﴾ ذاتاً لخلوصِ نفعِه ﴿وأبقى﴾ زماناً حيثُ لا يزولُ ولا يَفْنى ﴿لِلَّذِينَ آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ لا على غيرِه أصلاً والموصولُ الأولُ لما كانَ مُتضمناً لمَعْنى الشرطِ منْ حيثُ أنَّ إيتاءَ مَا أُوتُوا سببٌ للتمتعِ بها في الحياة الدُّنيا دخلتْ جوابَها الفاءُ بخلافِ الثانِي وعَنْ علي رضي الله عنه أنَّه تصدقَ أبُو بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمالِه فلامَهُ جمعٌ من المسلمينَ فنزلتْ وقولُه تعالَى
﴿والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم﴾ أي الكبائر من هذا الجنس ﴿والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ معَ ما بعدَهُ عطفٌ على الذينَ آمنُوا أو مدحٌ بالنصبِ أو الرفعِ وبناءُ يغفرونَ على الضميرِ خبراً لهُ للدلالةِ على أنَّهم الأَخِصَّاءُ بالمغفرةِ حالَ الغضبِ لعزةِ منالِها وقُرِىءَ كبيرَ الإثمِ وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما كبيرُ الإثمِ الشركُ
﴿والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ نزلَ في الأنصارِ دعاهم رسول الله صلى الله لعه سوم اى الإمان فاستجابُوا له ﴿وَأَمْرُهُمْ﴾ شورى بَيْنَهُمْ أي ذُو شُورى لا ينفردونَ برأيٍ حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليها وكانُوا قبلَ الهجرةِ وبعدَهَا إذا حزبَهُم أمرٌ اجتمعُوا وتشاورُوا ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ أيْ فِي سبيلِ الخيرِ وَلعلَّ فصلَهُ عن قرينِه بذكرِ المشاورةِ لوقوعِها عند اجتماعِهم للصلواتِ
﴿والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ أي ينتقمونَ ممَّنْ بَغَى عليهِم على ما جعلَهُ الله تعالَى لهُم كراهةً التذللِ وهو وصفٌ لهم بالشجاعةِ بعدَ وصفِهم بسائرِ مُهمَّاتِ الفضائلِ وهَذَا لا ينافِي وصفَهُم بالغُفرانِ فإنَّ كلاًّ منهما فضيلةٌ محمودةٌ في موقعِ نفسهِ ورذيلةٌ مذمومةٌ في موقعِ صاحبهِ فإنَّ الحِلْمَ عن العاجر وعوراءِ الكرامِ محمودٌ وعن المتغلب ولغواء اللثام مذمومٌ فإنَّه إغراءٌ على البَغِي وعليهِ قولُ مَنْ قالَ... إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمرَّدَاً... فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيفِ بالعُلا... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى...
وقولُه تعالَى
﴿وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا﴾ بيانٌ لوجهِ كونِ الانتصارِ من الخصالِ الحميدةِ مع كونِه في نفسِه إساءةً إلى الغيرِ بالإشارةِ إلى أنَّ البادىءَ هُو الذي فعلَهُ لنفسهِ فإنَّ الأفعالَ مستتبعة لأجزئتها حتما إن خيرا فخيرا وإنْ شراً فشرٌّ وفيه تنبيهٌ على حُرْمةِ التعدِّي وإطلاقُ السيئةِ على الثانيةِ
34
٤٥ ٤ ﴿
لأنَّها تسوءُ مَنْ نزلتْ بهِ {فَمَنْ عَفَا﴾
عنِ المسيءِ إليهِ ﴿وَأَصْلَحَ﴾ بينَهُ وبينَ مَنْ يعاديهِ بالعفوِ والإغضاءِ كَما في قولِه تعالى فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حيم ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ عِدَةٌ مُبهمةٌ منبئةٌ عن عظمِ شأنِ الموعودِ وخُروجِه عن الحدِّ المعهودِ ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ البادئينَ بالسيئةِ والمعتدين في الانتقامِ
35
﴿وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ أي بعدَ ما ظُلِمَ وقَدْ قُرِىءَ بهِ ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الضميرينِ لها بعتبار اللفظِ ﴿مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ﴾ بالمُعَاتبةِ أو المُعَاقبةِ
﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس﴾ يبتدئونَهُم بالإضرارِ أوْ يعتدونَ في الانتقامِ ﴿وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أيْ يتكبرونَ فيَها تجبُّراً وفساداً ﴿أولئك﴾ الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الظُّلمِ والبغيِ بغيرِ الحقِّ ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بسببِ ظُلمهم وبغيِهم
﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ على الأذَى ﴿وَغَفَرَ﴾ لِمَنْ ظلمَهُ وَلم ينتصرْ وفوَّضَ أمرَهْ إلى الله تعالى ﴿إن فِى ذَلِكَ﴾ الذي ذُكِرَ مِنَ الصبرِ والمغفرةِ ﴿لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أيْ إنَّ ذلكَ مِنْهُ فحذفَ ثقةً بغايةِ ظهورِه كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ وهَذا في الموادِّ التي لا يُؤدِّي العفوُ إلى الشرِّ كَما أُشيرَ إليهِ
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ﴾ من ناصرٍ يتولاَّهُ من بعدِ خِذلانه تعالى إيَّاهُ ﴿وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أيْ حينَ يرنه وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحقق يعقلون ﴿هَلْ إلى مَرَدّ﴾ أيْ إلى رجعةٍ إلى الدُّنيا ﴿مّن سَبِيلٍ﴾ حَتَّى نُؤمنَ ونعملَ صالحاً
﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أيْ على النار المدلول علهيا بالعذابِ والخطابُ في الموضعينِ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ ﴿خاشعين مِنَ الذل﴾ متذلليين مُتضائلينَ مِمَّا دهاهُم ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ﴾ أي يبتدىءُ نظرُهم إلى النَّارِ من تحريكٍ لأجفانِهم ضعيفٍ كالمصبورِ ينظرُ إلى السيفِ ﴿وقال الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين﴾ أي المتصفينَ بحقيقةِ الخُسرانِ ﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾ بالتعريضِ للعذابِ الخالدِ ﴿يَوْمُ القيامة﴾ إِمَّا ظرفٌ لخسِرُوا فالقولُ في
35
٤٩ ٤٧
الدنيال أوْ لقالَ فالقولُ يومَ القيامةِ أي يقولونَ حينَ يَرَونهم على تلك الحالِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققهِ وقولُه تعالى ﴿إَّلا أَن الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ إمَّا من تمامِ كلامِهم أو تصديقٌ منَ الله تعالى لَهُم
36
﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ من أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم﴾ برفعِ العذابِ عنُهم ﴿مِن دُونِ الله﴾ حسبما كانِوا يرجُون ذلكَ في الدُّنيا ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا له من سَبِيلٍ﴾ يُؤدِّي سلوكُه إلى النجاةِ
﴿استجيبوا لِرَبّكُمْ﴾ إذا دعاكُم إلى الإيمانِ على لسانِ نبيِّهِ ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾ أيْ لا يردُّه الله بعدَ ما حَكَم بهِ على أنَّ مِنْ صلةُ مردَّ أو مِنْ قَبْلِ أَن يأتيَ منَ الله يومٌ لا يُمكنُ رَدُّه ﴿مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ﴾ أي مفرَ تلتجئونَ إليهِ ﴿وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ﴾ أى إنكاره لَما اقترفتمُوه لأنَّه مدونٌ في صحائف أعمالهكم وتشهد عليكم جوار حكم
﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ تلوينٌ للكلامِ وصرفٌ له عن خطابِ الناسِ بعدَ أمرِهم بالاستجابةِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله ﷺ أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدوعهم إليه فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ﴾ وقد فعلتَ ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾ أي نعمةً منَ الصحةِ والغنَى والأمنِ ﴿فَرِحَ بِهَا﴾ أُريد بالإنسانِ الجنس لقولِه تعالَى ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ﴾ أي بلاءٌ من مرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾ بليغُ الكفرِ ينسى النعمةَ رأساً ويذكرُ البليةَ ويستعظمُها ولا يتأملُ سبَبَها بلْ يزعُم أنها أصابتْهُ بغيرِ استحقاقٍ لها وإسنادُ هذه الخصلةِ إلى الجنسِ مع كونِها من خواصِّ المجرمينَ لغلبتِهم فيما بينَ الأفرادِ وتصديرُ الشرطيةِ الأولى بإذَا معَ إسنادِ الإذاقةِ إلى نونِ العظمةِ للتنبيهِ على أنَّ إيصالَ النعمةِ محققُ الوجودِ كثيرُ الوقوعِ وأنَّه مُقْتضى الذاتِ كما أنَّ تصديرَ الثانيةِ بإِنْ وإسنادَ الإصابةِ إلى السيئةِ وتعليلَها بأعمالِهم للإيذانِ بنُدرةِ وقوعِها وأنَّها بمعزلٍ عن الانتظامِ في سلكِ الإرداة بالذاتِ ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ للتسجيلِ على أن هذا الجنسَ موسومٌ بكفرانِ النعم
﴿لله ملك السماوات والأرض﴾ فمن قضيَّتِه أنْ يملكَ التصرفَ فيهما وفي كلِّ ما فيهما كيفما يشاءُ ومن جُمْلتِه أن يقسمَ النعمةَ والبليةَ حسبما يريدُه ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ مما تَعلمُه وَممَّا لاَ تعلمُه ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا﴾ من الأولادِ ﴿وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور﴾
36
٥١ ٥٠
منهُم منْ غيرِ أنْ يكونَ في ذلكَ مدخلٌ لأحد
37
﴿أَوْ يُزَوّجُهُمْ﴾ أي يقرن بين الصنفينِ فيهبهما جميعاً ﴿ذُكْرَاناً وإناثا﴾ قالُوا مَعْنى يُزوِّجَهُم أنْ تَلِدَ غُلاماً ثم جَارِيةً أو جارية ثمَّ غُلاماً أو تلدُ ذكر وأُنْثى توأمينِ ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً﴾ والمَعْنى يجعلُ أحوالَ العبادِ في حقِّ الأولادِ مختلفةً على ما تقتضيِه المشيئةُ فيهن فيهبُ لبعضٍ إمَّا صنفاً واحداً من ذَكَرٍ أَوْ أنثى وإمَّا صنفينِ ويُعقمُ آخرَين ولعلَّ تقديمَ الأناثِ لأنَّها أكثر لتكثير النسل أو لان مساقَ الآيةِ للدلالةِ على أنَّ الواقعَ ما تتعلقُ به مشيئته تعالى لا ما تتعلقُ به مشيئة الإنسانِ والإناثُ كذلكَ أو لأنَّ الكلامَ في البلاءِ والعربُ تعدُّهنَّ أعظمَ البَلاَيا أو لتطييبِ قلوبِ آبائِهنَّ أو للمحافظةِ على الفواصلِ ولذلكَ عرَّفَ الذكورَ أو لجبرِ التأخيرِ وتغييرُ العاطفِ في الثالث لان قسيمُ المشتركِ بينَ القسمينِ ولا حاجة إليه في الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين القسام المتقدمةِ وقيلَ المرادُ بيانُ أحوالِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ حيثُ وهبَ لشعيبَ ولوطٍ إناثاً ولإبراهيمَ ذكوراً وللنبيِّ ﷺ ذكوراً وإناثاً وجعلَ يحيى وعيسى عقيمينِ ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ مبالغٌ في العلمِ والقدرةِ فيفعلُ ما فيهِ حكمة مصلحة
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ أيْ وما صَحَّ لفردٍ من أفراد البشرِ ﴿أَن يُكَلّمَهُ الله﴾ بوجةٍ منِ الوجوهِ ﴿إِلا وَحْياً﴾ أيْ إلاَّ بأنْ يُوحيَ إليهِ ويلهمَهُ ويقذفَ في قلبهِ كما أَوْحى إلى أمِّ مُوسى وإلى إبراهيمَ عليهما السَّلامُ في ذَبْحِ ولدهِ وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ أَوْحَى الله الزبورَ إلى داودَ عليهِ السَّلامُ في صدرِه أو بأنْ يُسمعَهُ كلامَهْ الذي يخلُقه في بعضِ الأجرامِ من غيرِ أنْ يبصر السامع مَنْ يكلمُه وهُو المرادُ بقولِه تعالى ﴿أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾ فإنه تمثيلٌ له بحالِ الملكِ المحتجبِ الذي يكلِّمُ بعضَ خواصِّهِ من وراءِ الحجاب يُسمعُ صوتَهُ ولا يَرَى شخصَهُ وذلكَ كما كلَّم مُوسى وكما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ أو بأنْ يكلمَهُ بواسطةِ المَلَكِ وذلكَ قولُه تعالى ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ أي مَلَكاً ﴿فَيُوحِىَ﴾ ذلكَ الرسولُ إلى المرسلِ إليهِ الذي هو الرسولُ البشَريُّ ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بأمرِه تعالَى وتيسيرِه ﴿مَا يَشَاء﴾ أنْ يوحيَهُ إليهِ وهَذا هو الذي يَجْري بينَهُ تعالَى وبينَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في عامَّةِ الأوقاتِ من الكلامِ وقيلَ قولُه تعالى وحياً وقولُه تعالى أو يرسلَ مصدرانِ واقعانِ موقع الحال قوله تعالى أَوْ مِن وراء حجابٍ ظرفٌ واقعٌ موقعَها والتقديرُ وما صَحَّ أن يكلمَ إلا مُوحياً أو مُسمعاً من وراءِ حجابٍ أو مُرسلاً وقُرِىءَ أو يرسلُ بالرفعِ على إضمار مبتدأٍ ورُويَ أنَّ اليهودَ قالت للنبي ﷺ ألا تكلمَ الله وتنظرَ إليهِ إنْ كنتَ نبياً كما كلمت مُوسى ونظرَ إليهِ فإنَّا لن نؤمنَ حتَّى تفعلَ ذلكَ فقالَ عليهِ السَّلامُ لم ينظر موسى عليه السلام إِلَى الله تَعَالَى فنزلتْ وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها من زَعَمَ أنَّ محمداً رأى ربَّه فقدْ أعظمَ على الله الفريةَ ثم قالتْ رضيَ الله عْنُها
37
٥٣ ٥ ﴿
أو لم تسمعُوا ربَّكُم يقولُ فتلتْ هَذِهِ الآيةَ {إِنَّهُ عَلِىٌّ﴾
متعالٍ عن صفاتِ المخلوقينَ لا يتأتَّى جَرَيانُ المفاوضةِ بينَهُ تعالى وبينَهم إلا بأحدِ الوجوهِ المذكورةِ ﴿حَكِيمٌ﴾ يُجْري أفعالَهُ على سُنَنِ الحكمةِ فيكلمُ تارةً بواسطةٍ وأُخرى بدونِها إمَّا إلهاماً وإما خطاباً
38
﴿وكذلك﴾ أيْ ومثلَ ذلكَ الإيحاءِ البديعِ ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا﴾ هو القرآنُ الذي هو للقلوب بمنزلةِ الروحِ للأبدانِ حيثُ يُحيَيها حياةً أبديةً وقيلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ ومَعْنى إيحائِه إليهِ عليهما السَّلامُ إرسالُه إليهِ بالوحي ﴿مَا كُنتَ تَدْرِى﴾ قبلَ الوَحي ﴿مَا الكتاب﴾ أيْ أيُّ شيءٍ هُو ﴿وَلاَ الإيمان﴾ أيْ الإيمانُ بتفاصيلِ ما في تضاعبف الكتابِ من الأمورِ التي لا تهتدِي إليهَا العقولُ لا الإيمانُ بما يستقلُّ به العقل والنظر عليه فإنَّ درايتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له مما لا ريبَ فيهِ قطعاً ﴿ولكن جعلناه﴾ أي الرُّوحَ الذي أوحيناهُ إليكَ ﴿نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء﴾ هدايتَهُ ﴿مّنْ عِبَادِنَا﴾ وهُو الذي يصرف اختيارَهُ نحو الاهتداءِ بهِ وقولُه تعالَى ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى﴾ تقريرٌ لهدايتهِ تعالى وبيانٌ لكيفيتِها ومفعولُ لتهدِي محذوفٌ ثقةً بغايةِ الظهورِ أى وأنك لتهدِي بذلكَ النورِ من نشاءُ هدايَتهُ ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ هو الإسلامُ وسائرُ الشرائعِ والأحكامِ وقُرِىءَ لتُهدَى أي لَيَهديكَ الله وقُرِىءَ لتدعوا
﴿صراط الله﴾ بدلٌ من الأولِ وإضافتُه إلى الاسمِ الجليلِ ثمَّ وصفُه بقولِه تعالَى ﴿الذى لَهُ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ لتفخيمِ شأنِه وتقريرِ استقامتِه وتأكيدِ وجوبِ سلوكِه فإنَّ كونَ جميع ما فيها من الموجوداتِ له تعالى خَلْقاً ومِلْكاً وتصرُّفاً مما يوجبُ ذلكَ أتمَّ إيجابٍ ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾ أى أمرو ما فيهما قاطبةً لا إلى غيرِه ففيهِ من الوعدِ للمهتدينَ إلى الصراطِ المستقيمِ والوعيدِ للضالينَ عنه ملا يخفى عن رسول الله ﷺ عن قرأَ سورةَ حم عسق كانَ ممَّن تُصلِّي عليهِ الملائكةُ ويستغفرونَ ويسترحمونَ لهُ
38
الزخرف
٤ ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
39
Icon