تفسير سورة المؤمنون

اللباب
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة المؤمنون
مكية١ وهي مائة وثمان عشرة آية، وألف ومائتان وأربعون كلمة، وعدد حروفها أربعة آلاف، وثمانمائة وحرفان.
١ البحر المحيط ٦/٣٩٢..

مكية وهي مائة وثمان عشرة آية، وألف مائتان وأربعون كلمة، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ الآيات العشر، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: «كان إذا نزل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الوحي يسمع عند وجهه كَدَوِيّ النحل فَمَكَثْنَا ساعة، وفي رواية: فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة، فَاسْتَقْبَلَ القبلة فرفع يديه، وقال:» اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقِصْنَا، وأكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا «ثم قال:» لَقَدْ أُنْزِلَ علينا عشر آيات مَنْ أَقَامَهُنَّ دخل الجنة «ثم قرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ عشر آيات» ورواه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وجماعة عن عبد
162
الرزاق وقالوا: «وَأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وارْضَ عَنَّا».
قوله: «قَدْ» هنا للتوقع، قال الزمخشري: «قد» نقيضة «لَمَّا» قد تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه. وقال البغوي: قد حرف تأكيد. وقال المحققون: قد يقرب الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد
163
حصل لهم وأنهم عليه في الحال. وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل.
والعامة على «أَفْلَحَ» مفتوح الهمزة والحاء فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها. وعن حمزة في الوقف خلاف، فروي عنه كورش وكالجماعة. وقال أبو البقاء: من أَلْقَى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنَّ الهمزة بعد حذف حركتها صُيِّرت ألفاً، ثم حذفت لسكونها (وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يُعْتَدُّ بحركة الدال لأنها عارضة. وفي كلامه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون: المَرَة والكَمَة في المَرْأة والكَمْأَة، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها، فيقولون: المَرَاة والكَمَاة بمدة بدل الهمزة ك (رَاس وفَاس) فيمن خففها، فقوله: صُيّرت ألفاً. ارتكاب لأضعف اللغتين.
الثاني: أنه وإن سُلم أنها صُيّرت ألفاً فلا نُسلّم أنَّ حذفها) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ، وهو الفاء من «أَفْلَحَ»، ومتى وجد سبب ظاهر أُحيل الحكم عليه دون السبب المقدر. وقرأ طلحة بن مُصرّف وعمرو بن عبيد «أُفلح» مبنياً للمفعول، أي: دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أَفْلَح متعدياً، يقال: أفلحه،
164
أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون «أَفْلَحَ» مستعملاً لازماً ومتعدياً.
وقرأ طلحة أيضاً: «أَفْلَحُ» بفتح الهمزة واللام وضم الحاء، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة: أكلوني البراغيثُ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله:
﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣].
قال عيسى: سمعتُ طلحة يقرؤها فقلتُ له: أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، يعني أني اتّبعتهم فيما قَرَأْتُ به، فإن لَحِنُوا على سبيل فَرْض المحالِ، فأنا لاَحِنٌ تبعاً لهم. وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافاً لمن يُغلّط الرواة.
وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يُردُّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع، وهما الآيتان المتقدمتان. وقال الزمخشري: وعنه أي: عن طلحة - «أَفْلَحُ» بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله:
٣٧٨٠ - فَلَوْ أَنَّ الأَطِّبَّا كَانُ حَوْلِي... وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجاً، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه، فكيف يقول اجتزأ بها عنها. وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط.
وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي اللوامح: وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤]. قال شهاب الدين: ومثله «
165
سَندْعُ الزَّبَانِيَةَ» «لَصَالُ الجَحِيم». قال المفسرون: والفلاح: النجاة والبقاء. قال ابن عباس: قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة. وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة. قوله: ﴿الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ الجار متعلق بما بعده، وقُدّم للاهتمام به، وحسنه كون متعلقه فاصلة، وكذا فيما بعده من أخواته، وأضيف الصلاة إليهم، لأنهم هم المنتفعون بها، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أضيفت إليهم دونه.

فصل


اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين، وهو الأولى.
قال ابن عباس: مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة: خائفون. وقال مقاتل: متواضعون. وقال مجاهد: هو غض البصر وخفض الصوت، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن﴾ [طه: ١٠٨]. وعن عليّ: هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وقال سعيد بن جبير: هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره. وقال عطاء: هو أن تعبث بشيء من جسدك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» وقال ابن الخطيب: وهو عندنا واجب، ويدل عليه أمور:
أحدها: قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: ٢٤]. والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وقوله تعالى: ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: ٤] أي: قفوا على عجائبه ومعانيه.
166
وثانيها: قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لذكريا﴾ [طه: ١٤] وظاهر الأمر للوجوب، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين﴾ [الأعراف: ٢٠٥] وظاهره للتحريم، وقوله: ﴿حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] تعليل لنهي السكران، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا.
ورابعها: قوله - عليه الصلاة - «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، قال عليه السلام: «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب» وما أراد به ألا الغافل، وقال أيضاً: «ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل»، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الالتفات في الصلاة، فقال: «هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد» وعن أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لا يزال الله - عزَّ وجلَّ - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه» وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.
وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع، واحتجوا بأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما
167
يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة، وفي الأخرى معصية، قالوا: وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد: إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور.
قوله: ﴿والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: عن الشرك.
وقال الحسن: عن المعاصي. وقال الزجاج: كل باطل، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل. وقيل: هو معارضة الكفار بالشتم والسب، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢] أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦]، وقد يكون كذباً لقوله تعالى: ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١]، وقوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً﴾ [الواقعة: ٢٥]. ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك.
قوله: ﴿والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ اللام في قوله: «لِلزَّكَاةِ» مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله، ولكونه فرعاً. والزكاة في الأصل مصدر، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان، وقال الزمخشري: اسم مشترك بين عين ومعنًى، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب، والمعنى فعل المزكي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له، ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل، ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام كله، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث: (من فعل هذا) فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
168
٣٧٨١ - المطعمُون الطَّعام في السنة ال أَزْمة والفاعلون للزكوات
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف، وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصح، لأنها فيه مجموعة. قال شهاب الدين: إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر؛ لأنه لو أراد العين لقال: مؤدون ولم يقل: فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها، لأنّ المصدر لا يجمع، وناقشه أبو حيان وقال: يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه. وقال أبو مسلم: إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ [الأعلى: ١٤]، وقوله: ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال، وإنما سمي بذلك؛ لأنها تطهر من الذنوب، لقوله تعالى: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣]. وقال الأكثرون: المراد بها هنا: الحق الواجب في الأموال خاصة؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى. فإنْ قيل: إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ فصل هنا بينهما بقوله: ﴿والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ﴾ ؟ فالجواب: لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة. قوله: ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام. قوله: ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «حَافِظُونَ» على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧].
الثاني: أنّ «عَلَى» بمعنى «مِنْ» أي: إلا من أزواجهم كما جاءت «مِنْ» بمعنى «
169
عَلَى» في قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧] وإليه ذهب الفراء.
الثالث: أنْ يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري: إلاَّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة أي: والياً عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثمّ سميت المرأة فراشاً.
الرابع: أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه «غَيْرُ مَلُومِينَ» قال الزمخشري: كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه. قال شهاب الدين: وإنما لم يجعله متعلقاً ب «مَلُومِينَ» لوجهين:
أحدهما: أن ما بعد «إِنَّ» لا يعمل فيما قبلها.
الثاني: أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.
الخامس: أن يجعل صلة لحافظين، قال الزمخشري: من قولك: احفظ عليّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى: ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري: وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة. قال شهاب الدين: وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة ب «حَافِظُونَ» على ما ذكره من التضمين، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو التأويل بالنفي
170
كنشدتك الله، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه.
السادس: قال أبو البقاء: في موضع نصب ب «حَافِظُونَ» على المعنى؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم. قال شهاب الدين: وفيه سببان:
أحدهما تضمين «حَافِظُونَ» معنى صانوا، وتضمين «على» معنى «عَنْ».
قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ﴾ «مَا» بمعنى: اللاتي، و «مَا» في محل الخفض يعني: أو على ما ملكت أيمانهم. وفي وقوعها على العقلاء وجهان:
أحدهما: أنها واقعة على الأنواع كقوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ﴾ [النساء: ٣] أي: أنواع.
والثاني: قال الزمخشري: أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
قال أبو حيان: وقوله: وهم. ليس بجيد، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول: «وَهُوَ» على لفظ «مَا» أو «هُنَّ» على معنى (ما).
وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله: «وَهُمْ» أي: العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل: مَنْ ملكت؟ فالجواب: لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ وصفان:
أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل.
171
والآخر: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.
فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء.

فصل


هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها.
فإن قيل: أليست الزوجة والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض، وحال العدة، والصيام، والإحرام، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً، لقوله عليه السلام:
«لا صلاة إلا بطهور، ولا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليّ» فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله: ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ﴾ معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات.
الثاني: (أَنَّا إنْ) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه.
وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ يعني: يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله.
قوله: ﴿فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك﴾ أي: التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات ﴿فأولئك هُمُ العادون﴾ الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج: سألت عطاء عنه فقال: مكروه، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال: عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون
172
بمذاكيرهم. قوله: ﴿والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ﴾ قرأ ابن كثير هنا وفي سأل «لأَمَانَتِهِم» بالتوحيد، والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق.
والأمانة في الأصل مصدر، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨].
«وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ»، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني، كذا قال الزمخشري.
أما ما ذكره من الآيتين فمسلم، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله، ويقع أيضاً على ما أمر الله به كقوله: ﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ [آل عمران: ١٨٣]، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة، والصيام، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع، فعلى العبد الوفاء بجميعها.
وقوله: «رَاعُونَ» الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم، ومنه يقال: مَنْ راعي هذا الشيء؟ أي متوليه.
وقوله: ﴿والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ قرأ الأخوان «عَلَى صَلاَتِهِمْ» بالتوحيد، والباقون «صَلَوَاتِهِمْ» بالجمع، وليس في المعارج خلاف.
173
والإفراد والجمع كما تقدم في «أَمَانَتِهم) و (أَمَانَاتِهِمْ). قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذكران مختلفان وليس بتكرير، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها. ثم قال: وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة.
وقيل: كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب.
ثم قال: ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾ «أُولَئِكَ»
أي: أهل هذه الصفة «هُمُ الوارِثُونَ» فإن قيل: كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١]. فالجواب من وجوه:
الأول: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «ما منكم من أحد إلاَّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله»، وذلك قوله: ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾. وأيضاً: فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل: إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع.
فالجواب: لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو (منزلة) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.
174
الثاني: أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.
الثالث: أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم - عليه السلام - فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث. فإن قيل: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؟
فالجواب: أنَّ قوله: ﴿لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها. واعلم أنَّ قوله: «هُمُ الوَارِثُونَ» يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨]، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف. قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل ب «يَرِثُونَ» وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون، وقد جاء في الحديث: «أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث».
175
قوله :﴿ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ الجار متعلق بما بعده، وقُدّم للاهتمام به، وحسنه كون١ متعلقه فاصلة، وكذا٢ فيما بعده من أخواته، وأضيف الصلاة إليهم، لأنهم هم المنتفعون بها، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أضيفت إليهم دونه٣.

فصل


اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين، وهو الأولى٤.
قال ابن عباس٥ : مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة : خائفون. وقال مقاتل : متواضعون. وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن، والخشوع في القلب٦ والبصر والصوت قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن٧. [ طه : ١٠٨ ]. وعن عليّ : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره٨. وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال :«لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه »٩. وقال١٠ ابن الخطيب : وهو١١ عندنا واجب، ويدل عليه أمور :
أحدها : قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾١٢. [ محمد : ٢٤ ]. والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وقوله تعالى :﴿ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ﴾١٣ [ المزمل : ٤ ] أي : قفوا على عجائبه ومعانيه.
وثانيها : قوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة لذكري ﴾١٤ [ طه : ١٤ ] وظاهر١٥ الأمر للوجوب، والغفلة تضاد الذكر١٦، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره.
وثالثها : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين ﴾١٧ [ الأعراف : ٢٠٥ ] وظاهره١٨ للتحريم، وقوله :﴿ حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾١٩ [ النساء : ٤٣ ] تعليل لنهي السكران، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا.
ورابعها : قوله - عليه السلام٢٠ - «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً »٢١ وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، قال عليه السلام٢٢ :«كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب »٢٣ وما أراد به إلا الغافل، وقال أيضاً :«ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل »، وقالت عائشة - رضي الله عنها٢٤ - سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال :«هو اختلاسٌ٢٥ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد »٢٦ وعن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«لا يزال الله - عزَّ وجلَّ٢٧ - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه »٢٨. وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.
وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع، واحتجوا بأن السجود لله تعالى٢٩ طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة، وفي الأخرى معصية، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد : إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور٣٠.
١ في ب: كونه. وهو تحريف..
٢ في ب: وكذلك..
٣ انظر الكشاف ٣/٤٢..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٨..
٥ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٤..
٦ في النسختين: البدن والتصويب من البغوي..
٧ من قوله تعالى: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا﴾ [طه: ١٠٨]..
٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٤..
٩ أخرجه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة. البغوي ٦/ ٥ – ٦ الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥) والدر المنثور ٥/٧ – ٤..
١٠ في الأصل: قال..
١١ في ب: فهو..
١٢ [محمد: ٢٤]..
١٣ [المزمل: ٤]..
١٤ من قوله تعالى: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا الله فاعبدني وأقيم الصلاة لذكري﴾ [طه: ١٤]..
١٥ في الأصل: وظاهرها..
١٦ في النسختين: الفكر..
١٧ من قوله تعالى: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين﴾ [الأعراف: ٢٠٥]..
١٨ في ب: وظاهر..
١٩ من قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ [النساء: ٤٣]..
٢٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢١ ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس. تفسير ابن كثير ٣/٤١٤..
٢٢ في ب: وقال عليه الصلاة والسلام..
٢٣ أخرجه ابن ماجه (صيام) ١/٥٣٩ والدارمي (رقاق) ٢/٣٠١، أحمد بن حنبل ٢/٣٧٣، ٤٤١..
٢٤ رضي الله عنها: سقط من الأصل..
٢٥ في الأصل: الاختلاس..
٢٦ أخرجه البخاري (أذان) ١/١٣٧، (وبدء الخلق) ٢/٢٢٣، وأبو داود (صلاة) ١/٥٦٠، والنسائي (سهو) ٣/٨، والترمذي (جمعة) ٢/٥١، والإمام أحمد ٦/٧٠، ١٠٦..
٢٧ في ب: تعالى..
٢٨ أخرجه النسائي (سهو) ٣/٨، وأبو داود ١/٣٣١، والإمام أحمد ٥/١٧٢، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥/٤..
٢٩ تعالى: سقط من الأصل..
٣٠ الفخر الرازي ٢٣/ ٧٨ – ٨٠..
قوله :﴿ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ ﴾ قال عطاء١ عن ابن عباس : عن الشرك٢.
وقال الحسن : عن المعاصي٣. وقال الزجاج : كل باطل، ولهو٤ وما لا يجمل٥ من القول والفعل٦. وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب، قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾٧ [ الفرقان : ٧٢ ] أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه٨.
واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى :﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ﴾٩ [ فصلت : ٢٦ ]، وقد يكون كذباً لقوله١٠ تعالى :﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾١١ [ الغاشية : ١١ ]، وقوله :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾١٢ [ الواقعة : ٢٥ ]. ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك ١٣.
١ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٦..
٢ في الأصل: عن الشعبي وهو تحريف..
٣ في الأصل: عن ابن العاصي. وهو تحريف..
٤ في ب: وهو. وهو تحريف..
٥ في ب: يحل. وهو تحريف..
٦ قال الزجاج: (اللغو كل لعب وهزل، وكل معصية فمطرحة ملغاة، وهم الذين قد شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو) معاني القرآن وإعرابه ٤/٦..
٧ من قوله تعالى: ﴿والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما﴾ [الفرقان: ٧٢]..
٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٦..
٩ من قوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾ [فصلت: ٢٦]..
١٠ في الأصل: كقوله وهو تحريف..
١١ [الغاشية: ١١]..
١٢ [الواقعة: ٢٥]. انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٠..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٠..
قوله :﴿ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ اللام في قوله :«لِلزَّكَاةِ » مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله١، ولكونه فرعاً٢. والزكاة في الأصل مصدر، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان، وقال الزمخشري : اسم مشترك بين عين ومعنًى، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب، والمعنى فعل المزكي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له، ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل، ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب : فاعل الضرب، وللقاتل : فاعل القتل، وللمزكي : فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام كله، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث :( من فعل هذا ) فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها ( فاعلون )٣ لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت :
المطعمُون الطَّعام في السنة ال أَزْمة والفاعلون للزكوات٤
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف، وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصح٥، لأنها فيه مجموعة٦. قال شهاب الدين : إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر ؛ لأنه لو أراد العين لقال : مؤدون ولم يقل : فاعلون، فقال الزمخشري : لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون٧ لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها، لأنّ المصدر لا يجمع٨، وناقشه أبو حيان وقال : يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه٩. وقال أبو مسلم : إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله :﴿ قَدْ١٠ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾١١ [ الأعلى : ١٤ ]، وقوله :﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾١٢ [ النجم : ٣٢ ] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال، وإنما سمي بذلك ؛ لأنها تطهر من الذنوب، لقوله تعالى :﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾١٣ [ التوبة : ١٠٣ ]. وقال الأكثرون : المراد بها هنا : الحق الواجب في الأموال خاصة ؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى١٤. فإنْ قيل : إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ١٥ فصل هنا بينهما بقوله :﴿ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ ﴾ ؟ فالجواب : لأنّ ترك اللغو من متمات١٦ الصلاة١٧.
١ في الأصل: حاله. وهو تحريف..
٢ البحر المحيط ٦/٣٩٥..
٣ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
٤ البيت من بحر المنسوخ قاله أمية بن أبي الصلت، وهو في ديوانه (٢٠)، القرطبي ١٢/١٠٥، البحر المحيط ٦/٣٩٦، شرح شواهد الكشاف (٢٠)..
٥ في ب: لا يصح، وهو تحريف..
٦ الكشاف ٣/٤٣..
٧ في الأصل: فاعل..
٨ انظر نص الزمخشري السابق..
٩ الدر المصون ٥/٨٣..
١٠ في ب: وقد. وهو تحريف..
١١ [الأعلى: ١٤]..
١٢ من قوله تعالى: ﴿فلا تزكوا أنفسكم هو أعلى بمن اتقى﴾ [النجم: ٣٢]..
١٣ من قوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم﴾ [التوبة: ١٠٣]. انظر الفخر الرازي ٢٣/ ٨٠ – ٨١..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨١..
١٥ في الأصل: فلا. وهو تحريف..
١٦ في ب: مهمات..
١٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨١..
قوله :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام١.
١ البغوي ٦/٧..
قوله :﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أن متعلق ب «حَافِظُونَ » على التضمين١ معنى ممسكين٢ أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾٣ [ الأحزاب : ٣٧ ].
الثاني : أنّ «عَلَى » بمعنى «مِنْ » أي : إلا من أزواجهم كما جاءت «مِنْ » بمعنى «عَلَى » في قوله :﴿ وَنَصَرْنَاهُ٤ مِنَ القوم ﴾٥ [ الأنبياء : ٧٧ ] وإليه ذهب الفراء٦.
الثالث : أنْ يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري : إلاَّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : والياً عليها، ومنه قولهم : فلانة تحت٧ فلان، ومن ثمّ سميت المرأة فراشا ٨.
الرابع : أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه «غَيْرُ مَلُومِينَ » قال الزمخشري : كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين٩ عليه. قال شهاب الدين : وإنما لم يجعله متعلقاً ب «مَلُومِينَ » لوجهين :
أحدهما : أن ما بعد «إِنَّ » لا يعمل فيما قبلها.
الثاني : أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف١٠.
الخامس : أن يجعل صلة١١ لحافظين، قال الزمخشري : من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى : ما طلبت منك إلا فعلك١٢ يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري : وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة١٣. قال شهاب الدين : وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ١٤ جعلها متعلقة ب «حَافِظُونَ » على ما ذكره من التضمين، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو١٥ التأويل بالنفي كنشدتك١٦ الله، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معنا ١٧.
السادس : قال أبو البقاء : في موضع نصب ب «حَافِظُونَ » على المعنى ؛ لأنّ١٨ المعنى صانوها عن كل١٩ فرج إلا عن فروج أزواجهم٢٠. قال شهاب الدين : وفيه سببان :
أحدهما تضمين «حَافِظُونَ » معنى صانوا، وتضمين «على » معنى «عَنْ »٢١.
قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ ﴾ «مَا » بمعنى : اللاتي، و «مَا » في محل الخفض يعني : أو على ما ملكت أيمانهم٢٢. وفي وقوعها على العقلاء وجهان :
أحدهما : أنها واقعة على الأنواع كقوله :﴿ فانكحوا مَا طَابَ ﴾٢٣ [ النساء : ٣ ] أي : أنواع٢٤.
والثاني : قال الزمخشري : أريد من٢٥ جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث٢٦.
قال أبو حيان : وقوله : وهم. ليس بجيد، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول :«وَهُوَ » على لفظ «مَا » أو «هُنَّ » على معنى ( ما )٢٧.
وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله :«وَهُمْ » أي : العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل : مَنْ ملكت ؟ فالجواب : لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ٢٨ وصفان :
أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل.
والآخر : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.
فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء ٢٩.

فصل


هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكه ٣٠.
فإن قيل : أليست الزوجة والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال٣١ الحيض، وحال العدة، والصيام، والإحرام، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً، لقوله عليه السلام٣٢ :
«لا صلاة إلا بطهور، ولا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليّ »٣٣ فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ ﴾ معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما٣٤ لا بالنفي ولا بالإثبات.
الثاني :( أَنَّا إنْ )٣٥ سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص٣٦ بالدليل فيبقى حجة فيما عداه٣٧.
وقوله :﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ يعني : يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام٣٨ على فعله٣٩.
١ في ب: التضمن..
٢ في ب: ممتسكين..
٣ [الأحزاب: ٣٧]. انظر البحر المحيط ٦/٣٩٦..
٤ في ب: ونصرناهم. وهو تحريف..
٥ من قوله تعالى: ﴿ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين﴾ [الأنبياء: ٧٧]..
٦ قال الفراء: قوله: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم﴾ المعنى: إلا من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم من الأربع لا تجاوز. معاني القرآن ٢/٢٣١، وانظر أيضا البحر المحيط ٦/٣٩٦..
٧ في ب: فلان يجب. وهو تحريف..
٨ الكشاف ٣/٤٣ وقال أبو البقاء: (وقيل هو حال أي: حافظوها في كل حال إلا في هذه الحال). التبيان ٢/٩٥..
٩ الكشاف ٣/٤٣ وانظر التبيان ٢/٩٥٠..
١٠ الدر المصون: ٥/٨٣، وانظر أيضا التبيان ٢/٩٥٠..
١١ في ب: صفة. وهو تحريف..
١٢ الكشاف ٣/٤٣. وقال أبو حيان تعقيبا على ذلك: (يعني: أن يكون "حافظون" صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى، أي: والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم، فيكون استثناء مفرغا متعلقا فيه "على" بما قبله، كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ومعناه النفي، أي: ما طلبت منك) البحر المحيط ٦/٣٩٦..
١٣ البحر المحيط ٦/٣٩٦..
١٤ في ب: النسخ. وهو تحريف..
١٥ في الأصل: فهو..
١٦ في الأصل: فنشدتك..
١٧ الدر المصون ٥/٨٣..
١٨ في ب: إذ..
١٩ في ب: محل. وهو تحريف..
٢٠ التبيان: ٢/٩٥٠..
٢١ الدر المصون ٥/٨٣..
٢٢ معاني القرآن للفراء ٢/٢٣١، والبغوي ٦/٧..
٢٣ من قوله تعالى: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾ [النساء: ٣]..
٢٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٩٦..
٢٥ من: سقط من الأصل..
٢٦ الكشاف ٣/٤٣. و"ما" من الأسماء الموصولة المشتركة، والأصل فيها أن تكون لغير العاقل نحو قوله تعالى ﴿ما عندكم ينفد﴾ [النحل: ٩٦]. وتستعمل للعاقل في أمور منها: أن يختلط العاقل مع غير العاقل نحو ﴿سبح لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ [الحشر: ١] [الصف: ١]. وفي أنواع من يعقل نحو ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ [النساء: ٣]. وفي المبهم أمره كقولك وقد رأيت شبحا من بعد: انظر إلى ما ظهر. شرح التصريح ١/١٣٤ – ١٣٥، الهمع ١/٩١ – ٩٢، شرح الأشموني ٢/١٥٣ – ١٥٤..
٢٧ البحر المحيط ٦/٣٩٦..
٢٨ السرية: الجارية المتخذة للملك والجماع، فعلية منه على تغيير النسب وقيل: هي فعولة من السرو، وقلبت الواو الأخيرة ياء طلب الخفة، ثم أدغمت الواو فيها فصارت ياء مثلها، ثم حولت الضمة كسرة لمجاورة الياء، وقد تسررت وتسريت على تحويل التضعيف. اللسان (سرر)..
٢٩ الفخر الرازي ٢٣/٨١..
٣٠ في النسختين: مملوكتها. والصواب ما أثبته..
٣١ كحال: سقط من ب..
٣٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٣ قوله: "لا نكاح إلا بولي" أخرجه أبو داود (نكاح) ٢/٥٦٨، والترمذي (نكاح) ٢/٢٨٠، ٢٨٧ وابن ماجة (نكاح) ١/٦٠٥ والدارمي ٢/١٣٧ والإمام أحمد ١/٢٥٠، ٤/٣٩٤، ٤١٣، ٦/٢٦٠..
٣٤ في ب: حكمها. وهو تحريف..
٣٥ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي يقتضيها السياق..
٣٦ في الأصل: التخصص..
٣٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨١ – ٨٢..
٣٨ في ب: يلام..
٣٩ انظر البغوي ٦/٧..
قوله١ :﴿ فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذلك ﴾ أي : التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات ﴿ فأولئك هُمُ العادون ﴾ الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام٢ قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء٣. وعن سعيد بن جبير قال : عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم٤.
١ قوله: سقط من الأصل..
٢ انظر البغوي ٦/٧..
٣ المرجع السابق..
٤ المرجع السابق..
قوله :﴿ والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ ﴾ قرأ ابن كثير هنا وفي سأل١ «لأَمَانَتِهِم »٢ بالتوحيد، والباقون بالجمع٣. وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم٤ والجمع أوفق.
والأمانة في الأصل مصدر، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله٥ :﴿ أَن تُؤدُّوا الأمانات إلى أَهْلِهَا ﴾٦ [ النساء : ٥٨ ].
«وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ »٧، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني، كذا قال الزمخشري٨.
أما ما ذكره من الآيتين فمسلم، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله، ويقع أيضاً على ما٩ أمر الله به كقوله :﴿ الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا ﴾١٠ [ آل عمران : ١٨٣ ]، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة، والصيام، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع١١، فعلى١٢ العبد الوفاء بجميعها١٣.
وقوله :«رَاعُونَ » الراعي القائم١٤ على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم، ومنه يقال : مَنْ راعي هذا الشيء ؟ أي متوليه١٥.
١ من قوله تعالى: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ [المعارج: ٣٢]..
٢ في النسختين: لأماناتهم..
٣ السبعة (٤٤٤، ٦٥١)، الحجة لابن خالويه (٢٥٥)، الكشف ٢/١٢٥، النشر ٢/٣٢٨، الإتحاف (٣١٨)..
٤ فمن وحد فلأن المصدر يدل على القليل والكثير من جنسه، ومن جمع فلأن المصدر إذا اختلفت أجناسه وأنواعه جمع. والأمانة هنا مختلفة لأنها تشتمل على سائر العبادات وغيرها من المأمورات. مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٢ – ١٠٣، الكشف ٢/١٢٥، البيان ٢/١٨١ التبيان ٢/٩٥٠ – ٩٥١..
٥ في ب: لقوله. وهو تحريف..
٦ من قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ [النساء: ٥٨]..
٧ من قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ [الأنفال: ٢٧]..
٨ انظر الكشاف ٣/٤٣..
٩ ما: سقط من ب..
١٠ من قوله تعالى: ﴿الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار﴾ [آل عمران ١٨٣]. وانظر الفخر الرازي ٢٣/٨٢..
١١ في النسختين البضائع، والصواب ما أثبته..
١٢ في الأصل: وعلى..
١٣ انظر البغوي ٦/ ٧ – ٨..
١٤ القائم: سقط من ب..
١٥ الفخر الرازي ٢٣/٨٢..
وقوله :﴿ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ١ يُحَافِظُونَ ﴾ قرأ الأخوان «عَلَى صَلاَتِهِمْ » بالتوحيد، والباقون «صَلَوَاتِهِمْ » بالجمع٢، وليس في المعارج٣ خلاف٤. والإفراد٥ والجمع كما تقدم في «أَمَانَتِهم ) و ( أَمَانَاتِهِمْ ) ٦. قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً ؟ قلت : هما ذكران مختلفان وليس بتكرير، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها٧. ثم قال : وأيضاً فقد وحدت٨ أولاً ليفاد٩ الخشوع في جنس الصلاة، أي صلاة كانت١٠، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات١١ الخمس والوتر والسنن الراتبة١٢، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما١٣ الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة. وقيل : كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب١٤.
١ في الأصل: صلاتهم..
٢ السبعة (٤٤٤)، الحجة لابن خالويه (٢٥٥)، النشر ٢/٣٢٨، الاتحاف ٣١٧..
٣ في قوله تعالى: ﴿والذين هم على صلاتهم يحافظون﴾ [المعارج: ٣٤]..
٤ أي في القراءة بالإفراد..
٥ في الأصل: "الإفراد" بدون واو العطف..
٦ في الآية السابقة..
٧ الكشاف ٣/٤٣..
٨ في الأصل: وقد وحد أيضا..
٩ في النسختين: ليعاد. والصواب ما أثبته..
١٠ في ب: أي كانت صلاة كانت. وهو تحريف..
١١ في الأصل: الصلاة..
١٢ الكشاف ٣/٤٣- ٤٤..
١٣ في ب: فأما..
١٤ انظر البغوي ٦/٨..
ثم قال :﴿ أولئك هُمُ الوارثون ﴾ «أُولَئِكَ » أي : أهل هذه الصفة «هُمُ الوارِثُونَ » فإن قيل١ : كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث ؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله :﴿ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة ﴾٢ [ التوبة : ١١١ ]. فالجواب من وجوه :
الأول : روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما منكم من أحد إلاَّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله، وذلك قوله :﴿ أولئك هُمُ الوارثون ﴾٣. وأيضاً : فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما٤ ذكر فإن قيل : إنه تعالى وصف كل الذي٥ يستحقونه إرثاً، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم٦ لو أطاع.
فالجواب : لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو ( منزلة )٧ لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.
الثاني : أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.
الثالث : أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم - عليه السلام - فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث. فإن قيل : كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج ؟
فالجواب : أنَّ قوله :﴿ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات٨ دخلت في جملة المحافظة على الصلوات٩ لكونها من شرائطها١٠. واعلم أنَّ قوله :«هُمُ الوَارِثُونَ » يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾١١ [ النساء : ٤٨ ]. وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف١٢.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/ ٨٢ – ٨٣..
٢ [التوبة: ١١١]..
٣ أخرجه ابن ماجه (زهد) ٢/١٤٥٣، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥/٦..
٤ في ب: مما..
٥ في الأصل: الذين..
٦ في الأصل: غيره. وهو تحريف..
٧ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٨ في ب: فالطهارات..
٩ في الأصل: الصلاة..
١٠ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٨٢ – ٨٣..
١١ من قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾ [النساء: ٤٨]. انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٣..
١٢ عند قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا﴾ [الكهف: ١٠٧] وذكر ابن عادل هناك: والفردوس الجنة من الكرم خاصة. وقيل: ما كان غالبها كرما. وقيل: كل ما حوط فهو فردوس، والجمع فراديس، قال المبرد: والفردوس فيما سمعت من العرب الشجر الملتف، والأغلب عليه أن يكون من العنب، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، واختلف فيه فقيل: هو عربي، وقيل: أعجمي، وقيل هو رومي، وقيل: فارسي، وقيل: سرياني. انظر اللباب ٥/٣٩٤..
قوله :﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل ب «يَرِثُونَ » وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما١ ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون، وقد جاء في الحديث :«أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده٢، وغرس الفردوس بيده، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث »٣.
١ انظر التبيان ٢/٩٥..
٢ بيده: سقط من ب..
٣ الديوث من الرجال: القواد على أهله والذي لا يغار على أهله ولا يخجل المعجم الوسيط (ديث) ١/٣٠٧..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ الآيات لما أمر بالعبادات في
175
الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية، فذكر أنواعاً من الدلائل: منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة:
أولها: قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد بالإنسان آدم - عليه السلام - سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين.
وقيل: الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً، وهذا مطابق لقوله تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ [السجدة: ٧ - ٨].
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر: وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً.
(قوله) :«مِنْ سُلاَلَةٍ» فيه وجهان:
أظهرهما: أن يتعلق ب «خَلَقْنَا»، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان».
والسُّلالة (فُعَالَة)، وهو بناء يدل على القلة كالقُلاَمة، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه، ومنه قولهم: هو سُلاَلَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ من ظهره، وأنشد:
176
وقال أمية بن أبي الصلت:
٣٧٨٢ - فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً سُلاَلَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ
- ٣٧٨٣ خلق البرية من سلالة منتن وإلى السلالة كلها ستعود
وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر. والعرب يسمون النطفة سُلاَلَة، والولد سَلِيلاً وسُلاَلة، لأنهما مَسْلُولاَنِ منه. وقال الزمخشري: السلالة الخُلاصة، لأنها تسل من بين الكَدَر. وهذه الجملة جواب قسم محذوف، أي: والله لقد خلقنا، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على المعاد، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة، لقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧].
وهذا أحسن من قول ابن عطية: هذا ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام، وإن تباينتا في المعنى. وقد تقدم بيان وجه المناسبة.
قوله: «مِنْ طِين» في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها لبيان الجنس.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين «مِنْ» و «مِنْ» ؟ قلت: الأولى للابتداء، والثانية للبيان كقوله: «مِنَ الأَوْثَانِ». قال أبو حيان: ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا: إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا: إنه من انسل من الطين ف «مِنْ» لابتداء الغاية وفيما تتعلق به «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
177
أحدها: أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سُلاَلَة».
الثاني: أنها تتعلق بنفس «سُلاَلَة» لأنها بمعنى مسلولة.
الثالث: أنها تتعلق ب «خَلَقْنَا»، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا: إنّ السلالة هي نفس الطين. قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم (فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي: جعلنا نسله)، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ [السجدة: ٧ - ٨].
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري.
قوله: «فِي قَرَارٍ» يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نُطْفَة».
والقرار: المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين: إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت. ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً. قوله: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً﴾ وما بعدها ضمن «خَلَق» معنى «جَعَل» التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جَعَل» معنى «خَلَق» فيتعدى لواحد نحو ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١]. والمعنى: حولنا النطفة عن صفاتها
178
إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد ﴿فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً﴾ أي: جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي: قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة.
قوله: ﴿فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً﴾ أي: صيرناها كذلك. وقرأ العامة: «عِظاماً» و «العِظَام» بالجمع فيهما، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عَظْماً» و «العَظمَ» بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله.
فالجمع على الأصل، لأنه مطابق لما يراد به، والإفراد للجنس كقوله: «وَالمَلَكُ صَفًّا»، وكقوله: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤].
وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة. قال أبو حيان: وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة) وأنشدوا:
٣٧٨٤ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا...
179
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن. قال شهاب الدين: ومثله:
٣٧٨٥ - لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر:
٣٧٨٦ - بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يريد جلودها، ومنه «وعَلَى سَمْعِهِمْ».
قوله: ﴿فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً﴾ أي: ألبسنا، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) قيل: بين كل خلقين أربعون يوماً. ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية: المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة: نبات الأسنان والشعر، وروى ابن جريج عن مجاهد: أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال: ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس: أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أنْ يموت.
قالوا: وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء. وفيها دلالة أيضاً
180
على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون: الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم.
وقال: «فَتَبَارَك اللَّهُ» أي: فتعالى الله، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل: أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال: البقاء والدوام والبركات كلها منه، فهو المستحق للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير، قال زهير:
٣٧٨٧ - ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
قوله: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من الجلالة.
الثاني: أنه نعت للجلالة، وهو أولى مما قبله، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث: أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو أحسن، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً، قال: لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن «من»، وهكذا جميع أفعل منك.
قال شهاب الدين: وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا، والصحيح الأول. والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه
181
عليه، أي: أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج: ٣٩] أي: في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه.

فصل


قالت المعتزلة: لولا أن يكون غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه: «أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ» و «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». والخلق في اللغة: هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي: هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه يجوز أن يقال: رَبُّ الدار، ولا يجوز أن يقول: رب، ولا يقول العبد لسيده: هذا ربّي، ولا يقال: إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. لأنا نجيب من وجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني: أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] فوجب حمل
182
هذه الآية على أنه «أَحسَنُ الخَالِقينَ» في اعتقادكم وظنكم كقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧].
وجواب ثان، وهو أنّ الخالق هو المقدر، لأن الخلق هو التقدير، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال، فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث: أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً.

فصل


قالت المعتزلة: الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما.
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء.

فصل


روى الكلبي عن ابن عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما انتهى إلى قوله: «خَلْقاً آخَرَ» عجب من ذلك فقال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكتبْ فَهكَذَا نزلت» فشك عبد الله وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل: إنه مات على الكفر، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين. فقال رسول الله: «هكذا أُنزلَ يا عمر».
وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهنّ: أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ، فنزل قوله: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم: ٥]، والرابع قوله: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ قال العارفون: هذه الواقعة
183
كانت من أسباب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله، كما قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦].
فإن قيل: فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله.
فالجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز، فسقطت شبهة عبد الله.
قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ﴾ أي: بعدما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة، وقرأ العامة «لَمَيِّتُونَ»، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لَمَائِتُونَ» والفرق بينهما: أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح، فيقال لمن سيموت: ميّت ومائت، ولمن مات: ميّت فقط دون مائت، لاستقرار الصفة وثبوتها، وسيأتي مثله في الزمر إن شاء الله تعالى. فإن قيل: الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث، فَلِم أَكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد؟ فالجواب: أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك، وأنّهم لَمَّا لم يعملُوا للموت، ولم يهتموا بأموره، نُزِّلوا منزلة من يُنكره، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد. وكان أبو حيان سئل عن ذلك، فأجاب أنّ اللام غالباً تخلص المضارع للحال، ولا يمكن دخولها في «تُبْعَثُونَ»، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، واعترضَ على نفسه بقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ [النحل: ١٢٤] فإن اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو «يَوْمِ القِيَامَة» فأجاب بأنه خرج هذا بقوله: غالباً، وبأن العامل في «يوم القيامة» مقدر، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
و «بَعْدَ ذَلِك» متعلق ب «مَيِّتُونَ»، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك.
184
قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.
فإن قيل: ما الحكمة في الموت، وهلا وَصَل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟
فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم: إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة، وهو الإعادة، ليكون العبد عابداً لطاعته لا لطلب الانتفاع.
فإن قيل: هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر، لأنه قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.
والثاني: أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي تُرك ذكره فهو من جنس الإعادة.
185
قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم ( فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي : جعلنا نسله )١، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴾٢ ٣ [ السجدة : ٧ – ٨ ].
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري٤.
قوله :«فِي قَرَارٍ » يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نُطْفَة ».
والقرار : المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت٥ بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين٦ : إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت٧. ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار٨ الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة٩ تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً.
١ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٢ [السجدة: ٧ – ٨]..
٣ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٣٣٤- ٣٣٥ البحر المحيط ٦/٣٩٨..
٤ قال الزمخشري: (فإن قلت: ما معنى جعلنا الإنسان "نطفة"؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة" الكشاف ٣/٤٤..
٥ في الأصل: فوصفت..
٦ في ب: المعنيين..
٧ انظر الكشاف ٣/٤٤، أحرزت: يقال: أحرزت الشيء أحرزه إحرازا إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ. اللسان (حرز)..
٨ في الأصل: وصار..
٩ الفخر الرازي ٢٣/٨٥..
قوله :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً ﴾ وما بعدها ضمن «خَلَق »١ معنى «جَعَل » التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جَعَل » معنى «خَلَق » فيتعدى٢ لواحد نحو ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾٣ [ الأنعام : ١ ]. والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد٤ ﴿ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً ﴾ أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي : قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه٥ سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة٦.
قوله :﴿ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً ﴾ أي : صيرناها كذلك. وقرأ العامة :«عِظاماً » و«العِظَام » بالجمع فيهما٧، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم :«عَظْماً » و«العَظمَ »٨ بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني٩، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر١٠ بجمع الأول وإفراد الثاني عكس١١ ما قبله١٢.
فالجمع١٣ على الأصل، لأنه مطابق لما يراد به، والإفراد للجنس كقوله :«وَالمَلَكُ صَفًّا »١٤، وكقوله :{ وَهَنَ العظم مِنِّي »١٥ [ مريم : ٤ ].
وقال١٦ الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة١٧. قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا ( لضرورة )١٨ ١٩ وأنشدوا :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا٢٠ ***. . .
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن٢١. قال شهاب الدين : ومثله :
لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا *** فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا٢٢
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر :
بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ٢٣
يريد جلودها، ومنه «وعَلَى٢٤ سَمْعِهِمْ »٢٥ ٢٦.
قوله :﴿ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ﴾ أي : ألبسنا، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة ( لها )٢٧ ٢٨ قيل٢٩ : بين كل خلقين أربعون يوماً. ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ أي٣٠ : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين٣١. قال ابن عباس٣٢ ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر، وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها٣٣ إلى أنْ يموت.
قالوا : وفي هذه الآية٣٤ دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء٣٥. وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم. ٣٦
وقال٣٧ :«فَتَبَارَك اللَّهُ » أي : فتعالى الله٣٨، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل : أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه، فهو المستحق للتعظيم والثناء٣٩ بأنه لم يزل ولا يزال «أَحسَنُ الخَالِقِينَ » المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة : التقدير، قال زهير :
ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي٤٠
قوله :«أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من الجلالة٤١.
الثاني : أنه نعت للجلالة٤٢، وهو أولى مما قبله، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث : أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن٤٣، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن٤٤ «من »، وهكذا٤٥ جميع أفعل منك٤٦.
قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا، والصحيح الأول٤٧. والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه عليه، أي : أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ٤٨ [ الحج : ٣٩ ] أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه٤٩.

فصل٥٠


قالت المعتزلة : لولا أن يكون٥١ غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه :«أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ »٥٢ و «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »٥٣. والخلق في اللغة : هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي٥٤ : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه٥٥ يجوز أن يقال : رَبُّ الدار، ولا يجوز أن يقول : رب، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه٥٦ ذلك٥٧ لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام٥٨ - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر٥٩. لأنا نجيب من وجهين :
أحدهما : أن٦٠ ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه «أَحسَنُ الخَالِقِينَ » الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني٦١ : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ٦٢ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله٦٣ :﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾٦٤ [ الزمر : ٦٢ ] فوجب حمل هذه الآية على أنه «أَحسَنُ الخَالِقينَ » في اعتقادكم وظنكم كقوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ٦٥ [ الروم : ٢٧ ].
وجواب ثان، وهو أنّ الخالق هو المقدر، لأن الخلق هو التقدير، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال، فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً.

فصل


قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا٦٦ يكون خالقاً للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد٦٧ لهما٦٨.
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في٦٩ التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء٧٠.

فصل


روى الكلبي عن ابن عباس٧١ أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله :«خَلْقاً آخَرَ » عجب من ذلك فقال : فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اكتبْ فَهكَذَا نزلت » فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقاً فيما يقول، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل : إنه مات على الكفر، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح٧٢ وروى سعيد٧٣ بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين. فقال رسول الله :«هكذا أُنزلَ يا عمر ».
وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهنّ : أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ، فنزل قوله :﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ﴾٧٤ [ التحريم : ٥ ]، والرابع قوله :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾٧٥ قال العارفون : هذه الواقعة كانت من أسباب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله، كما قال تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾٧٦ [ البقرة : ٢٦ ].
فإن قيل : فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله.
فالجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز، فسقطت شبهة عبد الله ٧٧.
١ في ب: يخلق..
٢ في ب: فيعدى..
٣ من قوله تعالى: ﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١]. انظر البيان ٢/١٨١، التبيان ٢/٩٥١..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٥..
٥ في الأصل: كافانه. وهو تحريف..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٥..
٧ في ب: والعظام. وهو تحريف..
٨ السبعة (٤٤٤) الحجة لابن خالويه (٢٥٦)، الكشف ٢/١٢٦، النشر ٢/٣٢٨، الإتحاف ٣١٨..
٩ المحتسب ٢/٧٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٣٧، البحر المحيط ٦/٣٩٨..
١٠ إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، مدني، يروي عن أسامة بن سهل، وروى عنه ابن جريج تهذيب التهذيب ١/١١١..
١١ في الأصل: كعكس وهو تحريف..
١٢ المحتسب ٢/٧٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٣٧، البحر المحيط ٦/٣٩٨..
١٣ في الأصل: فجمع..
١٤ من قوله تعالى: ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾ [الفجر: ٢٢]..
١٥ من قوله تعالى: ﴿قال رب إني وهن العظم مني﴾ [مريم: ٤]. انظر التبيان ٢/٩٥١..
١٦ في ب: قال..
١٧ الكشاف ٣/٤٤. وقد وجه ابن جني لقراءة من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أنه أشبع لفظا، لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو "إنسان" و "سلالة" ونطفة و "علقة" و "مضغة" ثم عقب بالجماعة لأنها هي الغرض. ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود، ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله. المحتسب ٢/٨٧..
١٨ انظر الكتاب ١/٢٠٩..
١٩ ما بين القوسين في ب: في ضرورة..
٢٠ صدر بيت من بحر الوافر، وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص.
وهو من الخمسين التي لم يعرف لها قائل، الخميص: الجائع، أي: زمان جدب ومخمصة.
والشاهد فيه وضع الواحد وهو (بطن) موضع الجمع وهو (بطون) لزوال اللبس وقد تقدم..

٢١ البحر المحيط ٦/٣٩٨..
٢٢ رجز قاله المسيب بن زيد مناة الغنوي. يقول: لا تنكروا قتلنا لكم وقد سبيتم منا خلقا، فقد شجيتم بقتلنا لكم، كما شجينا نحن من قبل بمن سبيتم منا. وقد تقدم.
والشاهد فيه وضع الواحد وهو (حلق) موضع الجمع وهو (حلوق) لزوال اللبس..

٢٣ البيت من بحر الطويل قاله علقمة بن عبدة. تقدم تخريجه والشاهد فيه كسابقيه..
٢٤ في الأصل: على..
٢٥ من قوله تعالى: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم﴾ [البقرة: ٧]. واستشهد على وضع الواحد موضع الجمع. انظر البيان ١/٥٢ التبيان ١/٢٣..
٢٦ الدر المصون: ٥/٨٤..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٥..
٢٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٩ في ب: وقيل..
٣٠ أي: سقط من ب..
٣١ الفخر الرازي ٢٣/٨٥ – ٨٦..
٣٢ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/١٠ – ١١..
٣٣ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/١٠ – ١١..
٣٤ الآية: سقط من ب..
٣٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٨٦..
٣٦ المرجع السابق..
٣٧ في ب: ثم قال..
٣٨ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٨٧..
٣٩ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٨٦..
٤٠ البيت من بحر الكامل قاله زهير، وهو في ديوانه (١١٩) والكتاب ٤/١٨٥، ٢٠٩، المنصف ٢/٧٤، ٢٣٢، تفسير ابن عطية ١٠/٣٣٩، ابن يعيش ٩/٧٩، اللسان (فرا) البحر المحيط ٦/٣٩٨، الهمع ٢/٢٠٦، شرح شواهد الكافية ٤/٢٢٩، الدرر ٢/٢٣٣، الفري: القطع الخلق: التقدير قبل القطع، يقال: خلقت الأديم إذا قدرته لتقطعه. وهو الشاهد هنا..
٤١ هذا على أن إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. البيان ٢/١٨١، التبيان ٢/٩٥١، البحر المحيط ٦/٣٩٨..
٤٢ على أن إضافة أفعل التفضيل إضافة محضة. البحر المحيط ٦/٣٩٨..
٤٣ انظر البيان ٢/١٨١، البحر المحيط ٦/٣٩٨..
٤٤ في النسختين: من. والتصويب من الفخر الرازي..
٤٥ في الأصل: وهذا..
٤٦ التبيان ٢/٩٥١، وذلك لأن أبا البقاء ممن قال: إن إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. شرح التصريح ٢/٢٧..
٤٧ الدر المصون: ٥/٨٤..
٤٨ من قوله تعالى: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾ [الحج: ٣٩]..
٤٩ انظر الكشاف ٣/٤٤..
٥٠ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٨٦ – ٨٧..
٥١ يكون: سقط من ب..
٥٢ من قوله تعالى: ﴿ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين﴾ [هود: ٤٥]..
٥٣ [الأعراف: ١٥١]، [يوسف: ٦٤ – ٩٢]، [الأنبياء: ٨٣]..
٥٤ في ب: قال الكلبي..
٥٥ في الأصل: كأنه..
٥٦ في ب: قال تعالى..
٥٧ ذلك: سقط من ب..
٥٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥٩ في قوله تعالى: ﴿أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله﴾ [آل عمران: ٤٩]. وقوله تعالى: ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني﴾ [المائدة: ١١٠]..
٦٠ في ب: أنه. وهو تحريف..
٦١ في ب: والثاني..
٦٢ في ب: ويصح..
٦٣ في الأصل: بقو. وفي ب يقولو. والصواب ما أثبته..
٦٤ من قوله تعالى: ﴿قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار﴾ [الرعد: ١٦]. وقوله تعالى: ﴿الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل﴾ [الزمر: ٦٢]..
٦٥ من قوله تعالى : ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾ [الروم: ٢٧]..
٦٦ لا: سقط من ب..
٦٧ في ب: الموجب. وهو تحريف..
٦٨ في النسختين: لها. والصواب ما أثبته..
٦٩ في ب: و..
٧٠ الفخر الرازي ٢٣/٨٧..
٧١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٨٧..
٧٢ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥)..
٧٣ في الأصل: سعد. وهو تحريف..
٧٤ من قوله تعالى: ﴿عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن﴾ [التحريم: ٥]..
٧٥ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥) الدر المنثور ٥/٧..
٧٦ من قوله تعالى: ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ [البقرة: ٢٦]..
٧٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٨٧..
قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ﴾ أي : بعدما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة، وقرأ العامة «لَمَيِّتُونَ »، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لَمَائِتُونَ »١ والفرق بينهما : أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح، فيقال لمن سيموت : ميّت ومائت، ولمن مات : ميّت فقط دون مائت، لاستقرار الصفة وثبوتها، وسيأتي مثله في الزمر٢ إن شاء الله تعالى. فإن قيل : الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث، فَلِم أَكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد٣ وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد٤ ؟ فالجواب : أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك، وأنّهم لَمَّا لم يعملُوا٥ للموت، ولم يهتموا بأموره، نُزِّلوا منزلة من يُنكره، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد٦. وكان أبو٧ حيان سئل عن ذلك٨، فأجاب أنّ اللام غالباً تخلص المضارع للحال٩، ولا يمكن دخولها في «تُبْعَثُونَ »، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، واعترضَ على نفسه بقوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة ﴾١٠ [ النحل : ١٢٤ ] فإن١١ اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو «يَوْمِ القِيَامَة » فأجاب بأنه خرج هذا بقوله : غالباً، وبأن١٢ العامل في «يوم القيامة » مقدر١٣، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
و «بَعْدَ ذَلِك » متعلق ب «مَيِّتُونَ »، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك١٤.
١ البحر المحيط ٦/٣٩٩..
٢ وهو قوله تعالى: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ [الزمر: ٣٠]..
٣ حيث أكد ب "إن" و "اللام"..
٤ حيث أكد ب "إن" فقط..
٥ في ب: يعلموا. وهو تحريف..
٦ في ب: استبعاده. انظر البحر المحيط ٦/٣٩٩..
٧ أبو: سقط من ب..
٨ أي لم دخلت اللام في قوله "لميتون" ولم تدخل في تبعثون؟..
٩ تقدم الخلاف بين البصريين والكوفيين في لام الابتداء الداخلة على المضارع هل تخلصه للحال؟..
١٠ [النحل: ١٢٤]..
١١ فإن: سقط من ب..
١٢ في الأصل: لأن..
١٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٩٩..
١٤ انظر التبيان ٢/٩٥. ولام الابتداء لا تمنع هنا أن يعمل ما بعدها فيما قبلها لأنها مزحلقة عن مكانها وهو الصدر..
قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ﴾ جعل١ الإماتة التي هي إعدام٢ الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع ٣.
فإن قيل : ما الحكمة في الموت، وهلا وَصَل٤ نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ ؟
فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم : إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة، وهو الإعادة، ليكون٥ العبد عابداً لطاعته لا لطلب الانتفاع.
فإن قيل : هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر، لأنه قال :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ﴾ ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.
والثاني : أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي تُرك ذكره فهو من جنس الإعادة ٦.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٨٧ – ٨٨..
٢ في الأصل: عدم..
٣ في الأصل: عدم..
٤ في ب: أوصل..
٥ في ب: فيكون..
٦ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٨٧ – ٨٨..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾ الآية، أي: سبع سموات سُميت طرائق لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ النعلَ: إذا أطبق نعلاً على نعل، وطارق بين الثوبين: إذا لَبس ثوباً على ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج: هو كقوله: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾ [الملك: ٣] وقال عليّ بن عيسى: سميت بذلك، لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
185
والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعاً لأرزاقِنَا بإنزال الماء منها، وجعلها مقراً للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
قوله: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ﴾ أي: بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم، وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: ٤١]، وقوله: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ [الحج: ٦٥]، وقال الحسن: إنا خلقناهم فوقهم ليدل عليهم بالأَرزاق والبركات منها.
وقيل: خلقنا هذه الأشياء دلالة على كمال قدرتنا، ثم بَيَّن كمال العلم بقوله: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ﴾ يعني: عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر.
وقيل: وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى: ﴿مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ﴾ [الملك: ٣].
واعلم أن هذه الآيات دالة على مسائل:
منها: أنها تدل على وجود الصانع، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.
ومنها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة، فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها، وعدم تغيرها، ولو قيل: إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.
ومنها: أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم، لأنَّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ومنها: أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
ومنها: أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية، ولأنّ الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.
186
ومنها: أنّ معرفة الله يجب أنْ تكون استدلالية لا تقليدية، وإلاَّ لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً.
187
قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ﴾ الآية، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان، ثم استدل ثانياً بخلق السموات، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار، وكيفية تأثيرها في النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.
قال أكثر المفسرين: إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية، ولقوله: ﴿وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢٢]. وقال بعضهم: المراد بالسماء السحاب، وسماه سماء لعلوه، والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض، ولا بماء البحر لملوحته، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض، لأنّ البحار هي الغاية في العمق، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها.
وقوله: «بِقَدَرٍ» قال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب، ويَسْلَمُون معه من المضرة.
وقوله: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض﴾ قيل: جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل -
187
عليه السلام -، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض﴾، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله: ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين. وقيل: معنى: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض﴾ : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.
وقيل: فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع، فماء الأرض كله من السماء.
قوله: ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ «عَلَى ذَهَابٍ» متعلق ب «لقَادِرُونَ» واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك، و «بِهِ» متعلق ب «ذَهَابٍ»، وهي مرادفة للهمزة كهي في «لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ» أي: على إذهابه والمعنى: كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم.
قال الزمخشري: قوله: ﴿على ذَهَابٍ بِهِ﴾ من أوقع النكرات وأحزها للمفصل، والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به، وطريق من طرقه، وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ﴾، أي: بالماء ﴿جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً، وقوله:
188
﴿لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ أي: في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة، «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» شتاءً وصيفاً.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون هذا من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يعملها، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم.
قوله: «وشَجَرَةً» عطف على «جَنَّات»، أي: ومما أنشأنا لكم شجرة، وقرئت مرفوعة على الابتداء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِينَاء» بكسر السين، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها. فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام (فِعْلاَء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بِسرْدَاح وقرطاس، فهي كعِلْبَاء، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء قال الفارسي: وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية، والدرحاية الرجل القصير السمين. وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل: حِمْلاَق، إذ
189
ليس في الكلام مثل: سيناء. يعني: مادة (سين ونون وهمزة). وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم بقعة بعينها، وقيل: للتعريف والعجمة. قال بعضهم: والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها، فقالوا: (سَيْنَاء) كحمراء وصفراء، و (سِينَاء) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ، وزحْلِيل، والخِنْذِيد الفحل والخصي أيضاً، فهو من الأضداد، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع. والزحْلِيل: المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري: «طُورِ سَيْنَاء» وطُورِ سِينِينٍ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك، فيمن أضاف، فَمَن كَسَر سِين «سيْنَاء» فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء.
قال شهاب الدين: وكون ألف (فِعْلاء) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها.
وكسر السين من (سَيْنَاء) لغة كنانة وأمَّا القراءة الثانية: فألفها للتأنيث، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء: وهمزته للتأنيث، إذ ليس في الكلام (فَعْلاَل) بالفتح، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ لا يثبت، وإن ثبت فهو
190
شاذ لا يحمل عليه. وقد وهم بعضهم فجعل (سَيْنَاء) مشتقة من (السنا) وهو الضوْء، ولا يصح ذلك لوجهين:
أحدهما: أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.
الثاني: أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنَا) نون وعين (سَيْناء) ياء. كذا قال بعضهم. وفيه نظر؛ إذْ لقائل أن يقول: لا نُسلّم أن عين (سيناء) (ياء) بل عينها (نون)، وياؤها مزيدة، وهمزتها منقلبة عن واو، كما قلبت (السنا)، ووزنها حينئذ (فِيعَال) و (فِيعَال) موجود في كلامهم، كِميلاَع وقيتَال مصدر قاتل.
قوله: «تَنْبُتُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنْبِت» بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أنبت بمعنى (نَبَت) فهو مما اتفق فيه (فَعَل) و (أَفْعَل) وأنشدوا لزهير:
٣٧٨٨ - رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأنكره الأصمعي، أي: نَبَت.
الثاني: أنّ الهمزة للتعدية، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي: تنبت ثمرها، أو جناها، و «بالدُّهْنِ» حال، أي: ملتبساً بالدهن.
الثالث: أن الباء مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقول الآخر:
191
٣٧٨٩ - سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ... وقول الآخر:
٣٧٩٠ - نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُوا بِالفَرَج... وأمّا القراءة الأخرى فواضحة، والباء للحال من الفاعل، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن، كما يقال: ركب الأمير بجنده. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» مبنيًّا للمفعول من أنبتها الله و «بالدُّهْنِ» حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي: ملتبسة بالدُّهن. وقرأ زِرّ بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» من أنبت، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدِّهَان» وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي: «تُتْمِر»، وعبد الله: «تُخْرِج» فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد، والدّهن: عصارة ما فيه دسم، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن مصدر دَهَن يَدْهُنُ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره.

فصل


اختلفوا في «طُورِ سَيْنَاء» وفي «طُورِ سِينِينَ». فقال مجاهد: معناه البركة
192
أي: من جبل مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن. وقال الضحاك: معناه بالنبطية: الحسن.
وقال عكرمة: بالحبشية. وقال الكلبي: معناه: المشجر أي: جبل وشجر. وقيل: هو بالسريانية: الملتف بالأشجار. وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سَيْناء، وسِينِين بلغة النبط.
وقال ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة.
وقال مجاهد: سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي: تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون: وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت، ولأن معظمها هناك. قوله: «وَصِبْغٍ» العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ.
والأعمش: «وَصِبْغاً» بالنصب نسقاً على موضع «بالدُّهنِ»، كقراءة «وأَرْجُلَكُمْ» في أحد محتملاته. وعامر بن عبد الله: «وصِباغ» بالألف، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ «بالدِّهَان». والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري: هو ما يصطبغ به أي: ما يصبغ به الخبز.
193
و «للآكِلِينَ» صفة، والمعنى: إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها، وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها، ويعظم وجوه الانتفاع به.
194
واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم٣٣ نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال٣٤ ﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ ﴾. أي : بالماء ﴿ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً، وقوله :﴿ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ أي : في الجنات فكما١ أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة، «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ » شتاءً وصيفاً٢.
قال الزمخشري : يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يعملها، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم ٣.
١ في ب: كما..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٠..
٣ الكشاف ٣/٤٥..
قوله :«وشَجَرَةً » عطف على «جَنَّات »، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة١، وقرئت مرفوعة على الابتداء٢. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِينَاء »٣ بكسر السين، والباقون بفتحها٤ والأعمش كذلك إلا أنه قصرها٥. فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام ( فِعْلاَء ) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق٦ بِسرْدَاح٧ وقرطاس٨، فهي كعِلْبَاء٩، فتكون الهمزة منقلبة١٠ عن ياء أو واو، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً١١ بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء١٢ قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية، والدرحاية١٣ الرجل القصير السمين١٤. وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل : حِمْلاَق١٥، إذ ليس في الكلام مثل١٦ : سيناء١٧. يعني : مادة ( سين ونون وهمزة ). وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم بقعة بعينها، وقيل : للتعريف والعجمة١٨. قال بعضهم : والصحيح أن١٩ سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت٢٠ فيه لغاتها، فقالوا :( سَيْنَاء ) كحمراء وصفراء، و( سِينَاء ) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ، وزحْلِيل، والخِنْذِيد٢١ الفحل والخصي أيضاً، فهو من الأضداد، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع٢٢. والزحْلِيل٢٣ : المتنحي من زحل إذ٢٤ انتحى٢٥ وقال الزمخشري :«طُورِ سَيْنَاء » وطُورِ سِينِينٍ٢٦ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك، فيمن أضاف، فَمَن كَسَر٢٧ سِين «سيْنَاء » فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء ٢٨.
قال شهاب الدين : وكون ألف٢٩ ( فِعْلاء ) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها. وكسر السين من ( سَيْنَاء ) لغة كنانة٣٠ وأمَّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث، إذ ليس في الكلام ( فَعْلاَل ) بالفتح، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ٣١ لا يثبت، وإن ثبت فهو شاذ لا٣٢ يحمل عليه٣٣. وقد وهم بعضهم فجعل ( سَيْنَاء ) مشتقة من ( السنا ) وهو الضوْء، ولا يصح ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.
الثاني : أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين ( السنَا ) نون وعين ( سَيْناء ) ياء٣٤. كذا قال بعضهم. وفيه نظر ؛ إذْ لقائل أن يقول : لا نُسلّم أن عين ( سيناء ) ( ياء ) بل عينها ( نون )، وياؤها مزيدة، وهمزتها منقلبة عن واو، كما قلبت ( السنا )، ووزنها حينئذ ( فِيعَال ) و ( فِيعَال ) موجود في كلامهم، كِميلاَع٣٥ وقيتَال٣٦ مصدر قاتل٣٧.
قوله :«تَنْبُتُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنْبِت » بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء٣٨. فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أنبت بمعنى ( نَبَت ) فهو مما اتفق فيه ( فَعَل ) و ( أَفْعَل )٣٩ وأنشدوا لزهير :
رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم *** قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ٤٠
وأنكره الأصمعي، أي : نَبَت٤١.
الثاني : أنّ الهمزة للتعدية، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها، أو جناها، و «بالدُّهْنِ » حال، أي : ملتبساً بالدهن٤٢.
الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به٤٣ كهي في قوله تعالى٤٤ :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾٤٥ [ البقرة : ١٩٥ ]، وقول الآخر :
سُودُ المَحَاجِر لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ٤٦ ***. . .
وقول الآخر :
نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُو بِالفَرَج٤٧ ***. . .
وأمّا القراءة الأخرى فواضحة، والباء للحال من الفاعل، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن٤٨، كما يقال : ركب الأمير بجنده٤٩. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز٥٠ «تنبت » مبنيًّا للمفعول٥١ من أنبتها الله و «بالدُّهْنِ » حال من المفعول القائم٥٢ مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدُّهن٥٣. وقرأ زِرّ بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ »٥٤ من أنبت، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب٥٥ وسليمان بن عبد الملك٥٦ «بالدِّهَان »٥٧ وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي :«تُتْمِر »٥٨، وعبد الله :«تُخْرِج »٥٩ فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد، والدّهن : عصارة ما فيه دسم، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن٦٠ مصدر دَهَن يَدْهُنُ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره ٦١.

فصل


اختلفوا في «طُورِ سَيْنَاء »٦٢ وفي «طُورِ سِينِينَ »٦٣. فقال مجاهد٦٤ : معناه البركة أي : من جبل مبارك. وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن. وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن.
وقال عكرمة : بالحبشية. وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر٦٥. وقيل : هو٦٦ بالسريانية : الملتف بالأشجار. وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سَيْناء٦٧، وسِينِين بلغة النبط. وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة٦٨.
وقال مجاهد٦٩ : سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده٧٠. والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي : تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت، ولأن معظمها٧١ هناك٧٢. قوله :«وَصِبْغٍ » العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ ٧٣.
والأعمش :«وَصِبْغاً » بالنصب٧٤ نسقاً على موضع «بالدُّهنِ »٧٥، كقراءة «وأَرْجُلَكُمْ »٧٦ في أحد محتملاته٧٧. وعامر بن عبد الله٧٨ :«وصِباغ » بالألف٧٩، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ٨٠ «بالدِّهَان »٨١. والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري : هو٨٢ ما يصطبغ به٨٣ أي : ما يصبغ به الخبز.
و «للآكِلِينَ » صفة، والمعنى : إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها، وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها، ويعظم وجوه الانتفاع به٨٤.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٣، الكشاف ٣/٤٥، البيان ٢/١٨١، التبيان ٢/٩٥٢ البحر المحيط ٦/٤٠٠..
٢ أي: ومما أنشئ لكم شجرة، وهي قراءة نافع وعاصم في رواية. معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٣، المختصر (٩٧) الكشاف ٣/٤٥..
٣ في ب: وسيناء..
٤ السبعة (٤٤٤، ٤٤٥) الحجة لابن خالويه (٢٥٦، الكشف ٢/١٢٦، الاتحاف (٣١٨)..
٥ المختصر (٩٧)، الكشاف ٣/٤٥، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٦ الإلحاق: أن تبني مثلا من ذوات الثلاثة كلمة على بناء يكون رباعي الأصل، فتجعل كل حرف مقابل حرف، فتفنى أصول الثلاثة فتأتي بحرف زائد للحرف الرابع من الرباعي الأصول، فيسمى ذلك الحرف حرف الإلحاق، الهمع ١/٣٢..
٧ السرداح والسرداحة: الناقة الطويلة، وقيل: الكثيرة اللحم. اللسان (سردح)..
٨ القرطاس: معروف يتخذ من بردي يكون بمصر. القرطاس: الصحيفة الثابتة التي يكتب فيها. اللسان (قرطس)..
٩ العلباء – بكسر فسكون – عصب عنق البعير. ويقال: الغليظ منه خاصة. والجمع العلابي. اللسان (علب)..
١٠ في ب: متعلقة. وهو تحريف..
١١ في ب: متطرف. وهو تحريف..
١٢ وذلك لأن كل واو وياء متطرفتين، أصليتين كانت كما في (كساء ورداء)، أو لا كما في (علباء) واقعتين بعد ألف زائدة، فتقلبان ألفين، ثم تقلب الألف همزة. شرح الكافية ٣/٢٠٣-٢٠٤..
١٣ في ب: الدرحاية..
١٤ وهي فعلاية. انظر اللسان (درح)..
١٥ الحملاق: ما غطت الجفون من بياض المقلة، وقيل: ما لزق بالعين من موضع الكحل من باطن وقيل: باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلت للكحل بدت حمرته، وحملق الرجل إذا فتح عينه. وقيل: ما ولي المقلة من جلد الجفن. اللسان (حملق)..
١٦ كذا في التبيان. وفي الأصل: إذ ليس في الكلام حمراء والياء في الأصل إذ ليس في الكلام وفي ب: إذ ليس في الكلام مثل حمراء والباء إذ ليس في الكلام..
١٧ التبيان ٢/٩٥٢..
١٨ انظر البيان ٢/١٨٢، التبيان ٢/٩٥٢..
١٩ في الأصل: أنها..
٢٠ في ب: فاختلف..
٢١ في ب: والخنذيل. وهو تحريف..
٢٢ انظر اللسان (خنذ)..
٢٣ الزحليل: السريع قال ابن جني: قال أبو علي: زحليل من الزحل كسحتيت من السحت والزحليل: المكان الضيق الزلق من الصفا وغيره. اللسان (زحل)..
٢٤ في ب: إذا..
٢٥ انظر اللسان (زحل)..
٢٦ [التين: ٢]..
٢٧ في الأصل: فمن أضاف وكسر..
٢٨ الكشاف: ٣/٤٥..
٢٩ ألف: سقط من ب..
٣٠ الدر المصون ٥/٨٥..
٣١ ناقة فيها خزعال: أي ظلع. أي: أن (فعلال) مفتوح الفاء ليس في كلام العرب من غير ذوات التضعيف إلا حرف واحد، يقال: ناقة بها خزعال، إذا كان بها ظلع. كذا حكاه الفراء. وزاد ثعلب: قهقار، وخالفه الناس وقالوا: قهقر وزاد أبو مالك: قسطال. وهو الغبار. وأما في المضاعف فـ (فعلال) فيها كثير نحو: الزلزال، والقلقال. اللسان (خزعل)..
٣٢ في ب: ولا..
٣٣ التبيان ٢/٩٥٢..
٣٤ انظر البحر المحيط ٦/٤٠١..
٣٥ جمل ملوع وميلع: سريع، والأنثى ملوع وميلع، وميلاع نادر فيمن جعله فيعال، وذلك لاختصاص المصدر بهذا البناء. اللسان (ملع)..
٣٦ في ب: وفيعال. وهو تحريف..
٣٧ انظر شرح الشافية ١/١٦٣، ١٦٦..
٣٨ السبعة: (٤٤٥)، الكشف ٢/١٣٧، الحجة لابن خالويه (٢٥٦) الإتحاف ٣١٨..
٣٩ يقال: نبت البقل نباتا، وأنبت إنباتا. انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٢، فعلت وأفعلت (٩١) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٠، البيان ٢/١٨٢، التبيان ٢/٩٥٢..
٤٠ البيت من بحر الطويل، قاله زهير بن أبي سلمى.
والشاهد فيه أن (نبت)، و(أنبت) بمعنى واحد، قال الفراء: هما لغتان وقد تقدم..

٤١ أي: أنكر الأصعمي أن تكون (أنبت) بمعنى (نبت) ورواية الديوان (نبت)..
٤٢ انظر الكشاف ٣/٤٥، البيان ٢/١٨٢، التبيان ٢/٩٥٢، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٤٣ ويجوز في الباء أن تكون للتعدية، وأن تكون للحال، والمفعول محذوف كما تقدم. انظر البيان ٢/١٨٢، التبيان ٢/٩٥٢، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٤٤ تعالى: سقط من ب..
٤٥ من قوله تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين﴾ [البقرة: ١٩٥]..
٤٦ عجز بيت من بحر البسيط وصدره:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ***...
والشاهد فيه زيادة الباء في المفعول به. وتقدم تخريجه..

٤٧ رجز للنابغة الجعدي، وقبله:
نحن بنو ضبة أصحاب الفلج ***...
وهو في أدب الكاتب (٥٢٢)، والإنصاف ١/٢٨٤، المغني ١/١٠٨، شرح شواهده ١/٣٣٢، الخزانة ٩/٢٥٠ الفلج: في اللغة: الماء الجاري، ويقال: عين فلج، وماء فلج..

٤٨ يعني وفيها الدهن: سقط من ب..
٤٩ أي: ومعه جنده..
٥٠ في ب: وابن هرمز من..
٥١ المختصر (٩٧)، المحتسب ٢/٨٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٤٥، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٥٢ في الأصل: وقائم..
٥٣ انظر المحتسب ٢/٨٨..
٥٤ بضم التاء وكسر الباء من (تنبت)، "الدهن" بالنصب. تفسير ابن عطية ١٠/٣٤٥ البحر المحيط ٦/٤٠١..
٥٥ تقدم..
٥٦ لعله سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي، أسس مدينة الرملة في فلسطين، حاصر القسطنطينية، ولم يقو على فتحها توفي في دابق سنة ٩٩ هـ. المنجد في الأعلام (٣٠٧)..
٥٧ المختصر (٨٧)، تفسير ابن عطية ١٠/٣٤٥، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٥٨ المختصر (٨٧)، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٥٩ المرجعان السابقان..
٦٠ في ب: والدهن. وهو تحريف..
٦١ انظر اللسان (دهن)..
٦٢ [المؤمنون: ٢٠]..
٦٣ [التين: ٢]..
٦٤ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/١٤..
٦٥ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/١٤..
٦٦ هو: سقط من ب..
٦٧ انظر القرطبي ١٢/١١٥..
٦٨ (أيلة) تعرف اليوم باسم العقبة. القرطبي ١٢/١١٤-١١٥..
٦٩ في ب: ابن مجاهد. وهو تحريف..
٧٠ انظر البغوي ٦/١٤..
٧١ في الأصل: مطعمها..
٧٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٠..
٧٣ التبيان ٢/٩٥٢، الإتحاف ٣١٨..
٧٤ المختصر (٩٧)، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٧٥ التبيان ٢/٩٥٢، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٧٦ من قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم﴾ [المائدة: ٦]. و "أرجلكم" بالنصب قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. وبالخفض قراءة الباقين. السبعة ٢٤٢ – ٢٤٣، الكشف ١/٤٠٦..
٧٧ قوله تعالى: ﴿وأرجلكم﴾ بالنصب فيه وجهان: أحدهما: هو معطوف على الوجوه والأيدي أي: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. والثاني: أنه معطوف على موضع ب (رؤوسكم) والأول أقوى، لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع. التبيان ١/٤٢٢..
٧٨ هو عامر بن عبد الله مقرئ، ذكر أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الديبلي أنه قرأ عليه عن قراءته على حسنون.
انظر طبقات ١/٣٥٠..

٧٩ المختصر (٩٧)، البحر المحيط ٦/٤٠١..
٨٠ وهو الأشهب، وسليمان بن عبد الملك..
٨١ في ب: بالدهن. وهو تحريف.
.

٨٢ في ب: وهو.
.

٨٣ قال الزمخشري: (صبغ الثوب بصباغ حسن، وصبغ ما يصبغ به) أساس البلاغة (صبغ)..
٨٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩١..
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً﴾ الآية، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان، فذكر أنَّ فيها عبرة مجملاً ثم فصله من أربعة أوجه:
أحدها: قوله: ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ المراد منه جميع وجوه الانتفاع، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله - تعالى - فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة، وتصير غذاء، فَمَن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته، فهو من النعم الدينية، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضاً: فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثراً، وذلك دليل على عظم قدرة الله. وتقدم الكلام في «نُسْقِيكُمْ» في النحل وقُرئ «تَسْقيكُم» بالتاء من فوق مفتوحة، أي: تَسقِيكُم الأنعام.
وثانيها: قوله: ﴿وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ﴾ أي: بالبيع، والانتفاع بأثمانها.
وثالثها: قوله - تعالى -: «ومِنْهَا تَأْكُلُونَ» أي: كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
ورابعها: قوله: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أي: على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر، ولمّا بيَّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾. قيل: كان نوح اسمه يشكر
194
ثم سمي نوحاً لكثرة ما نَاحَ على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فَندم على ذلك.
وقيل: لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، وقال الله تعالى: أعِبْتني إذ خلقته، أم عِبْتَ الكلب، وهذه وجوه متكلفة، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
قوله: ﴿ياقوم اعبدوا الله﴾ : وَحِّدُوه ﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي: أنَّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقُرئ «غَيْرُهُ» بالرفع على المحل، وبالجر على اللفظ.
ثم إنه لمّا لَمْ ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله: «أَفَلاَ تَتَّقُونَ» زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح - عليه السلام -: وهي قولهم: ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ وهذه الشبهة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولاً لله، لأنّ الرسول لا بُدّ وأن يكون معظماً عند الله وحبيباً له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة، فلما انْتَفَتْ هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني: أن يقال: إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شُبهة لهم في القدح في نبوته، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم: ﴿يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يطلب الفضل عليكم ويرأسكم.
الشبهة الثانية: قولهم: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾ أي: ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك عَلِمنا أنه ما أرسل رسولاً.
195
الشبهة الثالثة: قولهم: ﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين﴾ فقولهم: «بِهَذا» إشارة إلى نوح - عليه السلام - أي: بإرسال بشر رسولاً، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح - عليه السلام - هذه الطريقة حكموا بفسادها.
الشبهة الرابعة: قولهم: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي: جنون، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، لأنه - عليه السلام - كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون، فكيف يجوز أن يكون رسولاً؟
الشبهة الخامسة: قولهم: ﴿فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ﴾، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله، أي: أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وهو أن يقولوا لقومهم: اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنتبعه حينئذ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم: ﴿يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ فإن ارادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم: ﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا﴾ فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء، وهو في غاية السقوط، لأنّ وجود التقليد) لا يدل على وجود الشيء، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم: «بِهِ جِنَّة» فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم: «فَتَرَبَّصُوا» فضعيف، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته، وهي المعجزة،
196
وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر.
197
ورابعها : قوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾ أي : على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر١،
١ انظر هذه الأوجه في الفخر الرازي ٢٣/٩١..
ولمّا بيَّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ ﴾ الآيات.
قيل : كان نوح١ اسمه يشكر ثم٢ سمي نوحاً لكثرة ما نَاحَ على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فَندم على ذلك.
وقيل : لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له : اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، وقال الله تعالى : أعِبْتني إذ خلقته، أم عِبْتَ الكلب، وهذه وجوه متكلفة، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى ٣.
قوله :﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ : وَحِّدُوه ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ ﴾ أي : أنَّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقُرئ «غَيْرُهُ »٤ بالرفع على المحل، وبالجر على اللفظ٥.
ثم إنه لمّا لَمْ ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله :«أَفَلاَ تَتَّقُونَ » زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه٦.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٩٢..
٢ في ب: و..
٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٩٢..
٤ "غيره" : سقط من الأصل..
٥ والقراءة بالجر قراءة الكسائي وأبي جعفر، والباقون بالرفع فـ "غيره" بالجر صفة لـ "إله" على اللفظ، وبالرفع على محل "إله" السبعة (٢٨٤)، الكشف ١/٤٦٧، الكشاف ٣/٤٥، الإتحاف ٣١٨..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٢..
ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح - عليه السلام١ - : وهي قولهم :﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ وهذه الشبهة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال : إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولاً لله، لأنّ الرسول لا بُدّ وأن يكون معظماً عند الله وحبيباً له٢، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة، فلما انْتَفَتْ هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني : أن يقال : إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة٣ والمتبوعية فلم يجد إليهما٤ سبيلاً إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شُبهة لهم في القدح في نبوته، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم :﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي : يطلب الفضل٥ عليكم ويرأسكم ٦.
الشبهة الثانية : قولهم :﴿ وَلَوْ شَاءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾ أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك عَلِمنا أنه ما أرسل رسولاً ٧.
الشبهة الثالثة : قولهم :﴿ مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَائِنَا الأولين ﴾ فقولهم :«بِهَذا » إشارة إلى نوح - عليه السلام٨ - أي : بإرسال٩ بشر رسولاً، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول١٠ الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح - عليه السلام١١ - هذه الطريقة حكموا١٢ بفسادها١٣.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ في ب: حبيبا..
٣ في ب: الرسالة. وهو تحريف..
٤ في الأصل: لها. وفي ب: إليها. والصواب ما أثبته..
٥ في ب: الفصلى. وهو تحريف..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٢ – ٩٣..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٢..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ في ب: إرسال..
١٠ قول: سقط من الأصل..
١١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٢ في ب: حكموها. وهو تحريف..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٣..
الشبهة الرابعة : قولهم :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ أي : جنون، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام١، لأنه - عليه السلام٢ - كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون، فكيف يجوز أن يكون رسولاً٣ ؟
الشبهة الخامسة : قولهم :﴿ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ ﴾، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله، أي : أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي٤ أمره فنتبعه حينئذ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه٥. واعلم أنه تعالى لم يذكر٦ الجواب على٧ هذه الشبه٨ لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند٩ ظهور١٠ المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم :﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ فإن أرادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم :﴿ مَّا سَمِعْنَا بهذا ﴾ فهو استدلال بعدم التقليد ( على عدم وجود الشيء، وهو في غاية السقوط، لأنّ وجود التقليد )١١ لا يدل على وجود الشيء، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم :«بِهِ جِنَّة » فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم :«فَتَرَبَّصُوا » فضعيف، لأنه إن ظهرت١٢ الدلالة على نبوته، وهي المعجزة، وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر١٣.
١ في ب: العام. وهو تحريف..
٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٣..
٤ في ب: وقوى. وهو تحريف..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٣..
٦ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٩٣ – ٩٤..
٧ في ب: عن..
٨ في ب: الشبهة. وهو تحريف..
٩ في ب: فقد. وهو تحريف..
١٠ في النسختين: ظهر. والصواب ما أثبته..
١١ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
١٢ في ب: ظهر..
١٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٩٣ – ٩٤..
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أي: أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم). وقيل: انصرني بدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه. وقيل: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩].
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ أي: بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله.
قيل: كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك.
وقيل: إن جبريل - عليه السلام - علّمه السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله: «بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا». ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾. واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك: هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما. وقيل: إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله: ﴿قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ [فصلت: ١١].
197
قوله: «وَفَارَ التَّنُّور» تقدم الكلام في التنور في سورة هود. «فَاسْلُكْ فِيهَا» أي: ادخل فيها. يقال: سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ أي: من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة: إنَّ الزوجَ هو الاثنان. روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ. وقرئ: «مِنْ كُلٍّ» بالتنوين و «اثْنَيْن» تأكيد وزيادة بيان «وَأهْلَكَ» أي: وأدْخل أَهْلَك ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ ولفظ (على) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ [البقرة: ٢٨٦]. وهذه الآية تدل على أمرين:
198
أحدهما: أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به، وإن لم يكن من أهله. وقيل: المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو حسباً. وهذا ضعيف، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾.
والثاني: قال: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا﴾ يعني: كنعان، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه، فقد صيّر خبره الصادق كذباً، وإن لم يجبه إليه، كان ذلك تحقيراً لشأن نوح - عليه السلام -، فلذلك قال: «إِنَّهُم مُغْرَقُونَ» أي: الغرق نازل بهم لا محالة. قوله: ﴿فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك﴾ اعتدلت أنت ومن معك على الفلك، قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت، وثلاثة بنين، سام، وحام، ويافث، وثلاثة نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «وُلِد لنوح ثلاثة أولاد سَام، وحَام، ويَافِث، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك».
قال ابن الجوزي: وُلِد لحام كوش، ونبرش، وموغع، وبوان، ووُلِد لكوش نمرود، وهو أول النماردة، مَلِك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة، وعلى عهده قسّمت الأرض، وتفرَّق الناس واختلفت الألسن، ونمرود إبراهيم الخليل، ومن وَلد نبرش الحرير، ومن وَلد مُوغع يأجوج ومأجوج، ومن وَلد بوان الصقالبة، والنوبة، والحبشة، والهند، والسند.
ولما اقتسم أولاد نوح الأرض، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، فجعل الله فيهم الأدمة، وبياضاً قليلاً، ولهم أكثر الأرض، وروي أن فالغ أبو غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح، فنزل سام سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.
199
روى ابن شهاب قال: قيل لعيسى ابن مريم - عليه السلام - أَحْيِ حام بن نوح - فقال: أروني قبره. فأروه، فقام، فقال: يا حام بن نوح احْيَ بإذن الله - عزّ وجلّ - فَلَمْ يَخْرُج، ثم قالها الثانية، فخرج، وإذا شِقّ رأسه ولحيته أبيض، فقال: ما هذا، قال: سمعتُ الدعاء الأول فظننتُ أنه من الله - تعالى - فشاب له شقي، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجتُ، قال: مذ كم مِتَّ؟ قال: منذ أربعة آلاف سنة، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال مجاهد: ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.
قوله: ﴿فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين﴾ الكافرين، وإنما قال: «فَقُل» ولم يقل: فقولوا، لأنّ نوحاً كان نبياً لهم وإمامهم، فكان قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: ﴿بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: ٤١]، وعند ركوب الدابة: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا﴾ [الزخرف: ١٣]، وعند النزول: ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾. قال الأنصاري: وقال لنبينا: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾
[الإسراء: ٨٠]، وقال: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله﴾ [النحل: ٩٨] فكأنه - تعالى - أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم.
قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ قرأ أبو بكر بفتح ميم (مَنْزِلاً) وكسر الزاي، والباقون بضم الميم وفتح الزاي و (المَنْزل) و (المُنْزَل) كل منهما يحتمل أن
200
يكون اسم مصدر، وهو الإنزال أو النزول، وأن يكون اسم مكان النزول أو الإنزال، إلا أنّ القياس «مُنْزَلاً» بالضم والفتح لقوله: «أَنْزِلْنِي». وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]، وتقدم نظيره في «مُدْخَل» و «مَدْخَل» في سورة النساء واختلفوا في المنزل، فقيل: نفس السفينة، وقيل: بعد خروجه من السفينة منزلاً من الأرض مباركاً. والأول أقرب، لأنه أُمِرَ بهذا الدعاء حال استقراره، فيكون هو المنزل دون غيره.
ثم قال: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله، لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله. ثم بين تعالى أنّ فيما ذُكِر من قصة نوح وقومه «آيات» دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الكفر، فإنّ إظهار تلك المياه العظيمة، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح - عليه السلام - يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر. قوله: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ «إِنْ» مخففة، و «اللام» فارقة. وقيل: «إِنْ» نافية و «اللام» بمعنى «إِلاَّ» وتقدم ذلك مراراً فعلى الأول معناه: وقد كنا، وعلى الثاني: ما كنا إلا مبتلين، فيجب على كل مكلَّف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه. وقيل: المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء، وسلك مثل طريقة قوم نوح. وقيل: المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكيلا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.
201
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال :﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي : بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله ١.
قيل : كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك٢.
وقيل : إن جبريل - عليه السلام٣ - علّمه السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله :«بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا »٤. ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾. واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما٥. وقيل : إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله :﴿ قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾٦ ٧ [ فصلت : ١١ ].
قوله :«وَفَارَ التَّنُّور » تقدم الكلام في التنور في سورة هود٨. «فَاسْلُكْ فِيهَا » أي : ادخل فيها. يقال : سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ٩ ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ أي : من كل زوجين من الحيوان ( الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان )١٠ وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة : إنَّ الزوجَ هو الاثنان١١. روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ١٢. وقرئ :«مِنْ كُلٍّ » بالتنوين و «اثْنَيْن » تأكيد وزيادة بيان١٣ «وَأهْلَكَ » أي : وأدْخل أَهْلَك ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ ولفظ ( على ) إنما يستعمل في١٤ المضارّ قال تعالى :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ﴾١٥ ١٦ [ البقرة : ٢٨٦ ]. وهذه الآية تدل على أمرين :
أحدهما : أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به، وإن لم يكن من أهله. وقيل : المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو١٧ حسباً. وهذا ضعيف، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله :﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾.
والثاني : قال :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا ﴾ يعني : كنعان، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه، فقد صيّر خبره الصادق كذباً، وإن لم يجبه إليه، كان١٨ ذلك تحقيراً لشأن نوح - عليه السلام١٩ -، فلذلك٢٠ قال :«إِنَّهُم مُغْرَقُونَ » أي : الغرق نازل بهم لا محالة ٢١.
١ المرجعان السابقان..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٤..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٤..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
٦ من قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ [فصلت: ١١]..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
٨ عند قوله تعالى: ﴿حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين﴾ [هود: ٤٠]. وذكر ابن عادل هناك: والتنور قيل وزنه (تفعول)، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون للعوض عن المحذوف ويعزى هذا لثعلب. وقيل وزنه (فعول) ويعزى لأبي علي الفارسي.
وقيل: هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاق له، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون. انظر اللباب ٤/٣٤٥..

٩ في اللسان (سلك): سلك المكان يسلكه سلكا وسلوكا وسلكه غيره، وفيه، وأسلكه إياه، وفيه، وعليه. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقال ساعدة بن العجلاني:
وهم منعوا الطريق وأسلكوهم *** على شماء مهواها بعيد.

١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
١١ الزوج: خلاف الفرد، ويقال: زوج وفرد، فالزوج الفرد الذي له قرين. قال أبو بكر: العامة تخطئ فتظن أن الزوج اثنان، وليس ذلك من مذاهب العرب، إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم: زوج حمام، ولكنهم يثنونه فيقولون: عندي زوجان من الحمام يعنون ذكرا وأنثى. اللسان (زوج)..
١٢ الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
١٣ والقراءة بالتنوين قراءة حفص عن عاصم. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بلا تنوين. فمن نون عدي الفعل، وهو "أسلك" إلى "زوجين" فنصبهما بالفعل وجعل "اثنين" نعتا لـ "زوجين" وفيه معنى التأكيد، و" من" على هذا يجوز أن تتعلق بـ "اسلك"، وأن تكون حالا، والتقدير: اسلك فيها زوجين اثنين من كل شيء أو صنف، ثم حذف ما أضيف إليه "كل" فنون. ومن أضاف عدى الفعل إلى "اثنين"، وخفض "زوجين" لإضافة "كل" إليهما والتقدير: اسلك فيها اثنين من كل زوجين أي: من كل صنفين. فـ "من" على هذا حال، لأنها صفة للنكرة قدمت عليها ويجوز أن تكون "من" زائدة، والمفعول "كل" و "اثنين" توكيد، وهذا على قول الأخفش. السبعة (٤٤٥)، الكشف ١/٥٢٨، الحجة لابن خالويه (١٨٦)، التبيان ٢/٦٩٧ – ٦٩٨..
١٤ في: سقط من ب..
١٥ [البقرة: ٢٨٦]..
١٦ الكشاف ٣/٤٦، الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
١٧ في ب: و..
١٨ في ب: وكان..
١٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٠ في ب: فكذلك. وهو تحريف..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
قوله :﴿ فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك ﴾ اعتدلت أنت ومن معك على الفلك، قال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت، وثلاثة١ بنين، سام، وحام، ويافث، وثلاثة نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً، فكل الخلائق نسل٢ من كان في السفينة٣.
روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«وُلِد لنوح ثلاثة أولاد سَام، وحَام، ويَافِث، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء٤ ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك٥ ».
قال ابن الجوزي٦ : وُلِد لحام كوش، ونبرش، وموغع، وبوان، ووُلِد لكوش نمرود، وهو أول النماردة، مَلِك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة، وعلى عهده٧ قسّمت الأرض، وتفرَّق الناس واختلفت الألسن، ونمرود إبراهيم الخليل، ومن وَلد نبرش الحرير، ومن وَلد مُوغع يأجوج ومأجوج، ومن وَلد بوان الصقالبة، والنوبة، والحبشة، والهند، والسند.
ولما اقتسم أولاد نوح الأرض، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، فجعل الله فيهم الأدمة، وبياضاً قليلاً، ولهم أكثر الأرض، وروي أن فالغ أبو٨ غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح، فنزل سام٩ سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.
روى ابن شهاب قال : قيل لعيسى ابن مريم - عليه السلام١٠ - أَحْيِ حام بن نوح - فقال : أروني قبره. فأروه، فقام، فقال : يا حام بن نوح احْيَ بإذن الله - عزّ وجلّ - فَلَمْ يَخْرُج، ثم قالها الثانية١١، فخرج، وإذا١٢ شِقّ رأسه ولحيته أبيض، فقال : ما هذا، قال : سمعتُ الدعاء الأول فظننتُ أنه من الله - تعالى - فشاب له شقي، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجتُ، قال : مذ كم مِتَّ ؟ قال : منذ أربعة آلاف سنة، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال١٣ مجاهد : ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.
قوله :﴿ فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين ﴾ الكافرين، وإنما قال :«فَقُل » ولم يقل : فقولوا، لأنّ نوحاً كان نبياً لهم وإمامهم، فكان قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي ١٤.
قال قتادة : علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة :﴿ بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾١٥ [ هود : ٤١ ]، وعند ركوب الدابة :﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا١٦ [ الزخرف : ١٣ ]، وعند النزول :﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾١٧ ١٨. قال الأنصاري : وقال لنبينا :﴿ وَقُل ربِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾١٩ [ الإسراء : ٨٠ ]، وقال :﴿ فَإِذَا٢٠ قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله ﴾٢١ [ النحل : ٩٨ ] فكأنه - تعالى - أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم ٢٢.
١ في النسختين: ثلاث..
٢ في ب: نسلي. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٥..
٤ السوداء: سقط من ب..
٥ انظر تاريخ الطبري ١/٢١٠، والبداية والنهاية لابن كثير ١/١٣٢- ١٣٣..
٦ تقدم..
٧ في الأصل: هذه. ثم صوب بالهامش..
٨ في الأصل: ابن..
٩ في الأصل: بنو سام..
١٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١١ في ب: ثانيا..
١٢ في ب: فإذا..
١٣ في ب: وقال..
١٤ انظر الكشاف ٣/٤٧، الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
١٥ من قوله تعالى: ﴿وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم﴾ [هود: ٤١]..
١٦ من قوله تعالى: ﴿لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين﴾ [الزخرف: ١٣]..
١٧ [المؤمنون: ٢٩]..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
١٩ [الإسراء: ٨٠]..
٢٠ في ب: وإذا. وهو تحريف..
٢١ من قوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ [النحل: ٩٨]..
٢٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
قوله :﴿ وَقُل ربِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾ قرأ أبو بكر بفتح ميم ( مَنْزِلاً ) وكسر الزاي، والباقون بضم الميم وفتح الزاي١ و ( المَنْزل٢ ) و ( المُنْزَل ) كل منهما يحتمل أن يكون اسم مصدر، وهو الإنزال أو النزول، وأن يكون اسم٣ مكان النزول أو الإنزال، إلا أنّ القياس «مُنْزَلاً » بالضم والفتح لقوله :«أَنْزِلْنِي »٤. وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي٥ كقوله :﴿ أَنبَتَكُمْ منَ الأرض نَبَاتاً ﴾٦ [ نوح : ١٧ ]، وتقدم نظيره في «مُدْخَل » و «مَدْخَل » في سورة النساء٧ واختلفوا في المنزل، فقيل : نفس السفينة، وقيل : بعد خروجه من السفينة منزلاً من الأرض مباركاً. والأول أقرب، لأنه أُمِرَ بهذا الدعاء حال استقراره، فيكون هو المنزل دون غيره٨.
ثم قال :﴿ وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين ﴾، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله، لأنه يحفظ من أنزله٩ في سائر أحواله١٠.
١ السبعة (٤٤٥) الكشف ٢/١٢٨، الحجة لابن خالويه (٢٥٦)..
٢ والمنزل: سقط من ب..
٣ في ب: اسم مصدر..
٤ لأن الفعل المتقدم رباعي..
٥ انظر الكشاف ٢/١٢٨، البيان ٢/١٨٢ – ١٨٣، التبيان ٢/٩٥٣..
٦ من قوله تعالى: ﴿والله أنبتكم من الأرض نباتا﴾ [نوح: ١٧] واستشهد بالآية على أن "نباتا" اسم مصدر وقع موقع مصدر "أنبت" التبيان ٢/١٢٤٢..
٧ عند قوله تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾ [النساء: ٣١]..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
٩ في ب: إنزاله. وهو تحريف..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
ثم بين تعالى أنّ فيما ذُكِر من قصة نوح وقومه «آيات » دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الكفر، فإنّ إظهار تلك المياه العظيمة، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح - عليه السلام١ - يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر٢. قوله :﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ «إِنْ » مخففة، و «اللام » فارقة. وقيل :«إِنْ » نافية و «اللام » بمعنى «إِلاَّ »٣ وتقدم ذلك مراراً فعلى الأول معناه : وقد كنا، وعلى الثاني : ما كنا إلا مبتلين، فيجب على كل مكلَّف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه٤. وقيل : المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء، وسلك مثل طريقة قوم نوح٥. وقيل : المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب٦، لكيلا٧ يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد ٨.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٦..
٣ انظر البيان ٢/١٨٢، التبيان ٢/٩٥٣، المغني ١/٢٣١ – ٢٣٢، شرح التصريح ١/٢٣٠-٢٣١، الهمع ١/١٤١- ١٤٢، شرح الأشموني ١/٢٨٨ – ٢٩٠..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٧..
٥ المرجع السابق..
٦ في ب: التكذيب. وهو تحريف..
٧ في ب: لكن لا. وهو تحريف..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٧..
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ الآيات. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هذه قصة هود لقوله تعالى حكاية عن هود ﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: ٦٩]، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.
وقال بعضهم: هي قصة صالح لأنَّ قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح.
قوله: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: حق «أَرْسَلَ» أن يتعدى ب «إلى» كأخواته التي هي: وَجَّهَ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ، فما له عدي في القرآن ب (إلى) تارة وب (في) أخرى كقوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ﴾ [الرعد: ٣٠] ﴿ (وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ) ﴾ [سبأ: ٣٤]. قُلْتُ: لم يعد ب (في) كما عُدّي ب (إلى)، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، كقول رؤبة:
٣٨٩١ - أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام...
202
وقد جاء (بَعَثَ) على ذلك، كقوله تعالى ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً﴾ [الفرقان: ٥١].
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ يجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي: بقوله اعبدوا، وأن تكون مفسرة. «أَفَلاَ تَتَّقُونَ» قال بعضهم: هذا الكلام غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله: «أَفَلاَ تَتَّقُون» هذه الطريقة مخالفة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان.
قوله: «وقَالَ الملأُ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف، وسورة هود بغير واو، ﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦] ﴿قَالُواْ (ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) ﴾ [هود: ٥٣]. وههنا مع الواو، فأيّ فرق بينهما؟ قُلْتُ: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيت وكيت، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول، (أي في هذه الواقعة في) هذا الكلام الحق وهذا (الكلام) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: هذا جواب بنفس الواقع، والسؤال باق، إذ يحسن أن يقال: لِمَ لا جعل هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر.
قوله ﴿وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة﴾ أي: بالمصير إلى الآخرة «وأَتْرَفْنَاهُم» نعمناهم ووسعنا عليهم ﴿فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ﴾ وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى ﴿وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ أي: منه، فحذف العائد لاستكمال شروطه، وهو اتحاد الحرف، والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير
203
آخر، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي، فإن جعلتها مصدراً لم يحتج إلى عائد، فيكون المصدر واقعاً موقع المفعول.
أي: من مشروبكم.
وقال في التحرير: وزعم الفراء أن معنى «مِمَّا تَشْرَبُونَ» على حذف أي: تشربون منه. وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة، لأن (ما) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد، ولم تحتج إلى إضمار (من) يعني: أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله: «تَأْكُلُونَ مِنْهُ» فيه تبعيض، فلو قدرت هنا تشربونه من غير (من) فاتت المقابلة. ثم إن قوله: وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع، بل هو جائز لوجود شرط الحذف.
قوله: ﴿لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ لمغبونون، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً، قال الزمخشري و «إذا» وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم قال أبو حيان: وليس واقعاً في جزاء الشرط، بل واقعاً بين «إنكم» و (الخبر)، و «إنكم» و (الخبر) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن» الشرطية (ولو كانت «إنكم» والخبر جواباً للشرط) لزمت (الفاء) في (إنكم) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ قال شهاب الدين: يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط، ولو أجيب الشرط لاختلت القاعدة إلا عند بعض
204
الكوفيين، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر، وهو موجود في الشعر.
قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ «الآية. في إعرابها ستة أوجه:
أحدها: أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والخبر قوله:»
إِذَا متُّم «، و» أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «تكرير، لأنَّ الأولى للتأكيد، والدلالة على المحذوف والمعنى: أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم.
الثاني: أنَّ خبر (أنَّ) الأولى هو»
مُخْرَجُونَ «، وهو العامل في» إِذَا «وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله: ﴿أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ﴾.
الثالث: أنّ»
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب (إذا) الشرطية، و (إذا) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل (أنَّكُم) الأولى تقديره: يحدث أنكم مخرجون.
205
الرابع: كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر خبر ل (أَنَّ) الأولى وهو العامل في (إذا).
الخامس: أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه، فتقديره: أنكم تبعثون، وهو العامل في الظرف، و (أنَّ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى، وهذا مذهب سيبويه.
السادس: أن يكون «أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه، والجملة خبر عن (أَنَّكُمْ) الأولى، والتقدير: أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم. ولا يجوز أن يكون العامل في «إذَا» «مُخْرَجُونَ» على كل قول لأن ما في حيز (أنَّ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم»، لأنه مضاف إليه، و «أَنَّكُمْ» وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل: أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر، فيكون في محل نصب فقط نحو: وعدت زيداً خيراً.
قوله: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ». «هَيْهَاتَ» اسم فعل معناه: بَعُدَ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع، قال جرير:
206
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر، فقال: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط.
و «هَيْهَات» اسم لفعل قاصر برفع الفاعل، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال «مَا تُوعدُون» فاعل به، وزيدت فيه اللام التقدير: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون، ، وهو ضعيف: إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة الكلام عليه، فقدره أبو البقاء: هيهات التصديق، أو: الصحة لما توعدون. وقدّره غيره: بَعُدَ إخْرَاجُكُم. و (لِمَا تُوعَدُونَ) للبيان، قال الزمخشري: لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في «هَيْتَ لَكَ» لبيان المهيت به. وقال الزجاج: «البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ» فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: (مَا تُوعَدُونَ) هو المستبعد، فمن حقه أن يرتفع ب «هَيْهَاتَ» كما ارتفع بقوله:
٣٧٩٣ - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه... فما هذه اللام؟ قُلتُ: قال الزجاج في تفسيره: البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن نَوّن، فنزّله منزلة المصدر. قال أبو حيان: وقول الزمخشري (فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر) ليس بواضح، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر. قال شهاب الدين: الزمخشري لم يقل كذا، إنما
207
قال: فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله: أو بُعْد، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة، وما لم يُنوّن معرفة نحو: صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت، والثاني بسكوت ما.
وقال ابن عطية: طوراً تلي الفاعل دون لام، تقول: هيهات مجيء زيد أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام، كهذه الآية، والتقدير: بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ. ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله: حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر، وهو الموجود، وإبقاء معموله وهو «لِمَا تُوعَدُون» و «هَيْهَاتَ» الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً، وقد جاء غير مؤكد كقوله:
٣٧٩٢ - فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه
٣٧٩٤ - هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ
وقال آخر:
٣٧٩٥ - هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ
وقال رؤبة:
٣٧٩٦ - هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه... قال القيسي شارح أبيات الإيضاح: وهذا مثل قولك: «بَعُدَ بُعْدَهُ» وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة (فَعْلاَلاً) فجاء به مجيء القَلْقَال والزلزَال. والألف في «هَيْهَاتَ» غير الألف في (هَيْهَاؤُه)، وهي في «هَيْهَاتَ» لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في (هَيْهَاؤُه) ألف الفعلال الزائدة. وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين،
208
ذكر منها الصَّاغَانِي ستة وثلاثين لغة، وهي: (هَيْهَاتَ)، وأَيْهَاتَ، وهَيْهَانَ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه، وأَيْهَاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته، ومكسورته، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة، فتكون ستًّا وثلاثين. وحكى غيره: هَيْهَاك، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب -، وأَيْهاء، وأَيْهَا، وهَيْهَاء، فأمّا المشهور ما قرئ به. فالمشهور «هَيْهَات» بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني، أو لشبهه بالحرف، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز. و «هَيْهَاتاً» بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس.
و «هَيْهَاتٌ» بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين،
209
ويروى عن أبي حيوة أيضاً، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية.
و «هَيْهَاتٍ» بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس. وبالكسر من غير تنوين، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وتُروى عن عيسى أيضاً وهي لغة تميم وأسد.
و «هَيْهَاتْ» بإسكان التاء، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و «هَيْهَاه» بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً. و «أيْهَاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى. ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أَيْهَان» بالنون آخراً. و «أَيْهَا» بألف آخراً.
فمن فتح التاء قالوا: فهي عنده اسم مفرد، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات.
ويُعْزَى هذا لسيبويه، لأنه قال: هي مثل بَيْضَات، فنسب إليه أنه جمع من ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردها (هَيْهَة) مثل بَيْضَة.
210
وليس بشيء بل مفردها (هَيْهَاتَ).
قالوا: وكان يبغي على أصله أن يقال فيها: (هَيْهَيَات) بقلب ألف (هَيْهَاتَ) ياء، لزيادتها على الأربعة نحو: مَلْهَيَات، ومَغْزَيات، ومَرْمَيات، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت: هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة. وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة، وياء هَيْهية أصلاً، فلما جمعت كان قياسها على قولهم: أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ أن يقولوا فيها: (هَيْهَياتٍ)، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في (ذان)، و (اللَّتان) و (تان) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية، والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات. وقالوا: من فتح تاء (هَيْهَاتَ) فحقه أن يكتبها هاء، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء، لأنها في جمع كهِنْدَات، وكذلك حكم الوقف سواء، ولا التفات إلى لغة: كيف الإخوهْ والأخواهْ، ولا هذه ثمرت، لقلتها، وقد رسمت في المصحف بالهاء.
واختلف القراء في الوقف عليها، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون. وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين:
أحدهما: موافقة الرسم.
والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في مضاعف الرباعي، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا التنوين فهو
211
على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير، وخروجه دال على التعريف.
قال القيسي: من نَوّن اعتقد تنكيرها، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة، كأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة، كأنه قال: البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى.
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين: أسماء الأفعال وأسماء الأصوات (نحو صَهْ وصَهٍ، وبَخْ وبَخٍ، والعلم المختوم ب (ويه)) نحو سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياس بمعنى: أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره. والذي يقال في القراءات المتقدمة: إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفةِ وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد. ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت، لأنّ الظاهر أنهما سواء، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم.
هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن: إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره «لِمَا تُوعدُونَ» أي: البُعْد لوعدكم، كما تقول: النجح لسعيك.
وقال الرازي في اللوامح: فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين، خبرهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل، والضم للبناء مثل: حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه (لكونه) نكرة.
قال شهاب الدين: وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ﴾ من غير لام جر. وهي واضحة، مؤيدة لمدعي زيادتها
212
في قراءة العامة. و «ما» في «لِمَا تُوعَدُونَ» تحتمل المصدرية، أي: لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: توعدونه.
قوله: «إنْ هِيَ» «هي» ضمير يفسره سياق الكلام، أي: إن الحياة إلا حياتنا.
وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة ﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾، فوضع «هي» موضع «الحياة» لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه: هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ. وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين: ولا تعلق له في ذلك.
قوله: «نَمُوتُ ونَحْيَا» جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقل: نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل: القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي: نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.

فصل


اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً: أي: إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى
213
قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ ثم أكدوا ذلك بقولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ ولم يريدوا بقولهم: «نَمُوتُ ونَحْيَا» الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد ﴿افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى: فتقدم الجواب عنها. وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر، وأيضاً: فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى﴾ [طه: ١٥].
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال: ﴿رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾ وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾.
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» في (ما) هذه وجهان:
أحدهما: أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو: «فَبِمَا رَحْمَةٍ»، وفي من نحو «مِمَّا خَطَايَاهُمْ».
و «قَلِيلٍ» صفة لزمن محذوف، أي: عن زمن قليل.
والثاني: أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و «قَلِيلٍ» صفتها، أو بدل منها، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه متعلق بقوله: «لَيُصْبِحُنَّ»، أي: ليصبحن عن زمن قليل نادمين.
214
الثاني: أنه متعلق ب «نَادِمِين»، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال:
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني: المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث: التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في: والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أنّه متعلق بمحذوف تقديره: عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: «رَبّ انْصُرْنِي». وقرئ: «لَتُصْبِحُنَّ» بتاء الخطاب على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول. ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق﴾ قيل: إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا. وقال ابن عباس: الصيحة الرجفة. وعن الحسن: الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب.
وقيل: هي العذاب المصطلم، قال الشاعر:
٣٧٩٧ - صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه الحقيقة.
قوله: «بالحقِّ» أي: دمرناهم بالعدل، من قولك: فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه.
وقال المُفضل: «بالحقِّ» بما لا مدفع له كقوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق: ١٩].
215
قوله: «فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» الجعل بمعنى: التصيير، و «غُثَاءً» مفعول ثان، والغُثَاء: قيل: هو الجفاء، وتقدم في الرعد، قاله الأخفش وقال الزجاج: هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود، ومنه قوله: «غُثَاءً أَحْوَى» وقيل: كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً، وكذلك غَثَتِ القِدر، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً، أي: خَبُثَتْ. فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء.
وتشدد (ثاء) الغُثَاء، وتُخفَّف، وقد جمع على أَغْثَاء، وهو شاذ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية، كَأغْرِيَة، وعلى غِيثَان، كغِرْبَان، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس:
٣٧٩٨ - مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ... بتشديد الثاء، وتخفيفها، والجمع، أي: والأَغْثَاء.
قوله: ﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ «بُعْداً» مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم، والأصل: بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان:
216
أظهرهما: أنها متعلقة بمحذوف للبيان، كهي في سَقْياً له، وجَدْعاً له. قاله الزمخشري.
والثاني: أنَّها متعلقة ب «بُعْداً» قاله الحوفي. وهذا مردود، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ [محمد: ٨] لأن اللام لا تتعلق ب «تَعْساً» بل بمحذوف، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل


«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض، «فَبُعْداً» بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير «لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ» الكافرين، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم.
217
قوله :«فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ » قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : حق «أَرْسَلَ » أن يتعدى ب «إلى » كأخواته التي هي : وَجَّهَ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ، فما له عدي في القرآن ب ( إلى١ ) تارة وب ( في ) أخرى كقوله :﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ ﴾٢ [ الرعد : ٣٠ ] ﴿ " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ " ﴾٣ ٤ [ سبأ : ٣٤ ]. قُلْتُ : لم يعد ب ( في ) كما عُدّي ب ( إلى )، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، كقول رؤبة ٥ :
أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام٦ ***. . .
وقد٧ جاء ( بَعَثَ ) على ذلك، كقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ﴾٨ ٩ [ الفرقان : ٥١ ].
قوله :﴿ أَنِ اعبدوا الله ﴾ يجوز أن تكون المصدرية١٠ أي : أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي : بقوله اعبدوا، وأن تكون مفسرة١١. «أَفَلاَ تَتَّقُونَ » قال بعضهم : هذا الكلام غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله :«أَفَلاَ تَتَّقُون » هذه الطريقة مخالفة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم١٢ على عبادة الأوثان ١٣.
١ بإلى: سقط من ب..
٢ [الرعد: ٣٠]..
٣ من قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنما بما أرسلتم به كافرون﴾ [سبأ: ٣٤]..
٤ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
٥ تقدم..
٦ رجز نسبة الزمخشري إلى رؤبة، ولم أجده في ديوانه، وهو في شرح شواهد الكشاف لعطاء السندي، وبعده: طبا فقيها بذوات الأبلام. وهو في البحر المحيط ٦/٤٠٣، وشرح شواهد الكشاف ١١٩ وفي النسختين: (ذا لحام) مكان (ذا إقحام) يقال: أصعب الجمل فهو مصعب إذا صار صعبا لا يركب. الإقحام: الدخول في الشيء بلا مهلة ولا روية. فالمعنى: أرسلت في تلك القضية رجلا كالجمل الشديد ذا إقدام على الأمر بجراءة..
٧ في ب: وبعد. وهو تحريف..
٨ [الفرقان: ٥١]..
٩ الكشاف ٣/٤٧..
١٠ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٣..
١١ انظر الكشاف ٣/٤٧، البحر المحيط ٦/٤٠٣..
١٢ إقبالهم: سقط من ب..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٨..
قوله :«وقَالَ الملأُ » قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف، وسورة هود بغير واو، ﴿ قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾١ [ الأعراف : ٦٦ ] ﴿ قَالُواْ ( يا هود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ﴾ ٢ ٣ [ هود : ٥٣ ]. وههنا مع الواو، فأيّ فرق بينهما ؟ قُلْتُ : الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فماذا قيل له ؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله٤، ومعناه أنه٥ اجتمع في الحصول، ( أي في هذه الواقعة في )٦ هذا الكلام٧ الحق وهذا ( الكلام ) ٨ الباطل وشتان٩ ما بينهما١٠ قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : هذا جواب بنفس الواقع، والسؤال باق، إذ يحسن أن يقال : لِمَ لا جعل١١ هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر١٢.
قوله ﴿ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الآخرة ﴾ أي : بالمصير إلى الآخرة «وأَتْرَفْنَاهُم » نعمناهم ووسعنا عليهم ﴿ فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ﴾ وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى١٣ ﴿ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ أي : منه، فحذف العائد لاستكمال شروطه، وهو اتحاد١٤ الحرف، والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير آخر١٥، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي، فإن جعلتها مصدراً لم تحتج إلى عائد، فيكون١٦ المصدر واقعاً موقع المفعول. أي : من مشروبكم١٧.
وقال في التحرير١٨ : وزعم الفراء أن معنى «مِمَّا تَشْرَبُونَ » على حذف أي : تشربون منه١٩. وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة، لأن ( ما ) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد، ولم تحتج إلى إضمار ( من ) ٢٠ يعني : أنه يقدر تشربونه من غير حرف٢١ جر، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة٢٢ ولكن تفوت المقابلة إذ قوله :«تَأْكُلُونَ مِنْهُ » فيه تبعيض، فلو قدرت هنا تشربونه من غير ( من ) فاتت المقابلة. ثم إن قوله : وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع، بل هو جائز لوجود شرط الحذف.
١ [الأعراف: ٦٦]..
٢ [هود: ٥٢]..
٣ ما بين القوسين تصويب من الكشاف، هو في النسختين: ما نراك إلا بشار مثلنا..
٤ في ب: ما قاله الرسول..
٥ أنه: سقط من ب..
٦ ما بين القوسين ليس في نص الزمخشري، وإنما هو من كلام ابن عادل..
٧ ما بين القوسين ليس في نص الزمخشري، وإنما هو من كلام ابن عادل..
٨ ما بين القوسين ليس في نص الزمخشري، وإنما هو من كلام ابن عادل..
٩ وشتان: سقط من ب..
١٠ الكشاف ٣/٤٧..
١١ في ب: يجعل..
١٢ الدر المصون: ٥/٨٦..
١٣ وهي قصة نوح..
١٤ في ب: اتخاذ. وهو تصحيف..
١٥ انظر شروط حذف العائد المجرور بحرف في شرح الكافية ٢/٤٢ – ٤٣، شرح التصريح ١/١٤٧، الهمع ١/٦٠..
١٦ في ب: ويكون..
١٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٧، البيان ٢/١٧٣، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
١٨ كتاب التحرير هو أحد مصادر أبي حيان في كتابه البحر المحيط، فإنه قال (واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا على كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب، جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي، عرف بابن النقيب – رحمه الله تعالى – إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد) البحر المحيط ١/١١..
١٩ معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٤..
٢٠ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٢١ حرف: سقط من ب..
٢٢ وهي كون العائد المنصوب متصلا، وناصبه فعل تام، أو وصف غير صلة (أل) وأن يكون متعينا للربط. انظر شرح التصريح ١/١٤٤- ١٤٥..
قوله :﴿ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ لمغبونون، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً١، قال الزمخشري و «إذا » وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم٢ قال أبو حيان : وليس واقعاً في جزاء الشرط، بل واقعاً بين «إنكم » و ( الخبر )، و «إنكم » و ( الخبر ) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن » الشرطية ( ولو كانت «إنكم » والخبر جواباً للشرط٣ ) لزمت ( الفاء ) في ( إنكم ) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ٤ قال شهاب الدين : يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط، ولو أجيب الشرط لاختلت٥ القاعدة إلا عند بعض الكوفيين، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر، وهو موجود في الشعر٦ ٧.
١ خسرانا: سقط من ب..
٢ الكشاف ٣/٤٧..
٣ ما بين القوسين كما في البحر المحيط، وفي النسختين: ولو كان التركيب الخبر جوابا..
٤ البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٥ في الأصل: لاختلف..
٦ أي: أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم منهما، لشدة الاعتناء بالمتقدم، فتقديم القسم كقولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، وتقديم الشرط نحو: إن تأتني – والله – أكرمك ولا يجوز جعل الجواب للشرط مع تقدم القسم خلافا لابن مالك حيث قال:
وربما رجح بعد قسم *** شرط بلا ذي خبر مقدم.
خلافا لفراء في إجازته ذلك، وما استدل به قول الشاعر:
لئن منيت بنا عن غب معركة *** لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل
وقوله:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقا *** أصم في نهار القيظ للشمس باديا
ومنع الجمهور ذلك، وتأولوا ما ورد على جعل اللام زائدة. هذا إن لم يتقدمهما ذو خبر، فإن تقدمهما ذو خبر جاز جعل الجواب للشرط مع تأخره نحو: زيد والله إن يقم أقم، وجاز جعل الجواب للقسم لتقدمه نحو: زيد والله إن يقم لأقومن. والأرجح مراعاة الشرط تقدم أو تأخر، لأن سقوط الشرط يخل بمعنى الجملة التي هو منها بخلاف القسم فإنه مسوق لمجرد التوكيد.
شرح الكافية ٣/١٦١٥-١٦١٧، شرح التصريح ٢/٢٥٣ – ٢٥٤ شرح الأشموني ٤/٢٧ – ٣٠..

٧ الدر المصون: ٥/٨٦..
قوله : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ الآية. في إعرابها ستة أوجه :
أحدها : أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والخبر قوله :«إِذَا متُّم »، و«أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ » تكرير، لأنَّ الأولى للتأكيد، والدلالة على المحذوف والمعنى : أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم ١.
الثاني : أنَّ خبر ( أنَّ ) الأولى هو «مُخْرَجُونَ »، وهو العامل في «إِذَا » وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل٢ وإليه ذهب الجرمي٣ والمبرد٤ والفراء٥، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله :﴿ أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ ﴾٦.
الثالث : أنّ «أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ » مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب٧ ( إذا ) الشرطية، و ( إذا ) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل ( أنَّكُم ) الأولى تقديره : يحدث أنكم مخرجون٨.
الرابع : كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر٩ خبر ل ( أَنَّ ) الأولى وهو العامل في ( إذا )١٠.
الخامس : أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه، فتقديره١١ : أنكم تبعثون، وهو العامل في الظرف، و ( أنَّ ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى، وهذا مذهب سيبويه١٢.
السادس : أن يكون «أَنَّكُمْ١٣ مُخْرَجُونَ » مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه، والجملة خبر عن ( أَنَّكُمْ ) الأولى، والتقدير : أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم١٤. ولا يجوز أن يكون العامل في «إذَا » «مُخْرَجُونَ » على كل قول لأن ما في حيز ( أنَّ ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم »، لأنه مضاف إليه، و«أَنَّكُمْ »١٥ وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل : أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر، فيكون في محل نصب فقط نحو : وعدت زيداً خيراً.
١ انظر التبيان ٢/٩٥٣..
٢ انظر الكشاف ٣/٤٧، البيان ٢/١٨٤، التبيان ٢/٩٥٤..
٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٨، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٤ انظر المقتضب ٢/٣٥٤..
٥ قال الفراء: (وقوله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، أعيدت "أنكم" مرتين ومعناهما واحد؛ إلا أن ذلك حسن لما فرقت بين "أنكم" وبين خبرها بـ "إذا". معاني القرآن ٢/٢٣٤..
٦ كذا في معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٤، تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٤، البحر المحيط ٦/٤٠٤، وفي النسختين: وكنتم ترابا وعظاما مخرجون..
٧ في ب: هو جواب..
٨ انظر الكشاف ٣/٤٧، التبيان ٢/٩٥٣ – ٩٥٤، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٩ المقدر: سقط من ب..
١٠ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٤..
١١ في ب: تقديره..
١٢ قال سيبويه: (ومما جاء مبدلا من هذا الباب: "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون" فكأنه على: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، وذلك أريد بها ولكنه إنما قدمت أن الأولى ليعلم بعد أي شيء الإخراج) الكتاب ٣/١٣٢ – ١٣٣ وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٧، التبيان ٢/٩٥٤، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
١٣ أنكم: سقط من الأصل..
١٤ انظر الكشاف ٣/٤٧..
١٥ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٨، البيان ٢/١٨٣، التبيان ٢/٩٠٤..
قوله :«هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ». «هَيْهَاتَ » اسم فعل١ معناه : بَعُدَ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع، قال جرير :
فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ *** وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه٢
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر، فقال : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ٣، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون٤ فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط.
و «هَيْهَات » اسم لفعل قاصر٥ برفع الفاعل٦، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال «مَا تُوعدُون » فاعل به، وزيدت فيه اللام التقدير : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون٧، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة٨ الكلام عليه، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق، أو : الصحة لما توعدون٩. وقدّره غيره : بَعُدَ إخْرَاجُكُم١٠. و ( لِمَا تُوعَدُونَ ) للبيان، قال الزمخشري : لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في «هَيْتَ لَكَ »١١ لبيان المهيت به١٢. وقال الزجاج :«البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ »١٣ فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال١٤ الزمخشري : فإن قُلْتَ :( مَا تُوعَدُونَ ) هو المستبعد، فمن حقه أن يرتفع ب «هَيْهَاتَ » كما ارتفع بقوله :
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه١٥ ***. . .
فما هذه اللام ؟ قُلتُ : قال الزجاج في تفسيره : البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن١٦ نَوّن، فنزّله منزلة المصدر١٧. قال أبو حيان : وقول١٨ الزمخشري ( فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر ) ليس بواضح، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر١٩. قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا، إنما قال : فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بُعْد، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة، وما لم يُنوّن معرفة نحو : صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت، والثاني بسكوت ما٢٠.
وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام، تقول : هيهات مجيء زيد أي : بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام، كهذه الآية، والتقدير : بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ٢١. ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر، وهو الموجود، وإبقاء معموله وهو «لِمَا تُوعَدُون »٢٢ و «هَيْهَاتَ » الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً، وقد جاء غير مؤكد كقوله٢٣ :
هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ *** كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ٢٤
وقال آخر :
هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ *** دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ٢٥
وقال رؤبة :
هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه٢٦ ***. . .
قال القيسي٢٧ شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك :«بَعُدَ بُعْدَهُ » وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة ( فَعْلاَلاً ) فجاء به مجيء القَلْقَال٢٨ والزلزَال. والألف في «هَيْهَاتَ » غير الألف في ( هَيْهَاؤُه )، وهي في «هَيْهَاتَ » لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة٢٩ الثانية، وهي في ( هَيْهَاؤُه ) ألف الفعلال الزائدة٣٠. وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين، ذكر منها الصَّاغَانِي٣١ ستة وثلاثين لغة، وهي :( هَيْهَاتَ )، وأَيْهَاتَ، وهَيْهَانَ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه٣٢، وأَيْهَاه٣٣ كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته، ومكسورته، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة، فتكون ستًّا وثلاثين٣٤. وحكى غيره : هَيْهَاك٣٥، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب -، وأَيْهاء، وأَيْهَا، وهَيْهَاء٣٦، فأمّا المشهور ما قرئ به. فالمشهور «هَيْهَات » بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني، أو لشبهه بالحرف٣٧، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة٣٨ وهي لغة أهل الحجاز٣٩. و «هَيْهَاتاً » بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية٤٠ لخالد بن إلياس ٤١.
و «هَيْهَاتٌ » بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر٤٢ وأبو حيوة٤٣. وبالضم من غير تنوين، ويروى عن أبي حيوة أيضاً٤٤، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية ٤٥.
و «هَيْهَاتٍ » بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس٤٦. وبالكسر من غير تنوين، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وتُروى عن عيسى أيضاً٤٧ وهي لغة تميم وأسد ٤٨.
و «هَيْهَاتْ » بإسكان التاء، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني٤٩ أيضاً وخارجة٥٠ عن أبي عمرو والأعرج٥١. و «هَيْهَاه » بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً. و «أيْهَاتَ » بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء٥٢. فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى. ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى٥٣ في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أَيْهَان » بالنون آخراً. و «أَيْهَا » بألف آخراً.
فمن فتح التاء قالوا : فهي عنده اسم مفرد، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات. ويُعْزَى هذا لسيبويه، لأنه قال : هي مثل بَيْضَات٥٤، فنسب إليه أنه جمع من ذلك، حتى قال بعض النحويين : مفردها ( هَيْهَة ) ٥٥ مثل بَيْضَة.
وليس بشيء بل مفردها ( هَيْهَاتَ ).
قالوا٥٦ : وكان يبغي على أصله أن يقال فيها :( هَيْهَيَات ) بقلب ألف ( هَيْهَاتَ ) ياء، لزيادتها على الأربعة نحو : مَلْهَيَات، ومَغْزَيات، ومَرْمَيات٥٧، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية٥٨، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت : هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة. وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة، وياء هَيْهية أصلاً، فلما جمعت كان قياسها على قولهم : أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ٥٩ أن يقولوا فيها :( هَيْهَياتٍ )، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في ( ذان )، و ( اللَّتان ) و ( تان ) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية، والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات٦٠. وقالوا : من فتح تاء ( هَيْهَاتَ ) فحقه أن يكتبها هاء، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء٦١، لأنها٦٢ في جمع كهِنْدَات٦٣، وكذلك حكم الوقف سواء، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوهْ والأخواهْ، ولا هذه ثمرت، لقلتها٦٤، وقد رسمت في المصحف بالهاء.
واختلف القراء في الوقف عليها، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ٦٥ عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون٦٦. وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين :
أحدهما : موافقة الرسم :
والثاني٦٧ : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في٦٨ مضاعف الرباعي، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا التنوين٦٩ فهو على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير، وخروجه دال على التعريف٧٠.
قال القيسي : من نَوّن اعتقد تنكيرها، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة، كأنه قال : بُعْداً بُعْداً. ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة، كأنه قال : البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف٧١ انتهى.
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات ( نحو صَهْ وصَهٍ، وبَخْ وبَخٍ، والعلم المختوم ب ( ويه ) ) ٧٢ نحو سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن٧٣ تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره٧٤. والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفةِ وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد. ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت، لأنّ الظاهر أنهما سواء، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه٧٥ ما تقدم.
هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن٧٦ : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره «لِمَا تُوعدُونَ » أي : البُعْد لوعدكم٧٧، كما تقول : النجح لسعيك ٧٨.
وقال الرازي في اللوامح : فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا٧٩ اسمين٨٠ متمكنين مرفوعين، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل، والضم للبناء مثل : حُوبُ٨١ في زجر الإبل لكنه نَوّنه ( لكونه ) ٨٢ نكرة ٨٣.
قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي٨٤ الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل٨٥ وقرأ ابن أبي عبلة :﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ ﴾ من غير لام جر٨٦. وهي واضحة، مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة٨٧. و «ما » في «لِمَا تُوعَدُونَ » تحتمل المصدرية، أي : لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي : توعدونه.
١ اسم الفعل: ما ناب عن الفعل معنى واستعمالا كـ "شتان" فإنه اسم ناب عن فعل ماض وهو افترق، و "صه" فإنه اسم ناب عن فعل أمر وهو اسكت، و "أوه" اسم ناب عن فعل مضارع وهو أتوجع، والمراد بالمعنى كونه يفيد ما يفيده الفعل الذي هو نائب عنه من الحدث والزمان والمراد بالاستعمال كونه عاملا لا معمولا. وأسماء الأفعال أسماء حقيقية، ونابت عن الفعل في لفظه فهي بمعناه هذا مذهب البصريين. ومذهب الكوفيين أنها أفعال حقيقية وهذه الأفعال لا موضع لها من الإعراب.
شرح التصريح ٢/١٩٦، الهمع ٢/١٠٥..

٢ البيت من بحر الطويل قاله جرير، وهو في ديوانه ٢/٩٥٦ برواية:
فأيهات أيهات العقيق ومن به *** وأيهات وصل بالعقيق نواصله
وانظر أيضا المقتصد ١/٥٧٤، الخصائص ٣/٤٢، ابن يعيش ٤/٣٥، المقرب ١٤٨، اللسان (هيه) شذور الذهب ٢/٤، المقاصد النحوية ٣/٧، ٤/٣١١، شرح التصريح ١/٣١٨، ٢/١٩٩، الهمع ٢/١١١، الدرر ٢/١٤٥. العقيق: أصله: كل ما شقه ماء السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق والجمع أعقه وعقائق، وفي بلاد العرب مواضع كثيرة تسمى العقيق. والمراد به هنا: واد بالحجاز. والشاهد فيه مجيء "هيهات" بمعنى بعد ورفع العقيق بعده على الفاعلية، و "هيهات" الثانية للتوكيد..

٣ معاني القرآن وإعرابه ٤/١٢..
٤ معاني القرآن وإعرابه ٤/١٣..
٥ في ب: فاخبر. وهو تحريف..
٦ انظر شرح التصريح ٢/١٩٩، والهمع ٢/١٠٥..
٧ قال الفراء: (وقوله: "هيهات لما توعدون" لو لم تكن في (ما) اللام كان صوابا) معاني القرآن ٢/٢٣٥. وانظر أيضا التبيان ٢/٩٥٤..
٨ في الأصل: في دلالة..
٩ التبيان ٢/٩٥٤..
١٠ انظر البيان ٢/١٨٤..
١١ من قوله تعالى: ﴿وراودته التي هي في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك﴾ [يوسف: ٢٣]. والشاهد فيها أن (هيت) اسم فعل، واللام للتبيين. التبيان ٢/٧٢٨..
١٢ الكشاف ٣/٤٧..
١٣ معاني القرآن وإعرابه ٤/١٢..
١٤ في الأصل: قاله..
١٥ صدر بيت من بحر الطويل، قاله جرير، وعجزه:
وهيهات خل بالعقيق نواصله ***...
تقدم تخريجه..

١٦ في الأصل: فمن..
١٧ الكشاف ٣/٤٧..
١٨ في الأصل: قال..
١٩ البحر المحيط ٦/٤٠٥..
٢٠ الدر المصون ٥/٨٧..
٢١ تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٤..
٢٢ قال أبو حيان: (وهذا ليس بجيد. لأن فيه حذف الفاعل، وفيه أنه مصدر حذف وأبقي معموله، ولا يجيز البصريون شيئا من هذا) البحر المحيط ٦/٤٠٥..
٢٣ في ب: بقوله..
٢٤ البيت من بحر الكامل، نسبه سيبويه لجرير وليس في ديوانه، وهو في الكتاب ٤/٢٠٦، الخصائص ٣/٤٣، ابن يعيش ٤/٣٦، ٦٧ مع نسبته لجرير، اللسان (سوق)..
٢٥ البيت من بحر الطويل، قاله مالك بن خالد الهذلي، وهو في شرح أشعار الهذليين (٤٤٤) ومعجم البلدان ١/١٧٥، ومعجم ما استعجم ١٢٦٨، وإيضاح شواهد الإيضاح للقيسي ١/١٩٣..
٢٦ رجز قاله رؤبة، وقد تقدم..
٢٧ هو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن القيسي الشريشي، نحوي، لغوي، أديب، له: شرح الإيضاح للفارسي، شرح الجمل للزجاجي، ومختصر نوادر أبي علي القالي، مات سنة ٦١٩ هـ. معجم المؤلفين ١/٣٠٤..
٢٨ قلقل الشيء قلقلة وقلقالا فتقلقل وقلقالا، أي: حركه فتحرك واضطرب، فإذا كسرته فهو مصدر، وإذا فتحته فهو اسم مثل الزلزال والزلزال والاسم القلقال. اللسان (قلل)..
٢٩ الحقحقة: شدة السير، حقحق القوم إذا اشتدوا في السير. اللسان (حقق)..
٣٠ إيضاح شواهد الإيضاح ١/١٩٤..
٣١ هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي العدوي أبو الفضائل الصغاني، ويقال: الصاغاني الحنفي، حامل لواء اللغة في زمانه ومن مصنفاته: مجمع البحرين في اللغة، التكملة على الصحاح، العباب، العروض، شرح أبيات المفصل، وغير ذلك، مات سنة ٦٠٥ هـ. بغية الوعاة ١/٥١٩ – ٥٢١..
٣٢ في النسختين: وهايهات..
٣٣ في النسختين: وأيهات..
٣٤ انظر شرح التصريح ٢/١٩٦ – ١٩٧، الهمع ٢/١٠٥-١٠٦، شرح الأشموني ٣/١٩٩ – ٢٠٠..
٣٥ في النسختين: هيهاتا..
٣٦ انظر شرح التصريح ٢/١٩٧، الهمع ٢/١٠٦، شرح الأشموني ٣/٢٠٠..
٣٧ أسماء الأفعال بنيت لمشابهتها مبني الأصل، وهو فعل الماضي والأمر، ويجوز أن يقال: إنها بنيت لكونها أسماء لما أصله البناء، وهو مطلق الفعل سواء بقي على ذلك الأصل كالماضي والأمر، أو خرج عنه كالمضارع. وقيل: إنها بنيت لمشابهتها الحروف في الاستعمال في لزومها طريقة من طرائق الحروف الدالة على المعاني في نيابتها عن الأفعال في معناها وعملها، ولا يدخل عليها عامل من العوامل فيؤثر فيها لفظا أو محلا، كهيهات نائبة عن فعل ماض، وهو بعد. وصه نائبة عن فعل أمر وهو اسكت، وأوه نائبة عن فعل مضارع وهو أتوجع. ولا يصح أن يدخل عليها شيء من العوامل اللفظية والمعنوية. شرح الكافية ٢/٦٥ – ٦٦، شرح التصريح ١/٥٠ – ٥٢..
٣٨ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٤، الإتحاف ٣١٨..
٣٩ وهو اسم واحد عندهم، سمي به الفعل في الخبر، وهو اسم بمعنى بعد، وهو عندهم رباعي من مضاعف الهاء والياء ووزنه فعللة وأصله هيهية فهو من باب الزلزلة والقلقلة، فألف (هيهات) بدل من الياء الثانية، لأن أصلها هيهية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصارت (هيهات) وتاؤه للتأنيث لحقه علم التأنيث، وإن كان مبنيا كما لحق كية، وذية، فعلى هذا تبدل من تائه هاء في الوقف. المحتسب ٢/٩١، شرح المفصل ٤/٦٥ – ٦٦..
٤٠ تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٦، وانظر أيضا البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٤١ هو خالد بن إلياس العدوي، أبو الهيثم المدني الإمام أخذ عن عامر بن سعيد وصالح مولى التوأمة، وأخذ عن القعنبي وأبو نعيم. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١/٢٧٤..
٤٢ هو عنبة بن النضر الأحمر، أبو عبد الرحمن اليشكري المقرئ النحوي عرض على سليم بن عيسى، ومحمد بن زكريا النشابي، وغيرهما، روى القراءة عنه عبد الله بن جعفر السواق.
طبقات القراء ١/٦٠٥..

٤٣ المختصر (٩٧)، المحتسب ٢/٩٠، تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٥، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٤٤ تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٦، البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٤٥ البحر المحيط ٦/٤٠٤..
٤٦ المختصر (٩٧)، المحتسب ٢/٩٠، البحر المحيط ٦/ ٤٠٤-٤٠٥..
٤٧ المختصر (٩٧)، المحتسب ٢/٩٠، تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٥، البحر المحيط ٦/٤٠٤، النشر ٢/٣٢٨، الإتحاف ٣١٨..
٤٨ انظر الكتاب ٣/٢٩١، وابن يعيش ٤/٦٦..
٤٩ هو عيسى بن عمر أبو عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى مقرئ الكوفة بعد حمزة، عرض على عاصم بن أبي النجود، وطلحة بن مصرف والأعمش، عرض عليه الكسائي، وبشر بن نصر، وخارجة بن مصعب، وغيرهما مات سنة ١٥٦ هـ. طبقات القراء ١/٦١٢ -٦١٣..
٥٠ هو خارجة بن مصعب، أبو الحجاج الضبعي السرخسي، أخذ القراءة عن نافع، وأبي عمرو، وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه، وروى أيضا عن حمزة حروفا، روى القراءة عنه العباس بن الفضل، وأبو معاذ النحوي، ومغيث بن بديل، مات سنة ١٦٨ هـ. طبقات القراء ١/٢٦٨..
٥١ المحتسب ٢/٩٠، تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٥ البحر المحيط ٦/٤٠٥..
٥٢ قال أبو البقاء: (ويقرأ "هيهاه" – بالهاء – وقفا ووصلا، ويقرأ "أيهاة" بإبدال الهمزة من الهاء الأولى) التبيان ٢/٩٥٥..
٥٣ الهمزة تبدل من الهاء كما في: (ماء) فأصله (موه) لقولهم: (أمواه)، فقلبت الواو ألفا، والهاء همزة وأبدلت الهاء أيضا همزة في جمع ماء فقالوا: (أمواء) قال:
وبلدة قالصة أمواؤها *** تستن في رأد الصحى أفياؤها
وأبدلت أيضا منها في آل أصله (أهل) فأبدلت الهاء همزة، فقيل: (أأل)، هم أبدلت الهمزة ألفا، فقيل: (آل). وأبدلت أيضا من الهاء في (هل)، فقالوا: (أل) فعلت كذا؟ يريدون : هل فعلت كذا؟ حكى ذلك قطرب عن أبي عبيدة وأبدلت أيضا في الهاء في (هذا) فقالوا: (آذا).
سر صناعة الإعراب ١/١٠٠ – ١٠٧، الممتع ١/٣٤٨ – ٣٥١..

٥٤ انظر الكتاب ٣/٢٩١ – ٢٩٢..
٥٥ قال الزجاج: (وواحد (هيهات) على هذا اللفظ إن لم يكن حاله واحدا (هيهة). فإن هذا تقديره وإن لم ننطق له) معاني القرآن وإعرابه ٤/١٣..
٥٦ وهو القيسي صاحب إيضاح شواهد الإيضاح ١/١٩٣..
٥٧ لأن ألف المقصور إذا كانت رابعة فصاعدا تقلب ياء عند جمعه جمع مؤنث سالم. انظر شرح التصريح ٢/٢٩١..
٥٨ الصيصية: شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة. وصيصية البقرة قرنها، وهي أيضا: الوتد الذي يقلع به التمر. اللسان (صيص)..
٥٩ في ب: عقليات. وهو تحريف..
٦٠ إيضاح شواهد الإيضاح ١/١٩٣..
٦١ في ب: للها. وهو تحريف..
٦٢ لأنها: سقط من ب..
٦٣ انظر المحتسب ٢/٩١، إيضاح شواهد الإيضاح ١/١٩٢..
٦٤ شرح المفصل ٩ /٨٠ – ٨١، شرح الكافية ٢/٧٣، شرح الشافية ٢/٢٨٨ – ٢٩٢..
٦٥ تقدم..
٦٦ الكشف ١ /١٣٠ – ١٣٣، النشر ٢/١٣١ – ١٣٢، الإتحاف ٣١٩..
٦٧ في ب: وثانيهما..
٦٨ في ب: من..
٦٩ في الأصل: النون..
٧٠ انظر شرح المفصل ٤/٧٠ – ٧٢ شرح الكافية ٢/٦٩ شرح التصريح ٢/٢٠٠-٢٠١ الهمع ٢/١٠٥..
٧١ إيضاح شواهد الإيضاح ١/١٩٣..
٧٢ ما بين القوسين تكملة لاستيفاء الكلام..
٧٣ في ب: إن لم. وهو تحريف..
٧٤ تقدم قريبا..
٧٥ انظر مذهب سيبويه فيما تقدم قريبا..
٧٦ وهي قراءة الأحمر وأبي حيوة..
٧٧ في ب: لو عدتم. وهو تحريف..
٧٨ تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٥ – ٣٥٦..
٧٩ في النسختين: أن يكون..
٨٠ في ب: الاسمين..
٨١ أصل الحوب: الجمل، ثم كثر حتى صار زجرا له. اللسان (حوب)..
٨٢ لكونه: تكملة من البحر المحيط..
٨٣ البحر المحيط ٦/٤٠٥..
٨٤ في ب: ولأبي..
٨٥ الدر المصون: ٥/٨٨..
٨٦ تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٧، البحر المحيط ٦/٤٠٥ وتكون (ما) فاعلة بـ (هيهات)..
٨٧ تقدم قريبا..
قوله :«إنْ هِيَ » «هي » ضمير يفسره سياق الكلام، أي : إن الحياة١ إلا حياتنا٢.
وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه، وأصله : إن الحياة ﴿ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾، فوضع «هي » موضع «الحياة »٣ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه : هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ٤. وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك ٥.
قوله :«نَمُوتُ ونَحْيَا » جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو٦، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.

فصل


اعلم أنَّ القوم طعنوا٧ في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً : أي : إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا :﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ ثم أكدوا٨ ذلك بقولهم :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ ولم يريدوا بقولهم :«نَمُوتُ ونَحْيَا » الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾.
١ في النسختين: حالتكم..
٢ في الأصل: كحياتنا..
٣ في النسختين: حياتنا..
٤ الشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ يفسر بالخبر، وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا، وتقدم الحديث عن المواضع التي يعود فيها الضمير على متأخر لفظا ورتبة..
٥ لأن الزمخشري أراد أن المثالين يمكن حملهما على ذلك، لأنه متعين فيهما.
الدر المصون ٥/ ٨٨..

٦ الواو العاطفة لمطلق الجمع، أي: الاجتماع في الفعل من غير تقييد بحصوله من كليهما في زمان أو سبق أحدهما فقولك جاء زيد وعمرو، يحتمل على السواء أنهما جاءا معا، أو زيد جاء أولا أو آخرا، ومن ورودها في المصاحب قوله تعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة﴾ [العنكبوت: ١٥] وفي السابق قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم﴾ [الحديد: ٢٦] وفي المتأخر قوله تعالى: ﴿كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك﴾ [الشورى: ٣]. وقول السيرافي: إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب. مردود، بل قال بإفادتها إياه قطرب والربعي والفراء وثعلب وأبو عمر الزاهد وهشام والشافعي.
المغني ٢/٣٥٤-٣٥٥، الهمع ١٢٨ – ١٢٩..

٧ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٩٩..
٨ في ب: ثم أكد..
ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد ﴿ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها١. وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً٢ على الحشر والنشر، وأيضاً : فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى٣٤ [ طه : ١٥ ].
١ تقدم قريبا..
٢ في الأصل: قادا. وهو تحريف..
٣ [طه: ١٥]..
٤ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٩٨ – ٩٩..
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس١ من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال :﴿ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ وقد تقدّم تفسيره.
١ في ب: اليس. وهو تحريف..
فأجاب الله سؤاله وقال :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ١.
قوله :«عَمَّا قَلِيلٍ » في ( ما ) هذه وجهان :
أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور٢ للتوكيد٣ كما زيدت الباء نحو :«فَبِمَا رَحْمَةٍ »٤، وفي من٥ نحو «مِمَّا خَطَايَاهُمْ٦ ».
و «قَلِيلٍ » صفة لزمن محذوف، أي : عن زمن قليل٧.
والثاني : أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و «قَلِيلٍ » صفتها٨، أو بدل منها٩ ١٠، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بقوله :«لَيُصْبِحُنَّ »، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين ١١.
الثاني : أنه متعلق ب «نَادِمِين »١٢، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال :
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني : المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع١٣ ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله١٤.
والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله :«رَبّ انْصُرْنِي »١٥. وقرئ :«لَتُصْبِحُنَّ » بتاء الخطاب١٦ على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله :«عَمَّا قَلِيلٍ » الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة١٧ والندامة على ترك القبول١٨.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٩٩..
٢ البيان ٢/١٨٥، التبيان ٢/٩٥٥..
٣ في الأصل: بالتوكيد..
٤ من قوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم﴾ [آل عمران: ١٥٩]..
٥ انظر شرح الكافية الشافية ٢/٨١٦ شرح التصريح ٢/٢٠، الهمع ٢/ ٣٧ – ٣٨، شرح الأشموني ٢/٢٣٠..
٦ من قوله تعالى: ﴿مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا﴾ [نوح: ٢٥]. و"خطاياهم" قراءة أبي عمرو، وقراءة الباقين "خطيئاتهم" انظر السبعة (٦٥٣)، الكشف ٢/٢٣٧..
٧ انظر البحر المحيط ٦/٣٠٥..
٨ في الأصل: صفتهما..
٩ في ب: منهما..
١٠ انظر التبيان ٢/٩٥٥..
١١ انظر التبيان ٢/٩٥٥، البحر المحيط ٦/٤٠٦..
١٢ انظر التبيان ٢/٩٥٥، البحر المحيط ٦/٤٠٦..
١٣ في ب: الاتساع..
١٤ وهو رأي ابن مالك. وانظر هذه الأقوال في الهمع ٢/٤٤..
١٥ انظر البيان ٢/١٨٥..
١٦ البحر المحيط ٦/٤٠٦..
١٧ في ب: الخسران..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٠..
ثم بيّن تعالى١ الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ﴾ قيل : إن جبريل - عليه السلام٢ - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا. وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة٣. وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب.
وقيل : هي العذاب المصطلم٤، قال الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان٥
والأول أولى لأنه الحقيقة٦.
قوله :«بالحقِّ » أي : دمرناهم بالعدل، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه ٧. وقال المُفضل :«بالحقِّ » بما لا مدفع له كقوله٨ :﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ٩١٠ [ ق : ١٩ ].
قوله :«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » الجعل بمعنى : التصيير، و «غُثَاءً » مفعول ثان، والغُثَاء : قيل : هو الجفاء، وتقدم في الرعد١١، قاله الأخفش١٢ وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود١٣، ومنه قوله :«غُثَاءً أَحْوَى »١٤ وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به١٥، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً، وكذلك غَثَتِ القِدر، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً، أي : خَبُثَتْ. فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء ١٦.
وتشدد ( ثاء ) الغُثَاء، وتُخفَّف، وقد جمع على أَغْثَاء، وهو شاذ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية، كَأغْرِيَة، وعلى غِيثَان، كغِرْبَان، وغِلْمَان١٧ وأنشدوا لامرئ القيس :
مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةَُ مِغْزَلِ١٨ ***. . . بتشديد الثاء، وتخفيفها، والجمع، أي : والأَغْثَاء.
قوله :﴿ فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ «بُعْداً » مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم، والأصل : بَعُدَ١٩ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً٢٠ وفي هذه اللام قولان :
أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان، كهي في سَقْياً له، وجَدْعاً له. قاله الزمخشري٢١.
والثاني : أنَّها متعلقة ب «بُعْداً » قاله الحوفي٢٢. وهذا مردود، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجروها ألبتة، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾٢٣ [ محمد : ٨ ] لأن اللام لا تتعلق ب «تَعْساً » بل بمحذوف، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك٢٤، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى٢٥.

فصل


«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » صيرناهم ٢٦هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض، «فَبُعْداً » بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير «لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ » الكافرين، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم٢٧.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٠٠..
٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣ الرجفة: الزلزلة. ورجفت الأرض ترجف رجفا: اضطربت اللسان (رجف)..
٤ الاصطلام: الاستئصال وهو افتعال من الصلم، وهو القطع. اللسان (صلم)..
٥ البيت من بحر الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في الفخر الرازي ٢٣/١٠٠، البحر المحيط ٦/٤٠٦..
٦ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١٠٠..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٠..
٨ في ب: كقولك. وهو تحريف..
٩ [ق: ١٩]..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٠، البحر المحيط ٦/٤٠٦..
١١ عن قوله تعالى: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا فأما الزبد فيذهب جفاء﴾ [الرعد: ١٧]. وذكر ابن عادل هناك: والجفاء: قال ابن الأنباري المتفرق، يقال: جفأت الريح السحاب، أي: قطعته وفرقته، وقيل: الجفاء ما يرمي به السيل يقال: جفأت القدر بزبدها تجفأ من باب قطع، وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام. انظر اللباب ٥/١٠٠..
١٢ قال الأخفش: الغثاء والجفاء واحد. وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. انظر قول الأخفش في البحر المحيط ٦/٣٩٣، وهو غير موجود في معاني القرآن..
١٣ معاني القرآن وإعرابه ٤/١٣..
١٤ من قوله تعالى: ﴿فجعله غثاء أحوي﴾ [الأعلى: ٥]..
١٥ انظر البحر المحيط ٦/٣٩٣..
١٦ انظر اللسان (غثا)..
١٧ لأن (فعال) لا يجمع على (أفعال)، وإنما يجمع جمع قلة على أفعلة لأنه رباعي قبل آخره مد، فهو يساوي في القلة فعال – وبالفتح – وفعال – بالكسر – كـ (زمان) أزمنة، و (مكان) أمكنة، و (حمار) أحمرة، و(خلال) أخلة. وبابه في الكثير (فعلان) كغلمان، وغربان، وخرجان وذبان.
شرح الشافية ٢/ ١٢٨- ١٢٩..

١٨ عجز بيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس، وهو من معلقته، وهو في الديوان (٢٥)، والكشاف ٣/٤٨، وشرح شواهده (٩٩)..
١٩ في ب: بعدا. وهو تحريف..
٢٠ "بعدا" من جملة المصادر التي قال سيبويه إنها نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها، ومنها: سقيا، ورعيا، وخيبة. حيث قال: (إنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه، على إضمار الفعل، كأنك قلت: سقاك الله سقيا، ورعاك الله رعيا، وخيبك الله خيبة، فكل هذا وأشباهه على هذا ينتصب. وإنما اختزل الفعل ههنا، لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل، كما جعل الحذر بدلا من احذر. وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله، ورعاك الله، ومن خيبك الله) الكتاب ١/٣١١ – ٣١٢. وانظر أيضا الكشاف ٣/٤٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٥٨، البحر المحيط ٦/٤٠٦..
٢١ انظر الكشاف ص ٣/٤٨..
٢٢ البرهان ٦/١٥٠..
٢٣ من قوله تعالى: ﴿والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم﴾ [محمد: ٨] فـ "الذين كفروا" مبتدأ، والخبر محذوف تقديره تعسوا، أو أتعسوا، ودل عليهما "تعسا" ودخلت الفاء تنبيها على الخبر. التبيان ٢/١١٦٠..
٢٤ قال الزمخشري: "والذين كفروا" يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره "فتعسا لهم" كأنه قال: أتعس الذين كفروا) الكشاف ٣/٤٥٤..
٢٥ [محمد: ٨]..
٢٦ في ب: فصيرناهم..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٠..
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ﴾ أي: أقواماً آخرين. قيل: المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى: أنه ما أخلى الديار من المكلفين. ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ (مِنْ) صلة كأيّ: ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها. وقيل: آجال حياتها وتكليفها. قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ في «تَتْرَى» وجهان:
217
أظهرهما: أنه منصوب على الحال من «رُسُلنَا»، يعني: متواترين أي: واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته: أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني: أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: إرسالاً تَتْرَى، أي: متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي «تَتْرًى» بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة «تَتْرَى» بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان:
أحدهما: أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله: «تَتْرًى» كقولك: نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم «فَعْلاً». وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال: هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو: هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه (فَعْلاً).
الثاني: أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر (ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني: أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى).
الثالث: أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.
218
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني: أنها للإلحاق.
الثالث: أنها للتأنيث.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و «ذِكْرَى»، أو اسم جمع ك «أَسْرَى» و «شَتَّى» ؟ كذا قاله أبو حيان. وفيه نظر: إذ المشهور أن «أَسْرَى» و «شَتَّى» جمعا تكسير لا اسما جمع. وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة، والوتر، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تَوْرِيَة»، وتَوْلَج، وتَيْقُور، وتخمة وتراث، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي: واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره: هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة.
وقال الراغب: والتوَاتُر تَتَابُع
219
الشيء وِتْراً وفُرَادَى، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾. والوَتِيرة: السَّجية والطريقة، يقال: هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ. والتِّرَةُ: الذَّحْلَ والوَتِيرة: الحاجز بن المنخرين.
قوله: ﴿كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ أي: أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، ولذلك قال: ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ بالإهلاك.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ. والمعنى: سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به.
وقيل: بل هو جمع أُحْدُوثة، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً.
وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة (أفَاعيل) كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال أبو حيان: و (أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا. ثم قال تعالى: ﴿فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ وهذا دعاء، وذم، وتوبيخ، وذلك وعيد شديد.
220
﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ﴾ ( مِنْ ) صلة كأيّ : ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها١. وقيل : آجال حياتها وتكليفها٢. قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص٣.
١ انظر القرطبي ١٢/١٢٥..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠١..
٣ المرجع السابق..
قوله :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ﴾ في «تَتْرَى » وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على الحال من «رُسُلنَا »، يعني : متواترين أي : واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال١.
والثاني : أنه نعت مصدر محذوف، تقديره : إرسالاً تَتْرَى، أي : متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال٢ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي «تَتْرًى » بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة «تَتْرَى » بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف٣، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان :
أحدهما : أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله :«تَتْرًى » كقولك : نصرته نَصْراً ؛ ووزنه في قراءتهم «فَعْلاً »٤. وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال : هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو : هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه ( فَعْلاً ) ٥.
الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى٦ وَعَلْقَى٧، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين٨ وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف٩ الإلحاق في المصادر، وهو نادر١٠ ( ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني : أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى )١١.
الثالث : أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة١٢.
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني : أنها للإلحاق.
الثالث : أنها للتأنيث١٣.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و «ذِكْرَى »١٤، أو اسم جمع ك «أَسْرَى »١٥ و «شَتَّى »١٦ ؟ كذا قاله أبو حيان١٧. وفيه نظر : إذ المشهور أن «أَسْرَى » و «شَتَّى » جمعا تكسير١٨ لا اسما جمع١٩. وتاؤها في الأصل واو٢٠ لأنها من المواترة٢١، والوتر٢٢، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تَوْرِيَة »٢٣، وتَوْلَج٢٤، وتَيْقُور٢٥، وتخمة٢٦ وتراث٢٧، وتجاه٢٨ فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه٢٩. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي : واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة٣٠ وقال غيره : هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة ٣١.
وقال الراغب : والتوَاتُر تَتَابُع الشيء وِتْراً وفُرَادَى، قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ﴾٣٢. والوَتِيرة : السَّجية والطريقة، يقال : هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ٣٣. والتِّرَةُ : الذَّحْلَ٣٤ والوَتِيرة٣٥ : الحاجز بن المنخرين٣٦.
قوله :﴿ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ أي : أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، ولذلك قال :﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ﴾ بالإهلاك ٣٧.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ قيل : هو جمع حديث، ولكنه شاذ٣٨. والمعنى : سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به٣٩.
وقيل : بل هو جمع أُحْدُوثة، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً ٤٠.
وقال الأخفش : لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير٤١ وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة ( أفَاعيل ) كأباطيل وأقاطيع٤٢. وقال الزمخشري : الأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم٤٣.
وقال أبو حيان : و ( أفاعيل ) ليس من أبنية اسم الجمع، فإنما ذكره النحاة٤٤ فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد٤٥، فأحرى٤٦ أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا٤٧. ثم قال تعالى :﴿ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ وهذا دعاء، وذم، وتوبيخ، وذلك وعيد شديد٤٨.
١ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٠، البيان ٢/١٨٥، التبيان ٢/٩٥٥، البحر المحيط ٦/٣٠٨..
٢ انظر التبيان ٢/٩٥٥..
٣ السبعة (٤٤٦). الحجة لابن خالويه (٢٥٧) الكشف ١/١٧٨ – ١٧٩، ٢/١٢٨، ١٢٩ النشر ٢/٣٢٨، الإتحاف ٣١٩..
٤ انظر الكشف ٢/١٢٨، مشكل إعراب القرآن ٢/١١٠..
٥ انظر البحر المحيط ٦/٣٩٤..
٦ الأرطى: بفتح فسكون- شجر ينبت في الرمل، واحدته أرطاة. اللسان (أرط)..
٧ العلقى: شجر تدوم خضرته في القيظ، ولها أفنان طوال دقاق، وورق لطاف، واختلف في ألفها، فبعضهم يجعلها للتأنيث فلا ينونها، وبعضهم يجعلها للإلحاق بجعفر، وينونها. اللسان (علق)..
٨ انظر الكشف ٢/١٢٨، مشكل إعراب القرآن ٢/١١٠، البيان ٢/١٨٥..
٩ في الأصل: الألف..
١٠ قال ابن الأنباري: (فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر وشرحب، وألف للإلحاق قليلة في المصادر، ولهذا جعلها بعضهم بدلا من التنوين) البيان ٢/١٨٥..
١١ ما بين القوسين تكملة من الدر المصون..
١٢ لأن المصادر كثيرا ما يلحقها ألف التأنيث كالدعوى من دعا، والذكرى من ذكر، فلم ينصرف (تترى) للتأنيث وللزومه. الكشف ٢/١٢٩، مشكل إعراب القرآن ٢/١١٠، البيان ٢/١٨٥..
١٣ انظر التبيان ٢/٩٥٥..
١٤ من قوله تعالى: ﴿وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين﴾ [الأنعام: ٦٨]..
١٥ من قوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ [الأنفال: ٦٧]..
١٦ من قوله تعالى: ﴿وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى﴾ [طه: ٥٣]..
١٧ قال أبو حيان: (وقيل "تترى" اسم جمع كـ "أسرى" و "شتى") البحر المحيط ٦/٣٩٤..
١٨ في ب: تكسيرا. وهو تحريف..
١٩ تقدم..
٢٠ في الأصل: أو. وهو تحريف..
٢١ في ب: المتواترة..
٢٢ انظر الكشف ٢/١٢٩، مشكل إعراب القرآن ٢/١١٠، البيان ٢/١٨٥، التبيان ٢/٩٥٥، القرطبي ١٢/١٢٥..
٢٣ هي أصل: توراة، فهي مصدر (ورى) – بالتضعيف - قلبت حركة الياء إلى ما قبلها ثم قلبت الياء ألفا على لغة طيئ الذين يقولون: باداة وجاراة، في بادية وجارية فصارت توراة. وتوراة: أصلها ووراة على وزن فوعلة من ورى الزند يري، فأبدل الواو الأولى تاء، لأنه لم تبدل الواو الأولى تاء لأبدلت همزة هروبا من اجتماع واوين في أول الكلمة..
٢٤ التولج: كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه، وأصله: وولج، أبدلت الواو الأولى تاء. اللسان (ولج)..
٢٥ التيقور: الوقار، فيعول، وأصله: ويقور، قلبت الواو تاء، قال العجاج:
فإن يكن أمسى البلى تيقوري ***...
اللسان (وقر)..

٢٦ التخمة: الثقل الذي يصيبك من الطعام. وأصلها: وخمة، قلبت الواو تاء. اللسان (وخم)..
٢٧ التراث: المال الموروث، أصله: وراث، قلبت الواو تاء. اللسان (ورث)..
٢٨ تقول: قعد فلان تجاه فلان، أي: تلقاءه، وأصله: وجاه قلبت الواو تاء، اللسان (وجه)..
٢٩ انظر سر صناعة الإعراب ١/١٤٥ – ١٤٨، الممتع ١/٣٨٣ – ٣٨٧، شرح الشافية ٣/٨٠ – ٨٣، ٢١٩ – ٢٢٠..
٣٠ اللسان (وتر)، البحر المحيط ٦/٣٩٣..
٣١ المرجعان السابقان..
٣٢ المفردات في غريب القرآن (٥١١)..
٣٣ اللسان (وتر)..
٣٤ الذحل: الثأر، وقيل: طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أتيت إليك، وقيل: هو العداوة والحقد، وجمعة أذحال وذحول، وهو الترة، يقال طلب بذحله، أي: بثأره. اللسان (ذحل، وتر)..
٣٥ في الأصل: والوتير..
٣٦ المنخران: ثقبا الأنف. اللسان (نخر، وتر)..
٣٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠١..
٣٨ انظر شرح الأشموني ٤/١٢٩، ١٣٨..
٣٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠١، البحر المحيط ٦/٣٠٧..
٤٠ انظر الكشاف ٣/٤٨..
٤١ لم أجده في معاني القرآن للأخفش. وهو في البحر المحيط ٦/٤٠٧..
٤٢ انظر شرح الشافية ٢/٢٠٤ – ٢٠٦..
٤٣ الكشاف ٣/٤٨..
٤٤ في الأصل: البخاري. وهو تحريف..
٤٥ فـ (عباديد) جمع ليس له واحد من لفظه، وقد قدروا له واحدا وإن لم يستعمل وهو عبدود، شرح الكافية ٢/١٧٨..
٤٦ في ب: وأجرى. وهو تحريف..
٤٧ البحر المحيط ٦/٤٠٧، وقال الرضي: (وكذا أحاديث النبي – صلى الله تعالى عليه وسلم – في جمع الحديث، فليس جمع الأحدوثة المستعملة، لأنها الشيء الطفيف الرذل، حوشي صلى الله عليه وسلم عن مثله). شرح الكافية ٢/١٧٩..
٤٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠١..
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ﴾ الآية. يجوز أن يكون «هَارُونَ» بدلاً، وأن يكون بياناً، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني. واختلفوا في الآيات، فقال ابن عباس: هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنين، ونقص الثمرات. وقال الحسن: «بآيَاتِنَا» أي: بديننا. واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات، والسلطان المبين: هو أيضاً المعجز، لزم منه عطف الشيء على نفسه.
والأول أقرب، لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات.
وأما احتجاجه فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنّ المراد بالسلطان المبين: يجوز أن يكون أشرف معجزاته، وهي العصا، لأن فيها معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها ما صنع السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارساً، وشمعةً، وشجرة مثمرة، ودَلْواً، ورشَاءً، فلاجتماع هذه الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله: «وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ».
والثاني: يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق، فلأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قبول قول موسى - عليه السلام -.
الثالث: أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى - عليه السلام - عليهم في الاستدلال على وجود الصانع، وإثبات النبوّة، وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً.
واعلم أنَّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوة مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات. ثم قال: ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا﴾ وتعظموا عن الإيمان ﴿وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ﴾ متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
قوله: «لِبَشَرَيْنِ» شر يقع على الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث
221
قال تعالى: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ﴾ [يس: ١٥]، وقد يطابق، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مِثْلِنَا»، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير، ولا يؤنث أصلاً، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله: ﴿مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾ [آل عمران: ١٣] وجمعاً كقوله: ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨].
وقيل: أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية. وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين. ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ جملة حالية.

فصل


«فَقَالُوا» يعني لفرعون وقومه ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ يعنون موسى وهارون ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ مطيعون متذللون. قال أبو عبيدة: والعرب تسمي كل من دان لِملك عابداً له ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية، وإن طاعة الناس له عبادة، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جَرَم رتّبه عليه بفاء التعقيب، فقال: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين﴾ أي: بالغرق (أي: فيمن حكم عليهم بالغرق) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب، (إنما حصل عقيب التكذيب) حكم الله - تعالى - عليهم بالغرق في الوقت اللائق به.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب﴾ قيل: أراد قوم موسى، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولذلك أعاد الضمير من قوله: «لَعَلَّهُم» عليهم.
وفيه نَظَر، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري: لا يجوز أن يرجع الضمير في «لَعَلَّهُم» إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون، بدليل قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى﴾ [القصص: ٤٣].
222
بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها، ومواعظها، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال: هاشم وثقيف. والمراد قومهم.
223
ثم قال :﴿ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا ﴾ وتعظموا عن الإيمان ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ﴾ متكبرين قاهرين غيرهم١ بالظلم.
١ في ب: غرهم. وهو تحريف..
قوله :«لِبَشَرَيْنِ » بشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث١ قال تعالى :﴿ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَر ﴾ٌ٢ [ يس : ١٥ ]، وقد يطابق، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مِثْلِنَا »، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير، ولا يؤنث أصلاً، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله :﴿ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾٣ [ آل عمران : ١٣ ] وجمعاً كقوله :﴿ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾٤ ٥ [ محمد : ٣٨ ].
وقيل : أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية٦. وقيل : اكتفى بالواحد عن الاثنين٧. ﴿ وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ٨ جملة حالية.

فصل


«فَقَالُوا » يعني لفرعون وقومه ﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾ يعنون موسى وهارون ﴿ وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ مطيعون متذللون٩. قال أبو عبيدة : والعرب تسمي كل من دان لِملك١٠ عابداً له١١ ويحتمل أن يقال١٢ : إنه كان يدعي الإلهية، وإن طاعة الناس له عبادة، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب.
١ اللسان (بشر)..
٢ من قوله تعالى: ﴿قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون﴾ [يس: ١٥]..
٣ من قوله تعالى: ﴿قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين﴾ [آل عمران: ١٣]..
٤ من قوله تعالى: ﴿وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [محمد: ٣٨]..
٥ انظر التبيان ٢/٩٥٦..
٦ المرجع السابق..
٧ المرجع السابق..
٨ في ب: عابدين. وهو تحريف..
٩ انظر البغوي ٦/٢٠..
١٠ في ب: الملك..
١١ مجاز القرآن ٢/٥٩..
١٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٠٢..
ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جَرَم رتّبه عليه بفاء التعقيب، فقال :﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين ﴾ أي : بالغرق ( أي : فيمن حكم عليهم بالغرق )١ فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب، ( إنما حصل عقيب التكذيب ) حكم الله - تعالى - عليهم بالغرق في الوقت اللائق٢ به.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣/١٠٣..
قوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب ﴾ قيل : أراد قوم موسى، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولذلك أعاد الضمير من قوله :«لَعَلَّهُم » عليهم ١.
وفيه نَظَر، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري : لا يجوز أن يرجع الضمير في «لَعَلَّهُم » إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون، بدليل قوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾٢ ٣ [ القصص : ٤٣ ].
بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم٤ يعملون بشرائعها، ومواعظها، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال : هاشم وثقيف. والمراد قومهم ٥.
١ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٧..
٢ [القصص: ٤٣]..
٣ الكشاف ٣/٤٩..
٤ لعلهم : سقط من ب..
٥ انظر الكشاف ٣/٤٩. بتصرف، والفخر الرازي ٢٣/١٠٣..
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ والمراد عيسى - عليه السلام - وأمه «آيَةً» دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل: معناه جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله: ﴿كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا﴾ [الكهف: ٣٣]. قال المفسرون: معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر، وأنطقه في المهد في الصغر، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه والأبرص، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر. وقال الحسن: تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧]، ولم تلقم ثدياً قط. قال ابن الخطيب: والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، ويدل على هذا وجهان:
الأول: قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ لأن نفس المعجز ظهر منهما، لا أنَّه ظهر على يديهما، لأنَّ الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
الثاني: قوله: ﴿آيَةً﴾ ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى.
قوله: ﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ﴾ «الرُّبْوَة» و «الرُّبَاوة» في رَائهما الحركات الثلاثة، وهي الأرض المرتفعة.
223
قال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال أبو هريرة: إنها الرَّمْلَة. وقال السدي: أرض فلسطين. وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والقَرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وقال قتادة: ذات ثمارٍ وماء، أي: لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. قوله: «وَمَعِينٍ» صفة لموصوف محذوف، أي: وماء معين. وفيه قولان:
أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله مَعْيُون. أي: مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع وبابه وهو مثل قولهم: كَبْدتُه، أي ضربت كَبده، ورأسته أي: أصبت رأسه، وعنْتُه أي: أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن.
والثاني: أن الميم أصلية، ووزنه (فَعِيل) مشتق من المَعْن.
واختلف في المعين، فقيل: هو الشيء القليل، ومنه: المَاعُون. وقيل: هو من مَعنَ الشيء معانة أي: كثر، قال جرير:
٣٧٩٩ - إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا
وقال الراغب: هو من مَعَن الماء جرى، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه، وأمْعَن بِحَقِّي: ذهب به، وفلانٌ معن في حاجته يعني: سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.
224
وفي المعين قولان:
أحدهما: أنّه مفعول، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه: إذا أدركه بعينه.
وقال الفراء والزجاج: إن شِئْتَ جعلته (فَعِيلاً) من المَاعون، ويكون أصله من المَعْن والمَاعون فاعُول منه. قال أبو علي: والمعين: السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا: وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات﴾
الآية.
اعلم أنَّ هذا خطاب مع كل الرسل، وذلك غير ممكن، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، فلهذا تأوّلوه على وجوه:
فقيل: معناه الإعلام بأن كلّ رسول نُودي في زمانه بهذا المعنى، ووصي به، ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل، ووصوا به، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة: أراد به محمداً - عليه السلام - وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة كقولك للواحد: أيُّها القوم كُفُّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. وقال ابن جرير: المراد عيسى - عليه السلام - لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب، ولأنه روي «أنّ عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يأكل من غزل أمه».
225
والأول أقرب، لأنه أوفق للفظ، ولأنه «روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول إليها وقال:» من أين لَكِ هذا؟ «، فقالت: من شاةٍ لي، فقال:» من أين هذه الشاة؟ «، فقالت: اشتريتُها بِمَالي، فأخذه، ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لِمَ رَدَدته؟ فقال - عليه السلام -:» بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلاّ طيباً ولا تعمل إلاّ صالحاً «.
واختلفوا في الطيّب، فقيل: هو الحلال. وقيل: هو المستطاب المستلذ من المأكل.
قوله: ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ يجوز أن يكون»
صالحاً «نعتاً لمصدر محذوف أي: واعملوا عملاً صالحاً من غير نظر إلى ما يعملونه، كقولهم: يُعطي ويمنع. ويجوز أن يكون مفعولاً به، وهو واقع على نفس المعمول. ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان تحذيراً للرسل مع علو شأنهم، فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى.
قوله: ﴿وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قرأ ابن عامر وحده»
وأن هذه «بفتح الهمزة وتخفيف النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل. فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة، فيتضح معنى قراءته.
وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف.
وأمّا قراءة الباقين ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّها على حذف اللام أي: ولأنّ هذه، فلمّا حذف حرف الجَرّ جَرَى الخلاف المشهور، وهذه اللام تتعلق ب»
اتّقون «. والكلام في الفاء كالكلام في قوله:» وَإِيَّايَ فَارْهَبُون «.
226
الثاني: أنها منسوقة على» بِمَا تَعْمَلُون «أي: إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه، فهذه داخلة في حيز المعلوم.
الثالث: أنّ في الكلام حذفاً تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم.
وتقدّم ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ وما قيل فيها.

فصل


المعنى: وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً، أي: ملة واحدة وهي الإسلام. فإن قيل: لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً؟
فالجواب: أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء: إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا.
وقيل: المعنى: أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، وأمركم واحد.
﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون﴾ فاحذرون، ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي: تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً، ونصارى، ومجوساً. «زُبُراً»
أي: فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها (زَبُور)، وهو الفرقة والطائفة، ومثلها «الزُّبْرَة» وجمعها «زُبَر» ومنه «زُبَرَ الحَدِيدِ».
وقرأ بعض أهل الشام: «زُبَراً» بفتح الباء. وقال مجاهد وقتادة «زُبراً» أي: كتباً، أي: دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل: جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ بما عندهم من الدين معجبون مسرورون.
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ وهذا خطاب
227
لنبينا - عليه السلام -، أي: دع هؤلاء الكفار في جهلهم.
قوله: «في غَمْرتِهِمْ» مفعول ثان ل «ذَرْهُمْ» أي: اتركهم مستقرين «في غَمْرَتِهِمْ» ويجوز أن يكون ظرفاً للترك، والمفعول الثاني محذوف. والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والمغمر الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل: فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم، والغِمْر - بالكسر - الحقد، لأنه يغطي القلب، فالغمرات الشدائد، والغامر: الذي يلقي نفسه في المهالك. وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم، او شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ عليه من الباطل كقوله:
٣٨٠٠ - كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب... وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم بالجمع، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى، فإنه اسم جنس مضاف.
قوله:»
حَتَّى حِين «أي إلى أن يموتوا. وقيل: إلى حين المعاينة. وقيل: إلى حين العذاب. ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ أي: أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا ل ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ أي: نعجل لهم في الخيرات، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أنّ ذلك استدراج لهم.
قوله: «أَنَّما نُمِدُّهُمْ»
في «مَا» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى الذي، وهي اسم (أنَّ) و (نُمِدُّهُمْ بِهِ) صلتها وعائدها محذوف،
228
و (مِنْ مَالٍ) حال من الموصول أو بيان له، فيتعلق بمحذوف، و (نُسَارعُ) خبر (أنَّ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم (أنَّ) محذوف تقديره: نسارع لهم به أو فيه إلا أنّ حذف مثله قليل. وقيل: الرابط بين هذه الجملة باسم «أنَّ» هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله: «في الخَيْرَاتِ»، إذ الأصل نُسَارع لهم فيه، فأوقع الخيرات موقعه تعظيماً وتنبيهاً على كونه من الخيرات، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوَّل، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الخبر (مِنْ مَالٍ)، لأنه (إذا) كان من مال فلا (يعاب عليهم ذلك، وإنّما) يُعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خيرٌ لهم.
الثاني: أن تكون (ما) مصدرية فَيَنْسَبِك منها ومما بعدها مصدر، هو اسم (أنّ)، و «نُسَارع» هو الخبر، وعلى هذا فلا بدّ من حذف (أنْ) المصدرية قبل «نُسَارعُ»، ليصح الإخبار، تقديره: أن نُسَارعَ. فلمّا حذفت (أنْ) ارتفع المضارع بعدها، والتقدير: أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةً مِنَّا لهم في الخيرات.
الثالث: أنها مهيئة كافة، وبه قال الكسائي في هذه الآية، وحينئذ يوقف على (وَبَنِينَ)، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو: حسبتُ إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت. وقرأ يحيى بن وثاب: «إِنَّمَا» بكسر الهمزة على الاستئناف، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصاراً واختصاراً. وابن كثير في رواية «يَمدُّهُمْ» بالياء، وهو الله تعالى، وقياسه أن يقرأ «يُسَارع» أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرة «يُسَارع» بالياء وكسر الراء، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: الباري تعالى.
229
والثاني: ضمير (ما) الموصولة إن جعلناها بمعنى (الذي)، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية، وحينئذ يكون «يُسَارعُ لَهُمْ» الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي: يُسَارعُ الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير (ما) الموصولة.
وعن (ابن) أبي بكرة المتقدم أيضاً «يُسَارع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخَيْرَاتِ» هو القائم مقام الفاعل، والجملة خبر (أنّ) والعائد محذوف على ما تقدّم.
وقرأ الحسن: «نُسْرِعُ» بالنون من أسْرَعَ، وهي ك «نُسَارع» فيما تقدم. و ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع، وهو إضراب انتقال، والمعنى: أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد، أهو استدراج أم مسارعة في الخير روى يزيد بن ميسرة قال: أوحى الله - تعالى - إلى نبيّ من الأنبياء: «أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي» ثم تلا ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾.
230
قوله :﴿ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قرأ ابن عامر وحده «وأن هذه » بفتح الهمزة وتخفيف النون. والكوفيون١ بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل٢. فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة، فيتضح معنى قراءته.
وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف٣.
وأمّا قراءة الباقين٤ ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّها على حذف اللام أي : ولأنّ هذه، فلمّا حذف حرف الجَرّ جَرَى الخلاف المشهور٥، وهذه اللام تتعلق ب «اتّقون«٦. والكلام في الفاء كالكلام في قوله :«وَإِيَّايَ فَارْهَبُون »٧.
الثاني : أنها منسوقة على «بِمَا تَعْمَلُون » أي : إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه، فهذه٨ داخلة في حيز المعلوم٩.
الثالث : أنّ في الكلام حذفاً تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم ١٠.
١ وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي..
٢ السبعة (٤٤٦)، الحجة لابن خالويه (٢٥٧)، الكشف ٢/١٢٩ النشر ٢/٣٢٨، الإتحاف (٣١٩)..
٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١١، البيان ٢/١٥٨، التبيان ٢/٩٥٧..
٤ وهي بفتح "أن" والتثقيل..
٥ انظر الكتاب ٣/١٢٦ – ١٢٩ المغني ٢/٢٥٢ – ٢٥٧ الهمع ٢/٨١، الأشموني ٣/٩٢..
٦ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١١، البيان ٢/١٥٨، التبيان ٢/٩٥٦..
٧ من قوله تعالى: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وأيّاي فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]..
٨ فهذه: سقط من ب..
٩ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٧، مشكل إعراب القرآن ٢/١١١، البيان ٢/١٨٦، التبيان ٢/٩٥٦..
١٠ وهو قول الفراء. معاني القرآن ٢/٢٣٧، مشكل إعراب القرآن ٢/١١١، البيان ٢/١٨٦، التبيان ٢/٩٥٦..
وتقدّم ﴿ فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ﴾ وما قيل فيها ١.

فصل


المعنى : وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً، أي : ملة واحدة وهي الإسلام٢. فإن قيل : لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً ؟
فالجواب : أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء : إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا ٣.
وقيل : المعنى : أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، وأمركم واحد ٤.
﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون ﴾ فاحذرون، ﴿ فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ أي : تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً، ونصارى، ومجوساً. «زُبُراً » أي : فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها ( زَبُور )، وهو الفرقة والطائفة، ومثلها «الزُّبْرَة » وجمعها «زُبَر »٥ ومنه «زُبَرَ الحَدِيدِ »٦.
وقرأ بعض أهل الشام :«زُبَراً » بفتح الباء٧. وقال مجاهد٨ وقتادة «زُبراً » أي : كتباً، أي : دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل : جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ بما عندهم من الدين معجبون مسرورون٩.
١ عند قوله تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء: ١٠٥]..
٢ انظر البغوي ٦/٢٣..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٦..
٤ انظر البغوي ٦/٢٣..
٥ زبرة الحديد: القطعة الضخمة منه، والجمع زبر. اللسان (زبر)..
٦ من قوله تعالى: ﴿آتوني زبر الحديد﴾ [الكهف: ٩٦]. انظر البغوي ٦/٢٣..
٧ وهي قراء الأعمش، وأبي عمرو بخلاف. تفسير ابن عطية ١٠/٣٦٧ فمن قرأ "زبرا" فتأويله جعلوا دينهم كتبا مختلفة، جمع زبور. ومن قرأ "زبرا" أراد قطعا. جمع زبرة. معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٦، التبيان ٢/٩٥٧، اللسان (زبر)..
٨ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٢٣..
٩ آخر ما نقله عن البغوي ٦/٢٣..
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال :﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ﴾ وهذا خطاب لنبينا - عليه السلام١ -، أي : دع٢ هؤلاء الكفار في جهلهم ٣.
قوله :«في غَمْرتِهِمْ » مفعول ثان ل «ذَرْهُمْ » أي : اتركهم مستقرين «في غَمْرَتِهِمْ » ويجوز أن يكون ظرفاً للترك، والمفعول الثاني محذوف. والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والمغمر٤ الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل : فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء٥ والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم، والغِمْر - بالكسر - الحقد، لأنه يغطي القلب، فالغمرات الشدائد، والغامر : الذي يلقي نفسه في المهالك٦. وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ٧ عليه من الباطل كقوله :
كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب٨ ٩ ***. . .
وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم » بالجمع١٠، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى، فإنه اسم جنس مضاف ١١.
قوله :«حَتَّى حِين » أي إلى أن يموتوا. وقيل : إلى حين المعاينة. وقيل : إلى حين العذاب١٢.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ في ب: ادع. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٦..
٤ في ب: والغمر..
٥ في ب: لفظا. وهو تحريف..
٦ انظر اللسان (غمر)..
٧ هم: تكملة من الكشاف..
٨ عجز بيت من بحر البسيط قاله ذو الرمة وصدره:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ***...
وهو في الديوان ١/٣٨، اللسان (غمر، طبى) وشرح شواهد الكشاف: (١٣).
طباه يطبوه ويطبيه: إذا دعاه. أي: يدعوني اللهو في ليال كثيرة فأتبعه كأني سابح في لجة من الماء تغمر القامة..

٩ الكشاف ٣/٤٩ – ٥٠..
١٠ البحر المحيط ٦/٤٠٩..
١١ المرجع السابق..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٦..
ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾١ أي : أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا ل ﴿ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات ﴾ أي : نعجل لهم في الخيرات، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم ﴿ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ أنّ ذلك استدراج لهم ٢.
قوله :«أَنَّما نُمِدُّهُمْ » في «مَا » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي، وهي اسم ( أنَّ ) و ( نُمِدُّهُمْ بِهِ ) صلتها وعائدها محذوف، و( مِنْ مَالٍ ) حال من الموصول أو بيان له، فيتعلق بمحذوف.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٦..
٢ انظر البغوي ٦/٢٥..
و ( نُسَارعُ ) خبر ( أنَّ ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم ( أنَّ ) محذوف تقديره : نسارع لهم به أو فيه١ إلا أنّ حذف مثله قليل٢. وقيل : الرابط بين هذه الجملة باسم «أنَّ » هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله :«في الخَيْرَاتِ »، إذ الأصل نُسَارع لهم فيه، فأوقع الخيرات موقعه تعظيماً وتنبيهاً على كونه من الخيرات، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوَّل، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد٣، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون الخبر ( مِنْ مَالٍ )، لأنه ( إذا ) ٤ كان من مال فلا٥ ( يعاب عليهم ذلك، وإنّما )٦ يُعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خيرٌ لهم ٧.
الثاني : أن تكون ( ما ) مصدرية فَيَنْسَبِك منها ومما بعدها مصدر، هو اسم ( أنّ )، و «نُسَارع » هو الخبر، وعلى هذا فلا بدّ من حذف ( أنْ )٨ المصدرية قبل «نُسَارعُ »، ليصح الإخبار، تقديره : أن نُسَارعَ. فلمّا حذفت ( أنْ ) ارتفع المضارع بعدها، والتقدير : أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةً مِنَّا لهم في الخيرات ٩.
الثالث : أنها مهيئة كافة، وبه قال الكسائي١٠ في هذه الآية، وحينئذ١١ يوقف على ( وَبَنِينَ )، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو : حسبتُ إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت١٢. وقرأ يحيى بن وثاب :«إِنَّمَا » بكسر الهمزة١٣ على الاستئناف، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصاراً واختصاراً. وابن كثير في رواية «يَمدُّهُمْ » بالياء١٤، وهو الله تعالى، وقياسه أن يقرأ «يُسَارع » أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرة١٥ «يُسَارع » بالياء وكسر الراء١٦، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : الباري تعالى.
والثاني : ضمير ( ما ) الموصولة إن جعلناها بمعنى ( الذي )، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية، وحينئذ يكون «يُسَارعُ لَهُمْ » الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي : يُسَارعُ الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير ( ما ) الموصولة١٧.
وعن ( ابن١٨ ) أبي بكرة المتقدم أيضاً «يُسَارع » بالياء مبنياً للمفعول١٩ و «في الخَيْرَاتِ » هو القائم مقام الفاعل، والجملة خبر ( أنّ ) والعائد محذوف على ما تقدّم٢٠.
وقرأ الحسن :«نُسْرِعُ » بالنون٢١ من أسْرَعَ، وهي ك «نُسَارع » فيما تقدم. و ﴿ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع، وهو إضراب انتقال٢٢، والمعنى : أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد، أهو٢٣ استدراج أم مسارعة في الخير٢٤ روى٢٥ يزيد٢٦ بن ميسرة٢٧ قال : أوحى الله - تعالى - إلى نبيّ من الأنبياء :«أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي » ثم تلا ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ ﴾٢٨.
١ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٢، البيان ٢/١٨٦، التبيان ٢/٩٥٧..
٢ لأن حذف العائد من الجملة إذا كانت خبرا للمبتدأ يجوز في الشعر بلا وصف ضعف، وهو في غيره ضعيف. انظر شرح الكافية ١/٩٢..
٣ انظر شرح الكافية ١/٩٢، البحر المحيط ٦/٤٠٩..
٤ إذا: تكملة من التبيان..
٥ في ب: فلان. وهو تحريف..
٦ ما بين القوسين تكملة من التبيان..
٧ التبيان ٢/٩٥٧..
٨ أن: سقط من الأصل..
٩ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٩..
١٠ انظر القرطبي ١٢/١٣١، البحر المحيط ٦/٤٠٩..
١١ في ب: وح..
١٢ انظر القرطبي ١٢/١٣١، البحر المحيط ٦/٤٠٩ – ٤١٠..
١٣ انظر البحر المحيط ٦/٤٠٩..
١٤ المرجع السابق..
١٥ هو عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي، أول مولود بالبصرة، روى عن أبيه، وروى عنه ابن سيرين وابن عون وجماعة، توفي بعد الثمانين. خلاصة تهذيب تذهيب الكمال ٢/١٢٦ – ١٢٧..
١٦ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٤، تفسير ابن عطية ١٠/٣٦٩، البحر المحيط ٦/٤١٠..
١٧ انظر المحتسب ٢/٩٥، البحر المحيط ٦/٤١٠..
١٨ ابن: تكملة من البحر المحيط..
١٩ المحتسب ٢/٩٤، تفسير ابن عطية ١٠/٣٦٩ البحر المحيط ٦/٤١٠..
٢٠ انظر المحتسب ٢/٩٥..
٢١ المحتسب ٢/٩٤، تفسير ابن عطية ١٠/٣٦٩، البحر المحيط ٦/٤١٠..
٢٢ ذلك أن "بل" حرف إضراب، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال نحو ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون﴾ [الأنبياء: ٢٦]. أي: بل هم عباد. وإما الانتقال من غرض إلى آخر، كما هنا المغني ١/١١٢..
٢٣ في ب: هو. وهو تحريف..
٢٤ انظر الكشاف ٣/٥٠، البحر المحيط ٦/٤١٠..
٢٥ في ب: وروى..
٢٦ في ب: زيد..
٢٧ لم أقف له على ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع..
٢٨ أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن ميسرة قال: أجد فيما أنزل الله على موسى... الدر المنثور ٥/١١..
قوله: ﴿إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ الآيات لمَّا ذمَّ من تقدّم بقوله: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾ [المؤمنون: ٥٥] ثم قال: ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٦]، بيّن بعده صفات من يُسارع في الخيرات، فقال: ﴿إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف. وقيل: جمع بينهما للتأكيد. ومنهم من حمل الخشية على العذاب،
230
والمعنى: إن الذي هم من عذاب ربهم مشفقون أي: خائفون من عقابه.
قوله: «مِنْ خَشْيَةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لبيان الجنس. قال ابن عطية: هي لبيان جنس الإشفاق.
قال شهاب الدين: وهي عبارة قَلِقَة.
والثاني: أنها متعلقة ب «مُشْفِقُونَ». قاله الحوفي، وهو واضح.
قوله: ﴿والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدّقون، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده. ﴿والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله - تعالى -، لأن ذلك داخل في قوله: ﴿والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه.
قوله: ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ﴾ العامة على أنه من الإيتاء، أي: يعطون ما أعطوا.
وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش: «يَأَتُونَ مَا أَتَوْا» من الإتيان، أي: يفعلون ما فعلوا من الطاعات. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أَتَوْا» فقط، وليس بجيّد، لأنّه يوهم أن من قرأ «أَتَوْا» بالقصر قرأ «يُؤْتُونَ» من الرباعي وليس كذلك.
قوله: ﴿وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ هذه الجملة حال من فاعل «يُؤْتُونَ»، فالواو للحال، والمعنى: يعطون ما أعطوه، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات، والكفارات وغيرها. أو من حقوق الآدميين، كالودائع، والديون وأصناف الإنصاف والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه «وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ»، أي: إنهم يقدمون على العبادة على وجل من تقصير وإخلال بنقصان.
«روي أن عائشة سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾
231
أهو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليه السلام:» لا يا بنت الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، وهو على ذلك يخاف الله «قوله:» أنَّهُمْ «يجوز أن يكون التقدير: وجلة مِنْ أنَّهُمْ أي: خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون: لأنهم أي: سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.
قوله: ﴿أولئك يُسَارِعُونَ﴾ هذه الجملة خبر»
إنَّ الَّذِينَ «، وقرأ الأعمش:» إنَّهُمْ «بالكسر، على الاستئناف، فالوقف على» وَجِلَةٌ «تام أو كاف.
وقرأ الحسن: «يُسْرعُونَ»
من أسْرَعَ. قال الزجاج: يُسَارِعُونَ أبلغ. يعني: من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة.
قوله: ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ في الضمير في «لَهَا» أوجه:
أظهرها: أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ.
وقيل: يعود على الجنة. وقال ابن عباس: إلى السعادة. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. والظاهر أن «سَابِقُونَ» هو الخبر، و «لَهَا» متعلق به
232
قُدّم للفاصلة وللاختصاص. واللام، قيل: بمعنى (إلى)، يقال: سبقت له، وإليه، بمعنى ومفعول «سَابِقُون» محذوف، تقديره: سابقون الناس إليها. وقيل: اللام للتعليل، أي: سابقون الناس لأجلها. وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها، وهي ﴿يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلَّت الأولى على التجدد.
وقال الزمخشري: أي: فاعلون السَّبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها قال أبو حيان وهذان القولان عندي واحد. قال شهاب الدين: ليسا بواحد إذ مراده بالتقدير الأول: أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظرٍ إلى مَنْ سبقوه كقوله: «يُحْيِي وَيُمِيتُ»، و «كُلُوا واشْرَبُوا»، و «يعطي ويمنع» وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف لدلالة، واللام للعلة في التقديرين وقال الزمخشري أيضاً: أو: إيّاها سابقون. أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. قال شهاب الدين: يعني أن «لَهَا» هو المفعول ب «سَابِقُونَ»، وتكون اللام قد زيدت في المفعول، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز، كَوْن العامل فرعاً، وكونه مقدّماً عليه معموله. قال أبو حيان: ولا يدل لفظ «لَهَا سَابِقُون» على هذا التفسير، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق، فكيف يقول: وهم يسبقون الخيرات، هذا لا يصح. قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة من أي جهةٍ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات، وهم لا يجامعونها، لتقدمهم عليها إلاّ أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل (وهم ينالون) (وهم يسبقون) وعلى كل
233
تقدير فأين عدم الصحة؟ وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يكون ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ خبراً بعد خبرٍ ومعنى «وَهُمْ لَهَا» كمعنى قوله:
٣٨٠١ - أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنَ بَيْنِ البَشَر... يعني: أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة.
فتحصل في اللام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى (إلى).
الثاني: أنها للتعليل على بابها.
والثالث: أنها مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان:
أحدهما: أنه «سَابِقُونَ» وهو الظاهر.
والثاني: أنه الجار كقوله.
234
قوله :﴿ والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ يصدّقون، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده ١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٧..
﴿ والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ﴾ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله - تعالى -، لأن ذلك داخل في قوله :﴿ والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه ١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٨..
قوله :﴿ والذين يُؤْتُونَ مَا آتَواْ ﴾ العامة على أنه من الإيتاء، أي : يعطون ما أعطوا١.
وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش :«يَأَتُونَ مَا أَتَوْا »٢ من الإتيان، أي : يفعلون ما فعلوا من الطاعات٣. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أَتَوْا » فقط٤، وليس بجيّد، لأنّه يوهم أن من قرأ «أَتَوْا » بالقصر قرأ «يُؤْتُونَ » من الرباعي وليس كذلك.
قوله :﴿ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ هذه الجملة حال من فاعل «يُؤْتُونَ »، فالواو للحال، والمعنى : يعطون ما أعطوه، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات، والكفارات وغيرها٥. أو من حقوق الآدميين، كالودائع، والديون وأصناف الإنصاف والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه «وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ »، أي : إنهم يقدمون على العبادة على وجل٦ من تقصير وإخلال بنقصان ٧.
«روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :﴿ والذين يُؤْتُونَ مَا آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ أهو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله ؟ فقال عليه السلام٨ :«لا يا بنت الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، وهو على ذلك يخاف الله »٩ قوله :«أنَّهُمْ » يجوز أن يكون التقدير : وجلة مِنْ أنَّهُمْ١٠ أي : خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون : لأنهم١١ أي : سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.
١ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٠، البحر المحيط ٦/٤١٠..
٢ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٥ تفسير ابن عطية ١٠/٣٧١، البحر المحيط ٦/٤١٠..
٣ انظر البحر المحيط ٦/٤١٠..
٤ قال أبو البقاء: "ويقرأ: "أتوا" بالقصر، أي: ما جاؤوه) التبيان ٢/٩٥٧..
٥ في ب: أو غيرها..
٦ في ب: وجه. وهو تحريف..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٠٨..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ أخرجه الترمذي (التفسير) ٥/٩، والإمام أحمد في مسنده ٦/١٥٩، ٢٠٥، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥/١١..
١٠ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٤، التبيان ٢/٩٥٨..
١١ تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٤، البحر المحيط ٦/٤١٠..
قوله :﴿ أولئك يُسَارِعُونَ ﴾ هذه الجملة خبر «إنَّ الَّذِينَ »١، وقرأ الأعمش :«إنَّهُمْ » بالكسر٢، على الاستئناف، فالوقف على «وَجِلَةٌ » تام أو كاف ٣.
وقرأ الحسن :«يُسْرعُونَ »٤ من أسْرَعَ. قال الزجاج : يُسَارِعُونَ أبلغ٥. يعني : من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة ٦.
قوله :﴿ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ في الضمير في «لَهَا » أوجه :
أظهرها : أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ٧.
وقيل : يعود على الجنة٨. وقال ابن عباس : إلى السعادة٩. وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى١٠ الخيرات١١. والظاهر أن «سَابِقُونَ » هو الخبر، و «لَهَا » متعلق به قُدّم للفاصلة وللاختصاص. واللام، قيل : بمعنى ( إلى )، يقال : سبقت له، وإليه، بمعنى ومفعول «سَابِقُون » محذوف، تقديره : سابقون الناس إليها١٢. وقيل : اللام للتعليل، أي : سابقون الناس لأجلها١٣. وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها، وهي ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات ﴾، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلَّت الأولى على التجدد ١٤.
وقال الزمخشري : أي : فاعلون السَّبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها١٥ قال أبو حيان وهذان القولان عندي واحد١٦. قال شهاب الدين : ليسا بواحد١٧ إذ مراده بالتقدير الأول : أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظرٍ إلى مَنْ سبقوه كقوله :«يُحْيِي وَيُمِيتُ »١٨، و «كُلُوا واشْرَبُوا »١٩، و «يعطي ويمنع » وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف للدلالة، واللام للعلة في التقديرين٢٠ وقال الزمخشري أيضاً : أو٢١ : إيّاها سابقون. أي : ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا٢٢. قال شهاب الدين : يعني أن «لَهَا » هو المفعول ب٢٣ «سَابِقُونَ »، وتكون اللام قد زيدت في المفعول، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز، كَوْن العامل فرعاً، وكونه مقدّماً عليه معموله٢٤. قال أبو حيان : ولا يدل لفظ «لَهَا سَابِقُون » على هذا التفسير، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق، فكيف يقول : وهم يسبقون الخيرات، هذا لا يصح٢٥. قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة من أي جهةٍ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق٢٦ فكيف يتلاقيان ؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول : فكيف يقول : وهم ينالون الخيرات، وهم لا يجامعونها، لتقدمهم عليها إلاّ أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل٢٧ ( وهم ينالون ) ( وهم يسبقون ) وعلى كل تقدير فأين عدم الصحة٢٨ ؟ وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يكون ﴿ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ خبراً بعد خبرٍ ومعنى «وَهُمْ لَهَا » كمعنى قوله :
أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنَ بَيْنِ البَشَر٢٩ ***. . .
يعني : أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة ٣٠.
فتحصل في اللام ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها بمعنى ( إلى ).
الثاني : أنها للتعليل على بابها.
والثالث : أنها مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان :
أحدهما : أنه «سَابِقُونَ » وهو الظاهر.
والثاني : أنه الجار كقوله.
أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنْ بَيْنِ البَشَر٣١ ***. . .
وهذا قد رجّحه الطبري٣٢، وهو مروي عن ابن عباس٣٣.
١ من قوله: "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون". انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٢، البيان ٢/١٨٦ – ١٨٧ البحر المحيط ٦/٤١١..
٢ تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٤، البحر المحيط ٦/٤١١..
٣ الوقف: هو السكوت على آخر الكلمة اختيار لتمام الكلام، فإن تم الكلام ولم يكن له تعلق بما بعده لا من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، فهو الوقف التام لتمامه المطلق، فيوقف عليه، ويبدأ بما بعده، وأكثر ما يكون التام في الرؤوس الآي وانقضاء القصص وقد يكون في وسط الآية. وإن كان له تعلق بما بعده من جهة المعنى فقط فهو الوقف الكافي، للاكتفاء به عما بعده، واستغناء ما بعده عنه، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده، وهو يكثر في الفواصل وغيرها. انظر النشر ١/٢٢٤..
٤ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٦، تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٤ البحر المحيط ٦/٤١١..
٥ قال الزجاج: (وجائز يسرعون في الخيرات، ومعناه معنى يسارعون يقال: أسرعت وسارعت في معنى واحد إلا أن سارعت أبلغ من أسرعت) معاني القرآن وإعرابه ٤/١٧..
٦ ذلك أن المفاعلة تكون من اثنين، فتقتضي حث النفس على السبق، لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه. البحر المحيط ٦/٤١١..
٧ انظر البحر المحيط ٦/٤١١..
٨ المرجع السابق..
٩ انظر البغوي ٦/٢٦، تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٤..
١٠ في ب: في..
١١ انظر البغوي ٦/٢٦، البحر المحيط ٦/٤١١..
١٢ معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٨، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٧ البحر المحيط ٦/٤١١..
١٣ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٨، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٧ التبيان ٢/٩٥٨ البحر المحيط ٦/٤١١..
١٤ انظر البحر المحيط ٦/٤١١..
١٥ الكشاف ٣/٥٠..
١٦ البحر المحيط ٦/٤١١..
١٧ في ب: يسابق أحد. وهو تحريف..
١٨ [البقرة: ٢٥٨]، وغير ذلك في مواطن كثيرة من القرآن الكريم. انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ص (٢٢٣)..
١٩ [البقرة: ١٨٧]، [الأعراف: ٣١]..
٢٠ الدر المصون: ٥/٩١..
٢١ في الأصل: و..
٢٢ الكشاف ٣/٥٠..
٢٣ ب: سقط من ب..
٢٤ الدر المصون ٥/٩١..
٢٥ البحر المحيط ٦/٤١١..
٢٦ في الأصل: بعد قوله: المسبوق. تكرير لكلام سابق وهو: فكيف يقول وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة من أي جهة وكأنه تخيل أن السابق يتقدم على المسبوق..
٢٧ بدل: سقط من ب..
٢٨ الدر المصون: ٥/٩١..
٢٩ عجز بيت من بحر المتقارب لم أهتد إلى قائله وصدره: قصيد رائقة صوغتها. وهو في الكشاف ٣/٥٠، شرح شواهد (٥٨) رائقة: خالية من الحشو والتعقيد. صوغتها: بالتشديد للمبالغة، أنت لها: أي: أهل لها وكفؤ. و(أنت) مبتدأ و (لها) خبر، وأحمد: منادى، ومن بين البشر: متعلق بمحذوف حال، أي: منتخبا من بينهم ويجوز أن يكون أحمد أفعل تفضيل..
٣٠ الكشاف ٣/٥٠..
٣١ تقدم الحديث عنه قريبا..
٣٢ جامع البيان ١٨/٢٧..
٣٣ أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون" قال: سبقت لهم السعادة من الله. الدر المنثور ٥/١٢..
قوله: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ الآية، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة:
الأوّل: قوله: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ قال المفضّل: الوسع الطاقة.
وقال مقاتل، والضحّاك، والكلبي، والمعتزلة: هو دون الطاقة، لأن الوسع إنما
234
سُمي وُسعاً، لأنه يتسع عليه فعله، ولا يصعب ولا يضيق، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصلّ قاعداً، ومن لم يستطع الجلوس فَلْيومئ إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر.
قوله: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ «يَنْطِقُ» صفة ل «كِتَابٌ» و «بِالحَقِّ» يجوز أن يتعلق ب «يَنْطِق»، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من فاعله. أي: ينطق ملتبساً بالحق، ونطيره ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩]. فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان مُحِقًّا. فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب، إما ان يكونوا محيلين الكذب على الله، أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين، لتجويزهم أنه - سبحانه - كتب فيه خلاف ما حصل، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يَبْعُد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقص من حسناتهم، ولا يُزاد على سيئاتهم ونظيره: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩].
قالت المعتزلة: الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لاَ يَطِيقُونَ) فتكون الآية دالة على كون العبد مُوجداً لفعله، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً، ويدلُّ على أنه - سبحانه - لا يكلف ما لا يطاق.
وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن) فقد كلّفه (بأن يؤمن) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه).
قوله: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ أي: في غفلة وجهالةٍ، يعني الكفار في غفلة. «مِنْ هَذَا» أي: القرآن، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق
235
أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. «وَلَهُمْ» أي: ولهؤلاء الكفار ﴿أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك﴾ أي: أعمال خبيثة من المعاصي «دُون ذَلِك» أي: سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل: «دُون ذَلِك» يعني: من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله - عَزَّ وَجَلَّ - قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل: بل أراد المستقبل لقوله: ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾.
وإنما قال: ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال أبو مسلم: هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ» يحفظ أعمالهم «يَنْطِقُ بالحَقِّ» «فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا» هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك﴾ أي: لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي، أو سيعملوها في المستقبل، ثم إنه تعالى رجع بقوله: ﴿حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ﴾ إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب: وقول أبي مسلم أولى، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة، كما يحذر بذلك من الشر، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل: فما المراد بقوله: «مِنْ هَذَا» وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجهلم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم.
قوله: ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ كقوله: ﴿هُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١].
قوله: ﴿حتى إِذَآ﴾ «حَتَّى» هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها، وإذا الثانية فجائية، وهي جواب الشرط، وإمّا حرف جر عند بعضهم، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي: «حَتَّى» غاية، وهي عاطفة، و «إذَا» ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط، و «إذَا» الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في «
236
إذَا»، والمعنى: جأروا، والعامل في الثانية «أَخَذْنَا». وهو كلام لا يظهر.
وقال ابن عطية: و «حَتَّى» حرف ابتداء لا غير، و «إذا» الثانية - (التي هي جواب) - تمنعان من أن تكون «حَتَّى» غاية ل «عَامِلُونَ». قال شهاب الدين: يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر ان تكون غاية ل «عَامِلُونَ».
وظاهر كلام مكّي أنها غاية ل «عَامِلُونَ»، فإنه قال: أي: لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون والجُؤار: الصراخ مطلقاً، وأنشد الجوهري:
٣٨٠٢ - أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنْ بَيْنِ البَشَر وهذا قد رجّحه الطبري، وهو مروي عن ابن عباس.
٣٨٠٣ - يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي ك طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا
وتقدّم مستوفى في النحل.

فصل


قال المزمخشري: «حَتَّى» هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أن الضمير في «مُتْرفِيهِم» راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم. والمراد بالمُترفين: رؤساؤهم. قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر.
وقال الضحاك: يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ. وقيل: أراد عذاب الآخرة. ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل
237
بهم هذا «يَجْأَرُونَ» أي: ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم.
ويقال لهم على وجه التبكيت: ﴿لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾.
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم.
238
قوله :﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ ﴾ أي : في غفلة وجهالةٍ، يعني الكفار١ في غفلة. «مِنْ هَذَا » أي : القرآن، أي٢ من هذا الذي بيّناه في القرآن، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. «وَلَهُمْ » أي : ولهؤلاء الكفار ﴿ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك ﴾ أي : أعمال خبيثة من المعاصي «دُون٣ ذَلِك » أي : سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل :«دُون ذَلِك » يعني : من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله - عز وجل٤ - قال بعضهم : أراد أعمالهم في الحال. وقيل : بل أراد المستقبل لقوله :﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾.
وإنما قال :﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال٥ أبو مسلم : هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم :﴿ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ » يحفظ أعمالهم «يَنْطِقُ بالحَقِّ » «فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا » هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة ﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك ﴾ أي : لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي، أو سيعملوها في المستقبل، ثم إنه تعالى رجع بقوله :﴿ حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ ﴾ إلى وصف الكفار٦ وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب : وقول أبي مسلم أولى، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير٧ بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة، كما يحذر بذلك من الشر، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر ؟
فإن قيل : فما المراد بقوله :«مِنْ هَذَا » وهو إشارة إلى ماذا ؟
قلنا : إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم ٨.
قوله :﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ كقوله :﴿ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦١ ].
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١١٠..
٢ في ب: أو..
٣ في ب: من دون..
٤ في ب: تعالى..
٥ في الأصل: قال..
٦ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١١٠..
٧ في الأصل: الغير. وهو تحريف..
٨ الفخر الرازي ٢٣/١١٠..
قوله :﴿ حتى إِذَآ ﴾ «حَتَّى »١ هذه إمّا حرف ابتداء٢ والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها، وإذا الثانية٣ فجائية، وهي جواب الشرط، وإمّا حرف جر عند بعضهم٤، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي :«حَتَّى » غاية، وهي عاطفة، و «إذَا » ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط، و «إذَا » الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في «إذَا »، والمعنى : جأروا، والعامل في الثانية «أَخَذْنَا »٥. وهو كلام لا يظهر٦.
وقال ابن عطية : و «حَتَّى » حرف ابتداء لا غير، و «إذا »٧ الثانية - ( التي هي جواب )٨ - تمنعان من أن تكون «حَتَّى » غاية ل «عَامِلُونَ »٩. قال شهاب الدين : يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر أن تكون غاية ل «عَامِلُونَ »١٠.
وظاهر كلام مكّي أنها غاية ل «عَامِلُونَ »، فإنه قال : أي : لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ ﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون١١. والجُؤار : الصراخ مطلقاً١٢، وأنشد الجوهري١٣ :
يُرَاوِحُ١٤ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي ك طَوْراً١٥ سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا١٦
وتقدّم مستوفى في النحل١٧.

فصل


قال الزمخشري :«حَتَّى » هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية ١٨.
واعلم أن الضمير في «مُتْرفِيهِم » راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم١٩. والمراد بالمُترفين : رؤساؤهم. قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر٢٠.
وقال الضحاك : يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف »٢١ فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ٢٢. وقيل : أراد عذاب الآخرة٢٣. ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل بهم هذا «يَجْأَرُونَ » أي : ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم.
١ حتى: سقط من ب..
٢ وهو رأي الجمهور. المغني ١/١٢٩..
٣ في ب: التامة. وهو تحريف..
٤ وهو رأي الأخفش وابن مالك. المغني ١/١٢٩..
٥ البرهان ٦/١٦١..
٦ وبمثل هذا رده أبو حيان. انظر البحر المحيط ٦/٤١٢..
٧ في ب: وإذ. وهو تحريف..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ تفسير ابن عطية ١٠/٣٧٧..
١٠ الدر المصون ٥/٩١..
١١ البحر المحيط ٦/٤١٢..
١٢ انظر اللسان (جأر)..
١٣ الصحاح (جأر)..
١٤ في النسختين: يراوح..
١٥ في النسختين: وطورا..
١٦ البيت من بحر المتقارب، ومن قصيدة للأعشى يمدح فيها قيس بن معد يكرب، وقد تقدم..
١٧ عند قوله تعالى: ﴿وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون﴾ [النحل: ٥٣]..
١٨ الكشاف ٣/٥٠..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١١..
٢٠ انظر البغوي ٦/٢٧، ١٢/١٣٥..
٢١ أخرجه البخاري (الأذان) ١/١٤٥ ومسلم (مساجد) ١/٤٦٦ – ٤٦٧ أبو داود (الوتر) ٢/١٤٢، النسائي (الافتتاح) ٢/٢٠١ – ٢٠٢..
٢٢ انظر البغوي ٦/٢٧ القرطبي ١٢/١٣٥..
٢٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١١، البحر المحيط ٦/٤١٢..
ويقال لهم على وجه التبكيت :﴿ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ﴾.
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم ١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١١..
قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ يعني القرآن ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ وهذا مثل يُضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله: ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ أي: ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان، وينفرون عن تلك الآيات، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه.
قوله: «عَلَى أَعْقَابِكُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَنْكِصُونَ» كقولك نكص على عقبيه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف، لأنه حال من فاعل (تنْكِصُونَ) قاله أبو البقاء وقرأ أمير المؤمنين «تَنْكُصُونَ» بضم العين، وهي لغة.
قوله: «مُسْتَكْبِرِينَ» حال من فاعل «تَنْكِصُونَ»، و «بِهِ» فيه قولان:
أحدهما: أنه متعلق ب «مُسْتَكْبِرِينَ».
والثاني: أنه متعلق ب «سَامِراً».
وعلى الأوَّل فالضمير للقرآن، لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت باللّيل
238
يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، وتسميته سحراً وشعراً. أو للبيت شرّفه الله - تعالى - كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، كانوا يفتخرون به، لأنهم ولاته، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «بِهِ» للرسول - عليه السلام -. أو للنكوص المدلول عليه ب «تَنْكِصُونَ» كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨]. والباء في هذا كله للسببية، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولاته، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار. وقيل: ضُمّن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء، وهذا يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.
وأمّا على الثاني وهو تعلقه ب «سَامِراً» فيجوز أن يكون الضمير عائداً على ما عاد عليه فيما تقدّم إلا النكوص، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثاً لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا و «سَامِراً» نصب على الحال إمّا من فاعل «تَنْكِصُونَ» وإمّا من الضمير في (مُسْتَكْبِرِينَ).
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة ويروى عن أبي عمرو: «سُمّراً» كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء، وكِلاَهُمَا جمع لِسَامِر، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة نحو ضُرَّب وضُرَّاب في ضَارِب، والأفصح الإفراد، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال: قَوْمٌ سَامِر ونظيره: «نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً».
239
والسامِر مأخوذ من السَّمر، وهو سَهَر الليل أو مأخوذ من السَّمَر: وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به قال:
٣٨٠٤ - كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلَى الصَّفَا أَنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكةَ سَامِرُ
وقال الراغب: السَّامِر: الليل المظلم يقال: وَلاَ آتِيكَ ما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ يعنون الليل والنهار. وقال الراغب: ويقال: سَامِرٌ، وسُمَّارٌ، وسَمَرَةٌ، وسَامِرُونَ. وسَمَرْتُ الشيءَ، وإبل مُسْمَرَةٌ، أي: مُهْمَلَةٌ، والسَّامِريُ: منسوب إلى رجل انتهى.
والسُّمْرَةُ أحج الألوان، والسَّمْرَاء يكنى بها عن الحِنْطَة.
قوله: «تَهْجُرُونَ» قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها من الهَجْر بسكون الجيم، وهو القطع والصدّ. أي تهجرون آيات الله ورسوله، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما.
والثاني: أنها من الهَجَر - بفتحها - وهو الهذيان، يقال: هَجَر المريض هَجَراً أي: هذى فلا مفعول له. ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أَهْجَر إهْجاراً، أي: أفحش في منطقه قال ابن عباس: يعني كانوا يسبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
240
وأصحابه وقرأ زيد بن علي، وابن محيصن، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هَجّر بالتشديد، وهو محتمل لأن يكون تضعيفاً للهَجَر أو للهَجْر (أو للهُجْر) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت، وهو التفات.
قوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ أي: يتدبروا القول، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ من التناقض مع طوله، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومعرفة الصانع، والوحدانية، فيتركوا الباطل، ويرجعوا إلى الحق ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين﴾ واعلم أنّ إقدامهم على كفرهم وجهلهم لا بُدّ وأن يكون لأحد أمور أربعة:
الأول: أن لا يتأملوا دليل ثبوته، وهو المراد من قوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ وهو القرآن يعني: أنه كان معروفاً لهم.
والثاني: أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة، وهو المراد من قوله: ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ﴾ وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة، وكانت الأمم بين مُصدّقٍ ناجٍ وبين مكذّبٍ هالك، أفَمَا دعاهم ذلك إلى تصديق الرسل.
وقال بعضهم: «أَمْ» هاهنا بمعنى «بَلْ» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم.
والثالث: أن لا يكونوا عالمين بديانته، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة، وهو المراد من قوله: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ والمعنى: أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة، وكانوا يسمونه الأمين، فكيف كذبوه بعد أن اتفقتْ كلمتهم على تسميته بالأمين.
والرابع: أن يعتقدوا فيه الجنون، فيقولوا إنّما حمله على ادعاء الرسالة جنونه، وهو المراد بقوله ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾. وهذا أيضاً ظاهر الفساد، لأنّهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة، والشرائع الكاملة.
وفي كونهم سمّوه بذلك وجهان:
241
أحدهما: أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم، فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني: أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لئلاّ ينقادوا له، فذكروا ذلك استحقاراً له.
ثم إنه - تعالى - بعد أن عدّ هذه الوجوه، ونبّه على فسادها قال: ﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق﴾ أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ لأنهم تمسكوا بالتقليد، وعلموا أنّهم لو أقرُّوا بمحمدٍ لزالت رياستهم ومناصبهم، فلذلك كرهوه.
فإن قيل قوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ يدلُّ على أنّ أقلّهم لا يكرهون الحق.
فالجواب: أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفَةً من توبيخ قومه، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق.
قوله: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾ الجمهور على كسر الواو لالتقاء الساكنين وابن وثّاب بضمها تشبيهاً بواو الضمير كما كُسرتْ واو الضمير تشبيهاً بها.

فصل


قال ابن جريج ومقاتل والسّدّيّ وجماعة: الحق هو الله. أي: لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل وقيل: لو اتبع مرادهم، فيسمّي لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون ﴿لَفَسَدَتِ السماوات والأرض﴾.
وقال الفراء والزجاج: المراد بالحق: القرآن. أي: نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون ﴿لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾ وهو كقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
242
قوله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، والمراد أتتهم رسلنا. وقرأ أبو عمرو في رواية «آتَيْنَاهُمْ» بالمد أي أعطيناهم، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور، ويحتمل أن يكون «بِذِكْرِهِمْ» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو أيضاً «أَتَيْتهمْ» بتاء المتكلم وحده. وأبو البرهثم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتَهُمْ» بتاء الخطاب، وهو الرسول - عليه السلام -.
وعيسى: «بِذِكْرَاهُم» بألف التأنيث. وقتادة «نُذَكِّرهُمْ» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع (ذَكَّر) المشدد، ويكون (نُذكرُهُمْ) جملة حالية.
وتقدم الكلام في «خَرْجاً» و «خَرَاجاً» في: الكهف.

فصل


قال ابن عباس: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني: القرآن، فهو كقوله: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠] أي: شرفكم، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] أي: شرف لك ولقومك ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ﴾ شرفهم «معرِضون».
وقيل: الذكر هو الوعظ والتذكير التحذير. «أَمْ تَسْأَلُهُمْ» على ما جئتم به «خَرْجاً» أجراً وجعلاً ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ وتقدم الكلام على نظيره.
243
قوله :«مُسْتَكْبِرِينَ » حال من فاعل «تَنْكِصُونَ »٧،
و «بِهِ » فيه قولان : أحدهما : أنه متعلق ب «مُسْتَكْبِرِينَ » ١.
والثاني : أنه متعلق ب «سَامِراً » ٢.
وعلى الأوَّل فالضمير للقرآن٣، لأنهم كانوا يجتمعون٤ حول البيت باللّيل يسمرون٥، وكان عامة سمرهم٦ ذكر القرآن، وتسميته سحراً وشعراً. أو للبيت شرّفه الله - تعالى - كانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، كانوا يفتخرون به، لأنهم ولاته، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «بِهِ » للرسول - عليه السلام٧ -. أو للنكوص المدلول عليه ب «تَنْكِصُونَ » كقوله :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾٨ [ المائدة : ٨ ]. والباء في هذا كله للسببية، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولاته، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار٩. وقيل : ضُمّن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء١٠، وهذا١١ يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.
وأمّا على الثاني وهو تعلقه ب «سَامِراً » فيجوز أن يكون الضمير عائداً على ما عاد عليه فيما تقدّم إلا النكوص، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثاً لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا١٢ و «سَامِراً » نصب على الحال١٣ إمّا من فاعل «تَنْكِصُونَ » وإمّا من الضمير في ( مُسْتَكْبِرِينَ ).
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة ويروى عن أبي عمرو :«سُمّراً » بضم الفاء وفتح العين مشددة١٤ وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضا ( سمارا ) كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء١٥، وكِلاَهُمَا جمع لِسَامِر، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة١٦ نحو ضُرَّب وضُرَّاب في ضَارِب، والأفصح الإفراد، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال : قَوْمٌ سَامِر١٧ ونظيره :«نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » ١٨.
والسامِر مأخوذ من السَّمر، وهو سَهَر١٩ الليل أو مأخوذ من السَّمَر : وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين٢٠ به قال :
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلَى الصَّفَا أَنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكةَ سَامِرُ٢١
وقال الراغب : السَّامِر : الليل المظلم٢٢ يقال٢٣ : وَلاَ آتِيكَ ما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ٢٤ يعنون الليل والنهار. وقال الراغب : ويقال : سَامِرٌ، وسُمَّارٌ، وسَمَرَةٌ، وسَامِرُونَ. وسَمَرْتُ الشيءَ، وإبل٢٥ مُسْمَرَةٌ، أي : مُهْمَلَةٌ، والسَّامِريُ : منسوب إلى رجل٢٦ انتهى.
والسُّمْرَةُ أحد الألوان٢٧، والسَّمْرَاء يكنى بها عن الحِنْطَة ٢٨.
قوله :«تَهْجُرُونَ » قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم٢٩، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها من الهَجْر بسكون الجيم٣٠، وهو القطع والصدّ. أي تهجرون آيات الله ورسوله، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما ٣١.
والثاني : أنها من الهَجَر - بفتحها - وهو الهذيان، يقال : هَجَر المريض هَجَراً أي : هذى فلا مفعول له٣٢. ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم٣٣ من أَهْجَر إهْجاراً، أي : أفحش في منطقه٣٤ قال ابن عباس : يعني كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه٣٥ وقرأ زيد بن علي، وابن محيصن، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة٣٦ مضارع هَجّر بالتشديد، وهو محتمل لأن يكون تضعيفاً للهَجَر أو للهَجْر ( أو للهُجْر٣٧ )٣٨ وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت، وهو التفات ٣٩.
١ انظر الكشاف ٣/٥١، التبيان ٢/٩٥٨، البحر المحيط ٦/٤١٣..
٢ المراجع السابقة، والبيان ٢/١٨٧..
٣ في ب: القرآن..
٤ في ب: يجمعون..
٥ في الأصل: يسمروا وفي ب: يسحرون..
٦ في ب: سحرهم..
٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٨ للتقوى: سقط من الأصل. [المائدة: ٨]..
٩ انظر التبيان ٢/٩٥٨، البحر المحيط ٦/٤١٢ – ٤١٣..
١٠ انظر الكشاف ٣/٥١، البحر المحيط ٦/٤١٢..
١١ في الأصل: ولهذا..
١٢ انظر التبيان ٢/٩٥٨، البحر المحيط ٦/٤١٣..
١٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٢، تفسير ابن عطية ١٠/٣١٨ البيان ٢/١٨٧، التبيان ٢/٩٥٨..
١٤ المحتسب، ٢/٩٦، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٠، البحر المحيط ٦/٤١٣..
١٥ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٠، البحر المحيط ٦/٤١٣..
١٦ وذلك أن (فعل) و (فعال) من أمثلة جموع الكثرة، ويطردان في كل وصف على (فاعل) صحيح اللام نحو ضارب وصائم، تقول في جمعهما ضرب وضراب، وصوم وصوام. شرح الأشموني ٤/١٣٣..
١٧ قال ابن جنى عند توجيهه قراءة (سمرا): السمر: جمع سامر، والسامر: القوم يسمرون، أي يتحدثون ليلا، وروينا عن قطرب أن السامر قد يكون واحدا وجماعة. المحتسب ٢/٩٦، وفي اللسان (سمر): والسامر اسم للجمع كالجامل، قال الأزهري: وقد جاءت حروف على لفظ فاعل، وهي جمع عن العرب، فمنها الجامل والسامر والباقر والحاضر والجامل للإبل، ويكون فيها الذكور والإناث، والسامر: الجماعة من الحي يسمرون ليلا، والحاضر: الحمي النزول على الماء والباقر: البقر فيها الفحول والإناث..
١٨ [الحج: ٥]. والتنظير بالآية على أن "طفلا" واحد في معنى الجمع التبيان ٢/٩٣٣..
١٩ في ب: سمر..
٢٠ في ب: مستأنين. وهو تحريف..
٢١ البيت من بحر الطويل قاله عمرو بن الحارث بن المضاض بن عمرو يتأسف على البيت، وقيل: هو للحارث الجرهمي، كما في اللسان. وهو في اللسان (جحن). الحجون: موضع بمكة، ناحية من البيت، وقيل: جبل بمكة وهي مقبرة. والاستشهاد بالبيت أن (سامر) يطلق على غير الواحد بلفظ المفرد فالسمار: الجماعة الذين يتحدثون بالليل..
٢٢ المفردات في غريب القرآن (٢٤٢)..
٢٣ في الأصل: قال..
٢٤ السمير: الدهر، وابنا سمير: الليل والنهار. المفردات في غريب القرآن (٢٤٢).
٢٥ في الأصل: وابله..
٢٦ المفردات في غريب القرآن (٢٤٢)..
٢٧ السمرة: منزلة بين البياض والسواد، يكون ذلك في ألوان الناس والإبل، وغير ذلك مما يقبلها إلا أن الأدمة في الإبل أكثر. اللسان (سمر)..
٢٨ اللسان (سمر)..
٢٩ وهي غير قراءة نافع. السبعة (٤٤٦) الحجة لابن خالويه (٢٥٨) الكشف ٢/١٢٩، النشر ٢/٣٢٩، الإتحاف ٣١٩..
٣٠ في ب: الميم. وهو تحريف..
٣١ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٣، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨١، البيان ٢/١٨٧، التبيان ٢/٩٥٨..
٣٢ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨١، البيان ٢/١٨٧، التبيان ٢/٩٥٨..
٣٣ السبعة (٤٤٦)، الحجة لابن خالويه (٢٥٨)، المحتسب ٢/٩٦، الكشف ٢/١٢٩ النشر ٢/٣٢٩، الإتحاف ٣١٩..
٣٤ الكشف ٢/١٢٩، مشكل إعراب القرآن ٢/١١٣، البيان ٢/١٨٧، التبيان ٢/٩٥٩..
٣٥ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨١..
٣٦ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٦، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨١ – ٣٨٢، البحر المحيط ٦/٤١٣..
٣٧ المحتسب ٢/٩٧، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٢، البحر المحيط ٦/٤١٣..
٣٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٩ البحر المحيط ٦/٤١٣..
قوله :﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول ﴾ أي : يتدبروا القول، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ من التناقض مع طوله، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصانع، والوحدانية، فيتركوا الباطل١، ويرجعوا إلى الحق ﴿ أَمْ جَاَءهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأولين ﴾ واعلم أنّ إقدامهم٢ على كفرهم وجهلهم لا بُدّ وأن يكون لأحد أمور أربعة :
الأول : أن لا يتأملوا دليل ثبوته، وهو المراد من قوله :﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول ﴾ وهو القرآن يعني : أنه كان معروفاً لهم.
والثاني : أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة، وهو المراد من قوله :﴿ أَمْ جَاءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ ﴾ وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة، وكانت الأمم بين مُصدّقٍ ناجٍ وبين مكذّبٍ هالك، أفَمَا دعاهم٣ ذلك إلى تصديق الرسل.
وقال بعضهم :«أَمْ » هاهنا بمعنى «بَلْ » والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم ٤.
والثالث : أن لا يكونوا عالمين بديانته، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة، وهو المراد من قوله :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٢..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١١٢..
٣ في ب: دعاوهم..
٤ انظر القرطبي ١٢/١٣٩..
والمعنى : أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة، وكانوا يسمونه الأمين، فكيف كذبوه بعد أن اتفقتْ كلمتهم على تسميته بالأمين.
والرابع : أن يعتقدوا فيه الجنون، فيقولوا إنّما حمله على ادعاء الرسالة جنونه، وهو المراد بقوله﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾.
وهذا أيضاً ظاهر الفساد، لأنّهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة، والشرائع الكاملة.
وفي كونهم سمّوه بذلك وجهان :
أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم، فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لئلاّ ينقادوا له، فذكروا ذلك استحقاراً له١.
ثم إنه - تعالى - بعد أن عدّ هذه الوجوه، ونبّه على فسادها قال :﴿ بَلْ جَاءَهُمْ بالحق ﴾ أي : بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ لأنهم تمسكوا بالتقليد، وعلموا أنّهم لو أقرُّوا بمحمدٍ لزالت رياستهم ومناصبهم، فلذلك كرهوه٢.
فإن قيل٣ قوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ يدلُّ على أنّ أقلّهم لا يكرهون الحق.
فالجواب : أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفَةً من توبيخ قومه، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق٤.
١ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١١٢..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٢..
٣ في ب: قول. وهو تحريف..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/ ١١٢ – ١١٣..
قوله :﴿ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ ﴾ الجمهور على كسر الواو لالتقاء الساكنين وابن وثّاب بضمها١ تشبيهاً بواو الضمير كما كُسرتْ واو الضمير تشبيهاً بها ٢.

فصل


قال ابن جريج ومقاتل والسّدّيّ وجماعة : الحق هو الله. أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل٣ وقيل : لو اتبع مرادهم، فيسمّي لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون ﴿ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض ﴾٤.
وقال الفراء٥ والزجاج٦ : المراد بالحق : القرآن. أي : نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون ﴿ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ وهو كقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا٧ ٨ [ الأنبياء : ٢٢ ].
قوله :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ﴾ العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، والمراد أتتهم رسلنا٩. وقرأ أبو عمرو في رواية «آتَيْنَاهُمْ » بالمد أي أعطيناهم١٠، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور، ويحتمل أن يكون «بِذِكْرِهِمْ » والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو أيضاً «أَتَيْتهمْ » بتاء المتكلم وحده١١. وأبو البرهثم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتَهُمْ » بتاء الخطاب١٢، وهو الرسول - عليه السلام١٣ -.
وعيسى :«بِذِكْرَاهُم » بألف التأنيث١٤. وقتادة «نُذَكِّرهُمْ » بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع ( ذَكَّر ) المشدد١٥، ويكون ( نُذكرُهُمْ ) جملة حالية.
وتقدم الكلام في «خَرْجاً » و «خَرَاجاً » في : الكهف ١٦.

فصل


قال ابن عباس :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ﴾ بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني : القرآن، فهو كقوله :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾١٧ [ الأنبياء : ١٠ ] أي : شرفكم، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾١٨ [ الزخرف : ٤٤ ] أي : شرف لك ولقومك ﴿ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ ﴾ شرفهم «معرِضون » ١٩.
وقيل : الذكر هو الوعظ والتذكير٢٠ التحذير٢١.
١ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٧، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٥، البحر المحيط ٦/٤١٤..
٢ في قوله تعالى: ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦] على أن بعضهم قد شبه واو الجمع في "اشتروا" بواو "لو اتبع" هذه وحركها بالكسر، فقرأ يحيى بن يعمر "اشتروا الضلالة" بكسر الواو. انظر المختصر (٢)، المحتسب ٢/٩٧..
٣ انظر البغوي ٦/٣٠..
٤ المرجع السابق..
٥ قال الفراء: (وقوله: "ولو اتبع الحق أهواءهم" يقال: "إن الحق" هو الله. ويقال: إنه التنزيل، لو نزل بما يريدون "لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن") معاني القرآن ٢/٢٣٩..
٦ قال الزجاج: (وقوله: "ولو اتبع الحق أهواءهم" جاء في التفسير أن "الحق" هو الله – عز وجل- ويجوز أن يكون "الحق" الأول في قوله: "بل جاءهم الحق" التنزيل، أي: بالتنزيل الذي هو الحق، ويكون تأويل: "ولو اتبع الحق أهواءهم" أي: لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت السماوات والأرض) معاني القرآن وإعرابه ٤/١٩..
٧ [الأنبياء: ٢٢]..
٨ انظر البغوي ٦/٣٠ – ٣١..
٩ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٥، البحر المحيط ٦/٤١٤..
١٠ المرجعان السابقان..
١١ المختصر (٩٨)، المحتسب ٢/٩٨، تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٥ البحر المحيط ٦/٤١٤..
١٢ المراجع السابقة..
١٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٤ المختصر (٩٨)، البحر المحيط ٦/٤١٤..
١٥ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٥، البحر المحيط ٦/٤١٤..
١٦ عند قوله تعالى: ﴿قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا﴾ [الكهف: ٩٤]..
١٧ [الأنبياء: ١٠]..
١٨ [الزخرف: ٤٤]..
١٩ انظر البغوي ٦/٣١..
٢٠ التذكير: سقط من ب..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٣..
«أَمْ تَسْأَلُهُمْ » على ما جئتم به «خَرْجاً » أجراً وجعلاً ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾ أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾١ وتقدم الكلام على نظيره.
١ انظر البغوي ٦/٣١..
قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو الإسلام. {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ
243
بالآخرة عَنِ الصراط} عن دين الحق «لَنَاكِبُونَ» لعادون عن هذا الطريق، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير.
قوله: «عَنِ الصِّرَاطِ» متعلق ب «نَاكِبُونَ» ولا تمنع لام الابتداء من ذلك على رأي تقدّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدول والميل، ومنه: النَّكْبَاء للريح بين ريحين، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ، أي: هَبّت هبوب النَّكْبَاء.
والمَنْكِبُ: مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف، والأَنْكَبُ: المائل المَنْكِب، ولفلان نِكَابَة في قومه أي: نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف، ويقال: نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً.
قوله: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ﴾ قحط وجدب وقيل: ضرر القتال والسبي. وقيل: مضار الآخرة وعذابها.
قوله: «للجُّوا» جواب «لَوْ»، وقد توالى فيه لاَمَان، وفيه تضعيف لقول من قال: جوابها إذا نفي ب (لم) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت: لو قام لَلَمْ يقم عمرو، لَمْ يجز، قال: لئّلا يتوالى لامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك واللّجَاجُ: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، ومنه اللَّجَّة: بالفتح: لتردد الصوت، كقوله:
٣٨٠٥ - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عن فُلِ...
244
ولجَّة البحر لتردد أمواجه، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه. واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام، وهو تكرير لَجَّ، ويقال: لَجَّ والتَجَّ. ومعنى الآية: لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه.
245
﴿ وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط ﴾ عن دين الحق «لَنَاكِبُونَ » لعادون عن هذا الطريق، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير١.
قوله :«عَنِ الصِّرَاطِ » متعلق ب «نَاكِبُونَ » ولا تمنع لام الابتداء من ذلك٢ على رأي تقدّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ : العدول والميل، ومنه : النَّكْبَاء للريح بين ريحين، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب٣، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ، أي : هَبّت هبوب النَّكْبَاء.
والمَنْكِبُ : مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف، والأَنْكَبُ : المائل المَنْكِب، ولفلان٤ نِكَابَة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف، ويقال : نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً٥.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٤..
٢ انظر التبيان ٢/٩٥٩..
٣ في ب: المهيئات. وهو تحريف..
٤ في ب: والعلان. وهو تحريف..
٥ انظر اللسان (نكب)..
قوله :﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ ﴾ قحط وجدب١ وقيل : ضرر القتال والسبي. وقيل : مضار الآخرة وعذابها ٢.
قوله :«للجُّوا » جواب «لَوْ »، وقد توالى فيه لاَمَان، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب ( لم ) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام لَلَمْ يقم عمرو، لَمْ يجز، قال : لئّلا يتوالى لامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك٣ واللّجَاجُ : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور٤ عنه، ومنه اللَّجَّة : بالفتح : لتردد الصوت، كقوله :
في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عن فُلِ٥ ***
ولجَّة البحر لتردد٦ أمواجه، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه. واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام، وهو تكرير لَجَّ، ويقال : لَجَّ والتَجَّ٧. ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه ٨.
١ انظر البغوي ٦/٣٢..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٤..
٣ لم يمنع النحاة دخول اللام في الإيجاب، وإنما منعوا دخولها في النفي لئلا يجمع بين متماثلين في نحو لم، ولن، ولما، ولا، وحمل الباقي عليه. وعلل الرضي منع ذلك بالتنافي في الظاهر، وذلك لأن اللام للثبوت، والثبوت ينافي النفي في الظاهر. وجواب (لو) في الآية التي معنا مثبت، فاللام داخلة على (لجوا) ولامه فاء الفعل، وليست نافية حتى يمتنع دخولها عليه وإن أدى إلى توالي لامين – فقد علل الرضي المنع بالتنافي بين اللام وبين النفي، وجواب (لو) إذا كان فعلا ماضيا مثبتا يغلب اقترانه باللام المفتوحة. شرح الكافية ٢/٣٣٨، شرح التصريح ١/٢٢٢، الهمع ١/١٤٠، ٢/٦٦..
٤ في ب: الموجود. وهو تحريف..
٥ رجز قاله أبو النجم، وهو في الكتاب ٢/٢٤٨، ٣/٤٥٢، المقتضب ٤/٢٣٨، أمالي ابن الشجري ٢/١٠١، المقرب ٢٠٠ – اللسان (لجج – فلن) المقاصد النحوية ٤/٢٢٨، شرح التصريح ٢/١٨٠، الهمع ١/١٧٧، شرح الأشموني ٣/١٦١، الخزانة ٢/٣٨٩، الدرر ١/١٥٤. اللجة – بالفتح – اختلاط الأصوات في الحرب، وهو محل الشاهد هنا واستشهد به النحاة على أن استعمال (فل) موضع فلان في غير النداء ضرورة، وأن (فل) أصله (فلان) فإذا صغر رد إلى أصله، فقيل: فلين..
٦ في ب: لترد..
٧ فاللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام. اللسان (لجج)..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٤..
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾ قال المفسرون: لما أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي، ولحق باليمامة، ومنع المِيرَة عن أهل مكة، ودَعَا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط حتى أكلوا العِلْهِز، جاء أبو سفيان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنشدك الله والرحم، ألَسْتَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: «بَلَى». فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فادعُ الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم: العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعاهم إلى الإيمان.
وقيل: المراد من عُذِّبَ من الأمم الخالية. «فَمَا اسْتَكَانُوا» أي: مشركو العرب.
قوله: «فَمَا اسْتَكَانُوا» تقدم وزن (استكان) في آل عمران.
وجاء الأول ماضياً والثاني مضارعاً، ولم يجيئا ماضيين، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أليق، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال وأما الاستكانة فقد توجد منهم.
245
وقال الزمخشري: فإن قلت: هَلاَّ قيل: وما تَضرّعوا (أو) فما يستكينون.
قلت: لأنّ المعنى محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما مِنْ عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.
فظاهر هذا أنَّ (حَتَّى) غاية لنفي الاستكانة والتضرّع. ومعنى الاستكانة طلب السكون، أي: ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم، وما تضرعوا بل مضوا على تمرّدهم.
قوله: ﴿حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾. قرئ «فَتَّحنَا» بالتشديد.
قال ابن عباس ومجاهد: يعني القتل يوم بدر. وقيل: الموت وقيل: قيام الساعة. وقيل: الجوع. ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ آيسون من كل خير. وقرأ السلمي: «مُبْلَسُون» - بفتح اللام - من أبلسه، أي: أدخله في الإبلاس.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار﴾ الآية.
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة، فأي مناسبة بين قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار﴾ وبين ما قبله؟
والجواب: كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين: هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، لقوله: ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٦] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾.
قال أبو مسلم: وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة: ما أقلّ شكر فلان.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض﴾ أي: خلقكم، قال أبو مسلم: ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] أي: هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان. ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة
246
وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب. ثم قال: ﴿وَلَهُ اختلاف الليل والنهار﴾ أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض. ثم قال: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب: بياء الغيبة على الالتفات والمعنى: أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ.
247
قوله :﴿ حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾. قرئ «فَتَّحنَا » بالتشديد ١.
قال ابن عباس ومجاهد : يعني القتل يوم بدر. وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة٢. وقيل : الجوع. ﴿ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ آيسون من كل خير. وقرأ السلمي :«مُبْلَسُون » - بفتح اللام٣ - من أبلسه، أي : أدخله في الإبلاس.
١ الكشاف ٣/٥٤..
٢ انظر البغوي ٦/٣٣..
٣ المختصر (٩٨)، البحر المحيط ٦/٤١٦..
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار ﴾ الآية.
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة، فأي مناسبة بين قوله :﴿ وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار ﴾ وبين ما قبله ؟
والجواب : كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها١، لقوله :﴿ فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ٢٣ [ الأحقاف : ٢٦ ] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال :﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾.
قال أبو مسلم : وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقلّ شكر فلان ٤.
١ في ب: دمها. وهو تحريف..
٢ [الأحقاف: ٢٦]..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٥..
٤ المرجع السابق..
ثم قال :﴿ وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض ﴾ أي : خلقكم، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم١ فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله٢ :﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾٣ [ الإسراء : ٣ ] أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان٤.
١ في ب: منشئكم..
٢ في ب: لقوله..
٣ [الإسراء: ٣]..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٥..
ثم قال :﴿ هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب١. ثم قال :﴿ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار ﴾ أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء : جعلهما مختلفين٢ يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض٣. ثم قال :«أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات٤ والمعنى : أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ.
١ المرجع السابق..
٢ معاني القرآن ٢/٢٤٠..
٣ انظر البغوي ٦/٣٣..
٤ المختصر (٩٨)، البحر المحيط ٦/٤١٨..
قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون﴾ أي: كذبوا كما كذب الأولون ﴿قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ لمحشورون، قالوا ذلك منكرين متعجبين.
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ﴾ كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه - عليه السلام - فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا: لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسْطار، وهي جمع سَطْر، أي: ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له، أو جمع أُسْطُورَة.
﴿ قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ لمحشورون، قالوا ذلك منكرين متعجبين.
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٦..
ثم حكى قولهم :﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ ﴾ كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه - عليه السلام١ - فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا : لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسْطار، وهي جمع سَطْر٢، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له، أو جمع أُسْطُورَة٣.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ أي: أن "أساطير" جمع الجمع. وجمع الجمع – سواء أكان جمع قلة أم كثرة – ليس قياسا على مذهب سيبويه، ولا يجمع منها إلا ما جمع العرب، وأيده السيرافي والجرمي وابن عصفور واختاره الرضي. ويرى كثير من النحاة أن جموع القلة يجوز جمعها قياسا لأنه قد ورد عن العرب منه قدر صالح للقياس عليه كالأيدي والأيادي والأسلحة والأسالح، والأقاول والأقاويل.
الكتاب ٣/٦١٨ – ٦٢١، شرح الشافية ٢/ ٢٠٨ – ٢١٠ الهمع ٢/١٨٣ – ١٨٤..

٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٦..
قوله تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ﴾ الآية. اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود
247
من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، لأنّ القوم كانوا مُقرين بالله، وقالوا: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى، فقال تعالى: قل يا محمد مُجيباً لَهُم يعني يا أهل مكة ﴿لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ﴾ من الخلق ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ خالقها ومالكها «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» فَلا بُدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك: «أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ» فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سؤال يأتي في قوله: ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
وقوله: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
قوله: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدّم. وإنما قال: «أَفَلاَ تَتَقُّونَ» أي: تحذرون، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلاَّ بترك عبادة الأوثان، والاعتراف بجواز الإعادة.
قوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ قرأ أبو عمرو «سَيُقُولونَ اللَّهُ» في الأخيرتين من غير لام جر، ورفع الجلالة جواباً على اللفظ لقوله «مَنْ» قوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ﴾، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو «مَنْ» فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف.
والباقون: «لِلَّهِ» في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى؛ لأنه لا فرق بين قوله: ﴿مَن رَّبُّ السماوات﴾ وبين قوله: لِمَن السَّمَوات، ولا بين قوله: «مَنْ بِيَدِهِ» ولا لمن له الإحسان، وهذا كقولك: مَنْ رَبّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ، وإن شئت
248
لزيدٍ، لأنّ قولك: من ربُّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال: لمن هذه الدار؟ ومن ربُّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.
ولم يختلف في الأول أنه «لِلَّهِ»، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز، لأنه لا فرق بين: «لِمَنِ الأَرْضُ» ومَنْ رَبّ الأرض، إلا أنه لم يقرأ به أحد.
قوله: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً، عمَّم الحكم هاهنا بقوله: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة.
«وَهُوَ يُجِيرُ» أي: يؤمن من يشاء، ﴿وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أي: لا يؤمن من أخافه الله، يقال: أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه.
قوله: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فيه سؤال: وهو كيف قال: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ثم حكى عنهم «سَيَقُولُونَ اللَّهُ» وفيه تناقض؟ والجواب: لا تناقض، لأنّ قوله: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك.
وقوله: ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾ أي: تصرفون عن توحيده وطاعته، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً. ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق﴾ بالصدق، «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» فيما يدعون من الشرك والولد، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق: «أَتَيْتُهُمْ» بتاء الخطاب، وغيره بتاء المتكلم.
249
«سَيَقُولُونَ لِلَّهِ » فَلا بُدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك :«أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ » فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله :﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ سؤال يأتي في قوله :﴿ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾١ ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
وقوله :﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه ٢.
١ من الآية (٨٨) من السورة نفسها..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٧..
قوله :﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ ووجه الاستدلال بها على الأمرين١ كما تقدّم٢. وإنما قال :«أَفَلاَ تَتَقُّونَ » أي : تحذرون، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلاَّ بترك عبادة الأوثان، والاعتراف٣ بجواز الإعادة٤.
١ في ب: الاستدلالين بها..
٢ أي: الاستدلال على الإعادة، وعلى نفي عبادة الأوثان انظر ذلك في الآية المتقدمة..
٣ في ب: والإعراف. وهو تحريف..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٧..
قوله :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ قرأ أبو عمرو «سَيُقُولونَ اللَّهُ » في الأخيرتين١ من غير لام جر، ورفع الجلالة٢ جواباً على اللفظ لقوله «مَنْ » قوله :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ الِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ ﴾، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو «مَنْ » فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِم الموضعان٣ في مصاحف البصرة بالألف٤.
والباقون :«لِلَّهِ » في الموضعين باللام٥ وهو جواب على المعنى٦ ؛ لأنه لا فرق بين قوله :﴿ مَن رَّبُّ السماوات ﴾ وبين قوله : لِمَن٧ السَّمَوات، ولا٨ بين قوله :«مَنْ بِيَدِهِ » ولا لمن له الإحسان، وهذا كقولك : مَنْ رَبّ هذه الدار ؟ فيقال : زيدٌ، وإن شئت لزيدٍ، لأنّ قولك : من ربُّه ؟ ولمن هو ؟ في معنى واحد، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه الدار ؟ ومن ربُّها ؟ واللام٩ مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.
ولم يختلف في الأول أنه «لِلَّهِ »، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال١٠ ولو حذفت من الجواب لجاز، لأنه لا فرق بين :«لِمَنِ الأَرْضُ » ومَنْ رَبّ الأرض، إلا أنه لم يقرأ به أحد.
١ في ب: الأخيرين..
٢ السبعة (٤٤٧)، الحجة لابن خالويه(٢٥٨)، الكشف ٢/١٣٠، النشر ٢/٣٢٩، الإتحاف (٣٢١)..
٣ في ب: الموضعين..
٤ انظر الكشف ٢/١٣٠، البيان ٢/١٨٧ – ١٨٨، التبيان ٢/٩٦٠..
٥ السبعة (٤٤٧)، الحجة لابن خالويه (٢٥٨)، الكشف ٢/١٣٠، النشر ٢/٣٢٩، الإتحاف (٣٢٠)..
٦ انظر الكشف ٢/١٣٠، البيان ٢/١٨٧ – ١٨٨ التبيان ٢/٩٦٠..
٧ في ب: لمن في..
٨ لا: سقط من ب..
٩ في ب: واللام من..
١٠ والجواب مطابق للسؤال في اللفظ والمعنى. التبيان ٢/٩٥٩..
قوله :﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ( لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً، عمَّم الحكم هاهنا بقوله :﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ١ ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة.
«وَهُوَ يُجِيرُ » أي : يؤمن من يشاء، ﴿ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ أي : لا يؤمن من أخافه الله، يقال : أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه٢.
قوله :﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه سؤال : وهو كيف قال :﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ثم حكى عنهم.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٧..
«سَيَقُولُونَ اللَّهُ » وفيه تناقض ؟ والجواب : لا تناقض، لأنّ قوله :﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم١ بما يورد من ذلك٢.
وقوله :﴿ فأنى تُسْحَرُونَ ﴾ أي : تصرفون عن توحيده وطاعته، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً.
١ في ب: اعرافهم..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٧..
﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق ﴾ بالصدق، «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » فيما يدعون من الشرك والولد، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق :«أَتَيْتُهُمْ » بتاء الخطاب١، وغيره بتاء المتكلم ٢.
١ تفسير ابن عطية: ١٠/٣٩٤، البحر المحيط ٦/٤١٨..
٢ الكشاف ٣/٥٤..
قوله تعالى: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون: الملائكة بنات الله. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ ردّ
249
على اتخاذهم الأصنام آلهة، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية.
ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله: ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي: طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد.
قوله: «إذاً» جواب وجزاء، قال الزمخشري: فإن قلت: «إذاً» لا تدخل إلاَّ على كلام هو جواب وجزاء، فكيف وقع قوله: «لَذَهَبَ» جواباً وجزاءً ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قُلْتُ: الشرط محذوف تقديره: لَوَ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ، حذف لدلالة ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾.
وهذا رأي الفراء، وقد تقدّم في الإسراء في قوله: ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٣] ثم إنه تعالى نَزّه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من إثبات الولد والشريك.
قرئ: «تَصِفُونَ» بتاء الخطاب وهو التفات.
قوله: «عَالِمُ الغَيْبِ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: بالجر على البدل من الجلالة. وقال الزمخشري: صفة لله. كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف.
والباقون: بالرفع على القطع خبر مبتدأ محذوف.
ومعنى الآية: أنه مختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم
250
يعلم الغيب، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال: ( «فَتَعَالَى اللَّهُ) عَمَّا يُشْرِكُونَ».
قوله: «فَتَعَالَى» عطف على معنى ما تقدم، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته أي: شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول، أي: أقول فتعالى الله. قوله: ﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي: ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «تُرِيَنِّي» بصريح الياء. والضحاك: «تُرِئَنِّي» بالهمز عوض الياء، وهذا كقراءة: «فَإِمَّا تَرِئَنَّ» «لتَرؤُنَّ» بالهمز، وهو بدل شاذ.
قوله: ﴿رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي﴾ جواب الشرط، و «رَبِّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه.
قوله: ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ﴾ هذا الجار متعلق ب «لَقَادِرُونَ» أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل: المراد عذاب الآخرة.
251
قوله: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.
قال الزمخشري: قوله: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، (كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة) والمعنى الصفح عن إساءتهم، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة...
قيلك هذه الآية نُسخت بآية السيف، وقيل: محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة. ثم قال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ أي: يقولون من الشرك.
252
قوله :«عَالِمُ الغَيْبِ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر١ على البدل من الجلالة٢. وقال الزمخشري : صفة لله٣. كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف ٤.
والباقون : بالرفع٥ على القطع خبر مبتدأ محذوف ٦.
ومعنى الآية : أنه مختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم يعلم الغيب، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال٧ :( «فَتَعَالَى اللَّهُ ) ٨ عَمَّا يُشْرِكُونَ » ٩.
قوله :«فَتَعَالَى » عطف على معنى١٠ ما تقدم، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول، أي : أقول فتعالى الله ١١.
١ السبعة (٤٤٧)، الحجة لابن خالويه (٢٥٨)، الكشف ٢/١٣١، النشر ٢/٣٢٩ الإتحاف ٣٢٠..
٢ البيان ٢/١٩٩، التبيان ٢/٩٦٠..
٣ الكشاف ٣/٥٥، وانظر أيضا الكشف ٢/١٣١، التبيان ٢/٩٦٠..
٤ المعروف أن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال إضافة غير محضة (إضافة لفظية)، أما إذا كان بمعنى الماضي فإضافته محضة لأنها ليست في تقدير الانفصال خلافا للكسائي. فالزمخشري جعل إضافة (عالم) إضافة محضة. شرح التصريح ٢/٢٨، الهمع ٢/٤٧ – ٤٨..
٥ السبعة (٤٤٧)، الحجة لابن خالويه (٢٥٨)، الكشف ٢/١٣١، النشر ٢/٣٢٩ الإتحاف (٣٢٠)..
٦ انظر الكشاف ٣/٥٥، البيان ٢/١٨٨، التبيان ٢/٩٦٠..
٧ في ب: قال تعالى..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٨..
١٠ معنى: سقط من ب..
١١ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٣٩٠، البحر المحيط ٦/٤١٩..
قوله :﴿ قُل ربِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾ أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «تُرِيَنِّي » بصريح الياء. والضحاك :«تُرِئَنِّي » بالهمز عوض الياء١، وهذا كقراءة :«فَإِمَّا تَرِئَنَّ »٢ «لتَرؤُنَّ »٣ بالهمز٤، وهو بدل شاذ٥.
١ المختصر (٩٨)، البحر المحيط ٦/٤١٩..
٢ من قوله تعالى: ﴿فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا﴾ [مريم: ٦]..
٣ من قوله تعالى: ﴿لترون الجحيم﴾ [التكاثر: ٦]..
٤ ابن الرومي عن أبي عمرو، المختصر (٨٤، ١٧٩)، المحتسب ٢/٤٢..
٥ انظر البحر المحيط ٦/٤٢٠..
قوله :﴿ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي ﴾ جواب الشرط، و «رَبِّ » نداء معترض بين الشرط وجزائه١، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط٢ ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع٣.
فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم ؟
فالجواب : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه ٤.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٤١، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٠ – ٢١، البيان ٢/٨٨، التبيان ٢/٩٦٠..
٢ في ب: الشروط. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٩..
٤ انظر الكشاف ٣/٥٥، الفخر الرازي ٢٣/١١٨..
قوله :﴿ وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ ﴾ هذا الجار متعلق ب «لَقَادِرُونَ »١ أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل : المراد عذاب الآخرة ٢.
١ انظر التبيان ٢/٩٦٠..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١١٩..
قوله :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة ﴾ وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.
قال الزمخشري : قوله :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة ﴾ أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، ( كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة )١ والمعنى الصفح عن إساءتهم، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. . .
قيل : هذه الآية نُسخت بآية السيف، وقيل : محكمة، لأن المداراة٢ محثوث٣ عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة٤. ثم قال :﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ أي : يقولون من الشرك.
١ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
٢ المداراة: المطاوعة والملاينة، ومنه الحديث: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أي: ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك. وداريت الرجل: لاينته ورفقت به، وأصله من دريت الظبي، أي: احتلت له وختلته حتى أصيده. اللسان (دري)..
٣ في النسختين: محثوثة. والتصويب من الكشاف..
٤ الكشاف ٣/٥٥..
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ الآية لما أدَّب رسوله بقوله: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [المؤمنون: ٩٦] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين:
أحدهما: من همزات الشياطين. والهَمَزَاتُ جمع همزَة، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها، وهي كالهزِّ والأزّ، ومنه مِهْمَازُ الرائض، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.

فصل


معنى «أعُوذُ بِكَ» أمتنع وأعتصم بك ﴿مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ نزعاتهم وقال الحسن:
252
وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. قال الحسن: كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة: «لا إله إلاّ الله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه».
فقيل: يا رسول الله ما همزه؟ قال: «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي: الجنون. قيل: فَمَا نَفْثه؟ قال: «الشعْر» قيل: فما نفخُه؟ قيل: «الكِبْر».
والثاني: قوله: ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أي: في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس.
قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾ الآية في (حَتَّى) هذه أوجه:
أحدها: أنها غاية لقوله: «بِمَا يَصِفُونَ».
والثاني: أنها غاية «لِكَاذِبُونَ».
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري: «حَتَّى» يتعلق ب «يَصِفُونَ» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال: أو على قوله: «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ». قال شهاب الدين: قوله: (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى، إذ التقدير: «حَتَّى» معلقة على «يَصِفُونَ» أو على قوله: «لَكَاذِبُونَ» وفي الجملة فعبارته مشكلة.
الثالث: قال ابن عطية: «حَتَّى» في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأوَّل أبْيَن، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره).
قال أبو حيان: فتوهم ابن عطية أن «حَتَّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء: (حَتَّى) غاية في معنى العطف. قال أبو حيّان: والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون «حَتَّى» غاية لها يدل عليها ما قبلها، التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ، ونظير حذفها قول الشاعر:
253
٣٨٠٦ - فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني... أي: يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة.
قوله
: ﴿رَبِّ
ارجعون
. في قوله: «ارْجِعُونِ» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه:
أجودها: أنه على سبيل التعظيم كقوله:
٣٨٠٧ - فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وقال الآخر:
٣٨٠٨ - أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ... وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال: إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول: يَا رَحْيَمُون قال: لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
الثاني: أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله: «ارْجِعُونِ». ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي: ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤]. ثم قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] التفاتاً ل «أهل» المحذوف.
الثالث: أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال: ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو
254
البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك، وأنشدوا:
٣٨٠٩ - قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل... أي: قف قف.

فصل


اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت (قَالَ رَبِّ ارجعون﴾ ) ولم يقل: ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب. وقال الضحّاك: كنت جالساً عند ابن عباس فقال: مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرآناً ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: ١٠].
وقال عليه السلام: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول: ﴿رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ».
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل: بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة.
قوله: ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ أي: ضيّعتُ. أي: أقول لا إله إلاَّ الله.
255
وقيل: أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل: أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه. فإن قيل: قوله تعالى: ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾ كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب: ليس المراد ب «لَعَّلَ» الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول: مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨].
قوله: «كَلاَّ» كلمة ردع وزجر أي: لا ترجع. معناه المنع طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد: هَيْهَات. ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال: حقاً إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب.
قوله: «إِنَّهَا كَلِمةٌ» من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد» يعني قوله:
256
والمراد بالكلمة: سؤاله الرجعة: كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل: معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه.
قوله: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ» أي: أمامهم وبين أيديهم. «بَرْزَخٌ» البرزخ: الحاجز بين المسافتين وقيل: الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب: أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة: بقيّة الدنيا).
قال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.
257
والثاني : قوله :﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ أي : في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس.
قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت ﴾ الآية في ( حَتَّى ) هذه أوجه :
أحدها : أنها غاية لقوله :«بِمَا يَصِفُونَ »١.
والثاني : أنها غاية «لِكَاذِبُونَ »٢.
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري :«حَتَّى » يتعلق ب «يَصِفُونَ » أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال : أو على قوله :«وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ »٣. قال شهاب الدين : قوله :( أو على قوله كذا ) كلام محمول على المعنى، إذ التقدير :«حَتَّى » معلقة على «يَصِفُونَ » أو على قوله :«لَكَاذِبُونَ » وفي الجملة فعبارته مشكلة٤.
الثالث : قال ابن عطية :«حَتَّى » في هذا الموضع٥ حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأوَّل أبْيَن، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ( ذكره٦ )٧.
قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن «حَتَّى » إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر٨.
وقال أبو البقاء :( حَتَّى ) غاية في معنى العطف٩. قال أبو حيّان : والذي يظهر لي١٠ أن قبلها جملة محذوفة تكون «حَتَّى » غاية لها يدل عليها ما قبلها، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ، ونظير حذفها قول الشاعر :
فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني١١ ***. . .
أي : يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة١٢.
قوله١٣ :﴿ رَبِّ ارجعون ﴾. في قوله :«ارْجِعُونِ » بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :
أجودها : أنه على سبيل التعظيم١٤ كقوله :
فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ *** وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا١٥
وقال الآخر :
أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ١٦ ***. . .
وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول : يَا رَحْيَمُون قال : لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾١٧ [ الحجر : ٩ ].
الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله :«ارْجِعُونِ »١٨. ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي : ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله١٩ :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾٢٠ [ الأعراف : ٤ ]. ثم قال :﴿ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾٢١ [ الأعراف : ٤ ] التفاتاً ل «أهل » المحذوف.
الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارْجعنِي ارجعنِي٢٢ نقله أبو البقاء٢٣ وهو يشبه ما قالوه في قوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾٢٤ [ ق : ٢٤ ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة٢٥ على ذلك، وأنشدوا :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل٢٦ ***. . .
أي : قف قف.

فصل


اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال :﴿ حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت ( قَالَ رَبِّ ارجعون ﴾ )٢٧ ولم يقل : ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب٢٨. وقال الضحّاك٢٩ : كنت جالساً عند ابن عباس فقال : مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل : إنما يسأل٣٠ ذلك الكفار. فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآناً ﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾٣١ [ المنافقون : ١٠ ].
وقال عليه السلام٣٢ :«إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول :﴿ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ٣٣ ٣٤.
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة ٣٥.
١ من الآية (٩٦) السابقة..
٢ من الآية (٩٠) السابقة..
٣ الكشاف ٣/٥٦..
٤ الدر المصون ٥/٩٣..
٥ في النسختين: هذه المواضع..
٦ تفسير ابن عطية ١٠/٣٩٩..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ البحر المحيط ٦/٤٢٠..
٩ انظر البحر المحيط ٦/٤٢٠، ما حكاه أبو حيان عن أبي البقاء غير موجود في التبيان..
١٠ لي: سقط من ب..
١١ صدر بيت من بحر الطويل، قاله الفرزدق، وعجزه:
كأن أباها نهشل أو مجاشع ***....

١٢ أي: أن ما بعد (حتى) في البيت دل على الجملة المحذوفة، وفي الآية دل ما قبل (حتى) على الجملة المحذوفة. البحر المحيط ٦/٤٢٠ – ٤٢١..
١٣ مكان: (قوله): بياض في الأصل..
١٤ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٣، الكشاف ٣/٥٥، تفسير ابن عطية ١٠/٤٠٠، البيان ٢/١٨٩، التبيان ٢/٩٦٠، البحر المحيط ٦/٤٢١..
١٥ البيت من بحر الطويل، قاله العرجي. والشاهد فيه مخاطبة الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقد تقدم تخريجه..
١٦ صدر بيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله وعجزه:
فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل ***...
وهو في الكشاف ٣/٥٥، البحر المحيط ٦/٤٢١، شرح شواهد الكشاف (٩٩)..

١٧ [الحجر: ٦]..
١٨ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٤٠٠، التبيان ٢/٩٦٠، البحر المحيط ٦/٤٢١..
١٩ في ب: في قوله..
٢٠ من قوله تعالى: ﴿وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون﴾ [الأعراف: ٤]..
٢١ من قوله تعالى: ﴿وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون﴾ [الأعراف: ٤]..
٢٢ في الأصل: ارجعون ارجعون..
٢٣ قال أبو البقاء: (والثالث: أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول، فكأنه قال ارجعني ارجعني) التبيان ٢/٩٦٠، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢/١١٣ – ١١٤، والبيان ٢/١٨٨..
٢٤ من قوله تعالى: ﴿ألقيا في جهنم كل كفار عنيد﴾ [ق: ٢٤]..
٢٥ في ب: الدلالة. وهو تحريف..
٢٦ صدر من بيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس وعجزه:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
وهو مطلع معلقته، وقد تقدم..

٢٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٨ تقدم قريبا..
٢٩ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٠..
٣٠ في ب: سأل..
٣١ [المنافقون: ١٠]..
٣٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٣ أخرجه الديلمي عن جابر. انظر الدر المنثور ٥/١٥..
٣٤ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣/١٣٠..
٣٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٠-١٢١..
قوله :﴿ لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ أي : ضيّعتُ. أي : أقول١ لا إله إلاَّ الله٢.
وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل : أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه٣. فإن قيل : قوله تعالى :﴿ لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾ كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب : ليس المراد ب «لَعَّلَ » الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما٤ سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول : مكنُونِي من٥ التدارك٦ لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضا أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾٧ ٨ [ الأنعام : ٢٨ ].
قوله :«كَلاَّ »٩ كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع. معناه المنع طلبوا١٠، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد : هَيْهَات. ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال : حقاً إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب ١١.
قوله :«إِنَّهَا كَلِمةٌ » من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله :«أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد }١٢ يعني قوله :
أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل١٣ ***. . .
وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران١٤. و «هُوَ قَائِلُهَا » صفة ل «كَلِمَة ».
والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه١٥.
قوله :«وَمِنْ وَرَائِهِمْ » أي : أمامهم وبين أيديهم١٦. «بَرْزَخٌ » البرزخ : الحاجز بين المسافتين١٧ وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر١٨، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب : أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة١٩ والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. ( وقال قتادة : بقيّة الدنيا ) ٢٠.
قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون٢١.
١ في ب: قول..
٢ أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قول: لعلي أعمل صالحا فيما تركت "قال: لعلي أقول: لا إله إلا الله" وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: "لعلي أعمل صالحا" قال: لا إله إلا الله، الدر المنثور ٥/١٥..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢١..
٤ في ب: ما من. وهو تحريف..
٥ من: سقط من ب..
٦ الدرك: اللحاق، وقد أدركه وتدارك القوم: تلاحقوا، أي: لحق آخرهم أولهم. اللسان (درك)..
٧ [الأنعام: ٢٨]..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢١..
٩ انظر مذاهب النحويين في هذه اللفظة في سورة مريم عند قول تعالى: ﴿كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا﴾ الآية (٧٩)..
١٠ في ب: فاطلبوا. وهو تحريف..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢١..
١٢ أخرجه البخاري (مناقب الأنصار) ٢/٣١٩، ومسلم (شعر) ٤/١٧٦٨ – ١٧٦٩ ابن ماجه (أدب) ٢/١٢٣٦..
١٣ صدر بيت من بحر الطويل قاله لبيد بن ربيعة، وعجزه:
وكل نعيم لا محالة زائل ***...
وقد تقدم..

١٤ عند قوله تعالى: ﴿أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله﴾ [آل عمران: ٣٩] وقوله تعالى: ﴿قل يا أيها الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا﴾ من الآية (٦٤) من السورة نفسها.
انظر اللباب ٢/٢٢٨ – ٢٦٢ – ٢٦٣..

١٥ انظر الكشاف ٣/٥٥، الفخر الرازي ٢٣/١٢٢..
١٦ انظر القرطبي ١٢/١٥٠..
١٧ في النسختين: المتنافيين..
١٨ انظر البحر المحيط ٦/٤١٦ – ٤١٧..
١٩ المفردات في غريب القرآن (٤٣)..
٢٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٢١ انظر البغوي ٦/٤٠..
قوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور﴾ الآية لمَّا قال: ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور﴾ وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، قال عليه السلام: «إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه» وقرأ ابن عباس والحسن: بفتح الواو جمع صُورة. والمعنى: فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين: بكسر الصاد وفتح الواو، وهو شاذ. هذا عكس (لُحَى) بضم اللام جمع (لِحْية) بكسرها. وقيل: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.
257
قوله: «فَلا أَنْسَابَ» الأنساب جمع نَسَب، وهو القرابة من جهة الولادة، ويُعبّر به عن التواصل، وهو في الأصل مصدر قال:
٣٨١٠ - أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران. و «هُوَ قَائِلُهَا» صفة ل «كَلِمَة».
٣٨١١ - لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله: «بَيْنَهُم» يجوز تعلقه بنفس «أَنْسَابَ»، وكذلك «يَوْمَئِذٍ»، أي: فلا قربة بينهم في ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «أَنْسَابَ»، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ» عوض عن جملة تقديره: يومئذ نفخ في الصور.

فصل


من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة، لأنّ المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه:
أحدها: أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا: أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك.
وثالثها: أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء يومئذ
258
أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ وروى عطاء عن ابن عباس: أنّها النفخة الثانية.
﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث:
«كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي» قيل معناه: لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال ههنا «وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ» وقال: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ [المعارج: ١٠]. وقال ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧].
فالجواب: رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل: إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا: ﴿ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾ [يس: ٥٢]. وقيل: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل: «لاَ يَتَسَاءَلُونَ» صفة للكفار لشدة خوفهم، وأمّا قوله: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها. وعن الشعبي قالت عائشة: «يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فقال عليه السلام» ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم «.
قوله: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز
259
المفلح، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الكهف: ١٠٥] أي: قدراً وقيل: ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء.
قوله: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ﴾ قال ابن عباس: غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وقيل: امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
قوله: ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ يجوز أن يكون» خَالِدُونَ «خبراً ثانياً ل (أُولَئِكَ)، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم خالدون. وقال الزمخشري: ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ بدل من» خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها.
قال أبو حيان: جعل»
فِي جَهَنَّمَ «بدلاً من (خَسِرُوا)، وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به» فِي جَهَنَّمَ «أي: استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم. قال شهاب الدين: فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون» خالدون «، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك: أو خبراً بعد خبر، ل» أُولَئِكَ «أو خبر مبتدأ محذوف. وهذان إنّما يليقان ب» خَالِدُونَ «، وأما» فِي جهنَّم «فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير» خَالِدُونَ «معلقاً.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة، وفيه نظر، إذ الظاهر كونه خبراً له.
قوله: «تَلْفَحُ»
يجوز استئنافه، ويجوز حَالِيته، ويجوز كونه خبراً ل «أُولَئِك».
260
واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له، وهو أشدُّ من النفح، وقد تقدّم النفح في الأنبياء. قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ الكُلُوح تشمير الشفة العليا، واسترخاء السفلى.
قال عليه السلام في قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ قال: «تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ» وقال أبو هريرة: يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون. ومنه كُلُوح الأسد أي: تكشيره عن أنيابه، ودهرٌ كالح (وبرد كالح) أي: شديد وقيل الكُلُوح: تقطيب الوجه وتسوره، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً (وكُلاَحاً).
قوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ يعني القرآن تخوفون بها ﴿فكنتم بها تكذبون﴾ قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك.
والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب.
261
قوله :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز المفلح، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾١ [ الكهف : ١٠٥ ] أي : قدراً٢ وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة٣، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء ٤.
١ [الكهف: ١٠٥]..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٣ – ١٢٤..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٤..
٤ عند قوله تعالى: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾ [الأنبياء: ٤٧]..
قوله :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ ﴾ قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين١. وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب٢.
قوله :﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ يجوز أن يكون «خَالِدُونَ » خبراً ثانياً ل ( أُولَئِكَ )، وأن يكون خبر٣ مبتدأ مضمر، أي : هم خالدون٤. وقال الزمخشري :﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ بدل من «خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ »، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها٥.
قال أبو حيان : جعل «فِي جَهَنَّمَ » بدلاً من ( خَسِرُوا )، وهذا بدل٦ غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به «فِي جَهَنَّمَ » أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء٧ من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم٨. قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل٩ دون «خالدون »، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبراً بعد خبر، ل «أُولَئِكَ » أو خبر مبتدأ محذوف١٠. وهذان إنّما١١ يليقان ب «خَالِدُونَ »، وأما «فِي جهنَّم » فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير «خَالِدُونَ » معلقاً.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة١٢، وفيه نظر، إذ الظاهر كونه خبراً له ١٣.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٤..
٢ المرجع السابق..
٣ في ب: خبرا. وهو تحريف..
٤ انظر الكشاف ٣/٥٧..
٥ الكشاف ٣/٥٧..
٦ في ب: بدل من..
٧ في البحر المحيط: وكأنه بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز..
٨ البحر المحيط ٦/٤٢١ – ٤٢٢..
٩ في الأصل: والبدل..
١٠ الكشاف ٣/٥٧..
١١ في ب: لا. وهو تحريف..
١٢ وخبر اسم الإشارة "في جهنم". وما حكاه عن أبي البقاء غير موجود في التبيان، وهو في البحر المحيط ٦/٤٢٢..
١٣ الدر المصون ٥/٩٤..
قوله :«تَلْفَحُ » يجوز استئنافه، ويجوز حَالِيته، ويجوز كونه خبراً ل «أُولَئِك ». واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له، وهو أشدُّ من النفح١، وقد تقدّم النفح٢ في الأنبياء٣. قوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ الكُلُوح تشمير الشفة العليا، واسترخاء السفلى٤.
قال عليه السلام٥ في قوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال :«تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ »٦. وقال أبو هريرة : يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون٧. ومنه كُلُوح الأسد أي : تكشيره عن أنيابه، ودهرٌ كالح ( وبرد كالح ) ٨ أي : شديد وقيل الكُلُوح : تقطيب الوجه وتسوره، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً ( وكُلاَحاً ) ٩ ١٠.
١ في النسختين: النفخ. والصواب ما أثبته. قال الزجاج: (يفلح وينفح في معنى واحد إلا أن اللفح أعظم تأثيرا) معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٣..
٢ في النسختين: النفخ. والصواب ما أثبته..
٣ عند قوله تعالى: ﴿ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين﴾ [الأنبياء: ٤٦]..
٤ قال الزجاج: (والكالح الذي قد تشمرت شفته عن أسنانه، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إذا مستها النار، فبرزت الأسنان وتشمرت الشفاه) معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٣..
٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٦ أخرجه الترمذي (جهنم) ٤/١٠٩، (التفسير) ٥/١٠، أحمد ٣/٧٧. وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥/١٦..
٧ انظر البغوي ٦/٤٣..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ انظر اللسان (كلح)..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله :﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ ﴾ يعني القرآن تخوفون بها ﴿ فكنتم بها تكذبون ﴾ قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك.
والجواب : أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها١ عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب ٢.
١ في ب: صدور رفعا. وهو تحريف..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٤..
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ الآية. لمّا قال سبحانه ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٥] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ قرأ الأخوان: «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر الشين وسكون القاف. وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة، وهي لغة فاشية، والشقوة كالفطنة والنعمة، وأنشد الفراء:
٣٨١٢ - كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز.
قال أبو مسلم: «الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء، والمصدر الجَرْي، وقد يجيء لفظ فِعْلَة، والمراد به الهيئة والحال فيقول: جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عِيشَةً طيبة، ومات مِيتَةً كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء. وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين.
262
قال الزمخشري:» غَلَبَتْ عَلَيْنَا «ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه) والشَّقاوة سوء العاقبة.

فصل


قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المُسبب على السبب، وليس هذا باعتذار فيه، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب: بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:
أحدها: أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجّح، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها: أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال، ولا كيفيّتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام، ولا يقال علم العلم.
وثالثها: أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة.
وقال القاضي، قولهم ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته، وعَلِمُوا ذلك، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.
والجواب: قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل: «اخْسَئُوا فِيهَا»
.
والوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أي: عن الهدى،
263
وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، وهو باطل، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال). ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي: من النار «فَإِنْ عُدْنَا» لما أنكرنا «فَإِنَّا ظَالِمُونَ» فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾.
فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح.
قوله: «اخْسَئُوا فِيهَا» أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي: انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال: خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه. «وَلاَ تُكَلمون» في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي﴾ الآية. العامة على كسر همزة (إِنَّهُ) استئنافاً. وأُبّي والعتكي: بفتحها أي: لأنه والهاء ضمير الشأن. قال البغوي: الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً.
قوله: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً» قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين. والباقون: بضمها في المَوْضعين.
و (سِخْريًّا) مفعول ثان للاتخاذ. واختلف في معناها فقال الخليل
264
وسيبويه والكسائي وأبو زيد: هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها. وقال يونس: إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر، قالا: لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله: ﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾. ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى:
٣٨١٣ - إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت
265
للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك.
قال معناه الزمخشري.

فصل


اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل: إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى: اتخذتموهم هزواً «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ» بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ﴿ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ ونظيره: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٢٩] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال: ﴿جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا﴾ أي: جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله: ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾ قرأ الأخوان بكسر الهمزة، استئنافاً.
والباقون بالفتح، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي: لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً.
والثاني: قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان ل «جَزَيْتُهُمْ» أي: بأنهم أي: فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً.
266
ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ﴾ أي : من النار «فَإِنْ عُدْنَا » لما أنكرنا «فَإِنَّا ظَالِمُونَ » فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال :﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾.
فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم ؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح ١.
١ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٥ – ١٢٦..
قوله :«اخْسَئُوا فِيهَا » أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال : خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه١. «وَلاَ تُكَلمون » في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة ٢.
قال٣ الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب٤ لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون ٥.
١ أي: أنه يتعدى ولا يتعدى. اللسان (خسأ)..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٦..
٣ في ب: وقال..
٤ عوى الكلب والذئب يعوي عيا وعواء وعوة وعوية. لوى خطمه، ثم صوت، وقيل: مد صوته ولم يفصح اللسان (عوى)..
٥ انظر البغوي ٦/٤٤..
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي ﴾ الآية. العامة على كسر همزة ( إِنَّهُ ) استئنافاً١. وأُبّي والعتكي : بفتحها أي : لأنه٢ والهاء ضمير الشأن. قال البغوي : الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً ٣.
١ انظر البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٢ المختصر (٩٩)، المحتسب ٢/٩٨، البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٣ البغوي ٦/٤٤..
قوله :«فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً » قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص١ بكسر السين. والباقون : بضمها في المَوْضعين ٢.
و ( سِخْريًّا ) مفعول ثان للاتخاذ٣. واختلف في معناها فقال الخليل٤ وسيبويه٥ والكسائي٦ وأبو زيد٧ : هما بمعنى واحد٨ نحو دُريّ٩ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها. وقال يونس : إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر١٠ ورَجّح أبو عليّ١١ وتَبعه مكي١٢ قراءة الكسر، قالا١٣ : لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله :﴿ وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾. ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام١٤ وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى :
إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ مِنْ علْو١٥ لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ١٦
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف١٧، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم١٨ وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً١٩، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل٢٠ في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك. قال معناه الزمخشري٢١.

فصل


اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل٢٢ : إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى : اتخذتموهم هزواً «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ » بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ﴿ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾٢٣ ونظيره :﴿ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ ﴾٢٤ [ المطففين : ٢٩ ]
١ وهو قوله تعالى: ﴿أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار﴾ [ص: ٦٣]..
٢ السبعة (٤٤٨)، الحجة لابن خالويه (٢٥٨)، الكشف ٢/١٣١، النشر ٢/٣٢٩ الإتحاف (٣٢١)..
٣ انظر التبيان ٢/٩٦١..
٤ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٤، إعراب القرآن للنحاس ٣/١٢٤ حجة أبي زرعة (٤٩٢)، البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٥ المراجع السابقة..
٦ قال الفراء: (قال الكسائي: سمعت العرب تقول: بحر لجي ولجي، ودري ودري منسوب إلى الدر، والكرسي والكرسي، وهو كثير. وهو في مذهبه بمنزلة قولهم العصي والعصي، والأسوة والإسوة) معاني القرآن ٢/٢٤٣، وقال النحاس: (قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد كما يقال: عصي وعصي) إعراب القرآن ٣/١٢٤..
٧ لم أجده في النوادر، وهو في البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٨ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١١٤، البيان ٢/١٨٩، التبيان ١/٩٦١١، البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٩ في ب: ودري..
١٠ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٤٠٧، البحر المحيط ٦/٤٢٣..
١١ المرجعان السابقان..
١٢ قال مكي: (والكسر الاختيار: لصحة معناه، ولشبهه بما بعده، ولأن الأكثر عليه) الكشف ٢/١٣١..
١٣ في ب: قال..
١٤ السخرة: ما تسخرت من دابة أو خادم بلا أجر ولا ثمن، ويقال: سخرته بمعنى سخرته، أي: قهرته وذللته. اللسان (سخر)..
١٥ في ب: علوي..
١٦ البيت من بحر البسيط، قاله أعشى باهلة، وهو مطلع قصيدته التي رثى بها أخاه المنشر بن وهب الباهلي وروي:
إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب منها ولا سخر
وهو في النوادر (٧٣) ابن يعيش ٤/٩٠، اللسان (سخر، علا، لسن) الخزانة ١/١٩١، ٦/٥١١. من علو: أي أتاني خبر من أعلى.
واستشهد به على أن السخر والسخر، بمعنى الهزء، والبيت يروى بضم السين وسكون الخاء، ويروى بفتحها..

١٧ وهو قوله تعالى: ﴿ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا﴾ [الزخرف: ٣٢]. السبعة (٤٤٨)، الحجة لابن خالويه (٢٥٩)، الكشف ٢/١٣١، النشر ٢/٣٢٩، الإتحاف ٣٢١..
١٨ لعله عبد الله بن مسلم بن جندب الهلالي المدني، أخذ عن أبيه، وعنه ابن أبي فديك، قال أبو زرعة: لا بأس به. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (٢١٤)..
١٩ المختصر (١٣٥)، البحر المحيط ٦/٤٢٣..
٢٠ قيل: سقط من الأصل..
٢١ قال الزمخشري: (السخري بالضم والكسر مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل كما قيل الخصوصية في الخصوص) الكشاف ٣/٥٧..
٢٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٦..
٢٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٦..
٢٤ [المطففين: ٢٩]..
ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال :﴿ جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا ﴾.
أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله :﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون ﴾ قرأ الأخوان بكسر الهمزة١، استئنافاً٢.
والباقون بالفتح٣، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً٤.
والثاني : قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان ل «جَزَيْتُهُمْ » أي : بأنهم أي : فوزهم٥ وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً ٦.
١ السبعة (٤٤٨ – ٤٤٩) الحجة لابن خالويه (٢٥٩)، الكشف ٢/١٣١ – ١٣٢، النشر ٢/٣٢٩ – ٣٣٠، الإتحاف ٣٢١..
٢ انظر الكشاف ٣/٥٧ التبيان ٢/٩٦١، البحر المحيط ٦/٤٢٤..
٣ انظر البيان ٢/١٨٩، التبيان ٢/٩٦١ البحر المحيط ٦/٤٢٤..
٤ فهي موافقة للأولى من جهة المعنى لا من جهة الإعراب، لاضطرار المفتوحة إلى عامل..
٥ قال الزمخشري: (والفتح على أنه مفعول "جزيتهم" كقولك: جزيتهم فوزهم) الكشاف ٣/٥٧. وانظر أيضا: التبيان ٢/٩٦١..
٦ تقديره: الجنة والرضوان. انظر البحر المحيط ٦/٤٢٣..
قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ قرأ الأخوان: ﴿قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ ﴿قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط. والباقون: «قَالَ» في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك. والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة. فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة، وفي الأَوّل غيرها، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها. وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني. فَعَلَى الأمر معنى الآية: قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ، فأخرج الكلام مخرج الواحد، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً. ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم، أي: قل أيها الكافرون. وأمّا على الخبر أي قال الله - عزَّ وجلَّ - للكفار يوم البعث ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض﴾ أي: في الدنيا أو في القبور. و (كَمْ) في موضع نصب على ظرف الزمان، أي: كم سنة، و «عَدَد» بدل من «كَمْ» قاله أبو البقاء، وقال غيره: «عَدَدَ سَنِينَ» تمييز ل «كَمْ» وهذا هو الصحيح. وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم: «عَدَداً» منوناً، وفيه أوجه:
أحدها: أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح. يعني: أنَّ الأصل سنين عدداً. أي: معدودة، لكنّه يلزم تقديم
267
النعت على المنعوت، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين.
والثاني: أن «لَبِثْتُم» بمعنى: عددتم، فيكون نصب «عَدَداً» على المصدر و «سَنِينَ» بدل منه. قاله صاحب اللوامح أيضاً. وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد.
والثالث: أنَّ «عَدَداً» تمييز ل «كَمْ» و «سِنِينَ» بدل منه.

فصل


الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة. فلمّا حصلوا في النار، وأيقنوا دوامها، وخلودهم فيها سألهم ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض﴾ مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا، حيث تيقّنوا خلافه، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل: فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب: لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا: «فَاسْأَلِ العَادِّينَ». قال ابن عباس: أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين.
وقيل: مرادهم بقولهم: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب. وقيل: أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.

فصل


اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار.
وقيل: المراد اللبث في حال الموت، لأنَّ قوله: «فِي الأَرْضِ» يفيد الكَوْن في الأَرض أي: في القبر، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ [الأعراف: ٥٦]، واستدلوا أيضاً بقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: ٥٥] ثم قالوا: «فَاسْأَلِ العَادِّينَ» أي: الملائكة الذين يحفظون أعمال
268
بني آدم ويُحْصُونها عليهم، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل: المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه. وقُرئ «العَادِينَ» بالتخفيف، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع (عَادِي) اسم فاعل من (عَدَا) أي: الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا.
وقيل: العَادين: القدماء المعمرين، فإنّهم سيقصرونها. قال أبو البقاء: كقولك: هذا بئر عَاديَة، أي؛ سل من تقدّمنا، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا: الأشعرون، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين. قال شهاب الدين: المحذوف أَوّلاً الياء الثانية؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان. ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال: وقُرئ (العَادِيين أي: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرُونَها، فكيف بِمَن دُونهم؟ قال ابن خالويه: ولغة أخرى العَادِيّين يعني: بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء).

فصل


احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال: قوله: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض﴾ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة، فلم يقولوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾.
والجواب من وجهين:
الأول: أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر.
والثاني: يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ عند أنفسنا.
269
قوله: «إِنْ لَبِثْتُم» أي: ما لبثتم «إِلاَّ قَلِيلاً»، وكأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً، لأنها في مقابلة أيام الآخرة.
قوله: «لَوْ أَنَّكُمْ» جوابها محذوف تقديره: لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة.
وانتصب «قليلاً» (على النعت) لزمن محذوف (أو لمصدر محذوف) أي: إلاّ زمناً قليلاً، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً.
قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ الآية في نصب (عَبَثاً) وجهان:
أحدهما: أنّه مصدر واقع موقع الحال أي: عابثين.
والثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل العبث. والعَبَث: اللعب، وما لا فائدة فيه، أي: لتعبثوا وتلعبوا، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وكل ما ليس له غرض صحيح. يقال: عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط، أي: خلطته، والعَبِيث: طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط. قوله: «وَأَنَّكُمْ» يجوز أن يكون معطوفاً على (أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) إذا كان مفعولاً من أجله.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) أي: للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم «إِلَيْنَا» على (تُرْجَعُونَ) لأجل الفواصل.
قوله: «لاَ تُرْجَعُونَ» هو خبر «أَنَّكُمْ»، وقرأ الأخوان «تَرْجِعُونَ» مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقد تقدّم أن (رجع) يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلا متعدّياً، والمفعول محذوف.
270

فصل


لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً، وهو كقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦]. والمعنى: أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ.
«رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ حتى ختمها، فَبَرأ، (فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بماذا رقيته في أذنه فأخبره) فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال «ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال: ﴿فَتَعَالَى الله الملك الحق﴾، والمَلِكُ: هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته، والحَقّ: هو الذي يحق له الملك، لأنّ كل شيء منه وإليه، والثابت الذي لا يزول ملكه.
﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم﴾ قرأ العامة»
الكريم «مجروراً نعتاً للعرش، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين، كما يُقال: بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنّه نعت للعرش أيضاً، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني: أنه نعت ل (رَبّ).

فصل


قال المفسرون: العرش السرير الحسن. وقيل: المرتفع. وقال أبو مسلم: العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة، ويجوز أن يُراد به
271
الملك العظيم.
والأكثرون: على أنّه العرش حقيقة.
قوله: «وَمَنْ يَدْعُ» شرط، وفي جوابه وجهان:
أحدهما: أنه قوله: «فَإِنَّما حِسَابُهُ» وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله: ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وجهان:
أحدهما: أنها صفة، ل «إِلهاً» وهي صفة لازمة، أي: لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا، فليس لها مفهوم لفساد المعنى. ومثله ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه.
والثاني: أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله: «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك: مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه.
والثاني من الوجهين الأَولين: أن جواب الشرط قوله: ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله:
٣٨١٤ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
وقد تقدّم تخريج كون ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ﴾ على الصفة، ولا إشكال، لأنها صفة لازمة، أو على أنها جملة اعتراض.

فصل


لمّا بيَّن أنَّه ﴿الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ﴾ أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى
272
باطلاً، لأنه ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ لا حجّة ولا بيّنة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال: «فَإِنَّما حِسَابُهُ» أي: جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٦] كأنّه قال: إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله.
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة. وقرأ الحسن وقتادة «أَنَّه» بالفتح، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حِسَابُه» قال: ومعناه حسابه عدم الفلاح، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو، فوضع الكافرون في موضع الضمير، لأن «مَنْ يَدْعُ» في موضع الجمع، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون. انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي: لأنّه لا يفلح. وقرأ الحسن: «لاَ يَفْلحُ» مضارع (فَلح) بمعنى (أَفْلَح) (فَعَل) و (أَفْعَل) فيه بمعنى، والله أعلم.

فصل


المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب، وأمر الرسول بأن يقول: ﴿رَّبِّ اغفر وارحم﴾ ويثني عليه بأن «خَيْرُ الرَّاحِمِينَ»، وقد تقدّم بيان كون «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
فإن قيل: كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب: أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات.
رُوي أنَّ أَوَّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح. وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت».
273
سورة النور
274
فإنْ قيل : فكيف١٨ يصح أن يقولوا في جوابهم :﴿ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾. ولا يقع الكذب من أهل النار ؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا :«فَاسْأَلِ العَادِّينَ ». قال ابن عباس : أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين.
وقيل : مرادهم بقولهم :﴿ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب١. وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.

فصل


اختلفوا في أنّ٢ السؤال عن أيّ لبث ؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار.
وقيل : المراد اللبث في حال الموت، لأنَّ قوله :«فِي الأَرْضِ » يفيد الكَوْن في الأَرض أي : في القبر، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله :﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض ﴾٣ [ الأعراف : ٥٦ ]، واستدلوا أيضاً بقوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾٤ ٥ [ الروم : ٥٥ ] ثم قالوا :«فَاسْأَلِ العَادِّينَ » أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُونها عليهم، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل : المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه٦. وقُرئ «العَادِينَ » بالتخفيف، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية٧ جمع ( عَادِي ) اسم فاعل من ( عَدَا ) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا ٨.
وقيل : العَادين : القدماء المعمرين، فإنّهم سيقصرونها. قال٩ أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عَاديَة١٠، أي ؛ سل من تقدّمنا، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا : الأشعرون، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين١١. قال شهاب الدين : المحذوف أَوّلاً الياء الثانية ؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان١٢. ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقُرئ ( العَادِيين١٣ أي : القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرُونَها، فكيف بِمَن دُونهم١٤ ؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العَادِيّين١٥ يعني : بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء١٦ ١٧.

فصل


احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله :﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض ﴾ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة، فلم يقولوا :﴿ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾.
والجواب من وجهين :
الأول : أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ١٨ بعده إلاّ في الآخرة، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر.
والثاني : يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا مدخل في١٩ تقدّم٢٠ موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم ﴿ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ عند أنفسنا٢١.
١ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٧..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٧ – ١٢٧..
٣ [الأعراف: ٥٦-٨٥]..
٤ [الروم: ٥٥]..
٥ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/١٢٧ – ١٢٨..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٨..
٧ المختصر (٩٩)، البحر الطويل ٦/٤٢٤..
٨ انظر الكشاف ٣/٥٨، البحر الطويل ٦/٤٢٤..
٩ في ب: قاله..
١٠ شجرة عادية أي قديمة، كأنها نسبت إلى عاد، وهم قوم هود النبي – صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم – وكل قديم ينسبونه إلى عاد وإن لم يدركهم. اللسان (عدا)..
١١ التبيان ٢/٩٦٢، البيان ٢/١٩٠..
١٢ الدر المصون: ٥/٩٥..
١٣ في ب: العادين..
١٤ الكشاف ٣/٥٨..
١٥ المختصر (٩٩)..
١٦ البحر المحيط ٦/٤٢٤..
١٧ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٨ في ب: إلا حياة..
١٩ في: سقط من ب..
٢٠ في ب: تقدم..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٨..
قوله :«إِنْ لَبِثْتُم » أي١ : ما لبثتم «إِلاَّ قَلِيلاً »، وكأنه قيل لهم : صدقتم٢ ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً، لأنها في مقابلة أيام الآخرة ٣.
قوله :«لَوْ أَنَّكُمْ » جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة. وانتصب «قليلاً » ( على النعت )٤ لزمن٥ محذوف ( أو لمصدر محذوف )٦ أي : إلاّ زمناً قليلاً، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً٧.
١ أي: سقط من ب..
٢ في ب: صدقهم وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٨..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ في ب: بزمن..
٦ انظر التبيان ٢/٩٦٢..
٧ انظر الكشاف ٣/٥٨، التبيان ٢/٩٦٢، البحر المحيط ٦/٤٢٤..
قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ الآية في نصب ( عَبَثاً ) وجهان :
أحدهما : أنّه مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين.
والثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل العبث١. والعَبَث : اللعب، وما لا فائدة فيه، أي : لتعبثوا٢ وتلعبوا، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وكل ما ليس له غرض صحيح. يقال : عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب، وأصله من قولهم عبثت٣ الأَقِط٤، أي : خلطته٥، والعَبِيث : طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط. قوله :«وَأَنَّكُمْ » يجوز أن يكون معطوفاً على ( أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ) لكون الحسبان منسحباً عليه٦ وأن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) إذا كان مفعولاً من أجله.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين٧ وقُدّم «إِلَيْنَا » على ( تُرْجَعُونَ ) لأجل الفواصل.
قوله :«لاَ تُرْجَعُونَ » هو خبر «أَنَّكُمْ »٨، وقرأ الأخوان٩ «تَرْجِعُونَ » مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول١٠. وقد تقدّم أن ( رجع ) يكون لازماً ومتعدياً١١. وقيل : لا يكون إلا متعدّياً، والمفعول محذوف.

فصل


لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً١٢، وهو كقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾١٣ [ القيامة : ٣٦ ]. والمعنى : أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ ١٤.
رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ١٥ في أذنيه ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ حتى ختمها، فَبَرأ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره )١٦ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال »١٧.
١ في ب: لعبثوا. وهو تحريف..
٢ في ب: عبث..
٣ الأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل. اللسان (أقط).
٤ في ب: خلطه..
٥ اللسان (عبث)..
٦ انظر الكشاف ٣/٥٨، البحر المحيط ٦/٤٢٤..
٧ الكشاف ٣/٥٨..
٨ في ب: لكم. وهو تحريف..
٩ حمزة والكسائي..
١٠ السبعة (٤٤٩ – ٤٥٠) الحجة لابن خالويه (٢٥٩) الكشف ٢/١٣٨، النشر ٢/٢٠٨ – ٢٠٩، الإتحاف ٣٢١..
١١ عند قوله تعالى: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١] انظر اللباب ٢/١٤٢..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٩..
١٣ [القيامة: ٣٦]..
١٤ في ب: تعالى..
١٥ في ب: فرواه. وهو تحريف..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ أخرجه الترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود. الدر المنثور ٥/١٧..
ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال :﴿ فَتَعَالَى الله الملك الحق ﴾، والمَلِكُ : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه١ وقدرته، والحَقّ : هو الذي يحق له الملك، لأنّ كل شيء منه وإليه، والثابت الذي لا يزول ملكه.
﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم ﴾ قرأ العامة «الكريم » مجروراً نعتاً للعرش، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لِنسْبته٢ إلى أكرم الأكرمين، كما يُقال : بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً٣. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن٤ ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع٥ وفيه وجهان :
أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضاً، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني : أنه نعت ل ( رَبّ ) ٦.

فصل


قال المفسرون : العرش السرير الحسن. وقيل : المرتفع٧. وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة، ويجوز أن يُراد به الملك العظيم ٨. والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة ٩.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٩..
٢ في ب: أو نسبة وهو تحريف..
٣ انظر الكشاف ٣/٥٨، الفخر الرازي ٢٣/١٢٩ البحر المحيط ٦/٤٢٤..
٤ في ب: وعن..
٥ المختصر (٩٩)، البحر المحيط ٦/٤٢٤، الإتحاف ٣٢١..
٦ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٤١١، البحر المحيط ٦/٤٢٤..
٧ انظر البغوي ٦/٤٨..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٩..
٩ المرجع السابق..
قوله :«وَمَنْ يَدْعُ » شرط، وفي جوابه وجهان :
أحدهما١ : أنه٢ قوله :«فَإِنَّما٣ حِسَابُهُ »، وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله :﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنها صفة، ل «إِلهاً »٤ وهي صفة لازمة٥، أي : لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا، فليس لها مفهوم لفساد المعنى. ومثله ﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾٦ [ الأنعام : ٣٨ ] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان، وأن ثمَّ طَائِراً٧ يطيرُ بغير جناحيه.
والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وإلى٨ الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله :«يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ »٩ جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك : مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه ١٠.
والثاني من الوجهين الأَولين : أن جواب الشرط قوله :﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية١١ كقوله :
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ١٢
وقد تقدّم تخريج كون ﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ ﴾ على الصفة، ولا إشكال، لأنها صفة لازمة، أو على أنها جملة اعتراض١٣.

فصل


لمّا بيَّن أنَّه ﴿ الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ ﴾ أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى باطلاً، لأنه ﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ لا حجّة ولا بيّنة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال :«فَإِنَّما حِسَابُهُ » أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾١٤ [ الغاشية : ٢٦ ] كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله١٥.
قوله :﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون ﴾ فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر همزة ( إنّه ) على الاستئناف المفيد للعلة١٦. وقرأ الحسن وقتادة «أَنَّه » بالفتح١٧، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حِسَابُه » قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو، فوضع الكافرون في موضع الضمير، لأن «مَنْ يَدْعُ » في موضع الجمع، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون١٨. انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح١٩. وقرأ الحسن :«لاَ يَفْلحُ »٢٠ مضارع ( فَلح ) بمعنى ( أَفْلَح ) ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) فيه بمعنى، والله أعلم.

فصل


المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب،
١ في ب: أصحهما..
٢ في الأصل: صفة أنه..
٣ في ب: فإنه. وهو تحريف..
٤ في ب: لأنها. وهو تحريف..
٥ انظر الكشاف ٣/٥٨، تفسير ابن عطية ١٠/٤١١، التبيان ٢/٩٦٢، البحر المحيط ٦/٤٢٤ – ٤٢٥..
٦ [الأنعام: ٣٨]..
٧ في ب: طائر..
٨ في ب: وال. وهو تحريف..
٩ [الأنعام: ٣٨]..
١٠ الكشاف ٣/٤٢٥..
١١ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٤١١، البحر المحيط ٦/٤٢٥..
١٢ البيت من بحر البسيط، قاله حسان بن ثابت، وليس في ديوانه، وقيل: عبد الرحمن بن حسان، وقيل: كعب بن مالك.
وقد تقدم..

١٣ انظر الوجه الأول، وقد تقدم قريبا..
١٤ [الغاشية: ٢٦]..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٩..
١٦ انظر التبيان ٢/٩٦٢، البحر المحيط ٦/٤٢٥..
١٧ المختصر (٩٩)، المحتسب ٢/٩٨، الكشاف ٣/٥٨، البحر المحيط ٦/٤٢٥..
١٨ الكشاف ٣/٥٨..
١٩ انظر التبيان ٢/٩٦٢..
٢٠ المختصر (٩٩)، البحر المحيط ٦/٤٢٥..
وأمر الرسول بأن يقول :﴿ رَّبِّ اغفر وارحم ﴾ ويثني عليه بأن «خَيْرُ الرَّاحِمِينَ »،
وقد تقدّم بيان كون «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » ١.
فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها ؟
فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات ٢.
١ عند قوله تعالى: ﴿وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين﴾ [الأنبياء: ٣٨]..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢٩..
Icon