عدد آياتها ست ومائتان –وهي مكية. وقد روي أنها نزلت دفعة واحدة مثل سورة الأنعام، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها. وسورة الأعراف بمثابة الشرح والبيان لما أوجز في سورة الأنعام، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم. وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق :﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ وبيان القرون :﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم. وجاءت سورة الأعراف مفصلة لذلك، فبسطت قصة آدم، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكها.
الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي، وهي إحدى السور التي بدئت ببعض حروف الهجاء " المص " ولم يتقدم عليها من هذا النوع سوى ثلاث سور هي " ن. ق. ص. ". ويبلغ عدد السور التي بدئت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة. والأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم، وأطول سورة في المكي، وأول سورة عرضت لتفصيل قصص الأنبياء مع أممهم.
وتقصد سورة الأعراف ما تقصده كل السور المكية، وهو تقرير أصول الدعوة الدينية : توحيد الله في العبادة والتشريع، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام، وتأكيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص.. وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية.
وقد أجملت السورة إلى هذه الأصول، وإلى كل ما تضمنه القرآن الكريم في آية واحدة جاءت في أولها، ووجه فيها الخطاب إلى كل من يصلح للخطاب، وهي قوله تعالى :﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾.
طلبت اتباعهم ما نزل إليهم ممن تولى تربيتهم خلقا وتنمية، وإرشادا وهداية.
هذا مجمل الدعوة. وقد مهدت السورة لهذا الإجمال بالإرشاد إلى عظمة هذا الكتاب الذي احتواها، وإلى الغاية التي لأجلها أنزل، وإلى ما يجب على الرسول أن يتذرع به ليقوم بالمهمة التي ألقيت عليه كما أراد الله.
﴿ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾.
وقد كان المشركون يرمونه صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر مجنون، وأن له تابعا من الجن يحدثه بما يسميه القرآن، ويزعم أنه من عند الله، فأنزل الله كثيرا من الآيات يقرر بها أن القرآن وحي من عنده، ولا يمكن أن يكون من صنع الشياطين :﴿ وما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون، إنهم عن السمع لمعزولون ﴾، فهو تنزيل من الله الجامع لصفات الجلال والجمال من الربوبية والرحمة، والعزة والعلم والحكمة، ﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ﴾ إلى عدد من الآيات. والقصد منها تقوية قلبه صلى الله عليه وسلم بأن الذي أنزله إليه هو ربه، فعليه ألا يكترث بما يقولون، ولا بإعراضهم عنه.
ومرمى ذلك أن الداعي إلى الله، والقائم على نشر دينه وأحكامه يجب أن يكون قوي القلب في تحمل مهمته، مطمئن البال على حسن عاقبته، لا يتأثر بالمخالفة، ولا يضيق صدره بالإنكار. كما يجب على أتباعه أن يوفروا له هدوء النفس، كي ينشط في الدعوة، ويسير في القيادة.
وقد سلكت سورة الأعراف –بعد تحديد الدعوة على هذا الوجه- في تركيزها وحمل الناس عليها، سبيل التذكير بالنعم، والتخويف بالعذاب. وهما أسلوبان يكثر استخدام القرآن لهما في الدعوة، وقلما ينفرد فيه أحدهما عن الآخر. وذلك تمشيا مع طبيعة الإنسان التي قضت أن تكتنفه عاطفة الرغبة فيما يحب، والخوف مما يكره.
وسورة الأعراف أطول من سورة الأنعام، ومكملة لها. ويأتي أولها صالحا لمتابعة آخر آية من سورة الأنعام، تفصيلا لقوله تعالى :﴿ وهو جعلكم خلائف الأرض ﴾ في آخر سورة الأنعام. لهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله خليفة في الأرض، ثم قال في قصة عاد ﴿ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ وفي قصة ثمود ﴿ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ الخ...
ويمكن اعتبار أوجه ارتباط أول هذه السورة بآخر سورة الأنعام أنه تقدم قوله تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ وقوله :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ﴾. فافتتح سورة الأعراف بالأمر باتباع الكتاب. ﴿ المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ﴾ الخ... وسميت سورة الأعراف بقوله تعالى :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم... الآية ﴾. وسيأتي شرحها إن شاء الله.
وقد اشتملت هذه السورة على بدء الخليفة الإنسانية، فذكرت قصة خلق آدم وحواء وخروجهما من الجنة، وبيان شيء من الوسوسة المستمرة للإنسان في اللباس والطعام. ثم تعرضت كغيرها من سور القرآن، إلى النظر في السماوات والأرض وما فيهما من نظام بديع.
كما تعرضت بعد ذلك لقصص النبيين : نوح وهود مع قومه عاد، ثم لقصة صالح مع قومه ثمود الذين كانوا يتسمون بالقوة، ولقصة لوط مع قومه، وذكر ما كانوا يأتونه من منكرات، ولقصة شعيب مع أهل مدين. وقد ساق الله تعالى بعد ذلك قصة موسى وما كان من أمر فرعون.
وختمت السورة بتصوير من يعطى الهداية ثم ينسلخ منها بتضليل الشيطان، وما يكون منه، ثم ببيان الدعوة إلى الحق التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهومٌ غير مسمّاها الذي تدل عليه، وهي تنبيهُ السامع إلى ما سيُلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام، حتى لا يفوتَه منه شيء. فكأنه أداةُ استفتاحٍ بمنزلة ألا، وهاء التنبيه.
والسوَر التي بدئت بالأحرف وبذكر الكتاب، هي التي نزلت بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام، وإثبات النبوة والوحي. أما ما نزل منها بالمدينة البقرة وآل عمران، فالدعوة فيه موجَّهة إلى أهل الكتاب. وهكذا الحال في سورة مريم والعنكبوت والروم، و( ص )، ( ن ) فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوّة والكتاب كالفتنة في الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة، وكالإنباء بقصص فارسَ والروم ونصرِ الله للمؤمنين على المشركين وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
الذكرى : التذكر النافع والموعظة المؤثرة.
لقد أُنزلَ إليك القرآن من عند ربِّك لتنذِر به المكذبين ليؤمنوا، وتذكِّر به المؤمنين ليزدادوا إيماناً، فلا يكن في صدرك أيها النبيّ، ضيق من الإنذار به وإبلاغه إلى من أُمرتَ بإبلاغه إليهم. ولا تخشَ تكذيبهم، واصبِر كما صبر أولو العزمِ من الرسل.
تذكّرون : أصله تتذكرون.
أما أنتم يا أصحاب الرسول، فاتّبعوا ما أوحاه ربكم ولا تتّبعوا من دون الله أولياءَ تولُّونهم أمورَكم وتستجِيبون لهم وتستعينون بهم، فالله وحدَه هو الذي يتولّى أمر العباد بالتدبير والخلق والتشريع، وبيده النفع والضرر.
﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾، ما تتَّعظون إلا قليلا، حيث تتركون دينه تعالى وتتّبعون غيره.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«تذكرون » بفتح التاء والذال المخففة، وابن عامر :«يتذكرون » بالياء والتاء. وقرأ الباقون «تذكرون » بتشديد الذال والكاف.
البأس : العذاب.
بياتا : ليلا على حين غرة. أو هم قائلون : وسط النهار وقت القيلولة. بعد أن بين الله تعالى أنه أنزل الكتاب إلى الرسول الكريم لينذر به الناسَ ويكونَ موعظةً وذِكرى لأهل الإيمان، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أُنزل إليهم من ربهم، وأن لا يتبعوا من دونه أحداً، أردف هنا بالتخويف من عاقبة المخالفة لذلك، وبالتذكير بما حلّ بأمم قبلَهم بسبب إعراضهم عن الحق، وإصرارهم على الباطل.
﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾.
لقد أهلكنا كثيراً من القرى بسبب عبادة أهلها غيرَ الله، وسلوكهم غير طريقه. وقد جاءهم عذابنا في وقت غفلتهم ليلاً وهم نائمون، كما حدث لقوم لوط، أو نهاراً وهم مستريحون وقت القيلولة كقوم شعيب.
فاعترفوا بذنبهم الذي كان سببَ نكبتهم، وكان دعاؤهم واستغاثتُهم حين جاءهم عذابنا أن قالوا- حيث لا ينفعهم ذلك - إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا بالمعصية.
ولَنخبرنّ الجميع أخباراً صادقة بجميع ما كان منهم، لأننا أحصينا عليكم كل شيء. إننا لم نكُ غائبين عنهم في وقتٍ من الأوقات ولا حالٍ من الأحوال، وسيكون السؤال ههنا للإعلام والإخبار، توبيخاً لهم وتأنيباً على رؤوس الأشهاد.
روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يُسألَ عن عُمُره فِيمَ أفناه، وعن عِلمه فيم عمِل به، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه ؟ »
ثقلت موازّينه : كانت أعماله صالحة.
وفي ذلك اليوم يكون تقدير الأعمال تقديرا عادلا، ليأخذ كلُّ واحداٍ ما يستحقه من ثواب وعقاب. فالذين كثُرت حسناتُهم ورجَحَتْ على سيئاتهم همُ الفائزون بالنجاة من العذاب، والحائزون للنعيم في دار الثواب.
بآياتنا يظلمون : يكذبون.
أما الذين كثُرت سيئاتهم ورجحت على حسناتهم فهم الخاسِرون، لأنهم باعوا أنفسَهم للشيطان.
ونحن لا نعلم كيفية وزن الحسنات والسيئات وإذا كان العلم الحديث قد صنع موازين للحر والبرد واتجاه الريح والأمطار وخزن المعلومات في الكمبيوتر وغير ذلك فإن الله تعالى لا يعجز عن وزن الحسنات والسيئات وهو القادر على كل شيء.
معايش : جمع معيشة : وهي كل ما يمكن من وسائل العيش.
بعد أن بين الله تعالى أنه هو واضعُ الدِين فيجب اتّباعه، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا، وذكَر عذاب الآخرة، أردف هنا بذكر ما أنعم به على عباده.
ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكم أوطاناً تستقرون فيها، ومنحناكم القوة لاستغلالها، وهيأنا لكم وسائل العيش فيها، من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة إلى أخرى تتقدم بتقدم العلم والاختراع، وغير ذلك مما يرفّه عنكم ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾. وكل ذلك يقتضي منكم الشكَر الكثير، لكنّكم ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾. وكما قال تعالى في آية أخرى ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾.
قراءات :
معايش بالياء، قرأ بذلك جميع القرّاء، ورُوي عن نافع «معائش » بالهمز.
بعد أن ذكّر الله عباده في الآية بنعمه عليهم، بيّن هنا أن الله خلق النوع الإنساني مستعدّاً للكمال، لكنه قد تَعرِض له وسوسة من الشيطان تحُول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.
الخطابُ لبني آدم جميعا... لقد خلقنا مادة هذا النوع الإنساني، وقدّرنا إيجاده، ثم صوّرناه على هذه الصورة الجميلة، ثم قلنا للملائكة اسجُدوا لآدمَ سجود تعظيم، فأطاعوا أمرنا وسجدوا له إلا إبليس.
التكبر : الاستعلاء وتقدير الإنسان نفسَه أكثر من اللازم.
الصغار : الذلة.
فجزاه الله على عناده وكيده بطرِده من دار كرامته، وقال له : اهبط منها بعد أن كنتَ في منزلة عالية.
﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾، أي ليس ينبغي أن تتكبر في هذا المكان المعَدَّ للكرامة والتعظيم، ثم تعصي ربك فيه. ﴿ فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين ﴾ أي المحكوم عليهم بالذلة والهوان.
قال إبليس لله :«قال أنظِرْني إلى يوم يُبعثون » أي أمهلْني إلى يوم القيامة،
مذءوماً : مذموماً معيبا مدحورا : مطرودا.
أي : أنني بسبب حكمك عليَّ بالغواية والضلال، أُقسم أن أقعد لأبناء آدم هذا على صراطك المستقيم، كي أصرفَهم عنه مُتّخِذاً في ذلك كل وسيلة ممكنة.
﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ لنعمك عليهم.
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعُ هؤلاء الدعوات :«اللهم احفظني من بين يَديّ ومن خَلْفي، وعن يَميني وعن شِمالي ومِن فوقي، وأعوذُ بك أن أُغتال من تحتي ».
أما الشجرة التي أكل منها آدم فلم يبين القرآن نوعها، ولم يردْ في حديث صحيح تفسير لحقيقتها.
لا يزال الحديث متّصلاً في الكلام على النشأة الأولى للبشر.
الجنة : هي التي خُلق فيها آدم، أما هو فقد خُلق من الأرض بنص القرآن الكريم. وقد تكررت قصة آدم في سبعة مواضع من القرآن الكريم.
وجمهور المفسرين على أنها جنة الجزاء التي وُعد بها المتّقون يوم القيامة. والخطاب لآدم. وهو : أُسكن أنت وزوجُك حوّاء الجنة، وتنعّما بما فيها، فكلا من أيّ طعام أردتما إلا هذه الشجرة ( شجرة قد عينها الله لهما ) فلا تقرباها حتى تظلما نفسيّكما بمخالفة أوامري.
ما ووري عنهما : ما غُطي وستر.
فزيّن لهما الشيطانُ مخالفة أمر الله، حتى إذا أكلا منها انكشفت عورتُهما. وقال الشّيطان لهما : إنما نهاكُما عن الأكل من هذه الشجرة حتى لا تكونا ملَكَين، أو من الخالدِين الذّين لا يموتون أبدا.
وأقسم لهما أنه ناصح لهما فيما رغّبهما فيه من الأكل من تلك الشجرة.
سوءاتهما : عوراتهما.
يخصفان : يلزقان ورقة فوق ورقة.
فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل حتى أطاعاه، فلمّا ذاقا طعمها انكشفت لهما عوراتُهما، فخجِلا وجعلا يجمعان بعض أوراق الشجر من الجنة ليستُروا بها عوارتهما.
فعاتبه الله تعالى على عصيانه أمره، وإطاعتِه للشيطان فقال :
﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ ﴾.
وناداهما ربهما منّبهاً لهما على خطئهما، ومعاتباً لهما قائلاً : ما نَهَيتُكما عن أن تقربا هذه الشجرة وقلتُ لكما إن الشيطان لا يريد لكما الخير فإن أطعتُماه أخرجكما من الجنة إلى حيث الشقاء والتعب !
أي أنكم في هذه الأرض التي خُلقتم منها تولَدون وتعيشون، وفيها تموتون وتُدفنون، ومن هذه الأرض تُخرجون عند البعث، كما قال تعالى في سورة طه :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى ﴾.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وخلف ويعقوب :«تخرجون » بفتح التاء وضم الراء، والباقون «تخرجون » بضم التاء وفتح الراء.
لباس التقوى : هو الطاعة والعمل الصالح والتقييد بما أمر الله.
بعد أن ذكر الله تعالى خبر آدم وحواء والشيطان، وإبعادهم جميعاً إلى الأرض، وذكر أن الشيطان عدو لهما، بيّن هنا أنه أنعم على آدم ونسله بأن خلق لهم كلّ ما يحتاجونه من اللباس والطعام، وأن خير لباس يتزيّن به الإنسان هو تقوى الله. لذلك حذّرهم من الشيطان وفتنته بوسائله الكثيرة وأتباعه المتنوّعين.
هنا نادى الله بني آدم وامتنّ عليهم بما أنعم عليم من اللباس على اختلاف أنواعه، وقال لهم : لقد خَلقنا لكم، ملابس تستر عوراتِكم، وموادّ تتزينون بها، لكن الطاعةَ والتقوى خير لباس يقيكم العذاب فتجمّلوا بها وتلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى رحمته، ليتذكر الناس بها عظمته وأنه وحده يستحق الألوهية وتلك القصة من سُنن الله الكونية التي تبيِّن جزاءَ مخالفة أمرِ الله فيتذكر بها الناس ويحرِصُون على طاعة ربهم. وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباس التقوى » بالنصب، والباقون بالرفع.
القبيل : الجماعة.
يا بني آدم لا تستجيبوا للشيطان ولا تغفلوا عن محاولته خداعكم وإيقاعكم في المعاصي، فتخرجوا من هذه النعم التي لا تدوم بالشكر والطاعة. إياكم أن تفعلوا كما فعل أبواكم آدمُ وحواء، فأخرجهما الشيطان من النعيم والكرامة. إنه يأتيكم وأعوانُه بوسائل متعددة، حيث لا تشعرون بهم، ولا تُحسّون بأساليبهم ومكرهم. وليس للشيطان سلطانٌ على المؤمنين، إذ جعلناه وأعوانه أولياءَ للّذين لا يؤمنون إيماناً صادقاً، فهم أتباعه وجنوده.
بعد أن بيّن الله حالة الشياطين وأنهم قرناء للعاصين مسلَّطون عليهم، ذكر هنا أثر ذلك التسلط، وهو الطاعةُ لهم في أقبحِ الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح. لذا فإنهم يقولون : إنّنا نقلّد آباءَنا والله أمَرَنا بذلك.
وسببُ ذلك أن العرب ما عدا قريشاً كانوا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها من قبلُ، ويقولون : لا نطوف في ثيابٍ عَصينا فيها. وكانت قريش فقط تطوف في ثيابها، ومن أعاره قرشيُّ ثوباً طاف فيه، ومن كان معه ثوبٌ جديد طاف فيه ثم يلقيه، ومن لم يجد ثوباً طاف عريانَ. كان هذا مذهبهم، رجالاً ونساءً، فحرَّم ذلك الإسلام فقال :
﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا ﴾.
وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله عملا قبيحا لطوافهم في البيت عرايا، وغير ذلك من الأمور الباطلة، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءَنا يفعلون كما نفعل، ويسيرون على هذا المنهاج، ونحن بهم مقتدون، والله أمرنا به ورضي عنه حيث أقرّنا عليه.
وقد ردّ الله على ذلك بقوله :
﴿ قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء ﴾ قل أيها النبيّ، منكِراً عليهم افتراءَهم : إن الله لا يأمر بهذه الأمور المنكَرة.
ثم ردّ عليهم أيضا بقوله :
﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أتنسِبون إلى الله ما لا تعلمون أنه شَرَعَه لعباده، وليس عندكم دليل على صحة ما تقولون ! !
إقامة الشيء : إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه، أقيموا وجوهكم : أعطوا توجهكم إلى الله حقه.
وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا، بيّن ما يأمر به الله من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق بقوله لرسوله :
﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط... ﴾ أي : بالعدل، وما لا فُحش فيه. وأمركم أن تخصّوه بالعبادة في كل زمانٍ ومكان، وأن تكونوا مخلِصين له الدينَ، ولا تتوجهوا إلى غيره.
وبعد أن بيّن أصلَ الدين، وأمَرَنا بالتوجّه إليه وحدَه، ذكّرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال :
﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ أي : إنكم أيها البشَر كما بدأ الله خلقَكم وتكوينَكم ستعودون إليه يوم القيامة، تاركين ما حولكم من النِّعم وراء ظهوركم.
الإسراف : تجاوز الحد وعدم الاعتدال في المأكل والمشرب وصرفُ الأموال في غير موضعها.
في هذه الآية تأكيدٌ على ستر العورة، والتزُّين والتجمُّل عند كل صلاة : فاللهُ سبحانه بعد أن أمر بالعدل في كل الأمور، أكّد هنا بنداء إلى بني آدم : خُذوا زينتكم من الثياب الحسنة، مع الخشوعِ والتقوى عند كل مكان للصلاة، وفي كل وقتٍ تُؤَدون فيه العبادة. ثم إنه أمَرَنَا بالاعتدال في الأكل والشرب، وأن لا نتجاوز الحدّ المعقول :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين ﴾ لأن الإسراف في المطعَم يُضِرّ بالصحة، والإسراف في المال يؤدّي إلى الفقر، وبذلك يجني المرء على أُسرته، ومن ثم على وطنِه، حين يغدو عالةً على المجتمع.
والتزيُّن للعبادة عند كل مسجد، وِفق عُرف الناس في تزينّهم في المجتمعات والمحافل، أمرٌ مطلوب شرعاً، ليكون المؤمن في أجمل حال عندما يقف بين يدي ربه، أو في أيّ اجتماع. وهو أصلٌ من الأصول الدينية والمدنيّة عند المسلمين. وقد كان سبباً في تعليم القبائل البدائية، والأوساط المتأخرة في إفريقية وغيرها من الأمم التي تعيش عراةَ الأجسام رجالا ونساء. وكان هذا من فضل الإسلام، الذي نقل أمما وشعوبا من الوحشية إلى الحضارة الراقية.
وقد روى النَّسائي وابنُ ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كُلُوا واشربوا وتصدَّقوا والبَسوا في غير مَخيِلَةٍ ولا سَرَف، فإن الله يحبّ أن يرى أثَرَ نِعمه على عبده ». ومعنى «مخيلة » كِبر وإعجاب بالنفس.
روى أبو داود عن أبي الأحوص قال :«أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال : ألَكَ مال ؟ قلت : نعم، قال : من أيّ المال ؟ قلت : قد آتانّي اللهُ من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال : فإذا آتاك الله فَلْيَرَ أثَرَ نِعمته عليك وكرامته لك ».
﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
إن هذا التفصيلَ لِحُكم الزينة والطيبات من الرزق الذي ضلَّ فيه كثير من الأمم والأفراد، ما بين إفراط وتفريط، إنما جاء في كتابنا هذا أيها الرسول، لِقومٍ يدركون أن الله وحدَه مالكُ الملك، بيده التحليل والتحريم.
قراءات :
قرأ نافع «خالصةٌ » بالرفع، والباقون «خالصة » بالنصب.
الإثم : الذنب يشمل جميع المعاصي.
البغي : تجاوز الحد، الظلم.
السلطان : الحجة.
بعد أن أنكر الله فعلَ من حرمّ زينةَ الله التي أخرجها لعباده والطّيبات من الرزق-، بيّن هنا أصول المحرّمات، حتى يعلمَ الناسُ أنه لم يحرّم عليم إلا ما هو ضارٌّ لهم. فقلْ أيها الرسول لِلْذين افتروا على الله الكذب : إنما حرّم ربي هذه الأمورَ الستة، لما لها من ضرر شديد وخطر عظيم على الأُمم وهي :
١، ٢- الفواحشُ، الظاهرة والباطنة، من الأعمال المتجاوِزة لحدود الله.
٣- الإثم : وهو كل معصية لله أياً كان نوعها.
٤- البغي بغير الحق، وهو الظلم الذي فيه اعتداءٌ على حقوق الأفراد والجماعات
٥- الشِرك بالله وهو أقبح الفواحش.
٦- ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي تفتروا عليه سبحانَه بالكذِب في التحليل والتحريم بغيرِ علمٍ ولا يقين.
الأجل : مدة الشيء ووقته.
الساعة : الوقت القصير.
بعد أن بيّن تعالى المحرمات على بني آدم، ذكر هنا حال الأمم وأنها مهما طال أمدها فإنها ذاهبة، ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي أمدٌ ونهاية معلومة ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ... ﴾ فإذا جاء ذلك الوقت الّذي وقَّته الله لنهايتهم، ذهبوا، لا يتأخّرون عنه ولا يتقدّمون حتى وقتاً قصيرا.
والأجلُ المضروب إما أجَلُ كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يُنهي الحياة، وأما أجلُ كل أمةٍ من الأمم بمعنى الأمدِ المقدَّر لقوّتها في الأرض. وسواء كان المعنى هذا الأجَل أو ذلك فإنه مرسوم محدَّد.
يا بني آدم : إن يأتِكم رسُلٌ من أبناء جنسكم من البشر ليبلّغوكم آياتي التي أوحيتُها لهم، كنتم فريقين : فالّذين يؤمنون ويعملون الصالحاتِ لا خوفٌ عليهم من عذاب الآخرة ولا هم يحزَنون في ديناهم وأخراهم.
أولاً : عند احتضارهم يوم الموت، فيقول : إن من أشدِّ الناس ظُلماً أولئك الّذي يفترون على الله الكذب أو يكذّبون بآيات الله. كيف تأتيهم رسُل الله لقبض أرواحهم !.
لا أحدّ أظلمُ من الذين يفترون الكذبَ على الله، بنسبة الشريك والولد إليه، وادّعاء التحليل والتحريم من غير حُجة، أو يكذّبون بآيات الله المُوحى بها في كتبه أولئك ينالون في الدنيا نصيباً مما قُدّر لهم من الرزق والحياة، حتى إذا جاءهم ملائكة الموت، قال لهم الملائكةُ موبخين إياهم : أين الشركاءُ الّذين كنتم تعبُدونهم في الدنيا من دون الله ! دعوهم يدرأون عنكم الموت ؟ فيقولون : لقد تبرّأوا منّا وغابوا عنّا. ونحن نشهد على أنفسنا أننا كنّا بعبادتنا لهم في ضلال ظاهر.
يومئذ يقول الله لهؤلاء الكفار : ادخلوا النار مع أممِ من كفّار الجن والإنس، قد مضَت من قبلكم، كلما دخلت جماعةٌ النار ورأت ما حلّ بها من الخِزي لَعَنَتْ سابِقتَها التي اتّخذتها قُدوة لها. حتى إذا تتابعوا فيها مجتمعين، قال التابعون يذمُّون المتبوعين : ربّنا هؤلاء أضلّونا بتقلِيدِنا لهم، وبتسلُّطهم علينا. إنهم هم الذين صرَفونا عن الحق، فعاقبهم عقاباً مضاعفا. وهنا يردّ صاحب العزّة والجلال : لكلٍ منكم عذابٌ مضاعَف، لا ينجو منه أحد، ولا تعلمون شدّته ولا مداه.
قراءات :
قرأ الجمهور :«لا تعلمون » بالتاء، وقرأ أبو بكر عن عاصم :«لا يعلمون » بالياء.
فيقول الله لهم جميعاً : ذوقوا العذابَ الّذي استوجَبْتُموه بما كنتم تقترفون من كفرٍ وعصيان.
الآيات ( هنا ) : الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع.
الجمل : الحيوان المعروف. يلج : يدخل. سم الخياط :«ثقب الإبرة. المجرمين : المفسدين المذنبين، وأصل الجرم القطعُ، والجرم الذنب.
في هذه الآية تتمةُ ما سلَفَ من وعيد الكفار وجزاء المكذّبين.
إن الذين كذّبوا بآياتنا المنزَلَة في الكتُب، ولم يتّبعوا رسُلنا، بل تكبّروا عن التصديق بما جاءوا به ولم يتوبوا، ميؤوس من قبول أعمالهم، ومن المستحيل أن يدخُلوا الجنة، كاستحالة دخول الجمل في ثُقب الإبرة.
على هذا النحو من العقاب نعاقبُ المجرمين المكذِّبين والمستكبرين من كل أُمة.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : لا تُفْتَحُ بالتخفيف. وقرأ حمزة والكسائي : لا يُفْتَحُ بالياء.
الغواشي : الأغطية، وكل ما يستر ويغطي، والمعنى أن النار محيطة بهم من كل جهة.
إنّ لهم في جهنم فراشاً من نار، وأغطيةً من نار، أي أن النار محيطة بهم مطبِقة عليهم كما جاء في كثير من الآيات ﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴾ وهذا جزاء الظالمين.
يعرض الله تعالى هنا المشهدَ المقابل، وهو حال المؤمنين وما يلاقونه يوم القيامة من نعيم، وكيف يُذهِب من صدروهم كلَّ حقدٍ وغل، فيحمَدون الله على نِعمه وما أورثهم من جنات. وتلك طريقة القرآن الكريم، وهذا منهجه الحكيم.
والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة التي لم نكّلفهم إلا ما يُطيقونه منها، هم أهل الجنة يتنعّمون فيها، خالدين فيها أبدا.
الغل : الحقد من عداوة أو حسد.
أورثتموها : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.
لقد أخرجْنا ما كان من صدورهم من حقد، فهم اليوم في الجنة، إخوان متحابّون- وهذا بخلاف الكّفار الّذين يلعن بعضُهم بعضا- تجري من تحتهم الأنهار بمائها العذب، ويعبّرون عن سرورهم بما نالوا من النعيم قائلين : الحمدُ لله الّذي هدانا فدلَّنا على طريق هذا النعيم، ووفّقنا إلى سلوكه. ولولا أن هدانا الله، بإرسال الرسل وتوفيقه لنا، ما كان في استطاعتِنا أن نهتدي وحدنا. لقد جاءت رُسل ربّنا بالوحي الحق فآمنّا برسالاتهم.
وهنا يناديهم ربهم ويقول لهم : إن هذه الجنةَ هبةٌ من الله أُعطيتموها فضلاً مني دون عوض منكم، كالميراث، كل هذا جزاء إيمانكم وأعمالكم الصالحة في الدنيا.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«ما كنا لنهتدي » بدون واو. والباقون : وما كنا لنهتدي.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخّدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ، ينادي منادٍ، إن لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبدا، وإن لكم أن تَحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تَشُبّوا فلا تهرَموا أبدا، وإن لكم أن تَنْعَموا فلا تيأسوا أبدا ».
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«سَدِّدوا وقاربوا وأبشِروا، فإنه لا يُدخِل أحداً الجنةَ عملُه » قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال «ولا أنا، إلا أن يتغمّدَني الله بمغفرٍة ورحمة ».
سدِّدوا وقاربوا : لا تغْلوا في دينكم، ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.
وهذا الحديث تنبيهٌ من النبي الكريم لنا حتى لا نغترَّ بأنفُسِنا وبأعمالنا فنتّكلَ عليها كما يفعل كثير من المتدينين. فنراهم يشمخون بأنوفهم، ويتعالون على غيرهم، وهذا ليس من الإسلام.
ومعنى الحديث : إن هذا الجزاءَ الذيَ يحصَل عليه الطائعُ ليس بَدَلاً مماثلاً لطاعته، وليس جزاء مساوياً كالشأن بين البدَلَين، وإن كانت الطاعة هي التي أوجبتْه. لذا فإنه لن يدخلَ أحدُكم الجنةَ بعملٍ يساوي ما فيها من النعيم. ففضلُ الله عظيمٌ سابغ باعتبار جعلِه الجنةَ بَدَلاً من عمل محدود لا يقابلها في ذاته.
فأذن مؤذن : المراد به هنا رفع الصوت بالإعلام بالشيء.
اللعنة : الطرد والإبعاد.
بعد أن ذكر الله وعيدَ الكفار وثواب أهلِ الإيمان بيّن ما يكون بين الفريقَين : فريق أهل الجنة، وفريق أهل النار، من المناظرة والحِوار بعد أن يستقرّ كلُّ منهما في داره. ولا يقتضي هذا الحوارُ والتخاطب قُرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالَمُ الآخرة عالَمٌ مختلِف كل الاختلاف، فيجوز أن يكونَ بين الجنة والنار آلافُ الأميال أو أكثر، ومع ذلك يمكن للفريقَين أن يروا بعضَهم، ويسمعوا كلام بعضٍ بحالٍ لا نَعْلَمُه، وبطريقةٍ تختلف كل الاختلاف عن حالِنا وعالمنا.
ونادى أهل الجنة النار قائلين : قد وجدْنا ما وَعدَنا ربُّنا من الثواب حقّاً، فهل وجدتُم أنتم مثل ذلك في العذاب حقا ؟ فأجابوهم : نعم، قد وجَدْنا ما أوعدَنا به ربُّنا حقّا كما بلَّغنا إياه على ألسنةِ الرسل. فنادى منادٍ بين أهل الجنة وأهل النار قائلا : إن الطردَ من رحمة الله هو جزاءُ الظالمين لأنفسهم، الجانِين عليها بالكفر والضلال.
قراءات :
قرأ ابن كثير، وابن عامر وحمزة والكسائي :«أنَّ لعنةَ الله ». بالتشديد وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم : أنْ لعنةُ اللهِ بإسكان النون أن، ورفع لعنة.
يبغونها عوجا : يريدون أن تكون الطريق معوجة، أي بالضلال والإضلال.
إنهم همُ الّذين يُعرِضون عن سبيل الله ويمنعون الناسَ عن السَّير في الطريق السويّ، وهو الإيمان والعمل الصالح، ويبغون الطريق المعوجّة الضالَة المضلة.
وهم منكرِون للبعث والجزاء. ولذلك تجدهم لا يبالون، فيأتون المنكَر من القول والعمل. هؤلاء هم شر الناس.
الأعراف : مفردها عُرف، وهو كل شيء مرتفع.
والسيما والسيمياء : العلامة.
وإذا صُرفت أبصارهم : حولت تلقاء جهة وهي الجهة المقابلة.
فيه هذه الآية والآيات اللاحقة يجيء ذكر لفرقة لم يتحدث عنها القرآن الكريم باسمِها ومكانها وندائها إلا في هذه السورة. وهي الفرقة التي سميت «أصحابَ الأَعراف » وسُمّيَت السورة باسمها.
وذلك وصفٌ لمشهد آخر من مشاهد يوم القيامة يبين أنَّ بين أهل النار وأهل الجنة حجاباً، وأن هناك جماعةً على الأعراف ينادون أهلَ الجنة بالتحيّة والتكريم.
يعرفون كلا من السعداء والأشقياء بعلامات تدل عليهم من أثر الطاعة والعصيان. لم يدخلوا الجنةَ بعد، وهم يرجون دخولها.
وهذا نداءٌ آخرُ من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبِرين الّذين كانوا يعتزون في الدنيا بِغِناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاءَ المؤمنين لفقرِهم وضعف عصبيتهم. لقد كانوا يزعمون أن من أغناه الله وجعلَه قويّاً في الدنيا فهو الذي يكون له نعيمُ الآخرة. فيقولون لهم الآن : ما أفادَكُم جمعُكم الكثيرُ العدد، ولا استكبارُكم على أهل الحق بسبب عصبيتّكم وغناكم ! ! ها أنتم أذِلاّءُ ترون حالهم وحالكم.
أهؤلاء الذين حلفتم في الدنيا أن رحمة الله لن تنالهم ! ها هم قد دخلوا الجنة، وكانوا من الفائزين.
قال الله تعالى لأصحاب الأعراف بعد أن طال وقوفُهم، وهم ينظرون إلى الفريقين : ادخُلوا الجنةَ لا خوف عليكم من أمر مستقبلكم، ولا أنتم تحزنون على أمرٍ فاتكم.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام كثيرا، وتعدّدت الآراء فبعضهم قال : إن رجال الأعراف ملائكة، وبعضهم قال إنهم الأنبياء، أو عدول الأُمم الشهداءُ على الناس، أو أهل الفترة، أو هم الّذين تساوت حسناتُهم وسيئاتهم إلى غير ذلك من الأقوال.
والذي يجب أن نقفَ عنده هو أن هناك حجاباً بين الجنة، والنار، اللهُ أعلمُ بحقيقته، لأنه في عالم الآخرة. والمقصودُ أن ذلك الحجاب يحجِز بين الفريقين، لكنّه لا يمنع من وصول الأصوات. وأن هناك مكاناً له صفةُ الامتياز والعلوّ، فيه رجال لهم من المكانة ما يجعلهم مشرِفين على هؤلاءِ. وهم ينادون كلّ فريقٍ بما يناسبه.. يحيُّون أهل الجنة، ويبِكّتُون أهل النار. ثم إن أصحاب هذا الحجاب يدخلون الجنة برحمة من الله وفضله.
في هذه الآية مشهد من مشاهد الآخرة بين أصحاب الجنة. فبعد أن بين الله تعالى مقال أهل الجنة لأهل النار، ومقال أصحاب الأعراف لأهل الجنة، ذكر كيف يستجدي أهلُ النار، بعد أن لفحتهم حرارةُ النار واشتد بهم الظمأ، من أهل الجنة أن يمنحوهم شيئا مما يتمتعون به من شراب وطعام : فينادونهم قائلين : أفِيضوا علينا بعض الماء، أو أعطونا شيئاً من طيبات المأكل والملبس في الجنة فيجيبهم أهل الجنة : إننا لا نستطيع، لأن الله تعالى حرّم ماء الجنة ورزقها على الكافرين، كما حرم عليهم دخولها.
﴿ الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي شَغَلتْهم بزخارفها، وكان دينهم اتّباعَ الهوى والشهوات. لقد ظنّوا أن الحياة الدنيا لا حياةَ غيرها، فعكفوا على الجانب الماديّ المظلم، وحرموا أنفسهم من الجانب الروحي المشرق. هكذا عاشوا في ظلام المادّة وهم يحسنون أنهم يُحسِنُون صنعا.
وكثيراً ما يضيف القرآن الكريم هذا الوصفَ إلى الكافرين ويعلن أنه سبب نكبتم وسوء مصيرهم.
بعد هذا يسمع أهل لنار الحكم الإلهي العادل :
فاليوم نعاملهم معاملةَ الشيء المنسِيّ الذي لا يبحث عنه أحد. لقد جَحَدوا بآيات الكون فلم تفتّح لها عيونُهم، ولم تتجه إليها قلوبُهم، وأعرضوا عن حكم الله وإرشاده. بذلك نسُوا لقاءَ يومهم هذا، فوقعوا فيما وقعوا فيه.
التفصيل : التبين بوضوح.
بعد أن بين الله أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف وما دار بينهم من حوار، عقَّب بذِكر حال القرآن الكريم، وأنه حجةُ الله على البشر كافة، أزاح عِلل الكفار وأبطل معاذيرهم. ثم أردف تعالى بذِكر حال المكذبين وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنّي العودة إلى الدنيا ليعملوا غير الذي كانوا يعملون. لكن، هيهات.. لقد فات الأوان وطُويت حياة العمل.
لقد جئناهم بكتابٍ كامل البيان هو القرآن، فصّلنا آياتِه تفصيلاً على علم منّا، فيه أدلّةُ التوحيد وآياتُ الله في الكون، وما يحتاج إليه المكلَّفون من العلم والعمل وفيه بيان الطريق المستقيم.
تأويله : عاقبته.
الحق : الأمر الثابت.
خسروا أنفسهم : غبنوها وهلكوها.
ضل عنهم : غاب عنهم.
هل ينتظرون إلا عاقبةَ ما وُعدوا به على أَلسنة الرسُل من الثواب والعقاب ؟ ليس أمامهم شيء ينتظرونه إلا وقوعَ تأويله من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل، في الدنيا ثم في الآخرة.
ويوم يأتي هذا المَآل، وهو يوم القيامة، وينكشف كل شيء، يقول الذين تركوا أوامره وبيناته، معترفين بذنوبهم : قد جاءنا الرسُل من عند ربِّنا داعيِين إلى الحق الذي أُرسلوا به، فكفرنا بهم.
ثم ذكر الله حالهم في ذلك اليوم العصيب، وتلهُّفَهم على النجاة. فقال :
﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾.
هنا يتمنَّوْن الخلاصَ بكل وسيلة ممكنة، إما بشفاعةِ الشافعين، وإما بالرجوع إلى الدنيا. وكل ذلك مستحيل.
قد غبنوا أنفسَهم بغرورهم في الدنيا وباعوا نعيم الآخرة الدائمَ بالخسيس من عَرَضٍ الدنيا الزائل، وغاب عنهم ما كانوا يكذِبونه من ادّعاءِ إله غير الله.
الإله : هو المعبود بحق. والله : اسم لخالق الخلق أجمعين.
السماوات والأرض : هذا الكون وجميع ما فيه.
اليوم : هو هنا غير أيامنا التي نحسب بها.
العرش : سرير الملك وكرسيه في مجلس الحكم والتدبير.
استوى على العرش : استولى عليه وملكه.
غشّى الشيُّء الشيْءَ : غطاه وستره. وأَغشاه إياه جعله يغطيه ويستره. حثيثا : سريعا.
مسخَّرات : مذللات خاضعات لتصرفه، منقادات لمشيئته.
الخلق : الإيجاد بقدر.
تبارك الله : تعاظمت بركاته، والبركة هي الخير الكثير الثابت.
في الآيات السابقة كان القول في أمر المَعادِ والفئات من الناس في ذلك اليوم، وما يدور من حوار بين تلك الفئات. وهنا، يذكر الخَلق والتكوينَ وبيان قدرته تعالى وعظيم مصنوعاته.
إن ربّكم الذي يدعوكم بواسطة رسُله إلى الحق هو خالقُ الكون ومبدعه : خلق السماوات والأرض في ستة أيام. وهي غير أيامنا المعروفة لأن الإنسان عندما يخرج من جو الأرض ينعدم لديه الزمان المعروف عندنا ويصبح غير محدود، كما قال تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ هذا مع أنه جل جلاله قادر على أن يخلق الكون في لحظة واحدة، ولكنه يقرّب إلى أفهامنا الأمور على قدر ما نستطيع فهمها.
﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش... ﴾ ثم استولى على السلطان الكامل.
وهو الذي يجعل الليلَ يستر النهارَ بظلامه، ويعقِّب الليلَ النهارَ سريعاً بانتظام كأنه يطلبه. كذلك خلقَ الشمسَ والقمر والنجوم، وهي خاضعة له مسيَّراتٌ بأمره. إن له وحده الخلقَ والأمَر المطاع ﴿ تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاثة معان :
أولها : أن السماواتِ والأرضَ خلقهما الله تعالى في ستة أيام، لكنها ليست بقدر ما نراه الآن ونعيش فيه، ونعدّه في الحساب، بل المراد تغير أحوالٍ بين ظَلام وغَبَش، وإصباح وضُحى، وظهيرة وأصيل.
والأحوال الستةُ التي اعتُبرت أياماً كما يذكرها العلماء المختصّون، هي : حال الأثير، وهي التي عَبَّر عنها في سورة الدخان بأنها دخان. ثم كان من هذا الأثير شموسٌ لا حصر لها، منها شمسُنا. ثم الأرض والكواكب وهذا النظام الذي نعيش فيه، وهو ذرّةٌ في هذا الكون الواسع.
ثانيها : أن كلّ ما في الكون هو في سلطان الله وحده، ولا سلطان لأحد سواه. ومهما يُؤْتَ الإنسان من قوةٍ فلن يستطيع تسيير الكون على ما يريد، وأقصى ما يستطيعه أن ينتفع به، ويعرف بضع ما فيه من أسرار.
ثالثها : أن تعاقب الليل والنهار جاءَ بعد خلْقِ الأرض والسماوات، في أحوال نسبية بالنسبة لأصل تكوين الأرض والعلاقات بينهما وحركاتهما.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عصام : يُغَشّىِ، بالتشديد وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص يُغْشي بضم الياء وسكون الغين.
لا يحب المعتدين : المتجاوزين الحدود، ومعنى لا يحبُّهم أنه لا يجازيهم بالثواب.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الأدلة على توحيد الربوبية، أمر بتوحيد الألوهية أي إفراده تعالى بالعبادة.
إذا كان الله قد أنشأ الكونَ وحده، فادعوه متضرّعين مبتهِلين، جهراً وغير جهر. والدعاء خفية أفضلُ، لما روى أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفَر فجعل الناس يجِدُّون بالتكبير فقال رسول الله :«أيها الناس، أربعوا على أنفسِكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا. إنكم تدعون سَميعاً قريباً وهو معكم. » رواه مسلم. ومعنى اربَعوا على أنفسكم : ارفقوا بأنفسكم.
وفي الحديث أيضا «خيرُ الذِكر الخَفِي، وخير الرزق ما يكفي » رواه أحمد وابن حبان وأبو يعلى عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.
وفصّل بعض العلماء فقال : أن التضرُّع بالجهر المعتدِل يحسُن في حال الخَلوة، والأمنِ من رؤية الناس للداعي وسماعهم لصوته. أما الدعاء خفيةً فيحسُن في حال اجتماع الناس في المساجد وغيرها إلى ما ورد في رفعُ الصوت من الجميع كالتلبيةِ في الحج وتكبير العيدين.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾.
لا تعتدوا بإشراك غيره معه في الدعاء أو بظلم أحدٍ من الناس، فإن الله لا يحب ذلك.
والإفساد هنا شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية، والاجتماعية من جميع وجوهها.
وبعد أن بيّن في الآية الأولى كيفيّةَ الدعاءِ أعاد الأمر به في الآية الثانية. وذلك إيذاناً بأنَّ من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه، ولا يدعو ربه تضرّعاً وخفية - يكون أقربَ إلى الإفساد منه إلى الإصلاح فقال :
﴿ وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾. ادعوه سبحانه خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه. ثم إنه بيّن فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين ﴾، إن رحمته قريبة من كل محسِن، وهي أكيدةٌ محققة. والجزاء من جنس العمل، فمن أحسن في عبادته نال حُسن الثواب، ومن أحسن في الدعاء نال خيراً مما طلب. وقريب ( فعيل ) يوصف بها المذكر والمؤنث.
قال الراغب : كلُّ موضع ذكَر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب، وكل موضع ذكَر فيه الريحَ بلفظ الجمع كان للرحمة. وأظن أن هذا في الغالب، لأن الله تعالى يقول :﴿ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ وفي سورة يوسف :﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ سورة [ يوسف : ٩٤ ].
بُشرا : مبشرة.
بين يدي رحمته : قدّام رحمته.
أقلّت : حملت.
سحابا ثقالا : غيما مثقلا بالمياه.
البلد : يطلق على البلدة، وعلى الموضع.
لبلدٍ ميت : أرض لا نبات فيها.
الثمرات : كل ما تحمله الأشجار من جميع الأنواع.
إن الله سبحانه تعالى وحده هو الذي يُطلِق الرياح مبشرة برحمته «وهي هنا الأمطار التي تُنبت الزرعَ وتسقي الغرس ) فتحمل هذه الرياحُ سحاباً محمَّلاً بالماء، يسوقه الله إلى بلد ميتٍ لا نبات فيه فينزل الماء، وبه يُنبت الله أنواعاً من كل الثمرات تدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وفضله.
وبعد أن ذكَّرهم بهد الآيات والنعم قفّى على ذلك ما يزيل إنكارهم للبعث فقال :﴿ كذلك نُخْرِجُ الموتى ﴾، بمثل ذلك الإحياء للأرضِ بالإنبات نُخرج الموتى فنجعلهم أحياء.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، أي : تفطنون لهذا الشبه فيزول استبعادُكم للبعث، وبذلك تتذكّرون قدرة الله وتؤمنون به.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الرّيح » بالإفراد. وقرأ ابن عامر : نُشْراً جمع نشور، وقرأ حمزة الكسائي : نَشْراً بفتح النون وقرأ عاصم كما هو بالمصحف «بُشْراً » وقرأ نافع : نُشُراً بضم النون والشين.
الشحيح : القليل النفع.
نصرّف الآيات : نبدل الأشياء من حال إلى حال.
وبعد أن ضرب الله إحياءَ البلاد بالمطر مثلاً لبعث الموتى، ضرب اختلاف نتاج البلاد مَثَلاً لما في البشَر من اختلاف الاستعداد لكّلٍ من الهدى والكفر.
أما الأرض الجيدة التربة فإن نباتها يخرج نامياً حياً بإذن ربه، ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة. وأما الأرضُ الخبيثة فإنها لا تُخرج إلا نباتاً قليلاً عديم الفائدة.
في مثل ذلك التصريف البديع نردّد الآياتِ الدالّةَ على القدرة الباهرة، ونكررها لقوم يشكرون نِعمنا، وبذا يستحقُّون المزيد منها.
بعد أن ذكر الله تعالى الإنسان ومعادَه، وأن مردَّه إليه يوم القيامة، جاء هنا يذكر قصص الأنبياء مع أُممهم، وكيف أعرضتْ عن دعوتهم. وذلك حتى يبيّن للرسول الكريم أن إعراضَ المشركين عن قبول الدعوة ليس أمراً جديدا، بل وفي هذا تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم.
أكّد الله تعالى مخاطِباً البشَر جميعا بأنه أرسلَ نوحاً إلى قومه الّذين بُعث فيهم، وقال لهم مذكِّرا بأنه منهم : يا قومُ اعبُدوا الله تعالى وحدَه، فليس لكم أيُّ إلهٍ غيره تتوجّهون إليه في عبادتكم. إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ شديدٍ هولهُ، وهو يوم الحساب والجزاء...
قراءات :
قرأ الكسائي :«ما لكم من إله غيرِهِ » بكسر الراء والهاء. والباقون «غيرُهُ » بضم الراء والهاء.
قال أهل الصدارة والزعامة منهم مجيبين تلك الدعوة إلى الوحدانية واليوم الآخر : يا نوح، إنا لَنراك في ضلالٍ بيّن عن الحقِ، كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا من الأصنام ؟
وإني في هذه الدعوة إلى الوحدانية والإيمان باليوم الآخر، أُبلِّغكم ما أرسلني به ربّي، وأَمحضُكم النُّصح. واعلموا أنني في هذا التبليغ وذلك النصح على علمٍ من الله أوحاهُ إليَّ لا تعلمون منه شيئا.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :«أُبِلغُكم » بإسكان الباء والباقون : أبَلِّغكم بفتح الباء وتشديد اللام المكسورة.
على رجُل منكم : على لسان رجل منكم.
أترمونَنِي بالضلالة والبُعد عن الحق، ثم تعجَبون من أن يأتيكم ذِكرٌ وموعظة من خالقكم، وعلى لسان رجل منكم جاء يحذّركم عاقبةَ كفركم، رجاء أن تكونوا في رحمة الله في الدنيا والآخرة.
عمين : جمع عمٍ، وهو الأعمى. وقال بعض العلماء إنه خاص بعمى القلب والبصيرة، فيما الأعمى هو أعمى البصر.
لكنهم مع تلك البينات لم يؤمن أكثرهم، بل كذّبوه، وأصرّوا على كفرهم، فأنجيناهُ هو والّذين أخذهم معه في الفُلك من الطوفان، وأغرقنا من كذّبه. لقد عاندوا فكانوا بذلك قوماً عُمي القلوب والبصيرة. وقد ذُكرت قصة نوح مفصلة في سورة هود.
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«الدينُ النصيحة، قلنا لِمَن يا رسولَ الله ؟ قال : لِلّه ولرسوله ولأئمةِ المسلمين، وعامّتِهم ».
تعرض هذه الآية والآيات التي بعدها قصة هودٍ مع قومه، قومٍ عاد، فقد كانوا عباد أوثانٍ، منازلُهم في الأحقاف- وهو الرمل - بين عُمان وحضرموت. وقد رزقهم الله القوة والغنى، فلمّا جاءهم هودٌ بالرسالة من عند ربه ليوحّدوه، ويكفّوا عن الإفساد في الأرض، أبوا ذلك، وكذّبوه، وأصروا على عبادة أصنامهم.
ولقد قال لهم : يا قوم، اعبُدوا الله وحده، ليس لكم إله غيره، «أفلا تتَّقون » أي : تخشون الله، علّه ينجيكم من الشَّرِ والعذاب.
فأجاب ذَوُو الزعامة والصدارة من قومه : إنا لَنراك في خِفّة من العقل، وضلالٍ عن الحق، كيف لا وقد تركتَ ديننا، ودعوْتَنا هذه الدعوة الغريبة ! ! إنا لَنعتقدُ أنك من الكاذبين.
آلاء الله : نِعمه واحدها أَلا وإلى.
هل أثار عجبكم واستغربتم أن يجيء إليكم تذكير بالحقّ من ربّكم على لسان رجلٍ منكم يخّوفكم عقابَ الله حتى تتركوا ما أنتم عليه.
ثم أشار إلى ما أصاب المكذِّبين الذين سبقوهم، وإلى نعمه عليهم فقال :
﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَسْطَةً... ﴾.
اذكُروا فضلَ الله عليكم إذ جعلكم وارثِين للأرض من بعد قوم نوحٍ الذين أهلكهم لتكذيبهم نبيِّهم نوحاً، وزادكم قوةً في الأبدان والسلطان. وكل هذه نِعم تقتضي الإيمان، فتذكّروا هذه النِعم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له وتَرْك الإشراك به.
وبعد أن استنكروا التوحيد تحدَّوه وقالوا : ائتِنا بالعذابِ الّذي تهدُّدنا به إن كنت صادقاً في قولك ووعيدك.
الغضب : الانتقام.
المجادلة : الممارة والمخاصمة.
السلطان : الحجة والدليل.
فأجابهم هود على تحدّيهم هذا :
﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ... ﴾.
إنكّم لعنادكم قد حقَّ عليكم عذابُ الله يَنزِل بكم، وغضبُه عليكم. تُجادلونني في أصنامٍ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ؟ ما جعل الله من حجّة تدلّ على ألوهيَّتها، ولا لها قوةٌ خالقةٌ تجعلكم تعبدونها. وما دمتم كفرتم ولَجَجْتم هذه اللجاجة فانتظِروا نزول العذاب الذي طلبتموه، ونحن ننتظر معكم.
فلما جاء أمرُنا ووقع العذابُ أنجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا، فيما استأصلْنا دابر الكافرين الذين جحدوا بآياتنا، حتى لم نبقِ منهم أحداً.
وهكذا طُويت صفحةٌ أُخرى من صحائف المكذبين.
البينة : المعجزة الظاهرة الدلالة.
وهذه قصة أخرى من قصص الأنبياء مع أقوامهم، هي قصة صالح عليه السلام ومفادها :
لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً الذي يشاركهم في النسَب والوطن، وكانت دعوته كدعوة الرسُل قبله. قال لهم : أخلِصوا العبادة لله وحده، مالكم إله غيره، قد جاءتكم حجةٌ وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقةِ ما أدعو إليه. هذه ناقةٌ ذات خَلق خاص، فيها الحُجة وهي ناقةُ الله، فاتركوها تأكل مما تُنبته أرض الله من العشب. لا تتعرّضوا لها ولا تنالوها بسوء، فإذا فعلتم أخذكم عذاب شديد.
وفي سورة الشعراء تفسير أوضحُ حيث قَسَم الماءَ الموجود في البلدة بين قومه وبين الناقة «هذه ناقةٌ لها شرْبٌ ولكم شرب يومٍ معلوم ».
بوأكم في الأرض : أنزلكم فيها، الأرض : هي الحِجر.
النحت : نجر الشيء الصلب والحفر فيه، وكانت بيوتهم منحوتةً في الجبل قطعةً واحدة، ولا يزال بقية منها إلى الآن.
لا تعثوا في الأرض : لا تفسدوا.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم، وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال :
﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ... ﴾.
تذكّروا أن الله جعلكم وارثين لأرض عادٍ، وأنزلكم منازل طيبةً في أرضهم، فصرتُم تتّخذون من السهول قصوراً فخمة، وتنحتون في الجبال بيوتاً حصينة. اذكروا نعم الله تعالى إذ مكّنكم في الأرض ذلك التمكين، ولا تعيثوا فيها مفسدين.
وعلى ذلك أجاب أهلُ الصدارة، والزعامة، مخاطبين الذين آمنوا من المستضَعفِين متهكّمين عليهم : أتعتقدون أن صالحاً مرسَلٌ من ربّه ؟ فأجابهم أهل الحق : نحن مصدّقون بما أُرسِل به صالح.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«وقال الملأ » بالواو.
فردّ عليهم المستكبرون : إنا جاحِدون ومنكِرون لِلّذي آمنتم وصدّقتم به من نبوّة صالح هذه.
عتَوا : تمردوا.
ثم لجّ العناد بأولئك المستكبرين، فتحدَّوا الله ورسوله، وذبحوا الناقة وتمرّدوا وتجاوزوا الحدّ في استكبارهم، وقالوا متحدِّين : يا صالح، ائتِنا بالعذاب الذي وعدْتَنا «إن كنتَ من المرسَلين »
في دارهم : في بلدهم.
جاثمين : قاعدين بلا حراك.
عندئذ، «فأخذتهم الرجفة » أي : دمّرتهم الزلازل الشديدة، ومن ثمّ «فأصبَحوا في دراهم جاثِمين » باتوا مصعوقِين جُثثاً هامدة لا حَراك بها، وأصبحت ديارهم خاوِية على عروشِها إلى الآن.
روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر في غزوة تبوك، قال لا تسألوا الآياتِ، فقد سألها قومُ صالح، فكانت الناقةُ تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدُرُ من هذا الفَجّ، فَعَتَوا عن أمر ربهم، فعقَروها. وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لَبَنَها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحةٌ أخمدَ اللهُ مَن تحت أديمِ السماءِ منهم. وكان قومُ صالحٍ عربا، وصالح من أوسطِهم نسبا.
وفي البخاري أن رسول الله لمّا نزل الحِجْر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يسقوا منها، فقالوا : قد عَجَنّا منها واستقينا. فأمرهم النبي الكريم أن يطرحوا ذلك العجين، ويُهْرِيقوا ذلك الماء. ثم ارتحلَ بهم حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة.
جاء ذِكر قصّة لوطٍ بتمامها في عدة سُوَر باختلاف يسير. وتتلخّص في أن قوم لوطٍ كانوا أهل شرْ وأذى... كانوا يقطعون الطريق على الناس، قد ذهب الحياء من وجوههم، فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسن، كما قال تعالى في سورة العنكبوت :﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر ﴾.
وكان أشنعَ عملٍ لهم هو ما اشتُهروا به من إتيان الذكور، فأرسل الله عليهم العذاب ودمّر قراهم، وطمس معالمها فلم تعد تُعرف إلى الآن.
ولقد أرسلنا لوطاً نبيَّ الله إلى قومه، يدعوهم إلى التوحيد وينبّههم إلى وجوب التخلّي عن أقبحِ جريمة يفعلونها، وهي اتصال الرجل منهم بالرجل أو الغلام في مباشرة جنسية شاذة. وفي ذلك خروج على الفطرة ولقد قال لهم : يا قوم، إنكم قد ابتدعتم تلك الفاحشة بشذوذكم، وفي هذا إسرافٌ ليس له مثيل في تجاوز حدود الاعتدال.
وهكذا يتجلّى الانحرافُ في جوابهم : يخرجون لوطاً وأتباعه لأنهم مستقيمون ! أما الفاسقون الفاسدون، فقد بلغ من قِحَتِهِم وفُجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخَروا بها، بل أن يحتقروا من يتنزه عنها.
وتأتي الخاتمة سريعا بلا تطويل ولا تفصيل :
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين ﴾.
ولقد حقّت عليهم كلمةً العذاب، فأنجينا لوطاً وأهلَه، إلا امرأته لقد رفضتْ أن تؤمن به، فكانت من الهالكين.
قال الإمام ابنُ القيّم في زاد المعاد : هذا لم تكن تعرفُه العرب، ولم يُرفع إليه حديث صحيح في ذلك. لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اقتُلوا الفاعل والمفعول به ».
رواه أهل السنن الأربعة بإسناد صحيح وقال الترمذي : حسنٌ صحيح، وحكم به أبو بكر الصدّيق، وكتب به إلى خالد بن الوليد، بعد مشاورة الصحابة. وكان عليُّ كرّم الله وجهه أشدَّهم في ذلك.
وقد طعن ابن حَجَر في هذه الأحاديث وقال : إنها ضعيفة. ولذلك يجب على الحاكم أن يتحرّى جيدا، فإن عقوبة القتلِ أعظمُ الحدود، فلا يؤخَذُ فيها إلا بالصحيح القاطع من كتابٍ أو سُنّة متواتِرةٍ أو إجماع.
ولا تفسدوا : الإفساد شامل لجميع الجرائم، والإصلاح : ضده.
شُعيب نبيُّ من أنبياء العرب، واسمه في التوراة رعوئيل، ومعناه : صديقُ الله وقد ذُكر شعيب في القرآن الكريم عشر مرات : في سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، وسورة العنكبوت. أما قومُه فهم شعب مَدْيَن بنِ إبراهيم عليه السلام، وكانت منازلهم في شمال الحجاز على الساحل.
وكان أهل مَدْيَن في عيشٍ رغيد لأنهم أهلُ تجارة. وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويفعلون الشرور، من ذلك أنهم كانوا يطفّفون المكيالَ والميزان، ويماكسون الناس في سِلعهم ليشتروها بأبخس الأسعار. وكان شعيب ينهاهم عن كل ذلك ويحذّرهم بأسَ الله تعالى، فأنكروا عليه ما جاء به ولم يستمعوا إليه.
ويسمّيه المفسرون خطيبَ الأنبياء، لحُسن مراجعته لِقومه، وبراعته في إقامة الحجة عليهم. ومع ذلك فقد مضَوا في غَيّهم، وتمادَوا في صدّ الناس عنه.
﴿ وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾.
ولقد أَرسلْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً قال : يا قوم، اعبُدوا الله وحده، قد جاءتكم الحججُ المبينةُ للحقِّ من ربكم مثْبِتَةً رسالتي إليكم. ( ولم تذكر الآية ما هي معجزته ولم يأتِ لها ذِكر في بقية السُوَر التي ذُكرت فيها قصةُ شعيب ). غير أنه كانت هناك بينّة جاءهم بها، ودعاهم إلى توحيد الله كما أمَرَهم بالإصلاح بينهم بالمعاملة العادلة.
﴿ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ ﴾.
لقد أمرهم بإيفاء الكيلِ والميزان إذا باعوا، ونهاهم عن أن يُنقِصوا حقوق الناس إذا اشتروا منهم. وطلب إليهم ألا يفسِدوا في الأرض الصالحة، كإفساد الزرع وقطْع الأرحام والمودّة.
تصدون : تمنعون.
لا تعترضوا كل طريقٍ من طرق الحق والهداية، تهدّدون سالكه، وتمنعون طالبي الخير من الوصول.
﴿ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ تريدون سلوك الطريق المعوَجّ. تذكَّروا إذ كنتم قليلا فكثّركم الله بما بارك في نَسِلكم، واشكُروا له ذلك بعبادته وحدَه، واعتبِروا بعاقبة المفسِدين قبلكم، وإلا أصابكم مثلُ ما أصابهم.
تورد هذه الآية والتي بعدها تتمةَ قصص شُعيب ففيها جوابُ الملأ الزعماءِ من قومِه عما أمرهم به : من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض.
وقد تَوَلَّى الردَّ عليه أشرافُ قومه وكبراؤهم كما هو الشأن في بحث كبريات المسائل ومهمّات الأمور.
قال أولئك الأشراف : قَسماً لَنُخرجّنك يا شعيب أنت ومن آمن معكم من بلادنا، أو لترجعُنَّ إلى ديننا الّذي هجرتموه. فردّ عليهم شعيب قائلا : أنصيرُ في ملّتكم ونحن كارهون لها لفسادها ؟.
ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك بمحض اختيارنا ورغبتنا، إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك ! لأنه ربُّنا، عليم بمصلحتنا وخيرنا، ولن يشاء رجوعنا إلى باطلكم. لقد وَسِع كل شيء عِلما، ومن عِلمه أنَّهُ يهدينا إلى ما يحفظ علينا إيماننا. لقد سلّمنا أمرنا إليه، وتوكّلنا عليه، وهو الذي سيحكم بيننا وبين قومنا وهو خير الحاكمين.
﴿ وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾.
وقال زعماء قوم شعيب الكافرون : واللّهِ إن طاوعتُم شعيباً في قَبول دعوته وآمنتم به، لتخسَرون شرفَكم وثروتكم، كما تكونون قد تخلّيتم عن ملّتكم التي مات عليها آباؤكم من قبل.
بعد هذا ذكرا لله تعالى عاقبةَ أمرِهم وما أصابهم من نكالٍ. فقال :
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾. أي دهمْتُهم الزلزلة فأهلكتهم في ديارهم وظلّوا منكّبين على وجوههم لا حياة فيهم.
هذا شأن الله مع الذين كذّبوا شعيبا، وهدّدوه وأنذروه بالإخراج من قريتهم... لقد هلكوا وهلكت قريتهم فحُرِموها كأن لم يعيشوا فيها بحال، وهكذا فإن الذين كذّبوا شعيبا وزعموا أن من يتّبعه هو الخاسر قد باتوا هم الخاسرين.
فلما رأى شعيب ما نزل بهم من الهلاك المدمِّر، أعرض عنهم، وقال مبرّئاً نفسه من التقصير معهم : لقد أبلغتُكم رسالات ربي، وأديتُ إليكم ما بعثني به ربي، كما بالغتُ في إسداءِ النصح لكم، فكيف أحزنُ على قومٍ كافرين ؟
البأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر.
الضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه.
التضرع : إظهار الخضوع والضعف.
عَفَواْ : كثروا ونموا. بغتة : فجأة.
أشار الله تعالى هنا إلى سُنته في الأمم التي تكذّب رسلَها، فهو يُنزل بها البؤسَ وشظَف العيش وسوء الحال في دنياهم ليتضرّعوا إلى ربهم ويُنيبوا إليه بالتوبة. ثم ذكرَ أنه بدّل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا، لكنهم لم يفعلوا، فأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.
وما بعثنا نبيّاً من الأنبياء في مدينةٍ من المدن، يدعو أهلَها إلى الدين القويم، ثم أعرضوا عن قبول تلك الدعوة- إلا أصبناهم بالفقر والمرض، كي يتذللوا ويخضعوا ويبتهلوا إلى الله راجين كشفَ ما نزل بهم.
ثم إنهم لمّا لمْ يفعلوا ذلك، بل تابعوا كفرهم وعنادهم، امتحنهم الله بالعافية مكان البلاء، فوهبهم رخاءً وسعة وصحةً وعافية، حتى كثُروا ونَموا في أموالهم وأنفسهم، وقالوا جهلاً منهم : إن ما أصاب آباءنا من المحَن وبالبلاء كان شأنَ الدهر، يداول الضرّاءَ والسّراءَ بين الناس. لم ينتبهوا أنَّ ذلك كان جزاءَ كفرهم فيرتدعوا، فكانت عاقبة ذلك أن أصابهم اللهُ بالعذاب المدمّر فجأة وهم غافلون عما سيحلُّ بهم.
فلنعتبر نحن المسلمين، فإننا قد تركنا ديننا والعمل به، وأهملنا قرآننا وتعاليمه فسلّط الله علينا شرّ خلقه وأخسَّ الناس، يسلبوننا مقدّساتِنا وأرضينا، ويُذلّوننا شرَّ إذلال. كل هذا ونحن لا ينقصُنا المال ولا الرجال، ولكن ينقصُنا الإيمان بالله والحزم والثقة بأنفسنا، وهدايةُ الحكّام فينا كي يبتعدوا عمّا هم فيه من انصراف عن الله، وتناحر بينهم وفرقة.
البأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر.
الضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه.
التضرع : إظهار الخضوع والضعف.
عَفَواْ : كثروا ونموا. بغتة : فجأة.
أشار الله تعالى هنا إلى سُنته في الأمم التي تكذّب رسلَها، فهو يُنزل بها البؤسَ وشظَف العيش وسوء الحال في دنياهم ليتضرّعوا إلى ربهم ويُنيبوا إليه بالتوبة. ثم ذكرَ أنه بدّل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا، لكنهم لم يفعلوا، فأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.
وما بعثنا نبيّاً من الأنبياء في مدينةٍ من المدن، يدعو أهلَها إلى الدين القويم، ثم أعرضوا عن قبول تلك الدعوة- إلا أصبناهم بالفقر والمرض، كي يتذللوا ويخضعوا ويبتهلوا إلى الله راجين كشفَ ما نزل بهم.
ثم إنهم لمّا لمْ يفعلوا ذلك، بل تابعوا كفرهم وعنادهم، امتحنهم الله بالعافية مكان البلاء، فوهبهم رخاءً وسعة وصحةً وعافية، حتى كثُروا ونَموا في أموالهم وأنفسهم، وقالوا جهلاً منهم : إن ما أصاب آباءنا من المحَن وبالبلاء كان شأنَ الدهر، يداول الضرّاءَ والسّراءَ بين الناس. لم ينتبهوا أنَّ ذلك كان جزاءَ كفرهم فيرتدعوا، فكانت عاقبة ذلك أن أصابهم اللهُ بالعذاب المدمّر فجأة وهم غافلون عما سيحلُّ بهم.
فلنعتبر نحن المسلمين، فإننا قد تركنا ديننا والعمل به، وأهملنا قرآننا وتعاليمه فسلّط الله علينا شرّ خلقه وأخسَّ الناس، يسلبوننا مقدّساتِنا وأرضينا، ويُذلّوننا شرَّ إذلال. كل هذا ونحن لا ينقصُنا المال ولا الرجال، ولكن ينقصُنا الإيمان بالله والحزم والثقة بأنفسنا، وهدايةُ الحكّام فينا كي يبتعدوا عمّا هم فيه من انصراف عن الله، وتناحر بينهم وفرقة.
بعد أن بين الله أخْذّه لأهل القرى الذين كذّبوا رسُلهم- ذكر هنا لأهل مكةَ ما يكون من إغداقِ النعم لو آمنوا بالرسول واهتَدوا بهدْية، واعتبروا بسنّة الله في الأُمم من قبلهم.
لو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به أنبياؤهم، وعملوا بوصاياهم، وابتعدوا عما حرمه الله- لفتحْنا عليهم أنواعاً من بركات السماء والأرض نِعماً لا تحصى، كالمطر والنبات والثمار والمعادن والأرزاق، والسلامة من الآفات.. لكنهم جحدوا وكذبوا أولئك الرسل، فأنزلنا بهم عقوبتنا، لِما كانوا يقترفونه من الشرك والمعاصي.
﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ... ﴾.
هل جهِلَ أهل هذه القرى فاطمأنّوا إلى أنه لن يأتيَهم عذابنا وقتَ بياتِهم ! وفي هذا تحذير للناس أجمعين.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر :«أوْ أمن » بتسكين الواو. والباقون اَوَ أمن بفتح الواو.
هل جَهِلوا سُنّة الله في المكذّبين، فأمِنوا عذابه ليلا أو نهارا ؟ إنه لا يجهل تدبير الله وقُدرتَه في عقوبة المكذّبين برسُله إلا الذين خسروا أنفسَهم غباءً، فلم يفقهوا ما فيه سعادتهم.
فلا يجوز لأحد أن يأمن مكر الله ويظلّ مسترسلاً في المعاصي، اتّكالاً على عفوه ومغفرته ورحمته. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله :«اللهم يا مقلّبَ القلوب والأبصار ثبِّتْ قلبي على دينك » وقد بين لنا الله تعالى أن الراسخين في العلم يدعونه فيقولون :﴿ ربّنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذ هديتَنا وهبْ لنا من لدُنْك رحمة ﴾.
وكما أن الآمن من مكر الله خُسران ومفسدة، فاليأس من رحمة الله كذلك. لذا وجب أن يظل المؤمن بين الخوف والرجاء دائما.
هذا تحذير للسامعين، وخطابٌ لجميع الناس حتى يتّعظوا ويستقيموا. ومعناه : أغابَتْ عن الذين يخلْفونَ مَن قَبلهم من الأمم سُنّةُ الله فيمن قبلهم ! ! وإن شأننا فيهم كشأنِنا فيمن سبقوهم، لو نشاء أن نعذّبهم أصبنْاهم كما أصبنْا أمثالَهم.
ولا يريد الله سبحانُه وتعالى للناس بهذا التحذير الشديد أن يعيشوا خائفين قلقين، كلا، بل يطلب منهم اليقظة، ومراقبة النفس والعظة من تجارب البشر.
هكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يُدفع، ومن مكر الله الذي لا يُدرك. إنه لا يدعو إلى القلق وإنما إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع بل إلى الحساسية، وهو لا يعطل الحياة وإنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
هذا الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسليةً له على الصبر في دعوته، وذلك عن طريق تذكيره بما في قصص أولئك الرسُل مع أقوامهم من العِبر والمواعظ، وبيان أن ما يلاقيه هو مِنْ قومه من ضرورة العناد والإيذاء ليس بِدعاً.
تلك القرى التي بعدُ عهدها وجَهِل قومُك حقيقة حالها، نقصّ عليك الآن بعض أخبارها. لقد جاء أهلَ تلك القرى رسلُهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، فلم يؤمنوا بها...
﴿ كَذلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين ﴾.
هكذا جعل الله حجابا على قلوب الكافرين وعقولهم فيخفَى عليهم طريق الحق وينأون عنه.
وفي التعبير ب «أكثرهم » إيماءٌ إلى أن بعضهم قد آمن. وهذا من دأب القرآن الكريم في تحقيق الحقائق على وجه الصدق، فهو لا يسلب أحداً حقه، ولا يعطيه حق غيره.
الملأ : أشراف القوم.
ظلموا بها : جحدوا وكفروا.
هذه قصة سيدنا موسى، وقد ذُكرت بتطويلٍ وتفصيل في اثنتين وخمسين آية. وقد جاء ذِكر موسى في نحو اثنتين وعشرين سورةً بين مختصَر ومطوّلة، وذكر اسمه أكثر من مائة وثلاثين مرة. وسرُّ هذا التكرار أن قصص موسى شبيهة بقصص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت شريعتُه دِينيةً ودنيوية، ولقي من أُمته عَنَتاً كبيرا.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى... ﴾.
ثم بعثنا من بعد أولئك الرسلِ موسى بالمعجزات الّتي تدلّ على صِدقه فيما كلفناه تبليغه إلى فرعون وقومه. فبلّغهم موسى الدعوة، وأراهم آية الله. لكنهم ظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر، فاستحقّوا من الله عقوبة صارمة كانت فيها نهاية أمرهم.
وأدعوكم إلى شريعته وأنا حريص على قول الصدق، فاستمعوا إليّ.
ثم بيّن أن الله أيّده بآيات تدل على صدقه في دعواه فقال :
﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ ﴾.
ها أنا قد جئتكم بآيةٍ عظيمة الشأن، ظاهرةِ الحجّة، في بيان الحق الذي جئت به، فاترك بني إسرائيل لأُخرجَهم من العبوديّة في ديارك إلى دارٍ غيرها يعبدون فيها ربهم بِحرّيَّةٍ.
وأخرج يدَه من جيبه فإذا هي بيضاء ناصعةُ البياض تتلألأ للناظرين مع أن موسى أسمرُ البشرة.
فلما أظهر موسى آية الله تعالى، ثارت نفوسُ بطانةِ فرعون وعظماءِ قومه وقالوا :«إن هذا لَساحرٌ عليم » ماهرٌ في فنون السِحر، وليس ذلك بآيةٍ من الله.
انظروا، لقد وجّه إرادته لسلب مُلككم، وإخراجكم من أرضكم بسِحره. فكِّروا يا قوم فيما يكون سبيلاً للتخلص منه.
في المدائن : في مدائنك وبلادك.
حاشرين : جامعين للحسرة.
وحين استشارهم فرعون بقوله : فماذا تأمرون ؟ أجابوه : أَخّرِ الفصل في موسى وأخيه هارون الذين يعاونه في دعوته، وأرسلْ في مدائن ملكك رجالاً من جُندك يجمعون...
قراءات :
قرأ أبو بكر وأبو عمرو ويعقوب :«أرجئْهُ ».
يجمعون لك عظماء السَّحَرة من كل البلاد.
والسِّحر أعمالٌ غريبة وحِيَلٌ تخفَى حقيقتُها على جماهير الناس، لخفاءِ أسبابها ومهارةِ من يزاولها من السّحَرة. وقد كان السحر فناً من الفنون العالية التي يتعلمها قدماء المصريين في معاهد خاصة لهم. وكان شائعا في ذلك العصر ولا يزال السحر، أو خفة الحركة موجودا إلى الآن، وفي أمريكا وأوروبا عدد كبير من السحرة والمشعوِذين. أما في البلاد الجاهلة المتأخرة، وبين القبائل الهمجيّة فله شأن عظيم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«بكل سحَّار ».
﴿ واسترهبوهم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾.
فهالَ الأمر الحاضرين وأوقع في قلوبهم الرهبة والرعب. وبخاصة حين جعلت حبالهم وعصُّيهم التي ألقوها تسير وتتحرك كأنها حقيقة.
يأفكون : يصرفون الناس عن الحق.
عند ذلك أصدر الله أمره إلى موسى بقوله :﴿ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ فألقاها موسى، فإذا تلك العصا تبتلع ما لفّقه السحرة من التمويه.
وهكذا، فإن الباطل يكبُر ويتزايد، ويسترهب القلوب ويُخَيَّل إلى الكثيرين أنه غالب، وما أن يواجه الحق حتى يبطُل وينكشف زيفهُ.
أما السحرة فقد بهرهم الحقُّ لما عاينوا قدرة الله فخرُّوا ساجدين لربهم مذعِنين للحق.
هال ذلك الأمرُ فرعون، وأثار حميته فقال للسحرة : هل آمنتم وصدقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم ؟ إن ما فعلتموه أنتم وموسى وهارون، ليس إلا مكراً دبّرتموه في المدينة ( مصر ) كي تُخرجوا منها أهلَها بخِدعكم وحيلكم. لسوف ترون ما يحلّ بكم من العذاب، جزاء ذلك.
قراءات :
قرأ حفص آمنتم على الإخبار، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : أأَمنتم... بهمزتين، على الاستفهام، وقرأ الباقون أآمنتم بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية.
الصلب : وضع الإنسان على خشبة وتعليقه مدة من الزمن.
إنني أٌقسِم لأُنكّلنّ بكم أشد التنكيل : لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خِلاف، اليد من جانب والرِجل من الآخر، ثم لأصلِبنّ كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوّهة.. لِتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لفرعون والخروج عن أمره.
أفرغ علينا صبرا : أفِض علينا صبرا يغمرنا، كأن الصبر في دلو من الماء يفرغ عليهم، وهو مجاز.
ثم أضافوا : هل تعاقبنا يا فرعون لأنّنا صدّقنا موسى، وأذعنّا لآيات ربنا ! إنها واضحة دالّة على الحقّ، وقد جاءتنا، فهل تريدنا أن لا نعتبر بها ! ؟
ثم توجهوا إلى الله ضارعين :﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾
يا ربّنا هبْ لنا صبراً واسعاً نقوى معه على احتمال الشدائد، وتوفّنا على الإسلام غير مفتونين بتهديد فرعون، ولا مطيعين له في قوله ولا فعله.
نستحْيِ : نستبقي نساءهم أحياء.
بعد أن شاهد فرعون وقومه ما شاهدوا، من ظهور موسى وغلبتِه وإيمان السحرة به، قال الأشراف الكبراء من القوم : يا فرعون الجبار، هل تترك موسى وقومه أحرارا آمنين ؟ إنَّ عاقبتهم إن ظلّوا في هذه الديار أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم في دينهم، وعندئذ يظهر لأهل مصر عجزُك وعجز آلهتك.
قال فرعون مجيبا للملأ : سنقتل أبناء قوم موسى كلّما تناسلوا، ونستبقي نساءهم أحياء، فهن يخدمننا. بذلك لا يكون لهم قوة، ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ نقهرهم بالغلبة والسلطان. سنظل معهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا، ولا الإفساد في أرضنا.
وكانوا قبل مجيء موسى مستضعَفين في يد فرعون، يرهقهم بالضرائب، ويستخدمهم في القيام بالأعمال الشاقة، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم. ثم جاء موسى، لكنه لم يستطع إنقاذهم لذلك قالوا :﴿ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾.
عندئذٍ فتح لهم موسى باب الأمل وقال لهم :
﴿ قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ... ﴾.
إن رجائي من فضلِ الله أن يُهلك عدوّكم الذي ظلمكم وآذاكم، ويجعلَكم خلفاءَ في الأرض التي وعدكم إياها، ﴿ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾.
فيعلم سبحانه ما أنتم عاملون بعد هذا التمكين : أتشكرون النعمةَ أم تكفرون ؟ وتصلحون في الأرض أم تفسدون.. ؟.
آل فرعون : قومه وخاصته وأعوانه.
بالسنين : بالجدب والقحط.
ولقد عاقبنا فرعونَ وقومه بالجدب والقحط وضيق المعيشة، بنقص ثمرات الزروع والأشجار... رجاءَ أن ينتبهوا إلى ضعفهم وعجزِ ملكهم الجبار أمام قوة الله، فيتعّظوا ويرجعوا عن ظلمهم، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السلام.
ولكن فرعون وأعوانه أخذهم الاغترار بقوّتهم وجبروتهم.
يطيّروا : يتشاءَموا، لأن العرب كانت تتوقع الخير والشر من حركة الطير، فإذا طار من جهة اليمين تيّمنت به ورجتْ الخير والبركة، وإذا طار من الشِمال تشاءمت وتوقعت الشر، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيراً.
كانوا إذا جاءهم الخِصب والرخاء قالوا : نحن المستحقون له لما لنا من الامتياز على الناس. وإن أصابهم ما يسوؤهم، كجدب أو مصيبة في الأبدان والأرزاق، قالوا : إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه. لقد غفلوا عن ظلمهم لقومِ موسى كما غفلوا عن فجورهم فيما بينهم. ألا فلْيعلموا أن ما نزل بهم كان من عند الله، وبسبب أعمالهم القبيحة، لا نحساً رافقهم لسوء طالع موسى ومن معه. ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله في تصرفه مع خلقه.
﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لتَسْحَرَنَا... ﴾.
قالوا ذلك لموسى : مهما جئتنا أيها الرجل، بأنواع الآيات التي تستدل بها على حقيقة دعوتك، كيما تصرفنا عما نحن عليه من ديننا، ومن استعباد قومك، فلن نصدّقك أو نتّبع رسالتك التي تدّعيها.
القُمّل ( بضم القاف وفتح الميم المشددة ) : حشرة صغيرة تلصق بالحيوانات وتؤذيها. وتطلق أيضا على حشرة تقع في الزرع فتأكل السنبلة وهي غَضَّة. والجراد معروف، وكذلك الضفادع.
الدم : الرعافُ يصيب الناس.
فأنزل الله عليهم مزيدا من المصائب والنكبات، بالطوفان الذي يغشى أماكنهم، وبالجراد الذي يأكل زروعهم، وبالقُمّل الذي يُهلك حيواناتهم وسنابل غلّتهم، وبالضفادع التي تنتشر فتُنَغّص عليهم حياتهم، وبالدم الذي ينزف منهم ولا يتوقف نزيفه، أصابهم الله بهذه المصائب، فلم يتأثروا بها. لقد قسَت قلوبهم، وفسد ضميرهم، فعتَوا عن الإيمان والرجوع إلى الحق، وأصروا على الذنوب «وكانوا قوماً مجرِمين » موغِلين في الإجرام كما هو شأنهم.
العهد : النبوة والرسالة.
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمسة التي أرسلها على قوم فرعون، بيّن هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جميعا. لقد طلبوا من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب، فإذا هو فعلَ آمنوا به. ثم تبيّن نقضُهم للعهد، وخُلفهم للوعد حتى حلّ بهم عذابُ الاستئصال بالغرق.
﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز... ﴾.
ولما وقع ذلك العذابُ بهم اضطربوا وفزِعوا أشد الفزع وقالوا : يا موسى، سل ربّك أن يكشف عنا هذا الرِجز، ونحن نقسِم أن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل كما أردت، إن كشفت عنا هذا العذاب.
فلما كشفنا عنهم العذاب، مرة بعد أخرى، إذا هم ينقُضون عهدهم، ويحنثون في قَسمهم، ويعودون إلى ما كانوا عليه، ولم تُجْدِ فيهم هذه المحن الزاجرة.
فأنزلنا عليهم نقمتنا، بأن أغرقناهم في البحر جزاء استمرارهم التكذيب بآياتنا، وتمام غفلتهم عما تقتضيه هذه الآيات من الإيمان والإذعان.
والخلاصة : لقد كانوا يُظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذّبون، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسب استمرارهم على الكذب. وكانوا غافلين عما يعقب ذلك من العذاب في الدنيا والآخرة.
تمت كلمة ربك : مضت، وهي وعدُه إياهم بالنصر.
باركنا فيها : بالخصب وسعة الرزق.
دمرنا : خربنا وأهلكنا.
ما كانوا يعرِشون : ينصبون العرائش من الجنّات، ويشيدون من الأبنية.
هذا آخر ما قصّه الله علينا وأخبرنا به من نبأ فرعون وقومه، وتكذيبهم بآيات الله. ثم أتبعه بقصَص بني إسرائيل، وما عاينوه من الآيات العظام مثل : مجاوزتهم البحر، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ظلم فرعون مثل : عبادتهم العجل، وطلبهم أن يروا الله جهرة، وغير ذلك من المعاصي، وذلك ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه «ظلوم كفاّر » إلا من عَصمه الله، «وقليلٌ من عباديّ الشَّكور ».
وهذا كلّه ليسلّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أظهر بنو إسرائيل من العناد. ومع كل ذلك فقد أعطيناهم الأرض التي حباها الله بالخِصب والخير الكثير، في مشارقها ومغاربها. وقد نفذت كلمة الله الحسنى وتمّت أما وعد الله بالنصر شاملا لبني إسرائيل، فكان جزاء صبرهم على الشدائد. وأما تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه من الصروح والقصور المشيدة، وما يقيمون من عُرُش للنبات والشجر المتسلق فهو جزاء ظلمهم وكفرانهم بالله.
يعكفون : يلازمون الأصنام ويعبدونها. الأصنام، واحدها صنم : ما يُصنع من الحجارة والخشب والمعدن من التماثيل للعبادة من دون الله. وبعض العرب كان يصنع الصنم من التمر، فإذا جاع أكل الربّ الذي صنع. وجاز بنو إسرائيل البحر، بعنايتنا وتأييدنا، فلما قطعوه مروا على قوم كانوا منكبّين على عباده أصنام لهم، فلما شاهدوا ذلك غلبَ عليهم ما ألِفوه قديماً من عبادة المصريين للأصنام، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه كما رأوا القوم يفعلون. عندئذٍ سارع موسى إلى توبيخهم قائلاً لهم : حقاً إنكم قوم سفهاء لا عقول لكم، لا تعرفون العبادة الصحيحة، ولا من هو الإله الذي يستحق أن يُعبد.
باطل : زائل وهالك.
أغير الله أبغيكم ربا : أطلب لكم ربا غيره.
إن القوم الذين ترونهم عاكفين على عبادة الأصنام قوم هالكون، وما يفعلونه باطل وزائل، فهو من بابِ عبادة غيرِ الله.
اخلفني : كن خليفتي.
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من نجاة لهم من عدوهم وتحريرهم من العبودية- ذكر هنا بدء التشريع المنزل على موسى عليه السلام، وكيف أنه واعد موسى ثم أنزل عليه التوراة.
لقد ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمناجاته وإعطائه الألواح فيها أصولُ الشريعة في مدة ثلاثين ليلة، ثم أتم مدة الوعد بعشر ليال يستكمل فيها موسى عبادته، ويتلقى أوامر ربه فصارت المدة أربعين ليلة. وعندما توجّه موسى للمناجاة قال لأخيه هارون : كمن خليفتي في قومي، أصلحْ ما يحتاجون إليه من أمروهم، وراقبهم فيما يأتون وفيما يذرون، واحذر أن تتبع سبيل المفسِدين.
جعله دكا : مفتتا منهارا.
خر موسى : وقع. صعقا : مغشيا عليه من هول ما رأى.
ولما جاء موسى في الموعد الّذي وقّته له ربه لمناجاته كلّمه ربه، لكن موسى قال : رب أرني ذاتك لأتمتع بها وأحصل على فضيلتَي الكلام والرؤية، وأزداد شرفا. فقال له ربّه : لن تطيق رؤيتي يا موسى. ثم أراد الله سبحانه أن يُقنع موسى بأنه لا يطيق رؤية ما يطلب فقال : انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك، فإن ثبت في مكانه عند التجلّي فسوف تراني إذا تجلّيت لك. فلما تجلى الله للجبل انهدّ الجبل وبات أرضا مستوية. عند ذاك سقط موسى مغشيا عليه لهول ما رأى، فلما أفاق من غشيته قال : سبحانك، إنني أنزهك يا رب تنزيهاً عظيما عما لا ينبغي في شأنك مما سألت، إن تُبْت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن، وأنا أول المؤمنين من قومي بجلالك وعظمتك.
فخذها بقوة : بجد وحزم وعزيمة.
ولما منع الله موسى من رؤيته عدَّد عليه نعمه ليتسلى بها فقال : يا موسى، لقد اخترتك مفضّلاً إياك على أهل زمانك، بتبليغ التوراة، وبتكليمي إياك من غير واسطة، فخذ ما فضّلتك به، واشكرني كما يجب.
وقد وردت أحاديث كثيرة فيها إمكان رؤية الله عن أكثر من عشرين صحابياً، لكنه ورد عن السيدة عائشة خلافُ ذلك. فقد رُوي عن مسروق قال : قلت لعائشة، يا أمّاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج ؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلتَ، ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب. قال مسروق : وكنت متكئا فجلست وقلت : ألم يقل الله :«ولقد رآه نزلةً أخرى » فقالت : أنا أول من سأل رسول الله عن ذلك فقال «إنما هو جبريل ».
وهذه الرؤية هي في الدنيا، أما الآخرة فإنها تختلف عن هذه الدنيا، وكل ما في الحياة الآخرة يختلف اختلافا كليا عن حياتنا الدنيا.
وترى جمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق.
﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ... الآية ﴾.
أي أعطيناه ألواحاً بيّنا له فيها كل شيء من المواعظ والأحكام المفصلة التي يحتاج الناس إليها وقلنا له : خذ الألواح بجدٍّ وحزم، وأمُر قومك أن يأخذوا بأفضل ما فيها وأيسره وأن لا يشدّدوا على أنفسهم. وسأجعلهم يرون دار الخارجين على أوامر الله، وما صارت إليه من الخراب، كما سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
كل آية : كل بينة.
بعد أن بيّن الله تعالى ما لحق فرعون وقومه بسبب من استكباره وظلمه وفساده في الأرض، بيَّن هنا ضلال البشر وتكذيبهم للرسل، وذكر أن السبب في كل ذلك هو التكبر.
ومعنى الآية :
سأمنع أولئك الذين يتطاولون في الأرض ويتكبّرون عن قبول الصواب بغير الحق من التفكير في دلائل قدرتي إنهم يروا كل آية تدل على صدق رسُلنا لا يصدقوا بها، أما حين يشاهدون طريق الضلال فسرعان ما يسلكونه راغبين، وذلك لأنهم كذّبوا بآياتنا المنزلة، وغفلوا عن الاهتداء بها.
وأمثال هؤلاء كثيرون اليوم في بلادنا من المسلمين، لقد درسوا في الغرب ورأوا زخرف المدنيّة الأوروبية، وغرَّهم بَهْرَجها، وأخذوا منها ما يوفر لهم اللذات والمتع ولم يأخذوا العلم النافع ولا الصناعة المفيدة، والأنظمة النافعة. إن هذه تكلفهم جهداً كبيراً فيما هم لا يريدون غير المتع والملذات.
حبطت أعمالهم : بطلت.
والذين كذّبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا للهداية، كما كذّبوا بلقائنا يوم القيامة، ومن ثم أنكروا البعث والجزاء، بطلت أعمالُهم التي كانوا يرجون نفعها. لذا فإنهم لن يلاقوا إلا جزاء ما استمروا عليه من العصيان، وإنكار دعوة الرسل.
العجل : ولد البقرة.
له خوار : له صوت البقر.
بعد أن ذكر الله خبر مناجاة موسى واصطفاءه له بالرسالة، وأمرَه إياه أن يأخذ الألواح بقوة، بين هنا ما حدث أثناء غياب موسى عن قومه، حيث بدّلوا الوثنية بديانتهم.
لقذ ذهب موسى إلى الجبل لمناجاة ربه، فما أسرع ما اتخذ قومه من مصوغاتهم وزينتهم جسماً على صورة عجلٍ من الحيوان، لا يعقل، له صوت كصوت البقر، كان قد صنعه لهم السامريُ وأمرهم بعبادته. لقد عَمُوا، فلم يروا حين عبدوه أنه لا يكلمهم ولا يقدر على هدايتهم إلى طريق الصواب ! ومع هذا فقد اتخذوه إلهاً لهم، وبذلك ظلموا أنفسهم باقترافهم مثل هذا العمل الشنيع.
ولما شعروا بزلتهم وخطيئتهم، تحيَّروا فيما يفعلون، وندموا أشد الندم وتبيّنوا ضلالهم، وقالوا : واللهِ لئن لم يتبْ علينا ربنا، لنكوننّ من الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة.
أعجِلتم أمر ربكم : أسبقتم.
ألقى : طرح،
شمت بعدوه : فرح بمكروه أصابه.
بعدما ذكرت الآياتُ ما أحدثه السامريّ من صناعته العجل لبني إسرائيل وعبادتهم له، ثم ندمهم على ذلك وطلبهم الرحمة من ربهم- تورد هذه الآيات ما حدث من غضب موسى وحزنه حين رأى قومه على تلك الحال من الضلال والغّي، وتصف ما وجّهه موسى من التعنيف واللوم لأخيه هارون، الذي سكت عن قومه حين رآهم في ضلالتهم يعمهون.
﴿ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً... ﴾.
ولما رجع موسى من مناجاة ربّه ووجد قومه على تلك الحال غضب عليهم، وحزن لأنهم وقعوا في تلك الفتنة، وقال : ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتي عنكم ! أسبقتم بعبادتكم العجلَ ما أمركم به ربكم من انتظاري حتى آتيكم بالتوراة ! ؟ آنئذٍ وضع الألواح، واتجه إلى أخيه هارون، وأخذ يشدّهُ من رأسه، ويجره نحوه من شدة الغضب، ظنّاً منه أنه قصر في ردعهم. فقال هارون : لا تعجل بلومي وتعنيفي يا أخي، ولا تظن أني قصرت في ردع القوم. لكنّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني حين نهيتهم عن عبادة العجل. لا تدع الأعداء يفرحون لتخاصُمنا ويشمتون بي، ولا تجعلني في زمرة هؤلاء الظالمين فأنا بريء منهم ومن ظلمهم.
قراءات :
قرأ حفص يا ابن أم بفتح الميم، وقرأ الكسائي وحمزة وابن عامر : يا ابن أمِّ بكسر الميم.
والآية صريحة في براءة هارون من جريمة اتخاذ العجل، في القرآن الكريم. أما التوراة ففيها أن هارون هو الذي صنعه. وهذا أحد مواضع التحريف الذي جرى فيها، كما نص عليه القرآن الكريم.
بعد أن ذكرت الآيات عتاب موسى لأخيه هارون، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه، استطردتْ تذكر ما استحقه بنو إسرائيل من الجزاء على اتخاذ العجل.
إن الذين اتخذوا العجل إلهاً واستمروا على ذلك، كالسامريّ وأتباعه، سيواجهون غضبا عظيما من ربهم في الدنيا، فلن يقبل الله توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، وستنزل بهم مذلّة ومهانة شديدة.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين ﴾.
بمثل هذا الجزاء في الدنيا نجزي كل من اختلق الكذب على الله وعبَدَ غيره.
وفي نسختها : ما كتب منها.
هدى : بيان للحق.
الرهبة : أشد الخوف.
بعد أن ذكر الله حال القوم وبين أنهم قسمان : قسم مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وقسم تائب منيب إلى ربه، هنا بيان حال موسى بعد أن سكنتْ سَورة غضبه.
ولما ذهب عن موسى الغضبُ باعتذار أخيه، عاد إلى الألواح التي ألقاها، فأخذها، وكان فيها الهدى والرشاد، وأسباب الرحمة للّذين يخافون الله ويرجون ثوابه.
السفهاء : الجهلاء.
الفتنة : الاختبار والامتحان والابتلاء.
أنت ولينا : المتولي أمورنا.
ثم أمر الله موسى أن يأتيه في جماعة من قومه يعتذرون عمّن عبدوا العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لم يشاركوا في عبادة العِجل، وذهب بهم إلى الطور. وهنالك سألوا الله أن يكشف عنهم البلاء، ويتوب على من عبد العجل من قومه. فأخذتهم في ذلك المكان رجفة شديدة غُشي عليهم بسببها، وكان هذا جزاءً لهم لأنهم لم يفارقوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم ينهوهم عن المنكر فلما رأى موسى ذلك قال : يا ربِّ، لو شئتَ إهلاكَهم أهلكتَهم من قبل خروجهم إلى الميقات، وأهلكتني معهم، ليرى ذلك بنو إسرائيل فلا يتهموني، فلا تهلكنا يا رب بما فعل الجهّال منا، فما محنة عبَدَة العجل إلا فتنة منك، أضللتَ بها من شئتَ إضلاله ممن سلكوا سبيل الشر، وهدَيت بها من شئت هدايته.. إنك أنت المتولِّي أمورنا والقائم علينا، فتجاوز عن سيئاتنا، وتفضل علينا بإحسانك، وأنت أَكرم من يفعل ذلك.
هُدنا إليك : تبنا ورجعنا إليك.
كذلك قَدِّر لنا في هذه الدنيا حياة طيبة، وهبْنا من لدنك عافية وتوفيقا لطاعتك، وامنحنا من فضلك في الآخرة مثوبة حسنة ومغفرة ورحمة ندخل بها جنتك وننال رضوانك، فقد تُبنا ورجعنا إليك.
فقال له ربه : إن عذابي أصيبُ به من أشاء ممن لم يتب، ورحمتي وسعت كل شيء.
ثم بين من ستكتب له الرحمة فقال :
﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾.
سأكتبها للذين يتّقون شرَ المعاصي من قومك، ويؤدون الزكاة المفروضةَ عليهم، ويصدّقون بجميع الكتب المنزلة.
والرسول : نبي أمره الله بتبليغ شرع ودعوة دين.
الأمي : الذي لا يقرأ ولا يكتب. وأهل الكتاب يلقبون العرب بالأميين كما قال تعالى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ]
المعروف : ما تعرف العقول السليمة حسنه. والمنكر : ما تنكره القلوب وتأباه.
الطيبات : كل ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة.
الخبائث : كل ما حرم أكله وذبحه، والخبيث من الأموال : ما أُخذ بغير حق.
الإصر : الثقل الذي يتعب صاحبه.
الأغلال : واحدها غُلّ بضم الغين، هو القيد الذي يقيَّد به الأسير والجاني. وهنا معناها الشدائد والمحن.
عزروه : نصروه وهي من الكلمات التي لها معنيان مختلفان.
وسوف أخصُّ بها أولئك الذين يتبعون الرسول محمدا، الأميَّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو الّذي يجدون وصفه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر، ويُحِل لهم ما يستطيبه الطبع من الأشياء، ويحرِّم عليهم ما يستخبثه منها، ويزيل عنهم الأثقال والشدائد التي كانت عليهم :
فالّذين صدّقوا برسالته وآزروه وأيّدوه ونصروه على أعدائه، واتبعوا القرآن الذي أُنزل معه، هؤلاء هم الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم.
لقد ظهر في هذه الأيام كتاب جديد جليل بعنوان «محمد في الكتاب المقدس » تأليف خوري طائفة الكلدانيين، وأستاذ اللاهوت ؛ البروفسور «عبد الحق داود » فقد اعتنق الإسلام وألف هذا الكتاب وبين فيه المواضع التي ذكر فيها اسم سيدنا محمد أو الإشارة إليه في التوراة والإنجيل وكيف حرفت تلك الأصول.
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة العربية صديقنا السيد فهمي شما.
بعد أن ذكر تعالى ما في التوراة والإنجيل من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفَ من يتبعه من أهل الكتاب، ونيلَهم السعادة في الدنيا والآخرة، بيّن هنا عموم رسالته، ودعوة الناس كافّة إلى الإيمان به.
قل يا أيها النبيّ لجميع بني البشر : إني رسول إليكم جميعا، أرسلني الله، الذي له وحده ملك السماوات والأرض، فهو يدبّر أمرهما بحكمته، ويتصرف فيها كيف يشاء. إنّه لا معبودَ بحق إلا هو، وهو وحده الذي يُحيي ويُميت... آمنوا به وحده، وصدّقوا رسوله، فهو النبيّ الأمّيُّ الذي لا يقرأ ولا يكتب. واتّبِعوه في كل ما ينقل من لدن ربّه، واسلكوا طريقه واقتفوا أثره. بذلك تهتدون وترشدون.
ومن قوم موسى جماعة تمسَّكوا بما جاء به موسى من الدين الصحيح، فظلوا يهدون الناس إلى الحق الذي جاء به نبيُّهم، فلا يتّبعون هوى، ولا يأكلون سُحتاً ولا رشوة.
الأمة : الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة أو نظام أو مصلحة. الاستسقاء : طلب الماء للشرب.
انبجس : انفجر.
الغمام : السحاب.
المن : مادة بيضاء تنزل من السماء مثل الندى حلوة الطعم.
السلوى : طائر قدْر الحمام طويل الساقين والعُنق سريع الحركة.
ثم ذكر حالين من أحوال بني إسرائيل :
أولاهما : أنه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الإثني عشر.
ثانيتهما : أنهم لما استسقَوا موسى ضرب موسى الحجر ( إشارة إلى إمكانية الحفر )، فانبجستْ منه اثنتا عشرة عيناً، بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين في سورة البقرة.
ثم عدّد الله نعمه على قوم موسى، فذكر أنه صيّرهم اثنتي عشرة فرقة، وميّز كل جماعة بنظامها، منعا للتحاسُد والخلاف. وأنه أوحى إلى موسى حين طلب قومه الماء في التيه، أن يضرب الصخر في الأرض، ففعل موسى ذلك، فانفجرت عند ذلك اثنتا عشرة عيناً قد عرف كل سبط من القوم مورد شربهم الخاص بهم. هذا كما جعل لهم السحابَ يلقي عليهم ظلّه في التيه ليقيَهم حر الشمس، وأنزل عليهم المنّ وهو طعام حلو شهيّ والسلوى وهو طائر يشبه السُّمانَي. وقال لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم. لكنهم ظلموا أنفسهم وكفروا بتلك النعم، وتمسَّكوا بالجحود والإنكار. وهذا دأبهم وتلك أخلاقهم لم تتغير ولم تتبدل.
( ١ ) قال هنا :«اسكُنوا القريةَ » وفي سورة البقرة قال «ادخُلوا »
( ٢ ) وقال هنا :«وكُلوا منها حيثُ شئتم » وفي سورة البقرة قال :«فكُلوا من حيث شئتم رغَدا »
( ٣ ) وقال هنا :«وقولوا حِطّة وادخلوا الباب سُجَّدا » وقال في سورة البقرة «وادخلوا البابَ سجَّدا وقولوا حِطّة »
( ٤ ) وقال هنا :«سنزيد المحسِنين ». وقال في سورة البقرة :«وسنزيد المحسنين » بالعطف والمعنى واحد.
( ١ ) وقال هنا :«فبدَّلَ الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قِيلَ لهم » فزاد هنا لفظة منهم، وقال في سورة البقرة :«فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ».
( ٢ ) وقال هنا :«فأرسلْنا عليهم رِجْزاً من السماء بما كانوا يظلمون »، وقال في سورة البقرة «وأنزلنا على الّذين ظلموا رِجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ». والفرق بين الإرسال والإنزال فرقٌ لفظيّ. وكذلك بين ( عليهم ) و ( على الذين ظلموا )، ومثله ( يظلمون ) و ( يفسقون ).
يعدون في السبت : يخالفون أمر الله بالصيد المحرم عليهم يوم السبت. يوم سبتهم : يوم عطلتهم وراحتهم.
شُرَّعا : ظاهرة على وجه الماء.
نبلوهم : نختبرهم.
هذه الآية إلى قوله تعالى :﴿ وَإِذ فتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ.... إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ مدنيّة نزلتْ في المدينة، وقد ضُمت إلى هذه السورة المكيّة في هذا الموضع، تكملةً للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل.
وهنا عَدَل في أُسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وتحاوره وتجادله.
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يسأل يهود المدينة المنوَّرة في زمانه عن هذه الواقعة المعلومة لهم من تاريخ أسلافهم، وهو يواجههم بهذا التاريخ باعتبارهم أمةً متصلة الأجيال، ويذكّرهم بعصيانهم القديم، فيقول :
اسأل أيها النبي اليهودَ المجاورين لك في المدينة عن فعل أهل القرية التي كانت على شاطئ البحر، كيف كان يفعل أسلافهم فيها، فيخالفون أوامر الله بصدد صيد السمك يوم السبت. كانت تأتيهم الحيتانُ ظاهرةً على وجه الماء يوم السبت، مع أنهم مأمورون بالتفرُّغ فيه للعبادة، وأما في غير السبت فلم تكن تأتيهم، كل ذلك ابتلاءٌ واختبارٌ من الله ليظهر المحسِنَ من المسيء منهم.
معذرة إلى ربكم : اعتذروا إلى ربكم.
وقد انقسم سكان القرية إلى ثلاث فرق : فرقة كانت تحتال على صيد السمك يوم السبت الذي حُرّم عليهم الصيد فيه، وفرقة كانت تحذِر هؤلاء العصاة مغبَّة عملهم واحتيالهم وتنكر عليهم ذلك، وفرقة أخرى تقول لهؤلاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر : ما فائدة تحذيركم لهؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عن غيِّهم وعصيانهم ؟ لقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب ! وذلك قوله تعالى :
﴿ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً... ﴾.
وإذ قالت جماعة من صلَحاء أسلافهم لمن يعظون أولئك الأشرار، لأي سبب تنصحون قوماً سيهلكهم الله بسبب ما يرتكبون من مخالفات، أو يعذّبهم في الآخرة عذابا شديدا ؟ لم تعدْ هناك جدوى لنصحهم وتحذيرهم.
قالوا : لقد وعظناكم اعتذاراً إلى الله، وأدّينا واجبنا نحوه، لئلا نُنسَب إلى التقصير، ولعلّ النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فَيَسْتثيرُ فيها وِجدان التقوى.
بئيس : شديد.
فلمّا تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه، أنجينا الذين ينهون عن المنكر من العذاب، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب شديد بسبب تماديهم في الفسق، والخروج عن طاعة الله.
خاسئين : أذلاء صاغرين.
فلما تمردوا وأبَوا أن يتركوا ما نُهوا عنه، ولم يردعهم العذاب الشديد جعلناهم كالقِرَدة في مسخ قلوبهم، وعدم توفيقهم لفهم الحق، فكانوا قردة مَهينين، وانتكسوا إلى عالَم الحيوان حين تخلّوا من خصائص الإنسان.
ليبعثن : ليسلطن عليهم.
يسومهم : يذيقهم.
ثم كانت اللعنةُ الأبدية على جميع اليهود إلا الذين يؤمنون بالنبي الأميّ ويتبعونه. وقد بعث الله على اليهود في فترات من الزمن من يسومهم سوءَ العذاب، وسيظل هذا الأمر نافذا في عمومه إلى الأبد، فيبعث الله عليهم بين آونةٍ وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلّما انتعشوا وطغَوا في الأرض، جاءتهم الضربة ممن يسلّطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية.
وقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توقفت، وأن اليهود عزُّوا واستطالوا كما هو ظاهر للعيان في فلسطين الآن، لكن ذلك ما هو إلى فترة عارضة من فترات التاريخ، وقد تم ذلك لتنابذ الحكام العرب وفُرقتهم فيما بينهم، تفضيلاً للمصلحة الفردية على المصلحة العامة، حتى على حساب الجميع، وبسبب ما تمدهم به أمريكا المتصهينة. وذلك لا يدوم أبدا، ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلَّط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها إلى يوم القيامة، ونحن بانتظار مواكب المجاهدين الفاتحين، وكل آتٍ قريب مهما طال الزمن.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ والله تعالى يعقّب دائما بعد ذكره العذابَ بالرحمة والمغفرة للمحسنين.
أمما : جماعات.
دون ذلك : منحطون عنهم.
بلوناهم : امتحناهم.
تأتي بقية الآيات المدنية الواردة هنا تكملةً لقصة بني إسرائيل بعد موسى، إذ تفرّق اليهود في الأرض جماعاتٍ مختلفة المذاهب، مختلفة المشارب والمسالك، فكان منهم الصالحون وكان منهم دون ذلك، وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات تارة، وبالنعماء أخرى، علّهم يرجعون إلى ربهم ويستقيمون.
وقد فصّل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جمعهم فقال :
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً.... ﴾.
وقد فرّقناهم في الأرض جماعات وجعلنا كل فرقة منهم في قطر، منهم الصالحون وهم الذين آمنوا واستقاموا، ومنهم أناس منحطُّون عن الاتصاف بالصلاح. لقد اختبرناهم جميعا بالنعم والنقم ليتوبوا عما نهوا عنه.
الكتاب : التوراة.
العرض بفتح الراء : متاع الدنيا وحطامها. الأدنى : الدنيا.
فجاء من بعد الّذين ذكرناهم خَلْفُ سوءٍ ورِثوا التوراةَ من أسلافهم، لكنهم لم يعملوا بها، ولم تتأثّر قلوبهم ولا سلوكهم، وكلما رأَوا عَرَضاً من أعراض الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا :«سيُغفرُ لنا »، فهم مصرون على الذنْب مع طلب المغفرة.
ثم وبَّخهم الله على طلبهم المغفرةَ مع إصرارهم على ما هم عليه فقال : إنّا أنفَذْنا عليهم العهد في التوراة - وقد درسوا ما فيها- أن يقولوا الحق، فقالوا الباطل.... لم يعقِلوا بعدُ أن نعيم الدار الآخرة الدائم خير من متاع الدنيا الفاني، فقل لهم يا محمد : من العجب أن تستمروا على عصيانكم، أفلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم ! ؟
وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد على بني إسرائيل أمرهم.
وفيه عبرة للمسلمين الذي سرى إليهم كثير من الفساد، وغلب عليهم حبُّ الدنيا وعرضها الزائل، والقرآن الكريم بين أيديهم لكنهم لا يعملون به بل هم عنه غافلون.
الظُّلَّة : كل ما يظلل الناس.
ثم ختم الله هذه القصة مذكِّراً بِبَدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم حتى بعد أَنْ أخذ الله عليهم الميثاق. وقد ردّ عليهم في قولهم : إن بني إسرائيل لم تصدر منهم مخالفة في الحق، فقال جلّ وعلا :
﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل... ﴾.
اذكر لهم أيها النبيّ حين رفعنا الجبل فوق رؤوسهم كأنه غمامة، يومئذٍ فزِعوا مما رأوا، إذ ظنوا أن الجبل واقع عليهم، فقلنا لهم : خذوا ما أعطيناكم من هدى التوراة بجد وعزم على الطاعة، وتذكّروا ما فيه لعّلكم تعتبرون وتتهذب نفوسكم بالتقوى. لكن اليهود هم اليهود، فقد نقضوا العهد، ونسوا الله، ولجّوا في العصيان حتى استحقوا غضب الله ولعنته، وحقَّ عليهم القول.
الذرية : سلالة الإنسان من ذكور وإناث.
بيّن الله هنا هداية بني آدم بنصْب الأدلّة في الكائنات، بعد أن بينها عن طريق الرسل والكتب، فقال : واذكر أيها النبيّ للناس حين أخرج ربُّك من أصلاب بني آدم ما يتوالدون قرنا بعد قرن، ثم نصب لهم دلائل روبيّته في الموجودات، وركّز فيهم عقولاً وبصائر يتمكّنون بها من معرفتها، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، فقال لهم : ألستُ بربكم ؟ فقالوا : بلى أنت ربنا شهِدنا بذلك على أنفِسنا. وإنما فعل الله هذا لئلا يقولوا يوم القيامة : إنّا كنّا عن هذا التوحيد غافلين.
وقد أكثرَ المفسرون الكلام في تفسير هذه الآية وأوردوا عدداً من الأحاديث والأقوال، لكنه من الصعب الوثوق بها، كما أنها غير صحيحة الإسناد.
وأحسنُ ما يقال : إن هذه الآية تعرِض قضية الفطرة في صورة مشهدٍ تمثيلي على طريقة القرآن الكريم. وإن مشهدّ الذرية المستكنّة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود لمشهدٌ فريد حتى في عالَم الغيب. وهذه الذرية هي التي يسألها الخالق المربي : ألستُ بربكم، فتعترف له بالربوبية وتقرّ له بالعبودية.
أما كيف كان هذا المشهد ؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدَهم على أنفسهم، وكيف خاطبهم- فكل هذه الأمور من المغيَّبات التي تخالف حياتنا الدنيا.
وأقربُ تفسير لأفهامنا أن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة، فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من مولود إلا يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصرّانه أو يمجّسِانه » أخرجه البخاري ومسلم.
وفي سورة [ الروم الآية : ٣٠ ] ﴿ فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾
النبأ : الخبر.
انسلخ منها : نبذها وكفر بها.
فأتبعه الشيطان : أدركه.
من الغاوين : من الضالين.
بعد أن ذكر اللهُ تعالى أخْذ العهد والميثاق على بني آدم جميعا، وأشهدهم على أنفسهم أن الله ربهم.. أيُّ عذر سيكون لهم يوم القيامة في الإشراك بالله جهلاً أو تقليدا !
اقرأ أيها النبيُّ على قومك خبرهذا الإنسان الذي آتاه الله علماً بآياته المنزلة على رسُله، فأهملها، بل انسلخ منها، كأنما الآيات جلد له متلبِّس بلحمه فهو ينسلخ منه بعد جهد ومشقة، وينحرف عن الهدى ليتّبع الهوى، فلاحقه الشيطان، وتسلط عليه بإغوائه، فصار في زُمرة الضالين.
هنا نفيٌ بضرب المثَل للمكذّبين بآيات الله المنزلة على رسوله الكريم بعد أن أيّدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثَل من آتاه الله آياتِه فكان عالماً بها قادراً على بيانها، لكنه لا يعمل بها، بل يأتي عمله مخالفا لعلمه. لذا سلبه الله ما آتاه، فكان ذلك الإنسان كمثَل الكلب يظل يلهث دون جدوى.
ولو شاء ربك رفعه إلى منازل الأبرار لفعل، وذلك بتوفيقه للعمل بتلك الآيات، لكن الرجل أخلد إلى الأرض، وهكذا هبط من الأفق المشرق فالتصق بالطين المعتم، ولم يرتفع إلى سماء الهداية. لقد اتبع هواه، فبات في قلق دائم، وانشغل بالدنيا وأعراضها، لذا فإن مثله مثل الكلب في أسوأ أحواله... يظل يلهث على غير طائل، تماماً مثل طالب الدنيا الشرِه، يظل يلهج وراء متعه وشهواته، وهي لا تنقضي ولا هو يكتفي منها.
أما من هو الرجل الذي يشير إليه هذا المثل فقد وردت روايات عديدة تجعله بعضها «بلعام بن باعوراء » من بني إسرائيل، والبعض الآخر «أميّة بن أبي الصلت » الشاعر العربي المشهور، أو هو «أبو عامر الفاسق » وهناك روايات أخرى لا حاجة لنا بها أصلاً، فلسنا مكلَّفين أن نعرف من هو.
هنا نفيٌ بضرب المثَل للمكذّبين بآيات الله المنزلة على رسوله الكريم بعد أن أيّدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثَل من آتاه الله آياتِه فكان عالماً بها قادراً على بيانها، لكنه لا يعمل بها، بل يأتي عمله مخالفا لعلمه. لذا سلبه الله ما آتاه، فكان ذلك الإنسان كمثَل الكلب يظل يلهث دون جدوى.
ولو شاء ربك رفعه إلى منازل الأبرار لفعل، وذلك بتوفيقه للعمل بتلك الآيات، لكن الرجل أخلد إلى الأرض، وهكذا هبط من الأفق المشرق فالتصق بالطين المعتم، ولم يرتفع إلى سماء الهداية. لقد اتبع هواه، فبات في قلق دائم، وانشغل بالدنيا وأعراضها، لذا فإن مثله مثل الكلب في أسوأ أحواله... يظل يلهث على غير طائل، تماماً مثل طالب الدنيا الشرِه، يظل يلهج وراء متعه وشهواته، وهي لا تنقضي ولا هو يكتفي منها.
أما من هو الرجل الذي يشير إليه هذا المثل فقد وردت روايات عديدة تجعله بعضها «بلعام بن باعوراء » من بني إسرائيل، والبعض الآخر «أميّة بن أبي الصلت » الشاعر العربي المشهور، أو هو «أبو عامر الفاسق » وهناك روايات أخرى لا حاجة لنا بها أصلاً، فلسنا مكلَّفين أن نعرف من هو.
فمن يوفقه الله لسلوك سبيل الحق فهو المهتدي حقا، الفائز بسعادة الدارين ؛ ومن يُحرم من هذا التوفيق بفعل سيطرة هواه فهو الضال الذي خسِر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
الجن : خلاف الإنس.
الفقه : العلم بالشيء والفهم به. ويرد في القرآن الكريم بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم.
ثم فصّل سبحانه ما أجملَه في الآية السالفة مع بيان سببه فقال :
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ.... ﴾.
ولقد خلقْنا كثيراً من الجن والإنس مآلهم النار يوم القيامة. وتتساءل لماذا ؟ فتأتي الإجابة : لأن لهم قلوباً لا يَنفذون بها إلى الحق، وأَعيُناً لا ينظرون بها دلائل القدرة، وآذاناً لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماعَ تدبُّرٍ واتعاظ، أفليس أصحاب هذه الصفات كالبهائم، ما داموا لم ينتفعوا بما وهبهم الله من عقول للتدبر، بل الحقّ إنهم أضل منها، فالبهائم تسعى إلى ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء لا يدركون ذلك، فيظلون غافلين عما فيه صلاحهم في الدارين.
ولله دون غيره الأسماءُ الدالة على أكمل الصّفات فاذكروه بها، دعاءً ونداءً وتسمية، واتركوا جميع الذين يلحدون في أسمائه فيما لا يليق بذاته العلّية، لأنهم سيلقَون جزاءَ عملهم، وتحلُّ بهم العقوبة.
وللذِكر فوائد، منها : تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، ونسيان آلام الدنيا. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الدعاء والالتجاء إلى الله، منها الحديث الصحيح :«من نزل به غَم أو كربٌ، أو أمرٌ مهم فليقل : لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات والأرض ورب العرش الكريم » رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وروى الحاكم في ( المستدرك ) عن أَنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها :«ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به ؟ أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ : يا حيّ يا قيّوم، برحمتِكَ أَستغيث، أصلحْ لي شأني، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين ».
وممن خلَقْنا للجنة طائفةٌ يدعون غيرهم للحق بسبب حُبِّهم له، ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون.
أخرج ابنُ جَرير وابن المنذِر وأبو الشيخ عن ابن جُريج قال : ذَكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال :«هذه أمتي، بالحق يحكُمون ويقضون ويأخذون ويعطون ».
فهذه الأمة الثابتة على الحق، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس. وفي الحديث الصحيح :«لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحق »...
الكيد كالمكر : هو التدبير الخفي.
إنني أُمهل هؤلاء المكذّبين وسأمد لهم في الحياة بدون إهمال، لكن أخْذي لهم سيكون شديدا، بقدر سيئاتهم الّتي كثُرت بتماديهم فيها، وفي الحديث الصحيح :«إن الله لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته » رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
كان زعماء قريش يقولون للناس : إن محمداً مجنون.. فردّ الله عليهم بقوله : أو لم يتفكروا في حاله من بدءِ نشأته ! إنهم يعرفونه حقا. أما كان اسمه الأمين ! وهم يعرفون حقيقة دعوته أيضاً، إنه سليم العقل، لا جنون به، بل هو منذر لهم، ناصح ومبلّغ عن الله رسالتَه إلى الناس كافة. ولو تأمل مشركو مكة في نشأته صلى الله عليه وسلم وما عُرف عنه من الأمانة والاستقامة والصدق لما نزعوا إلى هذه الفِرية على رجلٍ عرفوه، ولأدركوا أن ما يأتي به من عند ربه لن يصدر عن مجنون.
فبأي حديث بعده يؤمنون : الحديث هنا القرآن الكريم.
لقد كذّبوا محمداً فيما يدعوهم إليه من التوحيد، ولم يتأملوا في هذا الملكوت العظيم من السماوات والأرَضِين وما فيها، مما يدل على قدرة الصانع ووحدانيته. كذلك لم يفكروا في أنه قد اقترب أجلُهم، فيسارعوا إلى طلب الحق قبل مفاجأة الأجل. والحقّ أنهم إذا لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث بعده يؤمنون ! !
العمَه : التردد والحيرة بحيث لا يدري أين يتوجه.
ثم يعقب تعالى بتقرير سنّته الجارية بالهدى والضلال، وفق ما أرادته مشيئته : هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه، وإضلال من يصرف قلبه عنه فيقول :
﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾.
وتفسير ذلك : إن من يكتب الله عليه الضلال لسوء اختياره هو يظل في بُعدِهِ عن الحق وعماه عنه، وحيرته بحيث لا يدري أين يتوجه. وليس في هذا الإهمال ظُلم لأنه جاء بعد البيان والتحذير.
يجلِّيها : يظهرها.
بغتة : فجأة.
حفيّ عنها : عالم بها، مهتم بالسؤال عنها.
بعد أن أرشد اللهُ من كانوا في عصر التنزيل إلى النظر والتفكير في اقتراب أجلهم بقوله :﴿ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ ﴾، قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكير في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع من على هذه الأرض. وقد كانت عقيدة الآخرة والحشْر وما فيها من حساب وجزاء غريبةً عن أهل الجزيرة العربية، وكانوا يعجبون من الحياة بعد الموت، ومن البعث للحساب والجزاء. لذلك كله كان التوكيد في القرآن شديداً على عقدية الآخرة.
يسألك مشركو مكة يا محمد، عن الساعة والقيامة في أي وقت تكون ؟ قل لهم : عِلمُ وقتها عند ربي وحده، لا يكشف الخفاء عنها أحد سواه، فقد ثَقُلت وعظُم هولها، وهي لن تأتيكم إلا فجأة بلا إشعار ولا إنذار. وهم يسألونك هذا، وكأنك عالِم بها حريصٌ مهتم بالسؤال عنها، فكرر عليهم الجواب بأن علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل، بشر لا يدّعي الغيب، بل إنه مأمور أن يَكِلَ الغيب إلى الله، فذلك من خصائص الألوهية، أما الرسل فهم عباد مكرّمون لا يشاركون الله في صفاته ولا أفعاله، وإنما اصطفاهم لتبليغ رسالته لعباده، وجَعَلَهم قدوةً صالحة للناس في العمل لما جاؤوا به من هدى وفضيلة.
تغشّاها : باشرها في الاتصال الجنسي، وهو من التعابير القرآنية المهذَّبة.
فمَرَّت به : استمرت بالحمل ولم تُسقطه.
أثقلت : حان وقت الولادة.
في هذه الآية والتي بعدها تمثيل لطبع الإنسان وكيف أنه : إذا نزل به ما يكره، أو أراد الحصول على ما يحب، التجأ إلى الله يتضرع، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق أن يشكر الله ويطيعه إذا حقق له ما يريد، فإذا تمّ له ما طلب تولى مُعرِضا ولم يوفِ بالعهود والمواثيق.
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل زوجها من جنسها، وكانا يسكنان معا فلما قاربَ الذكرُ الأنثى عَلِقت منه. وكان الحمل في أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، فلما ثقل الجنين دعا الزوج والزوجة ربهما قائلَين : والله لئن رزقتنا ولدا سليما تام الخلقة، لنكونن من الشاكرين لنعمائك.
.. ونالا ما طلبا، لكنهما جعلا الأصنام شركاء في عطيته الكريمة، وتقربا إليها بالشكر، والله وحده هو المستحق لذلك فتعالى اللهُ يُشِركون.
وهناك بعض الروايات المأخوذة من الإسرائيليات تنسب هذه القصة لآدم وحواء وهذا خلط وتخريف.
هل يصحّ أن يشركوا مع الله أصناماً لا تقدِر أن تخلُق شيئا من الأشياء، بل هي أضعف مخلوقاته ! إن الخلق والأمر لله، هو وحده يخلق كل شيء.
﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ... ﴾.
بل إن هذه الأصنام أقل منكم في الخلق والتكوين، فهل لهم أرجل يمشون بها ؟ أو أيدٍ يدفعون بها الضر عنكم وعنهم ؟ أو أعين يبصرون بها ؟ أو حتى آذان يسمعون بها ما تطلبون منهم ؟ ليس لهم شيء من ذلك، فكيف تشركونهم مع الله ؟
وهذا التحدي للمشركين ليبين جهلهم وعجز آلهتهم، وقد تحداهم في أكثر من آية وبين لهم عجز هذه الآلهة. من ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب ﴾ [ الحج : ٧٣ ].
جاءت هذه التوجيهات الربانية إلى الرسول الكريم وأصحابه، وهم لا يزالون في مكّة المكرمة، وفي مواجهة المشركين فيها ومواجهة الأعراب من حولهم في الجزيرة وأهل الأرض كافة.
يا محمد، خذ العفو الميسَّر الممكِنَ من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب منهم ما يشقّ عليهم، واعفُ عن أخطائهم وضعفهم. ذلك أن التعامل مع النفوس البشرية بغية هدايتها يقتضي سعةَ صدرٍ، وسماحة طبعٍ، ويسراً وتيسيرا في غير إفراطٍ ولا تفريط في دين الله، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الكمال والخلق العظيم.
وأمرْ يا محمد بالعُرف، وهو الخير المعروف، والعُرف اسمٌ جامعٌ لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.
وأعرض أيها الرسول الهادي، عن الجاهلين، وهم الذين لا تُرجى هدايتهم، إذ قد يكون إهمالهم والإعراض عنهم أجدى في هدايتهم.
روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال :«ليس في القرآن آيةٌ أجمعَ لمكارم الأخلاق من هذه ». وقال بعض العلماء : تضمنت هذه الآية قواعد الشريعة، فلم يبق حسنة إلا وعتْها، ولا فضيلة إلا شَرَحتها.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن عُيَيْنَةَ بن حِصْن، وكان فيه غلظة وجفاء، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : هِيْ يا ابن الخطاب، أفو اللهِ ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر، حتى همَّ أن يوقع به. فقال له الحُرّ بن قيس : يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه :«خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين » وهذا من الجاهلين.
قال ابن عباس : والله ما جوزَها عمرُ حين تلاها عليه، كان وقّافاً عند كتاب الله.
وإن تعرَّض لك يا محمد، من الشيطان وسوسةٌ لصرفِك عما أُمرت، كأن تغضب من لجاجتهم بالشر، فاستجرْ بالله يصرفه عنك، إنه سميع لكل ما يقال عليم به.
ثم بيّن الله طريق سلامةِ مَن يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصيةِ فقال :
﴿ إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ ﴾.
إن أخبار المؤمنين المتقين، إذا ألمَّ بهم من الشيطان وسوسةٌ تذكّروا أن ذاك من إغواء الشيطان عدوِّهم، وعند ذاك يبصرون الحق فيرجعون عن الأخذ بتلك الوسوسة. هذا حال المتقين.
وإذا لم تأت يا محمد، الكفار الذين يعاندونك بآية مما يطلبون، قالوا هلا اختلقتها ؟ قل لهم : إنني لا أتّبع إلا القرآن الذي يوحي إليّ من ربي، وفيه بصائر وحجج تهديكم إلى وجوه الحق والخير، فهو نبع هدى يرشد، ورحمةٍ تغمر المؤمنين وتفيض عليهم البركات.
أنصتوا : اسكتوا.
لما ذكّر اللهُ مزايا القرآن الكريم، وأنه بصائر تكشف وتنير، وهدى يرشد ويهدي، ورحمة تغمر وتفيض، أمر في هذه الآية بالاستماع والإنصات له، لتدبُّرِ ما فيه من ذلك. فنوه إلى أنه :
إذا تُلي القرآن عليكم أيها المؤمنون، فأصغوا إليه بأسماعكم، واستجمِعوا حواسكم لتتدبروا مواعظه، وتفوزوا برحمة ربكم.
وبعد أن جاء الأمر بهذا العلاج فيما يختص بالمعاملة، وفيما يختص بقراءة القرآن، يأتي الأمر والتوجيه إلى مَلاك الأمر كله وهو ذِكر الله في القلب بعظَمته وجلاله رجاءَ الثواب، على أن يكون ذلك بهدوء واطمئنان لا إزعاج فيه، كيما تهدأ الأعصاب ويسبح الفكر في معاني الجلال والجمال، كما يرشد إلى أن يكون ذلك شأن المؤمن في كل وقت.
في الغدو والآصال : أوقات الصباح والمساء.
استحضِرْ عظَمة ربك من مشاهداتك في كونه الذي خلق، وفي آثاره العظيمة فيه، وإنعاماته المادية والروحية عليك، فتعرَّف من كل هذا على ربوبيته بالتقرب إليه والخضوع له والخوف منه. واذكر ربّك هادئ النفس مطمئن البال في الصباح وفي المساء تَنغمر نفسك بفيض من الرضا الرّباني، يبعث منك وإليك الخير كله، وتكون في مراقبة دائمة وشهود مستمر، بذلك لا تكون في عامة أوقاتك من الغافلين عن ذكر الله.
ثم تختم السورة بالإرشاد إلى أن الملائكة مع عظيم شرفهم وسمو مرتبتهم معترفون بعبوديتهم، خاضعون لعزّ الربوبية، لا يخالجهم في عبادتهم كِبر، وهم دائما يسبّحون الله وله يسجدون. فما أحوج الإنسان وقد ركّبت فيه مبادئ الشهوة والغضب أن يتخذ إلى ربه سبيلا، فيعبده بحق.
وهذه الآية إحدى الآيات التي طُلب إلى المؤمنين أن يسجُدوا عند تلاوتها أو سماعها، وهي أربع عشرة آية في القرآن الكريم.
وهذه هي السجدة المعروفة بسجدة التلاوة : وهي سجدة بين تكبيرتين : تكبيرة لوضع الجبهة على الأرض، وأخرى للرفع من السجود، دون تشهد ولا تسليم. ويشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة والنية واستقبال القبلة.
والحكمة في هذه السجدة أنها نوع من التربية العملية الروحية في إعلان التمسك بالحق والإعراض عن الباطل، ومراغمة المبطلين، والسير في طريق المثل العليا للذين حمَّلهم الله أمانة الحق والدعوة إليه. وبذلك كانت سجدة التلاوة شعارا عاما للمؤمنين في إعلان تقديسهم عبادتهم، وشدتهم في مخالفة الباطل كلَّما قرأوا القرآن أو سمعوه.
جعلنا الله من المسبحين بحمده، الساجدين له، المقتدين بأنبيائه، المتشبهين بالملأ الأعلى، إنه سميع مجيب.