تفسير سورة غافر

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة غافر من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

الدال على ثبوت عموم الأسماء والصفات لتلك الذات المؤثرة بها آثارا بديعة لا تعد ولا تحصى الرَّحِيمِ الدال على رجوع الكل إليها رجوع الاظلال الى الأضواء
[الآيات]
حم يا حامل الوحى ويا حاميه ويا ماحي الغير والسوى عن لوح الضمير ومانعه مطلقا
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك وشأنك مِنَ اللَّهِ اى من الذات المعبر بهذا الاسم الجامع المحيط بعموم الأسماء والصفات الْعَزِيزِ المنيع الغالب ساحة عز حضوره عن ان يحوم حول وحيه شائبة الريب والتخمين الْعَلِيمِ الذي لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما جرى عليه سابق قضائه
غافِرِ الذَّنْبِ اى ساتر ذنوب الأنانيات الظاهرة من الهويات الحاصلة من انصباغ التعينات العدمية بصبغ الأسماء والصفات المنبسطة وَقابِلِ التَّوْبِ اى التوبة والرجوع على وجه الإخلاص والندم على اثبات الوجود لغيره سبحانه شَدِيدِ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته باسناد الحوادث الكائنة الى نفسه والى مثله في الحدوث والمخلوقية ذِي الطَّوْلِ والغنى الذاتي عن توحيد الموحد والحاد المشرك الملحد لأنه في ذاته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولا موجود سواه يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى مرجع الكل اليه ورجوعه نحوه سواء وحده الموحدون وألحد في شأنه الملحدون المشركون أم لا. ثم قال سبحانه توضيحا وتصريحا لما علم ضمنا
ما يُجادِلُ ويكابر فِي آياتِ اللَّهِ وفي شأن دلائل وحدته واستقلاله في الآثار المترتبة على شئونه وتجلياته إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا ظهور شمس الذات وتحققها في صفحات الكائنات بغيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ اى لا يغررك يا أكمل الرسل امهالنا إياهم يتقلبون في بلاد الإمكان وبقاع الهيولى والأركان عن امهالنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم بالطرد الى هاوية العدم وزاوية الخمول وان كذبوك يا أكمل الرسل في دعوتك وشأنك وعاندوا معك في برهانك فاصبر على أذاهم وتذكر كيف
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا وكيف صبر هو على اذياتهم مدة مديدة حتى ظفر عليهم حين ظهر أمرنا وجرى حكمنا بأخذهم واستئصالهم بالمرة وَانظر ايضا كيف كذبت الْأَحْزابُ والأمم الكثيرة مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد قوم نوح رسلهم المبعوثين إليهم للهداية والإرشاد وَبالجملة قد هَمَّتْ وقصدت كُلُّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية بِرَسُولِهِمْ المرسل إليهم لِيَأْخُذُوهُ ويأسروه بل ليقتلوه او يستحقروه ويهينوه وَجادَلُوا أولئك الهالكون المنهمكون في تيه الكبر والعناد مع الأنبياء والرسل بِالْباطِلِ الزاهق الزائل في نفسه لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع فَأَخَذْتُهُمْ واستأصلتهم بعد ما أمهلتهم زمانا يعمهون في طغيانهم ويترددون في بنيانهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ إياهم حين حل عليهم ما حل من العذاب
وَبالجملة كَذلِكَ ومثل ذلك قد حَقَّتْ ثبتت ونزلت كَلِمَةُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حضرة علمه ولوح قضائه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا اى على عموم الكفرة الجهلة المعاندين بك وبدينك وكتابك ايضا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ اى ملازموها وملاصقوها ابد الآباد ولا نجاة لهم منها فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون. ثم أشار سبحانه الى حث المؤمنين الموحدين على مواظبة الايمان ومداومة الشكر على الانعام فقال
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ألا وهم الكروبيّون الذين سبقوا بحمل العرش الإلهي وحفظ ما انعكس فيهم من تجلياته الجمالية والجلالية بدوام المراقبة والمطالعة
بوجهه الكريم وَكذا مَنْ حَوْلَهُ من الملائكة الذين يطوفون حول العرش ويقتفون اثر أولئك الحملة السابقين كلهم سابقا ولا حقا يُسَبِّحُونَ وينزهون الحق عن سمات الحدوث والإمكان ويقدسونه عن وصمة السهو والنسيان إذ كمال ما يدرك المدرك منه سبحانه انما هو التسبيح والتقديس والا فالامر أعز وأعلى من ان يحيط به الآراء ويحوم حول سرادقات عزه وعلائه الأهواء ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما أولاهم نعمة التوجه اليه والتحنن نحوه وَبالجملة يُؤْمِنُونَ بِهِ سبحانه وبوحدة ذاته ويعتقدون بأوصافه العليا وأسمائه الحسنى وان عجزوا عن درك كنه ذاته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا اى يطلبون الستر والعفو منه سبحانه لذنوب إخوانهم الذين آمنوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته مثل ايمانهم سواء كانوا سماويين او ارضيين مناجين مع ربهم حين استغفارهم قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة تسبيحك وتقديسك ومداومة حمدك وثنائك أنت بذاتك وبمقتضى كرمك وجودك قد وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً اى وسعت رحمتك وأحاطت حضرة علمك على كل ما لمع عليه بروق تجلياتك وشروق شمس ذاتك فَاغْفِرْ بسعة رحمتك وجودك لِلَّذِينَ تابُوا اى عموم عبادك الذين رجعوا وأنابوا نحو بابك نادمين وامح عن عيون بصائرهم سدل رؤية الغير والسوى في جنب جنابك وَمع رجوعهم وانابتهم نحوك اتَّبَعُوا بالعزيمة الصادقة الخالصة حسب حولك وقوتك سَبِيلَكَ الذي قد أرشدتهم اليه وهديتهم نحوه بوحيك على رسلك وَقِهِمْ بلطفك واحفظهم بسعة رحمتك وجودك عَذابَ الْجَحِيمِ المعد لأصحاب الخذلان والخسران
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ بفضلك ولطفك جَنَّاتِ عَدْنٍ اى منزهات العلم والعين والحق الَّتِي وَعَدْتَهُمْ في كتبك بعموم ارباب العناية من عبادك وَادخل ايضا مَنْ صَلَحَ من عندك بفيضان جودك وإحسانك مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ التي قد تناسلت منهم على فطرة التوحيد وحلية الايمان والعرفان إِنَّكَ بذاتك وأسمائك وصفاتك أَنْتَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضورك عن ان يحوم حوله شائبة وهم احد من مظاهرك ومصنوعاتك الْحَكِيمُ المتقن في عموم افعالك الصادرة منك على كمال الاحكام والإتقان
وَقِهِمُ بمقتضى حكمتك المتقنة السَّيِّئاتِ عن مطلق الجرائم والآثام المستتبعة لإدخالهم الى دركات النيران وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ اى ومن تحفظه بمقتضى لطفك وتوفيقك عن المعاصي في النشأة الاولى فَقَدْ رَحِمْتَهُ البتة في النشأة الاخرى وَذلِكَ اى وقايتك وحفظك إياهم عن اسباب الخذلان والحرمان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم العميم واللطف الجسيم. ثم أشار سبحانه الى تفضيح من كفر بالله وكذب بما نزل من عنده من الأوامر والنواهي الجارية بمقتضى وحيه على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الاولى فقال
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا بوحدة ذاته وسريان هويته الوحدانية الذاتية على جميع مظاهر الكائنات حسب شئون الأسماء والصفات بان أشركوا فيه سبحانه واثبتوا وجود الغير وادعوا ترتب الآثار عليه يُنادَوْنَ في الطامة الكبرى والنشأة الاخرى حين ظهر الحق واستقر على مقر العز والتمكين بكمال الاستقلال والاستحقاق وانقهر الباطل الزاهق الزائل واضمحل التلوين والتخمين لَمَقْتُ اللَّهِ اى طرده وتحريمه وتخذيله لكم اليوم أَكْبَرُ واقظع مِنْ مَقْتِكُمْ وتخذيلكم وتحريمكم أَنْفُسَكُمْ عن موائد لطفه وإحسانه سبحانه وقت إِذْ تُدْعَوْنَ أنتم بألسنة الأنبياء والرسل باذن الله ووحيه إِلَى الْإِيمانِ به وبتوحيده
فَتَكْفُرُونَ أنتم بالله حينئذ وتسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتكم الباطلة جهلا وعنادا بل تشركون له في الألوهية وتعبدون لغيره كعبادته سبحانه وبعد ما سمعوا من النداء الهائل المهول
قالُوا بألسنة استعداداتهم متحسرين متضرعين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة معرفتك وتوحيدك فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك وقد ظهر لنا اليوم حقية ما ورد علينا من قبل لكن بعد ما قد أَمَتَّنَا وافيتنا في هويتك اثْنَتَيْنِ مرة في النشأة الاولى بانقضاء الأجل المقدر من عندك ومرة في النشأة الاخرى بعد النفخة الاولى وَكذا قد أَحْيَيْتَنَا وابقيتنا ببقائك مرتين اثْنَتَيْنِ مرة عند حشرنا من أجداث طبائعنا ومرة بعد النفخة الثانية للعرض والجزاء وبعد ما قد لاح علينا من دلائل توحيدك وكمال قدرتك وقوتك ما لاح فَاعْتَرَفْنا الآن بِذُنُوبِنا التي قد صدرت عنا من غاية غفلتنا ونهاية جهلنا بك وبقدرتك ووحدة ذاتك واستقلالك في عموم آثارك الصادرة عنك بالإرادة والاختيار وبالجملة قد صدر عنا ما صدر وقد وقع ما وقع فَهَلْ يبقى لنا اليوم مجال إِلى خُرُوجٍ مِنْ عذابك الذي أعددت لنا في سابق قضائك بمقتضى عدلك حسب جرائمنا وآثامنا من سَبِيلٍ موصل الى الخلاص والنجاة منه ثم بعد ما تضرعوا من شدة هولهم وفظاعة أمرهم ما تضرعوا نودوا من وراء سرادقات القهر والجلال
ذلِكُمْ اى العذاب الذي أنتم فيه اليوم ايها الضالون بِأَنَّهُ اى بسبب انه إِذا دُعِيَ وذكر اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عندكم وَحْدَهُ اى على صرافة وحدته واستغنائه عن العالم وما فيه قد كَفَرْتُمْ به وانكرتم وجوده وبكمال أوصافه وأسمائه الذاتية وكذبتم رسله المبعوثين إليكم للتبليغ والتبيين وَقد كنتم أنتم من شدة بغيكم وعنادكم إِنْ يُشْرَكْ بِهِ ويثبت له شركاء دونه ظلما وزورا تُؤْمِنُوا وتقروا البتة بالشركاء وتعتقدوا وجودها وتصدقوا من تفوه بها فَالْحُكْمُ المحكم والقضاء المحتم المبرم اليوم ثابت لِلَّهِ المنزه ذاته عن ان يتردد في وحدته فكيف ان يشرك به الْعَلِيِّ الغنى شأنه عن ايمان المؤمن وكفر الكافر الْكَبِيرِ المتعالي وحدة ذاته عن ان يحوم حوله اقدام الإقرار والإنكار وكيف تنكرون سبحانه وتشركون معه غيره ايها المفسدون المفرطون مع انه سبحانه
هُوَ الله الكامل في الألوهية والربوبية الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المربية لأشباحكم من لدنه رِزْقاً صوريا ومعنويا تتميما لتربيتكم وتكميلكم وَما يَتَذَكَّرُ ويتعظ منكم بآياته إِلَّا مَنْ يُنِيبُ اليه ويرجع نحوه طالبا الترقي من حضيض التقليد والتخمين الى ذروة التحقيق واليقين وإذ سمعتم كمال تربيته وتكميله سبحانه
فَادْعُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد وتوجهوا نحوه واعبدوه حق عبادته ايها المكلفون بمعرفته وتوحيده حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى حاصرين مخصصين له الإطاعة والانقياد بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ المكابرون إطاعتكم إياه ورجوعكم اليه هذا على وجه الإخلاص والاختصاص وكيف لا يدعون ولا يعبدون له سبحانه مع انه هو في ذاته
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يعنى درجات قربه ووصوله رفيعة وساحة عز حضوره منيعة لا يسع لكل قاصد ان يحوم حولها الا بتوفيق منه سبحانه وجذب من جانبه ذُو الْعَرْشِ العظيم إذ لا ينحصر مقر استيلائه وظهوره بمظهر دون مظهر ومجلى دون مجلى بل له مجالي ما شاء الله وكيف لا وهو سبحانه بمقتضى تجليه الجمالي يُلْقِي الرُّوحَ على وجه الامانة ويمد ظلال أوصافه
وعكوس أسمائه مِنْ عالم أَمْرِهِ بمقتضى حبه الذاتي عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى اى على استعدادات مظاهره المستظلين تحت ظلال أسمائه وصفاته الممدودة المنبسطة عليهم وبعد القائه ومده إياهم قد كلفهم بما كلفهم من الأوامر والنواهي المصححة للعبودية اللازمة للالوهية والربوبية وانما كلفهم بما كلفهم لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ اى ليخوفهم ويحذرهم عن خجالة زمان الوصول والرجوع الى ربهم في النشأة الاخرى والطامة الكبرى التي تردّ فيها الأمانات الى أهلها على وجهها إذ هو
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون عن أجداث اجسادهم منخلعون عن خلعة تعيناتهم راجعون الى الله جميعا بأرواحهم محشورون عنده معروضون عليه بحيث لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ المحيط بهم مِنْهُمْ شَيْءٌ لا من أعيانهم وذواتهم ولا من أعمالهم وأحوالهم ونياتهم وبعد ما قد برزوا لله ورجعوا نحوه صائرين اليه فانين فيه قيل حينئذ من قبل الحق بعد فناء الكل فيه إظهارا لكمال قدرته واستقلاله في حوله وقوته وسطوة سلطنته وبسطته حسب وحدته لِمَنِ الْمُلْكُ اى ملك الوجود والتحقق والثبوت فأجيب ايضا من قبله بعد ما تحقق ان الْيَوْمَ لا موجود فيه سواه ولا شيء غيره حتى يجيب لِلَّهِ الْواحِدِ الأحد من كل الوجوه الْقَهَّارِ المعدم المحيّاء لنقوش السوى والأغيار وعكوس عموم الاظلال والأمثال عن دفتر الوجود ومشهد الشهود وبعد ما قد استقر واستوى سبحانه على الملك المطلق بالأصالة والاستحقاق وعلى عروش عموم ما قد كان ويكون في أزل الآزال وابد الآباد أشار الى سرائر ما ظهر منه من الأوامر والنواهي في النشأة الاولى فقال
الْيَوْمَ اى يوم الجزاء والنشأة الاخرى تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ اى طبق ما كسبت واقترفت في النشأة الاولى التي هي نشأة التكليف والاختبار بلا ازدياد عليه ولا تنقيص عنه إذ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ اى يوم الجزاء لأنه انما وضع لتظهر فيه العدالة الإلهية والقسط الحقيقي بل تجزى فيه كل من النفوس حسب ما صدر عنها خيرا وشرا نفعا وضرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما ظهر وبطن من احوال عباده سَرِيعُ الْحِسابِ عليهم بلا فترة وتلبس إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يطرأ عليه سهو ونسيان
وَبالجملة أَنْذِرْهُمْ وحذرهم يا أكمل الرسل يعنى عموم المكلفين يَوْمَ الْآزِفَةِ اى القرب والمشارفة على العذاب الأبدي حين احضروا على شفير جهنم للطرح فيها إِذِ الْقُلُوبُ اى قلوب أولئك المحضرين ترتفع وتعلو حينئذ لَدَى الْحَناجِرِ يعنى تلتصق يومئذ قلوبهم بحلاقيمهم من شدة هولهم واضطرابهم وقد كانوا حينئذ كاظِمِينَ مملوين من الكآبة والحزن المفرط وانواع الغموم والخذلان وبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المفسدين المسرفين حينئذ مِنْ حَمِيمٍ قريب قرين يدركهم ويتولى أمرهم ويسعى في استخلاصهم وَلا شَفِيعٍ لهم يُطاعُ اى يسمع شفاعته لأجلهم ويقبل منه مع انه سبحانه
يَعْلَمُ منهم بعلمه الحضوري خائِنَةَ الْأَعْيُنِ اى خيانتهم التي يتغامزون بعيونهم نحو محارم الله بلا خيانة صدرت عنهم ظاهرا فكيف بما أتوا بها جهرا وعلانية وَبالجملة يعلم سبحانه منهم عموم ما تُخْفِي الصُّدُورُ اى صدورهم من ميل الشهوات المحرمة بلا مباشرة الآلات
وَبالجملة اللَّهُ المطلع بظواهرهم وضمائرهم يَقْضِي ويحكم بهم ويجازى عليهم بمقتضى علمه وخبرته من أعمالهم وأحوالهم بِالْحَقِّ على الوجه الأعدل الاقسط بلا حيف وميل إظهارا لكمال عدالته وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ سبحانه من الأصنام والأوثان لا يَقْضُونَ ولا يحكمون لا لهم ولا عليهم يعنى آلهتهم بِشَيْءٍ من نفع وضر وخير وشر إذ هي جمادات هلكى لا شعور لها إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر
على انواع الانعام والانتقام هُوَ السَّمِيعُ لجميع ما صدر من ألسنة استعداداتهم الْبَصِيرُ بعموم ما لاح وظهر على هياكلهم وهوياتهم. ثم أشار سبحانه الى تقريع اهل الزيغ والضلال وتفضيح اصحاب العناد والجدال فقال مستفهما مستبعدا مستنكرا إياهم
أَينكرون أولئك المعاندون المفرطون قدرتنا على أخذهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَسِيرُوا ولم يسافروا فِي الْأَرْضِ الموروثة لهم من أسلافهم الذين قد أسرفوا على أنفسهم أمثالهم فَيَنْظُرُوا بنظر التأمل والاعتبار ليظهر عندهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المفسدين المسرفين الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مستقرين عليها متمكنين فيها مترفهين أمثالهم بل قد كانُوا هُمْ اى أسلافهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء الأخلاف الأجلاف قُوَّةً وقدرة واكثر أموالا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ حصونا وقلاعا وأخاديد وغير ذلك مما صدر من ذوى الأحلام السخيفة المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال الطويلة أمثال انباء زماننا هذا ومع ذلك ما اغنى عنهم مخايلهم وأموالهم شيأ من غضب الله وعذابه حين حل عليهم لا دفعا ولا منعا بل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور منهم بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم على سبيل البطر والغفلة فاستأصلهم بالمرة وَبالجملة ما كانَ لَهُمْ حينئذ مِنْ عذاب اللَّهُ المقتدر الغيور وبطشه مِنْ واقٍ حفيظ لهم يمنع عذاب الله عنهم
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ اى ما ذلك البطش والانتقام الا بسبب انهم من شدة عتوهم وعنادهم قد كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من قبل الحق مؤيدين بِالْبَيِّناتِ الواضحة والبراهين القاطعة من انواع الآيات والمعجزات الساطعة فَكَفَرُوا بالله وبهم أمثال هؤلاء التائهين في بيداء الغفلة والغرور وأنكروا على حججهم وبيناتهم ونسبوها الى السحر والشعبذة ولهذا قد أظهروا على رسل الله بأنواع المكابرة والعناد فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ القدير الحكيم الحليم العليم بكفرهم وعتوهم بعد ما امهلهم زمانا يترددون فيما يرومون ويقصدون فيه وكيف لا يأخذهم سبحانه إِنَّهُ قَوِيٌّ مطلق ومقتدر كامل سيما على من ظهر عليه وخرج عن ربقة عبوديته شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من كذب وتولى عن رسله الكرام
وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام عظيم جودنا أخاك مُوسى الكليم وأيدناه بِآياتِنا القاطعة الساطعة الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة واضحة دالة على صدقه في رسالته ودعوته
إِلى فِرْعَوْنَ الباغي الطاغي الذي قد بالغ في العتو والعناد حيث تفوه بكلمة أنا ربكم الأعلى وَهامانَ المصدق لطغيانه المعاون على عتوه وعدوانه وَقارُونَ المباهي بالثروة والغنى على اقرانه وعموم اهل عصره وزمانه وبعد ما قد بلغ الكليم الدعوة إليهم واظهر المعجزة عندهم وعليهم فَقالُوا بلا مبالاة وبلا تردد وتأمل فيما سمعوا وشاهدوا منه ما هذا المدعى الا ساحِرٌ في عموم بيناته كَذَّابٌ في جميع دعوته يعنى فاجؤا على التكذيب والإنكار بلا مبالاة به وبشأنه وأصروا على ما هم عليه من العتو والاستكبار
فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى ملتبسا بِالْحَقِّ مؤيدا مِنْ عِنْدِنا وآمن له بنوا إسرائيل حين عاينوا منه الآيات الكبرى والبينات العظمى قالُوا يعنى فرعون اصالة وملئه تبعا لأعوانهم واتباعهم اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعنى أعيدوا على بنى إسرائيل الزجر الشنيع الذي قد كنتم تفعلون معهم من قبل وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للزواج والوقاع تعييرا عليهم وتقريعا مستلزما لانواع الاهانة والاستحقار يعنى انهم قد قصدوا المقت والمكر على أولئك المؤمنين بقولهم هذا وَ
هم ما فطنوا انهم هم الممقوتون الممكورون حقيقة إذ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ وما مكرهم وحيلتهم حيث كادوا ومكروا على اهل الحق إِلَّا فِي ضَلالٍ اى هلاك وبوار وضياع وخسار لذلك لم ينالوا على ما قصدوا وأملوا بل قد عاد عليهم ولحق بهم تلك الوبال والنكال بأضعاف ما قصدوا إياهم ومكروا لأجلهم
وَبعد ما قد ظهر شأن موسى الكليم وعلا قدره وانتشر بين الناس حجته وبرهانه قالَ فِرْعَوْنُ لملائه وهم الذين قد قالوا له حين ظهر غلبة موسى على سحرته فقصد قتله لا تقتله حتى لا يظهر مغلوبيتك منه عند الناس مع انك تدعى الألوهية ذَرُونِي واتركوني على حالي أَقْتُلْ مُوسى الآن وحدي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لان يمنعني عن قتله او لأجله يعنى انا لا أبالي به وبربه بل إِنِّي أَخافُ عليكم انه لو لم اقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وانقيادكم على بسحره أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ اى النهب والغارة في أطراف المملكة واكناف البلاد وان لم يقدر على تغيير دينكم وعقائدكم
وَبعد ما قد وصل الى موسى الكليم ما قصد له العدو اللئيم قالَ مُوسى متوكلا على الله مفوضا عموم أموره اليه إِنِّي عُذْتُ والتجأت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد المراقب على حفظ عباده الخلص ايها المؤمنون سيما مِنْ شر كُلِّ مُتَكَبِّرٍ متناه في الكبر والخيلاء بمقتضى اهويته الباطلة وآرائه الفاسدة إذ هو لا يُؤْمِنُ ولا يصدق بِيَوْمِ الْحِسابِ حتى يرتدع من أمثال هذه الجرأة على رسل الله وعلى خلص عباده فانه سبحانه يكفى عنى مؤنة شره وضره
وَبعد ما قد صمم فرعون العزم لقتل موسى وجزم لمقته وهلاكه قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ موحد ما كان له اعتقاد بالوهية فرعون وان كان هو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ومن شيعته وأقوامه لكن كان يَكْتُمُ إِيمانَهُ منهم أَتَقْتُلُونَ ايها المتكبرون المسرفون المفرطون رَجُلًا موحدا بمجرد أَنْ يَقُولَ بالله حقا رَبِّيَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والنظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وَالحال انه قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات اللائحة مِنْ قبل رَبِّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اى وبال كذبه عائد عليه ونكاله آئل اليه وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ البتة بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ به بمقتضى وحى الله والهامه إياه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده الى سبيل الرشد لا يَهْدِي ولا يوفق على الهداية كل مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في فعله كَذَّابٌ في قوله فلا حاجة الى قتله ودفعه إذ قد يزهق عن قريب ان كان كاذبا ثم ناداهم وخاطبهم مضيفا لهم الى نفسه امحاضا للنصح واشتراكا معهم في يوم الوبال النازل عليهم فقال
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اى ملك العمالقة مختصة لكم اليوم بلا منازع ولا مخاصم مع كونكم ظاهِرِينَ غالبين فِي اقطار الْأَرْضِ على عموم الناس الحمد لله والمنة فلا ترتكبوا فعلا جالبا لغضب الله عليكم بل اتركوا قتله والا بعد ما قد قتلتموه عدوانا وظلما فَمَنْ يَنْصُرُنا وينقذنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ جاءَنا ونزل علينا بقتل هذا الصديق الصادق الصدوق في الدعوى والرسول المرسل من عند الله تبارك وتعالى لو نزل بنا كيف نرفعه وندفعه قيل هذا القائل المؤمن هو ابن عم فرعون وهو عنده من المقربين. ثم لما سمع فرعون كلامه المشتمل على محض العظة والنصيحة قالَ فِرْعَوْنُ على سبيل الطرح والتعريض ما أُرِيكُمْ وأشير إليكم في دفع هذا المدعى المفسد إِلَّا ما أَرى بموافقة عقلي واستصوبه رأيى واستقر عليه فكرى وهو ان نقتله لندفع شره وَاعلموا
ايها الملأ ما أَهْدِيكُمْ بقولي هذا وهو امرى بقتله إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ الموصل الى نجاتكم وخلاصكم من مفسدة هذا المدعى الساحر
وَبعد ما قد أكد فرعون امر القتل وبالغ في تصميم العزم قالَ الرجل الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم الى نفسه إظهارا لكمال الاختصاص والشفقة إِنِّي بمقتضى عقلي أَخافُ عَلَيْكُمْ عذاب يوم هائل شديد مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ الهالكين المستأصلين بحلول عذاب الله عليهم فيه لان دأبكم وديدنتكم في الخروج عن حدود الله ومقتضيات امره وأحكامه والظهور على رسله وتكذيبكم إياهم ليس الا
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَمثل سائر المكذبين المسرفين المفرطين الَّذِينَ قد ظهروا على الرسل وكفروا به سبحانه مِنْ بَعْدِهِمْ فلحقهم من العذاب ما لحقهم وكذلك يحل عليكم مثل ما قد حل عليهم لو تقتفوا أثرهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية وَالا مَا اللَّهُ العليم الحكيم يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ المتحرزين عن مطلق الجرائم والآثام المنافية للحدود الإلهية فلا يعاقب من لا ذنب له ولا يحل عليه عذابه
ثم ناداهم القائل الموحد ايضا على سبيل التأكيد والمبالغة تتميما لما يخفى في صدره من ترويج الحق وتقوية الرسل المرسلين به فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ اى العذاب الموعود في يوم القيامة سميت به لتفرق الناس فيه وفرار كل منهم من أخيه وأبيه وامه وبنيه
وأخاف ايضا يَوْمَ تُوَلُّونَ وتنصرفون عن موقف العرض والحساب مُدْبِرِينَ قهقرى هاربين فارين من كثرة الآثام والجرائم الجالبة لانواع العذاب وبالجملة تخيلوا ايها المسرفون وتخمنوا في نفوسكم ما لَكُمْ يومئذ مِنَ غضب اللَّهِ المنتقم الغيور ومن حلول عذابه عليكم مِنْ عاصِمٍ يعصمكم ويدفع عنكم عذابه وَبالجملة اعلموا انه مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله ويحمله على ما لا ينبغي له ولا يرضى منه سبحانه بل انما ابتلاه وحمله عليه فتنة واختيارا فَما لَهُ مِنْ هادٍ اى قد ظهر انه ما له هاد يهديه الى ما يعنيه ويليق بحاله ويرضى منه سبحانه
ثم قال القائل المذكور تسجيلا على غيهم وضلالهم وَكيف تستبعدون نبوة هذا المدعى ورسالته من عند الله مع انه ليس ببدع منه بل لَقَدْ جاءَكُمْ على آبائكم واسلافكم يُوسُفُ بن يعقوب رسولا مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا المدعى مؤيدا من عند الله سبحانه بِالْبَيِّناتِ المبينة الموضحة لدعواه ورسالته مثل هذا المدعى المؤيد فَما زِلْتُمْ قد كنتم دائما مستمرا سلفا وخلفا فِي شَكٍّ وتردد مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من امر الدين وشأن التوحيد واليقين حَتَّى إِذا هَلَكَ ومات يوسف عليه السلام وانقرض زمانه قُلْتُمْ من شدة تعنتكم وعنادكم على سبيل الجزم بلا دليل وبرهان لاح عليكم لا نقلا ولا عقلا لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ ولن يرسل مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا مع انكم قد كنتم شاكين في رسالته ايضا بل في مطلق الرسالة والإنزال والاخبار من الله الواحد القهار كَذلِكَ اى مثل ضلالكم هذا يُضِلُّ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله عموم مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في الخروج عن مقتضى الحدود الموضوعة لحفظ القسط الإلهي والاعتدال الحقيقي مُرْتابٌ متردد شاك فيما تثبته البينات الواضحة والمعجزات اللائحة
وبالجملة المسرفون المكابرون الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته مع ان جدالهم هذا قد صدر عنهم بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة قاطعة وبرهان واضح أَتاهُمْ على وجه الإلهام او الوحى والبيان وبالجملة قد كَبُرَ وعظم
حالهم وشأنهم هذا مَقْتاً اى ليكون سببا لمقتهم وهلاكهم عِنْدَ اللَّهِ اصالة وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام تبعا كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من الإصرار والاستكبار يَطْبَعُ ويختم اللَّهِ العليم الحكيم عَلى كُلِّ قَلْبِ مجبول على الشقاوة والضلال في أزل الآزال مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يمشى على الأرض خيلاء ويضر باهلها وانما امهله سبحانه هكذا ليوفر عليه العذاب المعد له ويخلده في نار القطيعة والحرمان ابدا الآباد
وَبعد ما ظهر امر موسى وانتشر دينه بين الناس ودعوته الى الله الواحد الأحد الموجد للسموات العلى والأرضين السفلى ومالت النفوس اليه حسب فطرتها الاصلية لوضوح براهينه وسطوع معجزاته قالَ فِرْعَوْنُ مدبرا في دفع موسى متأملا في شأنه مشاورا مع وزيره آمرا له مناديا إياه يا هامانُ قد وقع ما نخاف منه من قبل ابْنِ لِي صَرْحاً بناء رفيعا ظاهرا عاليا من جميع الابنية والقصور لَعَلِّي بالارتفاع اليه والعروج نحوه أَبْلُغُ الْأَسْبابَ المؤيدة لأمر موسى يعنى
أَسْبابَ السَّماواتِ والمؤثرات العلوية فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى واسأل منه امره أهو صادق في دعواه او كاذب وَإِنِّي بمقتضى عقلي ورأيى وفراستي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ساحرا مفتريا على ربه ترويجا لسحره وتغريرا لضعفاء الأنام قيل امر ببناء رصد ليطلع على قوة طالع موسى وضعفه وَكَذلِكَ اى مثل ما سمعت قد زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ اى حسن الله له تدبيره الذي تأمل في دفع موسى ابتلاء منه سبحانه إياه وتضليلا وَصُدَّ وانصرف فرعون بأمثال هذه الأفكار الفاسدة عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق وَبالجملة ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ ومكره الذي دبره لدفع موسى ما وقع إِلَّا فِي تَبابٍ هلاك وخسار وَبعد ما قد الزمهم القائل المذكور بأنواع الإلزام وأسكتهم بالدلائل القطعية واضطروا وتحيروا في شأن موسى ودفعه
قالَ القائل الَّذِي آمَنَ له وكتم إيمانه منهم يا قَوْمِ ناداهم لينقلبوا اليه بكمال الرغبة اتَّبِعُونِ واستصوبوا رأيى واقبلوا قولي أَهْدِكُمْ انا سَبِيلَ الرَّشادِ وطريق الصدق والسداد
يا قَوْمِ ما شأنكم وأمركم في دار الفتن والغرور ومنزلة الغفلة والثبور ومخايلكم بشأنها وما قراركم عليها وثباتكم فيها واعلموا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مستعار بلا قرار ومدار وبلا ثبوت واعتبار وَإِنَّ الْآخِرَةَ المعدة لذوي البصائر واولى الأبصار هِيَ دارُ الْقَرارِ واعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان
مَنْ عَمِلَ في النشأة الاولى سَيِّئَةً جالبة لغضب الله مستتبعة لعذابه فَلا يُجْزى في النشأة الاخرى إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مستجلبا لنعم الله مريدا لموائد كرمه سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيد الله مصدق لرسله وكتبه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ في النشأة الاخرى يُرْزَقُونَ فِيها رزقا صوريا ومعنويا رغدا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا تقدير وموازنة مثل أرزاق الدنيا وقال القائل المذكور ايضا على سبيل الملاينة والمجاراة في صورة المناصحة والمقابلة ايقاظا لهم من سنة الغفلة بمقتضى المرحمة وتتميما للغرض المسوق له الكلام
وَيا قَوْمِ ما لِي اى أى شيء عرض علىّ ولحق بي أَدْعُوكُمْ انا من كمال عطفي ومرحمتى إياكم إِلَى النَّجاةِ من عذاب الله ومن حلول قهره وغضبه عليكم والى دخول الجنة المشتملة على انواع اللذات الجسمانية والروحانية المعدة لأهل التوحيد والايمان وَأنتم تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
المعدة لأصحاب الخيبة والخذلان إذ
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالالوهية وأنكر وجوده واستقلاله فيه وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ اى أشرك به سبحانه شيأ لم يتعلق علمي بألوهيته وشركته مع الله لا يقينا ولا ظنا ولا وهما إذ هو جماد لا شعور له وَأَنَا أَدْعُوكُمْ بمقتضى الوحى الإلهي المنزل على رسل الله المؤيدين بالعقل الفطري المفاض لهم من لدنه ليرشدوا به خواص عباده سبحانه إِلَى الْعَزِيزِ القادر الغالب في امره بلا فتور وقصور الْغَفَّارِ الستار لنقوش السوى والأغيار مطلقا
لا جَرَمَ قد حق وثبت حقا حتما ثابتا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وتميلوننى نحوه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ اى لا يتأتى منه لا الدعوة ولا الهداية ولا الإرشاد لا فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ إذ لا يتيسر للجماد دعوة الإنسان وتكليمه مطلقا وَبعد ما اتضح امر آلهتكم وعدم لياقتهم بالالوهية والربوبية قد ظهر أَنَّ مَرَدَّنا ومرجعنا يعنى انا وأنتم وسائر العباد والمظاهر عموما وخصوصا إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الحقيق بالحقية اللائق بالالوهية والربوبية بلا توهم الشركة والنزاع رجوع الاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء وَقد ظهر ايضا أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الخائضين في توحيده سبحانه بالهذيانات التي تركبها اوهامهم وخيالاتهم بلا تأييد من وحى الهى وعقل فطري هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها ابد الآباد وبالجملة
فَسَتَذْكُرُونَ أنتم ايها الممكورون الممقوتون حين تعاينون وتدخلون النار ما أَقُولُ لَكُمْ على وجه النصح من شأن العذاب الموعود لكم في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الوعيدات الهائلة اضمروا في نفوسهم عداوته والإنكار عليه وقصدوا مقته ضمنا وَلما تفرس هو ايضا منهم السوء قال مسترجعا الى الله متوكلا عليه متحننا نحوه أُفَوِّضُ أَمْرِي اى امر حفظي وحضانتى من شروركم إِلَى اللَّهِ المراقب على محافظة عباده المتوكلين عليه المتوجهين نحو جنابه يكفى بمقتضى لطفه وجوده مؤنة شروركم عنى واساءتكم على إِنَّ اللَّهَ المقتدر العليم بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الخلص وما تكنّه ضمائرهم من الإخلاص والاختصاص قيل قد فرّ منهم الى جبل فأرسل فرعون جماعة لطلبه فلحقوه وهو في الصلاة والوحوش حوله صافين حافين يحرسونه عما يضره فلم يظفروا عليه فرجعوا خائبين فقتلهم فرعون أجمعين وبالجملة
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا اى حفظه الله الرقيب المراقب عليه من شدائد مكرهم وإساءتهم عليه وَحاقَ وأحاط بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النازل عليهم من عند الله العزيز الغيور ألا وهي
النَّارُ المعدة لتعذيب اصحاب الشقاوة الازلية الابدية ولهذا يُعْرَضُونَ عَلَيْها يعنى فرعون وآله على النار حال كونهم في برزخ القبر ايضا غُدُوًّا وَعَشِيًّا دائما في جميع الأزمان والأحيان قبل انقراض النشأة الاولى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يحشرون من قبورهم صرعى مبهوتين قيل لهم حينئذ من قبل الحق بلا سبق كشف وتفتيش عن حالهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ اى افزعه وأفظعه وأخلده او قيل للملائكة الموكلين عليهم لتعذيبهم ادخلوا ايها الملائكة آل فرعون أشد العذاب وأسوأ النكال والوبال وهو تخليدهم في نار القطيعة على القرائتين. ثم قال سبحانه
وَاذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين من المكلفين وقت إِذْ يَتَحاجُّونَ ويتخاصمون اى اصحاب النار فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ منهم من الأراذل والاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤسائهم ومتبوعيهم المستكبرين عليهم المستتبعين لهم في النشأة الاولى إِنَّا قد كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا بل أنتم اضللتمونا عن
متابعة الرسل الهادين فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ دافعون مانعون عَنَّا نَصِيباً جزأ وشيأ قد صار حظنا مِنَ النَّارِ النازلة علينا بسبب اتباعنا إياكم واقتفائنا اثركم وتديننا بدينكم وخصلتكم
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى الرؤساء المتبوعون إِنَّا اى نحن وأنتم كُلٌّ منا معذبون فِيها اى في النار لا يتيسر لاحد منا ومنكم ان يدفع شيأ منها إِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور قَدْ حَكَمَ بَيْنَ عموم الْعِبادِ بان ادخل بعضا منهم في الجنة بمقتضى فضله وبعضا في النار حسب عدله وبالجملة لا معقب لحكمه هذا وهو شديد المحال
وَاذكر يا أكمل الرسل لأصحاب العبرة والاستبصار ما قالَ الَّذِينَ كفروا حال كونهم فِي النَّارِ محزونين صاغرين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ وهي اعمق اماكن النار واغورها ادْعُوا رَبَّكُمْ ايها الخزنة حسبة لله واستشفعوا منه سبحانه لأجلنا وان لم يغفر لنا ولم يعف عن جرائمنا ولم يخرجنا من النار يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً اى مقدار يوم واحد مِنَ الْعَذابِ الدائم المستمر حتى نتنفس فيه ونستريح
قالُوا اى الخزنة في جوابهم تهكما وتوبيخا على وجه التجاهل أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ ايها الحمقى الهالكون في تيه البعد والضلال رُسُلُكُمْ المبعوثون إليكم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على قبول الإنذارات الصادرة من الله اصالة ومنهم تبعا وبعد ما سمعوا من الخزنة ما سمعوا قالُوا متأوهين متأسفين متحسرين بَلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم الا تكذبون قالُوا اى الخزنة بعد ما سمعوا ان أنتم الا في ضلال مبين فَادْعُوا على حالكم بلا استشفاع منا إذ نحن لا نجترئ بالشفاعة عنده والاستغفار منه سبحانه لأمثالكم إذ لا يقبل الدعاء منا ومنكم في مثل هذه الجرائم الكبيرة وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ المصرين على كفرهم في النشأة الاولى التي هي دار الاختبار لاستخلاصهم في النشأة الاخرى التي هي دار القرار إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار بحيث لا يسمع من احد أمثال هذا الدعاء ولا يجاب له ولا يقبل منه. ثم قال سبحانه وعدا للمؤمنين وحثا لهم على تصديق رسل الله وكتبه
إِنَّا من مقام عظيم جودنا ولطفنا لَنَنْصُرُ ونعاون رُسُلَنا الذين هم حملة وحينا وحفظة ديننا وَكذا المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بهم واسترشدوا منهم طريق الهداية واجتنبوا بسببهم عن الغي والضلال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هي نشأة الفتن والاختبارات الإلهية بتوفيقهم على العمل الصالح وردعهم عن المفاسد والمنكرات وَننصرهم ايضا نصرة تامة يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ اى يوم القيامة التي يقوم فيها الشهود العدول من الملائكة والنبيين والمؤمنين لنصرة المؤمنين ومقت الكافرين وذلك
يَوْمَ اى يوم لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية في النشأة الدنيا مَعْذِرَتُهُمْ التي أتوا بها يومئذ إذ قد انقضى حينئذ وقت التلافي والتدارك ومضى زمان الاختبار وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ يومئذ نازلة والطرد والتبعيد عن ساحة عز الحضور حاصل وَبالجملة لَهُمُ يومئذ سُوءُ الدَّارِ المعدة لأصحاب الخسار والبوار ألا وهي جهنم البعد والخذلان. أعاذنا الله وعموم عباده عنها. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه وتوطينا له على تحمل أعباء الرسالة الجالبة لانواع المكروهات من النفوس المجبولة على الشقاوة والضلال والتصبر على اذياتهم
وَالله لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْهُدى اى الشرائع والمعجزات الدالة على كمال الهداية والإرشاد الى سبيل الرشد والسداد وَبعد انقراض موسى قد أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المنزل عليه وابقيناه بينهم ليكون
هُدىً لهم هاديا الى ما هديهم موسى
من الأمور الدينية وَليكون ذِكْرى اى عظة وتذكيرا يتذكرون بها الى ما يرومونه من المقاصد الدينية والمعالم اليقينية لا لكل احد من العوام بل لِأُولِي الْأَلْبابِ الألباء المستكشفين عن سرائر الأمور الدينية بمقتضى العقول المستقيمة المفاضة لهم من المبدأ الفياض ومع ذلك قد سمعت يا أكمل الرسل قصص أولئك الهالكين في تيه العتو والعناد وما جرى بينهم وبين الرسل المبعوثين إليهم من التحارب والتنازع المفضى الى أذى الأنبياء العظام والرسل الكرام فصبروا على أذاهم الى ان ظفروا عليهم بنصر الله إياهم وإعلاء دينه المنزل عليهم من لدنه سبحانه
فَاصْبِرْ أنت ايضا يا أكمل الرسل على ما اصابك من اذيات هؤلاء الجهلة المستكبرين المعاندين معك وانتظر الى ما وعدك الحق من النصر والظفر وإعلاء دين الإسلام وإظهاره على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ العليم القدير الحكيم الخبير حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووفاؤه الا انه مرهون بوقته فسينصرك ويغلبك على عموم أعدائك عن قريب ويبقى آثار هدايتك وارشادك بين أوليائك الى النشأة الاخرى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ واشتغل في عموم أوقاتك بالاستغفار لفرطاتك ليكون استغفارك هذا سنة سنية لأمتك وَسَبِّحْ ايضا بِحَمْدِ رَبِّكَ في جميع أوقاتك وحالاتك إذ كل نفس من أنفاسك يستلزم شكرا منك سيما بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ اى في أول النهار وآخرها إذ هما وقتان خاليان عن تزاحم الاشتغال وتفاقم الآمال وبالجملة كن مع ربك في عموم احوالك واطوارك يكف عنك مؤنة جميع من عاداك وعاندك ويكف عنك إذا هم. ثم قال سبحانه
إِنَّ المشركين المعاندين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويخاصمون معك يا أكمل الرسل فِي آياتِ اللَّهِ المنزلة عليك لتأييد دينك وشأنك على وجه المكابرة والعناد بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة وبرهان أَتاهُمْ وفاض عليهم من قبل ربهم على طريق الوحى والإلهام بل إِنْ فِي صُدُورِهِمْ اى وما في قلوبهم شيء يبعثهم على المجادلة ويغريهم إليها إِلَّا كِبْرٌ وخيلاء منهم مركوز في جبلتهم ثقة لثروتهم ورئاستهم على زعمهم الفاسد مع انهم ما هُمْ بِبالِغِيهِ على مقتضى ما جبلوا في نفوسهم إذ هم سيغلبون عن قريب في هذه النشأة الاولى ويحشرون في الاخرى الى جهنم البعد والخذلان وبالجملة فَاسْتَعِذْ أنت ايها النبي الصادق الصدوق بِاللَّهِ القادر القوى والتجئ اليه سبحانه عن غدر كل غادر إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْبَصِيرُ بنياتهم ويكفيك مؤنة ما يقصدون عليك بمقتضى آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة ومن أعظم ما يجادلون فيه أولئك المعاندون المكابرون امر الساعة والمعاد الجسماني وبعث الموتى من قبورهم وحشرهم نحو المحشر والله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار العلويات والسفليات من كتم العدم على سبيل الإبداع في النشأة الاولى أَكْبَرُ وأعظم مِنْ خَلْقِ النَّاسِ واعادتهم احياء في النشأة الاخرى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ عظم قدرة الحق وكمال اقتداره على عموم ما دخل في حيطة علمه الشامل وارادته الكاملة لقصور نظرهم عن ادراك الحق وصفاته الكاملة الكافية في ذاته ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ثم أشار سبحانه الى تفاوت طبقات عباده في العلم بالله والجهل به وبصفاته فقال
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى الغافل الزاهل عن ظهور ذات الحق وتجليه بمجالى الأنفس والآفاق بمقتضيات أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى وَالْبَصِيرُ العارف المكاشف بوحدة الحق وظهوره سبحانه على هياكل عموم ما ظهر وبطن حسب شئونه وتطوراته الذاتية وَلا المصلحون المحسنون الَّذِينَ آمَنُوا بالله واعتقدوا توحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده سبحانه من الأعمال والأفعال
المترتبة على الايمان واليقين وَلَا الْمُسِيءُ اى الذين يسيئون الأدب مع الله وهم الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا يتصفون بتوحيده بل هم يسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتهم الباطلة واظلال انانياتهم الزائلة المضمحلة في شمس الذات لذلك عملوا عملا سيّئا حسب ما تهواه أنفسهم الخبيثة وأحلامهم السخيفة لكن قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ اى ما تتذكرون وتتفطنون على عدم المساواة الا تذكرا قليلا ولهذا تنكرون البعث والحشر وكيف تنكرونه
إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة على ألسنة عموم الأنبياء والرسل لَآتِيَةٌ البتة بحيث لا رَيْبَ فِيها اى في مجيئها ووقوعها بوضوح الدلائل العقلية الدالة على إمكان اعادة المعدوم مع انها مؤيدة بالوحي والإلهام الإلهي على عموم الأنبياء والرسل الكرام وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بها ولا يصدقون بوقوعها وقيامها لانحطاطهم عن مرتبة الخلافة المترتبة على فطرة التوحيد واليقين
وَبعد ما أشار سبحانه الى مرتبة كلا الفريقين الموحد والمشرك أشار الى من توجه نحوه سبحانه متحننا وقصد تجاه توحيده مجتهدا ودعا اليه متضرعا فأجاب له وأنجح مطلوبه حيث قالَ رَبُّكُمُ الذي رباكم على فطرة التوحيد والعرفان ادْعُونِي ايها المكلفون بمقتضى العقل المفاض حق دعوتي وتوجهوا الى مخلصين بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين أَسْتَجِبْ لَكُمْ دعوتكم وأوصلكم الى مقصدكم ومقصودكم الذي هو توحيد الذات فعليكم ان لا تستكبروا عن عبادتي وإطاعتي وبالجملة إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ويستنكفون عَنْ عِبادَتِي حسب آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة سَيَدْخُلُونَ في يوم الجزاء جَهَنَّمَ الحرمان والخذلان داخِرِينَ صاغرين ذليلين مهانين وكيف يستنكفون ويستكبرون عن عبادة الفاعل على الإطلاق المنعم بالاستقلال والاستحقاق مع انه
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ مظلما باردا لِتَسْكُنُوا وتستريحوا فِيهِ بلا ضرر وعناء وَايضا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتكسبوا فيه معايشكم وتجمعوا حوائجكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنعم المفضل على عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم وكرامة كاملة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على فطرة النسيان والكفران لا يَشْكُرُونَ نعمه ولا يواظبون على أداء حقوق كرمه جهلا منهم بالله وعنادا مع رسله الهادين اليه
ذلِكُمُ اللَّهُ الذي قد أفاض عليكم موائد بره وإحسانه واظهر عليكم مقتضيات ألوهيته وربوبيته رَبُّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم بعد ما أوجدكم من كتم العدم وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم إظهارا إبداعيا بمقتضى اختياره واستقلاله فلكم ان تتوجهوا اليه وتحننوا نحوه مخلصين إذ لا إِلهَ يعبد له بالاستحقاق ويرجع نحوه في الخطوب على الإطلاق إِلَّا هُوَ الله اى الذات الواحدة المتحدة المتصفة بالصفات الكاملة المربية لجميع ما في الكون من العكوس والاظلال المنعكسة منها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تنصرفون عن عبادته ايها الآفكون المنصرفون فأين تذهبون من بابه ايها الذاهبون الجاهلون ما لكم كيف تحكمون ايها الضالون المحرومون
كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من المجادلة والمكابرة بلا برهان واضح وتبيان لائح يُؤْفَكُ ويصرف عن طريق الحق عموم المسرفين الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده يَجْحَدُونَ وينكرون بلا تأمل ولا تدبر لينكشف لهم ما فيها من المعارف والحقائق المودعة فيها فكيف تجحدون في آيات الحكيم العليم ايها الجاحدون الجاهلون
مع انه سبحانه هو الصمد المتفرد بالالوهية والربوبية إذ
اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى قَراراً تستقرون عليها حسب هويتكم وَرفع لكم السَّماءَ اى عالم الأسماء والصفات بِناءً اى سقفا رفيعا منيعا تستفيضون منها الكمالات اللائقة لاستعداداتكم وقابلياتكم الموهوبة لكم من عنده سبحانه وَبالجملة قد صَوَّرَكُمْ حسب لطفه وجماله من الآباء العلويات والأمهات السفليات فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بان خلقكم على اعدل الأمزجة واحسن التقويم لتكونوا قابلين لائقين لخلافة الحق ونيابته وَبعد ما صوركم كذلك فأحسن صوركم هكذا قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الصورية والمعنوية تقوية وتقويما لأشباحكم وأرواحكم وبالجملة ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من أوصافه الكاملة ونعمه الشاملة رَبُّكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم بمقتضى لطفه فانى تصرفون عنه وعن توحيده وعبادته ايها المسرفون الضالون المفرطون مع انه لا رب لكم سواه سبحانه فَتَبارَكَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد العلى بذاته الجلى بحسب أسمائه وصفاته رَبِّ الْعالَمِينَ على الإطلاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لا يعرضه زوال ولا يطرأ عليه انقراض وانتقال بل
هُوَ الْحَيُّ الأزلي الأبدي الدائم المستغنى عن مقدار الزمان ومكيال المكان مطلقا لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود يعبد له بالحق إِلَّا هُوَ وبعد ما سمعتم ايها المكلفون خواص أسمائه وأوصافه سبحانه فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ واعبدوه مخصصين لَهُ الدِّينَ اى العبادة والانقياد إذ لا مستحق للاطاعة والعبادة الا هو سبحانه وبعد ما رجعتم نحوه مخلصين وعبدتم له سبحانه مخصصين قولوا بلسان الجمع الْحَمْدُ المستوعب لجميع الاثنية والمحامد الناشئة من ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بانفراده بالالوهية واستقلاله في الربوبية بلا توهم الشركة والمظاهرة ويا أكمل الرسل
قُلْ لعموم المشركين على سبيل التنبيه والإرشاد بعد ما وضح امر التوحيد واتضح سبيل الهداية والرشد إِنِّي نُهِيتُ من قبل ربي الذي سمعتم استقلاله في ألوهيته وربوبيته أَنْ أَعْبُدَ وانقاد الآلهة الباطلة الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم وتعبدون لها مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفريد في الألوهية الوحيد بالربوبية سيما لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ اى حين نزل علىّ الآيات المبينة الموضحة مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ من لدنه سبحانه أَنْ أُسْلِمَ اى اعبد وانقاد على وجه التسليم المقارن بالإخلاص والاختصاص بلا رؤية الوسائل والأسباب لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو سبحانه منزه عن التعدد والتكثر مطلقا ورجوع الكل اليه أولا وآخرا وكيف لا يعبدونه سبحانه ولا ينقادون اليه ولا يتوجهون نحوه مع انه
هُوَ الخالق المبدع المصور الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر صوركم أولا مِنْ تُرابٍ مهين مرذول إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء التراب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ خبيثة متكونة من النطفة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا سويا كائنا من أجزاء العلقة مع الروح المنفوخ فيها من لدنه سبحانه ثُمَّ يربيكم بأنواع اللطف والكرم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اى كمال قوتكم وحولكم نظرا وعملا ثُمَّ أمهلكم وأعمركم زمانا لِتَكُونُوا شُيُوخاً منحطين منسلخين عن كلتا القوتين المذكورتين معا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ويموت مِنْ قَبْلُ اى قبل بلوغه الى أشده او شيخوخته وَانما فعل سبحانه كل ما فعل من الأطوار المتعاقبة والأحوال المتواردة المترادفة لِتَبْلُغُوا أَجَلًا معينا مقدرا مُسَمًّى عنده سبحانه بلا اطلاع احد عليه لقبضكم نحوه ورجوعكم اليه
وَالحكمة الباعثة على جميع ذلك لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون ان مبدأكم ومنشأكم منه سبحانه ومعادكم اليه فتعبدونه حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته وكيف لا تعبدونه سبحانه ولا تعرفونه ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور مع انه
هُوَ الَّذِي يُحْيِي بامتداد اظلال أسمائه على كل ما لاح عليه بروق وجوده بمقتضى جوده وَيُمِيتُ بقبض تلك الاظلال نحو ذاته بالإرادة والاختيار وبالجملة فَإِذا قَضى أَمْراً اى تعلق ارادته ومشيته باحداث ما ظهر في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ بعد تعلق مشيته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ وتعاقب مفهوم من منطوق هذه الآية على ما هو المتبادر من أمثاله بل كل ما لمع عليه برق ارادته وصدر منه سبحانه ما يدل على نفوذ قضائه تكون المقضى بغتة بحيث لا يسع بين القضاء والمقضى توهم المهلة والتراخي والترتيب مطلقا ومع سرعة نفوذ قضاء الله وظهور هذه الآثار العظيمة من قدرته الكاملة على الوجه المذكور
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المشركين المسرفين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويكابرون فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على كمال علمه وقدرته ومتانة حكمه وحكمته أَنَّى يُصْرَفُونَ اى الى اين ينصرفون عن عبادته ويعرضون عن ساحة عز جنابه ووحدته الذاتية سيما هؤلاء المكابرون
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ اى بالقرآن الجامع الكامل الشامل المنزل عليك يا أكمل الرسل وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا اى بعموم ما أرسلنا الى رسلنا الذين مضوا من قبلك من الكتب والصحف المنزلة عليهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أولئك الضالون المكذبون وبال جدالهم وتكذيبهم في النشأة الاخرى وقت
إِذِ تكون الْأَغْلالُ الثقيلة معقودة فِي أَعْناقِهِمْ بسبب انصرافهم عن آيات الله وعدم التفاتهم الى رسله الحاملين لوحيه سبحانه وَايضا تكون السَّلاسِلُ الطوال مشدودة في أيديهم وأرجلهم لعظم جرائمهم وآثامهم الباعثة على أخذهم وانتقامهم يُسْحَبُونَ ويجرون هؤلاء على وجوههم
فِي الْحَمِيمِ اى في الماء الحار المسخن بالنار المعدة لهم قبل تعذيبهم بالنار الملهبة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يوقدون ويطرحون فيها طرح الحطب الوقود للنار
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ من قبل الحق توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ اى اين أصنامكم واوثانكم وعموم معبوداتكم التي أنتم قد ادعيتم شركتها مع الله في الألوهية وسميتموها آلهة
مِنْ دُونِ اللَّهِ لم لا تنقذكم من عذاب ولم لا يشفعون لكم عنده سبحانه حسب ما زعمتم في شأنهم وعللتم عبادتكم بها وبعد ما سمعوا ما سمعوا من التوبيخ والتقريع قالُوا متحسرين متأوهين قد ضَلُّوا وغابوا عَنَّا آلهتنا الهلكى وشفعاؤنا الهالكة المستهلكة التي قد كنا ندعو إليهم ونستشفع منهم بَلْ قد ظهر لنا اليوم انا لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في النشأة الاولى شَيْئاً ينفعنا ويدفع عنا من غضب الله بل كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ المنتقم المضل الْكافِرِينَ الضالين بحيث لا يتنبهون بضلالهم الا وقت حلول العذاب عليهم ثم قيل لهم مبالغة في توبيخهم وتعييرهم
ذلِكُمْ اى إضلال الله إياكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ وتمشون عليها خيلاء بطرين مسرورين مستكبرين عن قبول آيات الله المنزلة على رسله مكذبين لهم مستهزئين بهم بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا دليل قطعى عقلي او سمعي اقناعى او ظني بل بمجرد الوهم الناشئ من كبركم وخيلائكم وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ اى تتوسعون وتتوقرون على انفسكم الفرح والسرور بمخالفتكم بترككم سنن حدود الله وبترككم سنن أنبيائه ورسله عنادا ومكابرة ثم قيل لهم بعد تفضيحهم على رؤس الاشهاد
ادْخُلُوا ايها المسرفون الضالون أَبْوابَ جَهَنَّمَ
اى دركاتها واغوارها الهوية النيرانية المعدة لكم بدل ما فوتم أنتم على انفسكم من الدرجات العلية الجنانية وكونوا خالِدِينَ فِيها ابد الآباد فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ومأواهم جهنم البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها وبعد ما قد ظهر واتضح مآل حال الكفرة المستكبرين وعاقبة أمرهم
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم وانتظر الى مقتهم وهلاكهم الموعود وثق بالله في انجاز وعده إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ المقتدر الحكيم باهلاك المشركين المكذبين المسرفين حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووقوعه البتة بلا خلف منه سبحانه إذ الله لا يخلف الميعاد مطلقا الا ان وعده سبحانه مرهون بأجل مقدر عنده فلا تحزن من تأخير الموعود ولا تعجل بحلول الأجل المعهود فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى فان نرك ونبصرك زيدت ما في أول الفعل والنون في آخره للتأكيد والمبالغة بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من القتل والسبي والجلاء فذاك وتحقق وعدنا إياك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ونميتنك قبل حلول أجل إهلاكهم وتعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يعنى لا تحزن من تأخير الموعود بعد توفيك ايضا إذ نحن نعذبهم وننتقم عنهم بعد رجوعهم إلينا في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافها
وَبالجملة بعد ما قد وعدنا لهم العذاب لانحرافهم عن سبيل الرشد مصرين على المكابرة والعناد ننجز الموعود البتة سواء كان عاجلا او آجلا فعليك ان لا تتعب نفسك بتعجيل العذاب عليهم قبل حلول الأجل المقدر من عندنا إذ لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام جودنا رُسُلًا كثيرين مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا قصصهم عَلَيْكَ في كتابك هذا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ولم نذكر قصتهم في كتابك إذ ما يعلم قصص جنودنا وما جرى عليهم من تفاصيل أحوالهم الا نحن وَبالجملة ما كانَ اى ما صح وما جاز لِرَسُولٍ من الرسل أَنْ يَأْتِيَ ويعجل بِآيَةٍ مقترحة او غير مقترحة من تلقاء نفسه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه وبمقتضى مشيته وارادته سبحانه بل له ان ينتظر الوقت الذي قد عين سبحانه ظهورها فيه إذ جميع الآيات والمعجزات الباهرات موهوبة من الله مقسومة بين أنبيائه ورسله بمقتضى قسمته سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه لا يسع لاحد منهم ان يعجل بها او يؤخر عن وقتها بل فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ العليم الحكيم بتعذيب المشركين واثابة الموحدين قُضِيَ بِالْحَقِّ جميع المقضيات الإلهية سواء كانت من جنس المثوبات او العقوبات وَبالجملة كما خَسِرَ وخاب هُنالِكَ اى عند وقوع المقضى وظهوره الْمُبْطِلُونَ المستوجبون لانواع العذاب والنكال قد ربج ونال حينئذ المحقون المستحقون لأصناف المثوبات واللذات الروحانية وكيف لا يكون كذلك إذ مقاليد عموم الأمور كلها بيد الله وفي قبضة قدرته إذ
اللَّهُ المتفرد بالالوهية والربوبية هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ مسخرة مقهورة لكم محكومة تحت أمركم وحكمكم لِتَرْكَبُوا مِنْها ما يليق بركوبكم تتميما لتربيتكم وحضوركم وَايضا قد جعل لكم مِنْها اى من الانعام ما تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتقوية بنيتكم
وَجعل لَكُمْ فِيها ايضا مَنافِعُ كثيرة كالالبان والاصواف والاشعار والأوبار وغير ذلك وَلِتَبْلُغُوا اى لتصلوا وتنالوا بالحمل والركوب عَلَيْها اى على الانعام حاجَةً مطلوبة لكم مركوزة فِي صُدُورِكُمْ ونفوسكم ولولا ركوبكم وحملكم عليها لم تصلوا إليها الا بشق الأنفس وَبالجملة عَلَيْها اى على الانعام في البوادي والبراري وَعَلَى الْفُلْكِ في البحار تُحْمَلُونَ يعنى قد سهل عليكم سبحانه
معاشكم في اقامتكم وترحالكم تتميما لتربيتكم وحفظكم لتواظبوا على شكر نعمه وتلازموا لعبادته وعبوديته بالتبتل الخالص والإخلاص التام
لهذارِيكُمْ
ايها المغمورون المستغرقون في بحار افضاله وجوده اتِهِ
الدالة على وجوب وجوده ووحدة ذاته واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه حسب أسمائه وصفاته وبالجملةأَيَ
آية من اتِ اللَّهِ
الدالة على كمال ألوهيته وربوبيته نْكِرُونَ
ايها المسرفون المشركون
أَينكر المشركون المصرون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية كمال قدرته سبحانه على انواع الانتقام والعذاب فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد فَيَنْظُرُوا عليها معتبرين من البلاقع الخربة والاظلال المندرسة الكربة كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الأمم الهالكة المسرفة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع انهم قد كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وعددا وَأَشَدَّ قُوَّةً وقدرة وبسطة واستيلاء وَاحكم آثاراً فِي الْأَرْضِ اى ابنية في القصور وقلاعا وحصونا مشيدة مرفوعة ومع ذلك فَما أَغْنى فما دفع وما أزال ورفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ويصنعون من الأمور المذكورة شيأ من غضب الله وعذابه بل قد لحقهم ما لحقهم من العذاب بحيث لا شعور لهم باماراته ومقدماته أصلا فاستأصلهم بالمرة
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى فهم قد كانوا في عتوهم وعنادهم يعمهون أمثال هؤلاء المسرفين لما جاءتهم رسلهم المبعوثون إليهم بالمعجزات والآيات الواضحات المبينة لطريق التوحيد لم يلتفتوا إليها ولم يلقوا اسماعهم نحوها تعنتا واستكبارا بل هم قد فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اى الجهل المركب المركوز في طباعهم من تقليد آبائهم على وجه الإصرار بلا التفات منهم الى ما قد ظهر من الوحى الإلهي المنزل على رسلهم بل كذبوهم واستهزؤا بهم وَلهذا قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ حين دعوة الرسل وإرشادهم الى طريق الحق بأنواع الوعد والوعيد وهم قد كانوا على ما هم عليه من العناد مصرين مستكبرين
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا اى بطشنا وعذابنا قد حل عليهم وأحاط بهم قالُوا حينئذ متذكرين دعوة رسلهم متحسرين على ما فوتوا على أنفسهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ على الوجه الذي هدانا اليه رسله وَكَفَرْنا بِما قد كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ من قبل من الأصنام والأوثان وسائر ما عبدنا من دونه سبحانه وبالجملة
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا إذ حينئذ قد انقضى زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد كانت هذه الديدنة المستمرة سُنَّتَ اللَّهِ العليم الحكيم الَّتِي قَدْ خَلَتْ ومضت فِي عِبادِهِ المستكبرين عن طاعته وانقياده حين دعوة الرسل وإرشادهم إياهم وَبعد حلول او ان البأس ونزول العذاب قد خَسِرَ وخاب خيبة مؤبدة هُنالِكَ عنده ودونه الْكافِرُونَ المصرون على الإنكار والاستهزاء خسرانا عظيما في الدنيا وفي الآخرة أعظم منه وأدوم. أعاذنا الله وعموم عباده من بأسه وبطشه بمنه وجوده
خاتمة سورة المؤمن
عليك ايها المحمدي القاصد نحو الحق المتوجه الى توحيده وفقك الله الى إنجاح مهامك وأوصلك الى منتهى مقصدك ومرامك ان تكون أنت في عموم أوقاتك وحالاتك على خبرة كاملة من آيات الله النازلة من عنده سبحانه لهداية عباده التائهين في فضاء وجوده وعبرة تامة من سريان وحدته الذاتية على عموم هياكل ما لمع عليه بروق تجلياته الجمالية والجلالية المنتشئة من ذاته حسب شئونه
Icon