تفسير سورة يس

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة يس من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (يس)
في جامع العتيبية لَا ينبغي لأحد أن يتسمى بـ ياسين.
ابن رشد: الكراهة [مراعاةً*] للخلاف، لأنه قيل: من أسماء الله تعالى، وقيل: من أسماء القرآن، فعلى هذا لَا يجوز التسمية به.
[وقال*] ابن عباس: [معناه بالحبشية يا إنسان*].
وقال مجاهد: هو مفتاح افتتح به الله تعالى به [كتابه*] فعلى هذا تجوز التسمية به.
قوله تعالى: (الْحَكِيمِ).
قيل: بمعنى المحكم، فيكون فيه دليل لمن يقول بعدم وجود النسخ فيه، وينبني على كون لفظ العرب اسم جنس أو لا، وهل يصدق على البعض أو الكل؟
قوله (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)
[دلالة المعجزة*] تثبت بالعقل، ولو ثبتت بالسمع للزم عليه إثبات السمع بالسمع.
قوله تعالى: (مُسْتَقِيم).
إما صالح حسن فهو صفة مدح، أو المراد به القرب؛ لأن المستقيم أقرب من المعوج، وهو طريق قريب من الجنة لَا بعيد.
قوله تعالى: ﴿الْعَزِيزِ... (٥)﴾
هو الذي لَا يمانع، فدلت الآية على أنهم [لَا تنفعهم*] [الشفاعة*] و (الرَّحِيمِ) في تخصيصه الرسالة بالنبي ﷺ رحمة به وبأمته.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ... (٧)﴾
إنذارهم مع الإخبار بأنهم لَا يؤمنون، ليس يبيح التكليف به اعتبارا بها عن الأمر والإلزام أن تكون التكاليف كلها لَا تطاق ولا فائدة؛ لأن المكلفين قسمان:
فمن علم الله تعالى أنه لَا يؤمن، فلا فائدة من أمره بالإيمان إذ لَا يطيقه.
ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لَا يطيق عدمه، وضمير (هم) عائد على الأكثر أو على المجموع من حيث هو مجموع على أن الضمائر كل لا كلية.
قوله تعالى: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... (٩)﴾
وفي آية أخرى (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)، فتلك أعم من هذه، إلا أن يجاب بأن هذه كقولهم: ضربت الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل، أو شبه هذا على ما هو المقصود، لأن الأمام والخلف هو محل المقابلة، والحركة بخلاف اليمين والشمال.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ... (١١)﴾
أي الإنذار النافع.
فإن قلت: لم قدم السبب على سببه، لأن الخشية والخوف سبب في الطاعة والإتباع؟ فالجواب: أنه إشارة إلى تأكد الأمر بالخوف، وأن المكلف إذا أطاع واتبع لا يكتفي بطاعته ويركن إليها، بل لَا يزال خائفا خاشعا، وإن كان طائعا.
قوله تعالى: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ... (١٤)﴾
فيه دليل على القول باعتبار الكثرة، وقد اختلفوا في عدد التواتر والمشهور، أنه غير محدود ولا محصور، قيل: حد بلوغ العلم، وقيل: أربعة، وقيل: أكثر من ذلك، فهذا دليل اعتبار الكثرة في العدد، قيل: ليس المراد هنا تعدد الأشخاص، بل تعدد الأدلة والبراهين، أجيب: بأن الأدلة [إذا*] تعددت [فمرجعها*] إلى شيء واحد.
قوله تعالى: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا... (١٥)﴾
مذهب هؤلاء كمن يذكر عن البراهمة في نفيهم الرسالة، وعدلوا في نفيها عن التصريح إلى الكناية إلى نفي أبلغ، زعما منهم أن البشر لَا يكون رسولا ألبتَّة، وإلا فالبشرية في اعتقادهم [إنما هم*] سواء [فالرسالة*] من الله، لَا من رسول الله.
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ... (٢٠)﴾
وفي القصص (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ)،
وأجيب: بأن تلك على الأصل، وهذه تفيد أن مجيئه من أطرافها وأعاليها، إشارة إلى استغراب ذلك، وأنه المقصود لَا كونه رجلا.
وأجاب بعضهم: بأن تقديم (رجل) في تلك لئلا يظن النبي صلى الله عليه وسلم، لسماعه أول الخطاب، أن الذي جاء هو فرعون أو غيره من أعداء موسى عليه الصلاة السلام [فيحزن*] لذلك بخلاف [هذه*] لتقدم ذكر المرسلين فيها.
قال شيخنا: هذا كان مع شيخنا أبي عبد الله بن محمد بن سلامة.
قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا... (٢١)﴾
ابن عطية: فيه دليل على تحريم الأخذ للأجرة على مثل هذا. انتهى، يرد بأن الآية اقتضت مدح تاركها لَا ذم آخذها.
قوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)﴾
يراد بالعبادة إما الاعتقاد القلبي والإنابة، أو العمل والطاعة، فيكون فيه حجة للمعتزلة القائلين: بأن شكر المنعم واجب لاقتضاء الآية، أن الاختصاص بالخلق والإعادة موجب للعبادة بالفعل، إلا أن يجاب: بأن الآية إنما اقتضت تكميل العبادة، وأن موجب العبادة كان عنده مستفادا بالسمع من شرع الأمم السالفة قبله، وأتى هذا على سبيل التكميل لذلك، لَا أنه مستقل بالوجوب، واقتضت الآية الاستدلال بالوحدانية والمعاد؛ أما الوحدانية فأمر عقلي، وأما المعاد فنحن نقول بجوازه من جهة العقل، ووقوعه من جهة السمع، والذي بقاعدة التحسين والتقبيح هو عنده واقع عقلا، وفي الآية دليل له؛ لأنه جعل [الخلق*] كالدليل على الإعادة، لأنه رتبها عليه وأتى بها بعده، والوحدانية تقرر أن دلالة المعجزة لَا تتوقف.
قلنا: عند الأكثر، [يدل*] على مجرد وجود الصانع، فالوحدانية يصح استفادتها من السمع، قيل: لو أتت الآية على أسلوب واحد، وما لكم لَا تعبدون الذي فطركم، فلم عدل عن ذلك مع أن معلوم اتصافه بالعبادة، فلا تحتاج إلى أنه يخبر بها؛ أجيب: أنه إشارة بـ إلى أنه لم يأمرهم إلا بما فعله هو في خاصة نفسه، ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل أي [وما لكم لا تعبدون الذي فطركم*].
قوله تعالى: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ... (٢٣)﴾
فيه المبالغة في عجزهم من وجهين:
الأول: لفظ (الرَّحْمَنُ)، أي إذا عجزوا عن دفع الضر الواقع ممن هو في مقام الرحمة فأحرى،
الثاني: تنكير (ضُر) للتنكير.
قوله تعالى: (وَلَا يُنْقِذُونِ).
الإنقاذ أعم من إغناء الشفاعة؛ لأنه لَا يكون بالمحاربة وغيرها، فنفيه أخص فهو من عطف الأخص على الأعم.
فإن قلت: هو من تحصيل الحاصل، لأن مراد الله لَا بد منه، فالجواب: ليس أراد بهذه الإرادة التخصيص بالمعنى إن وقع في الضرر، ولا شك أن ما أوقعه الله تعالى بالعبد يمكن رفعه.
قوله تعالى: ﴿بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)﴾
ولم يقل: بربي أي حالنا في عبوديته مستو، وكان حقكم الإيمان به.
قوله تعالى: ﴿ادْخُلِ الْجَنَّةَ... (٢٦)﴾
صيغة افعل هنا للإكرام.
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾
إشارة إلى رفع الدرجات أخص من قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).
قوله تبارك وتعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ... (٢٨)
أورد الفخر سؤالين:
الأول: لم قال من السماء مع أن الإنزال كله معلوم أنه من السماء؟ إذ لَا يكون إلا من فوق إلى أسفل؟ وأجيب بوجهين:
الأول: أنه قصد التعظيم والتشريف للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بذكر لفظ السماء التي هي من أشرف المخلوقات وأعظمها.
الثاني: أن المراد السماء المعهودة، والإنزال إنما يتناول ما كان فوق إلى أسفل بالإطلاق.
السؤال الثاني: ذكر الفاعل هنا.
وقال: قبل (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)، فحذف الفاعل، وجوابه: أن تلك في حبيب النجار، وهذه في حبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ابن عطية: عن ابن مسعود: [أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك*] انتهى، يوم أن غيرهم احتيج إلى ذلك فيه وهو باطل، ومذهبنا أن قدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض كقدرته على خلق الذرة، وليس بينهما تفاوت أصلا، فلذا كان كلام الزمخشري هنا أحسن.
341
وأورد الزمخشري هنا سؤالا هو: ما الفائدة في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ)؟ مع أنه أغنى عنه قوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ)، وأجاب: بأن معناه ما كان يصح في حكمنا أن ننزل إهلاك قوم حبيب بجند من السماء بناء على ما تقتضيه الحكمة وأوجبته المصلحة، وهو بناء على مذهبه الفاسد، وهل هو راجع إلى قاعدة التحسين والتقبيح أو لقاعدة تعليل أفعال الله تعالى؟ وهو الظاهر؛ لأن الأولى إنما يكون غالبا في الأمور الشرعية، وهذا أمر فعلي فهم يقولون: إنه يفعل للغرض، ونحن نقول: يفعل بما يشاء، ويحكم ما يريد لَا لأغراض؛ لأن ذلك إنما يكون من العاجز؛ فيفعل الأسباب الموجبة للغرض.
ولم يذكر الطيبي هنا شيئا فيبطل الجواب على مذهبنا، ويبقى السؤال واردا، فيجاب عنه بوجهين:
الأول: أن النفي في قوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا)، دخل على أخص مقيد، بقوله تعالى: (مِنَ السَّمَاء)، وهو أعم وفي (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ)، دخل على الأعم فهو أخص.
الثاني: أن الثاني أفاد نفي القابلية، وهي راجعة إلى الأسباب والأحوال التي اتصف بها غيره.
ابن عطية: (ما) يحتمل كونها نافية أو موصولة.
فرده أبو حيان: بأنه ليس مذهب البصريين؛ لأن مذهبهم أن (مِنْ) الزائدة لَا تدخل على الموصول، انتهى، إنما يتعقبه بمثل هذا على من لم يعرف إلا بمذهب الكوفيين، وترك مذهب البصريين، وابن عطية إنما قال: يحتمل كذا أو يحتمل كذا.
وقد قال الفارسي في (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) يجوز كون (مِنْ) و (مِنْ) الأخرى زائدتين، فتجوز الزيادة في الإيجاب.
وقال ابن جني في (لَمَا آتَيتُكُم مِن كتَابٍ)، على تشديد [(لَمَّا) *]: (مِنْ) زائدة.
وقال ابن مالك في من الداخلة على قبل وبعد: أنها زائدة؛ لأن كونها لابتداء الغاية على ما ذهب إليه الجمهور يلزم منه دخولها على الزمان، فتأولوا قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)، أي من تأسيس أول يوم.
342
ورده السهيلي بأنه قيل: هكذا لما احتيج إلى تقدير الزمان، وأجيب: عن دخول (مِنْ) على قبل وبعد، بأنهما غير متأصلين في الظرفية، وأنهما في الأصل صفتان للزمان، إذ معنى حيث قبلك جئت زمانا قبل زمن مجيئك، فلهذا سهل ذلك.
وأيضا قلنا: أن تجعل (مِنْ) للتبعيض لَا زائدة، كما زعم، وهو أولى (مِنْ) قول المختصر: إنها نكرة موصوفة؛ لأنه إذا انتفى إنزال بعض الجند انتفى إنزال الجند من باب أحرى؛ لأن إنزال الجميع يستلزم إنزال البعض، ونفي إنزال البعض يستلزم نفي إنزال الجميع، ويحتمل أن تكون الواو في (وَمَا كُنَّا)، واو القسم، وهو راجع لما يجد قبله، أو لما بعده، ويكون الله أقسم بما كان منزلا على عدم إنزاله على قومه جندا من السماء، أو المعنى: وحق ما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة.
ابن هشام: جوز الزمخشري في (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ)، الآية.. [كَون*] المعنى: ومن الذي كنا منزلين، فجوز زيادتها مع المعرفة، وتوالي مثل هذه الضمائر، نص صاحب المثل السائر: على أنه مستقبح في كلامهم، وأنشد عليه شيوخ لها منها عليها [شواهد*]، نص أبو الإصبع على أنه متضمن.
الزمخشري: وفضل سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، [بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار*] (١).
قال الطيبي: يقع في بعض النسخ (على)، ويقع في أخرى فضلا (عن) حبيب، قال: [فعن*] تقتضي [السلب*]، وأن الثاني ليس له فضل، و (على) تقتضي ثبوت الفضلية للثاني، انتهى، وفي المعالم لو كان احتمال الاشتراك متساويا لاحتمال الانفراد لنا، أفادت الدلائل السمعية الظن فضلا عن اليقين.
قال شيخنا: ورأيت تأليفا للقرافي ذكر فيه أنه بحث، وما وجد من يعربها، ويقول: فما رأيت الشيوخ يقولون: إنها مصدر موضع الحال، بمعنى مفعول، مثل: قتلته صبرا، أي مصبورا، وكذلك قوله في المعالم: فضلا عن اليقين وإلا فلا يصح أن يقال فضلت اليقين فضلا، لما يلزم عليه من كون الظن أفضل من اليقين.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً... (٢٩)﴾
قرئ بنصب (صَيحَة) ورفعها.
ابن عطية: لَا يصح ذلك إلا على إن كانت تامة، انتهى.
(١) النص هكذا في الكشاف:
"ولكنّ الله فضل محمدا ﷺ بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعذار ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله: وَما أَنْزَلْنا، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك". اهـ.
قال شيخنا: هذا لَا يفيده جوابا وترجيحا، وحقه أن يبطله بقولهم: إن الفعل تابع للفاعل في تذكيره وتأنيثه ما لم يفصل بينما بـ إلا، فحينئذ لَا يجوز التأنيث إلا في شاذ كقوله:
وما بقيت إلا الضلوع [الجراشع*]
قال وكنت رأيت نقدا على المعري لابن الصائغ، لما ذكر فيه قول ابن عصفور في الفاعل: إذا فصل بينه وبين الفعل فليس إلا التذكير، قال: ولم تكن جوابا عن سؤال، كقولك لمن قال: من قام من النساء؟ فتقول: ما قامت إلا هند، قال شيخنا: ويحسن أن يجاب هنا بذلك، فيقال: إن الآية جواب عن سؤال مقدر، فكأنَّ قائلا يقول: فكيف كانت أخذتهم؟ فقيل له: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيحَة)، أي إن كانت الأخذة إلا صيحة واحدة.
قيل لابن عصفور: [إنه*] ينازع في ذلك ولا يسلمه، فقال: كلام الزمخشري هنا يقتضيه بدليل قوله؛ لأن المعنى مما وقع من (إِلَّا صَيحَةً) فقدر الفاعل مذكرا فإذا تقدم عليه السؤال مؤنثا كان يعتبر مؤنثا.
قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً... (٣٠)﴾
ابن عطية: فسر بعضهم قراءة التنوين بأن الحسرة من العباد أنفسهم وهو بعيد، انتهى، وجه بعده أن التنوين ظاهره أن الحسرة منكرة ليست منهم، بل من غيرهم يتحسر عليهم، ولو كانت منهم لأتى بها مضافة دون تنوين، وأتى لفظ العباد هنا على خلاف الأصل؛ لأن غالب استعماله في الطائعين، وجاء هنا في الفاسقين، لكنه غير مضاف، ولا يقال في الفاسقين عباد الله.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ... (٣١)﴾
هذه الآية وعظ وتخويف وأمر نظري استدلالي.
الزمخشري: (أَلَمْ يَرَوْا)، ألم يعلموا أو هو معلق، لأن كم لَا يعمل فيها عامل قبلها، كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ.
ورد أبو حيان الأول بأنه قد يدخل حرف الجر، فتقول [كَمْ عَلَى: كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ*] وبكم درهم اشتريت ثوبك، انتهى، هذا لَا يليق به؛ لأن حرف الجر ليس بعامل، ألا تراهم يقولون: ما العامل في هذا المجرور وبماذا يتعلق؟ وبدليل صحة دخول حرف الجر على ما الاستفهامية، يحذف منها الألف، وما ذاك إلا لأنه ليس بعارض حقيقة.
344
ورد أبو حيان الثاني: بأنها لَيْسَ أَصْلُهَا [الِاسْتِفْهَامَ*]، ولا يحمل عليها بوجه، وأجاب: بأنه إن كان أراد الزمخشري جعلها مأخوذة منها [إلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم يروا إن زيدا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه*] فهو لا يقوله الزمخشري بوجه، وإن أراد أنها محمولة عليها فهذا صحيح.
قال شيخنا: وقد كان بعض النَّاس يلغي على كتاب سيبويه من ناحية أنه جمع بين النحو والأصول؛ لأنه نص فيه على قياس الشبه، إذ جعل كم الخبرية محمولة على كم الاستفهامية، وهذا هو قياس الشبه.
وذكر أبو حيان في إعراب الآية ستة أوجه، فنقل عن الزمخشري أنه قال: (أَنَّهُمْ إِلَيهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)، بدل من كم على المعنى لَا على اللفظ، أي أولم [يروا*] كثرة إهلاكنا القرون كونهم أنهم غير راجعين.
ورده أبو حيان وقال: لَا يصح أن يكون بدلا على اللفظ ولا على المعنى، أما على اللفظ فلأنه زعم أن يروا [مُعَلَّقَةٌ*]، فَيَكُونُ كَمِ اسْتِفْهَامًا، وَهُوَ مَعْمُولٌ لَأَهْلَكْنَا، وَأَهْلَكْنَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، [وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى، فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَقْدِيرُهُ، أَيْ عَلَى الْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ فَكَوْنُهُمْ غَيْرَ كَذَا لَيْسَ كَثْرَةَ الْإِهْلَاكِ، فَلَا يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كل، وَلَا بَعْضًا مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَلَا يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلَا يَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا أُبْدِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا. لَا تَقُولُ: أَلَمْ يَرَوُا انْتِفَاءَ رُجُوعِ كَثْرَةِ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ*]، انتهى كلامه، وهو قصور.
وقد ذكر سيبويه في باب ما يكون فيه أن بدلا من شيء غير الأول متصلا بقوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)، وبقوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ).
قال ابن خروف في شرحه: يريد أنه بدل من المعنى، كقولك: عرفت زيد أبو من هو، أي عرفت كنية زيد أبو من هو، وكذلك هذا بدل من المعنى، انتهى، ومعنى ما قال الزمخشري؛ لأن عدم الرجوع هو بمعنى الإهلاك والكون، فيصدق على الكثرة وعدمها، وهو لَا ينافي الكثرة فيصح [لأنه بدل شيء من شيء*]، وبدليل قول الزمخشري في الوجه الذي بعده، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، ويظهر من كلامه أن تمثيله بـ ألم يروا كثرة إهلاكنا [بدل معنى لَا بدل إعراب*]، وليس مراده البدل على هذا المعنى. قيل: بدل الاشتمال يشترك على تفسير الإعراب، [وهو أَلَمْ يَرَوُا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا*]، وهذا يصح إضافته إذ يصح أن تقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثير أهلكنا على أن شرط
345
الإضافة في بدل الاشتمال فيه نظر، [**هل هو نظر وفي جميع بدل الاشتمال، أو إنما هو إضافي].
قال شيخنا أبو العباس ابن القصار: ولا أعلم أحد اشترط ذلك من النحويين.
قال ابن هشام: كم على وجهين: خبرية بمعنى كثير، واستفهامية بمعنى [أي عدد*]، ويشتركان فِي خَمْسَة أُمُور الاسمية والإبهام والافتقار إِلَى التَّمْيِيز وَالْبناء وَلُزُوم التصدير، وأما قول بعضهم في (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)، أبدلت (أن) وصلتها من (كم)، فمردود بأن عامل البدل هو عامل المبدل منه، [فإن*] قدر عامل المبدل منه (يرَوا)، فكم لها الصَّدْر، ولا يعمل فيها ما قبلها، وإن قدر أهلكنا، فلا تسلط له في المعنى على [الْبَدَل*]، [وَالصَّوَاب*]: أن كم مفعول لأهلكنا، والجملة إما معمولة ليروا، على الله [أنه*] علق عن العمل في اللفظ، وأن وصلتها مفعول لأجله، وإما معترضة بين (يروا) وما سد مسد مفعوليه، وهو أن وصلتها. انتهى، وهو أيضا [قصور*].
وحمل ابن عطية أنهم بدلا من كم، وهي خبرية، والرؤية بصرية.
ورده أبو حيان بأن كم مفعول لأهلكنا، ولا يصح غيره، والبدل على نية تكرار القائل ولو سلط أهلكنا على أنهم لم يصح كلامه.
فإن قلت: يتخرج قول ابن عطية على أن كم معمولة ليروا، وليس لها صدر الكلام وهي لغة قليلة، حكاها الأخفش، فيكون أهلكنا صفة لكم، وحذف العائد جائز في الصفة كما هو جائز في الصلة، وإن كان في الصلة أكثر.
قلت: قال ابن هشام المصري: قول ابن عصفور: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا) أن (كَمْ) فاعل مَرْدُود [بِأَن كم لَهَا الصَّدْر]، وقوله: إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول: ملكت كم عبيد [فيخرجها عَن الصدرية*]، وهو خطأ عظيم [إِذْ خرج كَلَام الله سُبْحَانَهُ على هَذِه اللُّغَة*]، وإنما الفاعل على ضمير [اسم*] الله سبحانه، أو ضمير العلم أو الهدى المدلول عليه بالفعل، أَو جملَة (أهلكنا) *]، على القول بأن الفاعل يكون جملة إما مطلقا، أو [بشرط*] كونها مقترنة بما يعلق عن العمل [وَالْفِعْل قلبِي*]، نحو: [ظهر لي أَقَامَ زيد*]، [وجوز*] أبو البقاء كونه [ضمير الإهلاك*]، المفهوم من الجملة، وليس هذا من المواضع التي يعود فيها الضمير على [الْمُتَأَخر*]. انتهى.
346
وذكر أبو حيان عن الفراء: أنه أعمل يروا في الجملتين دون إبدال، قال: [وَقَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ تَجُوزُ، لِأَنَّ أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْعَمَلِ.*]، ونقول: إنها جملة في تقدير المفرد، وأما كيفية العمل فبأن يكون كم مفعولا أولا ليروا، إذ أهلكنا صفة حذف منها العائد كما تقدم، وأنهم مفعول ثاني، [**والأذية] على هذا عليه أو يكون (يروا) مطلقا عن العمل [و*] (كم) في موضع المفعول الأول، وأنهم في موضع المفعول الثاني، وهذا إن لم يكن فيه نص، [والعبارة تقتضيه*]. الزمخشري، وفي قراءة [ابن مسعود*] (ألم يروا من أهلكنا)، قال: وهذا مما يردُّ قول أهل الرجعة.
قال الطيبي: هم القائلون بالتقبيح انتهى.
قال شيخنا: خرج البخاري في أول كتابه عن [**الجعفي] وانتقدوا عليه التخريج عنه؛ لأنه فيمن يقول بالرجعة، واختلفوا حينئذ ما معنى القول بالرجعة، قال: ولغيرهم عندي التصالح، وأما هو كقول بعض الخوارج أن عليا رضي الله عنه لم يمت، بل رفع إلى السماء، وهو في السحاب لم يزل حيا.
وقد ذكره ابن السيد في أسئلته في المسألة الثامنة والستين في قول علي رضي الله عنه حين قتل عثمان: [**ألا فإن الله قتله وأنا معه، فذكر ابن السيد أن للناس فيه تأويلات، فقيل: معناه سيقتلني ثقة، وقيل: معناه وأنا] [... ]، وقال: وتأوله [**الجذورية] بما قدره الله علينا، وذكر بعضهم، واعترض تفسير سيقتلني ثقة، وأنكره ذلك في علي رضي الله عنه، انتهى، [ومعنى التناسخ*] عند قائليه هو أن الإنسان يموت وترجع روحه في ذات أخرى، فإذا ماتت تلك الذات أجلت أيضا لذات أخرى، لكن لفظ الإهلاك هنا ما يقتضي أن استدل به الزمخشري إلا بقول بالتناسخ لَا للقول الذي ذكرناه.
وانظر استدلال الزمخشري بقول ابن عباس: بئس القوم نحن إذا أنكحنا نساءه، واقتسمنا ميراثه، فهذا لما يقضي إلا على أنه حي.
وقال الفخر: ويحتمل أن يكون الضمير في أنهم يعود على الأحياء، وفي الخبر يعود على القرون الماضية، انتهى، هو يرد بأنهم منسوبون إلى الأموات.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢)﴾
هذا كالاحتراس؛ لأنه لما نفى عنهم الرجوع، قد يتوهم عدم حشرهم [... ]
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف أخبر عن (كل) بـ (جميع) [ومعناهما واحد*] مع أن الفارسي نص على أنه لَا يجوز أن [**الذاهبة قاربته صاحبها]، واستشكلوا قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَتَا اثنَتَينِ)، لأنه يعبر عن ضمير الاثنين بالاثنين، فلا فائدة فيه، وأنشد بعض النَّاس على الفارسي، وقال: إن الجارية مضافة، والإضافة بكونها وفي ثلاثة، فلا تدل إضافة الجارية إليه على أنها ملكه، بل قد تكون جارية، فإما جاء باعتبار الجواز فقط، ثم قال صاحبها: فأفاد أنها ملكه.
وأجاب الزمخشري عن السؤال: بأن لَا يقتضي الجمع بخلاف الجميع، وهذا قد نص عليه ابن عصفور لما ذكر أن كلا لَا يؤكد بها إلا ما [تبعض في نفسه*] إذ يقابله، قال: ولا يؤكد بها ما يستقل بمعنى الكلام بالدلالة عليه، فلا يقال: تقابل الزيدان كلاهما، إذ المفاعلة لَا تكون إلا بين اثنين، قال: بخلاف أجمع فإنها يؤكدها ذلك.
ونقل في الشرح الكبير عن أبي الحسن الأخفش، أنه أجاز أن يقال: تقاتل زيدان كلاهما فناسبا على التأكيد بالجمع بعد التأكيد.
فإن قلت: قد [فرق*] ابن عصفور بين أجمع وجميع، فأجمع لَا تقتضي الجمعية، وجميع تقتضيها، أجيب: بأن ذلك إنما هو في حالة النصب، جاء الزيدان جميعا أي مجتمعين، وأما في الرفع قد فرق بين: جاء الزيدان أجمعون، أو الجميع يصح أن ما قال الزمخشري باطل، وأن جميعا لَا تفيد الجمعية، إلا إذا انتصبت على الحال، فيبق السؤال واردا.
لكن أجاب الفخر عنه بجواب حسن، وهو إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة أو تقييد فصح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك: [الرَّجُلُ رَجُلٌ عَالِمٌ*].
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)﴾
عرفها، ونكر الحب والنخيل والأعناب؛ لأن هذه يتجدد شيئا بعد شيء فتكون للتكثير، و (الْعُيُونِ) لما كانت تجري دائما صارت كالشيء الواحد وأخر (الْعُيُونِ) مع أنها سبب في الجنات وأصل لها؛ لأنها علة [غائية*] لَا مقصودة بالذات، بل المقصود بها الجنات، وضمير ثمرة النخيل؛ لأنه اسم جمع مذكر بخلاف (الْعُيُونِ) فإنها مؤنثة أولا، لأن النخيل المراد به الشجر والأعناب إنما المقصود ثمرها فقط، فلا يصح
عود الضمير على الثمر، فيقال: ليأكلوا من فم الثمر، وأول الآية وعظ وتخويف لعموم النَّاس عوامهم وخواصهم، وهذه تذكير ونظر واستدلال لخواصهم، وأنشد أبو حيان هنا بيتا، وإنما ذكره سيبويه فى باب الضرائر.
قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي... (٣٦)﴾
اعتراض، لأنه تقدم عنها آية بذكر قدرة الله تعالى، وتأخرت عنها آية أخرى، فأتت هذه إنباء بأن فاعل ذلك مستحق للتنزيه.
وقال الفخر: وجه المناسبة أنه تقدمها (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم أَفَلا يَشكُرُونَ)، فحقهم الشكر على هذه النعم، فتركوه وزادوا في الضلال، بأن عبدوا غير الله تعالى، فأتى هذا على معنى التنزيه لله تعالى عما فعلوه، وليس في الآية تعرض لعبادتهم غير الله، بل [**وعزا] (١) فيها على عدم الشكر، ومن يشكر على قسمين: تارة يعبد الله عز وجل، وتارة يعبد غيره.
قال الفخر: واستدل بها من يقول: إن الأعمال ليست من الأرواح ولا من الأنفس، والآية اقتضت حصر المخلوقات [في*] هذين، وأجاب الفخر بالفرق بين قولك: خذ كل المال من العبيد والخدم والعروض، فهو عام مفسر بعض أفراد، وذكرها يكفي عن ذكر الباقي، انتهى، إنما ذلك فيما علم دخوله أو خروجه باتفاق، وأما المختلف فيه والمشكوك فيه، فلا بد فيه من التنصيص على دخوله أو خروجه، والأعمال مختلف فيها، فلو أريد دخولها لنص عليها، ومِن في [(مما تنبت) *]، إما للتبعيض أو لبيان الجنس.
قوله تعالى. (وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)
ليست قضية حقيقية؛ لأنه تقدم ذكر النفوس وأزواجها، هي مجهولة لَا تعلم حقيقتها، ولا قضية خارجية؛ لأن بعض المتقدم ذكره موجود في الخارج، ونحن نتصوره ولا نعلمه إذ لم [نره*]، فلم يبق إلا أن تكون بين الحقيقة وهي أخص الوصف، والخارجية الذهنية، وهي أعم الوصف فيكون بينهما، فالمراد به ما هو معلوم الوجود، ولم [نره*] كما نعلم وجود أشياء في الجنة، ولم نرها، بل رأينا نظير تلك الأشياء في الدنيا لكن لَا يتم هذا على قاعدة الزمخشري؛ لأنه يقول: إن الجنة غير مخلوقة الآن.
قوله تعالى: ﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ... (٣٧)﴾
قيل: (النَّهَارَ) زمان [مستقل*] بنفسه، وكذا (اللَّيْلُ)، فليس انسلاخ أحدهما من الآخر أولى من عكسه، أجيب: بأن مذهب أهل السنة أن الضوء ليس من طبيعة الشمس ولا من لوازمها ذهنا، وإمَّا هو أمر عادي خلقها الله تعالى عندها لَا بها. هذا
(١) النص في مفاتيح الغيب هكذا:
"وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: ٣٥] وَشُكْرُ/ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَهُمْ تَرَكُوهَا وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِالتَّرْكِ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَتَوْا بِالشِّرْكِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ وَغَيْرُهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَقَالَ أَوْ نَقُولُ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْآيَاتِ وَلَمْ يَشْكُرُوا بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَاقِلُ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أَوْ نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ الْآيَاتِ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى". اهـ (مفاتيح الغيب. ٢٦/ ٢٧٤)
مذهب أهل السنة، وإذا كان كذلك ففي الجائز أن تكون الشمس في الأرض، ويبقى ضوئها عاما في الأفق والليل على سطح الأرض، ونحن نرى الضوء بالبعد في الأفق، وكون ذلك لم يقع كذلك هو انسلاخ النهار من الليل؛ لأنه قد كان الليل وسطا وضوء النهار دائر بأفق ذلك الموضع الذي فيه الليل، وقد ذكروا في كتب العينية أن الليل يحدث من ظل الأرض حين كون قرص الشمس تحتها، وأنه شكل مستدير ضوء يرى مخروط ينتهي رأسه إلى فلك عطارد وبه يكون الكسوف، وانظر هل في الآية دليل على أن لَا واسطة بين الليل والنهار؛ خلافا لمن أثبت الفضلة؟ وانظر ما تقدم في سورة آل عمران في قوله تعالى: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ).
قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا... (٣٨)﴾
ذكر المفسرون في مستقرها أقوالا، الظاهر منها قولان:
أحدهما: أن مستقرها، يوم القيامة، والثاني: زوالها، حكاه ابن عطية؛ لأن الغاية تكون تابعة لها مخالفا لما قبلها، ويوم القيامة تتقدم فلا يكون لها جري، وكذلك حين الزوال، وأما القول بالطلوع والغروب فلا يستقيم؛ لأنها لَا تقدم ولا تزال تجري.
وقال بعضهم: معناه أن الموضع الذي تطلع منه إذا أكملت الدورة [جارية*] فذلك هو مستقرها، والدورة عندها أربع وعشرون ساعة، فإذا استكملت بين اليوم والليلة أربعا وعشرين ساعة وصلت إلى مستقرها وهو كإنهاء الدورة، وابتدأت دورة أخرى، وانظر كيف يفهم حديث أَبِي ذَرٍّ في الشمس: "حتى يؤذن لها فتسجد تحت العرش مع قواعد المسبحين"، فيحتمل أن تكون الشمس في دورتها بعرض أنها تسلمت جزءا معلوما من الشمس فتسجد حينئذ، أو تقول: إن وافق المدينة لَا إن نشأت دائرته جزءا من العرش، فعندما تقرن الشمس، وتسلمت ذلك الجزء من العرش الصامت لجميع دائرة الأفق فتسجد ولا تزال متناسبة في الفصول؛ لأن الشمس لَا تخرج عن دائرة الأفق، ألا تراه أراد أيما منطقة ذلك البرج، فإن قيل في الجواب: أنها أبدا فيها جزء [ساجد*] كما هي ابتداء طالعة على قوم، وغاربة على آخرين؛ رد بأنه ينافي الحديث؛ لأن ظاهره أنها قيل: لم تكن ساجدة، وانظر كيف يفهم طلوعها من [مغربها بانقلاب*] الفلك بها، فتطلع هي والقمر والنجوم من المغرب؟ وكيف يفهم مع أنها إذا طلعت على قوم تغرب على آخرين، فإذا طلعت من مغربها في قطر تكون في قطر آخر طالعة من مشرقها، فإن أخذنا الحديث على [عمومه*] كان تصادما بعلم الغيب، وقواعد المنجمين، إلا أن نجعله خاصا بقوم، وكيف تطلع الشمس من مغربها في الجزء أو
350
الخالدات حيث يكون ستة أشهر، والليل ستة أشهر، فيحتمل أن يكون ذلك في قومين ففي قوم تطلع على قطرين آخرين، وفي غيره تطلع على أهل القطر الآخر من المغرب، وأجيب في الأول: بأن حركة الشمس يسترها في الفلك من المغرب إلى المشرق، وحركة الفلك بعكسها من المشرق إلى المغرب، وهي تقطعه في سنة، فيمكن أن تسرع هي إذ ذاك في سيرتها حتى تسبق حركة الفلك وتضعف حركة الفلك، حتى تكون أقل من حركتها، فعند ذلك تطلع من المغرب، وهذا ما ورد في بعض الآثار، أن تلك الليلة طويلة بعد، أو نقل أبو عمرو وعثمان الصقلي عن ابن العربي الطائي: أن المراد به طلوع شمس الحياة من مغرب الأبدان، قلت: هذا لَا ينبغي اعتقاده.
وسئل الفقيه المفتي أبو عبد الله ابن السكري، كيف يتقرر الصيام بالنسبة إلى أهل الجزائر والخالدات الذين ليلهم ستة أشهر ونهارهم ستة أشهر، فقال: لعلهم لم تبلغهم الدعوة.
قال بعضهم: على الصواب أن يقال: أن الشمس لاقت جزءا من الفلك الذي هو ثلاثمائة وستون درجة، فإذا عادت إلى محاذاة ذلك الجزء فهي الدورة وبها يحسبون الليل والنهار، وكذلك لو كان زمانهم كله ليلا أو كله نهارا، واعلم أن الشمس بها [... ]. يسمى الفلك الحامل، وذلك آخر يحرك الفلك الحامل من المشرق إلى المغرب يسمى الفلك المدور، وآخر تحركه من الشمال إلى الجنوب يسمى الفلك المائل، وبه فرق الميل الكلي، وهو نقص عند أول الأزمان وهو رصد الشيخ عبد الخالق في عام أحد وسبعين وسبعمائة كحاجب ثلاث وعشرون درجة واثنان وعشرون دقيقة، وفلك آخر خارج عنها حامل لتلك الأفلاك أعلاه يسمى الأوج، وهو الذي به أوج الشمس، وأسفله يسمى الحضيض، وكل كوكب لَا بد له من أربعة أفلاك حامل ومدور ومائل وفلك الأوج، ولذلك وضع أهل العدالة يسمى ذات الخلق، واعلم أنه إذا كان بلد عرضه ستة وستون درجة؛ فالميل فيه أربعة وعشرون، فإذا كان الميل جنوبا؛ فوقت الزوال عند طلوع الشمس وبنفس طلوعها تغرب، وإن كان شماليا؛ كان ارتفاع الزوال خمسين، أو نحوه، فكان النهار طويلا جدا، وإذا تماثل عرض البلدين، واختلف طولهما فأكثرهما طولا تغرب والآخر، وإن اختلف الجمع، فإن كان أحدهما أقل عرضا وأكثر طولا فهو جنوب كمكة، وتونس، وإن كان أكثر عرضا وأقل طولا فهو شمالا.
351
قال [... ] في زيجه: انظر حيث تكون مكة في سمت الأرجل ما هي القبلة لأهل ذلك الموضع، والظاهر أنه الخط الخارج من سمت أرجلهم وتصير جهاتهم كلها قبلة، كمن صلى في الكعبة نفسها.
قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... (٣٩)﴾
أي قدرنا سيره منازلا.
الزمخشري: [ينزل*] منزلة كل ليلة.
ابن عطية: يقطع بعض المنزلة، انتهى.
والصواب: أنه تارة يسرع سيره ويكثره، وتارة يقل، وانتهاء سيره في اليوم خمس عشرة درجة ودقائق؛ أقل سيره إحدى عشرة درجة ودقائق، وذلك بحسب حصته، والمنازل منها كبير وصغير؛ ولكنهم جعلوا لكل منزلة ثلاثة عشر درجة، فإذا سار في اليوم خمس عشر ودقائق يقطع منزلة وسدس الأخرى بتقريب.
قوله تعالى: (كَالْعُرْجُونِ).
الزمخشري: قرئ العِرجون [كالفِرجون*] انتهى، هي جريدة يمشط بها شعر البهيمة.
الزمخشري: لو قال: كل مملوك لي قديم حر، فإنه يعتق عليه؟ قاله عنده بسنة، انتهى، هذا مذهب أبي حنيفة، لأن الزمخشري حنفي، وكلام الفخر فيها يرد على الزمخشري بالفرق بين التبتيل ويريد الوصفية يرجع فيها إلى عرف الاستعمال، فإن لم يوجد عرف نظر فناسب الاجتهاد.
قال شيخنا في مذهبنا: فيها نص إلا أنه يرجع فيها إلى الفرق، كما قلنا في الغاية في قوله تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ)، راجعة إلى سير القمر لَا للتقدير، لأن تقدير الله تعالى لَا غاية له، ولا انقضاء له بوجه.
قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا... (٤٠)
أي يمكن، وهو الإمكان المادي لَا العقلي؛ لأن الله تعالى أراد عدم إدراكها القمر وقدره في الأزل، وهذا هنا مجاز، لأن هذا إنما تقرر فيمن يعقل.
قوله تعالى: (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ).
عبر في الأول بالفعل وبالثاني بالاسم، إشارة إلى أن القمر أسرع سيرا من الشمس، فكأن السبقية والإدراك ملازما له فنفى عنه الملازمة، والشمس أقل سيرا من القمر، فنفى الإدراك عنها بالفعل المقتضي للتجرد.
قيل: نفى أولا إدراك الشمس للقمر، ونفى ثانيا سبقية الليل للنهار، ولم ينف سبقية القمر للشمس، مع أن هذا هو المطابق للأول؟ أجيب: بأنه إذا كان أحد الشيئين سابقا على الآخر؛ فتعلق طلب المتأخر بينهما، بأن يلحق بالسابق، أكد من تعلق طلب السابق بأن يزيد في مسافة سبقيته مسافة أخرى؛ فلذلك لم يقل: ولا الليل سابق الشمس، ومعنى السبقية والإدراك في هذا أن فلك الشمس غير فلك القمر، فلا بد جعل أحدهما على الآخر، ولا يسبق أحدهما الآخر في جريه؛ فالمراد أن الشمس لا تزداد في جريها حتى تصير تقطع الفلك في أقل من عام، والقمر لَا يزداد جريه حتى يصير يقطع الفلك في أقل من شهر.
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ... (٤١)﴾
قال بعضهم: فيه ضمير تقديره وآية هي لهم، لأن الابتداء بالنكرة لَا يصح.
فتعقبه أبو حيان: بأنه إضمار ما لَا فائدة فيه.
ونص ابن عصفور في زيد قائم؛ أنه لَا يجوز أن تقول: التقدير زيد هو قائم إذ لا فائدة فيه، وهو خلاف ما يقول المنطقيون، فالرابطة أنها لابد من تقديرها.
ابن هشام: [الْجِهَة الْعَاشِرَة*] إخراج الكلام على خلاف الأصل، أو على خلاف الظاهر [لغير مُقْتَض كَقَوْل مكي فِي ﴿تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي﴾ الْآيَة إِن الْكَاف نعت لمصدر مَحْذُوف أَي إبطالا كَالَّذي وَيلْزمهُ أَن يقدر إبطالا كإبطال إِنْفَاق الَّذِي ينْفق وَالْوَجْه أَن يكون كَالَّذي حَالا من الْوَاو أَي لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ مشبهين الَّذِي ينْفق فَهَذَا الْوَجْه لَا حذف فِيهِ*]، [وقول*] بعض العصريين في قول ابن الحاجب: الكلمة هي لفظ [أَصله الْكَلِمَة هِيَ لفظ*].
ومثله قول ابن عصفور في شرح الجمل: إنه يجوز في زيد هو [الفاصل أن [يحذف*] مع قوله وقول غيره: إنه يجوز حذف [العائد*] [فِي نَحْو جَاءَ*] الذي هو في الدار]، لأنه لَا دليل حينئذ عليه.
قوله تعالى: (أَنَّا حَمَلْنَا).
يؤخذ جواز أن يقال: إن الله حمل فلانا، ومثله في الحديث: "لم أحملكم عليه، ولكن الله حملكم"، وامتنع النووي رحمه الله تعالى من إطلاق ذلك.
قال ابن الخطيبفوقَ الماء إنما هو بالفاعل المختار*].
قوله تعالى: ﴿مِنْ مِ: وفي الآية حجة على [الطبائعيين*] القائلين: بأن الجرم الثقيل بطبعه [ينزل*] إلى أسفل فترى [السفن*] ثقيلا، وهو بطبعه يصعد إلى فوق (١)، انتهى، هذا أمر قد شاهدوه، ولهم أن يجيبوا عنه بأن ذلك مع عدم [التعارض*]، وهنا عارض طبع الثقل طبع الهوى، [رُدَّ بإثباته، فَتَعَيَّنَ أنّ حفظَ الثّقيل ثْلِهِ... (٤٢)﴾
(مِن) لبيان الجنس.
(١) النص في مفاتيح الغيب هكذا:
"قَوْلُهُ: الْمَشْحُونِ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ أَنَّ الْآدَمِيَّ يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ وَيَغْرَقُ، فَحَمْلُهُ فِي الْفُلْكِ وَاقِعٌ بِقُدْرَتِهِ، لَكِنَّ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ مَنْ يَقُولُ الْخَفِيفُ لَا يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ الْخَفِيفَ يَطْلُبُ جِهَةَ فَوْقُ فَقَالَ: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَثْقَلُ مِنَ الثِّقَالِ الَّتِي تَرْسُبُ، وَمَعَ هَذَا حَمَلَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِيهِ مَعَ ثِقَلِهِ، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الْخَلَاءِ نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى جَوَازِ الْخَلَاءِ فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِذَنْ لَيْسَ حِفْظُ الثَّقِيلِ فَوْقَ الْمَاءِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ". اهـ (مفاتيح الغيب. ٢٦/ ٢٨٤)
قوله تعالى: ﴿فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ... (٤٣)﴾
أي لَا مغيث ولا مستغيث وهو أبلغ؛ أي لم يبق لهم قدرة على الاستغاثة.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)﴾
هذا استثناء يعقب جملا، وهو تفرقهم (فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ)، ثلاث جمل.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)﴾
أجمعوا على أن التوبة من الكفر [مقطوع*] بقبولها، فالترجي ليس على بابه، وأيضا فهو من الله تعالى [واجب*] (١).
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧)﴾
إما من كلام الله أو من كلامهم.
قوله تعالى: ﴿الْوَعْدُ... (٤٨)﴾
جعله ابن عطية بمعنى الوعيد، ويحتمل كونه على بابه على سبيل التهكم بهم. أي متى يحل بكم الخير الذي أنتم تنتظرونه من هلاكنا ونجاتكم وعذابنا ونعيمكم.
قوله تعالى: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ... (٥٠)﴾
الفاء للتسبيب، وهذا تتمة وتكميل لما قبلها؛ لأنه لَا يلزم من عجزهم بالصحة عن الخصومة عجزهم بها عن الوصية لأنها أخف.
قوله تعالى: ﴿الْأَرَائِكِ... (٥٦)﴾
الزمخشري: جمع أريكة، [وهو السرير في الحجلة*]، [وقيل: الفراش فيها*].
الطيبي: هي البيت المزينة؛ كبيت العروس انتهى.
الذي ذكره الثعلبي في فقه اللغة في الألفاظ الغريبة، قال: الكأس لَا يسمى كأسا، إلا إذا كان فيه الشراب، والمائدة لَا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها الطعام، وإلا فهو خوان، [والأريكة*] لَا تسمى كذلك إلا إذا كانت عليها الحجلة، فدل على أن الحجلة هي [الفُرُش*].
قوله تعالى: ﴿وَامْتَازُوا... (٥٩)﴾
الأصل تقدم النداء على الأمر، لكنه قدم الأمر هنا؛ لأن في النداء إقبالا على المنادى فبدأ بالأمر؛ لأن المقام مقام خزي لهم، وتبكيت وإعراض عنهم.
(١) في المطبوع النص هكذا:
"فهو من الله تعالى راجع ورسوله فهو واجب". اهـ
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ... (٦٠)﴾
بدأ بالاستفهام، إما لأن له صدر الكلام أو لما ذكر قبل، وقال (يَا بَنِي آدَمَ)، ولم يقل: يا أيها النَّاس، إما إشارة إلى يوم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ*]، أو لدخولهم في دعوة آدم عليه السلام إلى الإيمان.
وقال ابن عطية والفخر: العهد إما يوم [أَلَسْتُ*] أو على ألسنة الرسل.
قال الزمخشري: [ما ركزه فيهم من أدلة العقل*] يناسبهم على وجوب النظر عقلا.
قوله تعالى: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ).
إما حقيقة، لأن الشيطان في الأصنام، أو بمجاز باعتبار قبول وسوسته، وقدم النهي على الأمر، لأن اجتناب المنهي عنه [أولى من*] فعل المأمور به.
قوله تعالى: ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ... (٦٥)﴾
نسب الكلام إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل، وفي سورة النور (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ)، وفي فصلت (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ)، انظر الفخر، وأضاف الكلام إليه دون الشهادة مع أنها أشرف، فلم يقل: وشهد لنا، أو عندنا، وتقدم كلام الأيدي على شهادة الأرجل، وجواب الأول: أنه لو قال: لنا؛ لتوهم النفع بالشهادة، ولو قال: عندنا؛ لطال الكلام دون فائدة، وجواب الثاني: أن الأيدي أشرف من الأرجل، ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل؛ أي: تكلمنا أيديهم وتشهد، وتكلمنا أرجلهم وتشهد.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا... (٦٦)﴾
فيه سؤال، وهو أن [الجملة الفعلية*] إذا أريد أن يرتب عليها مستبعد الوقوع، فإنما يؤتى فيه بمسببها لَا بنقيض سببها، فتقول: زيد فقير، فكيف يتصرف، وزيد عاجز فكيف يجاهد، ولا تقول: زيد فقير فكيف يستغني، ولا زيد عاجز فكيف يقدر وزاد هذا في الآية إن كان يقال: فأنى تبصرون، وما هو إلا كالتكرار؟ والجواب: أن الطمس على الأعين سبب في عدم الإبصار، وعدم الإبصار سبب في عدم الاهتداء، فقوله تعالى: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، سبب عن ما ترتب هو عليه، وهو الطمس، وهو منطو على سبب في ضمنه، وهو الاهتداء؛ لكن [يبقى*] السؤال لم عدل عن ترتيب المسبب الثاني، وهو الاهتداء على الطمس إلى المسبب الأول؟ فيجاب عنه: بأنه لو قيل: فأنى يهتدون؛ لتوهم أن لهم أبصارا ضعفا لم توصلهم إلى الاهتداء؛ فأفاد هذا
أنهم لَا يبصرون شيئا ألبتَّة لَا قليلا ولا كثيرا؛ فيستلزم أنهم لَا يهتدون ألبتَّة من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ... (٦٧)﴾
يحتمل حقيقة فلا يستطيعون زوالا عن ذلك المسخ، وانتقالا إلى حالهم الأول، وأما المسخ بأنهم أقعدوا ومنعوا عن القيام؛ فلا يستطيعون مضيا ولا رجوعا إلى حالتهم الأولى بوجه.
فإن قلت: قد قال السكاكي: في مفعول شاء أنه يحذف ولا يذكر إلا إذا كان مستغربا لقوله:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته
وهذا مستغرب فهل ذكره؟ فالجواب: أن الفاعل هو الله تعالى، ولا يستغرب إلا ما ينسب إلى المخلوق، وأما الخالق فليس شيء عنده بغريب أصلا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ... (٦٩)﴾
قيل: معناه وما ينبغي له أن يقوله، وقد ورد بأنه قد قال: "أنا النبي لَا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وورد في القرآن (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)، (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى) الآية، وأجيب: بأن ذلك غير مقصود الوزن والتقفية، وشرط كونه شعرا القصد لذلك.
قال شيخنا: وهذا مما ينازع فيه الخصم، فنقول لعله قصد ذلك، وإنما الجواب: أن المعنى وما ينبغي له تعلمه، فهو وإن قاله فإنما قاله اتفاقيا من غير تعلم، وهذا مشاهد من أرباب الصنائع، أن الرامي قد يصيب الغرض في ابتداء تعلمه اتفاقيا.
كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد سئل عن عجوز باعت واشترت على سبيل الصواب، هل يعطيها مالها، أم لَا؟ فقال: رب رمية من غير رام.
وكان الشيخ ابن عبد السلام يقول: المعنى وما ينبغي له أن [يتعاطى*] ما لَا علمه الله.
قال شيخنا: وإما بلغ من الشعر خوفا أن يظن أن القرآن ما اشتمل عليه من البلاغة من صاغه، وإنما المذموم الإكثار من الشعر، وقد ذكر المبرد في أول كتابه الكامل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: [علّموا أولادكم العوم والرماية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، وروّوهم ما يجمل من الشعر*]
قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا... (٧٠)﴾
أي قابلا للحياة التي هي الإيمان بالفعل لَا تحصيل الحاصل.
قوله تعالى: (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ).
أي الوعد.
قوله تعالى: ﴿أَيْدِينَا... (٧١)﴾
جمعها هنا وأفردها في آية أخرى، إشارة إلى أن المراد مجازها، وهو القدرة لا حقيقتها حسبما تقدر في أصول الدين.
قوله تعالى: ﴿رَكُوبُهُمْ... (٧٢)﴾
عبر عن الركوب بالاسم، لأنه دائم، وعن الأكل بالفعل، لأنه غير دائم؛ لأنهم قد يأكلون من غيرها، وأما الركوب فلا يركبون إلا من الأنعام المذكورة.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا... (٧٤)﴾
إخبار عنهم أنهم زادوا مع عدم شكرهم عبادتهم غير الله.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ... (٧٥)﴾
مصدر مضاف إما للفاعل أو للمفعول، والضمير عائد عليهم أو على الأصنام؛ أي لا يستطيعون هم نصر آلهتهم، أو أن آلهتهم لَا يستطيعون نصرهم؛ هذا على أنه مضاف للمفعول، وتقدير إضافته للفاعل؛ أي لَا تستطيع آلهتهم النصر الذي نسبوه إليهم في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ).
قوله تعالى: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ... (٧٦)﴾
ونسبة هذا الفعل إلى القول مجاز.
قوله تعالى: (إِنَّا نَعْلَمُ).
قرئ بكسر إن وفتحها.
وأورد الزمخشري: سؤالا على قراءة الفتح، وهو لزوم الكفر لاقتضائه أنه عليه الصلاة والسلام حزن لأجل علم الله تعالى بسرهم وعلانيتهم، وأجاب: بأن إنا بدل من قولهم، أو تعليل للأول، فيكون تعليلا لنفي الحزن لَا نفي حزن معلل، قيل: أو يجاب: بأنه تعليل باعتبار لازمه؛ لأن لازم علم الله تعالى سرهم وعلانيتهم، مدخلا في الحزن أم لَا؟ فإن لم يكن له مدخل فيه فباطل، لأنه يلزم عليه اعتبار لازم اللفظ دون ملزومه، ولا قائل إذ لَا يصح استعمال اللفظ دون ملزومه بوجه، وإن كان له مدخل لزم أنه يحزن بعلم الله تعالى وهو كفر.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ... (٧٧)﴾
المراد إما الجنس، أو أجل معين، ونرجحه.
قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ... (٧٨)﴾
والخلق إن أريد به الكامل حسا ومعنى وذاتا [وصفة*]؛ [فالمنشآت*] حقيقة، وإن أريد به لمجرد تكوينه من النطفة [فمجاز*]؛ لأنه لَا يصير خصما إلا بعد ذلك بزمان طويل، وإذا الفجائية معناها الحال لَا الاستقبال، وهي عند الزجاج ظرف زمان.
واختاره الزمخشري، وزعم أن عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، قال في قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)، أي [فاجأكم*] الخروج في ذلك الوقت ولا يعرف هذا لغيره؛ وإنما [ناصب*] عندهم الخبر الملفوظ به، أو المقدر في نحو: فإذا الأسد، أي حاضر، وإن قدرت أنها الخبر فعاملها مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به، وهي عند الأخفش [**يعرف]، واختاره ابن مالك، وعند المبرد ظرف مكان.
واختاره ابن عصفور، وفي الآية سؤال، وهو أن سبب نزولها أن بعض الكفار أنكر الإعادة ورفع عظما رميما في يده، وقال: محال أن يرجع هذا كما كان، فما أنكر واستبعد، إلا إيجاد المعدوم، فهلا قيل (أَوَلَم يَرَ الإِنْسَانُ أَنا خَلَقنَاهُ)، بعد أن لم يكن، كما قال تعالى في سورة مريم (وَلَم يَكُ شيئًا)؟ وجوابه: أنه قصد الاستدلال على الإيجاد عن عدم سابق مع التعرض لتحقير المعاند في ذلك، وأن أصله نطفة فأنتجت الآية صحة إمكان الإعادة؛ وهذا دليل على أنهم أنكروا مكانها وصحتها لَا وقوعها بالفعل، وهو كفر، [وهذا لنفيهم عن*] الله تعالى صفة القدرة على ذلك.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا... (٧٩)﴾
قال أبو الإصبغ: المذهب الكلامي الاحتجاج على المقصود بحجة عقلية؛ لأنه من علم الكلام، وهو إثبات أصول الدين بالبراهين ونسبت تسميته إلى الجاحظ.
وزعم ابن المعز أنه لَا يؤخذ في القرآن، وهو محشو به، ومنه قوله تعالى: (وَحَاجَّهُ قَومُهُ)، إلى قوله تعالى: (وَتِلكَ حُجتُنَا).
وقوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ... (٨١)
وقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، وقوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وتقدير القياس من [الشكل الأول*] أن يقال: الحادث منتقلٌ من حالة إلى ضدها، وكل منتقل من حالة إلى ضدها يمكن إيجاده بعد إعدامه، فالحادث يمكن إعادته الصغرى ضرورية، وبيان الكبرى أن أصل وجود الحادث من عدم وبأمر جزئي، وهو خروج نار الزناد من الشجر الأخضر الرطب، وليس هذا [بقياس تمثيلي*]؛ لأنه لَا ينتج إلا الظن، وهذا قطعي ولعدم شروطه هنا.
قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي).
هو انتقال بين الدليل بما يتعلق بنفس المخاطب إلى دليل خارج عنه، وانتقال من دليل جلي إلى أجلى منه؛ وهو الأرتب في الاستدلال، وتقرير المعطوف عليه اتصف بالعجز [**وليس الذي]، وقال: [** (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ)، فخاطبهم على سبيل التكلم]، وهنا على سبيل الغيبة، ولم يقل: أولسنا، وجوابه: أن الخطاب [لجزء*] معين، وهم كفار قريش والتكلم مناسب [للجزء*]، والخطاب هنا لجميع النَّاس فناسب الغيبة.
فإِن قلت: هلا قيل: قادر على أن يعيدهم لأنهم إنما أنكروا إيجاده المعدوم لإيجاد مثله، فالجواب: أنه تقرر في علم أصول الدين أن المثل مساو لمماثله في الحكم؛ فإذا استويا في الحكم فالقادر على المثل قادر على تماثله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ... (٨٢)﴾
اقتضت (إنما) حصر الأمر في مضمون القضية الشرطية لَا حصر الإرادة وحدها، والخطاب بـ (كن) إما للمعدوم على تقدير وجوده، بناء على أن شيئا يطلق على المعدوم، أو خوطب حالة إيجاده لَا قبل؛ لأنه معدوم، ولا بعد لأنه تحصيل الحاصل.
قوله تعالى: ﴿مَلَكُوتُ... (٨٣)﴾
قال ناصر الدين البيضاوي في خطبة كتابه: "المطلع على مشاهدات الملك ومغيبات الملكوت": فجعل الملك راجعا إلى العلم بظواهر الأمور، والملكوت راجعا إلى العلم بخفياتها.
وقال الزمخشري: الملكوت هو الملك العظيم.
وفرق القرافي بينهما بما أشار إليه البيضاوي.
* * *
Icon