تفسير سورة الحجر

زاد المسير
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الحجر
وهي مكية كلها من غير خلاف نعلمه.

سورة الحجر
وهي مكّيّة كلّها من غير خلاف نعلمه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (١٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)
قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قد سبق بيانه. قوله تعالى: وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فيه قولان:
أحدهما: أن القرآن: هو الكتاب، جُمع له بين الاسمين. والثاني: أن الكتاب: هو التوراة والإِنجيل، والقرآن: كتابُنا. وقد ذكرنا في أول يوسف معنى المبين.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٢]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
قوله تعالى: رُبَما وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «رُبَّما» مشددة.
وقرأ نافع، وعاصم، وعبد الوارث «رُبَما» بالتخفيف. قال الفراء: أسَد وتميم يقولون: «رُبَّما» بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: «رُبَما» بالتخفيف. قال الفراء: أسَد وتميم يقولون: «رُبَّما» بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: «رُبَما» بالتخفيف. وتَيْم الرّباب يقولون: «رَبَّما» بفتح الراء.
وقيل: إِنما قرئت بالتخفيف، لِما فيها من التضعيف، والحروف المضاعَفة قد تحذف، نحو «إِنّ» و «لكنّ» فإنهم قد خفَّفوها. قال الزجاج: يقولون: رُبَّ رُجل جاءني، ورُبَ رُجل جاءني، وأنشد:
أزهير إِن يَشِبِ القَذالُ فإنني رُبَ هَيْضَلٍ مَرْسٍ لفَفْت بِهَيضَلِ «١»
هذا البيت لأبي كبير الهذلي، وفي ديوانه:
رُبَ هَيْضَلٍ لِجَبٍ لفَفْتُ بِهَيْضَلِ والهَيْضَل: جمع هَيْضلة، وهي الجماعة يغرى بهم، يقول لففتهم بأعدائهم في القتال.
و «رُبَّ» كلمة موضوعة للتقليل، كما أن «كم» للتكثير، وإِنما زيدت «ما» مع «رُبَّ» ليليَها الفعل، تقول: رُبَّ رجل جاءني، وربما جاءني زيد. وقال الأخفش: أُدخل مع «رُبَّ» ما، ليُتكلم بالفعل بعدها، وإِن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء»، فكأنك قلت: رُبَّ شيء، أي: رُبَّ وَدٍّ يَوَدُّه الذين كفروا. وقال أبو سليمان الدّمشقي: «ما» ها هنا بمعنى «حين»، فالمعنى: رُبَّ حين يَوَدُّون فيه. واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار، على قولين:
أحدهما: أنه في الآخرة. ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال:
(١) «ديوان الهذليين» ٢/ ٨٩. والقذال: جماع مؤخر الرأس، معقد العذار من الفرس خلف الناصية.
522
(٨٤٢) أحدها: «أنه إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القِبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إِسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟
قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبلة فأُخرجوا، فلما رأى ذلك الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنُخرَج كما أُخرجوا»
رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إِليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإِبراهيم.
والثاني: أنه ما يزال الله يرحم ويشفِّع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: أن الكفار إِذا عاينوا القيامة، وَدُّوا لو كانوا مسلمين، ذكره الزجاج. والرابع: أنه كلما رأى أهل الكفر حالاً من أحوال القيامة يعذَّب فيها الكافر ويَسلم من مكروهها المؤمن، وَدُّوا ذلك، ذكره ابن الأنباري.
والقول الثاني: أنه في الدنيا، إِذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم، وَدُّوا ذلك، قاله الضحاك.
فإن قيل: إِذا قلتم: إِن «رُبَّ» للتقليل، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد، فإنما يناسب الوعيدَ تكثيرُ ما يُتواعَد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدها: أن «ربما» تقع على التقليل والتكثير، كما يقع الناهل على العطشان والريَّان، والجَوْن على الأسود والأبيض. والثاني: أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثُر عليهم، فإذا عادت إِليهم عقولهم، وَدُّوا ذلك. والثالث: أن هذا الذي خُوِّفوا به، لو كان مما يُوَدُّ في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإِنسان يخاف الندم إِذا حصل فيه ولا يتيقّنُه، لوجب عليه اجتنابه.
فإن قيل: كيف جاء بعد «ربما» مستقبَل، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي، تقول: ربما لقيت عبد الله؟ فالجواب: أن ما وَعَدَ اللهُ حَقٌّ، فمستقبَلُه بمنزلة الماضي، يدل عليه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ «١» وقوله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «٢» وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «٣»، على أنّ الكسائيّ
حسن. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٣ والطبراني كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ٦٧٤ والحاكم ٢/ ٢٤٢ والبيهقي في «البعث والنشور» ٨٥ من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى مرفوعا. وأخرجه الطبري ٢١٠٠٥ من طريق خالد بن نافع بالإسناد المذكور عن أبي موسى الأشعري قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة... فذكره ثم قال في عجزه: «ثم قرأ رسول الله ﷺ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ... ». وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي؟ ومداره على خالد بن نافع قال الحافظ في «لسان الميزان» : ضعفه أبو زرعة والنسائي، وهو من أولاد أبي موسى وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه.
وقال أبو داود: متروك. وهذا تجاوز في الحد فإن الرجل قد حدّث عنه أحمد بن حنبل ومسدد، فلا يستحق الترك اهـ. وله شاهد من حديث جابر: أخرجه النسائي في «التفسير» ٢٩١ والطبراني في «الأوسط» ٥١٤٢.
وإسناده حسن فيه محمد بن عباد بن الزبرقان، وهو صدوق يهم كما في «التقريب». وله شاهد آخر من حديث أنس: أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٤ وإسناده منقطع فيه أبو الخطاب حرب بن ميمون الراوي عن أنس لا يعرف له رواية عن أحد من الصحابة. الخلاصة: هو حديث حسن بطرقه وشواهده.
__________
(١) سورة المائدة: ١١٦.
(٢) سورة الأعراف: ٤٤.
(٣) سورة سبأ: ٥١.
523
والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون: ربما يندم فلان، قال الشاعر:
رُبَّما تجزَعُ النفوس من الأم رِ له فُرجَة كَحَلِّ العِقالِ «١»
[سورة الحجر (١٥) : آية ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي: دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي: ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإِيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذا وردوا القيامة وبالَ ما صنعوا، وهذا وعيد وتهديد، وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي: ما عذَّبنا من أهل قرية إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل موقّت لا يُتقدم ولا يُتأخر عنه. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «من» صِلة، والمعنى: ما تتقدم وقتها الذي قدِّر لها بلوغه، ولا تستأخر عنه. قال الفراء: إِنما قال: «أَجَلها» لأن الأمَّة لفظُها مؤنث، وإِنما قال:
«يستأخرون» إخراجا له على معنى الرّجال.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٨]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي أمية والنضر بن الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة. قال ابن عباس: والذِّكر القرآن. وإِنما قالوا هذا استهزاءً، لو أيقنوا أنه نُزِّل عليه الذِّكْر، ما قالوا إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. قال أبو علي الفارسي: وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «٢».
قوله تعالى: لَوْ ما تَأْتِينا قال الفراء: «لو ما» و «لولا» لغتان معناهما: هلاّ، وكذلك قال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد، وأنشد لابن مقبل:
لو ما الحياء ولو ما الدِّيُن عِبْتُكُمَا بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُما عَوَرِي
قال المفسرون: إِنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه، وأن الله أرسله، فأجابهم الله تعالى بقوله: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ما تَنزَّلُ» بالتاء المفتوحة «الملائكةُ» بالرفع. وروى أبو بكر عن عاصم «ما تُنزَّل» بضم التاء على ما لم يُسم فاعله. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلَف «ما نُنِّزل» بالنون والزاي مشددة «الملائكةَ» نصباً. وفي المراد بالحق أربعة أقوال: أحدها: أنه العذاب إِن لم يؤمنوا، قاله الحسن. والثاني: الرساله، قاله مجاهد. والثالث: قبض الأرواح عند الموت، قاله ابن السائب. والرابع: أنه القرآن، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَما كانُوا يعني المشركين إِذاً مُنْظَرِينَ أي عند نزول الملائكة إذا نزلت.
(١) البيت لأمية بن أبي الصلت كما في «اللسان» مادة «فرج». والفرجة: الراحة من حزن أو مرض.
(٢) سورة القلم: ٢.

[سورة الحجر (١٥) : آية ٩]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، من عادة الملوك إِذا فعلوا شيئاً، قال أحدهم: نحن فعلنا، يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة للملِك في خطابه، وإِنِ انفرد بفعل الشيء، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها. والذِّكْر: القرآن، في قول جميع المفسرين. وفي هاء «له» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الذِّكْر، قاله الأكثرون. قال قتادة: أنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إِبليس أن يزيد فيه باطلا، ولا ينقص منه حقاً. والثاني: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الشياطين والأعداء، لقولهم: «إِنك لمجنون»، هذا قول ابن السائب، ومقاتل.
[سورة الحجر (١٥) : آية ١٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يعني: رسلاً، فحُذف المفعولُ، لدلالة الإِرسال عليه.
والشِّيَع: الفِرَق، وحكي عن الفراء أنه قال: الشيعة: الأمَّة المتابعة بعضها بعضاً فيما يجتمعون عليه من أمر.
[سورة الحجر (١٥) : آية ١١]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
قوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا تعزية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إِنَّ كل نبيٍّ قبلك كان مبتلىً بقومه كما ابتليت.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
قوله تعالى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ في المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد. والثاني: أنه الاستهزاء، قاله قتادة. والثالث: التكذيب، قاله ابن جريج، والفرّاء.
ومعنى الآية: كما سلكنا الكفر في قلوب شِيَع الأولين، نُدخل في قلوب هؤلاء التكذيبَ فلا يؤمنوا. ثم أخبر عن هؤلاء المشركين، فقال تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرسول. والثاني: القرآن. والثالث: العذاب.
قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فيه قولان: أحدهما: مضت سُنَّة الله في إِهلاك المكذِّبين.
والثاني: مضت سنّتهم بتكذيب الأنبياء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ يعني: كفار مكة فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي:
يصعدون، يقال: ظل يفعل كذا: إِذا فعله بالنهار. وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان: أحدهما:
أنهم الملائكة، قاله ابن عباس، والضحاك، فالمعنى: لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه، لما آمنوا به. والثاني: أنهم المشركون، قاله الحسن، وقتادة، فيكون المعنى: لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء لم يستشعروا إِلا الكفر، لعنادهم.
قوله تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير، وعبد الوارث بتخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين متقارب، والمعنى: حُبستْ، من قولهم: سَكَرَت الريح: إِذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء: معنى «سُكِرَتْ» بالتخفيف، مأخوذ من سُكْر الشراب، يعني: أن الأبصار حارت، ووقع بها من فساد النّظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل. قال ابن الأنباري: إذا كان هذا معنى الوصف، فسُكِّرت، بالتشديد، يراد به وقوع هذا الأمر مرّة بعد مرّة. وقال أبو عبيدة: «سُكِّرت» بالتشديد، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري. وقال الزّجّاج: «سكّرت» بالتشديد، فسّروها:
أغشيت، و «سكرت» بالتخفيف: تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر، والعرب تقول: سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ:
إِذا سكنت. وروى العوفي عن ابن عباس: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قال: أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا، وإِنما سُحِرْنا. وقال مجاهد: «سُكِّرت» سُدَّت بالسِّحر، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً في البروج ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بروج الشمس والقمر، أي: منازلهما، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأسماؤها: الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت. والثاني: أنها قصور، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال عطية: هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة: أصل البروج: الحصون. والثالث: أنها الكواكب، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. قال أبو صالح: هي النجوم العِظام. قال قتادة: سُميت بروجاً، لظهورها.
قوله تعالى: وَزَيَّنَّاها أي: حسَّنّاها بالكواكب. وفي المراد بالناظرين قولان:
أحدهما: أنهم المبصرون. والثاني: المعتبِرون.
قوله تعالى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي: حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً، ثم يتبعه الشهاب. والرجيم مشروح في سورة آل عمران «١». واختلف العلماء:
هل كانت الشياطين ترمى بالنّجوم قبل مبعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى: مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٤٣) وقد أخرج في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «انطلق
صحيح. أخرجه البخاري ٧٧٣ و ٤٩٢١، ومسلم ٤٤٩، والترمذي ٣٣٢٠، وأحمد ١/ ٢٥٢ و ٢٧٠، وأبو يعلى ٢٣٦٩ من حديث ابن عباس قال: انطلَق رسولُ الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا:
حِيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا
__________
(١) عند الآية: ٣٦.
526
رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب». وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. قال الزجاج: ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله ﷺ أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضّة، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذِكرها، فقال ذو الرُّمَّة:
كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ «١»
والثاني: أنه قد كان ذلك قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
(٨٤٤) فروى مسلم في «صحيحه» من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال: بينا النبيّ ﷺ جالس في نفر من أصحابه، إِذ رمي بنجم، فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم، قال: «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً، سبَّح حملة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء، وتخطف الجنّ ويرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون». وروي عن ابن عباس أن الشياطين كانت لا تحجب عن السّماوات، فلمّا ولد عيسى، منعت من ثلاث سماوات، فلمّا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا من السّماوات كلِّها. وقال الزهري: قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله، ولكنها غُلِّظت حين بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب ابن قتيبة، قال: وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي:
والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ
وقال أوس بن حَجَر، وهو جاهلي:
فانقض كالدِّرِّيء يتبعه نقع يثور تخالهُ طُنُبا
قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي: اختطف ما سمعه من كلام الملائكة. قال ابن فارس:
استرق السمع: إذا تسمّع مستخفياً. فَأَتْبَعَهُ أي: لحقه شِهابٌ مُبِينٌ قال ابن قتيبة: كوكب مضيء.
وقيل: «مبين» بمعنى: ظاهر يراه أهل الأرض. وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض، فأما وحي الله عزّ وجلّ، فقد صانه عنهم. واختلفوا، هل يَقتل الشهاب، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه
مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء قال: فانطلق الذين توجّهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا تسمَّعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عز وجل على نبيه ﷺ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وإنما أوحي إليه قول الجن.
صحيح. أخرجه مسلم ٢٢٢٩ والترمذي ٣٢٢٤ وأحمد ١/ ٢١٨ والطحاوي في «المشكل» ٢٣٣٢ وابن حبان ٦١٢٩ والبيهقي ٨/ ١٣٨ من حديث ابن عباس.
__________
(١) في «اللسان» مادة «عفر» لذي الرمة. ورجل عفر وعفرية: خبيث منكر واه.
527
يُحرق ويخبِّل ولا يقتُل، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه يقتُل، قاله الحسن. فعلى هذا القول، هل يُقتَل الشيطان قبل أن يخبِر بما سمع، فيه قولان: أحدهما: أنه يقتل قبل ذلك، فعلى هذا، لا تصل أخبار السماء إِلى غير الأنبياء. قال ابن عباس: ولذلك انقطعت الكِهانة. والثاني: أنه يُقتَل بعد إِلقائه ما سمع إِلى غيره من الجن، ولذلك يعودون إِلى الاستراق، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
قوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي: بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وهي الجبال الثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها في المشار إِليها قولان: أحدهما: أنها الأرض، قاله الأكثرون. والثاني: الجبال، قاله الفرّاء. وفي قوله: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قولان «١» :
أحدهما: أن الموزون: المعلوم، رواه العَوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك. وقال مجاهد، وعكرمة في آخرين: الموزون: المقدور. فعلى هذا يكون المعنى: معلومَ القَدْر كأنه قد وُزِن، لأن أهل الدنيا لمَّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القَدْر عنده بأنه موزون. وقال الزجاج: المعنى: أنه جرى على وَزْنٍ من قَدَر الله تعالى، لا يجاوز ما قدَّره الله تعالى عليه، ولا يستطيع خَلْقٌ زيادةً فيه ولا نُقصاناً.
والثاني: أنه عنى به الشيء الذي يُوزَن كالذهب، والفضة، والرصاص، والحديد، والكُحل، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعكرمة، وابن زيد، وابن السائب، واختاره الفراء.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ في المشار إِليها قولان:
أحدهما: أنها الأرض. والثاني: أنها الأشياء التي أَنبتت.
والمعايش جمع معيشة. والمعنى: جعلنا لكم فيها أرزاقاً تعيشون بها.
وفي قوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أربعة أقوال «٢» : أحدها: أنه الدواب والأنعام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الوحوش، رواه منصور، عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: الوحش، والطير، والسباع، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم. والثالث: العبيد والإِماء، قاله الفراء. والرابع: العبيد، والأنعام، والدواب، قاله الزجاج. قال الفراء: و «مَنْ» في موضع نصب، فالمعنى: جعلنا لكم فيها المعايش، والعبيد، والإِماء. ويقال: إِنها في موضع خفض، فالمعنى: جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين. وقال الزجاج: المعنى: جعلنا لكم الدواب، والعبيد، وكُفيتم مؤونة أرزاقها.
فإن قيل: كيف قلتم: إن «مَنْ» هاهنا للوحوش والدواب، وإِنما تكون لمن يعقل؟
فالجواب: أنه لما وُصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس،
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٥٠٢: وأولى الأقوال عندنا بالصواب القول الأول لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٥٠٣: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأحسن أن يقال: عني بقوله وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من العبيد والإماء والدواب والأنعام.
فيقال: للآدمي معاش، ولا يقال: للفرس معاش، جرت مجرى الناس، كما قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «١»، وقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «٢»، وقال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٣»، وإِن قلنا: أُريدَ به العبيد، والوحوش، فإنه إِذا اجتمع الناس وغيرهم، غُلِّب الناس على غيرهم، لفضيلة العقل والتّمييز.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٢١]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ أي: وما من شيء إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وهذا الكلام عامّ في كل شيء. وذهب قوم من المفسرين إِلى أن المراد به المطر خاصة، فالمعنى عندهم: وما من شيء من المطر إِلا عندنا خزائنه، أي: في حُكمنا وتدبيرنا، وَما نُنَزِّلُهُ كل عام إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لا يزيد ولا ينقص، فما من عام أكثرُ مطراً من عام، غير أن الله تعالى يصرفه إلى من يشاء، ويمنعه من يشاء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ وقرأ حمزة وخلف: «الريح». وكان أبو عبيدة يذهب إِلى أن «لواقح» بمعنى مَلاقح، فسقطت الميم منه، قال الشاعر:
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائسٌ لِضَرَاعَةٍ وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحتْهُ الطَّوَائِحُ «٤»
أراد: المَطاوح، فحذف الميم، فمعنى الآية عنده: وأرسلنا الرياح مُلقِحة، فيكون هاهنا فاعلٌ بمعنى مفْعِل، كما أتى فاعل بمعنى مفعول، كقوله تعالى: ماءٍ دافِقٍ «٥» أي: مدفوق، وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «٦» أي: مَرضيَّة، وكقولهم: ليل نائم، أي: مَنُوم فيه، ويقولون: أبقل النبت، فهو باقل، أي: مُبقِل. قال ابن قتيبة: يريد أبو عبيدة أنها تُلْقِح الشجر، وتُلْقِح السحاب كأنها تُنتجه. ولست أدري ما اضطرّه إِلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياحَ لواقحَ، والريحَ لاقحاً، قال الطِّرِمَّاح، وذكر بُرْداً مَدَّه على أصحابه في الشمس يستظلُّون به:
قَلِقٌ لأفنان الريا ح لِلاَقحٍ منها وحائل «٧»
فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشمال، ويسمون الشمال أيضاً: عقيماً، والعقيم: التي لا تحمل، كما سمَّوا الجنوب لاقحاً، قال كثيِّر:
ومرّ بسفساف التّراب عقيمها «٨»
(١) سورة النمل: ١٨.
(٢) سورة يوسف: ٤٠. [.....]
(٣) سورة الأنبياء: ٣٣.
(٤) البيت لنهشل بن حري، انظر «كتاب سيبويه» ١/ ١٤٥، وفي «اللسان» مادة «طيح» وطوّحته الطوائح: قذفته القواذف، وطوّح الشيء: ضيعه، طاح طيحا: تاه، وطيّح نفسه وطاح الشيء طيحا: فني وذهب، وأطاحه هو:
أفناه. قال ابن جني: أول البيت مبني على اطّراح ذكر الفاعل، فإن آخره عوود فيه الحديث على الفاعل لأن تقديره فيما بعد ليبكه مختبط مما تطيح الطوائح، فدل قوله: ليبك على ما أراد من قوله ليبك.
(٥) سورة الطارق: ٦.
(٦) سورة القارعة: ٧.
(٧) للبيت للطّرمّاح كما في «غريب القرآن» لابن قتيبة ٢٣٦.
(٨) في «اللسان» مادة «سفّ» ونسبه لكثير، وعنده: «هاج» بدل «مرّ». والسفساف: ما دقّ من التراب.
529
يعني: الشمال. وإِنما جعلوا الريح لاقحاً، أي: حاملاً، لأنها تحمل السحاب وتقلِّبه وتصرِّفه، ثم تحلُّه فينزل، فهي على هذا حامل، ويدل على هذا قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً «١» أي:
حملت، قال ابن الأنباري: شبّه ما تحمله الرّيح من الماء وغيره، بالولد الذي تشتمل عليه الناقة، وكذلك يقولون: حرب لاقح، لِما تشتمل عليه من الشر، فعلى قول أبي عبيدة، يكون معنى «لواقح» :
أنها مُلقحة لغيرها، وعلى قول ابن قتيبة: أنها لاقحة نفسها، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول «٢».
قال عبد الله بن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء، فتمجّه في السّحاب ثم تَمريه «٣»، فيدرُّ كما تدرُّ اللقحة «٤». وقال الضحاك: يبعث الله الرياح على السحاب فتُلقِحه فيمتلئ ماءً.
قال النخعي: تُلْقِح السحاب ولا تُلْقِح الشجر. وقال الحسن في آخرين: تُلْقح السحاب والشجر، يعنون أنها تُلْقح السحاب حتى يُمطر والشجر حتى يُثمر.
قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ يعني السحاب ماءً يعني المطر فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي: جعلناه سقيا لكم. قال الفراء: العرب مجتمعون على أن يقولوا: سقيت الرجل، فأنا أسقيه: إِذا سقيته لِشَفَتِه، فإذا أجرَوا للرجل نهراً قالوا: أسقيته وسقيته، وكذلك السُّقيا من الغيث، قالوا فيها: سقيت وأسقيت، وقال أبو عبيدة: كل ما كان من السماء، ففيه لغتان: أسقاه الله، وسقاه الله، قال لبيد:
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى نُمَيْراً والقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ
فجاء باللغتين. وتقول: سقيت الرجل ماءً وشراباً من لبن وغيره، وليس فيه إِلا لغة واحدة بغير ألِف، إِذا كان في الشَّفه، وإِذا جعلت له شِرْباً، فهو: أسقيته، وأسقيت أرضه، وإِبله، ولا يكون غير هذا، وكذلك إِذا استسقيت له، كقول ذي الرمة:
وَقَفْتُ عَلَى رَسْمٍ «٥» لِمَيَّةَ نَاقَتِي فَما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُهْ
وأُسْقِيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فإذا وهبت له إِهاباً ليجعله سقاءً، فقد أسقيته إِياه.
قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ لَهُ يعني: الماء المُنزَل بِخازِنِينَ وفيه قولان: أحدهما: بحافظين، أي: ليست خزائنه بأيديكم، قاله مقاتل. والثاني: بمانعين، قاله سفيان الثوري.
قوله تعالى: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ يعني: أنه الباقي بعد فناء الخلق.
(١) سورة الأعراف: ٥٧.
(٢) ورد في هذا الباب حديث مرفوع عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح، وهي التي ذكر الله تعالى في كتابه، وفيها منافع للناس». أخرجه الطبري ٢١١٠٩، وأبو الشيخ في «العظمة» ٨٠٥ وإسناده ضعيف جدا، فيه أبو المهزم، وهو متروك، وكذا عبيس بن ميمون. والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره ٢/ ٥٤٩ وضعفه.
(٣) في «القاموس» : مرى الناقة يمريها، مسح ضرعها، فأمرت هي: درّ لبنها وهي: المرية بالضم والكسر. ومرى الشيء: استخرجه كامتراه.
(٤) أخرجه الطبري ٢١٠٩٨ عن ابن مسعود موقوفا عليه.
(٥) في «القاموس» الرسم: الأثر أو بقيته أو ما لا شخص له من الآثار.
530

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ يقال: استقدم الرجل، بمعنى: تقدم، واستأخر، بمعنى:
تأخر، وفي سبب نزولها قولان:
(٨٤٥) أحدهما: أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يستقدم حتى
باطل. أخرجه الترمذي ٣١٢٢، والنسائي في «الكبرى» ١١٢٢٧٣، و «التفسير» ٢٩٣ وابن ماجة ١٠٤٦، والطيالسي ٢٧١٢، وأحمد ١/ ٣٠٥، وابن حبان ٤٠١، والحاكم ٢/ ٣٥٣ والطبراني ١٢/ ١٧١، والطبري ٢١١٣٦ و ٢١١٣٧، والبيهقي من طرق عن نوح بن قيس عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. قال الترمذي: روى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء نحوه، ولم يذكر فيه عن ابن عباس، وهو أشبه أن يكون أصح من حديث نوح. وقال الحاكم: صحيح. وقال عمرو بن علي- الفلاس-: لم يتكلم أحد في نوح بن قيس الطاحي بحجة. وقال الذهبي: هو صدوق خرّج له مسلم. وقال الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» : ٢/ ٢٧٨: إسناده صحيح. وجعله الألباني في «صحيح السنن» و «الصحيحة» ٢٤٧٢. وليس كما قالوا والصواب أنه غير صحيح، وهو معلول بالإرسال، وبأنه ورد عن ابن عباس خلافه.
- فقد أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٤٤٥ والطبري ٢١١٣٥ عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين. وجعفر بن سليمان من رجال مسلم. ونوح بن قيس، وإن روى له مسلم، ووثقه أحمد ويحيى، فقد ضعّفه يحيى في رواية. وقال النسائي:
لا بأس به، وقال الذهبي: بصري صالح الحال اه. فليس هو بالثبت. وقد خالفه غيره، فرواه من قول أبي الجوزاء، وبدون القصة. وقال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٦٧٨- ٦٧٩: غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ورواه عبد الرزاق عن أبي الجوزاء ليس فيه ذكر ابن عباس، وصوّب الترمذي الإرسال. فهذه علّة للحديث. وله علّة أخرى، وهي: أنه ورد عن ابن عباس «يعني بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو حيّ ولم يمت».
وهذا أخرجه الطبري ٢١١٢١ لكن فيه عطية العوفي، وهو ضعيف وكرره ٢١١١٨ عن قتادة عن ابن عباس، وهو منقطع، لكن يصلح للمتابعة. وورد مثله عن الشعبي وابن زيد وغيرهم. وورد عن مجاهد «المستقدمين» أي القرون الأول، والمستأخرين: أمة محمد ﷺ اه. وهذا أخرجه عبد الرزاق ١٤٤٧ والطبري ٢١١٢٧ و ٢١١٢٨ و ٢١١٢٩ و ٢١١٣٠ وأسند عبد الرزاق ١٤٤٦ عن عكرمة: أن المراد بالمستقدمين ما خرج من الخلق، وبالمستأخرين ما بقي في الأصلاب لم يخرج بعد. ومجاهد وعكرمة من أجلّة أصحاب ابن عباس، ولم يذكرا أن المراد بذلك صفوف الصلاة، فلو صح هذا الحديث عند شيخهم ابن عباس لروياه عنه، ولفسّرا الآية الكريمة به. وقال الطبري رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأقوال جميعا: وأولى الأقوال عندي قول من قال:
معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ وما بعده وهو قوله وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ. ومما يدل على وهن الخبر ونكارته:
وهو أنهم أجمعوا على أن السورة مكية، نقل الإجماع القرطبي، ووافقه الشوكاني وغيره. ثم إن الآية المتقدمة، والآية الآتية فيهما قرينة ترجيح أن المراد بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو على قيد الحياة، ولم يولد بعد. وبهذا يتبين وهن الحديث ونكارته كما ذهب إليه الحافظ الناقد ابن كثير رحمه الله خلافا لمن صححه اعتمادا منه على ظاهر إسناده من غير تأمل لما جاء في تفسير هذه الآية، وبأنها مكية لا مدنية والله الموفق. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٣٤١، وأحكام القرآن لابن العربي ١٣١٦، وهما بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
يكون في أول الصفِّ لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إِبطه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
(٨٤٦) والثاني: أنّ النبيّ ﷺ حرَّض على الصف الأول، فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة: لنبيعنَّ دُورنا، ولنشترينَّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندركَ الصف المتقدم، فنزلت هذه الأية ومعناها: إِنما تُجْزَون على النيات، فاطمأَنوا وسكنوا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخِرين ثمانية أقوال «١» : أحدها: التقدم في الصف الأول، والتأخر عنه، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها، فعلى الأول: هو التقدُّم للتقوى، والتأخُّر للخيانة بالنظر، وعلى الثاني: هو التقدم لطلب الفضيلة، والتأخر للعذر. والثاني: أن المستقدمين: من مات، والمستأخرين: من هو حي لم يمت، رواه العَوفي عن ابن عباس، وخُصَيف عن مجاهد، وبه قال عطاء، والضحاك، والقرظي. والثالث: أن المستقدمين: من خرج من الخلق فكان. والمستأخرين: الذين في أصلاب الرجال، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
والرابع: أن المستقدمين: من مضى من الأمم، والمستأخرين: أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: أنّ المستقدمين: المتقدّمون في الخير، والمستأخرين، المثبِّطون عنه، قاله الحسن وقتادة. والسادس: أن المستقدمين في صفوف القتال، والمستأخرين عنها، قاله الضحاك. والسابع: أن المستقدمين: من قُتل في الجهاد، والمستأخرين: من لم يُقتَل، قاله القرظي. والثامن: أن المستقدمين:
أول الخلق، والمستأخرين: آخر الخلق، قاله الشّعبيّ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطّين اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا نقرتَهَ صَلَّ، فسمعتَ له صلصلة، قاله ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة. والثاني: أنه الطين المنتن، قاله مجاهد والكسائي وأبو عبيد. ويقال: صَلَّ اللحمُ: إِذا تغيرت رائحته. والثالث: أنه طين خُلط برمل، فصار له صوت عند نقره، قاله الفراء.
فأما الحمأُ، فقال أبو عبيدة: هو جمع حَمْأة، وهو الطين المتغير. وقال ابن الأنباري: لا خلاف أن الحمأ: الطين الأسود المتغيِّر الريح، وروى السدي عن أشياخه قال: بُلَّ الترابُ حتى صار طيناً. ثم تُرك حتى أنتن وتغيّر.
وفي المسنون أربعة أقوال: أحدها: أنه المنتن أيضاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وتقدم أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٣ عن الربيع بن أنس بدون إسناد.
__________
(١) رجّح الطبري رحمه الله القول الثاني كما في «تفسيره» ٧/ ٥١٠، وهو الصواب.
532
مجاهد، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: المسنون: المتغير الرائحة. والثاني: أنه الطين الرطب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه المصبوب، قاله أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيد. والرابع:
أنه المحكوك، ذكره ابن الأنباري، قال: فمن قال: المسنون: المنتن، قال: هو من قولهم: قد تسنَّى الشيء: إِذا أنتن، ومنه قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ «١»، وإِنما قيل له: مسنون لتقادم السنين عليه، ومن قال: الطين الرطب، قال: سمي مسنوناً، لأنه يسيل وينبسط، فيكون كالماء المسنون المصبوب. ومن قال: المصبوب، احتج بقول العرب: قد سننت عليَّ الماء: إِذا صببته. ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال، من قوله: رأيت سُنَّة وجهه، أي: صورة وجهه، قال الشاعر:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ «٢»
ومن قال: المحكوك، احتج بقول العرب: سننت الحجر على الحجر: إِذا حككته عليه. وسمي المِسَنُّ مسناً، لأن الحديد يُحَكُّ عليه. قال: وإِنما كُرِّرت «مِنْ» لأن الأولى متعلقة ب «خلقنا»، والثانية متعلقة بالصلصال، تقديره: ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون.
قوله تعالى: وَالْجَانَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مسيخ الجن «٣»، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس «٤»، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه الضحاك أنه قال: الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس «٥» لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. والثالث: أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل.
فإن قيل: أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله. والثاني: أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذاً فرق على ما ذكرنا عن ابن عباس، قال العلماء: وإِنما سمي جانّاً، لتواريه عن العيون.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ يعني: قبل خَلْق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ، وقال ابن مسعود: من نار الريح الحارَّة، وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم «٦». والسَّموم في اللغة: الريح الحارَّة وفيها نار، قال
(١) سورة البقرة: ٢٥٩.
(٢) البيت لذي الرمة كما في «ديوانه» ٨. وفي «القاموس» أقرفه الرجل وغيره: دنا من الهجنة، والقرفة: الهجنة.
ووجه مقرف: غير حسن. والخال: شامة في البدن. [.....]
(٣) هذا قول باطل، ليس بشيء. ويعارضه ما أخرجه مسلم ٢٩٩٦ وابن حبان ٦١٥٥ والبيهقي في «الصفات» ص ٣٨٥ وأحمد ٦/ ١٥٣ من حديث عائشة مرفوعا «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
(٤) هذا قول باطل. يعارضه ما أخرجه مسلم ٢٦٦٣ من حديث ابن مسعود «إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك». وفي الباب أحاديث تشهد له.
(٥) الصواب أن الشياطين هم مردة الجن.
(٦) في الباب من حديث أبي هريرة: «ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: «فضلت عليهن بتسعة وتسعين جزءا كلهنّ مثل حرّها» أخرجه البخاري ٣٢٦٥ واللفظ له، ومسلم ٢٨٤٣، ومالك ٢/ ٩٩٤، والترمذي ٢٥٨٩، وأحمد ٢/ ٣١٣، وابن حبان ٧٤٦٢.
533
ابن السائب: وهي نار لا دخان لها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٩ الى ٤١]
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي: عدَّلتُ صورته، وأتممتُ خلقته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي هذه الروح هي التي يحيا بها الإِنسان، ولا تعلم ماهيّتها، وإِنما أضافها إِليه، تشريفاً لآدم، وهذه إِضافة مِلْك. وإِنما سمي إِجراء الروح فيه نفخاً، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه.
قوله تعالى: فَقَعُوا أمر من الوقوع. وقوله تعالى: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال فيه سيبويه والخليل:
هو توكيد بعد توكيد. وقال المبرد: «أجمعون» يدل على اجتماعهم في السجود، فالمعنى: سجدوا كلُّهم في حالة واحدة. قال ابن الأنباري: وهذا، لأن «كلاًّ» تدل على اجتماع القوم في الفعل، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان. قال الزجاج: وقول سيبويه أجود، لأن «أجمعين» معرفة، ولا تكون حالاً.
قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ قال المفسرون: معناه: يلعنك أهل السماء والأرض إِلى يوم الحساب. قال ابن الأنباري: وإِنما قال: إِلى يَوْمِ الدِّينِ لأنه يوم له أول وليس له آخر، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى، والمعنى: عليك اللعنة أبداً.
قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني: المعلوم بموت الخلائق فيه، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم.
قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مفعول التزيين محذوف، والمعنى: لأزيِّننَّ لهم الباطلَ حتى يقعوا فيه. وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أي: ولأُضِلَّنَّهم. والمخلَصون: الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإِخلاص. وما أخللنا به من الكلمات ها هنا، فقد سبق تفسيرها في سورة الأعراف وغيرها.
قوله تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعني بقوله هذا: الإِخلاصَ، فالمعنى: إِن الإِخلاص طريق إِليَّ مستقيم، و «عليَّ» بمعنى «إِليَّ». والثاني: هذا طريق عليَّ جَوازه، لأني بالمرصاد، فأجازيهم بأعمالهم، وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك عليَّ، فهو كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «١». والثالث: هذا صراط عليَّ استقامته، أي: أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان.
وقرأ قتادة، ويعقوب: «هذا صراطٌ عَلِيٌّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها، أي: رفيع.
(١) سورة الفجر: ١٤.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المؤمنون. والثاني: المعصومون، رُوِيا عن قتادة. والثالث: المخلِصون، قاله مقاتل. والرابع: المطيعون، قاله ابن جرير. فعلى هذه الأقوال، تكون الآية من العامِّ الذي أريد به الخاصُّ، وفي المراد بالسلطان قولان: أحدهما: أنه الحجة، قاله ابن جرير، فيكون المعنى: ليس لك حجة في إِغوائهم. والثاني: أنه القهر والغلبة إِنما له أن يَغُرَّ ويزيِّن، قاله أبو سليمان الدمشقي. وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: ليس لك عليهم سلطان أن تلقيَهم في ذَنْب يضيق عفوي عنه.
قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: الذين اتَّبعوه.
قوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وهي دركاتها بعضها فوق بعض، قال علي عليه السلام: أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض، ووصف الراوي عنه بيده وفتح أصابعه. قال ابن جرير: لها سبعة أبواب، أولها جهنم، ثم لَظى، ثم الحُطَمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقال الضحاك: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض، فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذَّبون على قدر ذنوبهم ثم يُخرَجون، والثاني فيه النصارى، والثالث فيه اليهود، والرابع فيه الصّابئون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون. قال ابن الأنباري: لما اتصل العذاب بالباب، وكان الباب مِنْ سببه، سمي باسمه للمجاورة، كتسميتهم الحدث غائطاً.
قوله تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي من أتباع إبليس جُزْءٌ مَقْسُومٌ والجزء بعض الشيء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) قد شرحنا في سورة (البقرة) معنى التقوى والجنات. فأما العيون، فهي عيون الماء، والخمر، والسلسبيل، والتسنيم، وغير ذلك مما ذُكر أنه من شراب الجنة.
قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ المعنى: يقال لهم: ادخلوها بسلام، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بسلامة من النار. والثاني: بسلامة من كل آفة. والثالث: بتحية من الله تعالى.
وفي قوله: آمِنِينَ أربعة أقوال: أحدها: آمنين من عذاب الله. والثاني: من الخروج.
والثالث: من الموت. والرابع: من الخوف والمرض.
قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قد ذكرنا تفسيرها في سورة الأعراف «١»، فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول.
(١) عند الآية: ٤٣.
قوله تعالى: إِخْواناً منصوب على الحال، والمعنى: أنهم متوادّون.
فإن قيل: كيف نصب «إِخواناً» على الحال، فأوجب ذلك أن التآخي وقع من نزع الغِلِّ وقد كان التآخي بينهم في الدنيا؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: ما مضى من التآخي قد كان تشوبه ضغائن وشحناء، وهذا التآخي بينهم الموجودُ عند نزع الغِلِّ هو تآخي المصافاة والإِخلاص، ويجوز أن ينتصب على المدح، المعنى: اذكر إِخواناً. فأما السرر، فجمع سرير، قال ابن عباس: على سرر من ذهب مكلَّلة بالزبرجد والدُّرِّ والياقوت، السرير مثل ما بين عدن إِلى أيلة «١»، مُتَقابِلِينَ لا يرى بعضهم قفا بعض، حيثما التفت رأى وجهاً يحبه يقابله.
قوله تعالى: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي: لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٣]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)
قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
(٨٤٧) سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ قال:
طلع علينا رسول الله ﷺ من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، ونحن نضحك، فقال: «ألا أراكم تضحكون؟» ثم أدبر، حتى إِذا كان عند الحِجر، رجع إِلينا القهقرى، فقال: «إِني لمَّا خرجت، جاء جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، يقول الله تعالى: لم تقنّط عبادي؟ نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم».
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بتحريك ياء «عباديَ» وياء «أنيَ أنا»، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) قد شرحنا القصة في (هود) «٢» وبيَّنَّا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم، وذكرنا معنى الوَجَل في (الأنفال) «٣».
قوله تعالى: بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي: إِنه يبلغ ويعلم.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢١٢١٤ عن عطاء عن رجل من أصحاب النبي ﷺ مرفوعا، وفي إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد ويحيى، وكذا عاصم بن عبيد الله ضعفوه. وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١١١٠٧ وقال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف متروك. وفيه أيضا مصعب بن ثابت، وهو ضعيف كما تقدم. وفي الباب من حديث عمر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١٠/ ١٨٥٧٣ مطوّلا، وإسناده ضعيف، فيه سلام الطويل، وهو مجمع على ضعفه قاله الهيثمي.
فالخبر ضعيف الإسناد، والمتن منكر بهذا اللفظ.
__________
(١) أيلة: اسم مدينة على شاطئ البحر من بلاد الشام بين الفسطاط ومكة.
(٢) عند الآية: ٦٩.
(٣) عند الآية: ٧.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٤ الى ٦٦]

قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨)
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣)
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)
قوله تعالى: قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي أي: بالولد عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي: على حالة الكِبَر والهرم فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُبشِّرونَ» بفتح النون. وقرأ نافع بكسر النون، ووافقه ابن كثير في كسرها، لكنه شددها. وهذا استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كِبَرِه. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي: بما قضى الله أنه كائن فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ يعني:
الآيسين. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «ومن يقنَط» بفتح النون في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: «يقنِط» بكسر النون. وكلّهم قرءوا مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بفتح النون، وروى خارجة عن أبي عمرو «ومن يقنُط» بضم النون. قال الزجاج: يقال: قنِط يقنَط، وقنَط يقنِط، والقُنوط بمعنى اليأس، ولم يكن إِبراهيم قانطاً، ولكنه استبعد وجود الولد. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي: ما أمرُكم؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا أي: بالعذاب. وقوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء ليس من الأول. فأما آل لوط فهم أتباعه المؤمنون. قوله تعالى: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «لمنجُّوهم» مشددة الجيم. وقرأ حمزة والكسائي «لمُنجوهم» خفيفة.
قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ المعنى: إٍنا لمنجوهم إِلا امرأته قَدَّرْنا وروى أبو بكر عن عاصم «قَدَرْنا» بالتخفيف، والمعنى واحد، يقال: قدَّرت وقدّرْت، والمعنى: قضينا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ يعني: الباقين في العذاب.
قوله تعالى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني: لا أعرفكم، قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ يعنون: العذاب، كانوا يشكّون في نزوله. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالأمر الذي لا شك فيه من عذاب قومك. قوله تعالى: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي: سِرْ خلفهم وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي: حيث يأمركم جبريل، وفي المكان الذي أُمِروا بالمضي إِليه قولان: أحدهما: أنه الشام، قاله ابن عباس. والثاني:
قرية من قرى لوط، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي: أوحينا إِليه ذلك الأمر، أي: الأمر بهلاك قومه. قال الزجاج: فسَّر: ما الأمر بباقي الآية، والمعنى: وقضينا إِليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين. فأما الدّابر، فقد سبق تفسيره، والمعنى: إِن آخر من يبقى منكم يَهْلِك وقت الصّبح.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٧ الى ٧١]

وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
قوله تعالى: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وهي قرية لوط، واسمها سَدُوم «١»، يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط، طمعاً في ركوب الفاحشة، فقال لهم لوط: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي: بقصدكم إِياهم بالسوء، يقال: فضَحَه يفضَحُه: إِذا أبان من أمره ما يلزمه به العار. وقد أثبت يعقوب ياء «تفضحون»، وياء «تُخزون» في الوصل والوقف.
قوله تعالى: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي: عن ضيافة العالَمين.
قوله تعالى: بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ حرك ياء «بناتي» نافع، وأبو جعفر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٧]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
قوله تعالى: لَعَمْرُكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: وحياتك يا محمد، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: لَعَيْشُك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الأخفش، وهو يرجع إِلى معنى الأول. والثالث: أن معناه: وحقّك على أمتك، تقول العرب: لَعَمْرُ الله لا أقوم، يعنون:
وحَق الله، ذكره ابن الأنباري، قال: وفي العَمْرِ ثلاث لغات: عمر وعمر، وعمر، وهو عند العرب:
البقاء. وحكى الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا: العَمْرُ والعُمْرُ في معنى واحد، فإذا استُعمل في القسَم، فُتح لا غير، وإِنما آثروا الفتح في القسَم، لأن الفتح أخف عليهم، وهم يؤثرون القسَم ب «لعَمري» و «لعَمّرك» فلما كثر استعمالهم إِياه، لزموا الأخف عليهم، قال: وقال النحويون:
ارتفع «لَعمرُكَ» بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: لعَمْرك قَسَمي، ولعَمْرك ما أُقسِمُ به، وحُذف الخبر، لأن في الكلام دليلاً عليه. المعنى: أُقسِم إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وفي المراد بهذه السكرة قولان: أحدهما: أنها بمعنى الضلالة، قاله قتادة. والثاني: بمعنى الغفلة، قاله الأعمش، وقد شرحنا معنى العَمَه في سورة البقرة «٢». وفي المشار إِليهم بهذا قولان: أحدهما: أنهم قوم لوط، قاله الأكثرون. والثاني: قوم نبينا صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء.
قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني: صيحة العذاب، وهي صيحة جبريل عليه السلام.
مُشْرِقِينَ قال الزجاج: يقال: أشرقنا، فنحن مُشرقون: إِذا صادفوا شروق الشمس وهو طلوعها، كما يقال: أصبحنا: إِذا صادفوا الصبح، يقال: شَرَقت الشمس: إِذا طلعت، وأشرقت: إِذا أضاءت وصَفَت، هذا أكثر اللغة. وقد قيل: شَرَقت وأشرقت في معنى واحد، إِلا أن «مُشرقين» في معنى
(١) في «معجم البلدان» ٣/ ٢٠٠: «سدوم» هي «سرمين» بلدة من أعمال حلب معروفة عامرة عندهم.
(٢) عند الآية: ١٥.
538
مصادِفين لطلوع الشمس. قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها قد فسرنا الآية في سورة (هود) «١»، وفي المتوسِّمين أربعة أقوال: أحدها: أنهم المتفرِّسُون.
(٨٤٨) روى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: «اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثمّ
ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٢٧ والبخاري في «تاريخه» ٤/ ١/ ٣٥٤ والطبري ٢١٤٩ والعقيلي ٤/ ١٢٩ وأبو نعيم ١٠/ ٢٨١- ٢٨٢ والخطيب ٧/ ٢٤٢ والطبراني في «الأوسط» ٧٨٣٩ وابن الجوزي في «الموضوعات» ٣/ ١٤٥- ١٤٦ كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد مرفوعا، وإسناده واه لأجل عطية، فقد ضعفوه، وهو مدلس، وقد عنعن. وضعف الترمذي إسناده بقوله غريب، وحكم ابن الجوزي بوضعه. وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه الطبري ٢١٢٥١ وأبو نعيم ٤/ ٩٤ وابن الجوزي ٣/ ١٤٥- ١٤٦ وإسناده ساقط، لأجل الفرات بن السائب، ضعفه الجمهور، وقال أبو حاتم: كان كذابا، فلا يفرح بهذا الشاهد. وله شاهد ثان من حديث ثوبان، أخرجه ابن حبان في «المجروحين» ٣/ ٣٣، والطبري ٢١٢٥٥ وأبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٨ وفيه سليمان بن سلمة الخبائري، ضعفه النسائي وغيره، وقال ابن الجنيد: كان يكذب، وفيه مؤمل بن سعيد متروك. وله شاهد ثالث من حديث أبي أمامة، أخرجه الخطيب ٥/ ٩٩ والطبراني ٧٤٩٧ وأبو نعيم ٦/ ١١٨ وابن الجوزي ٣/ ١٤٦- ١٤٧ وأعله ابن الجوزي بعبد الله بن صالح، ونقل أحمد قوله ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات. وله شاهد رابع من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٦ وابن الجوزي ٣/ ١٤٧ وأعله بسليمان بن أرقم، وأنه متروك، واتهمه ابن حبان بالوضع. قال ابن الجوزي: قال الخطيب: فالمحفوظ ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس أنه قال: كان يقال:
اتقوا فراسة المؤمن. ثم أسنده الخطيب عن عمرو بن قيس. ووافقه ابن الجوزي، وهو الراجح، والله تعالى أعلم. الخلاصة: هو حديث ضعيف، لا يرقى عن درجة الضعف بسبب شدة ضعف طرقه وشواهده.
- وورد بلفظ آخر عن أنس، أخرجه البزار ٣٦٣٢ والطبري ٢١٢٥٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٩٥٦ والقضاعي ١٠٠٥ والواحدي في «الوسيط» ٢٩٥٦ من طرق عن سعيد بن محمد الجرمي ثنا عبد الواحد بن واصل، قال:
ثنا أبو بشر المزلّق عن ثابت البناني عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم».
وإسناده غير قوي، وحسنه الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٢٦٨، وكذا حسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» ٢٣ وكذا الألباني في «الصحيحة» ١٦٩٣ ومما قاله: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات غير أبي بشر واسمه بكر بن الحكم، وثقه أبو عبيدة الحداد وأبو سلمة التبوذكي وسعيد بن محمد الحربي- كذا وقع والصواب الجرمي- وابن حبان، ولم يضعفه أحد غير أن أبا زرعة قال: شيخ ليس بالقوي.
قلت: إسناده إلى الضعف أقرب. فليس في الإسناد علة واحدة. بل فيه أيضا عبد الواحد بن واصل، فهو وإن وثقه غير واحد، فقد قال الإمام أحمد: لم يكن صاحب حفظ، كان كتابه صحيحا اه. وما الذي يدرينا هل روى هذا الحديث من كتابه أو من حفظه؟ والذي يترجح عندي أنه رواه من حفظه، والدليل على ذلك هو أنه لم يرو في شيء من الكتاب الستة والمسانيد المشهورة. ولقد ضعفه أحمد فيما نقله الأزدي عن عبد الله بن أحمد، وقال الأزدي: ما أقرب ما قال أحمد، لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره. راجع «التهذيب» ٦/ ٣٩٥. وقال الحافظ في ترجمة أبي بشر المزلّق: صدوق فيه لين. وقال الذهبي في «الميزان» ١/ ٣٤٤: صدوق، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال التبوذكي: ثقة. قلت: روى خبرا منكر- قاله أبو حاتم- عن ثابت عن أنس فذكر هذا الحديث. واعترض الألباني على الذهبي بقوله: وقول الذهبي: روى خبرا منكرا... ثم ذكره. غير مقبول منه، إلا أن يعني أنه تفرد به. قلت: وهذا وهم من العلامة الألباني، فإن الذي حكم بنكارة هذا الحديث إنما هو أبو حاتم كما هو واضح في السياق الذي ذكرته. والذهبي وافقه فحسب. والذي أوزع به هو ما ذهب إليه أبو حاتم وكذا الذهبي من أنه خبر منكر. ولعل الراجح وقفه على أنس، وهو أقرب، والله تعالى أعلم.
__________
(١) عند الآية: ٨٢.
539
قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال: «المتفرِّسين» وبهذا قال مجاهد، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة:
يقال: توسَّمتُ في فلان الخير، أي: تبيَّنتُه. وقال الزجاج: المتوسمون، في اللغة: النُّظَّار المتثبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سِمة الشيء، يقال: توسمت في فلان كذا، أي: عرفت وسم ذلك فيه. وقال غيره: المتوسم: الناظر في السِّمَة الدالة على الشيء.
والثاني: المعتبرون، قاله قتادة. والثالث: الناظرون، قاله الضحاك. والرابع: المتفكرون، قاله ابن زيد، والفراء.
قوله تعالى: وَإِنَّها يعني: قرية قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ فيه قولان: أحدهما: لَبِطريق واضح، رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج. وقال ابن زيد: لبطريق مبين.
والثاني: لبهلاك. رواه أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس، والمعنى: إِنها بحال هلاكها لم تُعْمَر حتى الآن! فالاعتبار بها ممكن، وهي على طريق قريش إِذا سافروا إِلى الشّام.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ قال الزجاج: معنى «إِنْ» واللام: التوكيدُ، والأيك:
الشجر الملتف، فالفصل بين واحده وجمعه، الهاء. فالمعنى: أصحاب الشجرة. قال المفسرون: هم قوم شعيب، كان مكانُهم ذا شجر، فكذَّبوا شعيباً فأُهلكوا بالحرِّ كما بيَّنا في سورة (هود).
قوله تعالى: وَإِنَّهُما في المكنى عنهما قولان: أحدهما: أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط، قاله الأكثرون. والثاني: لوط وشعيب، ذكره ابن الأنباري. وفي قوله: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ قولان: أحدهما:
لبطريق ظاهر، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: وقيل للطريق: إِمام، لأن المسافر يأتمُّ به حتى يصير إِلى الموضع الذي يريده. والثاني: لفي كتاب مستبين، قاله السدي. قال ابن الأنباري: «وإنهما» يعني:
لوطا وشعيبا لبطريق من الحقّ يؤتمّ به.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني بهم ثمود. قال ابن عباس: كانت منازلهم بالحِجر بين المدينة والشام، وفي الحِجر قولان: أحدهما: أنه اسم الوادي الذي كانوا به، قاله قتادة، والزجاج. والثاني: اسم مدينتهم، قاله الزهري، ومقاتل.
قال المفسرون: والمراد بالمرسَلين: صالح وحده، لأنه من كذَّب نبياً فقد كذَّب الكُلّ.
والمراد بالآيات: الناقة، قال ابن عباس: كان فيها آيات: خروجها من الصخرة، ودنوّ نتاجها عند خروجها، وعِظَمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً، فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لم يتفكروا فيها ولم يستدلُّوا بها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
قوله تعالى: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً قد شرحناه في (الأعراف) «١». وفي قوله: آمِنِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: آمنين أن تقع عليهم. والثاني: آمنين من خرابها. والثالث: من عذاب الله عزّ وجلّ. وفي قوله: ما كانُوا يَكْسِبُونَ قولان: أحدهما: ما كانوا يعملون من نحت الجبال. والثاني: ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام.
قوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ أي: للحق ولإِظهار الحق، وهو ثواب المصدِّق وعقاب المكذِّب.
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي: وإِن القيامة لتأتي، فيجازى المشركون بأعمالهم، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عنهم، وهو الإِعراض الخالي من جزع وفُحش، قال المفسرون: وهذا منسوخ بآية السيف.
فأما الْخَلَّاقُ فهو خالق كلّ شيء. والْعَلِيمُ قد سبق شرحه في سورة البقرة «٢».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي. سبب نزولها:
(٨٤٩) «أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات «٣» ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها أنواع من البَزِّ والطيب والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوَّينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال: أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل»، ويدل على صحة هذا قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، قاله الحسين بن الفضل. وفي المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال:
(٨٥٠) أحدها: أنها فاتحة الكتاب، قاله عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وابن مسعود في رواية، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه، وأبو هريرة، والحسن، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية، وعطاء، وقتادة في آخرين. فعلى هذا، إِنما سمِّيت بالسبع، لأنها سبع آيات. وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال «٤» : أحدها: لأن الله تعالى استثناها لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فلم يعطها أمّة قبلهم،
عزاه المصنف للحسين بن الفضل تبعا للواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٦، والحسين هذا لم أجد له ترجمة، فهو مجهول، وخبره معضل، وتفرده به دون سائر أهل الحديث والأثر دليل وهنه بل بطلانه، والخبر أمارة الوضع لائحة عليه.
هو أصح الأقوال حيث ورد مرفوعا. أخرجه البخاري ٤٧٠٤ والترمذي ٣١٢٤ وأحمد ٢/ ٤٤٨ من حديث أبي هريرة. وورد من حديث أبي سعيد بن المعلى، أخرجه البخاري ٤٧٠٣ وغيره، وتقدم. وفي الباب أحاديث أخرجها الطبري ٢١٣٥٣- ٢١٣٦١.
__________
(١) عند الآية: ٧٤.
(٢) عند الآية: ٢٩. [.....]
(٣) أذرعات: بلد في أطراف الشام يجاور البلقاء وعمان، كما في «معجم البلدان» لياقوت الحموي ١/ ١٣٠.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٥٣٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب لصحة الخبر بذلك عن النبي ﷺ الذي حدثنيه يزيد بن مخلد بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها».
541
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لأنها تُثنَّى في كل ركعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال ابن الأنباري: والمعنى: آتيناك السبع الآيات التي تُثنَّى في كل ركعة، وإِنما دخلت «مِنْ» للتوكيد، كقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «١». وقال ابن قتيبة: سمي «الحمد» مثانيَ، لأنها تُثنَّى في كل صلاة. والثالث: لأنها ما أُثني به على الله تعالى، لأن فيها حمد الله وتوحيده وذِكر مملكته، ذكره الزجاج. والرابع: لأن فيها «الرحمن الرحيم» مرتين، ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين، وهذا على قول من يرى التسمية منها. والخامس: لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده.
(٨٥١) ويدل عليه حديث أبي هريرة «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي».
والسادس: لأنها نزلت مرتين، ذكره الحسين بن الفضل. والسابع: لأن كلماتها مثنّاة، مثل:
الرحمن الرحيم، إِياك إِياك، الصراط صراط، عليهم عليهم، غير غير «٢»، ذكره بعض المفسرين.
ومن أعظم فضائلها أن الله تعالى جعلها في حيِّزٍ، والقرآن كله في حيِّزٍ، وامتنّ عليه بها كما امتنَّ عليه بالقرآن كله.
والقول الثاني: أنها السبع الطُّوَل، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس في رواية، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية، والضحاك. فالسبع الطُّوَل هي: (البقرة)، و (آل عمران)، و (النساء)، و (المائدة)، و (الأنعام)، و (الأعراف)، وفي السابعة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها (يونس)، قاله سعيد بن جبير. والثاني: (براءة)، قاله أبو مالك. والثالث: (الأنفال) و (براءة) جميعاً، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم. قال ابن قتيبة: وكانوا يرون (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة، ولذلك لم يفصلوا بينهما. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: هي الطّول بضمّ الطاء، ولا تَقُلها بالكسر، فعلى هذا، في تسميتها بالمثاني قولان: أحدهما: لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنِّيت فيها، قاله ابن عباس. والثاني: لأنها تجاوز المائة الأولى إِلى المائة الثانية، ذكره الماوردي.
والقول الثالث: أن السبع المثاني سبع معان أُنزلت في القرآن: أمر ونهي، وبشارة، وإِنذار، وضرب الأمثال وتعداد النِّعَم، وأخبار الأُمم، قاله زياد بن أبي مريم.
والقول الرابع: أنّ المثاني: القرآن كلّه، قاله طاوس، والضحاك، وأبو مالك، فعلى هذا، في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال: أحدها: لأن بعض الآيات يتلو بعضاً، فتثنَّى الآخرة على الأولى، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضيَ السورة، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه سمي بالمثاني لِما يتردَّد فيه من الثناء على الله عزّ وجلّ. والثالث: لما يتردَّد فيه من ذِكْر الجنة، والنار، والثواب، والعقاب. والرابع: لأن الأقاصيص، والأخبار، والمواعظ، والآداب، ثنِّيت فيه، ذكرهن ابن الأنباري.
وقال ابن قتيبة: قد يكون المثاني سور القرآن كله، قصارها وطوالها، وإِنما سمي مثاني، لأنّ الأنبياء
تقدم في سورة الفاتحة، رواه الشيخان.
__________
(١) سورة محمد: ١٥.
(٢) كلمة «غير» هي غير مكررة في سورة الفاتحة، وإنما في العطف ما يدل عليها، فهي مقدرة لا ظاهرة أي: «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».
542
والقصص تثنّى فيه، فعلى هذا القول، المراد بالسبع: سبعة أسباع القرآن، ويكون في الكلام إِضمار، تقديره: وهي القرآن العظيم.
فأما قوله تعالى: مِنَ الْمَثانِي ففي «مِن» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، فيكون المعنى: آتيناك سبعاً من جملة الآيات التي يُثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن. والثاني: أنها للصفة، فيكون السبع هي المثاني، ومنه قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «١» لا أن بعضها رجس، ذكر الوجهين الزجاج، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريباً من هذا المعنى.
قوله تعالى: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يعني: العظيم القَدْر، لأنه كلامُ الله تعالى، ووحيُه، وفي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه جميع القرآن. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: أنه الفاتحة أيضاً، قاله أبو هريرة، وقد روينا فيه حديثا في أول تفسير (الفاتحة). قال ابن الأنباري: فعلى القول الأول، يكون قد نسق الكلّ على البعض، كما يقول العربي: رأيت جدار الدار والدار، وإِنما يصلح هذا، لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبهَ بها ما يغاير الأولَ، فجوَّز ذلك عطفَه عليه. وعلى القول الثاني، نُسِق الشيء على نفسه لمَّا زِيد عليه معنى المدح والثناء، كما قالوا:
روي ذلك عن عمر، وابن الخطّاب، يعنون بابن الخطاب: الفاضلَ العالم الرفيع المنزلة، فلما دخلته زيادة، أشبه ما يغاير الأول فعُطف عليه.
ولما ذكر الله تعالى مِنَّته عليه بالقرآن، نهاه عن النظر إِلى الدنيا ليستغنيَ بما آتاه من القرآن عن الدنيا، فقال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: أصنافاً من اليهود والمشركين، والمعنى: أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا، وفي قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قولان:
أحدهما: لا تحزن عليهم إِن لم يؤمنوا. والثاني: لا تحزن بما أنعمتُ عليهم في الدنيا.
قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: أَلِن جانبك لهم، وخفضُ الجناح، عبارةٌ عن السكون وترك التّعصّب والإِباء، قال ابن عباس: ارفق بهم ولا تغلُظ عليهم.
قوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ حرك ياء «إِنيَ» ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع.
وذكر بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السّيف.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
قوله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنها متعلِّقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن المعنى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني، كما أنزلنا الكتاب على المقتسمين، قاله مقاتل.
والثاني: أن المعنى: ولقد شرَّفناك وكرَّمناك بالسبع المثاني، كما شرَّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب، والكافُ بمعنى «مِثْلٍ» و «ما» بمعنى «الذي» ذكره ابن الأنباري. والثاني: أنّها
(١) سورة الحج: ٣٠.
543
متعلقة بقوله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ، والمعنى: إِني أنا النذير، أنذرتكم مثلَ الذي أُنزل على المقتسمين من العذاب، وهذا معنى قول الفراء. فخرج في معنى «أنزلنا» قولان: أحدهما: أنزلنا الكتاب، على قول مقاتل. والثاني: العذابَ، على قول الفراء.
وفي «المقتسمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود والنصارى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد. فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال آخر: هذه السورة لي، استهزاءً به، قاله عكرمة. والثالث: أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم مشركو قريش. قاله قتادة، وابن السائب، فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين قولان: أحدهما: أن أقوالهم تقسَّمت في القرآن، فقال بعضهم: إِنه سحر، وزعم بعضهم أنه كهانة، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين، منهم الأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، وعدي بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، قاله قتادة. والثاني: أنهم اقتسموا على عِقاب مكة، قال ابن السائب: هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عِقاب مكة حين حضر الموسم، قال لهم الوليد بن المغيرة: انطلقوا فتفرَّقوا على عِقاب مكة حيث يمرُّ بكم أهل الموسم، فاذا سألوكم عنه، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقل بعضكم: كاهن، وبعضكم: ساحر، وبعضكم: شاعر، وبعضكم: غاوٍ، فإذا انتهَوْا إِلَّي صدَّقتُكم، ومنهم حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاص بن هشام، وابو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أبي أميّة، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البَخْتري بن هشام، وزمعة بن الحجاج، وأُمية بن خلف، وأوس بن المغيرة.
والثالث: أنهم قوم صالح الذي تقاسموا بالله: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ فكفاه الله شرهم، قاله عبد الرحمن بن زيد. فعلى هذا هو من القَسَم، لا من القِسمة.
قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ في المراد بالقرآن قولان: أحدهما: أنه كتابنا، وهو الأظهر، وعليه الجمهور. والثاني: أن المراد به: كتب المتقدمين قبلنا. وفي «عضين» قولان: أحدهما:
أنه مأخوذ من الأعضاء. قال الكسائي، وأبو عبيدة: اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاءً. ثم فيما فعلوا فيه قولان: أحدهما: أنهم عضَّوه أعضاءً، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والمعضي: المفرِّق، والتعضية:
تجزئة الذبيحة أعضاءً، قال علي عليه السلام: لا تَعْضِيَةَ في ميراث، أراد: تفريق ما يوجب تفريقه ضرراً على الورثة كالسيف، ونحوه. وقال رؤبة:
وليسَ دَيْنُ الله بالمُعَضَّى»
وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم عضَّوْا القول فيه، أي:
فرَّقوا، فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين، وهذا المعنى في رواية
(١) في «اللسان» مادة «عضا».
544
ابن جريج عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه مأخوذ من العَضَهِ، والعَضَهُ، بلسان قريش: السِّحر، ويقولون للساحرة: عاضهة. وفي الحديث:
(٨٥٢) أنّ رسول الله ﷺ لعن العاضهة والمستعضهة. فيكون المعنى: جعلوه سِحراً، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والفراء.
قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هذا سؤال توبيخ، يُسأَلون عما عملوا في ما أُمروا به من التّوحيد والإيمان، فيقال لهم: لم عصيتم وتركتم الإِيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذّر الجواب. قال أبو العالية: يُسأَل العبادُ كلُّهم يوم القيامة عن خَلَّتين: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسَلين. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «١» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه لا يسألهم: هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم، وإِنما يقول: لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنهم يُسأَلون في بعض مواطن القيامة، ولا يُسأَلون في بعضها، رواه عكرمة عن ابن عباس.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٩٤]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)
قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فامض لما تؤمر، قاله ابن عباس.
والثاني: أَظْهِر أمرك، رواه ليث عن مجاهد، قال ابن قتيبة: «فاصدع بما تؤمر» أي: أَظْهِر ذلك.
وأصله: الفَرْق والفتح، يريد: اصدع الباطلَ بحقك. وقال الزجاج: اظهَر بما تؤمر به، أُخذ ذلك من الصديع، وهو الصبح، قال الشاعر:
كأنَّ بياضَ غُرَّتِه صَديع «٢»
وقال الفراء: إِنما لم يقل: بما تؤمر به، لأنه أراد: فاصدع بالأمر. وذكر ابن الأنباري أن «به» مضمرة، كما تقول: مررت بالذي مررت. والثالث: أن المراد به: الجهر بالقرآن في الصلاة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال موسى بن عبيدة:
(٨٥٣) ما زال رسول الله ﷺ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية، فخرج هو وأصحابه.
وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: اكفف عن حربهم. والثاني: لا تبالِ بهم، ولا تلتفت إِلى لومهم على إِظهار أمرك. والثالث: أعرضْ عن الاهتمام باستهزائهم. وأكثر المفسرين على أن هذا القدْر من الآية منسوخ بآية السّيف.
ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» ٣/ ٣٣٩ من حديث ابن عباس وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٥٩٠: وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية ابن جريح عن عطاء اه. وهذا مرسل، فهو ضعيف.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢١٤١٣ عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة وإسناده ضعيف جدا، فهو مرسل، ومع إرساله موسى بن عبيدة ضعيف.
__________
(١) سورة الرحمن: ٣٩.
(٢) في «اللسان» مادة «صدع» ونسبه لعمرو بن معديكرب، وصدره: ترى السّرحان مفترشا يديه

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٥ الى ٩٩]

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) المعنى: فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن، وفي عددهم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، قاله ابن عباس، واسم أبي زمعة: الأسود بن المطلب. وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير، إِلا أنه قال مكان الحارث بن قيس، الحارث ابن غيطلة، قال الزهري: غيطلة أمه، وقيس أبوه، فهو واحد، وإِنما ذكرتُ ذلك، لئلا يُظَن أنه غيره، وقد ذكرتُ في كتاب «التلقيح» «١» من يُنْسَب إِلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسميت آباءهم ليُعرَفوا إِلى أي الأبوين نُسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس: عدي بن قيس.
والثاني: أنهم كانوا سبعة، قاله الشعبي، وابن أبي بزة، وعدَّهم ابن أبي بَزَّة، فقال: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والحارث بن عدي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق. وكذلك عدَّهم مقاتل، إِلا أنه قال مكان الحارث بن عدي:
الحارث بن قيس السهميّ، وقال: أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السبَّاق.
(ذِكر ما أهلكهم الله به فكفى رسوله ﷺ أمرهم) (٨٥٤) قال المفسرون: أتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت، فمر الوليد بن المغيرة، فقال جبريل: يا محمد، كيف تجد هذا؟ فقال «بئس عبد الله»، قال: قد كفيت، وأومأ إِلى ساق الوليد، فمر الوليد برجُل يَريش «٢» نبلاً له، فتعلقت شظية من نبل بإزاره، فمنعه الكِبْرُ أن يطامن «٣» لينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فمرض ومات. وقيل: تعلَّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه، فمات.
ومر العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، فقال: «بئس عبد الله» فأشار إلى أخمص
متن حسن بطرقه وشواهده من جهة الإسناد، لكن المتن غريب. أخرجه الطبري ٢١٤١٧ عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير به مع اختلاف يسير وهذا مرسل. وكرره ٢١٤١٩ عن سعيد بن جبير مرسلا، وكرره ٢١٤٣٠ من مرسل قتادة. وورد بنحوه عن قتادة ومقسم أخرجه الطبري ٢١٤٢٨. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «الطوال» ٣٣ وفي «الأوسط» ٤٩٨٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٣١٧- ٣١٨ من طريقين عن جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٤٦- ٤٧ وقال: وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: توبع عند البيهقي.
الخلاصة: هذه روايات عامتها مرسلة، والموصول لا بأس به بطريقيه، فالحديث حسن من جهة الإسناد بطرقه وشواهده، لكن المتن فيه غرابة والله تعالى أعلم.
__________
(١) وهو كتاب مطبوع متداول، واسمه «تلقيح فهوم أهل الأثر».
(٢) في «القاموس» : راش السهم يريشه: ألزق عليه الريش.
(٣) في «اللسان» : ويقال: طأمن ظهره: إذا حنى ظهره.
546
رجله، وقال: قد كُفيتَ، فدخلت شوكة في أخمصه، فانتفخت رجله ومات. ومر الأسود بن المطلب، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأشار بيده إِلى عينيه، فعمي وهلك. وقيل: جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال: لا أرى أحداً يصنع بك هذا غير نفسك، فمات وهو يقول: قتلني ربُّ محمد. ومر الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله»، فقال: قد كُفيت، وأشار إِلى بطنه، فسَقَى بطنُه، فمات. وقيل: أصاب عينه شوك، فسالت حدقتاه، وقيل: خرج عن أهله فأصابه السَّموم، فاسودَّ حتى عاد حبشياً، فلما أتى أهله لم يعرفوه، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات. ومر به الحارث بن قيس، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبدَ سوء» فأومأ إِلى رأسه، وقال: قد كُفيت، فانتفخ رأسه فمات، وقيل: أصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدَّ بطنُه، وأما أصرم وبعكك، فقال مقاتل: أخذتْ أحدَهما الدُّبَيْلَةُ «١» والآخرَ ذاتُ الجَنْبِ، فماتا جميعاً. قال عكرمة: هلك المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السائب: أُهلكوا جميعاً في يوم وليلة.
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه التكذيب. والثاني:
الاستهزاء. قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: قل سبحان الله وبحمده، قاله الضحاك. والثاني: فصلِّ بأمر ربك، قاله مقاتل. وفي قوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قولان: أحدهما: من المصلِّين. والثاني: من المتواضعين، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. وسمي يقيناً، لأنه موقَن به. وقال الزجاج: معنى الآية: اعبد ربك أبداً، ولو قيل: اعبد ربك، بغير توقيت، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعاً، فلما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أُمر بالإِقامة على العبادة ما دام حيَّاً «٢». والثاني: أنه الحق الذي لا ريب فيه مِنْ نصرك على أعدائك، حكاه الماوردي.
(١) في «القاموس» : الدبيلة: داء في الجوف.
(٢) استدل الباطنية القرامطة ومنهم الشاذلية اليشرطية بهذه الآية على سقوط التكليف عنهم، وفسروا اليقين هنا بالعلم والمعرفة، فقالوا: من حصلت له المعرفة بالله سقطت عنه التكاليف.
قال الحافظ ابن كثير في رده عليهم في «تفسيره» ٢/ ٦٩٢: ويستدل من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب». ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء- عليهم السلام- كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها.
547
Icon