تفسير سورة النحل

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ

هكذا تبدأ السورة الجليلة ؛ موضحة أن قضاء الله وحكمه بنصر الرسول والمؤمنين لاشك فيه ولا محالة ؛ وأن هزيمة أهل الكفر قادمة، ولا مفر منها إن هم استمروا على الكفر. وقد سبق أن أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما نزل عليه من آيات الكتاب ؛ أنذرهم في السورة السابقة ببعض العذاب الدنيوي، كنصر الإيمان على الكفر، وأنذرهم من قبل أيضاً ببعض العذاب في الآخرة، كقول الحق سبحانه :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون " ٧٧ " ﴾( سورة غافر )
وكذلك قوله الحق :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر )
وهكذا وعد الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يهزم معسكر الكفر، وأن ينصر معسكر الإيمان ؛ وإما أن يرى ذلك بعينيه أو إن قبض الحق أجله فسيراها في الآخرة. وعن حال الرسول صلى الله عليه وسلم قال سبحانه :﴿ إنا كفيناك المستهزئين " ٩٥ " ﴾( سورة الحجر )
وأنذر الحق سبحانه أهل الشرك بأنهم في جهنم في اليوم الآخر، وهنا يقول سبحانه :
﴿ أتى أمر الله.. " ١ " ﴾ ( سورة النحل )وهذا إيضاح بمرحلة من مراحل الإخبار بما ينذرون به، كما قال مرة :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر " ١ " ﴾( سورة القمر )أي : اقتربت ساعة القيامة التي يكون من بعدها حساب الآخرة والعذاب لمن كفر، والجنة لمن آمن وعمل صالحاً، فاقتراب الساعة غير مخيف في ذاته، بل مخيف لما فيه من الحساب والعقاب. وقيل : إن أهل الكفر لحظة أن سمعوا قول الحق سبحانه :﴿ اقتربت الساعة.. " ١ " ﴾( سورة القمر )قالوا : " فلننتظر قليلاً ؛ فقد يكون ما يبلغ به محمد صحيحاً " وبعد أن انتظروا بعضاً من الوقت، ولم تأت الساعة كما بشر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قالوا : انتظرنا ولم تأت الساعة، فنزل قول الحق سبحانه :
﴿ اقترب للناس حسابهم.. " ١ " ﴾( سورة الأنبياء )
وهذا حديث عن الأمر الذي سيحدث فور قيام الساعة، فهادنوا وانتظروا قليلاً، ثم قالوا : أين الحساب إذن ؟ فنزل قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله.. " ١ " ﴾( سورة النحل )
وساعة سمع الكل ذلك فزعوا ؛ بمن فيهم من المسلمين ؛ وجاء الإسعاف في قوله من بعد ذلك :
﴿ فلا تستعجلوه.. " ١ " ﴾( سورة النحل )أي : أن الأمر الذي يعلنه محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلم ميعاده إلا الله سبحانه ؛ واطمأن المسلمون. وكل حدث من الأحداث كما نعلم يحتاج كل منها لظرفين ؛ ظرف زمان ؛ وظرف مكان. والأفعال التي تدل على هذه الظروف إما فعل ماضي ؛ فظرفه كان قبل أن نتكلم، وفعل مضارع. أي : أنه حل، إلا إن كان مقروناً ب " س " أو ب " سوف ". أي : أن الفعل سيقع في مستقبل قريب إن كان مقروناً ب " س " أو في المستقبل غير المحدد والبعيد إن كان مسبوقاً ب " سوف "، وهكذا تكون الأفعال ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً.
وكلمة " أتى " تدل على أن الذي يخبرك به وهو الله سبحانه إنما يخبرك بشيء قد حدث قبل الكلام، وهو يخبر به، والبشر قد يتكلمون عن أشياء وقعت ؛ ويخبرون بها بعضهم البعض. ولكن المتكلم هنا هو الحق سبحانه ؛ وهو حين يتكلم بالقرآن فهو سبحانه لا ينقص علمه أبداً، وهو علم أزلي، وهو قادر على أن يأتي المستقبل وفق ما قال، وقد أعد توقيت ومكان كل شيء من قبل أن يخلق ؛ وهو سبحانه خالق من قبل أن يخلق أي شيء ؛ فالخلق صفة ذاتية فيه ؛ وهو منزه في كل شيء ؛ ولذلك قال :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه.. " ١ " ﴾( سورة النحل )أي : أنه العليم بزمن وقوع كل حدث، وقد ثبت التسبيح له ذاتاً من قبل أن يوجد الخلق ؛ فهو القائل :
﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون " ٢٠ " ﴾( سورة الأنبياء )ثم خلق السماوات وخلق الأرض وغيرهما. أي : أنه مسبح به من قبل خلق السماوات والأرض، وهو القائل سبحانه :
﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الحشر )
ولكن هل انتهى التسبيح ؟ لا، بل التسبيح مستمر أبداً، فهو القائل :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الجمعة ).
إذن : فقد ثبتت له " السبحانية " في ذاته، ثم وجد الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، ثم خلق السماء والأرض، فسبح ما فيهما وما بينهما ؛ وجاء خلقه يسبحون أيضاً فيا من آمنت بالله إلهاً سبح كما سبح كل الكون. ولقائل أن يسأل : وما علاقة " سبحانه وتعالى " بما يشركون ؟ ونعلم أنهم أشركوا بالله آلهة لا تكلفهم بتكليف تعبدي، ولم تنزل منهجاً ؛ بل تحلل لهم كل محرم، وتنهاهم عن بعض من الحلال، وتخلوا بذلك عن اتباع ما جاء به الرسل مبلغين عن الله من تكليف يحمل مشقة الإيمان. وهؤلاء هم من سيلقون الله، وتسألهم الملائكة : أين هم الشركاء الذين عبدتموهم مع الله ؟ ولن يدفع عنهم أحد هول ما يلاقونه من العذاب.
وهكذا تعرفنا على أن تنزيه الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً هو أمر ثابت له قبل أن يوجد شيء، وأمر قد ثبت له بعد الملائكة، وثبت له بعد وجود السماوات والأرض. وهو أمر طلب الله من العبد المخير أن يفعله ؛ وانقسم العباد قسمين، قسم آمن وسبح، وقسم له يسبح فتعالى عنهم الحق سبحانه لأنهم مشركون.
وساعة نقرأ قوله ( ينزل )فالكلمة توحي وتوضح أن هناك علواً يمكن أن ينزل منه شيء على أسفل. والمثل الذي احب أن أضربه هنا لأوضح هذا الأمر هو قول الحق سبحانه :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم.. " ١٥١ " ﴾( سورة الأنعام )أي : أقبلوا لتسمعوا مني التكليف الذي نزل لكم ممن هو أعلى منكم، ولا تظلوا في حضيض الأرض وتشريعاتها، بل تساموا وخذوا الأمر ممن لا هوى له في أموركم، وهو الحق الأعلى. أما من ينزلون فهم الملائكة، ونعلم أن الملائكة خلق غيبي آمنا به ؛ لأن الله سبحانه قد أخبرنا بوجودهم. وكل ما غاب عن الذهن ودليله السماع ممن تثق بصدقه، وقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم ما نزل به القرآن وأنبأنا بوجود الملائكة، وأن الحق سبحانه قد خلقهم ؛ ورغم أننا لا نراهم إلا أننا نصدق ما جاء به البلاغ عن الحق من الصادق الصدوق محمد صلى الله عليه وسلم. وحين يقول الحق سبحانه :﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.. " ٢ " ﴾
( سورة النحل ). فنحن نعلم أنه لا يمكن أن ينزل شيء من أعلى إلي الأدنى إلا بواسطة المقربات. وقد اختار الحق سبحانه ملكا من الملائكة ليبلغ رسله بالوحي من الله، والملائكة كما أخبرنا الحق سبحانه :﴿ عباد مكرمون " ٢٦ " لا يسبقونه القول وهم بأمره يعملون " ٢٧ " ﴾( سورة الأنبياء )
ويقول في آية أخرى :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " ٦ " ﴾ ( سورة التحريم )
وهم من نور، ولا تصيبهم الأغيار، ولا شهوة لهم فلا يتناكحون ولا يتناسلون ؛ وهم أقرب إلي الصفاء. وهم من يمكنهم التلقي من الأعلى ويبلغون الأدنى. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن القرآن :﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " ﴾( سورة الشعراء )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ينزل الملائكة.. " ٢ " ﴾( سورة النحل )والآية الإجمالية التي تشرح ذلك هو قول الحق سبحانه :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير " ٧٥ " ﴾( سورة الحج )أي : أنه سبحانه يختار ملائكة قادرين على التلقي منه ليعطوا المصطفين من الناس ؛ ليبلغ هؤلاء المصطفين عن الله لبقية الناس. ذلك أن العلويات العالية لا يملك الكائن الأدنى طاقة ليتحمل ما تتنزل به الأمور العلوية مباشرة من الحق سبحانه. وسبق أن شبهت ذلك بالمحول الذي نستخدمه في الكهرباء لينقل من الطاقة العالية إلي الأدنى من المصابيح، وكلنا يعلم ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم حين تلقى الوحي عبر جبريل عليه السلام " فضمني حتى بلغ مني الجهد " وتفصد جبينه الطاهر عرقاً، وعاد إلي بيته ليقول " زملوني زملوني " و " دثروني دثروني ".
ذلك أن طاقة علوية نزلت على طاقة بشرية، على الرغم من أن طاقة رسول الله هي طاقة مصطفاة. ثم يألف الرسول الوحي وتخف عنه مثل تلك الأعباء، وينزل عليه قوله الحق :
﴿ ألم نشرح لك صدرك " ١ " ووضعنا عنك وزرك " ٢ " الذي أنقض ظهرك " ٣ " ورفعنا لك ذكرك " ٤ " فإن مع العسر يسرا " ٥ " إن مع العسر يسرا " ٦ " ﴾( سورة الشرح )
ثم يفتر الوحي لبعض من الوقت لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق إليه، فلماذا اشتاق للوحي وهو من قال " دثروني دثروني " ؟ لقد كان فتور الوحي بسبب أن يتعود محمد صلى الله عليه وسلم على متاعب نزول الملك ؛ فتزول متاعب الالتقاء وتبقى حلاوة ما يبلغ به. وقال بعض من الأغبياء : " إن رب محمد قد قلاه ". فينزل قوله سبحانه :﴿ ما ودعك ربك وما قلى " ٣ " وللآخرة خير لك من الأولى " ٤ " ولسوف يعطيك ربك فترضى " ٥ " ( سورة الضحى )وكلمة الروح وردت في القرآن بمعانٍ متعددة، فهي مرة الروح التي بها الحياة في المادة ليحدث بها الحس والحركة :{ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر ).
وهذا النفخ في المادة يحدث للمؤمن والكافر، وهناك روح أخرى تعطي حياة أعلى من الحياة الموقوتة :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " ٦٤ " ﴾( سورة العنكبوت )
إذن : فالملائكة تنزل بالبلاغ عن الله بما فيه حياة أرقى من الحياة التي نعيش بها ونتحرك على الأرض. وهكذا تكون هناك روحان لا روح واحدة ؛ روح للحس والحركة ؛ وروح تعطي القيم التي تقودنا إلي حياة أخرى أرقى من الحياة التي نحياها ؛ حياة لا فناء فيها. ولذلك يسمى الحق سبحانه القرآن روحاً ؛ فيقول :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.. " ٥٢ " ﴾( سورة الشورى ).
ويسمى الحق سبحانه الملك الذي ينزل بالقرآن روحاً، فيقول :﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " على قلبك لتكون من المنذرين " ١٩٤ " ﴾( سورة الشعراء )ويشرح الحق سبحانه أن القرآن روح تعطينا حياة أرقى، فيقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. " ٢٤ " ﴾( سورة الأنفال ). أي : يدخل بكم إلي الحياة الأبدية التي لا موت فيها ولا خوف أن تفقد النعمة أو تذهب عنك النعمة. وهنا يبلغنا سبحانه أن القرآن ينزل مع الملائكة :﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره.. " ٢ " ﴾
( سورة النحل )أي : تنزيلاً صادراً بأمره سبحانه، ويقول الحق سبحانه في موقع آخر :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )والسطحيون لا يلتفتون إلي أن معنى :﴿ من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )هنا تعني أنهم يحفظونه بأمر من الله. والأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو ما جاء في الآية الأولى منها :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. " ١ " ﴾( سورة النحل )وهذا الأمر هو نتيجة لما يشاؤه الله من حياة للناس على الأرض، ونعلم أن الحق سبحانه له أوامر متعددة يجمعها إبراز المعدوم إلي الوجود ؛ فهو سبحانه القائل :
﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ٤٠ " ﴾( سورة النحل ).
فإذا شاء أمراً جزئياً فهو يقول له : كن فيكون، وإذا أراد منهجاً ؛ فهو ينزله، وإذا أراد حساباً وعقاباً وساعة ؛ فهو القائل ( أتى أمر الله )وهكذا نفهم أن معنى ( أمر الله )هو ( كن فيكون )أي : إخراج المعدوم إلي حيز الوجود ؛ سواء أكان معدوماً جزئياً، أو معدوماً كلياً، أو معدوماً أزلياً. وكل ذلك اسمه أمر، ولحظة أن يأمر الله ؛ فنحن نثق أن مأمور الله يبرز ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ إذا السماء انشقت " ١ " وأذنت لربها وحقت " ٢ " ﴾( سورة الانشقاق )أي : أنها لم تسمع الأمر فقط ؛ بل نفذته فور صدوره ؛ دون أدنى ذرة من تخلف، فأمر الله ينفذ فور صدوره من الحق سبحانه، أما أمر البشر فهو عرضة لأن يطاع، وعرضة لأن يعصى. وسبحانه ينزل الملائكة بالروح على من يشاء لينذروا ؛ ولم يأت الحق سبحانه بالبشارة هنا ؛ لأن الحديث موجه للكفار في قوله :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. " ١ " ﴾
( سورة النحل ).
ونزه ذاته قائلاً :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون " ١ " ﴾( سورة النحل ).
أو : أن الحق ينبه رسوله، إن دخلت عليهم ففسر لهم مبهم ما لا يعرفون. وهم لا يعرفون كيفية الاصطفاء. وهو الحق الأعلم بمن يصطفي. ومشيئته الاصطفاء والاجتباء والاختيار إنما تتم بمواصفات الحق سبحانه ؛ فهو القائل :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته.. " ١٢٤ " ﴾( سورة الأنعام )
وعلم أن الكافرين قد قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف )وقال الحق سبحانه في رده عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك " ٣٢ " ﴾( سورة الزخرف )
فإذا كان الحق سبحانه قد قسم بين الخلق أرزاقهم في معيشتهم المادية ؛ وإذا كان سبحانه قد رفع بعضهم فوق بعض درجات ؛ وهو من يجعل المرفوع مخفوضاً ؛ ويجعل المخفوض مرفوعاً، فكيف يأتي هؤلاء في الأمور القيمية المتعلقة بالروح وبالمنهج، ويحاولون التعديل على الله ؛ ويقولون " نريد فلاناً ولا نريد فلاناً " ؟ أو : أن الحق سبحانه يوضح لرسوله : بعد أن شرحت لهؤلاء أمر الوحي، فعليك أن تبلغهم كلمة الله :﴿ لا إله إلا أنا فاتقون " ٢ " ﴾( سورة النحل ).
ومادام لا يوجد إله آخر فعلى الرسول أن يسدي لهم النصيحة ؛ بأن يقصروا على أنفسهم حيرة البحث عن إله، ويوضح لهم أن لا إله إلا هو ؛ وعليهم أن يتقوه. وفي هذا حنان من الحق على الخلق، وهو الحق الذي منع الكائنات التي تعجبت ورفضت كفر بعض من البشر بالله ؛ وطلبت أن تنتقم من الإنسان، وقال لهم : " لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوني وخلقي ؛ إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ؛ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ". وقول الحق سبحانه :
﴿ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " ٢ " ﴾( سورة النحل )هو جماع عقائد السماء للأرض ؛ وجماع التعبدات التي طلبها الله من خلقه لينظم لهم حركة الحياة متساندة لا متعاندة. فكأن :﴿ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " ٢ " ﴾( سورة النحل )هي تفسير لما أنزله الله على الملائكة من الروح التي قلنا من قبل : إنها الروح الثانية التي يجئ بها الوحي ؛ وتحمل منهج الله ليضمن للمعتنق حياة لا يزول نعيمها ولا المتنعم بها ؛ وهي غير الروح الأولى التي إذا نفخها الحق في الإنسان، فالحياة تدب فيه حركة وحساً ولكنها إلي الفناء. وكأن الحق سبحانه من رحمته بخلقه أن أنزل لهم المنهج الذي يهديهم الحياة الباقية بدلاً من أن يظلوا أسرى الحياة الفانية وحدها. ومن رحمته أيضاً أن حذرهم من المصير السيئ الذي ينتظر من يكفر به ؛ ومثل هذا التحذير لا يصدر إلا من محب ؛ فسبحانه يحب خلقه، ويحب منهم أن يكونوا إليه مخلصين مؤمنين، ويحب لهم أن ينعموا في آخرة لا أسباب فيها ؛ لأنهم سيعيشون فيها بكلمة " كن " من المسبب.
فإذا قال لهم ( إنه لا إله إلا أنا.. " ٢ " )النحل فهو يوضح أنه لا إله غيره، فلا تشركوا بي شيئاً، ولا تكذبوا الرسل وعليكم بتطبيق منهجي الذي ينظم حياتكم وأجازي عليه في الآخرة. وإياكم أن تغتروا بأني خلقت الأسباب مسخرة لكم ؛ فأنا أستطيع أن أقبض هذه الأسباب ؛ فقد أردت الحياة بلاءً واختباراً ؛ وفي الآخرة لا سلطان للأسباب أبداً :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر )
وظاهرة الأمر أن الملك لله في الآخرة، والحقيقة أن الملك لله دائماً في الدنيا وفي الآخرة ؛ ولكنه شاء أن يجعل الأسباب المخلوقة بمشيئته تستجيب للإنسان ؛ فإياك أن تظن أنك أصبحت قادراً ؛ فأنت في الحياة تملك أشياء، ويملكك ملك أو حاكم مثلك ؛ فسنة الكون أن يوجد نظام يحكم الجميع. ولكن الآخرة يختلف الأمر فيها ؛ فلا ملك لأحد غير الله، بل إن الأعضاء نفسها لا تسير بإرادة أصحابها بل بإرادة الحق، تلك الأعضاء التي كانت تخضع لمشيئتك في الدنيا ؛ لا حكم لك عليها في الآخرة، بل ستكون شاهدة عليك.
فإن كان الله قد أعطاك القدرة على تحريك الأعضاء في الدنيا، فإن وجهتها إلي مأمور الله ؛ فأنت من عباده، وإن لم توجهها إلي مطلوب الله، فأنت من عبيده. وبعد ذلك يقدم لك سبحانه الحيثية التي تعزز أمره بعبادته وحده، وأن لا إله غيره ؛ فإنه لم يطلب أن نعبده إلا بعد أن خلق لنا السماوات والأرض ؛ وكل الكون المعد لاستقبال الإنسان بالحق ؛ أي بالشيء الثابت ؛ والقانون الذي ليس في اختيار أحد سواه سبحانه.
أي : تنزه سبحانه عما يشركون معه من آلهة، فلا أحد قد ساعده في خلق الكون وإعداده ؛ فكيف تجعلون أنتم معه آلهة غيره ؟ وسبحان منزه عن أن يكون معه آلهة أخرى، وسبحانه قد خلق لنا من قبل أن يخلقنا ؛ خلق السماوات والأرض وقدر الأرزاق، ولو نظرت إلي خلقك أنت لوجدت العالم الكبير قد انطوى فيك ؛ وهو القائل :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون " ٢١ " ﴾( سورة الذاريات )وأنت مخلوق من ماذا ؟.
والنطفة التي نجئ منها، وهي الحيوان المنوي الذي يتزاوج مع البويضة الموجودة في رحم المرأة فتنتج العلقة، وسبحانه القائل :
﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى " ٣٦ " ألم يك نطفة من مني يمنى " ٣٧ " ثم كان علقة فخلق فسوى " ٣٨ " فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى " ٣٩ " ﴾( سورة القيامة ).
بل إن القذفة الواحدة من الرجل قد يوجد فيها من الأنسال ما يكفي خلق الملايين ؛ ولا يمكن للعين المجردة أن ترى الحيوان المنوي الواحد نظراً لدقته المتناهية. وهذه الدقة المتناهية لا يمكن أن ترى إلا بالمجاهر المكبرة، ومطمور في هذا الحيوان المنوي كل الخصائص التي تتحد مع الخصائص المطمورة في بويضة المرأة ليتكون الإنسان. وقد صدق العقاد يرحمه الله حين قال : " إن نصف كستبان الخياطة لو ملئ بالحيوانات المنوية لولد منه أنسال تتساوى مع تعداد البشر كلهم ".
وقد شاء الحق سبحانه ألا ينفذ إلي البويضة إلا الحيوان المنوي القوي ؛ ليؤكد لنا أن لا بقاء إلا للأصلح، فإن كان الحيوان المنوي يحمل الصفات الوراثية لميلاد أنثى جاء المولد أنثى ؛ وإن كان يحمل الصفات الوراثية لميلاد الذكر جاء المولود ذكراً. وأنت ترى مثل ذلك في النبات ؛ فأول حبة قمح كانت مثل آدم كأول إنسان بالطريقة التي نعرفها ؛ وفي تلك الحبة الأولى أوجد الحق سبحانه مضمون كل حبوب القمح من بعد ذلك، وإلي أن تقوم الساعة، وتلك عظمة الحق سبحانه في الخلق. وقد أوضح لنا الحق سبحانه في اكثر من موضع بالقرآن الكريم مراحل خلق الإنسان ؛ فهو :﴿ من ماء مهينٍ " ٨ " ﴾( سورة السجدة ).
وهو من نطفة، ومن علقة، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة. والحيوان المنوي المسمى " نطفة " هو الذي يحمل خصائص الأنوثة أو الذكورة كما أثبت العلم الحديث، وليس للمرأة شأن بهذا التحديد، وكأن في ذلك إشارة إلي مهمة المرأة كسكن ؛ لأن البويضة تتلقى الحيوان المنوي وتحتضنه ؛ ليكتمل النمو إلي أن يصير كائناً بشرياً :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين " ١٤ " ﴾ ( سورة المؤمنون )
وهو الحق سبحانه القائل :﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدىً " ٣٦ " ألم يك نطفة من منىٍ يمنى " ٣٧ " ثم كان علقةً.. " ٣٨ " ﴾( سورة القيامة ).
والعلقة جاء اسمها من مهمتها، حيث تتعلق بجدار الرحم كما أثبت العلم المعاصر، يقول سبحانه :
﴿ فخلقنا العلقة مضغةً.. " ١٤ " ﴾( سورة المؤمنون )والمضغة هي الشيء الممضوغ ؛ ثم يصف سبحانه المضغة بأنها :﴿ مخلقةٍ وغير مخلقةٍ.. " ٥ " ﴾( سورة الحج )
ولقائل أن يتساءل : نحن نفهم أن المضغة المخلقة فيها ما يمكن أن يصير عيناً أو ذراعاً ؛ ولكن ماذا عن غير المخلقة ؟ ونقول : إنها رصيد احتياطي لصيانة الجسم، فإذا كنت أيها المخلوق حين تقوم ببناء بيت فأنت تشتري بعضاً من الأشياء الزائدة من الأدوات الصحية على سبيل المثال تحسباً لما قد يطرأ من أحداث تحتاج فيها إلي قطع غيار ؛ فما بالنا بالحق الذي خلق الإنسان ؟ لقد جعل الله تلك المضغة غير المخلقة رصيداً لصيانة، أو تجديداً لما قد يطرأ على الإنسان من ظروف ؛ وتكون زائدة في الجسم وكأنها مخزن لقطع الغيار.
والمثل هو الجروح التي تصيب الإنسان، ثم يتركها ليعالجها الجسم بنفسه، نجدها تلتئم دون أن تترك ندبة أو علامة، ذلك أنه قد تم علاجها من الصيدلية الداخلية التي أودعها الحق سبحانه في الجسم نفسه. والمفاجأة هي أن هذا الإنسان المخلوق لله :﴿ فإذا هو خصيم مبين " ٤ " ﴾( سورة النحل )
ويتمرد على خالقه، بل وينكر بعض من الخلق أن هناك إلهاً ؛ متجاهلين أنهم بقوة الله فيهم يتجادلون. والخصيم هو الذي يجادل وينكر الحقائق ؛ فإذا حدث بشيء غيبي، يحاول أن يدحض معقوليته. ويقول سبحانه في سورة يس :﴿ أو لم ير الإنسان إنا خلقناه من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين " ٧٧ " ﴾( سورة يس )وقد يكون من المقبول أن تكون خصماً لمساويك ؛ ولكن من غير المقبول أن تكون خصيماً لمن خلقك فسواك فعدلك، وفي أي صورة ما شاء ركبك.
والدفء هو الحرارة للمبرود، تماماً مثلما نعطي المحرور برودة، وهذا ما يفعله تكييف الهواء في المنازل الحديثة. نجد الحق سبحانه هنا قد تكلم عن الدفء ولم يتكلم عن البرد، ذلك أن المقابل معلوم، وهو في آية أخرى يقول :﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل )
وهذا ما يحدث عندما نسير في الشمس الحارة ؛ فنضع مظلة فوق رؤوسنا لتقينا حرارة الشمس الزاعقة الشديدة. ونحن في الشتاء نلبس قلنسوة أي : نلف شيئاً حول رؤوسنا، وهكذا نعلم أن اللباس يفعل الشيء ومقابله، بشرط أن يختار الإنسان اللباس المناسب للجو المناسب. وفي الأنعام منافع كثيرة ؛ فنحن نشرب لبنها، ونصنع منه الجبن والسمن ؛ ونجز الصوف لنغزل وننسج منه ملابس صوفية، وتحمل الأثقال، ونستفيد من ذريتها ؛ وكذلك نأكل لحومها. ونحن نعلم أن الأنعام قد جاء تفصيلها في موقع آخر حين قال الحق سبحانه :﴿ ثمانية أزواجٍ.. " ١٤٣ " ﴾( سورة الأنعام )
وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. ونعلم أن الدفء يأتي من الصوف والوبر والشعر، ومن يلاحظ شعر المعز يجد كل شعرة بمفردها ؛ لكن الوبر الذي نجزه من الجمل يكون ملبداً ؛ وهذا دليل على دقة فتلته، أما الصوف فكل شعرة منه أنبوبة أسطوانية قلبها فارغ.
وهنا نجد أن الحق سبحانه قد أعطانا الترف أيضاً بجانب الضروريات، فالدفء والمنافع والأكل ضروريات للحياة، أما الجمال فهو من ترف الحياة، والجمال هو ما تراه العين، فيتحقق السرور في النفس. والدفء والمنافع والأكل هي أمور خاصة لمن يملك الأنعام ؛ أما الجمال فمشاع عام للناس، فحين ترى حصاناً جميلاً ؛ أو البقرة المزهوة بالصحة ؛ فأنت ترى نعمة الله التي خلقها لتسر الناظر إليها. ونلحظ هذا الجمال في لحظات سروح البهائم ولحظات رواحها.
ونقول في الريف " سرحت البهائم " أي : خرجت من الحظائر لترعى وتأكل. ونلحظ أن الحق سبحانه قد قدم الرواح أي العودة إلي الحظائر عن السروح ؛ لأن البهائم حين تعود إلي حظائرها بعد أن ترعى تكون بطونها ممتلئة وضروعها رابية حافلة باللبن ؛ فيسعد من يراها حتى قبل أن يطعم من ألبانها. ومن يخرج ببهائمه في الصباح من بيته، ويصحبها من زرائبها إلي الحقل، يجد جمالاً مع هيبة ومنعة مع أصوات تحقق للرجل المالك الهيبة، ومن لا يملك يمكن أن يشاهد جمال تلك الأنعام.
ونعلم أن الإنسان في حياته بين أمرين ؛ إما ظاعن أي : مسافر. وإما مقيم. وفي حالة المقيم، فالأنعام تحقق له الدفء والطعام والملبس. وعادة ما يكتفي متوسط الحال بأن يستقر في مكان إقامته وكذلك الفقير. أما المقتدر الغني ؛ فأنت تجده يوماً في القاهرة، وآخر في الإسكندرية، أو طنطا، وقد يسافر إلي الخارج، وكل ذلك ميسور في زمن المواصلات الحديثة. وقديماً كانت وسائل المواصلات شاقة، ولا يقدر على السفر إلا من كانت لديه إبل صحيحة أو خيول قوية، أما من لم يكن يملك إلا حماراً أعجف فهو لا يفكر إلا في المسافات القصيرة. ولذلك نجد القرآن حين تكلم عن أهل سبأ يقول :
﴿ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم.. " ١٩ " ﴾( سورة سبأ ).
وهم قد قالوا ذلك اعتزازاً بما يملكونه من خيل ووسائل سفر من دواب سليمة وقوية، تهيئ السفر المريح الذي ينم عن العز والقوة والثراء. وقوله الحق :﴿ وتحمل أثقالكم.. " ٧ " ﴾( سورة النحل )
يعني وضع ما يثقل على ما يثقل ؛ ولذلك فنحن لا نجد إنساناً يحمل دابته ؛ بل نجد من يحمل أثقاله على الدابة ليخفف عن نفسه حمل أوزان لا يقدر عليها. ونعلم أن الوزن يتبع الكثافة ؛ كما أن الحجم يتبع المساحة ؛ فحين تنظر إلي كيلو جرام القطن، فأنت تجد حجم كيلو جرام القطن اكبر من حجم الحديد ؛ لأن كثافة الحديد مطمورة فيه، أما نفاشات القطن فهي التي تجعله يحتاج حيزاً اكبر من المساحة. ويتابع الحق سبحانه قوله في الآية الكريمة :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.. " ٧ " ﴾ ( سورة النحل ).
ومن يفتش في أساليب القرآن من المستشرقين قد يقول : " إن عجز الآية غير متفق مع صدرها ". ونقول لمثل صاحب هذا القول : أنت لم تفطن إلي المنة التي يمتن بها الله على خلقه، فهم لم يكونوا بالغين لهذا البلد دون أثقال إلا بمشقة ؛ فما بالنا بثقل المشقة حين تكون معهم أثقال من بضائع ومتاع ؟ إنها نعمة كبيرة أن يجدوا ما يحملون عليه أثقالهم وأنفسهم ليصلوا إلي حيث يريدون. وكلمة ( بشق )النحل مصدرها شق وهو الصدع بين شيئين ؛ ويعني عزل متصلين ؛ وسبحانه هو القائل :
﴿ فاصدع بما تؤمر.. " ٩٤ " ﴾( سورة الحجر ).
وهناك " شق " وهو الجهد، و " شقة ". والإنسان كما نعلم هو بين ثلاث حالات : إما نائم ؛ لذلك لا يحتاج إلي طاقة كبيرة تحفظ له حياته ؛ وأيضاً وهو متيقظ فأجهزته لا تحتاج إلي طاقة كبيرة ؛ بل تحتاج إلي طاقة متوسطة لتعمل ؛ أما إن كان يحمل أشياء ثقيلة فالإنسان يحتاج إلي طاقة اكبر لتعمل أجهزته. وكذلك نجد الحق سبحانه يقول :﴿ لو كان عرضاً قريبا وسفراً قاصداً لا تبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة.. " ٤٢ " ﴾( سورة التوبة ).
والمعنى هنا بالشقة هي المسافة التي يشق قطعها، وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ إن ربكم لرؤوف رحيم " ٧ " ﴾( سورة النحل ).
والصفتان هنا هما الرأفة والرحمة، وكل منهما مناسب لما جاء بالآية ؛ فالرب هو المتولي التربية والمدد، وأي رحلة لها مقصد وأي رحلة هي للاستثمار، أو الاعتبار، أو للاثنين معاً. فإذا كانت رحلة استثمار فدابتك يجب أن تكون قوية لتحمل ما معك من أثقال، وتحمل عليها ما سوف تعود به من بضائع. وإن كانت الرحلة للاعتبار فأنت تزيل بهذا السفر ألم عدم المعرفة والرغبة في الوصول إلي المكان الذي قصدته.
وهكذا تجد الرأفة مناسبة لقضاء النفع وتحقيق الحاجة وإزالة الألم. وكلمة رحيم مناسبة لمنع الألم بتحقيق الوصول إلي الغاية. وتوقف بعض من العلماء عند مقصد الرحلة ؛ كأن تكون مسافراً للاتجار أو أن تكون مسافراً للاعتبار. ولكن هذا سفر بالاختيار ؛ وهناك سفر اضطراري ؛ كالسفر الضروري إلي الحج مرة في العمرة. والحق سبحانه يزيل ألم الحمل الثقيل، وبذلك تتحقق رأفته ؛ وهو رحيم لأنه حقق لكم أمنية السفر.
وبعد أن ذكر لنا الحق سبحانه الأنعام التي نأخذ منها المأكولات، يذكر لنا في هذه الآية الأنعام التي نستخدمها للتنقل أو للزينة ؛ ولا نأكل لحومها وهي الخيل والبغال والحمير ؛ ويذكرنا بأنها للركوب والمنفعة مع الزينة ؛ ذلك أن الناس تتزين بما تركب ؛ تماماً كما يفخر أبناء عصرنا بالتزين بالسيارات الفارهة. ونسق الآية يدل على تفاوت الناس في المراتب ؛ فكل مرتبة من الناس لها ما يناسبها لتركبه ؛ فالخيل للسادة والفرسان والأغنياء ؛ ومن هم أقل يركبون البغال، ومن لا يملك ما يكفي لشراء الحصان أو البغل ؛ فيمكنه أن يشتري لنفسه حماراً.
وقد يملك إنسان الثلاثة ركائب، وقد يملك آخر اثنتين منها ؛ وقد يملك ثالث ركوبة واحدة، وهناك من لا يملك من المال ما يمكنه أن يستأجر ولو ركوبة من أي نوع. وشاء الحق سبحانه أن يقسم للناس أرزاق كل واحد منهم قلة أو كثرة، وإلا لو تساوى الناس في الرزق، فمن الذي يقوم بالأعمال التي نسميها نحن بالخطأ أعمالاً دونية، من يكنس الشوارع، ومن يحمل الطوب للبناء، ومن يقف بالشحم وسط ورش إصلاح السيارات ؟
وكما نرى فكل تلك الأعمال ضرورية، ولولا رغبة الناس في الرزق لما حلت مثل تلك الأعمال، وراقت في عيون من يمارسونها، ذلك أنها تقيهم شر السؤال. ولولا أن من يعمل في تلك الأعمال له بطن تريد أن تمتلئ بالطعام، وأولاد يريدون أن يأكلوا ؛ لما ذهب إلي مشقات تلك الأعمال. ولو نظرت إلي أفقر إنسان في الكون لوجدت في حياته فترة حقق فيها بعضاً من أحلامه. وقد نجد إنساناً يكد عشرة سنين ؛ ويرتاح بقية عمره ؛ ونجد من يكد عشرين عاماً فيريح نفسه وأولاده من بعده، وهناك من يتعب ثلاثين عاماً، فيريح أولاده وأحفاده من بعده. والمهم هو قيمة ما يتقنه، وأن يرضى بقدر الله فيه، فيعطيه الله مادام قد قبل قدره فيه.
وأنت إن نظرت إلي من فاء الله عليهم بالغنى والترف ستجدهم في بداية حياتهم قد كدوا وتعبوا ورضوا بقدر الله فيهم، ولم يحقدوا على أحد، نجده سبحانه يهديهم طمأنينة وراحة بالٍ. وشاء سبحانه أن ينوع في مستويات حياة البشر كيلا يستنكف أحد من خدمة أحد مادام يحتاج خدماته. ونجد النص التعبيري في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو خيل وبغال وحمير ؛ وقد جعل الحق سبحانه البغال في الوسط ؛ لأنها ليست جنساً بل تأتي من جنسين مختلفين. وينبهنا الحق سبحانه في آخر الآية إلي أن ذلك ليس نهاية المطاف ؛ بل هناك ما هو اكثر، فقال :
﴿ ويخلق ما لا تعلمون " ٨ " ﴾( سورة النحل )
وجعل الحق سبحانه البراق خادماً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل بساط الريح خادماً لسليمان عليه السلام، وإذا كانت مثل تلك المعجزات قد حدثت لأنبياء ؛ فقد هدى البشر إلي أن يبتكروا من وسائل المواصلات الكثير من عربات تجرها الجياد إلي سيارات وقطارات وطائرات. ومازال العلم يطور من تلك الوسائل، ورغم ذلك فهناك من يقتني الخيل ويربيها ويروضها ويجريها لجمال منظرها. وإذا كانت تلك الوسائل من المواصلات التي كانت تحمل عنا الأثقال ؛ وتلك المخترعات التي هدانا الله إياها ؛ فما بالنا بالمواصلات في الآخرة ؟ لابد أن هناك وسائل تناسب في رفاهيتها ما في الآخرة من متاع غير موجود في الدنيا.
والسبيل هو الطريق ؛ والقصد هو الغاية، وهو مصدر يأخذون منه القول ( طريق قاصد )أي : طريق لا دوران فيه ولا التفاف. والحق سبحانه يريد لنا أن نصل إلي الغاية بأقل مجهود. ونحن في لغتنا العامية نسأل جندي المرور " هل هذا الطريق ماشي ؟ " رغم أن الطريق لا يمشي، بل أنت الذي تسير فيه، ولكنك تقصد أن يكون الطريق موصلاً إلي الغاية. وأنت حين تعجزك الأسباب تقول " خليها على الله " أي : أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلي المسبب الأعلى. وهكذا يريد المؤمن الوصول إلي قصدهن وهو عبادة الله وصولاً إلي الغاية، وهي الجنة، وجزاءً على الإيمان وحسن العمل في الدنيا.
وأنت حين تقارن مجرى نهر النيل تجد فيه التفافات وتعرجات ؛ لأن الماء هو الذي حفر طريقه ؛ بينما تنظر إلي الرياح التوفيقي مثلاً فتجده مستقيماً ؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلي مقصد معين. وحين يكون قصد السبيل على الله ؛ فالله لا هوى له ولا صاحب، ولا ولد له، ولا يحابي أحداً، وكل الخلق بالنسبة له سواء ؛ ولذلك فهو حين يضع طريقاً فهو يضعه مستقيماً لا عوج فيه ؛ وهو الحق سبحانه القائل :﴿ اهدنا الصراط المستقيم " ٦ " ﴾( سورة الفاتحة )أي : الطريق الذي لا التواء فيه لأي غرض، بل الغرض منه هو الغاية بأيسر طريق. وقول الحق سبحانه هنا :
﴿ وعلى الله قصد السبيل.. " ٩ " ﴾( سورة النحل )يجعلنا نعود بالذاكرة إلي ما قاله الشيطان في حواره مع الله قال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص )
ورد الحق سبحانه :﴿ قال هذا صراط على مستقيم " ٤١ " ﴾( سورة الحجر )
والحق أيضاً هو القائل :﴿ إن علينا للهدى " ١٢ " ﴾( سورة الليل )أي : أنه حين خلق الإنسان أوضح له طريق الهداية، وكذلك يقول سبحانه :﴿ وهديناه النجدين " ١٠ " ﴾( سورة البلد )أي : أن الحق سبحانه أوضح للإنسان طرق الحق من الباطل، وهكذا يكون قوله هنا :﴿ وعلى الله قصد السبيل.. " ٩ " ﴾
( سورة النحل )يدل على أن الطريق المرسوم غايته موضوعة من الله سبحانه، والطريق إلي تلك الغاية موزون من الحق الذي لا هوى له، والخلق كلهم سواء أمامه. وهكذا.. فعلى المفكرين ألا يرهقوا أنفسهم بمحاولة وضع تقنين من عندهم لحركة الحياة، لأن واجد الحياة قد وضع لها قانون صيانتها، وليس أدل على عجز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم حياة البشر إلا أنهم يغيرون من القوانين كل فترة، أما قانون الله فخالد باقٍ أبداً، ولا استدراك عليه. ولذلك فمن المريح للبشر أن يسيروا على منهج الله والذي قال فيه الحق سبحانه حكماً عليهم أن يطبقوه ؛ وما تركه الله لنا نجتهد فيه نحن. وقوله الحق :﴿ وعلى الله قصد السبيل.. " ٩ " ﴾( سورة النحل )أي : أنه هو الذي جعل سبيل الإيمان قاصداً للغاية التي وضعها سبحانه، ذلك أن من السبل ما هو جائر ؛ ولذلك قال :﴿ ومنها جائر.. " ٩ " ﴾( سورة النحل )ولكي يمنع الجور جعل سبيل الإيمان قاصداً، فهو القائل :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. " ٧١ " ﴾( سورة المؤمنون )بينما السبيل العادلة المستقيمة هي السبيل المتكفل بها سبحانه، وهي سبيل الإيمان، ذلك أن من السبل ما هو جائر أي : يطيل المسافة عليك، أو يعرضك للمخاطر، أو توجد بها منحنيات تضل الإنسان، فلا يسير إلي الطريق المستقيم. ونعلم أن السبيل توصل بين طرفين ( من وإلي )وكل نقطة تصل إليها لها أيضاً ( من وإلي )وقد شاء الحق سبحانه ألا يقهر الإنسان على سبيل واحد، بل أراد له أن يختار، ذلك أن التسخير قد أراده الله لغير الإنسان مما يخدم الإنسان. أما الإنسان فقد خلق له قدرة الاختيار، ليعلم من يأتيه طائعاً ومن يعصى أوامره، وكل البشر مجموعون إلي حساب، ومن اختار طريق الطاعة فهو من يذهب إلي الله محباً، ويثبت له المحبوبية التي هي مراد الحق من خلق الاختيار، لكن لو شاء أن يثبت لنفسه طلاقة القهر لخلق البشر مقهورين على الطاعة كما سخر الكائنات الأخرى. والحق سبحانه يريد قلوباً لا قوالب ؛ ولذلك يقول في آخر الآية :﴿ ولو شاء لهداكم أجمعين " ٩ " ﴾( سورة النحل ) وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد لله :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء )وفي آية أخرى يقول :﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه.. " ٤١ " ﴾( سورة النور ).
إذن : لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي : الإنس والجن، كما هدى كل الكائنات الأخرى، ولكنه يريد قلوباً لا قوالب.
وقوله :﴿ أنزل من السماء.. " ١٠ " ﴾( سورة النحل )يبدو قولاً بسيطاً ؛ ولكن إن نظرنا إلي المعامل التي تقطر المياه وتخلصها من الشوائب لعلمنا قدر العمل المبذول لنزول الماء الصافي من المطر. والسماء كما نعلم هي كل ما يعلونا، ونحن نرى السحاب الذي يجئ نتيجة تبخير الشمس للمياه من المحيطات والبحار، فيتكون البخار الذي يتصاعد، ثم يتكثف ليصير مطراً من بعد ذلك ؛ وينزل المطر على الأرض.
ونعلم أن الكرة الأرضية مكونة من محيطات وبحار تغطي ثلاثة أرباع مساحتها، بينما تبلغ مساحة اليابسة ربع الكرة الأرضية ؛ فكأنه جعل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية لخدمة ربع الكرة الأرضية. ومن العجيب أن المطر يسقط في مواقع قد لا تنتفع به، مثل هضاب الحبشة التي تسقط عليها الأمطار وتصحب من تلك الهضاب مادة الطمي لتكون نهر النيل لنستفيد نحن منه. ونجد الحق سبحانه يقول
﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.. " ٤٣ " ﴾( سورة النور )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون " ١٠ " ﴾( سورة النحل )ولولا عملية البخر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحاباً ؛ لما استطاع الإنسان أن يشرب الماء المالح الموجود في البحار، ومن حكمة الحق سبحانه أن جعل مياه البحار والمحيطات مالحة ؛ فالملح يحفظ المياه من الفساد. وبعد أن تبخر الشمس المياه لتصير سحاباً، ويسقط المطر يشرب الإنسان هذا الماء الذي يغذي الأنهار والآبار، وكذلك ينبت الماء الزرع الذي نأكل منه. وكلمة ( شجر )تدل على النبات الذي يلتف مع بعضه ومنها كلمة " مشاجرة " والتي تعني التداخل من الذين يتشاجرون معاً. والشجر أنواع ؛ فيه مغروس بمالك وهو ملك لمن يغرسه ويشرف على إنباته، وفي ما يخرج من الأرض دون أن يزرعه أحد وهو ملكية مشاعة، وعادة ما نترك فيه الدواب لترعى، فتأكل منه دون أن يردها أحد. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فيه تسيمون " ١٠ " ﴾( سورة النحل )من سام الدابة التي ترعى في الملك العام، وساعة ترعى الدابة في الملك العام فهي تترك آثارها من مسارب وعلامات. ويسمون الأرض التي يوجد بها نبات ولا يقربها حيوان بأنها " روضة أنف " بمعنى أن أحداً لم يأت إليها أو يقربها ؛ كأنها أنفت أن يقطف منها شيء.
وهكذا يعلمنا الله أن النبات لا ينبت وحده، بل يحتاج إلي من ينبته، وهنا يخص الحق سبحانه ألواناً من الزراعة التي لها أثر فيها الحياة، ويذكر الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من كل الثمرات. والزيتون كما نعلم يحتوي على مواد دهنية ؛ والعنب يحتوي على مواد سكرية، وكذلك النخيل الذي يعطي البلح وهو يحتوي على مواد سكرية، وغذاء الإنسان يأتي من النشويات والبروتينات. وما ذكره الحق سبحانه أولاً عن الأنعام، وما ذكره عن النباتات يوضح أنه قد أعطى الإنسان مكونات الغذاء ؛ فهو القائل :﴿ والتين والزيتون " ١ " وطور سينين " ٢ " وهذا البلد الأمين " ٣ " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ٤ " ﴾( سورة التين )أي : أنه جعل للإنسان في قوته البروتينات والدهنيات والنشويات والفيتامينات التي تصون حياته. وحين يرغب الأطباء في تغذية إنسان أثناء المرض ؛ فهم يذيبون العناصر التي يحتاجها للغذاء في السوائل التي يقطرونها في أوردته بالحقن، ولكنهم يخافون من طول التغذية بهذه الطريقة ؛ لأن الأمعاء قد تنكمش. ومن يقومون بتغذية البهائم يعلمون أن التغذية تتكون من نوعين ؛ غذاء يملأ البطن ؛ وغذاء يمد بالعناصر اللازمة، فالتبن مثلا يملأ البطن، ويمدها بالألياف التي تساعد على حركة الأمعاء، ولكن الكسب يغذي ويضمن السمنة والوفرة في اللحم. وحين يقول الحق سبحانه :﴿ ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات.. " ١١ " ﴾( سورة النحل )فعليك أن تستقبل هذا القول في ضوء قول الحق سبحانه :﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " ٦٤ " ﴾( سورة الواقعة )ذلك أنك تحرث الأرض فقط، أما الذي يزرع فهو الحق سبحانه ؛ وأنت قد حرثت بالحديد الذي أودعه الله في الأرض فاستخرجته أنت ؛ وبالخشب الذي أنبته الله ؛ وصنعت أنت منهما المحراث الذي تحرث به في الأرض المخلوقة لله، والطاقة التي حرثت بها ممنوحة لك من الله. ثم يذكرك الله بأن كل الثمرات هي من عطائه، فيعطف العام على الخاص ؛ ويقول :
﴿ ومن كل الثمرات.. " ١١ " ﴾( سورة النحل )أي : أن ما تأخذه هو جزء من كل الثمرات ؛ ذلك أن الثمرات كثيرة، وهي أكثر من أن تعد. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " ١١ " ﴾( سورة النحل )أي : على الإنسان أن يعمل فكره في معطيات الكون، ثم يبحث عن موقفه من تلك المعطيات، ويحدد وضعه ليجد نفسه غير فاعل ؛ وهو قابل لأن يفعل. وشاء الحق سبحانه أن يذكرنا أن التفكير ليس مهمة إنسان واحد بل مهمة الجميع، وكأن الحق سبحانه يريد لنا أن تتساند أفكارنا ؛ فمن عنده لقطة فكرية تؤدي إلي الله لابد أن يقولها لغيره. ونجد في القرآن آيات تنتهي بالتذكر والتفكر وبالتدبر وبالتفقه، وكل منها تؤدي إلي العلم اليقيني ؛ فحين يقول " يتذكرون " فالمعنى أنه سبق الإلمام بها ؛ ولكن النسيان محاها ؛ فكأن من مهمتك أن تتذكر. أما كلمة " يتفكرون " فهي أم كل تلك المعاني ؛ لأنك حين تشغل فكرك تحتاج إلي أمرين، أن تنظر إلي معطيات ظواهرها ومعطيات أدبارها. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ أفلا يتدبرون القرآن.. " ٨٢ " ﴾( سورة النساء )
وهذا يعني ألا تأخذ الواجهة فقط، بل عليك أن تنظر إلي المعطيات الخلفية كي تفهم، وحين تفهم تكون قد عرفت، فالمهمة مكونة من أربع مراحل ؛ تفكر، فتدبر، فتفقه ؛ فمعرفة وعلم.
ونعلم أن الليل والنهار آيتان واضحتان ؛ والليل يناسبه القمر، والنهار تناسبه الشمس، وهم جميعاً متعلقون بفعل واحد، وهم نسق واحد، والتسخير يعني قهر مخلوق لمخلوق ؛ ليؤدي كل مهمته. وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر ؛ كل له مهمة، فالليل مهمته الراحة. قال الحق سبحانه :
﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ١٠ " ﴾
( سورة القصص )والنهار له مهمة أن تكد في الأرض لتبتغي رزقاً من الله وفضلاً، والشمس جعلها مصدراً للطاقة والدفء، وهي تعطيك دون أن تسأل، ولا تستطيع هي أيضاً أن تمتنع عن عطاء قدرة الله. وهي ليست ملكاً لأحد غير الله ؛ بل هي من نظام الكون الذي لم يجعل الحق سبحانه لأحد قدرة عليه، حتى لا يتحكم أحد في أحد، وكذلك القمر جعل له الحق مهمة أخرى. وإياك أن تتوهم أن هناك مهمة تعارض مهمة أخرى، بل هي مهام متكاملة. والحق سبحانه هو القائل :﴿ والليل إذا يغشى " ١ " والنهار إذا تجلى " ٢ " وما خلق الذكر والأنثى " ٣ " إن سعيكم لشتى " ٤ " ﴾( سورة الليل )أي : أن الليل والنهار وإن تقابلا فليسا متعارضين ؛ كما أن الذكر والأنثى يتقابلان لا لتتعارض مهمة كل منهما بل لتتكامل. ويضرب الحق سبحانه المثل ليوضح لنا هذا التكامل فيقول :
﴿ قال أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه أفلا تبصرون " ٧٢ " ﴾( سورة القصص )وأي إنسان إن سهر يومين متتابعين لا يستطيع أن يقاوم النوم ؛ وإن أدى مهمة في هذين اليومين ؛ فقد يحتاج لراحة من بعد ذلك تمتد أسبوعاً ؛ ولذلك قال الله :
﴿ وجعلنا الليل لباسا " ١٠ " وجعلنا النهار معاشا " ١١ " ﴾( سورة النبأ )والإنسان إذا ما صلى العشاء وذهب إلي فراشه سيستيقظ حتماً قبل الفجر وهو في قمة النشاط ؛ بعد أن قضى ليلاً مريحاً في سبات عميق ؛ ولا قلق فيه. ولكن الإنسان في بلادنا استورد حثالة الحضارة من أجهزة تجعله يقضي الليل ساهراً، ليتابع التليفزيون أو أفلام الفيديو أو القنوات الفضائية، فيقوم في الصباح منهكاً، رغم أن أهل تلك البلاد التي قدمت تلك المخترعات ؛ نجدهم وهم يستخدمون تلك المخترعات يضعونها في موضعها الصحيح، وفي وقتها المناسب ؛ لذلك نجدهم ينامون مبكرين، ليستيقظوا في الفجر بهمة ونشاط. ويبدأ الحق سبحانه جملة جديدة تقول :﴿ والنجوم مسخرات بأمره.. " ١٢ " ﴾( سورة النحل )
نلحظ أنه لم يأت بالنجوم معطوفة على ما قبلها، بل خصها الحق سبحانه بجملة جديدة على الرغم من أنها أقل الأجرام، وقد لا نتبينها لكثرتها وتعدد مواقعها ولكنا نجد الحق يقسم بها فهو القائل :
﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم " ٧٥ " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ٧٦ " ﴾( سورة الواقعة )فكل نجم من تلك النجوم البعيدة له مهمة، وإذا كنت أنت في حياتك اليومية حين ينطفئ النور تذهب لترى : ماذا حدث في صندوق الأكباس الذي في منزلك ؛ ولكنك لا تعرف كيف تأتيك الكهرباء إلي منزلك، وكيف تقدم العلم ليصنع لك المصباح الكهربائي. وكيف مدت الدولة الكهرباء من مواقع توليدها إلي بيتك. وإذا كنت تجهل ما خلف الأثر الواحد الذي يصلك في منزلك، فما بالك بقول الحق سبحانه :
﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم " ٧٥ " ﴾ ( سورة الواقعة ).
وهو القائل :﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون " ١٦ " ﴾( سورة النحل ).
وقد خصها الحق سبحانه هنا بجملة جديدة مستقلة أعاد فيها خبر التسخير، ذلك أن لكل منها منازل، وهي كثيرة على العد والإحصاء، وبعضها بعيد لا يصلنا ضوؤه إلا بعد ملايين السنين. وقد خصها الحق سبحانه بهذا الخبر من التسخير حتى نتبين أن لله سراً في كل ما خلق بين السماء والأرض. ويريد لنا أن نلتفت إلي أن تركيبات الأشياء التي تنفعنا مواجهة وراءها أشياء أخرى تخدمها. ونجد الحق سبحانه وهو يذيل الآية الكريمة بقوله :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " ١٢ " ﴾
( سورة النحل )ونعلم أن الآيات هي الأمور العجيبة التي يجب ألا يمر عليها الإنسان مراً معرضاً ؛ بل عليه أن يتأملها، ففي هذا التأمل فائدة له ويمكنه أن يستنبط منها المجاهيل التي تنعم البشر وتسعدهم. وكلمة ( يعقلون )تعني إعمال العقل، ونعلم أن للعقل تركيبة خاصة ؛ وهو يستنبط من المحسات الأمور المعنوية، وبهذا يأخذ من الملوم نتيجة كانت مجهولة بالنسبة له ؛ فيسعد بها ويسعد بها من حوله، ثم يجعل من هذا المجهول مقدمة يصل بها إلي نتيجة جديدة. وهكذا يستنبط الإنسان من أسرار الكون ما شاء له الله أن يستنبط ويكتشف من أسرار الكون.
وكلمة ( ذرأ )تعني أنه خلق خلقاً يتكاثر بذاته ؛ إما بالحمل للأنثى من الذكر ؛ في الإنسان أو الحيوان والنبات ؛ وإما بواسطة تفريخ البيض كما في الطيور. وهكذا نفهم الذرء بمعنى أنه ليس مطلق خلق ؛ بل خلق بذاته في التكاثر بذاته، والحق سبحانه قد خلق آدم أولاً، ثم أخرج منه النسل ليتكاثر النسل بذاته حين يجتمع زوجان ونتجا مثيلاً لهما، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين " ١٤ " ﴾( سورة المؤمنون )وهكذا شاء الحق سبحانه أن يفيض على عباده بأن يعطيهم صفة أنهم يخلقون، ولكنهم لا يخلقون كخلقه ؛ فهو قد خلق آدم ثم أوجدهم من نسله. والبشر قد يخلقون بعضاً من معدات وأدوات حياتهم، لكنهم لا يخلقون كخلق الله ؛ فهم لا يخلقون من معدوم ؛ بل من موجود، والحق سبحانه يخلق من المعدوم من لا وجود له ؛ وهو بذلك احسن الخالقين. والمثل الذي أضربه دائماً هو الحبة التي تنبت سبع سنابل وفي كل سنبلة مائة حبة ؛ وقد أوردها الحق سبحانه ليشوق للإنسان عملية الإنفاق في سبيل الله، وهذا هو الخلق المادي الملموس ؛ فمن حبة واحدة أنبت سبحانه كل ذلك. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه.. " ١٣ " ﴾( سورة النحل )
أي : ما خلق لنا من خلق متكاثر بذاته تختلف ألوانه. واختلاف الألوان وتعددها دليل على طلاقة قدرة الله في أن الكائنات لا تخلق على نمط واحد. ويعطينا الحق سبحانه الصورة على هذا الأمر في قوله سبحانه :﴿ مختلف ألوانها وغرابيب سود " ٢٧ " ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور " ٢٨ " ﴾( سورة فاطر )وإذا ما قال الحق سبحانه :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور.. " ٢٨ " ﴾( سورة فاطر ).
فلنا أن نعرف أن العلماء هنا مقصود بهم كل عالم يقف على قضية كونية مركوزة في الكون أو نزلت من المكون مباشرة. ولم يقصد الحق سبحانه بهذا القول علماء الدين فقط، فالمقصود هو كل عالم يبحث بحثاً ليستنبط به معلوماً من مجهول، ويجلي أسرار الله في خلقه. وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يفرق فرقاً واضحاً في هذا الأمر، كي لا يتدخل علماء الدين في البحث العلمي التجريبي الذي يفيد الناس، ووجد صلى الله عليه وسلم الناس تؤبر النخيل ؛ بمعنى أنهم يأتون بطلع الذكورة ؛ ويلقحون النخيل التي تتصف بالأنوثة، وقال : لو لم تفعلوا لأثمرت. ولما لم تثمر النخيل، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر ؛ وأمر بإصلاحه وقال القولة الفصل " أنتم أعلم بشئون دنياكم " أي : أنتم أعلم بالأمور التجريبية المعملية، ونلحظ أن الذي حجز الحضارة والتطوير عن أوربا لقرون طويلة ؛ هو محاولة رجال الدين أن يحجروا على البحث العلمي ؛ ويتهموا كل عالم تجريبي بالكفر. ويتميز الإسلام بأنه الدين الذي لم يحل دون بحث أي آية من آيات الله في الكون، ومن حنان الله أن يوضح لخلقه أهمية البحث في أسرار الكون، فهو القائل :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾( سورة يوسف )أي : عليك أيها المؤمن ألا تعرض عن أي آية من آيات الله التي في الكون ؛ بل على المؤمن أن يعمل عقله وفكره بالتأمل ليستفيد منها في اعتقاده وحياته. يقول الحق :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.. " ٥٣ " ﴾
( سورة فصلت ).
أما الأمور التي يتعلق بها حساب الآخرة ؛ فهي من اختصاص العلماء الفقهاء. ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون " ١٣ " ﴾( سورة النحل ).
والتسخير كما علمنا من قبل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أن يتخلف عنها، ولا اختيار له في أن يؤديها أو لا يؤديها ونعلم أن الكون كله مسخر للإنسان قبل أن يوجد ؛ ثم خلق الله الإنسان مختاراً. وقد يظن البعض أن الكائنات المسخرة ليس لها اختيار، وهذا خطأ ؛ لأن تلك الكائنات لها اختيار حسمته في بداية وجودها، ولنقرأ قوله الحق :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. " ٧٢ " ﴾( سورة الأحزاب ).
وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خير خلقه بين التسخير وبين الاختيار، إلا أن الكائنات التي هي ما دون الإنسان أخذت اختيارها مرة واحدة ؛ لذلك لا يجب أن يقال : إن الحق سبحانه هو الذي قهرها، بل هي التي اختارت من أول الأمر ؛ لأنها قدرت وقت الأداء، ولم تقدر فقط وقت التحمل كما فعل الإنسان، وكأنها قالت لنفسها : فلأخرج من باب الجمال ؛ قبل أن ينفتح أمامي باب ظلم النفس. ونجد الحق سبحانه يصف الإنسان :﴿ إنه كان ظلوماً جهولاً " ٧٢ " ﴾( سورة الأحزاب )
فقد ظلم الإنسان نفسه حين اختار أن يحمل الأمانة ؛ لأنه قدر وقت التحمل ولم يقدر وقت الأداء. وهو جهول لأنه لم يعرف كيف يفرق بين الأداء والتحمل، بينما منعت الكائنات الأخرى نفسها من أن تتحمل مسئولية الأمانة، فلم تظلم نفسها بذلك. وهكذا نصل إلي تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق، ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة لا يملك أن يتخلف عنها ؛ أما الاختيار فهو إيجاد الكائن لمهمة له أن يؤديها أو يتخلف عنها. وأوضحنا أن المسخرات كان لها أن تختار من البداية، فاختارت أن تسخر وألا تتحمل الأمانة، بينما أخذ الإنسان مهمة، واعتمد على عقله وفكره، وقبل أن يرتب أمور حياته على ضوء ذلك.
ومع ذلك أعطاه الله بعضاً من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من الاختيار ؛ ولذلك نجد بعضاً من الأحداث تجري على الإنسان ولا اختيار له فيها ؛ كان يمرض أو تقع له حادثة أو يفلس. ولذلك أقول : إن الكافر مغفل لاختياره ؛ لأنه ينكر وجود الله ويتمرد على الإيمان، رغم أنه لا يقدر أن يصد عن نفسه المرض أو الموت. وفي الآية التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه :﴿ وهو الذي سخر البحر.. " ١٤ " ﴾ ( سورة النحل )فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض ؛ وجعل اليابسة ربع مساحة الأرض ؛ بينما البحار والمحيطات تحتل ثلاثة أرباع مساحة الأرض. أي : أنه يحدثنا هنا عن ثلاثة أرباع الأرض، وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن نأخذ منها بعضاً من الطعام فيقول :﴿ لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل ).
ومن بعض عطاءات الحق سبحانه أن يأتي المد أحياناً ثم يعقبه الجزر ؛ فيبقى بعض من السمك على الشاطئ، أو قد تحمل موجة عفية بعضاً من السمك وتلقيه على الشاطئ. وهكذا يكون العطاء بلا جهد من الإنسان، بل إن وجود بعض من الأسماك على الشاطئ هو الذي نبه الإنسان إلي أهمية أن يحتال ويصنع السنارة ؛ ويغزل الشبكة ؛ ثم ينتقل من تلك الوسائل البدائية إلي التقنيات الحديثة في صيد الأسماك. لكن الحلية التي يتم استخراجها من البحر فهي اللؤلؤ، وهي تقتضي أن تغوص الإنسان في القاع ليلتقطها. ويلفتنا الحق سبحانه إلي أسرار كنوزه فيقول :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " ٦ " ﴾( سورة طه ).
وكل كنوز الأمم توجد تحت الثرى. ونحن إن قسمنا الكرة الأرضية كما نقسم البطيخة إلي قطع كالتي نسميها " شقة البطيخ " سنجد أن كنوز كل قطعة تتساوى مع كنوز القطعة الأخرى في القيمة النفعية ؛ ولكن كل عطاء يوجد بجزء من الأرض له ميعاد ميلاد يحدده الحق سبحانه. فهناك مكان في الأرض جعل الله العطاء فيه من الزراعة ؛ وهناك مكان آخر صحراوي يخاله الناس بلا أي نفع ؛ ثم تتفجر فيه آبار البترول، وهكذا. وتسخير الحق سبحانه للبحر ليس بإيجاده فقط على الهيئة التي هو عليها ؛ بل قد تجد له أشياء ومهام أخرى مثل انشقاق البحر بعصا موسى عليه السلام ؛ وصار كل فرق كالطود العظيم. ومن قبل ذلك حين حمل اليم موسى عليه السلام بعد أن ألقته أمه فيه بإلهام من الله :
﴿ فليلقه اليم بالساحل.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ).
وهكذا نجد أن أمراً من الله قد صدر للبحر بأن يحمل موسى إلي الشاطئ فور أن تلقيه أمه فيه. وهكذا يتضح لنا معنى التسخير للبحر في مهام أخرى، غير أنه يوجد به السمك ونستخرج منه الحلي. ونعلم أن ماء البحر مالح ؛ عكس ماء النهر وماء المطر ؛ فالمائية تنقسم إلي قسمين ؛ مائية عذبة، ومائية ملحية. وقوله الحق عن ذلك :﴿ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها.. " ١٢ " ﴾( سورة فاطر )ويسمونهم الاثنين على التغليب في قوله الحق :﴿ مرج البحرين يلتقيان " ١٩ " ﴾( سورة الرحمن )والمقصود هنا الماء العذب والماء المالح، وكيف يختلطان، ولكن الماء العذب يتسرب إلي بطن الأرض، وأنت لو حفرت في قاع البحر لوجدت ماء عذباً، فالحق سبحانه هو الذي شاء ذلك وبينه في قوله :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض.. " ٢١ " ﴾( سورة الزمر ).
وهنا يقول سبحانه :﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طرياً.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل )
واللحم إذا أطلق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام، أما إذا قيد ب " لحم طري " فالمقصود هو السمك، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني ؛ لأن السمك الصالح للأكل يكون طرياً دائماً. ونجد من يشتري السمك وهو يثني السمكة، فإن كانت طرية فتلك علامة على أنها صالحة للأكل، وإن كانت لا تثنى فهذا يعني أنها فاسدة، وأنت إن أخرجت سمكة من البحر تجد لحمها طرياً ؛ فإن ألقيتها في الماء فهي تعود إلي السباحة والحركة تحت الماء ؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ وتطفو. لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل السمك الطافي لأنه الميتة، وتقيد اللحم هنا بأنه طري كي يخرج عن اللحم العادي وهو لحم الأنعام ؛ ولذلك نجد العلماء يقولون : من حلف ألا يأكل لحماً ؛ ثم أكل سمكاً فهو لا يحنث ؛ لأن العرف جرى على أن اللحم هو لحم الأنعام. ويقول الحق سبحانه في نفس الآية عن تسخير البحر :﴿ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل )وهكذا نجد أن هذه المسألة تأخذ جهداً ؛ لأنها رفاهية ؛ أما السمك فقال عنه مباشرة :
﴿ لتأكلوا منه لحما طريا.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل )والأكل أمر ضروري لذلك تكفله الله وأعطى التسهيلات في صيده، أما الزينة فلك أن تتعب لتستخرجه، فهو ترف. وضروريات الحياة مجزولة ؛ أما ترف الحياة فيقتضي منك أن تغطس في الماء وتتعب من أجله. وفي هذا إشارة إلي أن من يريد أن يرتقي في معيشته ؛ فليكثر من دخله ببذل عرقه ؛ لا أن يترف معيشته من عرق غيره. ويقول سبحانه :﴿ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل ).
والحلة كما نعلم تلبسها المرأة. والملحظ الأدنى هنا أن زينة المرأة هي من أجل الرجل ؛ فكأن الرجل هو الذي يستمتع بتلك الزينة، وكأنه هو الذي يتزين. أو : أن هذه المستخرجات من البحر ليست محرمة على الرجال مثل الذهب والحرير ؛ فالذهب والحرير نقد ؛ أما اللؤلؤ فليس نقداً. واللبس هو الغالب الشائع، وقد يصح أن تصنع من تلك الحلية عصاً أو أي شيء مما تستخدمه. ويتابع في نفس الآية :﴿ وترى الفلك مواخر فيه.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل )ولم تكن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فلك صغيرة. ونعلم أن نوحاً عليه السلام هو أول من صنع الفلك، وسخر منه قومه ؛ ولو كان ما يصنعه أمراً عادياً لما سخروا منه. وبطبيعة الحال لم يكن هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال ؛ ولذلك قال الحق سبحانه عنه :﴿ وحملناه على ذات ألواحٍ ودسرٍ " ١٣ " ﴾ ( سورة القمر ).
وكان جري مركب نوح بإرادة الله، ولم يكن العلم قد تقدم ليصنع البشر المراكب الضخمة التي تنبأ بها القرآن في قوله الحق :﴿ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " ٢٤ " ﴾( سورة الرحمن ).
ونحن حين نقرؤها الآن نتعجب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر ؛ فالقرآن عالم بما يجد ؛ لا بقهريات الاقتدار فقط ؛ بل باختيارات البشر أيضاً. وقوله الحق :
﴿ وترى الفلك مواخر فيه.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل )والماخر هو الذي يشق حلزومه الماء، والحلزوم هو الصدر. ونجد من يصنعون المراكب يجعلون المقدمة حادة لتكون رأس الحربة التي تشق المياه بخرير. وفي هذه الآية امتن الحق سبحانه على عباده بثلاثة أمور : صيد السمك، واستخراج الحلي، وسير الفلك في البحر ؛ ثم يعطف عليهم ما يمكن أن يستجد ؛ فيقول :﴿ ولتبتغوا من فضله.. " ١٤ " ﴾
( سورة النحل )وكأن البواخر وهي تشق الماء ويرى الإنسان الماء اللين، وهو يحمل الجسم الصلب للباخرة فيجد فيه متعة، فضلاً عن أن هذه البواخر تحمل الإنسان من مكان إلي مكان. ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ ولعلكم تشكرون " ١٤ " ﴾( سورة النحل ).
ولا يقال ذلك إلا في سرد نعمة آثارها واضحة ملحوظة تستحق الشكر من العقل العادي والفطرة العادية، وشاء سبحانه أن يترك الشكر للبشر على تلك النعم، ولم يسخرهم شاكرين.
وهكذا يدلنا الحق سبحانه على أن الأرض قد خلقت على مراحل، ويشرح ذلك قوله سبحانه :
﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " ٩ " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ١٠ " ﴾( سورة فصلت )
وهكذا علمنا أن جرم الأرض العام قد خلق أولاً ؛ وهو مخلوق على هيئة الحركة ؛ ولأن الحركة هي التي تأتي بالميدان التأرجح يميناً وشمالاً وعدم استقرار الجرام على وضع، لذلك شاء سبحانه أن يخلق في الأرض الرواسي لتجعلها تبدو ثابتة غير مقلقة والراسي هو الذي يثبت. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الاستقرار لما خلق الله الجبال، ولكنه خلق الأرض على هيئة الحركة، ومنع أن تميد بخلق الجبال ليجعل الجبال رواسي للأرض. وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.. " ٨٨ " ﴾( سورة النمل )وكلمة ( ألقى )تدل على أن الجبال شيء متماسك وضع ليستقر. ثم يعطف سبحانه على الجبال :
﴿ وأنهاراً وسبلاً.. " ١٥ " ﴾( سورة النحل ).
ولم يأت الحق سبحانه فعل يناسب الأنهار، ومن العجيب أن الأسلوب يجمع جماداً في الجبال، وسيولة في الأنهار، وسبلاً أي طرقاً، وكل ذلك :
﴿ لعلكم تهتدون " ١٥ " ﴾( سورة النحل )أي : أن الجعل كله لعلنا نهتدي. ونعلم أن العرب كانوا يهتدوا بالجبال، ويجعلون منها علامات، والمثل هو جبل " هرشا " الذي يقول فيه الشاعر :
خذوا بطن هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق
وأيضاً جبل التوباد كان يعتبر علامة. وكذلك قول الحق سبحانه :
﴿ وناديناه من جانب الطور الأيمن.. " ٥٢ " ﴾( سورة مريم )وهكذا نجد من ضمن فوائد الجبال أنها علامات نهتدي بها إلي الطرق وإلي الأماكن، وتلك من المهام الجانبية للجبال. أو :{ لعلكم تهتدون " ١٥ " ( سورة النحل )باتعاظكم بالأشياء المخلوقة لكم، كي تهتدوا لمن أوجدها لكم.
أي : أن ما تقدم من خلق الله هو علامات تدل على ضرورة أن تروا المنافع التي أودعها الله فيما خلق لكم ؛ وتهتدوا إلي الإيمان بإله موجد لهذه الأشياء لصالحكم. وما سبق من علامات مقره الأرض، سواء الجبال أو الأنهار أو السبل ؛ وأضاف الحق سبحانه لها في هذه الآية علامة توجد في السماء، وهي النجوم. ونعلم أن كل من يسير في البحر إنما يهتدي بالنجم. وتكلم عنها الحق سبحانه هنا كتسخير مختص ؛ ولم يدخلها في التسخيرات المتعددة ؛ ولأن نجماً يقود لنجم آخر، وهناك نجوم لم يصلنا ضوؤها بعد، وننتفع بآثارها من خلال غيرها. ونعلم أن قريشاً كانت تسلك سبلاً متعددة، فتهتدي بالنجوم في طريقها، ولذلك لابد أن يكون عندها خبرة بمواقع النجوم. ويقول الحق سبحانه :
﴿ وبالنجم هم يهتدون " ١٦ " ﴾( سورة النحل ).
قد فضل الحق هذا الأسلوب من بين ثلاثة أساليب يمكن أن تؤدي المعنى ؛ هي : " يهتدون بالنجم " و " بالنجم يهتدون " والثالث : هو الذي استخدمه الحق فقال :﴿ وبالنجم هم يهتدون " ١٦ " ﴾( سورة النحل )
وذلك تأكيد على خبرة قريش بمواقع النجوم ؛ لأنها تسافر كل عام رحلتين، ولم يكن هناك آخرون يملكون تلك الخبرة. والضمير " هم " جاء ليعطي خصوصيتين ؛ الأولى : أنهم يهتدون بالنجم لا بغيره ؛ والثانية : أن قريشاً تهتدي بالنجم، بينما غيرها من القبائل لا تستطيع أن تهتدي به.
ونعلم أن الكلام الذي يلقيه المتكلم للسامع يأخذ صوراً متعددة ؛ فمرة يأخذ صورة الخبر، كأن يقول : من لا يخلق ليس كمن يخلق. وهذا كلام خبري، يصح أن تصدقه، ويصح ألا تصدقه. أما إذا أراد المتكلم أن يأتي منك أن التصديق، ويجعلك تنطق به ؛ فهو يأتي لك بصيغة سؤال، لا تستطيع إلا أن تجيب عليه بالتأكيد لما يرغبه المتكلم. ونعلم أن قريشاً كانت تعبد الأصنام ؛ وجعلوها آلهة ؛ وهي لم تكلمهم، ولم تنزل منهجاً، وقالوا ما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم :
﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفى.. " ٣ " ﴾( سورة الزمر ).
فلماذا إذن لا يعبدون الله مباشرة دون وساطة ؟ ولماذا لا يرفعون عن أنفسهم مشقة العبادة، ويتجهون إلي الله مباشرة ؟ ثم لنسأل : ما هي العبادة ؟ نعلم أن العبادة تعني الطاعة في " افعل " و " لا تفعل " التي تصدر من المعبود. وبطبيعة الحال لا توجد أوامر أو تكاليف من الأصنام لمن يعبدونها، فهي معبودات بلا منهج، وبلا جزاء لمن خالف، وبلا ثواب لمن أطاع، وبالتالي لا تصلح تلك الأصنام للعبادة. ولنناقش المسألة من زاوية أخرى، لقد أوضح الحق سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، وسخر كل الكائنات لخدمة الإنسان الذي أوكل إليه مهمة خلافته في الأرض. وكل تلك الأمور لا يدعيها أحد غير الله، بل إنك إن سألت الكفار والمشركين عمن خلقهم ليقولن الله. قال الحق سبحانه :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.. " ٨٧ " ﴾( سورة الزخرف )
ذلك أن عملية الإيجاد والخلق لا يجرؤ أحد أن يدعيها إن لم يكن هو الذي أبدعها، وحين تسألهم : من خلق السماوات والأرض لقالوا : إنه الله. وقد أبلغهم محمد صلى الله عليه وسلم أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وأن منهجه لإدارة الكون يبدأ من عبادته سبحانه. ومادام قد أدعى الحق سبحانه ذلكن ولم يوجد من ينازعه فالدعوة تثبت له إلي أن يوجد معارض، ولم يوجد هذا المعارض أبداً. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؛ لم يقل الحق سبحانه " أتجعلون من لا يخلق مثل من يخلق ". بل قال :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " ١٧ " ﴾( سورة النحل )ووراء ذلك حكمة ؛ فهؤلاء الذين نزل إليهم الحديث تعاملوا مع الأصنام وكأنها الله ؛ وتوهموا أن الله مخلوق مثل تلك الأصنام ؛ ولذلك جاء القول الذي يناسب هذا التصور. والحق سبحانه يريد أن يبطل هذا التصور من الأساس ؛ فأوضح أن من تعبدونهم هم أصنام من الحجارة وهي مادة ولها صورة، وأنتم صنعتموها على حسب تصوركم وقدراتكم. وفي هذه الحالة يكون المعبود أقل درجة من العابد وأدنى منه ؛ فضلاً عن أن تلك الأصنام لا تملك لمن يعبدها ضراً ولا نفعاً. ثم : لماذا تدعون الله إن مسكم ضر ؟ إن الإنسان يدعو الله في موقف الضر ؛ لأنه لحظتها لا يجرؤ على خداع نفسه، أما الآلهة التي صنعوها وعبدوها فهي لا تسمع الدعاء :﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبيرٍ " ١٤ " ﴾( سورة فاطر ).
فكيف إذن تساوون بين من لا يخلق، ومن يخلق ؟ إن عليك أن تتذكروا، وأن تتفكروا، وأن تعملوا عقولكم فيما ينفعكم.
وهذه الآية سبقت في سورة إبراهيم ؛ فقال الحق سبحانه هناك :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه وأن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " ٣٤ " ﴾( سورة إبراهيم )وكان الحديث في مجال من لم يعطوا الألوهية الخالقة، والربوبية الموجدة، والممدة حقها، وجحدوا كل ذلك. ونفس الموقف هنا حديث عن نفس القوم، فيوضح الحق سبحانه : أنتم لو استعرضتم نعم الله فلن تحصوها، ذلك أن المعدود دائماً يكون مكرر الأفراد ؛ ولكن النعمة الواحدة في نظرك تشتمل على نعم لا تحصى ولا تعد ؛ فما بالك بالنعم مجتمعة ؟ أو : أن الحق سبحانه لا يمتن إلا بشيء واحد، هو أنه قد جاء لكم بنعمة، وتلك النعمة أفرادها كثير جداً. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ إن الله لغفور رحيم " ١٨ " ﴾( سورة النحل )أي : أنكم رغم كفركم سيزيدكم من النعم، ويعطيكم من مناط الرحمة، فمنكم الظلم، ومن الله الغفران، ومنكم الكفر ومن الله الرحمة. وكأن تذييل الآية هنا يرتبط بتذييل الآية التي في سورة إبراهيم حيث قال هناك :
﴿ إن الإنسان لظلوم كفار " ٣٤ " ﴾( سورة إبراهيم ).
فهو سبحانه غفور لجحدكم ونكرانكم لجميل الله، وهو رحيم، فيوالي عليكم النعم رغم أنكم ظالمون وكافرون.
والسر كما نعلم هو ما حبسته في نفسك، أو ما أسررت به لغيرك، وطلب منه ألا يعلمه لأحد. والحق سبحانه يعلم السر، بل يعلم ما هو أخفى فهو القائل :﴿ يعلم السر وأخفى " ٧ " ﴾( سورة طه )أي : أنه يعلم ما نسره في أنفسنا، ويعلم أيضاً ما يمكن أن يكون سراً قبل أن نسره في أنفسنا، وهو سبحانه لا يعلم السر فقط ؛ بل يعلم العلن أيضاً.
أي : أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً ؛ بل هم يخلقون، والأصنام كما قلنا هي أدنى ممن يخلقونها، فكيف يستوي أن يكون المعبود أدنى من العابد ؟ وذلك تسفيه لعبادتهم. ولذلك يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لحظة أن حطم الأصنام، وسأله أهله : من فعل ذلك بآلهتنا ؟ وأجاب :
﴿ قال بل فعله كبيرهم هذا.. " ٦٣ " ﴾( سورة الأنبياء ).
فقالوا له : إن الكبير مجرد صنم، وأنت تعلم أنه لا يقدر على شيء. ونجد القرآن يقول لأمثال هؤلاء :
﴿ أتعبدون ما تنحتون " ٩٥ " ﴾( سورة الصافات ).
فهذه الآلهة إذن لا تخلق بل تُخلق، ولكن الله هو خالق كل شيء، وسبحانه القائل :
﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ٧٣ " ﴾( سورة الحج )
ويذكر الحق سبحانه من بعد ذلك أوصاف تلك الأصنام.
وهم بالفعل أموات ؛ لأنهم بلا حس ولا حركة، وقوله :﴿ غير أحياءٍ.. " ٢١ " ﴾( سورة النحل ).
تفيد أنه لم تكن لهم حياة من قبل، ولم تثبت لهم الحياة في دورة من دورات الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وهكذا تكتمل أوصاف تلك الأصنام، فهم لا يخلقون شيئاً، بل هم مخلوقون بواسطة من نحتوهم، وتلك الأصنام والأوثان لن تكون لها حياة في الآخرة، بل ستكون وقوداً للنار. والحق سبحانه هو القائل :
﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون " ٢٢ " ﴾( سورة الصافات )
وبطبيعة الحال لن تشعر تلك الحجارة ببعث من عبدوها.
ويصفي الحق سبحانه من بعد ذلك المسألة العقدية، .
وقوله الحق :﴿ إلهكم إله واحد.. " ٢٢ " ﴾( سورة النحل ).
تمنع أن يكون هناك أفراد غيره مثله، وقد يتصور البعض أنها تساوي كلمة " أحد ". وأقول : إن كلمة " أحد " هي منع أن يكون له أجزاء ؛ فهو منزه عن التكرار أو التجزيء. وفي هذا القول طمأنه للمؤمنين بأنهم قد وصلوا إلي قمة الفهم والاعتقاد بأن الله واحد. أو : هو يوضح للكافرين أن الله واحد رغم أنوفكم، وستعودون إليه غصباً، وبهذا القول يكشف الحق سبحانه عن الفطرة الموجودة في النفس البشرية التي شهدت في عالم الذر أن الله واحد لا شريك له، وأن القيامة والبعث حق.
ولكن الذين لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم من ستروا عن أنفسهم فطرتهم، فكلمة الكفر كما سبق أن قلنا هي ستر يقتضي مستوراً، والكفر يستر إيمان الفطرة الأولى. والذين ينكرون الآخرة إنما يحرمون أنفسهم من تصور ما سوف يحدث حتماً ؛ وهو الحساب الذي سيجازي بالثواب والحسنات على الأفعال الطيبة، ولعل سيئاتهم تكون قليلة ؛ فيجبرها الحق سبحانه لهم وينالون الجنة. والمسرفون على أنفسهم ؛ يأملون أن تكون قضية الدين كاذبة، لأنهم يريدون أن يبتعدوا عن تصور الحساب، ويتمنون ألا يوجد حساب. ويصفهم الحق سبحانه :
﴿ قلوبهم منكرة وهم مستكبرون " ٢٢ " ﴾( سورة النحل )أي : أنهم لا يكتفون بإنكار الآخرة فقط ؛ بل يتعاظمون بدون وجه للعظمة. و " استكبر " أي : نصب من نفسه كبيراً دون أن يملك مقومات الكبر، ذلك أن " الكبير " يجب أن يستند لمقومات الكبر ؛ ويضمن لنفسه أن تظل تلك المقومات ذاتية فيه. ولكنا نحن البشر أبناء أغيارٍ ؛ لذلك لا يصح لنا أن نتكبر ؛ فالواحد منا قد يمرض، أو تزول عنه أعراض الثروة أو الجاه، فصفات وكمالات الكبر ليست ذاتية في أي منا ؛ وقد تسلب ممن فاء الله عليه بها ؛ ولذلك يصبح من اللائق أن يتواضع كل منا، وأن يستحضر ربه، وأن يتضاءل أمام خالقه. فالحق سبحانه وحده هو صاحب الحق في التكبر ؛ وهو سبحانه الذي تبلغ صفاته ومقوماته منتهى الكمال، وهي لا تزول عنه أبداً.
وساعة نرى ( لا جرم )فمعناها أن ما يأتي بعدها هو حق ثابت، ف " لا " نافية، و " جرم " مأخوذة من " الجريمة "، وهي كسر شيء مؤمن به لسلامة المجموع. وحين نقول " لا جرم " أي : أن ما بعدها حق ثابت. وما بعد ( لا جرم )هنا هو : أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. وكل آيات القرآن التي ورد فيها قوله الحق ( لا جرم )تؤدي هذا المعنى، مثل قوله الحق :
﴿ لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون " ٦٢ " ﴾( سورة النحل )
وكذلك قوله الحق :
﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون " ١٠٩ " ﴾( سورة النحل ).
وقد قال بعض العلماء : إن قوله الحق ( لا جرم )يحمل معنى " لابد "، وهذا يعني أن قوله الحق :
﴿ لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون.. " ٢٣ " ﴾( سورة النحل ).
لابد أن يعلم الله ما يسرون وما يعلنون، ولا مناص من أن الذين كفروا هم الخاسرون. وقد حلل العلماء اللفظ ليصلوا إلي أدق أسراره. وعلم الله لا ينطبق على الجهر فقط، بل على السر أيضاً ؛ ذلك أنه سيحاسبهم على كل الأعمال. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ إنه لا يحب المستكبرين " ٢٣ " ﴾( سورة النحل ).
وإذا سألنا : وما علاقة علم الله بالعقوبة ؟ ونقول : ألم يقولوا في أنفسهم :
﴿ لولا يعذبنا الله بما تقول.. " ٨ " ﴾( سورة المجادلة ).
وإذا ما نزل قول الحق سبحانه ليخبرهم بما قالوه في أنفسهم ؛ فهذا دليل على أن من يبلغهم صادق في البلاغ عن الله، ورغم ذلك فقد استكبروا ؛ وتابوا وعاندوا، وأخذتهم العزة بالإثم، وأرادوا بالاستكبار الهرب من الالتزام بالمنهج الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله الحق :﴿ ماذا أنزل ربكم.. " ٢٤ " ﴾( سورة النحل ).
يوضح الاستدراك الذي أجراه الله على لسان المتكلم ؛ ليعرفوا أن لهم رباً. ولو لم يكونوا مؤمنين برب، لأعلنوا ذلك، ولكنهم من غفلتهم اعترضوا على الإنزال، ولم يعترضوا على أن لهم رباً. وهذا دليل على إيمانهم برب خالق ؛ ولكنهم يعترضون على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه من الله. و :﴿ قالوا أساطير الأولين " ٢٤ " ﴾( سورة النحل )والأساطير : هي الأكاذيب، ولو كانوا صادقين مع أنفسهم لما أقروا بالألوهية، ورفضوا أيضاً القول المنزل إليهم. ومنهم من قال :
﴿ قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً " ٥ " ﴾( سورة الفرقان ).
ولكن هناك جانب آخر كان له موقف مختلف سيأتي تبيانه من بعد ذلك، وهم الجانب المضاد لهؤلاء ؛ حيث يقول الحق سبحانه :﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
ووراء ذلك قصة توضح جوانب الخلاف بين فريق مؤمن وفريق كافر. فحين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وعشيرته إلي الإيمان بالله الواحد الذي أنزل عليه منهجاً في كتاب معجز، بدأت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتشر بين قبائل الجزيرة العربية كلها، وأرسلت كل قبيلة وفداً منها لتتعرف وتستطلع مسألة هذا الرسول. ولكن كفار قريش أرادوا أن يصدوا عن سبيل الله ؛ فقسموا أنفسهم على مداخل مكة الأربعة، فإذا سألهم سائل من وفود القبائل " ماذا قال ربكم الذي أرسل لكم رسولاً ؟ ".
هنا يرد عليهم قسم الكفار الذي يستقبلهم : " إنه رسول كاذب، يحرف ويجدف ". والهدف طبعاً أن يصد الكفار وفود القبائل. ويخبر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما حدث، وإذا قيل للواقفين على أبواب مكة من الوفود التي جاءت تستطلع أخبار للرسول : ماذا أنزل ربكم ؟ يردون " إنه يردد أساطير الأولين ". وهذا الجواب الواحد من الواقفين على أبواب مكة الأربعة يدل على أنها إجابة متفق عليها، وسبق الإعداد لها، وقد أرادوا بذلك أن يصرفوا وفود القبائل عن الاستماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشبهوا الذكر المنزل من الله بمثل ما كان يرويه لهم على سبيل المثال النضر ابن الحارث من قصص القدماء التي تتشابه مع قصص عنترة، وأبي زيد الهلالي التي تروي في قرانا. وهذه هي الموقعة الأولى في الأخذ والرد.
وانظر إلي قوله سبحانه :
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة.. " ٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
لترى كيف يوضح الحق سبحانه أن النفس البشرة لها أحوال متعددة ؛ وإذا أسرفت على نفسها في تلك الجوانب ؛ فهي قد تسرف في الجانب الأخلاقي ؛ والجانب الاجتماعي ؛ وغير ذلك، فتأخذ وزر كل ما تفعل. ويوضح هنا الحق سبحانه أيضاً أن تلك النفس التي ترتكب الأوزار حين تضل نفساً غيرها فهي لا تتحمل من أوزار النفس التي أضلتها إلا ما نتج عن الإضلال ؛ فيقول :
﴿ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.. " ٢٥ " ﴾( سورة النحل )
ذلك أن النفس التي تم إضلالها قد ترتكب من الأوزار في مجالات أخرى ما لا يرتبط بعملية الإضلال. والحق سبحانه أعدل من أن يحمل حتى المضل أوزاراً لم يكن هو السبب فيها ؛ ولذلك قال الحق سبحانه هنا :﴿ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.. " ٢٥ " ﴾( سورة النحل )أي : أن المضل يحمل أوزار نفسه، وكذلك يحمل بعضاً من أوزار الذين أضلهم ؛ تلك الأوزار الناتجة عن الإضلال. وفي هذا مطلق العدالة من الحق سبحانه وتعالى، فالذين تم إضلالهم يرتكبون نوعين من الأوزار والسيئات ؛ أوزار وسيئات نتيجة الإضلال ؛ وتلك يحملها معهم من أضلوهم. أما الأوزار والسيئات التي ارتكبوها بأنفسهم دون أن يدفعهم لذلك من أضلوهم ؛ فهم يتحملون تبعاتها وحدهم، وبذلك يحمل كل إنسان أحمال الذنوب التي ارتكبها.
وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال : " والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر "
وقس على ذلك من سرق في الطوب والأسمنت والحديد وخدع الناس. وحين يقول الحق سبحانه :
﴿ الذين يضلونهم بغير علم.. " ٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
إنما يلفتنا إلي ضرورة ألا تلهينا الدنيا عن أهم قضية تشغل بال الخليقة، وهي البحث عن الخالق الذي أكرم الخلق، وأعد الكون لاستقبالهم. وكان يجب على هؤلاء الذين سمعوا من كفار قريش أن يبحثوا عن الرسول، وأن يسمعوا منه ؛ فهم أميون لم يسبق أن جاءهم رسول ؛ وقد قال فيهم الحق سبحانه :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون " ٧٨ " ﴾( سورة البقرة )
فإذا ما جاءهم الرسول كان عليهم أن يبحثوا، وأن يسمعوا منه لا نقلاً عن الكفار ؛ ولذلك سيعاقبهم الله ؛ لأنهم أهملوا قضية الدين، ولكن العقوبة الشديدة ستكون لمن كان عندهم علم بالكتاب. والحق سبحانه هو القائل :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا.. " ٧٩ " ﴾( سورة البقرة ).
ويصف الحق سبحانه من يحملون أوزارهم وبعضاً من أوزار من أضلوهم :﴿ ألا ساء ما يزرون " ٢٥ " ﴾( سورة النحل )أي : ساء ما يحملون من آثام ؛ فهم لم يكتفوا بأوزارهم، بل صدوا عن سبيل الله، ومنعوا الغير أن يستمع إلي قضية الإيمان. ومن نتيجة ذلك أن يبيح من لم يسمع لنفسه بعضاً مما حرم الله ؛ فيتحمل من صدهم عن السبيل وزر هذا الإضلال.
ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " شركم من باع دينه بدنياه، وشر منه من باع دينه بدنيا غيره "
فمن باع الدين ليتمتع قليلاً ؛ يستحق العقاب ؛ أما من باع دينه ليتمتع غيره فهو الذي سيجد العقاب الأشد من الله.
ويأتي الحق سبحانه هنا بسيرة الأولين والسنن التي أجراها سبحانه عليهم، ليسلى رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ويوضح له أن ما حدث معه ليس بدعاً ؛ بل سبق أن حدث مع من سبق من الرسل. ويبلغه أنه لم يبعث أي رسول إلا بعد تعم البلوى ويطم الفساد، ويفقد البشر المناعة الإيمانية، نتيجة افتقاد من يؤمنون ويعملون الصالحات، ويتواصون بالحق وبالصبر. والمثل الواضح على ذلك ما حدث لبني إسرائيل ؛ الذين قال فيهم الحق سبحانه :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.. " ٧٩ " ﴾( سورة المائدة )فانصب عليهم العذاب من الله، وهذا مصير كل أمة لا تتناهى عن المنكر الظاهر أمامها. ويقول سبحانه هنا :﴿ قد مكر الذين من قبلهم.. " ٢٦ " ﴾( سورة النحل )والمكر تبييت خفي يبيته الماكر بما يستر عن الممكور به. ولكن حين يمكر أحد بالرسل ؛ فهو يمكر بمن يؤيده الله العالم العليم. وإذا ما أعلم الله رسوله بالمكر ؛ فهو يلغي كل أثر لهذا التبييت ؛ فقد علمه من يقدر على إبطاله. والحق سبحانه هو القائل :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.. " ٢١ " ﴾( سورة المجادلة ).
وهو القائل :{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " ١٧١ " إنهم لهم المنصورون " ١٧٢ " ( سورة الصافات ).
وطبق الحق سبحانه ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ حين مكر به كفار قريش وجمعوا شباب القبائل ليقتلوه ؛ فأغشاهم الله ولم يبصروا خروجه للهجرة ولم ينتصر عليه معسكر الكفر بأي وسيلة ؛ لا باعتداءات اللسان، ولا باعتداءات الجوارح. وهؤلاء الذين يمكرون بالرسل لم يتركهم الحق سبحانه دون عقاب :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد.. " ٢٦ " ﴾( سورة النحل )أي : أنهم إن جعلوا مكرهم كالبناية العالية ؛ فالحق سبحانه يتركهم لإحساس الأمن المزيف، ويحفر لهم من تحتهم، فيخر عليهم السقف الذي من فوقهم. وهكذا يضرب الله المثل المعنوي بأمرٍ محسن. وقوله الحق :
﴿ فخر عليهم السقف من فوقهم.. " ٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
يوضح أنهم موجودون داخل هذا البيت، وأن الفوقية هنا للسقف، وهي فوقية شاءها الله ليأتيهم :
﴿ العذاب من حيث لا يشعرون " ٢٦ " ﴾( سورة النحل )وهكذا يأتي عذاب الله بغتة ؛ ذلك أنهم قد بيتوا، وظنوا أن هذا التبييت بخفاء يخفي عن الحي القيوم.
وليت الأمر يقتصر على ذلك ؛ لا بل يعذبهم الله في الآخرة أيضاً.
وهكذا يكون العذاب في الدنيا وفي الآخرة، ويلقون الخزي يوم القيامة. والخزي هو الهوان والمذلة، وهو أقوى من الضرب والإيذاء ؛ ولا يتجلد أمامه أحد ؛ فالخزي قشعريرة تغشى البدن ؛ فلا يفلت منها من تصيبه. وإن كان الإنسان قادراً على أن يكتم الإيلام ؛ فالخزي معنى نفسي، والمعاني النفسية تنضح على البشرة ؛ ولا يقدر أحد أن يكتم أثرها ؛ لأنه يقتل خميرة الاستكبار التي عاش بها الذي بيت ومكر. ويوضح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله عن القرية التي كان يأتيها الرزق من عند الله ثم كفرت بأنعم الله ؛ فيقول :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة النحل )أي : كأن الجسد كله قد سار ممتلكاً لحاسة التذوق، وكأن الجوع قد أصبح لباساً ؛ يعاني منه صاحبه ؛ فيجوع بقفاه، ويجوع بوجهه، ويجوع بذراعه وجلده وخطواته، وبكل ما فيه.
وساعة يحدث هذا الخزي فكل خلايا الاستكبار تنتهي، خصوصاً أمام من كان يدعي عليهم الإنسان أن عظمته وتجبره وغروره باقٍ، وله ما يسنده. ويتابع سبحانه متحدياً :
﴿ أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم.. " ٢٧ " ﴾( سورة النحل )أي : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم ؛ فجعلتم من أنفسكم شقة، وجعلتم من المؤمنين شقة أخرى، وكلمة ( تشاقون )مأخوذة من " الشق " ويقال : " شق الجدار أو شق الخشب " والمقصود هنا أن جعلتم المؤمنين، ومن مع الرسول في شقة تعادونها، وأخذتم جانب الباطل، وتركتم جانب الحق. وهنا يقول من آتاهم الله العلم :{ قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على اوكأن هذا الأمر سيصير مشهداً بمحضر الحق سبحانه بين من مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيحضره الذين أتاهم الله العلم. والعلم كما نعلم يأتي من الله مباشرة ؛ ثم ينقل إلى الملائكة ؛ ثم ينقل من الملائكة إلى الرسل، ثم ينقل من الرسل إلى الأمم التي كلف الحق سبحانه رسله أن يبلغوهم منهجه.
وكما شهدت الدنيا سقوط المناهج التي اتبعوها من أهوائهم، وسقوط من عبدوهم من دون الله سيشهد اليوم الآخر الخزي والسوء وهو يحيط بهم، وقد يكون الخزي من هول الموقف العظيم، ويحمي الله من آمنوا به بالاطمئنان.
ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال : " ألا هل بلغت، اللهم فأشهد "
وكما بلغ رسول الله أمته واستجابت له ؛ فقد طلب منهم أيضاً أن يكونوا امتداداً لرسالته، وأن يبلغوها للناس، ذلك أن الحق سبحانه قد منع الرسالات من بعد رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. وصار عن مسئولية الأمة المحمدية أن تبلغ كل من لم تبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع "
والحق سبحانه هو القائل :
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ٤١ " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " ٤٢ " ﴾( سورة النساء )أي : يتمنون أن يصيروا تراباً، كما قال تعالى في موقع آخر :{ إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراب( سورة النحل ).
يقول تعالى :
أي : تتوفاهم في حالة كونهم ظالمين لأنفسهم، وفي آية أخرى قال الحق تبارك وتعالى :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ١١٨ " ﴾( سورة النحل ).
ومعلوم أن الإنسان قد يظلم غيره لحظ نفسه ولصالحها.. فكيف يظلم هو نفسه، وهذا يسمونه الظلم الأحمق حين تظلم نفسك التي بين جنبيك.. ولكن كيف ذلك ؟
نعرف أن العدو إذا كان من الخارج فسهل التصدي له، بخلاف إذا جاءك من نفسك التي بين جنبيك، فهذا عدو خطير صعب التصدي له، والتخلص منه.
وهنا نطرح سؤالاً : ما الظلم ؟ الظلم أن تمنع صاحب حق حقه، إذن : ماذا كان لنفسك عليك حتى يقال : إنك ظلمتها بمنعها حقها ؟. نقول : حين تجوع، ألا تأكل ؟ وحين تعطش ألا تشرب ؟ وحين ترهق من العمل ألا تنام ؟.
إذن : أنت تعطي نفسك مطلوباتها التي تريحها وتسارع إليها، وكذلك إذا نمت وحاولوا إيقاظك للعمل فلم تستيقظ، أو حاولوا إيقاظك للصلاة فتكاسلت، وفي النهاية كانت النتيجة فشلاً في العمل أو خسارة في التجارة.. الخ.
إذن : هذه خسارة مجمعة، والخاسر هو النفس، وبهذا فقد ظلم الإنسان نفسه بما فاتها من منافع في الدنيا، وقس على ذلك أمور الآخرة.
وانظر هنا إلى جزئيات الدنيا حينما تكتمل لك، هل هي نهاية كل شيء، أم بنهايتها يبتدئ شيء ؟ بنهايتها يبتدئ شيء، ونسأل : الشيء الذي سوف يبدأ، هل هو صورة مكررة لما انتهى في الدنيا ؟
ليس كذلك، لأن المنتهى في الدنيا منقطع، وقد أخذت حظي منه على قدر قدراتي، وقدراتي لها إمكانات محدودة.. أما الذي سيبدأ أي في الآخرة ليس بمنتهٍ بل خالد لا انقطاع له، وما فيه من نعيم يأتي على قدر إمكانات المنعم ربك سبحانه وتعالى.
إذن : أنت حينما تعطي نفسك متعة في الدنيا الزائلة المنقطعة تفوت عليها المتعة الباقية في الآخرة.. وهذا منتهى الظلم للنفس. ونعود إلى قوله تعالى :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل )
أثبتت هذه الآية التوفي للملائكة.. والتوفي حقيقة لله تعالى، كما جاء في قوله :
﴿ الله يتوفى الأنفس.. " ٤٢ " ﴾( سورة الزمر ).
لكن لما كان الملائكة مأمورين، فكأن الله تعالى هو الذي يتوفى الأنفس رغم أنه سبحانه وتعالى قال :
﴿ الله يتوفى الأنفس.. " ٤٢ " ﴾. ( سورة الزمر )
وقال :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " ١١ " ﴾( سورة السجدة )
وقال :﴿ توفته رسلنا.. " ٦١ " ﴾( سورة الأنعام ).
إذن : جاء الحديث من الله تعالى مرة، ومن رئيس الملائكة عزرائيل مرة، ومن مساعديه من الملائكة مرة أخرى، إذن : الأمر إما للمزاولة مباشرة، وإما للواسطة، وإما للأصل الآمر. وقوله تعالى :
﴿ تتوفاهم.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
معنى التوفي من وفاه حقه أي : وفاه أجله، ولم ينقص منه شيئاً، كما تقول للرجل وفيتك دينك.. أي : أخذت ما لك عندي.
﴿ ظالمي أنفسهم.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
نلاحظ أنها جاءت بصيغة الجمع، و( ظالمي )يعني ظالمين و( أنفسهم )جمع، وحين يقابل الجمع تقتضي القسمة آحاداً أي : أن كلاً منهم يظلم نفسه. ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فألقوا السلم.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل )أي : خضعوا واستسلموا ولم يعد ينفعهم تكبرهم وعجرفتهم في الدنيا.. ذهب عنهم كل هذا بذهاب الدنيا التي راحت من بين أيديهم. وماداموا ألقوا السلم الآن، إذن : فقد كانوا في حرب قبل ذلك كانوا في حرب مع أنفسهم وهم أصحاب الشقاق في قوله تعالى :
﴿ تشاقون.. " ٢٧ " ﴾( سورة النحل ) أي : تجعلون هذا في شق، وهذا في شق، وكأن الآية تقول : لقد رفعوا الراية البيضاء وقالوا : لا جلد لنا على الحرب. ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ ما كنا نعمل من سوءٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل )
هذا كقوله تعالى في آية أخرى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " ٢٣ " ﴾( سورة الأنعام )والواقع أنهم بعد أن ألقوا السلم ورفعوا الراية البيضاء واستسلموا، أخذهم موقف العذاب فقالوا محاولين الدفاع عن أنفسهم :
﴿ ما كنا نعمل من سوءٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
وتعجب من كذب هؤلاء على الله في مثل هذا الموقف، على من تكذبون الآن ؟ ! فيرد عليهم الحق سبحانه :﴿ بلى.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
وهي أداة نفي للنفي السابق عليها، ومعلوم أن نفي النفي إثبات، ف( بلى )تنفي :
﴿ ما كنا نعمل من سوءٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
إذن : معناها.. لا.. بل عملتم السوء. ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن الله عليم بما كنتم تعملون " ٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
ومن رحمة الله تعالى أنه لم يكتف بالعلم فقط، بل دون ذلك عليهم وسجله في كتاب سيعرض عليهم يوم القيامة، كما قال تعالى :
﴿ وكفى بنا حاسبين " ٤٧ " ﴾( سورة الأنبياء )
وقال :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " ١٣ " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " ١٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
ويحلو للبعض أن ينكر إمكانية تسجيل الأعمال وكتابتها.. ونقول لهؤلاء : تعالوا إلى ما توصل إليه العقل البشري الآن من تسجيل الصور والأصوات والبصمات وغيرها.. وهذا كله يسهل علينا هذه المسألة عندما نرقي إمكانات العقل البشري إلى الإمكانات الإلهية التي لا حدود لها.
فلا وجه إذن لأن ننكر قدرة الملائكة " رقيب وعتيد " في تسجيل الأعمال في كتاب يحفظ أعماله ويحصى عليه كل كبيرة وصغيرة.
سبق أن قلنا في شرح قوله تعالى في وصف جهنم :
﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " ٤٤ " ﴾( سورة الحجر ).
أي : أن لكل جماعة من أهل المعصية باباً معلوماً.. فباب لأهل الربا.. وباب لأهل الرشوة.. وباب لأهل النفاق وهكذا.. ولك أن تتصور ما يلاقيه من يجمع بين هذه المعاصي ! ! إنه يدخل هذا الباب ثم يخرج منه ليدخل باباً آخر.. حقاً ما أتعس هؤلاء !
وهنا يقول تعالى :﴿ فادخلوا أبواب جهنم.. " ٢٩ " ﴾( سورة النحل ).
فجاءت أيضاً بصورة الجمع. إذن : كل واحد منكم يدخل من بابه الذي خصص له. ثم يقول سبحانه :
﴿ فلبس مثوى المتكبرين " ٢٩ " ﴾( سورة النحل ).
والمثوى هو مكان الإقامة، وقال تعالى في موضع آخر :
﴿ لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين " ٢٣ " ﴾( سورة النحل ).
فتكبر واستكبر وكل ما جاء على وزن ( تفعًل )يدل على أن كبرهم هذا غير ذاتي ؛ لأن الذي يتكبر حقاً يتكبر بما فيه ذاتياً لا يسلبه منه أحد، إنما من يتكبر بشيء لا يملكه فتكبره غير حقيقي، وسرعان ما يزول ويتصاغر هؤلاء بما تكبروا به في الدنيا، وبذلك لا يكون لأحد أن يتكبر لأن الكبرياء الحقيقي لله عز وجل.
وقد سبق أن تحدثنا عن قوله تعالى :
﴿ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين " ٢٤ " ﴾( سورة النحل ).
فهذه مشاهدة ولقطات تبين الموقف الذي انتهى بأن أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. وهذه الآيات نزلت في جماعة كانوا داخلين مكة.. وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي، وقد قسم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل الإيمان بالنبي الجديد.
وكان أهل الإيمان من المسلمين يتحينون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رعي الغنم مثلاً ليقابلوا هؤلاء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وخبر دعوته. مما يدل على أن الذي يسأل عن شيء لا يكتفي بأول عابر يسأله، بل يجدد السؤال ليقف على المتناقضات.. فحين سألوا الكافرين قالوا :﴿ قالوا أساطير الأولين " ٢٤ " ﴾( سورة النحل ).
فلم يكتفوا بذلك، بل سألوا أهل الإيمان فكان جوابهم :
﴿ قالوا خيراً.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
هذا لنفهم أن الإنسان إذا صادف شيئاً له وجهتان متضادتان فلا يكتفي بوجهة واحدة، بل يجب أن يستمع للثانية، ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل.
إذن : حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر :
﴿ ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين " ٢٤ " ﴾( سورة النحل )
وحينما سألوا أهل الإيمان والتقوى :﴿ ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )
ونلاحظ هنا في :﴿ وقيل للذين اتقوا " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )أن الحق سبحانه لم يوضح لنا من هم، ولم يبين هويتهم، وهذا يدلنا على أنهم كانوا غير قادرين على المواجهة، ويدارون أنفسهم لأنهم ما زالوا ضعافاً لا يقدرون على المواجهة. وقد تكرر هذا الموقف موقف السؤال إلى أن تصل إلى الوجهة الصواب حينما عتب الحق تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود عليه السلام في قوله تعالى :﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " ٢١ " إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط " ٢٢ " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب " ٢٣ " ﴾( سورة ص )فماذا قال داود عليه السلام ؟.
﴿ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه.. " ٢٤ " ﴾( سورة ص )وواضح في حكم داود عليه السلام تأثره بقوله ( له تسع وتسعون )ولنفرض أنه لم يكن عنده شيء، ألم يظلم أخاه بأخذ نعجته ؟ ! إذن : تأثر داود بدعوى الخصم، وأدخل فيه حيثية أخرى، وهذا خطأ إجرائي في عرض القضية ؛ لأن ( تسع وتسعون )هذه لا دخل لها في القضية.. بل هي لاستمالة القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه، ولبيان أن الخصم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم.
وسرعان ما اكتشف داود عليه السلام خطأه في هذه الحكومة، وأنها كانت فتنة واختباراً من الله :﴿ وظن داوود أنما فتناه.. " ٢٤ " ﴾( سورة ص )أي : اختبرناه كي نعلمه الدرس تطبيقاً.. أيحكم بالحق ويراعي جميع نواحي القضية أم لا ؟ وانظر هنا إلى فطنة النبوة، فسرعان ما عرف داود ما وقع فيه واعترف به، واستغفر ربه وخر له راكعاً منيباً. وقال تعالى :﴿ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب " ٢٤ " ﴾( سورة ص ).
إذن : الشاهد هنا أنه كان على داود عليه السلام أن يستمع إلى الجانب الآخر والطرف الثاني في الخصومة قبل الحكم فيها. وقوله تعالى :﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً.. " ٣٠ " ﴾
( سورة النحل ).
ما هو الخير ؟ الخير كل ما تستطيبه النفس بكل ملكاتها.. لكن الاستطابة قد تكون موقوتة بزمن، ثم تورث حسرة وندامة.. إذن : هذا ليس خيراً ؛ لأنه لا خير في خير بعده النار، وكذلك لا شر في شر بعده الجنة.
إذن : يجب أن نعرف أن الخير يظل خيراً دائماً في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فلو أخذنا مثلاً متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول، ثم سرعان ما ينقلب هذا الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة.
إذن : انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته.. وهذا هو الخير في قوله تعالى :﴿ قالوا خيراً.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
إذن : هو خير تستطيبه النفس، ويظل خيراً في الدنيا، ويترتب عليه خير في الآخرة، أو هو موصول بخير الآخرة.. ثم فسره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه :
﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
ونفهم من هذه الآية أنه على المؤمن ألا يترك الدنيا وأسبابها، فربما أخذها منك الكافر وتغلب عليك بها، أو يفتنك في دينك بسببها، فمن يعبد الله أولى بسره في الوجود، وأسرار الله في الوجود هي للمؤمنين، ولا ينبغي لهم أن يتركوا الأخذ بأسباب الدنيا للكافرين.
اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمن الفتنة من الكافرين في دنياك.. ولا يخفي ما نحن فيه الآن من حاجتنا لغيرنا، مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا. لذلك يقول سبحانه :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )أي : يأخذون حسناتهم، وتكون لهم اليد العليا بما اجتهدوا، وبما عملوا في دنياهم، وبذلك ينفع الإنسان نفسه وينفع غيره، وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا، وكان ثوابك وخيرك موصولاً بخير الآخرة.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ".
ومن هذه الآية أيضاً يتضح لنا جانب آخر، هو ثمرة من ثمرات الإحسان في الدنيا وهي الأمن.. فمن عاش في الدنيا مستقيماً لم يقترف ما يعاقب عليه تجده آمناً مطمئناً، حتى إذا داهمه شر أو مكروه تجده آمنا لا يخاف، لأنه لم يرتكب شيئاً يدعو للخوف.
خذ مثلاً اللص تراه دائماً متوجساً خائفاً، تدور عينه يميناً وشمالاً، فإذا رأى شرطياً هلع وترقب راح يقول في نفسه : لعله يقصدني.. أما المستقيم فهو آمن مطمئن.
ومن ثمرات هذا الإحسان وهذه الاستقامة في الدنيا أن يعيش الإنسان على قدر إمكاناته ولا يرهق نفسه بما لا يقدر عليه، وقديماً قالوا لأحدهم : قد غلا اللحم، فقال : أرخصوه، قالوا : وكيف لنا ذلك ؟ قال : ازهدوا فيه.
وقد نظم ذلك الشاعر فقال :
وإذا غلا شيء علي تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
ولا تقل : النفس تواقة إليه راغبة فيه، فهي كما قال الشاعر :
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
وفي حياتنا العملية، قد يعود الإنسان من عمله ولما ينضج الطعام، ولم تعد المائدة وهو جائع، فيأكل أي شيء موجود وتنتهي المشكلة، ويقوم هذا محل هذا، وتقنع النفس بما نالته. ولكي يعيش الإنسان على قدر إمكاناته لابد له أن يوازن بين دخله ونفقاته، فمن كان عنده عسر في دخله، أو ضاقت عليه منافذ الرزق لابد له من عسر في مصروفه، ولابد له أن يضيق على النفس شهواتها، وبذلك يعيش مستوراً ميسوراً، راضي النفس، قرير العين.
والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الاستقراض للإنفاق على شهوات نفسه، وربما اقترض ما يتمتع به شهراً، ويعيش في ذلة دهراً ؛ لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض سل نفسك أولاً، واطلب منها أن تصبر عليك، وأن تنظرك إلى ساعة اليسر، ولا تلجئك إلى مذلة السؤال.. وقبل أن تلوم من منعك لم نفسك التي تأبت عليك أولاً.
وما أبدع شاعرنا الذي صاغ هذه القيم في قوله :
إذا رمت أن تستقرض المال منفقاً فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها فإن فعلت كنت الغني، وإن أبت على شهوات النفس في زمن العسر عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر فكل منوع بعدها واسع العذر
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ولدار الآخرة خير.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
والخير في الآخرة من الله، والنعيم فيها على قدر المنعم تبارك وتعالى، دون تعب ولا كد ولا عمل. ومعلوم أن كلمة :﴿ قالوا خيراً.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
التي فسرها الحق تبارك وتعالى بقوله :
﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )
تقابلها كلمة " شر "، هذا الشر هو ما جاء في قول الكافرين :
﴿ ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين " ٢٤ " ﴾( سورة النحل )
فهؤلاء قالوا خيراً، وأولئك قالوا شراً. ولكن إذا قيل : ذلك خير من ذلك، فقد توفر الخير في الاثنين، إلا أن أحدهما زاد في الخيرية عن الآخر،
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير "
لذلك لما قال :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل ).
قال :﴿ ولدار الآخرة خير.. " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )أي : خير من حسنة الدنيا، فحسنة الدنيا خير، وأخير منها حسنة الآخرة. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ ولنعم دار المتقين " ٣٠ " ﴾( سورة النحل )أي : دار الآخرة. ثم أراد الحق تبارك وتعالى أن يعطينا صورة موجزة عن دار المتقين كأنها برقية، .
والجنات : تعني البساتين التي بها الأشجار والأزهار والثمار والخضرة، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. ليس هذا وفقط.. هذه الجنة العمومية التي يراها كل من يدخلها.. بل هناك لكل واحد قصر خاص به، بدليل قوله تعالى :{ ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم " ١٢( سورة الصف ).
إذن : هنا قدر مشترك للجميع :﴿ جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل )
ومعنى قوله تعالى :﴿ جنات عدن.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل )أي : جنات إقامة دائمة ؛ لأن فيها كل ما يحتاجه الإنسان، فلا حاجه له إلى غيرها.. هب أنك دخلت أعظم حدائق وبساتين العالم هايد بارك مثلاً فقصارى الأمر أن تتنزه به بعض الوقت، ثم يعتريك التعب ويصيبك الملل والإرهاق فتطلب الراحة من هذه النزهة.. أما الجنة فهي جنة عدن، تحب أن تقيم فيها إقامة دائمة.
ويصف الحق سبحانه هذه الجنات فيقول :﴿ تجري من تحتها الأنهار.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل ).
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ تجري تحتها الأنهار.. " ١٠٠ " ﴾( سورة التوبة ).
ومعنى " تجري تحتها " أي : أنها تجري تحتها، وربما تأتي من مكان آخر.. وقد يقول هنا قائل : يمكن أن يمنع عنك جريان هذه الأنهار ؛ لذلك جاءت الآية :﴿ تجري من تحتها الأنهار.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل )أي : ذاتية في الجنة لا يمنعها عنك مانع. ثم يقول تعالى :
﴿ لهم فيها ما يشاءون.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل )والمشيئة هنا ليست بإرادة الدنيا ومشيئتها، وإنما مشيئة بالمزاج الخصب الذي يتناسب مع الآخرة ونعيمها.. مثلاً : إذا دخلت على إنسان رقيق الحال فلك مشيئة على قدر حالته، وإذا دخلت على أحد العظماء أو الأثرياء كانت لك مشيئة أعلى.. وهكذا.
إذن : المشيئات النفسية تختلف باختلاف المشاء منه، فإذا كان المشاء منه هو الله الذي لا يعجزه شيء تكون مشيئتك مطلقة، فالمشيئة في الآية ليست كمشيئة الدنيا ؛ لأن مشيئة الدنيا تتحدد ببيئة الدنيا.. أما مشيئة الآخرة فهي المشيئة المتفتحة المتصاعدة المرتقية كما تترقى المشيئات عند البشر في البشر حسب مراتبهم ومراكزهم.
ويروي أنه لما أسرت بنت أحد ملوك فارس عند رجل، وأرادوا شراءها منه وعرضوا عليه ما يريد، فقال : أريد فيها ألف دينار، فأعطوه الألف دينار وأخذوها منه.. فقال له أحدهم : إنها ابنة الملك، ولو كنت طلبت منه كذا وكذا لم يبخل عليك فقال : والله لو علمت أن وراء الألف عدداً لطلبته.. فقد طلب قصارى ما وصل إليه علمه.
لذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرح لنا هذا النص القرآني :
﴿ لهم فيها ما يشاءون.. " ٣١ " ﴾( سورة النحل ).
وكذلك قوله تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " ٧١ " ﴾( سورة الزخرف )
قال : " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". إذن : تحديد الإطار للآية بقدر ما هم فيه عند ربهم.
﴿ كذلك يجزي الله المتقين " ٣١ " ﴾( سورة النحل )أي : هكذا الجزاء الذي يستحقونه بما قدموا في الدنيا، وبما حرموا منه أنفسهم من متع حرام.. وقد جاء الآن وقت الجزاء، وهو جزاء أطول وأدوم ؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى في آية أخرى :
﴿ كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " ٢٤ " ﴾( سورة الحاقة ).
أي : المتقون هم الذين تتوفاهم الملائكة طيبين. ومعنى :
﴿ تتوفاهم.. " ٣٢ " ﴾( سورة النحل )أي : تأتي لقبض أرواحهم، وهنا نسب التوفي إلى جملة الملائكة، كأنهم جنود ملك الموت الأصيل عزرائيل، وقد سبق أن قلنا : إن الحق تبارك وتعالى مرة ينسب التوفي إلى الملائكة، ومرة ينسبه إلى ملك الموت :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم.. " ١١ " ﴾( سورة السجدة )ومرة ينسبه إلى نفسه سبحانه :﴿ الله يتوفى.. " ٤٢ " ﴾( سورة الزمر ).
ذلك لأن الله سبحانه هو الآمر الأعلى، وعزرائيل ملك الموت الأصيل، والملائكة هم جنوده الذين ينفذون أوامره. وقوله :
﴿ طيبين.. " ٣٢ " ﴾( سورة النحل )
تقابل الآية السابقة :
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. " ٢٨ " ﴾( سورة النحل )
والطيب هو الشيء الذي يوجد له خير دائم لا ينقطع ولا ينقلب خيره هذا شراً، وهو الشيء الذي تستريح له النفس راحة تنسجم منها كل ملكاتها، بشرط أن يكون مستمراً إلى خير منه، ولا يستمر إلى خير منه واحسن إلا طيب القيم وطيب الدين، أما غير ذلك فهو طيب موقوت سرعان ما يهجر.
ولذلك حينما يدعي اثنان المحبة في الله نقول : هذه كلمة تقال، ومصداقها أن ينمو الود بينكما كل يوم عن اليوم الذي قبله ؛ لأن الحب للدنيا تشوبه الأطماع والأهواء، فترى الحب ينقص يوماً بعد يوم، حسب ما يأخذ أحدهما من الآخر، أما المتحابان في الله فيأخذان من عطاء لا ينفذ، هو عطاء الحق تبارك وتعالى، فإن رأيت اثنين يزداد ودهما فاعلم أنه ود الله وفي الله، على خلاف الود لأغراض الدنيا فهو ود سرعان ما ينقطع.
هل هناك أطيب من أنهم طهروا أنفسهم من دنس الشرك ؟ وهل هناك أطيب من أنهم اخلصوا عملهم لله، وهل هناك أطيب من أنهم لم يسرفوا على أنفسهم في شيء ؟
وحسب هؤلاء من الطيب أنهم ساعة يأتي ملك الموت يمر عليهم شريط أعمالهم، وملخص ما قدموه في الدنيا، فيرون خيراً، فتراهم مستبشرين فرحين، يبدو ذلك على وجوههم ساعة الاحتضار، فتراه أبيض الوجه مشرقاً مبتسماً، عليه خاتمة الخير والطيب والسعادة ؛ ذلك لما عاينه من طيب عمله، ولما يستبشر به من الجزاء عند الله تبارك وتعالى.
وعلى عكس هذه الحالة تماماً نرى أهل الشقاوة، وما هم عليه ساعة الغرغرة من سواد الوجه، وسوء الخاتمة، والعياذ بالله.
﴿ يقولون سلام عليكم.. " ٣٢ " ﴾( سورة النحل )أي : حينما تتوفاهم الملائكة يقولون لهم سلام ؛ لأنكم خرجتم من الدنيا بسلام، وستقبلون على الآخرة بسلام، إذن : سلام الطيبين سلام موصول من الدنيا إلى الآخرة، سلام مترتب على سلامة دينكم في الدنيا، وسلامة إقبالكم على الله، دون خوف في الآخرة.
وهنا سلام آخر جاء في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " ٧٣ " ﴾( سورة الزمر ).
ثم يأتي السلام الأعلى عليهم من الله تبارك وتعالى ؛ لأن كل هذه السلامات لهؤلاء الطيبين مأخوذة من السلام الأعلى :
﴿ سلام قولاً من ربٍ رحيمٍ " ٥٨ " ﴾( سورة يس )
وهل هناك افضل وأطيب من هذا السلام الذي جاء من الحق تبارك وتعالى مباشرة. وتعجب هنا من سلام أهل الأعراف على المؤمنين الطيبين وهم في الجنة، ونحن نعرف أن أهل الأعراف هم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فحجزا على الأعراف، وهو مكان بين الجنة والنار، والقسمة الطبيعية تقتضي أن للميزان كفتين ذكرهما الحق تبارك وتعالى في قوله :
﴿ فأما من ثقلت موازينه " ٦ " فهو في عيشة راضية " ٧ " وأما من خفت موازينه " ٨ " فأمه هاوية " ٩ " ﴾
( سورة القارعة ).
هاتان حالتان للميزان، فأين حالة التساوي بين الكفتين ؟ جاءت في قوله تعالى :
﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم.. " ٤٦ " ﴾( سورة الأعراف )أي : يعرفون أهل الجنة وأهل النار :﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون " ٤٦ " ﴾( سورة الأعراف )
ووجه العجب هنا أن أهل الأعراف في مأزق وشدة وانشغال بما هم فيه من شدة الموقف، ومع ذلك نراهم يفرحون بأهل الجنة الطيبين، ويبادرونهم بالسلام.
إذن : لأهل الجنة سلام من الملائكة عند الوفاة، وسلام عندما يدخلون الجنة، وسلام أعلى من الله تبارك وتعالى، وسلام حتى من أهل الأعراف المنشغلين بحالهم.
﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " ٣٢ " ﴾( سورة النحل )أي : لأنكم دفعتم الثمن ؛ والثمن هو عملكم الصالح في الدنيا، واتباعكم لمنهج الحق تبارك وتعالى. وقد يرى البعض تعارضاً بين هذه الآية وبين الحديث الشريف :
" لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
والحقيقة أنه لا يوجد تعارض بينهما، ولكن كيف نوفق بين الآية والحديث ؟.
الله تعالى يوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم الحديث كما يوحي له الآية، فكلاهما يصدر عن مشكاة واحدة ومصدر واحد.. على حد قوله تعالى :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. " ٧٤ " ﴾( سورة التوبة )فالحديث هنا واحد، فلم يغنهم الله بما يناسبه والرسول بما يناسبه، بل هو غناء واحد وحدث واحد، وكذلك ليس ثمة تعارض بين الآية والحديث.. كيف ؟.
الحق تبارك وتعالى كلف الإنسان بعد سن الرشد والعقل، وأخذ يوالي عليه النعم منذ صغره، وحينما كلفه كلفه بشيء يعود على الإنسان بالنفع والخير، ولا يعود على الله منه شيء، ثم بعد ذلك يجازيه على هذا التكليف بالجنة.
إذن : التكليف كله لمصلحة العبد في الدنيا والآخرة. إذن : تشريع الجزاء من الله في الآخرة هو محض الفضل من الله، ولو أطاع العبد ربه الطاعة المطلوبة منه في الأفعال الاختيارية التكليفية لما وفى نعم الله عليه، وبذلك يكون الجزاء في الجنة فضلاً من الله ومنة. أو : أنهم حينما قالوا :
﴿ بما كنتم تعملون " ٣٢ " ﴾( سورة النحل ).
يريدون أن عملهم سبب عادي لدخول الجنة، ثم يكتسبونها بفضل الله.. فتجمع الآية بين العمل والفضل معاً ؛ لذلك فإن الحق تبارك وتعالى يقوي هذا بقوله تعالى :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " ٥٨ " ﴾( سورة يونس )
فهم لم يفرحوا بالعمل لأنه لا يفي بما هم فيه من نعمة، بل الفرحة الحقيقية تكون بفضل الله ورحمته، وفي الدعاء : " اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل ".
وأخيراً.. هل كانوا يعملون هكذا من عند أنفسهم ؟ لا.. بل بمنهج وضعه لهم ربهم تبارك وتعالى.. إذن : بالفضل لا بمجرد العمل.. ومثال ذلك : الوالد عندما يقول لولده : لو اجتهدت هذا العام وتفوقت سأعطيك كذا وكذا.. فإذا تفوق الولد كان كل شيء لصالحه : النجاح والهدية.
بعد أن عرضت الآيات جزاء المتقين الذين قالوا خيراً، عادت لهؤلاء الذين قالوا( أساطير الأولين )الذين يصادمون الدعوة إلى الله، ويقفون منها موقف العداء والكيد والتربص والإيذاء. وهذا استفهام من الحق تبارك وتعالى لهؤلاء : ماذا تنتظرون ؟ ! بعدما فعلتم بأمر الدعوة وما صددتم الناس عنها، ماذا تنتظرون ؟ أتنتظرون أن تروا بأعينكم، ليس أمامكم إلا أمران : سيحلان بكم لا محالة :
إما أن تأتيكم الملائكة فتتوفاكم، أو يأتي أمر ربك، وهو يوم القيامة ولا ينجيكم منها إلا أن تؤمنوا، أم أنكم تنتظرون خيراً ؟ ! فلن يأتيكم خير أبداً.. كما قال تعالى في آيات أخرى :
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلون.. " ١ " ﴾( سورة النحل ).
وقال :﴿ اقتربت الساعة.. " ١ " ﴾( سورة القمر ).
وقال :﴿ اقترب للناس حسابهم.. " ١ " ﴾( سورة الأنبياء ).
إذن : إنما ينتظرون أحداثاً تأتي لهم بشر : تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم في حالة هم بها ظالمون لأنفسهم، ثم يلقون السلام رغماً عنهم، أو : تأتيهم الطامة الكبرى وهي القيامة. ثم يقول الحق سبحانه :﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم.. " ٣٣ " ﴾( سورة النحل )أي : ممن كذب الرسل قبلهم.. يعني هذه مسألة معروفة عنهم من قبل :﴿ وما ظلمهم الله.. " ٣٣ " ﴾( سورة النحل )أي : وما ظلمهم الله حين قدر أن يجازيهم بكذا وكذا، وليس المراد هنا ظلمهم بالعذاب ؛ لأن العذاب لم يحل بهم بعد.
﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ٣٣ " ﴾( سورة النحل )وهذا ما نسميه بالظلم الأحمق ؛ لأن ظلم الغير قد يعود على الظالم بنوع من النفع، أما ظلم النفس فلا يعود عليها بشيء ؛ وذلك لأنهم أسرفوا على أنفسهم في الدنيا فيما يخالف منهج الله، وبذلك فوتوا على أنفسهم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا هو ظلمهم لأنفسهم.
أي : أنهم لما ظلموا أنفسهم أصابهم جزاء ذلك، وسمي ما يفعل بهم سيئة ؛ لأن الحق تبارك وتعالى يسمي جزاء السيئة سيئة في قوله :﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم.. " ٤٠ " ﴾( سورة الشورى ).
ويقول تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل )وهذه تسمى المشاكلة، أي : أن هذه من جنس هذه.
وقوله تعالى :( ما عملوا )العمل هو مزاولة أي جارحة من الإنسان لمهمتها، فكل جارحة لها مهمة. الرجل واليد والعين والأذن.. الخ. فاللسان مهمته أن يقول، وبقية الجوارح مهمتها أن تفعل. إذن : فاللسان وحده أخذ النصف، وباقي الجوارح أخذت النصف الآخر ؛ ذلك لأن حصائد الألسنة عليها المعلول الأساسي.
فكلمة الشهادة : لا إله إلا الله لابد من النطق بها لنعرف أنه مؤمن، ثم يأتي دور الفعل ليساند هذا القول ؛ لذا قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " ٢ " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " ٣ " ﴾( سورة الصف ).
وبالقول تبلغ المناهج للآذان.. فكيف تعمل الجوارح دون منهج ؟ ولذلك فقد جعل الحق تبارك وتعالى للأذن وضعاً خاصاً بين باقي الحواس، فهي أول جارحة في الإنسان تؤدي عملها، وهي الجارحة التي لا تنقضي مهمتها أبداً.. كل الجوارح لا تعمل مثلاً أثناء النوم إلا الأذن، وبها يتم الاستدعاء والاستيقاظ من النوم.
وإذا استقرأت آيات القرآن الكريم، ونظرت في آيات الخلق ترى الحق تبارك وتعالى يقول :
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " ٧٨ " ﴾( سورة النحل )ثم هي آلة الشهادة يوم القيامة :﴿ حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم.. " ٢٠ " ﴾( سورة فصلت ).
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً " ١١ " ﴾( سورة الكهف )
ومعنى : ضربنا على آذانهم، أي : عطلنا الأذن التي لا تعطل حتى يطمئن نومهم ويستطيعوا الاستقرار في كهفهم، فلو لم يجعل الله تعالى في تكوينهم الجارحي شيئاً معيناً لما استقر لهم نوم طوال ٣٠٩ أعوام.
ويقول الحق تعالى :﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " ٣٤ " ﴾( سورة النحل ).
بماذا استهزأ الكافرون ؟ استهزأوا بالبعث والحساب وما ينتظرهم من العذاب، فقالوا كما حكى القرآن :
﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " ١٦ " أو آباؤنا الأولون " ١٧ " ﴾( سورة الصافات )
وقالوا :﴿ أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلقٍ جديدٍ.. " ١٠ " ﴾( سورة السجدة ).
ثم بلغ بهم الاستهزاء أن تعجلوا العذاب فقالوا :
﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " ٧٠ " ﴾( سورة الأعراف )
وقالوا :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً.. " ٩٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
وهل يطلب أحد من عدوه أن ينزل به العذاب إلا إذا كان مستهزئاً ؟ فقال لهم الحق تبارك وتعالى : إنكم لن تقدروا على هذا العذاب الذي تستهزئون به. فقال :﴿ وحاق بهم.. " ٣٤ " ﴾( سورة النحل )أي : أحاط ونزل بهم، فلا يستطيعون منه فراراً، ولا يجدون معه منفذاً للفكاك، كما في قوله تعالى :
﴿ والله من ورائهم محيط " ٢٠ " ﴾( سورة البروج ).
نلاحظ أنه ساعة أن يأتي الفعل نصاً في مطلوبه لا يذكر المتعلق به.. فلم يقل : أشركوا بالله.. لأن ذلك معلوم، والإشراك معناه الإشراك بالله، لذلك قال تعالى هنا :
﴿ وقال الذين أشركوا.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل )
ثم يورد الحق سبحانه قولهم :﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيءٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
إنهم هنا يدافعون عن أنفسهم، وهذه هي الشفاعة التي يعلق عليها الكفار خطاياهم شماعة أن الله كتب علينا وقضى بكذا وكذا. فيقول المسرف على نفسه : ربنا هو الذي أراد لي كذا، وهو الذي يهدي، وهو الذي يضل، وهو الذي جعلني ارتكب الذنوب، إلى آخر هذه المقولات الفارغة من الحق والنهاية ؛ فلماذا يعذبني إذن ؟.
وتعالوا نناقش صاحب هذه المقولات، لأن عنده تناقضاً عقلياً، والقضية غير واضحة أمامه.. ولكي نزيل عنه هذا الغموض نقول له : ولماذا لم تقل : إذا كان الله قد أراد لي الطاعة وكتبها علي، فلماذا يثيبني عليها.. هكذا المقابل.. فلماذا قلت بالأولى ولم تقل بالثانية ؟ ‍‍‍‍‍ !
واضح أن الأولى تجر عليك الشر والعذاب، فوقفت في عقلك.. أما الثانية فتجر عليك الخير، لذلك تغاضيت عن ذكرها.
ونقول له : هل أنت حينما تعمل أعمالك.. هل كلها خير ؟ أم هل كلها شر ؟ أما منها ما هو خير، ومنها ما هو شر ؟.
والإجابة هنا واضحة. إذن : لا أنت مطبوع على الخير دائماً، ولا أنت مطبوع على الشر دائماً، لذلك فأنت صالح للخير، كما أنت صالح للشر.
إذن : هناك فرق بين أن يخلقك صالحاً للفعل وضده، وبين أن يخلقك مقصوراً على الفعل لا ضده، ولما خلقك صالحاً للخير وصالحاً للشر أوضح لك منهجه وبين لك الجزاء، فقال : اعمل الخير.. والجزاء كذا، واعمل الشر.. والجزاء كذا.. وهذا هو المنهج.
ويحلو للمسرف على نفسه أن يقول : إن الله كتبه علي.. وهذا عجيب، وكأني به قد اطلع على اللوح المحفوظ ونظر فيه، فوجد أن الله كتب عليه أن يشرب الخمر مثلاً فراح فشربها ؛ لأن الله كتبها عليه.
ولو أن الأمر هكذا لكنت طائعاً بشربك هذا، لكن الأمر خلاف ما تتصور، فأنت لا تعرف أنها كتب عليك إلا بعد أن فعلت، والفعل منك مسبوق بالعزم على أن تفعل، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ كي تعرف ما كتبه الله عليك ؟.
انتبه هنا واعلم أن الله تعالى كتب أزلاً ؛ لأنه علم أنك تفعل أجلاً، وعلم الله مطلق لا حدود له. ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى الوالد الذي يلاحظ ولده في دراسته، فيجده مهملاً غير مجد فيتوقع فشله في الامتحان.. هل دخل الوالد مع ولده وجعله يكتب خطأ ؟ لا.. بل توقع له الفشل لعلمه بحال ولده، وعدم استحقاقه للنجاح.
إذن : كتب الله مسبقاً وأزلاً ؛ لأنه يعلم ما يفعله العبد أصلاً.. وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى صورة أخرى لهذا المنهج حينما وجه المؤمنين إلى الكعبة بعد أن كانت وجهتهم إلى بيت المقدس، فقال تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.. " ١٤٤ " ﴾( سورة البقرة ).
ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.. " ١٤٢ " ﴾ ( سورة البقرة ).
جاء الفعل هكذا في المستقبل : سيقول.. إنهم لم يقولوا بعد هذا القول، وهذا قرآن يتلى على مسامع الجميع غير خافٍ على أحد من هؤلاء السفهاء، فلو كان عند هؤلاء عقل لسكتوا ولم يبادروا بهذه المقولة، ويفوتوا الفرصة بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن الكريم.
كان باستطاعتهم أن يسكتوا ويوجهوا للقرآن تهمة الكذب، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. وبذلك تمت إرادة الله وأمره حتى على الكافرين الذين يبحثون عن مناقضة في القرآن الكريم. وهذه الآية :
﴿ وقال الذين أشركوا.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
تشرح وتفسر قول الله تعالى :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء.. " ١٤٨ " ﴾( سورة الأنعام ).
فهنا ( سيقول )وفي الآية الأخرى ( قال )لنعلم أنه لا يستطيع أحد معارضة قول الله تعالى، أو تغيير حكمه. ثم يقول تعالى :﴿ نحن ولا آباؤنا.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
لماذا لم يتحدث هؤلاء عن أنفسهم فقط ؟ ما الحكمة في دفاعهم عن آبائهم هنا ؟ الحكمة أنهم سيحتاجون لهذه القضية فيما بعد وسوف يجعلونها حجة حينما يقولون :
﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " ٢٢ " ﴾( سورة الزخرف ).
إذن : لا حجة لهؤلاء الذين يعلقون إسرافهم على أنفسهم على شماعة القدر، وأن الله تعالى كتب عليهم المعصية ؛ لأننا نرى حتى من المسلمين من يتكلم بهذا الكلام، ويميل إلى هذه الأباطيل، ومنهم من تأخذه الجرأة على الله عز وجل فيشبه هذه القضية بقول الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالمال
وما يفعل هذا إلا ظالم ! ! تعالى الله وتنزه عن قول الجهال والكافرين، وأيضاً هناك من يقول : إن الإنسان هو الذي خلق الفعل، ويعارضهم آخرون يقولون : لا بل ربنا هو الذي يخلق الفعل.
نقول لهم جميعاً : افهموا، ليس هناك في الحقيقة خلاف.. ونسأل : ما هو الفعل ؟ الفعل توجيه جارحة لحدثٍ، فأنت حينما توجه جارحة لحدث، ما الذي فعلته أنت ؟ هل أعطيت لليد مثلاً قوة الحركة بذاتها ؟ أم أن إرادتك هي التي وجهت حركتها ؟.
والجارحة مخلوقة لله تعالى، وكذلك الإرادة التي حكمت على الجارحة مخلوقة لله أيضاً.. إذن : ما فعلته أنت ما هو إلا أن وجهت المخلوق لله إلى ما لا يحب الله في حالة المعصية وإلى ما يحبه الله في حالة الطاعة.
كذلك لابد أن نلاحظ أن لله تعالى مرادات كونية ومرادات شرعية.. فالمراد الكوني هو ما يكون فعلاً، كل ما تراه في الكون أراد الله أن يكون. والمراد الشرعي : هو طلب الشيء لمحبوبيته.
ولنأخذ مثلاً لتوضيح ذلك : كفر الكافر، أراد الله كونياً أن يكون، لأنه خلقه مختاراً وقال :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ).
وطالما خلقك الله مختاراً تستطيع أن تتوجه إلى الإيمان أو تتوجه إلى الكفر، ثم كفرت. إذن : فهل كفرت غصباً عنه وعلى غير مراده سبحانه وتعالى ؟ حاشا لله ومعنى ذلك أن كفر الكافر مراد كوني، وليس مراداً شرعياً.
وبنفس المقياس يكون إيمان المؤمن مراداً كونياً ومراداً شرعياً، أما كفر المؤمن، المؤمن حقيقة لم يكفر. إذن : هو مراد شرعي وكذلك مراد كوني، وهكذا، فلابد أن نفرق بين المراد كونياً والمراد شرعياً.
ولذلك لما حدثت ضجة في الحرم المكي منذ سنوات، وحدث فيه إطلاق للنار وترويع للآمنين، قال بعضهم : كيف يحدث هذا وقد قال تعالى :
﴿ ومن دخله كان آمناً " ٩٧ " ﴾( سورة النحل ).
وهاهو الحال قتل وإزعاج للآمنين فيه ؟ ! والحقيقة أن هؤلاء خلطوا بين مراد كوني ومراد شرعي، فالمقصود بالآية : فمن دخله فأمنوه. أي : اجعلوه آمناً، فهذا مطلب من الله تبارك وتعالى، وهو مراد شرعي قد يحدث وقد لا يحدث.. أما المراد الكوني فهو الذي يحدث فعلاً. وبذلك يكون ما حدث في الحرم مراداً كونياً، وليس مراداً شرعياً.
ثم يقول تعالى على لسانهم :﴿ ولا حرمنا من دونه من شيءٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
وقد ورد توضيح هذه الآية في قوله تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون " ١٠٣ " ﴾( سورة المائدة ).
ثم يقول تعالى مقرراً :
﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم.. " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ) أي : هذه سنة السابقين المعاندين.
﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
البلاغ هو ما بين عباد الله وبين الله، وهو بلاغ الرسل، والمراد به المنهج " افعل أو لا تفعل ". ولا يقول الله لك ذلك إلا وأنت قادر على الفعل وقادر على الترك.
لذلك نرى الحق تبارك وتعالى يرفع التكليف عن المكره فلا يتعلق به حكم ؛ لأنه في حالة الإكراه قد يفعل ما لا يريده ولا يحبه، وكذلك المجنون والصغير الذي لم يبلغ التعقل، كل هؤلاء لا يتعلق بهم حكم.. لماذا ؟ لأن الله تعالى يريد أن يضمن السلامة لآلة الترجيح في الاختيار.. وهي العقل.
وحينما يكون الإنسان محل تكليف عليه أن يجعل الفيصل في :
﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " ٣٥ " ﴾( سورة النحل ).
بلاغ المنهج بافعل ولا تفعل ؛ لذلك استنكر القرآن الكريم على هؤلاء الذين جاءوا بقول من عند أنفسهم دون رصيد من المبلغ صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في حق هؤلاء :
﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " ١٩ " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " ٢٠ " ﴾( سورة الزخرف ).
فأنكر عليهم سبحانه ذلك، وسألهم :﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون " ٢١ " ﴾( سورة الزخرف ). وخاطبهم سبحانه في آية أخرى :﴿ أم لكم كتاب فيه تدرسون " ٣٧ " ﴾( سورة القلم )وكلمة ( البلاغ المبين )أي : لابد أن يبلغ المكلف، فإن حصل تقصير في ألا يبلغ المكلف ينسب التقصير إلى أهل الدين الحق، المنتسبين إليه، والمناط بهم تبليغ هذا المنهج لمن لم يصله. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في الحث على تبليغ دين الله لمن لم يصله الدين.
كما قال صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية "
وقوله صلى الله عليه وسلم : " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ".
فالحق سبحانه يقول هنا :
﴿ ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )
وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ من كل أمةٍ.. " ٨٤ " ﴾( سورة النحل )
فهذه لها معنى، وهذه لها معنى.. فقوله :
﴿ من كل أمةٍ.. " ٨٤ " ﴾( سورة النحل )أي : من أنفسهم، منهم خرج، وبينهم تربى ودرج، يعرفون خصاله وصدقه ومكانته في قومه. أما قوله تعالى :
﴿ في كل أمةٍ.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل ).
ف " في " هنا تفيد الظرفية. أي : في الأمة كلها، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة.. فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى، بل لابد من عموم البلاغ لجميع الأمة.
وكذلك يقول تعالى مرة :
﴿ أرسلنا.. " ٢٦ " ﴾( سورة الحديد )
ومرة أخرى يقول :
﴿ بعثنا.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )
وهناك فرق بين المعنيين ف( أرسلنا )تفيد الإرسال، وهو : أن يتوسط مرسل إلى مرسل إليه. أما ( بعثنا )فتفيد وجود شيء سابق اندثر، ونريد بعثه من جديد.
ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم عليه السلام حيث علمه الله الأسماء كلها، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض. وقال :
﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ٣٨ " ﴾( سورة البقرة )
وقال في آية أخرى :
﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " ١٢٣ " ﴾( سورة طه )
إذن : هذا منهج من الله تعالى لآدم عليه السلام والمفروض أن يبلغ آدم هذا المنهج لأبنائه، والمفروض في أبنائه أن يبلغوا هذا المنهج لأبنائهم، وهكذا، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلغ للمنهج، أو عدم رعاية المبلغ للمنهج فتنطمس المناهج، ومن هنا يبعثها الله من جديد، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات، بل هي موجودة منذ أول الخلق.
فالرسالات إذن بعث لمنهج إلهي، كان يجب أن يظل على ذكر من الناس، يتناقله الأبناء عن الآباء، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلغ فلا يبلغ، وقد تصيب المبلغ فلا يلتزم بالبلاغ ؛ لذلك يجدد الله الرسل.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى :
﴿ وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير " ٢٤ " ﴾( سورة فاطر ).
وقوله :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " ١٣١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وقوله :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " ١٥ " ﴾( سورة الإسراء )
لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يضعون لأنفسهم القوانين التي تنظم حياتهم، أليس لديهم قانون يحدد الجرائم ويعاقب عليها ؟ فلا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإبلاغ.
ومن هنا تأتي أهمية وضع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع، فلا يصح أن نعاقب إنساناً على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة، فلابد من إبلاغه بها أولاً، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا، ومن هنا تقام عليه الحجة.
وهنا أيضاً نلاحظ أنه قد يتعاصر الرسولان، ألم يكن إبراهيم ولوط متعاصرين ؟ ألم يكن شعيب وموسى متعاصرين ؟ فما علة ذلك ؟.
نقول : لأن العالم كان قديماً على هيئة الانعزال، فكل جماعة منعزلة في مكانها عن الأخرى لعدم وجود وسائل للمواصلات، فكانت كل جماعة في أرض لا تدري بالأخرى، ولا تعلم عنها شيئاً.
ومن هنا كان لكل جماعة بيئتها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومنكرات تناسبها، فهؤلاء يعبدون الأصنام، وهؤلاء يطففون الكيل والميزان، وهؤلاء يأتون الذكران دون النساء.
إذن : لكل بيئة جريمة تناسبها، ولابد أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائم، كل في بلد على حدة.
لكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات الأمكنة مع وجود وسائل المواصلات، لدرجة أن المعصية تحدث مثلاً في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم.. إذن : أصبحت الأجواء والبيئات واحدة، ومن هنا كان منطقياً أن يرسل صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وللأزمنة كافة.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الشمولية بقوله :
﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً.. " ٢٨ " ﴾( سورة سبأ )أي : للجميع لم يترك أحداً، كما يقول الخياط : كففت القماش أي : جمعت بعضه على بعض، حتى لا يذهب منه شيء. ثم يقول الحق سبحانه :﴿ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )
هذه هي مهمة الرسل :﴿ أن اعبدوا الله.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )والعبادة معناها التزام بأمر فيفعل، وينهي عن أمر فلا يفعل ؛ لذلك إذا جاء من يدعي الألوهية وليس معه منهج نقول له : كيف نعبدك ؟ وما المنهج الذي جئت به ؟ بماذا تأمرنا ؟ عن أي شيءٍ تنهانا ؟.
فهنا أمر بالعبادة ونهي عن الطاغوت، وهذا يسمونه تحلية وتخلية : التحلية في أن تعبد الله، والتخلية في أن تبتعد عن الشيطان.
وعلى هذين العنصرين تبنى قضية الإيمان حيث نفى في : " أشهد أن لا إله ".. وإثبات في " إلا الله "، وكأن الناطق بالشهادة ينفي التعدد، ويثبت الواحدانية لله تعالى، وبهذا تكون قد خليت نفسك عن الشرك، وحليت نفسك بالوحدانية.
ولذلك سيكون الجزاء عليها في الآخرة من جنس هذه التحلية والتخلية ؛ ولذلك نجد في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ فمن زحزح عن النار.. " ١٨٥ " ﴾( سورة آل عمران )أي : خلي عن العذاب.
﴿ وأدخل الجنة.. " ١٨٥ " ﴾( سورة آل عمران )أي : حلي بالنعيم. وقوله :
﴿ واجتنبوا الطاغوت.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )أي : ابتعدوا عن الطاغوت.. فيكون المقابل لها : تقربوا إلى الله و( الطاغوت )فيها مبالغة تدل على من وصل الذروة في الطغيان وزاد فيه.. وفرق بين الحدث المجرد مثل طغي، وبين المبالغة فيه مثل ( طاغوت )، وهو الذي يزيده الخضوع لباطله طغياناً على باطل أعلى.
ومثال ذلك : شاب تمرد على مجتمعه، وأخذ يسرع الشيء التافه القليل، فوجد الناس يتقربون إليه ويداهنونه اتقاء شره، فإذا به يترقى في باطله فيشتري لنفسه سلاحاً يعتدي به على الأرواح، ويسرق الغالي من الأموال، ويصل إلى الذروة في الظلم والاعتداء، ولو أخذ الناس على يده منذ أول حادثة لما وصل إلى هذه الحال.
ومن هنا وجدنا الديات تتحملها العاقلة وتقوم بها عن الفاعل الجاني، ذلك لما وقع عليها من مسئولية ترك هذا الجاني، وعلى الأخر على يده وكفه عن الأذى.
ونلاحظ في هذا اللفظ ( الطاغوت )أنه لما جمع كل مبالغة في الفعل نجده يتأبى على المطاوعة، وكأنه طاغوت في لفظه ومعناه، فنراه يدخل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المذكر والمؤنث، فنقول : رجل طاغوت، وامرأة طاغوت، ورجلان طاغوت، وامرأتان طاغوت، ورجال طاغوت، ونساء طاغوت، وكأنه طغى بلفظه على جميع الصيغ.
إذن : الطاغوت هو الذي إذا ما خضع الناس لظلمه ازداد ظلماً. ومنه قوله تعالى :
﴿ فاستخف قومه فأطاعوه.. " ٥٤ " ﴾( سورة الزخرف )فقد وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية، وقال :﴿ ما علمت لكم من إله غيري.. " ٣٨ " ﴾( سورة القصص ).
ويحكى في قصص المتنبئين أن أحد الخلفاء جاءه خبر مدع للنبوة، فأمرهم ألا يهتموا بشأنه، وأن يتركوه، ولا يعطوا لأمره بالاً لعله ينتهي، ثم بعد فترة ظهر آخر يدعي النبوة، فجاءوا بالأول ليرى رأيه في النبي الجديد : ما رأيك في هذا الذي يدعي النبوة ؟ ! أيكم النبي ؟ فقال : إنه كذاب فإني لم أرسل أحداً ! ! ظن أنهم صدقوه في ادعائه النبوة، فتجاوز هذا إلى ادعاء الألوهية، وهكذا الطاغوت.
وقد وردت هذه الكلمة ( الطاغوت )في القرآن ثماني مرات، منها ستة تصلح للتذكير والتأنيث، ومرة وردت للمؤنث في قوله تعالى :﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها.. " ١٧ " ﴾( سورة الزمر ).
ومرة وردت للمذكر في قوله تعالى :
﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.. " ٦٠ " ﴾( سورة النساء ).
وفي اللغة كلمات يستوي فيها المذكر والمؤنث، مثل قوله الحق تبارك وتعالى :
﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا.. " ١٤٦ " ﴾( سورة الأعراف )
وقوله :﴿ قل هذه سبيلي.. " ١٠٨ " ﴾( سورة يوسف )
فكلمة " سبيل " جاءت مرة للمذكر، ومرة للمؤنث.
ثم يقول تعالى :﴿ فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليهم الضلالة.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )
وقد أخذت بعضهم هذه الآية على أنها حجة يقول من خلالها : إن الهداية بيد الله، وليس لنا دخل في أننا غير مهتدين.. إلى آخر هذه المقولات. نقول : تعالوا نقرأ القرآن.. يقول تعالى :
﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. " ١٧ " ﴾( سورة فصلت ).
ولو كانت الهداية بالمعنى الذي تقصدون لما استحبوا العمى وفضلوه، لكن " هديناهم " هنا بمعنى : دللناهم وأرشدناهم فقط، ولهم حق الاختيار، وهم صالحون لهذه ولهذه، والدلالة تأتي للمؤمن وللكافر، دل الله الجميع، فالذي أقبل على الله بإيمان به زاده هدى وآتاه تقواه، كما قال تعالى :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
ومن هذا ما يراه البعض تناقضاً بين قوله تعالى :
﴿ إنك لا تهدي من أحببت.. " ٥٦ " ﴾( سورة القصص )
وقوله :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيمٍ " ٥٢ " ﴾( سورة الشورى )حيث نفى الحق سبحانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في الأولى، وأثبتها له في الثانية. نلاحظ أن الحدث هنا واحد وهو الهداية، والمتحدث عنه واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يثبت حدث واحد لمحدثٍ واحد مرة، وينفيه عنه مرة ؟ !.
لابد أن تكون الجهة منفكة.. في :﴿ إنك لا تهدي.. " ٥٦ " ﴾( سورة القصص ) أي : لا تستطيع أن تدخل الإيمان في قلب من تحب، ولكن تدل وترشد فقط، أما هداية الإيمان فبيد الله تعالى يهدي إليه من عنده استعداد للإيمان، ويصرف عنها من أعرض عنه ورفضه. وكأن الله تعالى في خدمة عبيده، من أحب شيئاً أعطاه إياه ويسره له، وبذلك هدى المؤمن للإيمان، وختم على قلب الكافر بالكفر.
إذن : تأتي الهداية بمعنيين : بمعنى الدلالة والإرشاد كما في الآية السابقة، وبمعنى المعونة وشرح الصدر للإيمان كما في قوله تعالى :
﴿ ولكن الله يهدي من يشاء.. " ٥٦ " ﴾( سورة القصص )
وقوله :﴿ زادهم هدى.. " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
فقوله تعالى :﴿ فمنهم من هدى الله.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل )أي : هداية إيمان ومعونةٍ بأن مكن المنهج في نفسه، ويسره له، وشرح به صدره.
﴿ ومنهم من حقت عليه الضلالة.. " ٣٦ " ﴾( سورة النحل ).
حقت : أي أصبحت حقاً له، ووجبت له بما قدم من أعمال، لا يستحق معها إلا الضلالة، فما حقت عليهم، وما وجبت لهم إلا بما عملوا. وهذه كقوله تعالى :
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ١٤٤ " ﴾( سورة الأنعام ).
أيهما أسبق : عدم الهداية من الله لهم، أم الظلم منهم ؟ واضح أن الظلم حدث منهم أولاً، فسماهم الله ظالمين، ثم كانت النتيجة أن حرموا الهداية. وتذكر هنا مثالاً كثيراً ما كررناه ليرسخ في الأذهان ولله المثل الأعلى هب أنك سائر في طريق تقصد بلداً ما، فصادفك مفترق لطرق متعددة، وعلامات لاتجاهات مختلفة، عندها لجأت لرجل المرور : من فضل أريد بلدة كذا، فقال لك : من هنا. فقلت : الحمد لله، لقد كدت أضل الطريق، وجزاك الله خيراً.
فلما وجدك استقبلت كلامه بالرضا والحب، وشكرت له صنيعه أراد أن يزيد لك العطاء. فقال لك : لكن في هذا الطريق عقبة صعبة، وسوف أصحبك حتى تمر منها بسلام.
هكذا كانت الأولى منه مجرد دلالة، أما الثانية فهي الم
يسلي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويثبت له حرصه على أمته، وأنه يحمل نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما حمله الله، كما قال له في آية أخرى :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " ﴾( سورة الشعراء )
ويقول تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة ).
ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه الأمل أمام المكذبين المعاندين فيقول تعالى :
﴿ فإن الله لا يهدي من يضل.. " ٣٧ " ﴾( سورة النحل )أي : لا يضل إلا من لم يقبل الإيمان به فيدعه إلى كفره، بل ويطمس على قلبه غير مأسوف عليه، فهذه إرادته، وقد أجابه الله إلى ما يريد.
﴿ وما لهم من ناصرين " ٣٧ " ﴾( سورة النحل ).
إذن : المسألة ليست مجرد عدم الهداية، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو معيناً يخلصهم منها، كما قال تعالى :
﴿ فما لنا من شافعين " ١٠٠ " ولا صديق حميمٍ " ١٠١ " ﴾( سورة الشعراء ).
إذن : لا يهدي الله من اختار لنفسه الضلال، بل سيعذبه عذاباً لا يجد من ينصره فيه.
}وأقسموا بالله.. " ٣٨ " }( سورة النحل ).
سبحان الله ! ! كيف تقسمون بالله وأنتم لا تؤمنون به ؟ ! وما مدلول كلمة الله عندكم ؟.. هذه علامة غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع الإيمان غير واضح في عقولهم ؛ لأن كلمة الله نفسها دليل على الإيمان به سبحانه، ولا توجد الكلمة في اللغة إلا بعد وجود ما تدل عليه أولاً.. فالتلفزيون مثلاً قبل أن يوجد لم يكن له اسم، ثم بعد أن وجد أوجدوا له اسماً.
أذن : توجد المعاني أولاً، ثم توضع للمعاني أسماء، فإذا رأيت اسماً يكون معناه قبله أم بعده ؟ يكون قبله.. فإذا قالوا : الله غير موجود نقول لهم : كذبتم ؛ لأن كلمة الله لفظ موجود في اللغة ولابد أن لها معنى سبق وجودها.
إذن : فالإيمان سابق للكفر.. وجاء الكفر منطقياً ؛ لأن معنى الكفر : الستر.. والسؤال إذن : ماذا ستر ؟ ستر الإيمان، ولا يستر إلا موجوداً، وبذلك نقول : إن الكفر دليل على الإيمان.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )أي : مبالغين في اليمين مؤكدينه، وما أقرب غباءهم هنا بما قالوه في آية أخرى :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ٣٢ " ﴾( سورة الأنفال ).
فليس هذا بكلام العقلاء. وكان ما أقسموا عليه بالله أنه :﴿ لا يبعث الله من يموت.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )وهذا إنكار للبعث، كما سبق وأن قالوا :
﴿ قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " ٨٢ " ﴾( سورة المؤمنون )
فيرد عليهم الحق سبحانه ( بلى )وهي أداة لنفي السابق عليها، وأهل اللغة يقولون : نفي النفي إثبات، إذاً " بلى " تنفي النفي قبلها وهو قولهم :﴿ لا يبعث الله من يموت.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل ).
فيكون المعنى : بل يبعث الله من يموت.
﴿ وعداً عليه حقاً.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )والوعد هو الإخبار بشيء لم يأت زمنه بعد، فإذا جاء وعد بحدث يأتي بعد ننظر فيمن وعد : أقادر على إيجاد ما وعد به ؟ أم غير قادر ؟.
فإن كان غير قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على إنفاذ وعده، قلنا له قل : إن شاء الله.. حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تف بوعدك التمسنا لك عذراً، وحتى لا توصف ساعتها بالكذب، فقد نسب الأمر إلى مشيئة الله.
والحق تبارك وتعالى لا يمنعنا أن نخطط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا.. خطط كما تحب، واعدد للمستقبل عدته، لكن أردف هذا بقولك : إن شاء الله ؛ لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكن من عمل ما تريد مستقبلاً، وقد قال الحق تبارك وتعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " ٢٣ " إلا أن يشاء الله.. " ٢٤ " ﴾( سورة الكهف ).
ونضرب لذلك مثلاً : هب أنك أردت أن تذهب غداً إلى فلان لتكلمه في أمر ما.. هل ضمنت لنفسك أن تعيش لغد ؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجوداً غداً ؟ وهل ضمنت ألا يتغير الداعي الذي تريده ؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها، وعند الذهاب ألم بك عائق منعك من الذهاب. إذن : يجب أن نردف العمل في المستقبل بقولنا : إن شاء الله.
أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يعد به ؛ لأنه لا قوة تستطيع أن تقف أمام مراده، ولا شيء يعجزه في الأرض ولا في السماء، كان الوعد منه سبحانه ( حقاً )أن يوفيه.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )أي : لا يعلمون أن الله قادر على البعث، كما قال تعالى :
﴿ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد.. " ١٠ " ﴾( سورة السجدة )
وقال :﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " ٤٩ " ﴾( سورة الإسراء )
فقد استبعد الكفار أمر البعث ؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلق من لدن آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة.. ولكن لم تستبعدون ذلك ؟ وقد قال تعالى :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ " ٢٨ " ﴾( سورة لقمانفالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة.. لا.. ليس في الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتاً.
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " ٨٢ " ﴾( سورة يس )
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر عندما يأتي المعلم أو المدرب الذي يدرب الجنود نراه يعلم ويدرب أولاً، ثم إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعاً وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع، ويقفون على الهيئة المطلوبة، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد ؟ ! لا.. بل بكلمة واحدة تم له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لأمره سبحانه وتعالى.. هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء.. فليس في الأمر معالجة، لأن المعالجة أن يباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن، وليس البعث هكذا.. بل بالأمر الانضباطي : كن.
ولذلك يقول تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ٣٨ " ﴾( سورة النحل ).
نقول : الحمد لله أن هناك قليلاً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به.
فمعنى قوله تعالى :﴿ ليبين لهم الذي يختلفون فيه.. " ٣٩ " ﴾( سورة النحل )أي : من أمر البعث ؛ لأن القضية لا تستقيم بدون البعث والجزاء ؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين أقول لهم : لقد أدركتم رأسماليين شرسين ومفترين، شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا.. فماذا فعلتم بهم ؟ يقولون : فعلنا بهم كيت وكيت، فقلت : ومن قبل وجود الشيوعية سنة ١٩١٧، ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلاء ؟
قالوا : بلى.
قلت : إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب لا يفلت منه هؤلاء الذين سبقوكم، ولم تستطيعوا تعذيبهم. ثم يأتي فصل الخطاب في قوله تعالى :﴿ وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين " ٣٩ " ﴾( سورة النحل )أي : كاذبين في قولهم :﴿ لا يبعث الله من يموت.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )
وذلك علم يقين ومعاينة، ولكن بعد فوات الأوان، فالوقت وقت حساب وجزاء لا ينفع فيه الاعتراف ولا يجدي التصديق، فالآن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قسمهم لا يبعث الله من يموت وبالغوا في الأيمان وأكدوها ؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية أخرى :
﴿ وكانوا يصرون على الحنث العظيم " ٤٦ " ﴾( سورة الواقعة ).
إذن : أمر البعث ليس علاجاً لجزئيات كل شخص وضم أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام الساعة، بل المسألة منضبطة تماماً مع الأمر الإلهي ( كن ).
وبمجرد صدوره، ودون حاجة لوقت ومزاولة يكون الجميع ماثلاً طائعاً، كل واحد منتظر دوره، منتظر الإشارة ؛ ولذلك جاء في الخبر : " أمور يبديها ولا يبتديها ".
فالأمر يتوقف على الإذن : اظهر يظهر.
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى من يعد القنبلة الزمنية مثلاً، ويضبطها على وقت معين.. تظل القنبلة هذه إلى وقت الانفجار الذي وضع فيها، ثم تنفجر دون تدخل من صناعها.. مجرد الإذن لها بالانفجار تنفجر.
وحتى كلمة ( كن )نفسها تحتاج لزمن، ولكن ليس هناك أقرب منها في الإذن.. وإن كان الأمر في حقه تعالى لا يحتاج إلى كن ولا غيره.
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحملون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم فلا يمكن أن يضحي الإنسان بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقيني.
وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحوا في إنكاره وبالغوا فيه، بل وأقسموا على ذلك :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت.. " ٣٨ " ﴾( سورة النحل )
وهم يعلمون أن من الخلق من يسئ، ومنهم من يحسن، فهل يعتقدون في عرف العقل أن يترك الله من أساء ليعربد في خلق الله دون أن يجازيه ؟.
ذلك يعني أنهم خائفون من البعث، فلو أنهم كانوا محسنين لتمنوا البعث، أما وقد أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يشفقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء، فمن الطبيعي أن ينكروا البعث، ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالأماني الكاذبة، ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمر لا يحاسبون عليه.
وإذا كانوا قد أنكروا البعث، ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيماناً يصل إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا الإيمان.. إذن : لابد من وجود معركة شرسة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، معركة بين الحق والباطل.
ومن حكمة الله أن ينشر الإسلام في بدايته بين الضعفاء، حتى لا يظن ظان أن المؤمنين فرضوا إيمانهم بالقوة، لا.. هؤلاء هم الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والكفار هم السادة.. إذن : جاء الإسلام ليعاند الكبار الصناديد العتاة.
وكان من الممكن أن ينصر الله هؤلاء الضعفاء ويعلي كلمة الدين من البداية، ولكن أراد الحق تبارك وتعالى أن تكون الصيحة الإيمانية في مكة أولاً ؛ لأن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان، ولا تقوى أي قبيلة في الجزيرة أن تعارضها، ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت الله الحرام وخدمتهم للوافدين إليه.
فلو أن الإسلام اختار بقعة غير مكة لقالوا : إن الإسلام استضعف جماعة من الناس، وأغراهم بالقول حتى آمنوا به. لا، فالصيحة الإسلامية جاءت في أذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين أمنهم الله في رحلة الشتاء والصيف، وهم أصحاب القوة وأصحاب المال.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم ينصر الله دينه في بلد السادة ؟ نقول : لا.. الصيحة في أذن الباطل تكون في بلد السادة في مكة، لكن نصرة الدين لا تأتي على يد هؤلاء السادة، وإنما تأتي في المدينة.
وهذا من حكمة الله تعالى حتى لا يقول قائل فيما بعد : إن العصبية لمحمد في مكة فرضت الإيمان بمحمد.. لا بل يريد أن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد، فجاء له بعصبية بعيدة عن قريش، وبعد ذلك دانت لها قريش نفسها.
ومادامت هناك معركة، فمن المطحون فيها ؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه.. وهؤلاء هم الذين ظلموا.. ظلموا في المكان الذي يعيشون فيه ؛ ولذلك كان ولابد أن يرفع الله عنهم هذا الظلم.
وقد جاء رفع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل.. فكانت المرحلة الأولى أن ينتقل المستضعفون من مكة، لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نشر دينهم، بل إلى دار أمن فقط يأمنون فيها على دينهم.. مجرد أمن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين.
ولذلك استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلها لينظر أي الأماكن تصلح دار أمن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد، فلم يجد إلا الحبشة ؛ ولذلك قال عنها : " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ".
وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون، ففي هذه المرحلة من نصرة الدين لا نريد أكثر من ذلك، وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة.
ثم يسر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على النصرة والتأييد، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومهدوا للهجرة الثانية إلى المدينة، وهي هجرة هذه المرة إلى دار أمن وإيمان، يأمن فيها المسلمون على دينهم، ويجدون الفرصة لنشره في ربوع المعمورة.
ونقف هنا عند قوله تعالى :﴿ والذين هاجروا.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل ).
ومادة هذا الفعل : هجر.. وهناك فرق بين هجر وبين هاجر : هجر : أن يكره الإنسان الإقامة في مكان، فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خير منه، إنما المكان نفسه لم يكرهه على الهجرة.. أي المعنى : ترك المكان مختاراً.
أما هاجر : وهي تدل على المفاعلة من الجانبين، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان، ولكن المفاعلة التي حدثت من القوم هي التي اضطرته للهجرة.. وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة ؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلا بعد أن تعرضوا للاضطهاد والظلم، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا.
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى :﴿ من بعد ما ظلموا.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )
وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي :
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هموا
يعني : إذا كنت في جماعة وأردت الرحيل عنهم، وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما ييسر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا، وتركوك ترحل مع مقدرتهم، فالراحلون في الحقيقة هم، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة.
كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة ؛ لأنه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء مكة وفيها البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم الإقامة في جواره.
إذن : لم يترك المهاجرون مكة، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه، وطبيعي إذن أن يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة. ثم إن الحق تبارك وتعالى قال :﴿ هاجروا في الله.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل ).
ونلاحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الآية :
" فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فما الفرق هنا بين : هاجر في الله، وهاجر إلى الله ؟.
هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه، وكأن الذي هاجر منه ليس مناسباً له.
أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله.. إقامتهم نفسها في مكة وتحملهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله.
أما لو قالت الآية " هاجروا إلى الله " لدل ذلك على أن إقامتهم الأولى لم تكن لله.. إذن : معنى الآية :
﴿ هاجروا في الله.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )أي : أن إقامتهم كانت الله، وهجرتهم كانت لله. ومثل هذا قوله تعالى :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.. " ١٣٣ " ﴾( سورة آل عمران )أي : إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة، وفي الآية الأخرى :﴿ يسارعون في الخيرات.. " ٦١ " ﴾( سورة المؤمنون )ذلك لأنهم كانوا في خير سابق، وسوف يسارعون إلى خير آخر.. أي : أنتم في خير ولكن سارعوا إلى خير منه. وهناك ملمح آخر في قوله تعالى :﴿ والذين هاجروا.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )
نلاحظ أن كلمة " الذين " جمع.. لكن هل هي خاصة بمن نزلت فيهم الآية ؟ أم هي عامة في كل من ظلم في أي مكان في الله ثم هاجر منه ؟.
الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي عامة في كل من انطبقت عليه هذه الظروف، فإن كانت هذه الآية نزلت في نفر من الصحابة منهم : صهيب، وعمار، وخباب، وبلال، إلا أنها تنتظم غيرهم ممن اضطروا إلى الهجرة فراراً بدينهم.
ونعلم قصة صهيب رضي الله عنه وكان رجلاً حداداً لما أراد أن يهاجر بدينه، عرض الأمر على قريش : والله أنا رجل كبير السن، إن كنت معكم فلن أنفعكم، وإن كنت مع المسلمين فلن أضايقكم، وعندي مال.. خذوه واتركوني أهاجر، فرضوا بذلك، وأخذوا مال صهيب وتركوه لهجرته.
ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم : " ربح البيع يا صهيب " أي : بيعة رابحة. ويقول له عمر رضي الله عنه : " نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه ".
وكأن عدم عصيانه ليس خوفاً من العقاب، بل حباً في الله تعالى، فهو سبحانه لا يستحق أن يعصى. ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ لنبوئنهم في الدنيا حسنة.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )نبوئ، مثل قوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت.. " ٢٦ " ﴾( سورة الحج )أي : بينا له مكانه، ونقول : باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه، فالإنسان يخرج للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة، ثم يأوي ويبوء إلى بيته، إذن : باء بمعنى رجع، أو هو مسكن الإنسان، وما أعده الله له.
فإن كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونحلهم وننزلهم منزلة احسن من التي كانوا فيها، فقد كانوا مضطهدين في مكة، فأصبحوا آمنين في المدينة، وإن كانوا تركوا بلدهم فسوف نمهد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله، ويجنون خير الدنيا كلها، ثم بعد ذلك نرجعهم إلى بلدهم سادة أعزة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام.. هذه هي الحسنة في الدنيا.
ثم يقول تعالى :﴿ ولأجر الآخرة أكبر.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجلات للعمل، ولكن حسنات الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إما أن تفارقها، وإما أن تفارقك، وقد أنجز الله وعده للمؤمنين في الدنيا، فعادوا منتصرين إلى مكة، بل دانت لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله، وانساحوا في الشرق في فارس، وفي الغرب في الرومان، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع.
وإن كانت هذه هي حسنة الدنيا المعجلة، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة :
﴿ ولأجر الآخرة أكبر.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )أي : أن ما أعد لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا. ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له : " بارك الله لك فيه.. هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة اكبر من هذا ". فهذه حسنة الدنيا.
﴿ ولأجر الآخرة أكبر.. " ٤١ " ﴾( سورة النحل )وساعة أن تسمع كلمة ( اكبر )فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها ( كبير )فتكون حسنة الدنيا التي بوأهم الله إياها هي ( الكبيرة )، لكن ما ينتظرهم في الآخرة ( أكبر ).
وكذلك قد تكون صيغة افعل التفضيل أقل في المدح من غير افعل التفضيل.. فمن أسماء الله الحسنى ( الكبير )في حين أن الأكبر صفة من صفاته تعالى، وليس اسماً من أسمائه، وفي شعار ندائنا لله نقول : الله اكبر ولا نقول : الله كبير.. ذلك لأن كبير ما عداه يكون صغيراً.. إنما اكبر، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان : الله اكبر لأن أمور الدنيا في حق المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة.
فإياك أن تظن أن حركة الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة، بل هي كبيرة بما فيها من وسائل تعينك على طاعة الله، فبها تأكل وتشرب وتتقوى، وبها تجمع المال لتسد به حاجتك، وتؤدي الزكاة إلى غير ذلك، ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة، وكانت الصل
الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحاً لحال المهاجرين، فقد ظلموا واضطهدوا وأوذوا في سبيل الله، ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم، بل صبروا وتحملوا، بل خرجوا من أموالهم وأولادهم، وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم، حدث هذا منهم اتكالاً على أن الله تعالى لن يضيعهم.
ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا ( صبروا )بصيغة الماضي، فقد حدث منهم الصبر فعلاً، كأن الإيذاء الذي صبروا عليه فترة مضت وانتهت، والباقي لهم عزة ومنعة وقوة لا يستطيع أحد أن يضطهدهم بعد ذلك، وهذه من البشارات في الأداء القرآني.
أما في التوكل، فقال تعالى في حقهم :
﴿ وعلى ربهم يتوكلون " ٤٢ " ﴾( سورة النحل )بصيغة المضارع ؛ لأن التوكل على الله حدث منهم في الماضي، ومستمرون فيه في الحاضر والمستقبل، وهكذا يكون حال المؤمن. وبعد ذلك تكلم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضاً موقف العناد والمكابرة والتكذيب، وهي مسألة إرسال الرسل.
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشراً. وقالوا : إذا أراد الله أن يرسل رسولاً فينبغي أن يكون ملكاً فقالوا :﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكةً.. " ٢٤ " ﴾( سورة المؤمنون )وكأنهم استقلوا الرسالة عن طريق بشر ؛ وهذا أيضاً من غباء الكفر وحماقة الكافرين ؛ لأن الرسول حين يبلغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان : مسئولية البلاغ بالعلم، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك.. فيأمر بالصلاة ويصلي، وبالزكاة ويزكي، وبالصبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسلوك العملي النموذجي.
ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان خلقه القرآن ".
وكان قرآناً يمشي على الأرض، والمعنى : كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى. ويقول تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.. " ٢١ " ﴾( سورة الأحزاب ).
فكيف نتصور أن يكون الرسول ملكاً ؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر ؟ قد يؤدي الملك مهمة البلاغ، ولكن كيف يؤدي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي ؟ كيف ونحن نعلم أن الملائكة خلق جبلوا على طاعة الله :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " ٦ " ﴾( سورة التحريم )ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ؟ فلو جاء ملك برسالة السماء، وأراد أن ينهي قومه عن إحدى المعاصي، ماذا نتوقع ؟ نتوقع أن يقول قائلهم : لا.. لا أستطيع ذلك، فأنت ملك ذو طبيعة علوية تستطيع ترك هذا الفعل، أما أنا فلا أستطيع.
إذن : طبيعة الأسوة تقتضي أن يكون الرسول بشراً، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين. ومن هنا كان من امتنان الله على العرب، ومن فضله عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة )فهو أولاً من أنفسكم، وهذه تعطيه المباشرة، ثم هو بشر، ومن العرب وليس من أمة أعجمية.. بل من بيئتكم، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش ؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه، تعرفون حركاته وسكناته، وقد كنتم تعترفون له بالصدق والأمانة، وتأتمنونه على كل غال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته، فكيف تكفرون به الآن وتتهمونه بالكذب ؟ !
لذلك رد عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " ٩٤ " ﴾( سورة الإسراء )فالذي صدكم عن الإيمان به كونه بشراً ! ! ثم نأخذ على هؤلاء مأخذاً آخر ؛ لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأن يأتي الرسول من الملائكة وقالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف )فهذا تردد عجيب من الكفار، وعدم ثبات على رأي.. مجرد لجاجة وإنكار، وقديماً قالوا : إن كنت كذوباً فكن ذكوراً. ويرد عليهم القرآن :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ٩٥ " ﴾( سورة الإسراء )فلو كان في الأرض ملائكة لنزلنا لهم ملكاً حتى تتحقق الأسوة. إذن : لابد في القدوة من اتحاد الجنس.. ولنضرب لذلك مثلاً هب أنك رأيت أسداً يثور ويجول في الغابة مثلاً يفترس كل ما أمامه، ولا يستطيع أحد أن يتعرض له.. هل تفكر ساعتها أن تصير أسداً ؟ لا.. إنما لو رأيت فارساً يمسك بسيفه، ويطيح به رقاب الأعداء.. ألا تحب أن تكون فارساً ؟ بلى أحب.
فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة، فإذا ما اختلف الجنس فلا تصلح القدوة. وهنا يرد الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى :
﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم.. " ٤٣ " ﴾( سورة النحل )أي : أنك يا محمد لست بدعاً في الرسل، فمن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون الماضية، وفي موكب الرسالات جميعاً.
وجاءت هنا كلمة ( رجالاً )لتفيد البشرية أولاً كجنس، ثم لتفيد النوع المذكور ثانياً ؛ ذلك لأن طبيعة الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه.. يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع.. أما المرأة فمبنية على التستر، ولا تستطيع أن تقوم بدور الأسوة للناس، ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في طبيعتها أموراً كثيرة لا تناسب دور النبوة، ولا تتمشى مع مهمة النبي، مثل انقطاعها عن الصلاة والتعبد لأنها حائض أو نفساء.
كذلك جاءت كلمة ( رجالاً )مقيدة بقوله :
﴿ نوحي إليهم.. " ٤٣ " ﴾( سورة النحل )فالرسول رجل، ولكن إياك أن تقول : هو رجل مثلي وبشر مثلي.. لا هناك ميزة أخرى أنه يوحي إليه، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٤٣ " ﴾( سورة النحل )أي : إذا غابت عنكم هذه القضية، قضية إرسال الرسل من البشر ولا أظنها تغيب لأنها عامة في الرسالات كلها. وما كانت لتخفى عليكم خصوصاً وعندكم أهل العلم بالأديان السابقة، مثل ورقة بن نوفل وغيره، وعندكم أهل السير والتاريخ، وعندكم اليهود والنصارى.. فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشرية الرسل.
فهذه قضية واضحة لا تنكر، ولا يمكن المخالفة فيها.. وماذا سيقول اليهود والنصارى ؟.. موسى وعيسى.. إذن بشر.
وقوله تعالى :
﴿ إن كنتم لا تعلمون " ٤٣ " ﴾( سورة النحل )يوحي بأنهم يعلمون، وليس لديهم شك في هذه القضية.. مثل لو قلت لمخاطبك : اسأل عن كذا إن كنت لا تعرف.. هذا يعني أنه يعرف، أما إذا كان في القضية شك فنقول : اسأل عن كذا دون أداة الشرط.. إذن : هم يعرفون، ولكنه الجدال والعناد والاستكبار عن قبول الحق.
استهل الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ بالبينات والزبر.. " ٤٤ " ﴾( سورة النحل ).
ويقول أهل اللغة : إن الجار والمجرور لابد له من متعلق فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا ؟ قالوا : يجوز أن يتعلق بالفعل ( نوحي )ويكون السياق : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم بالبينات والزبر.
وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر.. فيكون المعنى : فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر، فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور.
والبينات : هي الأمر البين الواضح الذي لا يشك فيه أحد.. وهو إما أن يكون أمارة ثبوت صدق الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذبين أن يأتوا بمثلها.. أو : هي الآيات الكونية التي تلفت الخلق إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم.
أما الزبر، فمعناها : الكتب المكتوبة.. ولا يكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة أن يضيع، وليس هنا أنفس مما يأتينا من منهج الله لينظم لنا حركة حياتنا.
ونعرف أن العرب قديماً كانوا يسألون عن كل شيء مهما كان حقيراً، فكان عندهم علم بالسهم ومن أول صانع لها، وعن القوس والرحل، ومثل هذه الأشياء البسيطة.. ألا يسألون عن آيات الله في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خلقها تدل على الخالق سبحانه وتعالى ؟.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة النحل ).
كلمة الذكر وردت كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، وأصل الذكر أن يظل الشيء على البال بحيث لا يغيب، وبذلك يكون ضده النسيان.. إذن : عندنا ذكر ونسيان.. فكلمة " ذكر " هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه.. فما هو ؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم عليه السلام أخذ العهد على كل ذرة فيه، فقال تعالى :
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ١٧٢ " ﴾( سورة الأعراف )وأخذ العهد على آدم هو عهد على جميع ذريته، ذلك لأن في كل واحد من بني آدم ذرة من أبيه آدم.. وجزءاً حياً منه نتيجة التوالد والتناسل من لدن آدم حتى قيام الساعة، ومادمنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد :( ألست بربكم ).
وكأن كلمة ( ذكر )جاءت لتذكرنا بالعهد المطمور في تكويننا، والذي ما كان لنا أن ننساه، فلما حدث النسيان اقتضى الأمر إرسال الرسل وإنزال الكتب لتذكرنا بعهد الله لنا.
﴿ ألست بربكم قالوا بلى.. " ١٧٢ " ﴾( سورة الأعراف ).
ومن هنا سمينا الكتب المنزلة ذكراً، لكن الذكر يأتي تدريجياً وعلى مراحل.. كل رسول يأتي ليذكر قومه على حسب ما لديهم من غفلة.. أما الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء للناس كافة إلى قيام الساعة، فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذكر بعده، وهو القرآن الكريم. وقد تأتي كلمة ( الذكر )بمعنى الشرف الرفعة كما في قوله تعالى للعرب :
﴿ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم.. " ١٠ " ﴾( سورة الأنبياء )
وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن، وعاشت لغتهم بالقرآن، وتبوءوا مكان الصدارة بين الأمم بالقرآن. وقد يأتي الذكر من الله للعبد، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه :
﴿ فاذكروني أذكركم.. " ١٥٢ " ﴾( سورة البقرة )والمعنى : فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد وبثوابي. وإذا أطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الكتاب الجامع لكل ما نزل على الرسل السابقين، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أن تقوم الساعة.
كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب، لكنها إذا جاءت بالتعريف ( الكتاب )انصرفت إلى القرآن الكريم، وهذا ما نسميه ( علم بالغلبة )والذكر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معجزته الخالدة في الوقت نفسه، فهو منهج ومعجزة، وقد جاء الرسل السابقون بمعجزات لحالها، وكتب لحالها، فالكتاب منفصل عن المعجزة.
فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه، لا ينفصل أحدهما عن الآخر لتظل المعجزة مساندة للمنهج إلى قيام الساعة.
وهذا هو السر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته، فقال تعالى :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾( سورة الحجر ).
أما الكتب السابقة فقد عهد إلى التابعين لكل رسول منهم بحفظ كتابه، كما قال تعالى :
﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله.. " ٤٤ " ﴾( سورة المائدة ).
ومعنى استحفظوا : أي طلب الله منهم أن يحفظوا التوراة، وهذا أمر تكليف قد يطاع وقد يعصى، والذي حدث أن اليهود عصوا وبدلوا وحرفوا في التوراة.. أما القرآن فقد تعهد الله تعالى بحفظه ولم يترك هذا لأحد ؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة.
ومن الذكر أيضاً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن، وهو الحديث الشريف، فللرسول مهمة أخرى، وهي منهجه الكلامي وحديثه الشريف الذي جاء من مشكاة القرآن مبيناً له وموضحاً له
كما قال صلى الله عليه وسلم : " ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته يحدث بالحديث عني فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وأنه ليس كذلك "
ويقول الحق سبحانه :
﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة النحل ).
إذن : جاء القرآن كتاب معجزة، وجاء كتاب منهج، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط، ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج، وإلا لطالت المسألة، وتضخم القرآن وربما بعد عن مراده.
فجاء القرآن بالأصول الثابتة، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة أن يبينه للناس، ويشرحه ويوضح ما فيه.
وقد يظن البعض أن كل ما جاءت به السنة لا يلزمنا القيام به ؛ لأنه سنة يثاب من فعلها ولا يعاقب من تركها.. نقول : لا.. لابد أن نفرق هنا بين سنية الدليل وسنية الحكم، حتى لا يلتبس الأمر على الناس.
فسنية الدليل تعني وجود فرض، إلا أن دليله ثابت من السنة.. وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض : الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه ثابتة بالسنة وهي فرض.
أما سنية الحكم : فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.. فحين يبين لنا الرسول بسلوكه وأسوته حكماً ننظر : هل هي سنية الدليل فيكون فرضاً، أم سنية الحكم فيكون سنة ؟ ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر، فإن واظب عليه والتزمه فهو فرض، وإن لم يواظب عليه فهو سنة.
إذن : مهمة الرسول ليست مجرد مناولة القرآن وإبلاغه للناس، بل وبيان ما جاء فيه من المنهج الإلهي، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان.. ولابد أن نفرق بين العطائين : العطاء القرآني، والعطاء النبوي.
ويجب أن نعلم هنا أن من الميزات التي ميز بها النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر إخوانه من الرسل، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع، فقد كان الرسل السابقون يبلغون أوامر السماء فقط وانتهت المسألة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقه :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. " ٧ " ﴾( سورة الحشر ).
إذن : أخذ ميزة التشريع، فأصبحت سنته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم.
ثم يقول تعالى :﴿ ولعلهم يتفكرون " ٤٤ " ﴾( سورة النحل )يتفكرون.. في أي شيء ؟ يتفكرون في حال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، حيث لم يؤثر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً، ولم يؤثر عنه أنه كان كاتباً متعلماً.. لم يعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف، لذلك أمرهم بالتفكر والتدبر في هذا الأمر. فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجرت هكذا مرة واحدة في الأربعين من عمره، فالعمر الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من العمر.
ولا يعقل أن تؤجل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يصرعون حوله.. فيموت أبوه وهو في بطن أمه، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً، ثم يموت جده، فمن يضمن له الحياة إلى سن الأربعين، حيث تتفجر عنده هذه العبقرية ؟ !
إذن : تفكروا، فليست هذه عبقرية من محمد، بل هي أمر من السماء ؛ ولذلك أمره ربه تبارك وتعالى أن يقول لهم :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " ١٦ " ﴾( سورة يونس )فكان عليكم أن تفكروا في هذه المسألة.. ولو فكرتم فيها كان يجب عليكم أن تتهافتوا على الإسلام، فأنتم أعلم الناس بمحمد، وما جربتم عليه لا كذباً ولا خيانة، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة، فما كان ليصدق عندكم ويكذب على الله.
ولابد أن نفرق بين العقل والفكر. فالعقل هو الأداة التي تستقبل المحسات وتميزها، وتخرج منها القضايا العامة التي ستكون هي المبادئ التي يعيش الإنسان عليها، والتي ستكون عبارة عن معلومات مختزنة، أما الفكر فهو أن تفكر في هذه الأشياء لكي تستنبط منها الحكم.
والله سبحانه وتعالى ترك لنا حرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا، لكنه ضبطنا بأمور قسرية يفسد العالم بدونها، فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه الله لنا.. والباقي الذي لا يترتب عليه ضرر يترك لنا فيه مجالاً للتفكير والتجربة ؛ لأن الفشل فيه لا يضر.
فما أراده الله حكماً قسرياً فرضه بنص صريح لا خلاف فيه، وما أراده على وجوه متعددة يتركه للاجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجهاً متعددة، ولا يؤدي الخطأ فيه إلى فساد.
فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسات وينظم القضايا، لنرى أولاً ما يريده الله بتاً وما يريده اجتهاداً، ومادام اجتهاداً فما وصل إليه المجتهد يصح أن يعبد الله به، ولكن آفة الناس في الأمور الاجتهادية أن منهم من يتهم مخالفة، وقد تصل الحال بهؤلاء إلى رمي مخالفيهم بالكفر والعياذ بالله.
ونقول لمثل هذا : اتق الله، فهذا اجتهاد من أصاب فيه فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.. ولذلك نجد من العلماء من يعرف طبيعة الأمور الاجتهادية فنراه يقول : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وهكذا يتعايش الجميع وتحترم الآراء.
ومن رحمة الله بعباده أن يأمرهم بالتفكر والتدبر والنظر ؛ ذلك لأنهم خلقه سبحانه، وهم أكرم عليه من أن يتركهم للضلال والكفر، بعد أن أكرمهم بالخلق والعقل، فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراماً آخر بالطاعة والإيمان.
وكأنه سبحانه يقول لهم : ردوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل ولجج الخصومة، وإن كنتم لا تؤمنون بالبعث في الآخرة، وبما أعد للظالمين فيها من عقاب، فانظروا إلى ما حدث لهم وما عجل لهم من عذاب في الدنيا.
انظروا للذين سبقوكم من الأمم المكذبة وما آل إليه مصيرهم أم أنتم آمنون من العذاب، بعيدون عنه ؟ !
قوله تعالى :
﴿ أفأمن.. " ٤٥ " ﴾( سورة النحل )عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها.. أما الفاء بعدها فهي حرف عطف يعطف جملة على جملة.. إذن : هنا جملة قبل الفاء تقديرها : أجهلوا ما وقع لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب، فأمنوا مكر الله ؟ أي : أن أمنهم لمكر الله ناشئ عن جهلهم بما وقع المكذبين من الأمم السابقة. ثم يقول تعالى :
﴿ مكروا السيئات.. " ٤٥ " ﴾( سورة النحل )المكر : هو التبييت الخفي للنيل ممن لا يستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به، فأنت لا تبيت لأحد إلا إذا كانت قدرتك عاجزة عن مصارحته مباشرة، فكونك تبيت له وتمكر به دليل على عجزك ؛ ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجبن ؛ لأن الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة، وعلى قدر ما يكون المكر عظيماً يكون الضعف كذلك. وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حق النساء :
﴿ إن كيدهن عظيم " ٢٨ " ﴾( سورة يوسف )
وقال في حق الشيطان :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً " ٧٦ " ﴾( سورة النساء )فالمكر دليل على الضعف، ومادام كيدهن عظيماً إذن : ضعفهن أيضاً عظيم، وكذلك في كيد الشيطان.
وقديماً قالوا : إياك أن يملكك الضعيف ؛ ذلك لأنه إذا تمكن منك وواتته الفرصة فلن يدعك تفلت منه ؛ لأنه يعلم ضعفه، ولا يضمن أن تتاح له الفرصة مرة أخرى ؛ لذلك لا يضيعها على عكس القوى، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أتيحت له الفرصة وربما فوتها لقوته وقدرته على خصمه، وتمكنه منه في أي وقت يريد، وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة*** قتلت كذلك قدرة الضعفاء
إذن : قدرة الضعفاء قد تقتل، أما قدرة القوى فليست كذلك.
ثم لنا وقفة أخرى مع المكر، من حيث إن المكر قد ينصرك على مساويك وعلى مثلك من بني الإنسان، فإذا ما تعرضت لمن هو أقوى منك وأكثر منك حيطة، وأحكم منك مكراً، فربما لا يجدي مكرك به، بل ربما غلبك هو بمكره واحتياطه، فكيف الحال إذا كان الماكر بك هو رب العالمين تبارك وتعالى ؟.
وصدق الله العظيم حيث قال :
﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ٣٠ " ﴾( سورة الأنفال )
وقال :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.. " ٤٣ " ﴾( سورة فاطر ).
فمكر العباد مكشوف عند الله، أما مكره سبحانه فلا يقدر عليه أحد، ولا يحتاط منه أحد ؛ لذلك كان الحق سبحانه خير الماكرين.
والمكر السيئ هو المكر البطال الذي لا يكون إلا في الشر، كما حدث من مكر المكذبين للرسل على مر العصور، وهو أن تكيد للغير كيداً يبطل حقاً.
وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة، دليل على أنهم لا يستطيعون مواجهته مباشرة، وقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لمراحل متعددة من الكيد والمكر والخديعة، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يوئس الكفار من الانتصار عليه صلى الله عليه وسلم، فقد بيتوا له ودبروا لقتله، وحاكوا في سبيل ذلك الخطط، وقد باءت خطتهم ليلة الهجرة بالفشل.
وفي مكيدة أخرى حاولوا أن يسحروه صلى الله عليه وسلم، ولكن كشف الله أمرهم وخيب سعيهم.. إذن : فأي وسيلة من وسائل دحض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها، ونصره الله عليكم. كما قال تعالى :
﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.. " ٢١ " ﴾( سورة المجادلة )
وقوله تعالى :﴿ أن يخسف الله بهم الأرض.. " ٤٥ " ﴾( سورة النحل )
الخسف : هو تغييب الأرض ما على ظهرها.. فانخسف الشيء أي : غاب في باطن الأرض، ومنه خسوف القمر أي : غياب ضوئه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن قارون :
﴿ فخسفنا به وبداره الأرض.. " ٨١ " ﴾( سورة القصص )
وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم :
﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا.. " ٤٠ " ﴾( سورة النحل ).
هذه ألوان من العذاب الذي حاق بالمكذبين، وكان يجب على هؤلاء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة وعظة، وأن يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم. ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " ٤٥ " ﴾( سورة النحل )
والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكر الله وللعذاب الواقع بهم، أتاهم الله من وجهة لا يشعرون بها، ولم تخطر لهم على بال، وطالما لم تخطر لهم على بال، إذن : فلم يحتاطوا لها، فيكون أخذهم يسيراً، كما قال تعالى :
﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.. " ٢ " ﴾( سورة الحشر ).
التقلب : الانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان، والانتقال من مكان الإقامة إلى مكان آخر دليل القوة والمقدرة، حيث ينتقل الإنسان من مكانه حاملاً متاعه وعتاده وجميع ما يملك ؛ لينشئ له حركة حياة جديدة في مكانه الجديد.
إذن : التقلب في الحياة مظهر من مظاهر القوة، بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة، ويحفظ ماله في رحلة تقلبه.. ولا شك أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء لا يقوم به إلا القوي.
ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ :
﴿ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين " ١٨ " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا.. " ١٩ " ﴾( سورة سبأ ).
فهؤلاء قوم جمع الله لهم ألواناً شتى من النعيم، وأمن بلادهم وأسفارهم، وجعل لهم محطات للراحة أثناء سفرهم، ولكنهم للعجب طلبوا من الله أن يباعد بين أسفارهم، كأنهم أرادوا أن يتميزوا عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال، فقالوا :
﴿ باعد بين أسفارنا.. " ١٩ " ﴾( سورة سبأ )حتى لا يقدر الضعفاء منهم على خوض هذه المسافات.
إذن : الذي ينقلب في الأرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال ظعن وقدرة على أن ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر ؛ ولذلك قالوا : المال في الغربة وطن.. ومن كان قادراً يفعل ما يريد.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ١٩٦ " ﴾( سورة آل عمران )فلا يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصيف، فالله تعالى قادر أن يأخذهم في تقلبهم. وقد يراد تقلبهم في الأفكار والمكر السيئ بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كما في قوله تعالى :
﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور.. " ٤٨ " ﴾( سورة التوبة )
فقد قعدوا يخططون ويمكرون ويدبرون للقضاء على الدعوة في مهدها. ويقول تعالى :
﴿ فما هم بمعجزين " ٤٦ " ﴾( سورة النحل ).
المعجز : هو الذي لا يمكنك من أن تغلبه، وهؤلاء لن يعجزوا الله تعالى، ولن يستطيعوا الإفلات من عذابه ؛ لأنهم مهما بيتوا فتبييتهم وكيدهم عند الله.. أما كيد الله إذا أراد أن يكيد لهم فلن يشعروا به :
﴿ ويمكرون ويمكر الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة الأنفال ).
وقال :﴿ إنهم يكيدون كيدا " ١٥ " وأكيد كيدا " ١٦ " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " ١٧ " ﴾( سورة الطارق )
فمن لا يستطيع أن يغلبك يخضع لك، ومادام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جئت به. وقد يكون العجز أمام القوى دليل قوة، كما عجز العرب أمام تحدي القرآن لهم، فكان عجزهم أمام كتاب الله دليل قوتهم في المجال الذي تحداهم القرآن فيه ؛ لأن الله تعالى حين يتحدى وحين ينازل لا ينازل الضعيف، لا بل ينازل القوي في مجال هذا التحدي.
التخوف : هو الفزع من شيء لم يحدث بعد، فيذهب فيه الخيال مذاهب شتى، ويتوقع الإنسان ألواناً متعددة من الشر، في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد.
هب أنك في انتظار حبيب تأخر عن موعد وصوله، فيذهب بك الخيال والاحتمال إلى أمور كثيرة.. يا ترى حدث كذا أو حدث كذا، وكل خيال من هذه الخيالات له أثر ولذعة في النفس، وبذلك تكثر المخاوف، أما إن انتظرت لتعرف الواقع فإن كان هناك فزع كان مرة واحدة.
ولذلك يقولون في الأمثال :( نزول البلا ولا انتظاره )ذلك لأنه إن نزل سينزل بلون واحد، أما انتظاره فيشيع في النفس ألواناً متعددة من الفزع والخوف.. إذن : التخوف أشد وأعظم من وقوع الحدث نفسه.
وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من السرايا، فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم، وبذلك يشيع الله الفزع في نفوسهم جميعاً، في حين أنها خرجت لناحية معينة.
وبعض المفسرين قال : التخوف يعني التنقص بأن ينقص الله من رقعة الكفر بدخول القبائل في الإسلام قبيلة بعد أخرى، فكل واحدة منها تنقص من رقعة الكفر.. كما جاء في قوله تعالى :
﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.. " ١٥٥ " ﴾( سورة البقرة )ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الآية :
﴿ فإن ربكم لرءوف رحيم " ٤٧ " ﴾( سورة النحل )وهل هذا التذييل مناسب للآية وما قبلها من التهديد والوعيد ؟ فالعقل يقول : إن التذييل المناسب لها : إن ربكم لشديد العقاب مثلاً.
لكن يجب هنا أن نعلم أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعاً مؤمنهم وكافرهم، فالله تعالى استدعى الجميع للدنيا، وتكفل للجميع بما يحفظ حياتهم من شمس وهواء وأرض وسماء، لم تخلق هذه الأشياء لواحد دون الآخر، وقد قال تعالى :
﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ).
وكأن في الآية لوناً من ألوان رحمته سبحانه بخلقه وحرصه سبحانه على نجاتهم ؛ لأنه ينبههم إلى ما يمكن أن يحدث لهم إذا أصروا على كفرهم، ويبصرهم بعاقبة كفرهم، والتبصرة عظة، والعظة رأفة بهم ورحمة حتى لا ينالهم هذا التهديد وهذا الوعيد.
ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن، يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ رب المشرقين ورب المغربين " ١٧ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٨ " ﴾( سورة الرحمن )
فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى :
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٨ " ﴾( سورة الرحمن )
وكذلك في قوله تعالى :
﴿ مرج البحرين يلتقيان " ١٩ " بينهما برزخ لا يبغيان " ٢٠ " ﴾( سورة الرحمن )
فهذه نعمة من نعم الله ناسبت تذييل الآية :
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٢١ " ﴾( سورة الرحمن ).
أما في قوله تعالى :
﴿ كل من عليها فان " ٢٦ " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ٢٧ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٢٨ " ﴾
( سورة الرحمن ).
فما النعمة في ( كل من عليها فإن ) ؟ هل الموت نعمة ؟ !
نعم، يكون الموت نعمة من نعم الله على عباده ؛ لأنه يقول للمحسن : سيأتي الموت لتلقي جزاء إحسانك وثواب عملك، ويقول أيضاً للكافر : انتبه واحذر.. الموت قادم، كأنه سبحانه يوقظ الكفار ويعظهم لينتهوا عما هم فيه.. أليست هذه نعمة من نعم الله ورحمة منه سبحانه بعباده ؟ وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " ٣٥ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٣٦ " ﴾( سورة الرحمن ).
فأي نعمة في :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس.. " ٣٥ " ﴾ ( سورة الرحمن )أي نعمة في هذا العذاب ؟.
نعم المتدبر لهذه الآية يجد فيها نعمة عظيمة ؛ لأن فيها تهديداً ووعيداً بالعذاب إذا استمروا على ما هم فيه من الكفر.. ففي طياتها تحذير وحرص على نجاتهم كما تتوعد ولدك : إذا أهملت دروسك ستفشل وأفعل بك كذا وكذا. وأنت ما قلت ذلك إلا لحرصك على نجاحه وفلاحه. إذن : فتذييل الآية بقوله :﴿ فإن ربكم لرءوف رحيم " ٤٧ " ﴾( سورة النحل ).
تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد، وفيها بيان لرحمة الله التي يدعو إليها كلاً من المؤمن والكافر.
قوله تعالى :
﴿ أو لم يروا.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )المعنى : أعموا ولم يروا ولم يتدبروا فيها خلق الله ؟.
﴿ من شيءٍ.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس، و( من )تفيد ابتداء ما يقال له شيء، أي : أتفه شيء موجود، وهذا يسمونه أدنى الأجناس.. وتفيد أيضاً العموم فيكون :
﴿ من شيءٍ.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )أي : كل شيء. فانظر إلى أي شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظلاً :
﴿ يتفيأ ظلاله.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )يتفيأ : من فاء أي : رجع، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس، أو عودة الشمس إلى الظل.
فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين : ظل ثابت مستمر، وظل متغير، فالظل الثابت دائماً في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس، كقاع البحار وباطن الأرض، فهذا ظل ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات.
والظل المتحرك الذي يسمى الفيء لأنه يعود من الظل إلى الشمس، أو من الشمس إلى الظل، إذن : لا يسمى الظل فيئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه. ولكن.. كيف يتكون الظل ؟ يتكون الظل إذا ما استعرض الشمس جسم كثيف يحجب شعاع الشمس، فيكون ظلاً له في الناحية المقابلة للشمس، هذا الظل له طولان وله استواء واحد.
طول عند الشروق إلى أن يبلغ المغرب، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس، فإذا ما استوت الشمس في السماء يصبح ظل الشيء في نفسه، وهذه حالة الاستواء، ثم تميل الشمس إلى الغروب، وينعكس طول الظل الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق.
ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى :
﴿ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " ٤٥ " ثم قبضناه إلينا قبضا يسيراً " ٤٦ " ﴾( سورة الفرقان ).
ذلك لأنك لو نظرت إلى الظل وكيف يمتد، وكيف ينقبض وينحسر لوجدت شيئاً عجيباً حقاً.. ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سيراً انسيابياً.
ما معنى :( انسيابي ) ؟ هو نوع من أنواع الحركة، فالحركة إما حركة انسيابية، أو حركة عن توالي سكونات بين الحركات.
وهذه الأخيرة نلاحظها في حركة عقارب الساعة، وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب الدقائق، ولا تكاد تشعر بها في عقرب الساعات.. فلو لاحظت عقرب الثواني لوجدته يسير عن طريق قفزات منتظمة، تكون حركة فسكوناً فحركة، وهكذا..
ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه، ثم ينطلق بها، وبذلك تمر عليه لحظة لم يكن متحركاً فيها، وهذا ما نسميه بالحركة القفزية.. هذه الحركة لا تستطيع رصدها في عقرب الساعات ؛ لأن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن رصدها وملاحظتها، هذه هي الحركة القفزية.
أما الحركة الانسيابية، فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة.. أي : حركة مستمرة وموزعة بانتظام على الزمن.
ونضرب لذلك مثلاً بنمو الطفل.. الطفل الوليد ينمو باستمرار، لكن أمه لملازمتها له لا تلاحظ هذا النمو ؛ لأن نظرها عليه دائماً.. فكيف تكون حركة النمو في الطفل ؟ هل حركة قفزية يتجمع فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلاً، ثم ينمو طفرة واحدة ؟
لو كان نموه هكذا للاحظنا نمو الطفل، لكنه ليس كذلك، بل ينمو بحركة انسيابية توزع الملي الواحد من النمو على طول الزمن. فلا نكاد نشعر بنموه.
وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية، بحيث توزع جزئيات الحركة على جزئيات الزمن، فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً، لا.. بل مركونة إلى أمر الله، موصولة بكن الدائمة.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلفت خلقه إلى ظاهرة كونية في الوجود محسة، يدركها كل منا في ذاته، وفيما يرى من المرائي، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظل التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته.
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وظلالهم بالغدو والآصال " ١٥ " ﴾( سورة الرعد )فالحق سبحانه يريد أن يعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله، كما قال تعالى :
﴿ وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء )
فكل ما يطلق عليه شيء فهو يسبح مهما كان صغيراً. وقوله تعالى :
﴿ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل ).
لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني، حيث أتى باليمين مفرداً، في حين أتى بالشمائل على صورة الجمع ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال :
﴿ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل ).
أتى بأقل ما يتصور من مخلوقاته سبحانه ( من شيء )وهو مفرد، ثم قال سبحانه :
﴿ ظلاله.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )بصيغة الجمع. أي : مجمع هذه الأشياء، فالإنسان لا يتفيأ ظل شيء واحد، لا.. بل ظل أشياء متعددة. و( من )هنا أفادت العموم :
﴿ من شيء.. " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )أي : كل شيء. فليناسب المفرد جاء باليمين، وليناسب الجمع جاء بالشمائل. ثم يقول تعالى :﴿ سجداً لله وهم داخرون " ٤٨ " ﴾( سورة النحل ).
فما العلاقة بين حركة الظل وبين السجود ؟.
معنى : سجداً أي : خضوعاً لله، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليل على أنه موصول بالمحرك الأعلى له، والقائل الأعلى ل " كن "، والظل آية من آياته سبحانه مسخرة له ساجدة خاضعة لقوله : كن فيكون.
وقلنا : إن هناك فرقاً بين الشيء تعده إعداداً كونياً، والشيء تعده إعداداً قدرياً.. فصانع القنبلة الزمنية يعدها لأن تنفجر في الزمن الذي يريده، وليس الأمر كذلك في إعداد الكون.
الكون أعده الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كن، وفي انتظار لهذا الأمر الإلهي باستمرار ( كن فيكون ). وهكذا.. فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً، لا.. بل مضبوطة قدرياً.
لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول : باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها، ويرتب على هذا الحكم أشياء أخرى.. نقول : لا.. ليس الأمر كذلك.. فالشمس خاضعة للإعداد القدري منضبطة به ومنتظرة ل " كن " التي يصغي لها الكون كله ؛ ولذلك يقول تعالى :
﴿ كل يومٍ هو في شأنٍ " ٢٩ " ﴾( سورة الرحمن )هكذا بينت الآية الكريمة أن كل ما يقال له " شيء " يسجد لله عز وجل، وكلمة " شيء " جاءت مفردة دالة على العموم.. وقد عرفنا السجود فيما كلفنا الله به من ركن في الصلاة، وهو منتهى الخضوع، خضوع الذات من العابد للمعبود، فنحن نخضع واقفين، ونخضع راكعين، ونخضع قاعدين، ولكن أتم الخضوع يكون بأن نسجد لله.. ولماذا كان أتم الخضوع أن نسجد لله ؟.
نقول : لأن الإنسان له ذات عامة، وفي هذا الذات سيد للذات، بحيث إذا أطلق انصرف إلى الذات، والمراد به الوجه ؛ لذلك حينما يعبر الحق تبارك وتعالى عن فناء الوجود يقول :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. " ٨٨ " ﴾( سورة القصص )
وكذلك في قوله :﴿ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " ٢٠ " ولسوف يرضى " ٢١ " ﴾( سورة الليل ).
فيطلق الوجه ويراد به الذات، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دل ذلك على خضوع الذات كلها ؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل.
كما دلت الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه، والظلال قد تكون لجمادات كالشجر مثلاً، أو بناية أو جبل، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظلها أيضاً ثابتاً لا يتحرك، أما ظل الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك، وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال ؛ لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً، وهذا مثال للخضوع الكامل.
ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله :
﴿ وظلالهم بالغدو والآصال " ١٥ " ﴾( سورة الرعد )يعني الذوات تسجد، وكذلك الظلال تسجد ؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر.. يقول : أيها الكافر ظلك ساجد وأنت جاحد..
فأجناس الكون التي يعرفها الإنسان أربعة : إما جماد، فإذا وجدت خاصية النمو كان النبات، وإذا وجدت خاصية الحركة والحس كان الحيوان، فإذا وجدت خاصية الفكر كان الإنسان، وإذا وجدت خاصية العلم الذاتي النوراني كان الملك.. هذه هي الأجناس التي نعرفها.
الحق تبارك وتعالى ينقلنا هنا نقلة من الظلال الساجدة، للجمادات الثابتة، إلى الشيء الذي يتحرك، وهو وإن كان متحركاً إلا أن ظله أيضاً على الأرض، فإذا كان الحق سبحانه قد قال :
﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض.. " ٤٩ " ﴾( سورة النحل ).
فقد فصل هذا الإجمال بقوله :
﴿ من دابةٍ والملائكة.. " ٤٩ " ﴾( سورة النحل )أي : من أقل الأشياء المتحركة وهي الدابة، إلى أعلى الأشياء وهي الملائكة.. وقد يقول قائل : وهل ما في السماوات وما في الأرض يسجد لله ؟
نقول له : نعم.. لأنك فسرت السجود فيك أنت بوضع جبهتك على الأرض، ليدل على أن الذات بعلوها ودنوها ساجدة لله خاضعة تمام الخضوع، حيث جعلت الجبهة مع القدم.
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله ؛ لأن الكافر وإن كان متمرداً على الله فيما جعل الله له فيه اختيارا، في أن يؤمن أو يكفر، في أن يطيع أو يعصي، ولكن الله أعطاه الاختيار.
نقول له : إنك قد ألفت التمرد على الله، فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرت، وطلب منك يا مؤمن أن تطيع فعصيت، إذن : فلك إلف بالتمرد على الحق.. ولكن لا تعتقد أنك خرجت من السجود والخضوع لله ؛ لأن الله يجري عليك أشياء تكرهها، ولكنها تقع عليك رغم أنفك وأنت خاضع. وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة :﴿ وهم داخرون " ٤٨ " ﴾( سورة النحل )أي : صاغرون مستذلون منقادون مع أنهم ألفوا التمرد على الحق سبحانه. وإلا فهذا الذي ألف الخروج عن مرادات الله فيما له فيه اختيار، هل يستطيع أن يتأبى على الله إذا أراد أن يمرضه، أو يفقره، أو يميته ؟.
لا، لا يستطيع، بل هو داخر صاغر في كل ما يجريه عليه من مقادير، وإن كان يأباها، وإن كان قد ألف الخروج عن مرادات الله.
إذن : ليس في كون الله شيء يستطيع الخروج عن مرادات الله ؛ لأنه ما خرج عن مرادات الله الشرعية في التكليف إلا بما أعطاه الله من اختيار، وإلا لو لم يعطه الاختيار لما استطاع التمرد، كما في المرادات الكونية التي لا اختيار فيها.
لذلك نقول للكافر الذي تمرد على الحق سبحانه : تمرد إذا أصابك مرض، وقل : لن أمرض، تمرد على الفقر وقل : لن أفتقر.. ومادمت لا تقدر وسوف تخضع راغماً فلتخضع راضياً وتكسب الأمر، وتنتهي مشكلة حياتك، وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه الحياة.
وقوله تعالى :
﴿ من دابة.. " ٤٩ " ﴾( سورة النحل )
هو كل ما يدب على الأرض، والدب على الأرض معنا الحركة والمشي.. وقوله :
﴿ والملائكة.. " ٤٩ " ﴾( سورة النحل )أي : أن الملائكة لا يقال لها دابة ؛ لأن الله جعل سعيها في الأمور بأجنحة فقال تعالى :﴿ أولى أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع.. " ١ " ﴾( سورة فاطر )وقال في آية أخرى :
﴿ وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.. " ٣٨ " ﴾( سورة الأنعام )
فخلق الله الطائر يطير بجناحيه مقابلاً للدابة التي تدب على الأرض، فاستحوذ على الأمرين : الدابة والملائكة.
و( ما )في الآية تطلق على غير العالمين وغير العاقلين ؛ ذلك لأن أغلب الأشياء الموجودة في الكون ليس لها علم أو معرفة ؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.. " ٧٢ " ﴾( سورة الأحزاب )
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ وهم لا يستكبرون " ٤٩ " ﴾( سورة النحل )أي : أن الملائكة الذين هم أعلى شيء في خلق الله لا يستكبرون ؛ لأن علوهم في الخلق من نورانية وكذا وكذا لا يعطيهم إدلالاً على خالقهم سبحانه ؛ لأن الذي أعطاهم هذا التكريم هو الله سبحانه وتعالى.
ومادام الله هو الذي أعطاهم هذا التكريم فلا يجوز الإدلال به ؛ لأن الذي يدل إنما يدل بالذاتيات غير الموهوبة، أما الشيء الموهوب من الغير فلا يجوز أن تدل به على من وهبه لك. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون.. " ١٧٢ " ﴾( سورة النساء )
فلن يمتنعوا عن عبادة الله والسجود له رغم أن الله كرمهم ورفعهم.
ما هو الخوف ؟ الخوف هو الفزع والوجل، والخوف والفزع والوجل لا يكون إلا من ترقب شيء من أعلى منك لا تقدر أنت على رفعه، ولو أمكنك رفعه لما كان هناك داعٍ للخوف منه ؛ لذلك فالأمور التي تدخل في مقدوراتك لا تخاف منها، تقول : إن حصل كذا افعل كذا.. الخ :
وإذا كان الملائكة الكرام :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " ٦ " ﴾( سورة التحريم )
فما داعي الخوف إذن ؟ نقول : إن الخوف قد يكون من تقصير حدث منك تخاف عاقبته، وقد يكون الخوف عن مهابة للمخوف وإجلاله وتعظيمه دون ذنب ودون تقصير، ولذلك نجد الشاعر العربي يقول في تبرير هذا الخوف :
أهابك إجلالاً وما بك قدرة على ولن ملء عينٍ حبيبها
إذن : مرة يأتي الخوف لتوقع أذى لتقصير منك، ومرة يأتي لمجرد المهابة والإجلال والتعظيم. وقوله تعالى :﴿ من فوقهم.. " ٥٠ " ﴾( سورة النحل ).
ما المراد بالفوقية هنا ؟ نحن نعرف أن الجهات ست : فوق، وتحت، ويمين، وشمال، وأمام، وخلف.. جهة الفوقية لتكون هي المسيطرة ؛ ولذلك حتى في بناء الحصون يشيدونها على الأماكن العالية لتتحكم بعلوها في متابعة جميع الجهات.
إذن : فالفوقية هي محل العلو، وهذه الفوقية قد تكون فوقية مكان، أو فوقية مكانة.
فالذي يقول : إنها فوقية مكان، يرى أن الله في السماء، بدليل أن الجارية التي سئلت : أين الله ؟ أشارت إلى السماء، وقالت : في السماء.
فأشارت إلى جهة العلو ؛ لأنه لا يصح أن نقول : إن الله تحت، فالله سبحانه منزه عن المكان، وما نزه عن المكان نزه عن الزمان، فالله عز وجل منزه عن أن تحيزه، لا بمكان ولا بزمان ؛ لأن المكان والزمان به خلقاً.. فمن الذي خلق الزمان والمكان ؟.
إذن : ما داما به خلقاً فهو سبحانه منزه عن الزمان والمكان.
وهم قالوا بأن الفوقية هنا فوقية حقيقة.. فوقية مكان، أي : أنه تعالى أعلى منا.. ونقول لمن يقول بهذه الفوقية : الله أعلى منا.. من أن ناحية ؟ من هذه أم من هذه ؟
إذن : الفوقية هنا فوقية مكانة، بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون الحصون يكون الحارس أعلى من المحروس.. فوقه، فهو فوقه مكاناً، إنما هل هو فوقه مكانة ؟ بالطبع لا. وقوله تعالى :﴿ ويفعلون ما يؤمرون " ٥٠ " ﴾( سورة النحل )
وهذه هي الطاعة، وهي أن تفعل ما أمرت به، وأن تجتنب ما نهيت عنه، ولكن الآية هنا ذكرت جانباً واحداً من الطاعة، وهو :
﴿ ويفعلون ما يؤمرون " ٥٠ " ﴾( سورة النحل ).
ولم تقل الآية مثلاً : ويجتنبون ما ينهون عنه، لماذا ؟.. نقول : لأن في الآية ما يسمونه بالتلازم المنطقي، والمراد بالتلازم المنطقي أن كل نهي عن شيء فيه أمر بما يقابله، فكل نهي يؤول إلى أمر بمقابله.
فقوله سبحانه :﴿ ويفعلون ما يؤمرون " ٥٠ " ﴾( سورة النحل )تستلزم منطقياً " ويجتنبون ما ينهون عنه " وكأن الآية جمعت الجانبين. والحق سبحانه وتعالى خلق الملائكة لا عمل لهم إلا أنهم هيموا في ذات الله، ومنهم ملائكة موكلون بالخلق، وهم :﴿ فالمدبرات أمراً " ٥ " ﴾( سورة النازعات )
ويقول تعالى :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )
ومنهم :﴿ وإن عليكم لحافظين " ١٠ " كراماً كاتبين " ١١ " ﴾( سورة الانفطار ).
إذن : فهناك ملائكة لها علاقة بنا، وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لآدم حينما خلقه الله، وصوره بيده، ونفخ فيه من روحه.. وكأن الله سبحانه يقول لهم : هذا هو الإنسان الذي ستكونون في خدمته، فالسجود له بأمر الله إعلان بأنهم يحفظونه من أمر الله، ويكتبون له كذا، ويعملون له كذا، ويدبرون له الأمور.. الخ.
أما الملائكة الذين لا علاقة لهم بالإنسان، ولا يدرون به، ولا يعرفون عنه شيئاً، هؤلاء المعنيون في قوله سبحانه لإبليس : أي : أستكبرت أن تسجد ؟ أم كنت من الصنف الملكي العالمي ؟.. هذا الصنف من الملائكة ليس لهم علاقة بالإنسان، وكل مهمتهم التسبيح والذكر، وهم المعنيون بقوله تعالى :
﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون " ٢٠ " ﴾( سورة الأنبياء ).
كل شيء إذن في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه، إلا ما استثنى الله فيه الإنسان بالاختيار، فالله سبحانه لم يقهر أحداً، لا الإنسان ولا الكون الذي يعيش فيه، فقد عرض الله سبحانه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. وكأنها قالت : لا نريد أن نكون مختارين، بل نريد أن نكون مسخرين، ولا دخل لنا في موضوع الأمانة والتكليف ! !
لماذا إذن يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمل هذه المسئولية ؟.
نقول : لأن هناك فرقاً بين تقبل الشيء وقت تحمله، والقدرة على الشيء وقت أدائه.. هناك فرق.. عندنا تحمل وعندنا أداء.. وقد سبق أن ضربنا مثلاً لتحمل الأمانة وقلنا : هب أن إنساناً أراد أن يودع عندك مبلغاً من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه، وأنت في هذا الوقت قادر على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمتك قوية، ونيتك صادقة. وهذا وقت تحمل الأمانة، فإذا ما جاء وقت الأداء، فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال، أو يعرض لك عارض يمنعك من الأداء أو تتغير ذمتك.
إذن : وقت الأداء شيء آخر. لذلك، فالذي يريد أن يبرئ ذمته لا يضمن وقت الأداء ويمتنع عن تحمل الأمانة ويقول لنفسه : لا، إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فلا أضمن نفسي وقت الأداء.
هذا مثال لما حدث من السماء والأرض والجبال حينما رفضت تحمل الأمانة، ذلك لأنها تقدر مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها، لذلك رفضت تحملها من بداية الأمر. وكذلك يجب أن يكون الإنسان عاقلاً عند تحمل الأمانات ؛ ولذلك يقول تعالى :
﴿ وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " ٧٢ " ﴾( سورة الأحزاب ).
ما الذي جهله الإنسان ؟ جهل تقدير حالة وقت أداء الأمانة، فظلم نفسه، ولو أنه خرج من باب الجمال كما يقولون لقال : يا رب اجعلني مثل السماء والأرض والجبال، وما تجريه علي، فأنا طوع أمرك.
ولذلك، فمن عباد الله من قبل الاختيار وتحمل التكليف، ولكنه خرج عن اختياره ومراده لمراد ربه وخالقه، فقال : يا رب أنت خلقت فينا اختياراً، ونحن به قادرون أن نفعل أو لا نفعل، ولكنا تنازلنا عن اختيارنا لاختيارك، وعن مرادنا لمرادك، ونحن طوع أمرك.. هؤلاء هم عباد الله الذين استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه وتعالى.
إذن : هناك فرق بين من يفعل اختياراً مع قدرته على ألا يفعل، وبين من يفعل بالقهر والتسخير.. فالأول مع أنه قادر ألا يفعل، فقد غلب مراد ربه في التكليف على مراد نفسه في الاختيار. ثم ينتقل الحق تبارك وتعالى إلى قمة القضايا العقدية بالنسبة للإنسان،
وقد جاء النهي في الآية نتيجة خروج الإنسان عن مراد ربه سبحانه، فالعجيب أن البشر والجن أيضاً يعني الثقلين هم المختارون في الكون كله، اختيار في أشياء وقهر في أشياء أخرى.. ومع ذلك لم يشذ من خلق الله غيرهما.
فالسماوات والأرض والجبال كان لها اختيار، وقد اختارت التسخير، وانتهت المسألة في بداية الأمر، ومع ذلك فهي مسخرة وتؤدي مهمتها لخدمة الإنسان، فالشمس لم تعترض يوماً ولم ترفض.. فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر.. وكذلك الهواء والأرض والدابة الحلوب، وكل ما في كون الله مسخر للجميع.. إذن : كل هذه الأشياء لها مهمة، وتؤدي مهمتها على أكمل وجه.
ولذلك يقول تعالى في حق هذه الأشياء :
﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب.. " ١٨ " ﴾( سورة الحج ). ﴿ وكثير من الناس.. " ١٨ " ﴾( سورة الحج )ولم يقل : والناس. ثم قال :﴿ وكثير حق عليه العذاب.. " ١٨ " ﴾( سورة الحج )هذا هو الحال في الإنسان المكرم الذي اختاره الله وترك له الاختيار.. إنما كل الأجناس مؤدية واجبها ؛ لأنها أخذت حظها من الاختيار الأول، فاختارت أن تكون مسخرة، وأن تكون مقهورة.
فالإنسان.. واحد يقول : لا إله في الوجود.. العالم خلق هكذا بطبيعته، وآخر يقول : بل هناك آلهة متعددة ؛ لأن العالم به مصالح كثيرة وأشياء لا ينهض بها إله واحد.. يعني : إله للسماء، وإله للأرض، وإله للشمس.. الخ.
إذن : هذا رأي، في العالم أشياء كثيرة بحيث لا ينهض بها في نظره إله واحد، ونقول له : أنت أخذت قدرة الإله من قدرة الفردية فيك.. لا.. خذها من قدرة من :﴿ ليس كمثله شيء.. " ١١ " ﴾( سورة الشورى )لأن القدرة الإلهية لا تعالج الأشياء كما تفعل أنت، وتحتاج إلى مجهود وعمل.. بل في حقه تعالى يتم هذا كله بكلمة كن.. كن كذا وانتهت المسألة.
ونعجب من تناقض هؤلاء، واحد يقول : الكون خلق هكذا لحاله دون إله. والآخر يقول : بل له آلهة متعددة.. نقول لهم : أنتم متناقضون، فتعالوا إلى دين الله، وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد، لا تنفي الألوهية ولا تثبت التعددية.
فإن كنت تظن أن دولاب الكون يقتضي أجهزة كثيرة لإدارته، فاعلم أن الله تعالى لا يباشر تدبير أمر الكون بعلاج.. يفعل هذه ويفعل هذه، كما يزاول البشر أعمالهم، بل يفعلها ب " كن " ؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي :
" يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون ".
فيا من تشفق على الإله الواحد أن يتعب من إدارته للكون بشتى نواحيه، ارتفع بمستوى الألوهية عن أمثال البشر ؛ لأن الله تعالى لا يباشر سلطانه علاجاً في الكون، وإنما يباشره بكلمة " كن ". إذن : إله واحد يكفي، ومادمنا سلمنا بإله واحد، فإياك أن تقول بتعدد الآلهة.. وإذا كان الحق تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين، فنفي ما هو أكثر من ذلك أولى.. واثنان أقل صور التعدد.
ومعنى ( إلهين ) أي : معبودين، فيكون لهما أوامر ونواه، والأوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة، والكون يحتاج إلى تدبير، فأي الإلهين يقوم بتدبير أمور الكون ؟ أم أنه يحتاج إلى مساعد ؟ إن كان يحتاج إلى مساعد فهذا نقص فيه، ولا يصلح أن يكون إلهاً.
وكذلك إن تخصص كل منهما في عمل ما، هذا لكذا وهذا لكذا، فقد أصبح أحدهما عاجزاً فيما يقوم به الآخر.. وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة ؟ ومعلوم أن نواحي الحياة مشتركة ومتشابكة.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ.. " ٩١ " ﴾( سورة المؤمنون )وقال :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. " ٢٢ " ﴾( سورة الأنبياء ).
فكيف الحال إذا أراد الأول شيئاً، وأراد الآخر ألا يكون هذا الشيء ؟ فإن كان الشيء كان عجزاً في الثاني، وإن لم يكن كان عجزاً في الأول.. إذن : فقوة أحدهما عجز في الآخر. ونلحظ في قوله تعالى :﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل )عظة بليغة، كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا : أريحوا أنفسكم بالتوحيد، وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون " ٢٩ " ﴾( سورة الزمر ).
يعني رجل خلص لسيد واحد، ورجل أسياده كثيرون، وهم شركاء مختلفون، فإن أرضى هذا أغضب ذاك، وإن احتاجه أحدهما تنازعه الآخر. فهو دائماً متعب مثقل، أما المملوك لسيد واحد فلا يخفى ما فيه من راحة.
ففي أمره سبحانه بتوحيده راحة لنا، وكأنه سبحانه يقول : لكم وجهة واحدة تكفيكم كل الجهات، وتضمن لكم أن الرضا واحد، وأن البغض واحد. إذن : فطلبه سبحانه راحة لنا ؛ لذلك قبل أن يطلبها منا شهد بها لذاته تعالى، فقال :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. " ١٨ " ﴾( سورة آل عمران )فلو قال معترض : كيف يشهد لذاته ؟ نقول : نعم، يشهد لذاته سبحانه ؛ لأنه لا أحد غيره.. لا أحد معه، فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي.. وكأنه سبحانه يقول : لا أحد غيري، وإن كان هناك إله غيري فليرني نفسه، وليفصح عن وجوده.
أنا الله خلقت الكون وأخذته وفعلت كذا وكذا، فإما أن أكون صادقاً فيما قلت وتنتهي المسألة، وإما أن أكون غير صادق، وهناك إله آخر هو الذي خلق.. فأين هو ؟ لماذا لا يعارضني ؟ وهذا لم يحدث ولم ينازع الله في خلقه أحد، وحين تأتي الدعوى بلا معاند ولا معارض تسلم لصاحبها.
فإن قال قائل : لعل الآلهة الأخرى لم تدر بأن أحداً قد أخذ منهم الألوهية، فإن كان الأمر كذلك فهم لا يصلحون للألوهية لعدم درايتهم، وإن دروا ولم يعارضوا فهم جبناء لا يستحقون هذه المكانة.
وبشهادته سبحانه لذاته بأنه لا إله إلا هو أقبل على خلق الخلق ؛ لأنه مادام يعرف أنه لا إله غيره، فإذا قال : " كن " فهو واثق أنه سيكون.
ولذلك ساعة يحكم الله حكماً غيبياً يقول : أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، ولكني حكمت بأنكم لا تفعلون، ومادمت حكمت بأنكم لا تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا، ولكن ما فعلتم، فهذا دليل على أنه لا إله غيري يعينكم على أن تفعلوا.
ثم شهدت الملائكة على شهادة الذات، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، كما قال تعالى :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم.. " ١٨ " ﴾( سورة آل عمران ) لنا هنا وقفة مع قوله تعالى :﴿ إلهين اثنين.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل ) فعندنا العدد، وعندنا المعدود، فإذا قلنا مثلاً : قابلت ثلاثة رجال، فكلمة " ثلاثة " دلت على العدد، وكلمة " رجال " دلت على جنس المعدود، وهكذا في جميع الأعداد ما عدا المفرد والمثنى، فلفظ كل منهما يدل على العدد والمعدود معاً.
كما لو قلت : إله. فقد دلت على الوحدة، ودلت على الجنس، وكذلك " إلهين " دلت على المثنى وعلى جنس المعدود.
ولذلك كان يكفي في الآية الكريمة أن يقول تعالى : لا تتخذوا إلهين ؛ لأنها دلت على العدد وعلى المعدود معاً، ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيداً للأمر العقدي لأهميته.
ومن أساليب العرب إذا أحبوا تأكيد الكلام أن يأتوا بعده بالمراد فيقولون : فلان قسيم وسيم، وفلان حسن بسن، وفلان شيطان ليطان، يريدون تأكيد الصفة.. وكذلك في قوله :( إلهين ) فقط تثبت الألوهية، ولتأكيد هذه القضية العقدية لأنها أهل القضايا بالنسبة للإنسان، وهي قضية القمة، فقال تعالى :﴿ إلهين اثنين.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل ).
وكذلك أيضاً في قوله :﴿ إنما هو إله واحد.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل )فجاء بقوله تعالى ( واحد ) لتأكيد وحدانية الله تعالى. وفي الآية ملحظ آخر يجب تأمله، وهو أن الكلام هنا في حالة الغيبة :
﴿ إنما هو إله واحد.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل )فكان القياس في اللغة هنا أن يقول : " فإياه فارهبون ". ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال :
﴿ فإياي فارهبون " ٥١ " ﴾( سورة النحل )وهذا وراءه حكمة، وملحظ بلاغي، فبعد أن أكد الألوهية بقوله تعالى :﴿ إنما هو إله واحد.. " ٥١ " ﴾( سورة النحل ) صح أن يجابههم بذاته ؛ لأن المسألة مادامت مسألة رهبة فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من الغائب.. وكأن السياق يقول ها هو سبحانه أمامك، وهذا أدعى للرهبة.
وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ :﴿ الحمد لله رب العالمين " ٢ " الرحمن الرحيم " ٣ " مالك يوم الدين " ٤ " ﴾
( سورة الفاتحة )ولم يقل : إياه نعبد، متابعة للغيبة، بل تحول إلى ضمير الخطاب فقال :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين " ٥ " ﴾( سورة الفاتحة )ذلك لأن العبد بعد أن استحضر صفة الجلال والعظمة أصبح أهلاً للمواجهة والخطاب المباشر مع الله عز وجل. فقوله :
﴿ فإياي فارهبون " ٥١ " ﴾( سورة النحل )بعد ما استحضر العبد عظمة ربه، وأقر له بالوحدانية وعلم أنه إله واحد، وليس إلهين. واحد يقول : نعذبه. والآخر يقول : لا.
ليس الأمر كذلك، بل إله واحد بيده أن يعذب، وبيده أن يعفو، فناسب السياق هنا أن يواجههم فيقول :
﴿ فإياي فارهبون " ٥١ " ﴾( سورة النحل ).
عندنا هنا اللام.. وقد تكون ( اللام ) للملك كما في الآية. وكما في : المال لزيد، وقد تكون للتخصيص إذا دخلت اللام على ما لا يملك، كما نقول : اللجام للفرس، والمفتاح للباب، فالفرس لا يملك اللجام، والباب لا يملك المفتاح. فهذه للتخصيص.
والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ وله ما في السماوات والأرض.. " ٥٢ " ﴾( سورة النحل )
وفي موضع آخر يقول :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض.. " ٦٨ " ﴾( سورة يونس ).
وكذلك في :﴿ يسبح له ما في السماوات والأرض.. " ٢٤ " ﴾( سورة الحشر )
ومرة يقول :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الجمعة ).
حينما تكون اللام للملكية قد يكون المملوك مختلفاً، ففي قوله :﴿ وله ما في السماوات والأرض.. " ٥٢ " ﴾( سورة النحل ).
يعني : القدر المشترك الموجود فيهما. أي : الأشياء الموجودة في السماء وفي الأرض. أما في قوله :
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض.. " ٦٨ " ﴾( سورة يونس ) أي : الأشياء الموجودة في السماء وليست في الأرض، والأشياء الموجودة في الأرض وليست في السماء، أي : المخصص للسماء والمخصص للأرض، وهذا ما يسمونه استيعاب الملكية.
ومادام سبحانه له ما في السماوات وما في الأرض، فليس لأحذ غيره ملكية مستقلة، ومادام ليس لأحد غيره ملكية مستقلة. إذن : فليس له ذاتية وجود ؛ لأن وجوده الأول موهوب له، وما به قيام وجوده موهوب له.. ولذلك يقولون : من أراد أن يعاند في الألوهية يجب أن تكون له ذاتية وجود.. وليست هذه إلا لله تعالى.
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الصغير الذي يعاند أباه، وهو ما يزال عالة عليه. فيقول له : انتظر إلى أن تكبر وتستقل بأمرك.. فإذا ما شب الولد وبلغ وبدأ في الكسب أمكن له الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن أبيه.
لذلك نقول لمن يعاند في الألوهية : أنت لا تقدر ؛ لأن وجودك هبة، وقيام وجودك هبة، كل شيء يمكن أن ينزع منك. ولذلك، فالحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى :
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى " ٦ " أن رآه استغنى " ٧ " ﴾( سورة العلق ) فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره من وجهة نظره إنما هل استغنى حقاً ؟.. لا. لم يستغن، بدليل أنه لا يستطيع أن يحتفظ بما يملك.
قوله تعالى :﴿ وله ما في السماوات والأرض.. " ٥٢ " ﴾( سورة النحل ) الذي له ما في السماوات والأرض، وبه قيام وجوده بقيوميته، فهو سبحانه يطمئنك ويقول لك : أنا قيوم يعني : قائم على أمرك.. ليس قائماً فقط.. بل قيوم بالمبالغة في الفعل، ومادام هو سبحانه القائم على أمرك إيجاداً من عدم، وإمداداً من عدم. إذن : يجب أن تكون طاعتك له سبحانه لا لغيره.
وفي الأمثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنت أنت عالة في الوجود.. وجودك من الله، وإمدادك من الله، وإبقاء مقومات حياتك من الله ؛ لذلك قال تعالى :
﴿ وله الدين واصباً.. " ٥٢ " ﴾( سورة النحل ) أي : هذه نتيجة ؛ لأن لله ما في السماوات والأرض، فله الدين واصباً، أي : له الطاعة والخضوع دائماً مستمراً، وملك الله دائم، وهو سبحانه لا يسلم ملكه لأحد، ولا تزال يد الله في ملكه.. ومادام الأمر هكذا فالحق سبحانه يسألهم :
﴿ أفغير الله تتقون " ٥٢ " ﴾( سورة النحل ) والهمزة هنا استفهام للإنكار والتوبيخ، فلا يجوز أن تتقي غير الله، لأنه حمق لا يليق بك، وقد علمت أن لله ما في السماوات وما في الأرض، وله الطاعة الدائمة والانقياد الدائم، وبه سبحانه قامت السماوات والأرض، ومنه سبحانه الإيجاد من عدم والإمداد من عدم.
إذن : فمن الحمق أن تتقي غيره، وهو أولى بالتقوى، فإن اتقيتم غيره فذلك حمق في التصرف يؤدي إلى العطب والهلاك، إن اغتررتم بأن الله تعالى أعطاكم نعماً لا تعد ولا تحصى.
ومن نعم الله أن يضمن لعباده سلامة الملكات وما حولها، فلو سلم العقل مثلاً، سلمت وصحت الأمور التي تتعلق به، فيصح النظام، وتصح التصرفات، ويصح الاقتصاد.. وهذه نعمة.
فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب، فللقالب المتعة المادية، وللقلب المتعة المعنوية.. وأهم المتع المعنوية التي تريح القالب، أن يكون للإنسان دين يوجهه.. أن يكون له رب قادر، لا يعجزه شيء، فإن ضاقت به الدنيا، وضاقت به الأسباب، فإن له رباً يلجأ إليه فيسعفه ويكيفه، وهذه هي الراحة الحقيقة.
وقد ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى سلامة القالب بما أودع في الكون من مقومات الحياة في قوله :﴿ وقدر فيها أقواتها.. " ١٠ " ﴾( سورة فصلت )أي : اطمئنوا إلى هذا الأمر، فالله سبحانه لا يريد منكم إلا أن تعملوا عقولكم المخلوقة لله لتفكروا في المادة المخلوقة لله، وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة لله في جوارحكم، وسوف تجدون كل شيء ميسراً لكم.. فالله تعالى ما أراد منكم أن توجدوا رزقاً، وإنما أراد أن تعملوا العقل، وتتفاعلوا مع معطيات الكون.
ولكن كيف يتفاعل الإنسان في الحياة ؟
هناك أشياء في الوجود خلقها الله سبحانه برحمته وفضله، فهي تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل، فأنت لا تطلب من الشمس أن تطلع عليك، ولا من الهواء أن يهب عليك.. الخ. وهناك أشياء أخرى تفعل لك إن طلبت منها، وتفاعلت معها، كالأرض إن فعلت بيدك، فحرثت وزرعت ورويت، تعطيك ما تريد.
وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس، لا يتفاضلون فيما يفعل لهم دون انفعال منهم.. لا بل ارتقاء الناس وتفاضلهم يكون بالأشياء التي تنفعل لهم إن فعلوا.. أما الأخرى فتفعل لكل الناس، فالشمس والهواء والمياه للجميع، للمؤمن وللكافر في أي مكان.
إذن : يترقى الإنسان بالأشياء التي خلقها الله له، فإذا انفعل معها انفعلت له، وإذا تكاسل وتخاذل لم تعطه شيئاً، ولا يستفيد منها بشيء.. ولذلك قد يقول قائل : الكافر عنده كذا وكذا، ويملك كذا وكذا، وهو كافر.. ويتعجب من القدر الذي أعطى هذا، وحرم المؤمن الموحد منه.
نقول له : نعم أخذ ما أخذ ؛ لأنه يشترك معك فيما يفعل لك وإن لم تطلب، ويزيد عليك أنه يعمل ويكد وينفعل مع الكون وما أعطاه الله من مقومات وطاقة، فتنفعل معه وتعطيه، في حين أنك قاعد لا همة لك.
وكذلك قد يتسامى الارتقاء في الإنسان، فيجعل الشيء الذي يفعل له دون أن يطلب منه أي : الشيء المسخر له يجعله ينفعل له، كما نرى فيما توصل إليه العلم من استخدام الطاقة الشمسية مثلاً في تسخين المياه.. هذه الطاقة مسخرة لنا دون جهد منا، ولكن ترقي الإنسان وطموحه أوصله إلى هذا الارتقاء.. وكل هذه نعم من الله.
فمن الناس من إذا أصابه الله بضر، أو نزل به بأس تضرع وصرخ ولجأ إلى الله ودعاه، وربما سالت دموعه، وأخذ يصلي ويقول : يا فلان ادع لي الله وكذا وكذا.. فإذا ما كشف الله عنه ضره، عاود الكرة من جديد ؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى :
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.. " ١٢ " ﴾( سورة يونس ).
ومن لطف الأداء القرآني هنا أن يقول :﴿ إذا فريق منكم بربهم يشركون " ٥٤ " ﴾( سورة النحل )أي : جماعة منكم، وليس كلكم، أما الباقي فيمكن أن يثبتوا على الحق، ويعتبروا بما نزل بهم فلا يعودون.. فالناس إذن مختلفون في هذه القضية : فواحد يتضرع ويلتفت إلى الله من ضر واحد أصابه، وآخر يلتفت إلى الله من ضرين، وهكذا.
وقد وجدنا في الأحداث التي مرت ببلادنا على أكابر القوم، أحداثاً عظاماً تلفتهم إلى الله، فرأينا من لا يعرف طريق المسجد يصلي، ومن لا يفكر في حج بيت الله، ويسرع إليه ويطوف به، ويبكي هناك عند الملتزم، وما ألجأهم إلى الله ولفتهم إليه سبحانه، إلا ما مرت بهم من أحداث. أليست هذه الأحداث، وهذه الأزمات والمصائب خيراً في حقهم ؟.. بلى إنها خير.
وأيضاً قد يصاب الإنسان بمرض يلم به، وربما يطول عليه، فيذهب إلى الأطباء، ويدعو الله ويلجأ إليه، ويطلب من الناس الدعاء له بالشفاء، ويعمل كذا وكذا.. فإذا ما كشف الله عنه المرض، وأذن له بالشفاء قال : أنا اخترت الطبيب الحاذق، الطبيب النافع، وعملت وعملت.. سبحان الله !
لماذا لا تترك الأمر لله، وتعفي نفسك من هذه العملية ؟ وفي قوله تعالى :
﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " ٥٤ " ﴾( سورة النحل )صمام أمن اجتماعي في الكون، يقول للناس : إياكم أن تأخذوا على غيركم، حين تقدمون إليهم جميلاً فينكرونه.. إياكم أن تكفوا عن عمل الجميل على غيركم ؛ لأن هذا الإنكار للجميل قد فعلوه مع أعلى منكم، فعلوه مع الله سبحانه، فلا يزهدك إنكارهم للجميل في فعله، بل تمسك به لتكون من أهله.
والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مثلاً لإنكار الجميل، في قصة سيدنا موسى عليه السلام :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً " ٦٩ " ﴾
( سورة الأحزاب )فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذباً وبهتاناً، فقال موسى : يا رب أسألك ألا يقال في ما ليس في.. فقال تعالى لموسى : أنا لم افعل ذلك لنفسي، فكيف أفعلها لك ؟
ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ؟.. لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ؛ ليعطينا نحن أسوة في تحمل هذا الإنكار، فقد خلق الله الخلق ورزقهم ووسعهم، ومع ذلك كفروا به، ومع ذلك، ما يزال الحق سبحانه خالقاً رازقاً واسعاً لهم.
إذن : في الآية تقنين وأمان للمجتمع، أن يتفشى فيه مرض الزهد في عمل الخير. وقول الحق سبحانه :﴿ بربهم يشركون " ٥٤ " ﴾( سورة النحل )تشمل الآية من أنكر الجميل من المؤمنين، ومن الكافرين.
أي : مستعظمين كقارون الذي قال :﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. " ٧٨ " ﴾( سورة القصص )أخذت هذا بجهدي وعملي.. ومثله من تقول له : الحمد لله الذي وفقك في الامتحان، فيقول : أنا كنت مجداً.. ذاكرت وسهرت.. نعم أنت ذاكرت، وأيضاً غيرك ذاكر وجد واجتهد، ولكن أصابه مرض ليلة الامتحان فأقعده، وربما كنت مثله. فهذه نغمة من أنكر الفضل، وتكبر على صاحب النعمة سبحانه. وقوله :﴿ ليكفروا.. " ٥٥ " ﴾( سورة النحل ) هل فعلوا ذلك ليكفروا، فتكون اللام للتعليل ؟ لا بل قالوا : اللام هنا لام العاقبة.. ومعناها أنك قد تفعل شيئاً لا لشيء، ولكن الشيء يحدث هكذا، وليس في بالك أنت.. إنما حصل هكذا. ومثال هذه اللام في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً.. " ٨ " ﴾( سورة القصص )، ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبناه ورباه، هل كان يتبناه ليكون له عدواً ؟ لا.. إنما هكذا كانت النهاية، لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مغفلين، وأن الله حال بين قلوبهم وبين ما يريدون.. إذن : المسألة ليست مرادة.. فقد أخذته وربيته في الوقت الذي تقتل فيه الأطفال.. ألم يخطر ببالك أن أحداً خاف عليه، فألقاه في البحر ؟ !
لذا يقول تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه.. " ٢٤ " ﴾( سورة الأنفال )
وكذلك أم موسى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم.. " ٧ " ﴾( سورة القصص )كيف يقبل هذا الكلام ؟ وأنى للأم أن ترمي ولدها في البحر إن خافت عليه ؟ ! كيف يتأتى ذلك ؟ ! ولكن حال الله بين أم موسى وبين قلبها، فذهب الخوف عليه، وذهب الحنان، وذهبت الرأفة، ولم تكذب الأمر الموجه إليها، واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقته.
وقوله :﴿ فتمتعوا فسوف تعلمون " ٥٥ " ﴾( سورة النحل )أي : اكفروا بما آتيناكم من النعم، وبما كشفنا عنكم من الضر، وتمتعوا في الدنيا ؛ لأنني لم أجعل الدنيا دار جزاء، إنما الجزاء في الآخرة.
وكلمة ( تمتعوا ) هنا تدل على أن الله تعالى قد يوالي نعمه حتى على من يكفر بنعمته، وإلا فلو حجب عنهم نعمه فلن يكون هناك تمتع. ويقول تعالى :﴿ فسوف تعلمون " ٥٥ " ﴾( سورة النحل )، أي : سوف ترون نتيجة أعمالكم، ففيها تهديد ووعيد.
أي : الذين يكفرون بالله ويتخذون الأصنام والشركاء، يجعلون لها نصيباً. وقول الحق سبحانه :
﴿ لا يعلمون.. " ٥٦ " ﴾( سورة النحل ).
ما العلم ؟ :
العلم أن تعرف قضية، هذه القضية صدق، أي : مطابقة للواقع وتستطيع أن تدلل عليها، فإذا اختل واحد منها لم تكن علماً.. وهؤلاء حينما جعلوا للأصنام نصيباً، فقد أتوا بأشياء لا وجود لها في الواقع، ولا في العلم، وليست حقائق.. وهل للأصنام وجود ؟ وهل عليها دليل ؟
قال تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطانٍ.. " ٢٣ " ﴾( سورة النجم )، هذه الأصنام ليست لها وجود في الحقيقة، وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " ١٣٦ " ﴾( سورة الأنعام ).
حتى لما جعلوا للأصنام نصيباً، جعلوه مما رزقهم الله، ألا جعلتم نصيب الأصنام مما تعطيكم الأصنام ؟ ونصيب الله مما رزقكم الله ؟ فهذا اعتراف منكم بعجز أصنامكم، وأنكم أخذتم رزق الله، وجعلتموه لأصنامكم.
وهذا دليل على أن الأصنام لا تعطيكم شيئاً، وشهادة منكم عليهم.. وهل درت الأصنام بهذا ؟ إذن :﴿ لما لا يعلمون.. " ٥٦ " ﴾( سورة النحل ) أي : للأصنام ؛ لأنها لا وجود لها في الحقيقة، وهم يأخذون ما رزقناهم، ويجعلونه لأصنامهم. ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ تالله لتسألن عما كنتم تفترون " ٥٦ " ﴾( سورة النحل ).
التاء هنا في ( تالله )للقسم، أي : والله لتسألن عما افتريتم من أمر الأصنام. والافتراء : هو الكذب المتعمد.
ساعة أن تسمع كلمة ( سبحانه )، فاعلم أنها تنزيه لله تعالى عما لا يليق، فهي هنا تنزيه لله سبحانه وتعالى عما سبق من نسبة البنات له.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.. أي : تنزيهاً لله عن أن يكون له بنات.
فهل يمكن أن يكون له أولاد ذكور ؟. إنهم جعلوا لله البنات، وجعلوا لأنفسهم الذكور، وهذه قسمة قال عنها القرآن الكريم :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى " ٢١ " تلك إذا قسمة ضيزى " ٢٢ " ﴾( سورة النجم )أي : جائرة. لم تجعلوها عادلة، يعني لي ولد ولكم ولد، ولي بنت ولكم بنت، إنما تجعلون لله ما تكرهون وهي البنات لله، وتجعلون لكم ما تحبون.. لذلك كان في جعلهم لله البنات عيبان :
الأول : أنهم نسبوا لله الولد ولو كان ذكراً فهو افتراء باطل يتنزه الله عنه.
الثاني : أنهم اختاروا أخس الأنواع في نظرهم.. ولا يستطيع أحد أن يقول : إن البنات أخس الأنواع.. لماذا ؟ لأن بالبنات يكون بقاء النوع ؛ ولذلك قال العباس : لو سمع الله ما قال الناس في الناس لما كان الناس.. أي : لو استجاب الله لرغبة الناس في أنهم لا يريدون البنات، فاستجاب ولم يعطهم.. ماذا سيحدث ؟ سينقطع النسل، فهذا مطلب غبي، فالبنت هي التي تلد الولد، وبها بقاء النوع واستمرار النسل.
وقوله تعالى :﴿ سبحانه.. " ٥٧ " ﴾( سورة النحل )، أي : تنزيهاً له أن يكون له ولد، وتنزيهاً له سبحانه أن يكون له أخس النوعين في نظرهم وعرفهم، وقد قال عنهم القرآن في الآية التالية :
﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " ٥٨ " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به.. " ٥٩ " ﴾( سورة النحل ). ولذلك فالحق تبارك وتعالى حينما يحدثنا عن الإنجاب يقول :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " ٤٩ " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.. " ٥٠ " ﴾( سورة الشورى ).
أول ما بدأ الحق سبحانه بدأ بالإناث.. ثم أعطانا هذه الصورة من الخلق : إناث، ذكور، ذكور وإناث، عقيم.. إذن : هبات الله تعالى لها أربعة أنواع، ومن هنا كان العقم أيضاً هبة من الله ؛ لحكمة أرادها سبحانه.. لكن الناس لا تأخذ العقم على أنه هبة.. لكن تأخذه على أنه نقمة وغضب.
لماذا ؟ لماذا تأخذه على أنه نقمة وبلاء ؟ فربما وهبك الولد، وجاء عاقاً، كالولد الذي جاء فتنة لأبويه، يدعوهما إلى الكفر.
ولو أن صاحب العقم رضي بما قسمه الله له من هبة العقم، واعتبره هبة، ورضي به، لرأى كل ولد في المجتمع ولده، من غير تعب في حمله وولادته وتربيته. فيرى جميع الأولاد من حوله أولاده، ويعطف الله قلوبهم إليه كأنه والدهم.. وكأن الحق تبارك وتعالى يقول له : مادمت رضيت بهبة الله لك في العقم، لأجعلن كل ولدٍ ولداً لك.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ ولهم ما يشتهون " ٥٧ " ﴾( سورة النحل )، أي : من الذكران ؛ لأن الولد عزة لأبيه ينفعه في الحرب والقتال وينفعه في المكاثرة.. الخ إنما البنت تكون عالة عليه ؛ ولذلك قال تعالى بعد هذا :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ... ﴾.
نعرف أن البشارة تكون بخير، فكان يجب عليهم، أن يستقبلوها استقبال البشارة، ولكنهم استقبلوها استقبال الناقمين الكارهين لما بشروا به، فتجد وجه الواحد منهم.
﴿ مسوداً.. " ٥٨ " ﴾( سورة النحل )، ومعنى اسوداد الوجه، انقباضه من الغيظ ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وهو كظيم.. " ٥٨ " ﴾( سورة النحل ).
الكظم، هو : كتم الشيء. ولذلك يقول تعالى في آية أخرى :
﴿ والكاظمين الغيظ.. " ١٣٤ " ﴾( سورة آل عمران ).
وهو مأخوذ من كظم القربة حين تمتلئ بالماء، ثم يكظمها، أي : يربطها، فتراها ممتلئة، كأنها ستنفجر.. هكذا الغضبان، تنتفخ عروقه، ويتوارد الدم في وجهه، ويحدث له احتقان، فهو مكظوم، ممنوع أن ينفجر.
قوله تعالى :
﴿ يتواري من القوم.. " ٥٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : يتخفى منهم مخافة أن يقال : أنجب بنتاً.
﴿ من سوء ما بشر به.. " ٥٩ " ﴾( سورة النحل ).
نلاحظ إعادة البشارة في هذه الآية أيضاً، وكأنه سبحانه وتعالى يحنن قلبه عليها، ويدعوه إلى الرفق بها.
فهو متردد لا يدري ماذا يفعل ؛ لذلك يقول تعالى :
﴿ أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب.. " ٥٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : ماذا يفعل فيما ولد له، أيحتفظ به على هونٍ أي : هوان ومذلة أم يدسه في التراب أي : يدفنها فيه حية ؟.
﴿ ألا ساء ما يحكمون " ٥٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : ساء ما يحكمون في الحالتين. حالة الإمساك على هون ومذلة، أو حالة دسها في التراب، فكلاهما إساءة. وكان بعض هؤلاء إذا ولدت له بنت كرهها، فإن أمسكها أمسكها على حال كونها ذليلة عنده، محتقرة مهانة، وهي مسكينة لا ذنب لها.
ولذلك، فإن المرأة العربية التي عاصرت هذه الأحداث، فطنت على ما لم نعرفه نحن إلا قريباً، حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل وليس إلى المرأة.. وكان أبو حمزة كثيراً ما يترك زوجته ويغضب منها، لأنها لا تلد إلا البنات.. فماذا قالت هذه المرأة العربية التي هجرها زوجها ؟ قالت :
ما لأبي حمزة لا يأتينا ***غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا*** فنحن كالأرض لغارسينا
نعطي لهم مثل الذي أعطينا
والحق سبحانه وتعالى حينما يريد توازناً في الكون، يصنع هذا التوازن من خلال مقتضيات النفس البشرية، ومن مقتضياتها أن يكون للإنسان جاه، وأن يكون له عز، لكن الإنسان يخطئ في تكوين هذا الجاه والعز، فيظن أنه قادر على صنع ما يريد بأسبابه وحدها.
إنما لو علم أن تكوين الجاه والعز بشيء فوق أسبابه هو، بشيء مخلوق لله تعالى، بقدر مخلوق لله تعالى، لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها.
ذلك لأن العزة ليست بما تنجب.. العزة هنا لله وللرسول وللمؤمنين، اعتز هنا بعصبة الإيمان، اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة، إذا أصابك فيها ضيم فزع إليك الجميع.
ولا تعتز بالأنسال والأنجال، فقد يأتي الولد عاقاً لا يسعف أبويه في شدة، ولا يعينهما في حاجة ؛ ذلك لأنك لجأت إلى عصبية الدم وعصبية الدم قد تتخلف، أما عصبية العقيدة وعصبية الإيمان والدين فلا.
ولنأخذ على ذلك مثالاً.. ما حدث بين الأنصار والمهاجرين، من تكافل وتعاون فاق كل ما يتصوره البشر، ولم يكن بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية الإيمان.. ماذا حدث بين هؤلاء الأفذاذ ؟
وجدنا أن العصبية الإيمانية جعلت الرجل يضحي بأنفس شيء يضن به على الغير.. نتصور في هذا الموقف أن يعود الأنصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين، فمن كانت عنده ركوبة أو منزلة مثلاً يقول لأخيه المهاجر : تفضل اركب هذه الركوبة، أو اجلس في هذا المنزل.. هذا كله أمر طبيعي.
أما نعيم المرأة، فقد طبع في النفس البشرية أن الإنسان لا يحب أن تتعدى نعمته فيها إلى غيره.. لكن انظر إلى الإيمان، ماذا صنع بالنفوس ؟.. فقد كان الأنصاري يقول للمهاجر : انظر لزوجاتي، أيهن أعجبتك أطلقها لتتزوجها أنت، وما حمله على ذلك ليس عصبية الدم أو عصبية الجنس، بل عصبية اليقين والإيمان.
ولذلك تنتفي جميع العصبيات في قصة نوح عليه السلام وولده الكافر، حينما ناداه نوح عليه السلام :
﴿ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين " ٤٢ " قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.. " ٤٣ " ﴾( سورة هود ).
ويتمسك نوح بولده، ويحرص كل الحرص على نجاته فيقول :
﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق.. " ٤٥ " ﴾( سورة هود )
فيأتي فصل الخطاب في هذه القضية :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين " ٤٦ " ﴾( سورة هود ).
إذن : هذا الولد ليس من أهلك ؛ لأن البنوة هنا بنوة العمل، لا بنوة الدم والنسب. صحيح أن الإنسان يحب العزة ويطلبها لنفسه، ولكن يجب أن تنظر كيف تكون العزة الحقيقية ؟ وما أسبابها ؟
خذ العزة بالله وبالرسول وبالبيئة الإيمانية، يصبح كل الأولاد أولادك ؛ لأنهم معك في يقينك بالله، وإيمانك به سبحانه.. أما أن تعتز بطريقتك أنت، فتطلب العزة في الولد الذكر، فمن يدريك أن تجد فيه العزة والعزوة والمكاثرة ؟ !.
قوله تعالى :
﴿ مثل السوء.. " ٦٠ " ﴾( سورة النحل ).
صفة السوء، أي : الصفات السيئة الخسيسة، من الكفر والجحود والنكران، ومن عمي البصيرة، وغيرها من صفات السوء.
لماذا كان للذين لا يؤمنون بالآخرة، مثل السوء ؟ لأن المعادلة التي أجروها معادلة خاطئة ؛ لأن الذي لا يؤمن بالآخرة قصر عمره.. فعمر الدنيا بالنسبة له قصير، وقد قلنا : إياك أن تقيس الدنيا بعمرها.. ولكن قس الدنيا بعمرك أنت، فعمر الدنيا، مدة بقائك أنت فيها.. إنما هي باقية من بعدك لغيرك، وليس لك أنت فيها نصيب بعد انقضاء عمرك.
إذن : عمر الدنيا، عمرك أنت فيها.. عمرك : شهر، سنة، عشر سنوات، مائة.. هذا هو عمر الدنيا الحقيقي، بالنسبة لك أنت.
ومع ذلك، فعمر الدنيا مهما طال، منته إلى زوال، فمن لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالآخرة، قد اختار الخاسرة ؛ لأنه لا يضمن أن يعيش في الدنيا حتى متوسط الأعمار.. وهب أنك عشت في الدنيا إلى متوسط الأعمار، بل إلى أرذل العمر.. وهب أنك استمتعت في دنياك بكل أنواع المعاصي، ماذا ستكون النهاية ؟ أن تفوت هذا كله إلى الموت.
قارون إذن حال هذا بمن آمن بالله وآمن بالآخرة.. نقول لمن لا يؤمن بالآخرة : دنياك مظنونة، يمكن أن تعيش فيها، أو يعاجلك الموت.. حتى من عاش إلى متوسط الأعمار، فالنهاية إلى زوال.
وما نلت من متع في دنياك، أخذتها على قدر إمكاناتك أنت. إذن : أنت أخذت صفقة محدودة غير متيقنة، وتركت صفقة غير محدودة ومتيقنة.. أليست هذه الصفقة خاسرة ؟
أما من آمن بالآخرة فقد ربحت صفقته، حيث اختار حياة ممتدة، يجد المتعة فيها على قدر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى :
﴿ مثل السوء.. " ٦٠ " ﴾( سورة النحل )، أي : الصفة شديدة السوء، ذلك لأنهم خاسرون لا محالة. وقوله تعالى :﴿ ولله المثل الأعلى.. " ٦٠ " ﴾( سورة النحل )، لله الصفة العليا، وكأن الآية تقول لك : اترك صفة السوء، وخذ الصفة الأعلى، التي تجد المتعة فيها على قدر إمكانات الحق سبحانه وتعالى.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وهو العزيز الحكيم " ٦٠ " ﴾( سورة النحل ).
﴿ العزيز ﴾، أي : الذي لا يغلب على أمره، فإذا قيل : قد يوجد من لا يغلب على أمره.. نعم ؛ لكنه سبحانه ﴿ عزيز حكيم ﴾، يستعمل القهر والغلبة بحكمة.
قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ ولو يؤاخذ الله الناس.. " ٦١ " ﴾( سورة النحل )
عندنا هنا : الأخذ والمؤاخذة.. الأخذ : هو تحصيل الشيء واحتواؤه، ويدل هذا على أن الآخذ له قدرة على المستمسك بنفسه أو بغيره، فمثلاً تستطيع حمل حصاة، لكن لا تستطيع حمل حجر كبير، وقد يكون شيئاً بسيطاً إلا أنه مربوط بغيره ومستمسك به، فيؤخذ منه قوة.
فمعنى الأخذ : أن تحتوي الشيء، واحتواؤك له معناه : أنك أقوى من تماسكه في ذاته، أو استمساك غيره به، وقد يكون الأخذ بلا ذنب.
أما المؤاخذة فتعني : هو أخذ منك، فأنت تأخذ منه.. ومنه قول أحدنا لأخيه " لا مؤاخذة "، في موقف من المواقف.. والمعنى : أنني فعلت شيئاً استحق عليه الجزاء والمؤاخذة، فأقول : لا تؤاخذني.. لم أقصد.
لذلك ؛ فالحق تبارك وتعالى يقول هنا :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس.. " ٦١ " ﴾( سورة النحل )
ولم يقل : يأخذ الناس. وفي آية أخرى قال تعالى :
﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " ١٠٢ " ﴾( سورة هود )
لماذا أخذها الله ؟ أخذها لأنها أخذت منه حقوقه في أن يكون إلهاً واحداً فأنكرتها، وحقوقه في تشريع الصالح فأنكرنها. ويبين الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم، فيقول سبحانه :﴿ بظلمهم.. " ٦١ " ﴾( سورة النحل )
أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية، يقول تعالى :
﴿ إن الشرك لظلم عظيم " ١٣ " ﴾( سورة لقمان )، فكأنهم أخذوا من الله تعالى حقه في الوحدانية، وأخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا كذاب، وأخذوا من الكتاب فقالوا : " سحر مبين ". كل هذا ظلم..
فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا، أخذوا شيئاً فأخذ الله شيئاً، لو عاملهم هذه المعاملة، ما ترك على ظهرها من دابة. لذلك نجد في آيات الدعاء :
﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. " ٢٨٦ " ﴾( سورة البقرة )، أي : أننا أخذنا منك يا رب الكثير، بما حدث منا من إسراف وتقصير وعمل على غير مقتضى أمرك، فلا تؤاخذنا بما بدر منا. فلو آخذ الله الناس بما اقترفوا من ظلم.. ﴿ ما ترك عليها من دابةٍ.. " ٦١ " ﴾( سورة النحل ).
قد يقول قائل : الله عز وجل سيؤاخذ الناس بظلمهم، فما ذنب الدابة ؟ ماذا فعلت ؟ نقول : لأن الدابة خلقت من أجلهم، وسخرت لهم، وهي من نعم الله عليهم، فليست المسألة إذن نكاية في الدابة، بل فيمن ينتفع بها، وقد يراد العموم لكل الخلق.
فإذا لم يؤاخذ الله الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا لا بل :
﴿ ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى.. " ٦١ " ﴾( سورة النحل )، هذا الأجل انقضاء دنيا، وقيام آخرة، حتى لو لم يؤمنوا بالآخرة، فإن الله تعالى يمهلهم في الدنيا، كما قال تعالى في آية أخرى :
﴿ وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك.. " ٤٧ " ﴾( سورة الطور ).
وقد يكون في هذا الأجل المسمى خير للحق، فكثير من الصحابة كانوا يدخلون المعارك، ويحبون أن يقتلوا أهل الكفر فلاناً وفلاناً، ثم لا يتمكنون من ذلك ولا يصيبونهم، فيحزنون لذلك.
ولكن أجل هؤلاء لم يأت بعد، وفي علم الله تعالى أن هؤلاء الكفار سيؤمنون، وأن إيمانهم سينفع المسلمين، وكأن القدر يدخرهم : إما أن يؤمنوا، وإما أن تؤمن ذرياتهم.
وقد آمن عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. من هؤلاء الذين نجوا كان خالد بن الوليد سيف الله المسلول.
﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ٦١ " ﴾( سورة النحل )، أي : إذا جاءت النهاية فلا تؤخر، وهذا شيء معقول، ولكن كيف : ولا يستقدمون ؟ إذا جاء الأجل كيف لا يستقدمون ؟ المسألة إذن ممتنعة مستحيلة.. كيف إذا جاء الأجل يكون قد أتى قبل ذلك ؟ هذا لا يستقيم، لكن يستقيم المعنى تماماً على أن :
﴿ ولا يستقدمون " ٦١ " ﴾( سورة النحل )، ليست من جواب إذا، بل تم الجواب عند ( ساعة )، فيكون المعنى : إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، وإذا لم يجئ لا يستقدمون. والله أعلم.
قوله تعالى :
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل ).
الأليق أن الذي يخرج لله، يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه الله، فإذا أردت أن تتصدق، تصدق بأحسن ما عندك، أو على الأقل من أوسط ما عندك.. لكن أن تتصدق بأخس الأشياء وأرذلها.. أن تتصدق مما تكرهه، كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغير، أو ملابس مهلهلة، فهذا يجعل لله ما يكره.
والحقيقة أن الناس إذا وثقوا بجزاء الله على ما يعطيه العبد، لأعطوا ربهم أفضل ما يحبون.. لماذا ؟ لأن ذلك دليل على حبك للآخرة، وأنك من أهلها، فأنت تعمرها بما تحب، أما صاحب الدنيا المحب لها فيعطي أقل ما عنده ؛ لأن الدنيا في نظره أهم من الآخرة.
وبهذا يستطيع الإنسان أن يقيس نفسه : أهو من أهل الآخرة، أم من أهل الدنيا، بما يعطي لله عزة وجل ؟
قوله تعالى :
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : مما ذكر في الآيات السابقة من قولهم :
﴿ لله البنات.. " ٥٧ " ﴾( سورة النحل )، وأن الملائكة بنات الله، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، إلى غير ذلك من أقوالهم، وجعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات ؛ لذلك :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " ٥٨ " ﴾( سورة النحل )، والمسألة هنا ليست مسألة جعل البنات لله، بل مطلق الجعل منهم مردود عليهم، فلو جعلوا لله ما يحبون من الذكران ما تقبل منهم أيضاً ؛ لأنهم جعلوا لله ما لم يجعل لنفسه.
فالذين قالوا : عزيز ابن الله. والذين قالوا : المسيح ابن الله. لا يقبل منهم ؛ لأنهم جعلوا لله سبحانه ما لم يجعله لنفسه، فهذا مرفوض، وذلك مرفوض ؛ لأننا لا نجعل لله إلا ما جعله الله لنفسه سبحانه.
فنحن نجعل لله ما نحب مما أباح الله، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.. " ٩٢ " ﴾( سورة آل عمران )، وقوله :﴿ ويطعمون الطعام على حبه.. " ٨ " ﴾( سورة الإنسان )، ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " ٨١ " ﴾( سورة الزخرف )، فلو كان له ولد لآمنت بذلك، لكن الحقيقة أنه ليس له ولد.. إذن : ليست المسألة في جعل ما يكرهون لله، بل في مطلق الجعل ؛ ذلك لأننا عبيد نتقرب إلى الله بالعبادة، والعابد يتقرب إلى المعبود بما يحب المعبود أن يتقرب به إليه، فلو جعل الله لنفسه شيئاً فهو على العين والرأس، كما في أمره أن ننفق مما نحب، ومن أجود ما نملك.
ولذلك قوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.. " ٩٢ " ﴾( سورة آل عمران )، راع حق الفقير، وضرورة أن تجعله كنفسك، لا يكن هيناً عليك فتعطيه أردأ ما عندك.. والحق تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرب إليه بالنسك، وذبح الهدى والأضاحي قال :﴿ فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " ٢٨ " ﴾( سورة الحج ) ؛ لأنك إذا علمت أنك ستأكل منها، سوف تختار أجود ما عندك. وقوله تعالى :﴿ وتصف ألسنتهم الكذب.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل ).
الكذب : قضية ينطق بها اللسان، ليس لها واقع في الوجود، أي : مخالفة للواقع المشهود به من القلب.. ولماذا يشهد عليه القلب ؟.
قالوا : لأنه قد يطابق الكلام الواقع، ونحكم عليه مع ذلك بالكذب، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " ١ " ﴾( سورة المنافقون ) بالله، أهذه القضية صدق أم لا ؟ إنها قضية صادقة.. أنت رسول الله، وقد وافق كلامهم ما يعلمه الله.. فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم ( كاذبون ) ؟
وفي أي شيء هم كاذبون ؟.
قالوا : الحقيقة أنهم صادقون في قولهم : إنك لرسول الله، ولكنهم كذبوا في شهادتهم :﴿ نشهد إنك لرسول الله.. " ١ " ﴾( سورة المنافقون ) ؛ لأنهم لا يشهدون فعلاً ؛ لأن الشهادة تحتاج أن يواطئ القلب اللسان ويسانده، وهذه الشهادة منهم من اللسان فقط لا يساندها القلب.
الإنسان عرضة لأن يقول الصدق مرة والكذب مرة، لكن هؤلاء بمجرد أن يقولوا ( نشهد )، فهم كاذبون، وهذا معنى :﴿ تصف ألسنتهم الكذب.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل ) ؛ لأنهم حينما يقولون مثلاً : العزير ابن الله، المسيح ابن الله، الملائكة بنات الله. هذه كلها قضايا باطلة، ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان.. فألسنتهم تصف الكذب.
وإن أردت أن تعرف الكذب الذي لا يطابق الواقع، فاستمع إليه فبمجرد أن يقال، تعلم أنه كذب.. مثل ما حدث مع مسيلمة الذي ادعى النبوة، مجرد أن قال : أنا نبي، قلنا : مسيلمة الكذاب.
ويقول الحق سبحانه :﴿ أن لهم الحسنى.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : أن الكذب في قولهم ( لهم الحسنى )، فهذا اغترار وتمن على الله دون حق، ومثل هذه المقولة في سورة الكهف، في قصة أصحاب الجنتين، يقول تعالى :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ٣٥ " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " ٣٦ " ﴾ ( سورة الكهف )، فهذه مقولات ثلاث كاذبة :
قوله :﴿ ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ٣٥ " ﴾( سورة الكهف )، هذه الأولى، فكم من أشياء تغيرت، ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه، والحق تبارك وتعالى يقول في آية أخرى :{ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين " ١٧ " ولا يستثنون " ١٨ " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون " ١٩ " فأصبحت كالصريم " ٢٠ " ( سورة القلم ).
الكذبة الثانية :﴿ وما أظن الساعة قائمة.. " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف )، فقد أنكر الساعة.
الكذبة الثالثة :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ).
وهذا هو الشاهد في الآية هنا، ففيها اغترار وتمن على الله دون حق، كمن ادعوا أن لهم الحسنى، وهم ليسوا أهلاً لها. وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة :﴿ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط " ٤٩ " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.. " ٥٠ " ﴾( سورة فصلت )، وهكذا الإنسان في طبعه، أنه لا يسأم من طلب الخير، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنى أعلى منها، يقنط إن مسه شر، وإن رفع الله عنه ورحمه قال : هذا لي.. أنا استحقه، وأنا جدير به.. ألا قلت : هذا فضل من الله ونعمة، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله الأماني ويقول :﴿ إن لي عنده للحسنى.. " ٥٠ " ﴾( سورة فصلت ).
ويروي أن سيدنا داود عليه السلام مع ما أعطاه الله من الملك والعظمة، أنه صعد يوماً سطح منزله، فابتلاه الله بسرب من الجراد الذهب، فحينما رآه داود، جعل يجمع منه في ثوبه، فقال له ربه : ألم أغنك يا داود ؟ قال : نعم، ولكن لا غنى لي عن فضلك.
وقوله تعالى :﴿ لا جرم أن لهم النار.. " ٦٢ " ﴾( سورة النحل )، لا جرم : أي حقاً أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب، وهذه أفعال يستحقون النار عليها. وكلمة ( لا جرم )، منها جارم، بمعنى : مجرم، فالمعنى : لا جريمة في عقاب هؤلاء ؛ لأنه لا يقال على عقوبة الجريمة أنها جريمة.. إذن : لها معنيان، لابد أن لهم النار، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم :﴿ وأنهم مفرطون " ٦٢ " ﴾( سورة النحل )، جاءت في كلمة مفرطون عدة قراءات : مفرَطون، مفرِطون، مفرطون، مفرطون. وجمعيها تلتقي في المعنى.
نحن حينما نصلي على جنازة مثلاً، إذا كان الميت مكلفاً نقول في الدعاء له : " اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.. اللهم إن كان محسناً فزده في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته ". فإن كان صغيراً غير مكلف قلنا في الدعاء له " اللهم اجعله فرطاً وذخراً ". فما معنى فرطاً هنا ؟
معناه : أن يكون الطفل فرطاً لأبويه ومقدمة لهما إلى الجنة.. يمر بين يدي والديه ويسبقهما إلى الجنة، وكأنه يقدم عليهما ليمهد لهما الطريق ليغفر الله لهما.. إذن : معنى مفرطون، أي : مقدمون. ولكن إلى النار.
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يقسم بما يشاء على ما يشاء، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، وفي الحديث الشريف : " من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت ".
والحق تبارك وتعالى هنا، يحلف بذاته سبحانه ( تالله )، مثل : والله وبالله. وقد جاء القسم لتأكيد المعنى ؛ ولذلك يقول أحد الصالحين : من أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم ؟ !
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته، أو القسم ببعض خلقه، وقد ينفي القسم وهو يقسم، كما في قوله تعالى :﴿ لا أقسم بهذا البلد " ١ " ﴾( سورة البلد ).
وقوله :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم " ٧٥ " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ٧٦ " ﴾( سورة الواقعة ).
ومعنى : لا أقسم أن هذا الأمر واضح جلي وضوحاً لا يحتاج إلى القسم، ولو كنت مقسماً لأقسمت به، بدليل قوله :﴿ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ٧٦ " ﴾( سورة الواقعة ).
إذن : الحق سبحانه يقسم بذاته ليؤكد لنا الأمر تأكيداً، وتأكيد الأمر عند الحكم في القضاء مثلاً : إما بالإقرار، وإما باليمين.. فإذا ما أقسمت له وحلفت، فقد سددت عليه منافذ التكذيب. والحق سبحانه يقول :﴿ لقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك.. " ٦٣ " ﴾( سورة النحل ) : أي : لست بدعاً في أن تكذب من قومك، فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من الله على ألسنة الرسل ؛ لأن الرسل لا يرسلهم الله إلا حينما يطم الفساد ويعم.
ومعنى إرسال الرسل إذن أنه لا حل إلا أن تتدخل السماء ؛ ذلك لأن الإنسان فيه مناعات يقينية في ذاته، وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ، وتعدل من سلوكه، فهي رادع له من نفسه.
فإذا ما تبلدت هذه النفس، وتعودت على الخطأ، قام المجتمع من حولها بهذه المهمة، فمن لا تردعه نفسه اللوامة، يردعه المجتمع من حوله.. فإذا ما فسد المجتمع أيضاً، فماذا يكون الحل ؟ الحل أن تتدخل السماء لإنقاذ هؤلاء.
إذن : تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعم الفساد المجتمع كله ؛ ولذلك فأمة محمد صلى الله عليه وسلم من شرفها عند ربها أن قال لهم : أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم، لوامون لأنفسكم، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر في غيركم ؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولاً آخر، فأنتم سوف تقومون بهذه المهمة.
لذلك قال الحق سبحانه :﴿ كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.. " ١١٠ " ﴾( سورة آل عمران ).
فقد آمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه، إما بالنفس اللوامة، وإما بالمجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة.
إذن : يأتي الرسول حينما يعم الفساد.. فما معنى الفساد ؟.. الفساد : أن توجد مصالح طائفة على حساب طائفة أخرى، فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليخلص الناس من فسادهم، كيف يقابلونه ؟ أيقابلونه بالترحاب ؟ بالطبع لا.. لابد وأن يقابلوه بالكراهية والإنكار، ويعلنوا عليه الحرب دفاعاً عن مصالحهم.
ويتبع الحق سبحانه هذا بقوله :﴿ فزين لهم الشيطان أعمالهم.. " ٦٣ " ﴾( سورة النحل ) : هنا يتدخل الشيطان، ويزين لأهل الفساد أعمالهم، ويحثهم على محاربة الرسل ؛ فهؤلاء الذين سيقضون على نفوذكم، سوف يأخذون ما في أيديكم من متع الدنيا، سوف يهزون مراكزكم، ويحطون من مكانتكم بين الناس.. هؤلاء سوف يرفعون عليكم السفلة والعبيد..
وهكذا يتمسك أهل الفساد والظلم بظلمهم، ويعضون عليه بالنواجذ، ويقفون من الرسل موقف العداء، فوطن نفسك على هذا، فلن تقابل من السادة إلا بالجحود وبالإنكار وبالمحاربة. ثم يقول تعالى :
﴿ فهو وليهم اليوم.. " ٦٣ " ﴾( سورة النحل ) : أي : في الآخرة، فما دام الشيطان تولاهم في الدنيا، وزين لهم، وأغراهم بعداء الرسل، فليتولهم الآن، وليدافع عنهم يوم القيامة.. وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى :﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " ١٦ " ﴾( سورة الحشر ).
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له : أنت أغويتنا وزينت لنا.. ماذا يقول ؟ يقول :﴿ وماكان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. " ٢٢ " ﴾ ( سورةإبراهيم ) : والسلطان هنا : إما بالحجة التي تقنع، وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد، وليس للشيطان شيء من ذلك.. لا يملك حجة يقنعك بها لتفعل، ولا يملك قوة يجبرك بها أن تفعل وأنت كاره.
وهكذا يجادلهم الشيطان ويرد عليهم دعواهم، فليس له عليكم سلطان، بل مجرد الإشارة أوقعتكم في المعصية. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله.. " ٤٨ " ﴾( سورة الأنفال ).
وقوله :﴿ ولهم عذاب أليم " ٦٣ " ﴾( سورة النحل ) : يصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مهلك، وقد وصف الله العذاب بأنه أليم، عظيم، مهين، شديد.. والعذاب شعور بالألم وإحساس به، وقد توصل العلماء إلى أن الإحساس كله في الجلد ؛ لذلك قال الحق سبحانه ليديم على هؤلاء العذاب :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " ٥٦ " ﴾( سورة النساء ) : وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها.
فالكتاب هو القرآن الكريم. وقول الحق سبحانه :﴿ لتبين لهم الذين اختلفوا فيه.. " ٦٤ " ﴾( سورة النحل )
دليل على أن أتباع الرسل السابقين نشأ بينهم خلاف، فأي خلاف هذا طالما أنهم تابعون لنبي واحد ؟ ما سببه ؟
قالوا : سبب هذا الخلاف ما يسمونه بالسلطة الزمنية.. ولتوضيح معنى السلطة الزمنية نضرب مثلاً بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً، فلما مات تنازع الخلافة أبناؤه من بعده.. كل يريدها له، وأخذ يجمع حوله مجموعة من أتباع أبيه.. فلو كانت الخلافة هذه واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلاف.
وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك، ويذكرون ما يحبون وما يرونه صواباً من وجهة نظرهم، كل هؤلاء كان لهم نفوذ بما نسميه السلطة الزمنية.
فكيف إذن يتركون محمداً صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة، ويضيع عليهم ما هم فيه من سيادة، فقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لهم. أي : يردهم إلى جادة الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وقوله تعالى :﴿ وهدى ورحمة.. " ٦٤ " ﴾( سورة النحل )، الهدى : معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة، والطريق لا يكون واضحاً إلا إذا خلا من الصعاب والعقبات، وخلا أيضاً من المخاوف، فهو طريق واضح مأمون سهل، وأيضاً يكون قصيراً يوصلك إلى غايتك من أقصر الطرق.
وضد الهدى : الضلال. وهو أن يضلك، فإن أردت طريقاً وجهك إلى غيره، ودلك على سواه، أو دلك على طريق به مخاوف وعقبات. أما الرحمة، فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء )، فكيف يكون القرآن شفاءً ؟ وكيف يكون رحمة ؟
الشفاء : إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول : طيّبوا داءكم وداووا أمراضكم بكذا وكذا، وردوا الحكم إلى الله.. هذا شفاء.
أما الرحمة : فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى، فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله فلا يعود.
ومثل هذا يحدث في عالم الطب، فقد تذهب إلى طبيب ليعالجك من داء معين.. بثور في الجلد مثلاً، فلا يهتم إلا بما يراه ظاهراً، ويصف لك ما يداوي هذه البثور.. ثم بعد ذلك تعاودك مرة أخرى.
أما الطبيب الحاذق الماهر فلا ينظر إلى الظاهر فقط، بل يبحث عن سببه في الباطن، ويحاول أن يقتلع أسباب المرض من جذورها، فلا تعاودك مرة أخرى.
ولذلك، لو نظرنا إلى قصة أيوب عليه السلام، وما ابتلاه الله به، نرى فيها مثالاً رائعاً لعلاج الظاهر والباطن معاً، فقد ابتلاه ربه ببلاء ظهر أثره على جسمه واضحاً، ولما أذن له سبحانه بالشفاء قال له :﴿ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " ٤٢ " ﴾( سورة ص ) :
( مغتسل )، أي : يغسل ويزيل ما عندك من آثار هذا البلاء.
( وشراب )، أي : شراب يشفيك من أسباب هذا البلاء فلا يعود.
وكذلك الحال في علاج المجتمع، فقد جاء القرآن الكريم وفي العالم فساد كبير، وداءات متعددة، لابد لها من منهج لشفاء هذه الداءات، ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع عودة هذه الداءات مرة أخرى.
وقوله تعالى :﴿ لقومٍ يؤمنون " ٦٤ " ﴾( سورة النحل )، أي : أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمن آمن بك وبرسالتك ؛ لأن الطبيب الذي ضربناه مثلاً هنا لا يعالج كل مريض، بل يعالج من وثق به، وذهب إليه وعرض عليه نفسه ففحصه الطبيب وعرف علته.
وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به، فيكون له هدىً ورحمة، ويترك في نفسه إشراقات نورانية تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات، في حين يسمعه آخر فلا يعي منه شيئاً، ويقول كما حكى القرآن الكريم :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا " ١٦ " ﴾( سورة محمد ).
وقال :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء.. " ٤٤ " ﴾( سورة فصلت )، ﴿ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. " ٤٤ " ﴾( سورة فصلت ). إذن : فالقرآن واحد، ولكن الاستقبال مختلف.
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينقلنا إلى آية مادية محسة لا ينكرها أحد، وهي إنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض الميتة بهذا المطر ؛ ليكون ذلك دليلاً محسوساً على قدرته تعالى، وأنه مأمون على خلقه.
وكأنه سبحانه يقول لهم : إذا كنت أنا أعطيكم كذا وكذا، وأوفر لكم الأمر المادي الذي يفيد عنايتي بكم، فإذا أنزلت لكم منهجاً ينفعكم ويصلح أحوالكم فصدقوه.
فهذا دليل مادي محس يوصلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقوله :﴿ والله أنزل من السماء ماءً.. " ٦٥ " ﴾( سورة النحل )، هذه آية كونية محسة لا ينكرها أحد. ثم يقول :﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها " ٦٥ " ﴾( سورة النحل )، موت الأرض، أي حالة كونها جدباء مقفرة لا زرع فيها ولا نبات، وهذا هو الهلاك بعينه بالنسبة لهم، فإذا ما أجدبت الأرض استشرفوا لسحابة، لغمامة، وانتظروا منها المطر الذي يحيي هذه الأرض الميتة.. يحييها بالنبات والعشب بعد أن كانت هامدة ميتة.
فلو قبض ماء السماء عن الأرض لمتم جوعاً، فخذوا من هذه الآية المحسة دليلاً على صدق الآية المعنوية، التي هي منهج الله إليكم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فكما أمنتني على الأولى، فأمني على الثانية. وقوله :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يسمعون " ٦٥ " ﴾( سورة النحل ). مع أن هذه الآية ترى بالعين ولا تسمع، قال القرآن :﴿ لقوم يسمعون " ٦٥ " ﴾( سورة النحل )... لماذا ؟
قالوا : لأن الله سبحانه أتى بهذه الآية ليلفتهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج يسمع من الرسول المبلغ لمنهج الله.
مثال ذلك أيضاً في قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون " ٧١ " ﴾( سورة القصص ) : فالضياء يرى لا يسمع.. لكنه قال :( أفلا تسمعون ) ؛ لأنه يتكلم عن الليل، ووسيلة الإدراك في الليل هي السمع.
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان.
وفي الآية السابقة أعطانا الحق تبارك وتعالى نموذجاً للجماد الذي اهتز بالمطر وأعطانا النبات، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان.
﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة.. " ٦٦ " ﴾( سورة النحل ) : والمقصود بالأنعام : الإبل والبقر والغنم والماعز، وقد ذكرت في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين " ١٤٣ " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.. " ١٤٤ " ﴾( سورة الأنعام ) : هذه هي الأنعام.
وقوله سبحانه :( لعبرة )، العبرة : الشيء الذي تعتبرون به، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، تأخذون من هذه الأشياء دليلاً على صدق منهجه سبحانه فتصدقونه.
ومن معاني العبرة : العبور والانتقال من شيء لآخر.. أي : أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر. ومنها العبرة ( الدمعة )، وهي : شيء دفين نبهت عنه وأظهرته. والمراد بالعبرة في خلق الأنعام :﴿ نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " ٦٦ " ﴾( سورة النحل ) :
مادة : سقى جاءت في القرآن مرة " سقى ". ومرة " أسقى "، وبعضهم قال : إن معناهما واحد، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنى، وإن اتفقا في المعنى العام. سقى : كما في قوله تعالى :﴿ وسقاهم ربهم شراباً طهوراً " ٢١ " ﴾( سورة الإنسان )، أي : أعطاهم ما يشربونه.. ومضارعه يسقي. ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام :﴿ فسقى لهما.. " ٢٤ " ﴾( سورة القصص ).
أما أسقى : كما في قوله تعالى :﴿ فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين " ٢٢ " ﴾
( سورة الحجر ) : فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أن يشرب.. فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه.. لا.. بل هو مخزون في الأرض لمن أراده. والمضارع من أسقى : يسقي.
إذن : هناك فرق بين الكلمتين، وإن اتفقنا في المعنى العام.. وفرق بين أن تعطي ما يستفاد منه في ساعته، مثل قوله :﴿ وسقاهم.. " ٢١ " ﴾( سورة الإنسان ).
وبين أن تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد، كما في قوله :﴿ فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه.. " ٢٢ " ﴾( سورة الحجر ).
لذلك يقولون : إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً يأكله، وقد يصنعه مؤجلاً فيعطيه ما يساعده على الكسب الدائم ؛ ليأكل هو متى يشاء من كسبه. والحق تبارك وتعالى أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف، في قصة ذي القرنين، قال تعالى :﴿ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف ) : فماداموا لا يفقهون قولاً.. فكيف تفاهم معهم ذو القرنين، وكيف قالوا :﴿ يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا " ٩٤ " ﴾( سورة الكهف ).
نقول : الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه، وكأنه احتال أن يفهمهم، وصبر عليهم حتى توصل إلى طريقة للتفاهم معهم، في حين أنه كان قادراً على تركهم والانصراف عنهم، وحجته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون.
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لم يبن هو بنفسه، بل علمهم كيف يكون البناء، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه.. فقال :﴿ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا " ٩٦ " ﴾( سورة الكهف ).
إذن : علمهم وأحسن إليهم إحساناً دائماً لا ينتهي. وقوله :﴿ مما في بطونه.. " ٦٦ " ﴾( سورة النحل ).
أي : مما في بطون الأنعام، فقد ذكر الضمير في ( بطونه )باعتبار إرادة الجنس. وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن :﴿ من بين فرث ودم لبنا خالصا.. " ٦٦ " ﴾( سورة النحل ) : والفرث في كرش الحيوان من فضلات طعامه.
فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفرث، وهو روث الأنعام وبقايا الطعام في كرشها، وهذا له رائحة كريهة، وشكل قذر منفر، ومن بين دم، والدم له لونه الأحمر، وهو أيضاً غير مستساغ ؛ ومنهما يخرج لنا الخالق سبحانه لبناً خالصاً من الشوائب نقياً سليماً من لون الدم ورائحة الفرث. ومن يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه ؟
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفاً هذا اللبن :﴿ لبنا خالصا سائغا للشاربين " ٦٦ " ﴾( سورة النحل )
أي : يسيغه شاربه ويستلذ به، ولا يغص به شاربه، بل هو مستساغ سهل الانزلاق أثناء الشرب ؛ لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسوغ وتهنأ به، ولكنه قد لا يكون مريئاً. ولذلك، فالحق سبحانه يقول :﴿ فكلوه هنيئاً مريئاً " ٤ " ﴾( سورة النساء )، هنيئاً، أي : تستلذون به، ومريئاً : أي نافعاً للجسم، يمري عليك ؛ لأنك قد تجد لذة في شيء أثناء أكله أو شربه، ثم يسبب لك متاعب فيما بعد، فهو هنيء ولكنه غير مريء.
فاللبن من نعم الله الدالة على قدرته سبحانه، وفي إخراجه من بين فرث ودم عبرة وعظة، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسي الذي نشاهده إلى المعنى القيمي في المنهج، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادر على أن يصنع لنا من المنهج ما يصلح قلوبنا.
ثمرات النخيل هي : البلح. والأعناب هو : العنب الذي نسميه الكرم. والتعبير القرآني هنا وإن امتن على عباده بالرزق الحسن، فإنه لا يمتن عليهم بأن يتخذوا من الأعناب سكراً : أي مسكراً، ولكن يعطينا الحق سبحانه هنا عبرة، فقد نزلت هذه الآيات قبل تحريم الخمر.
وكأن الآية تحمل مقدمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الآن ويمتدحونه ؛ ولذلك يقول العلماء : إن الذي يقرأ هذه الآية بفطنة المستقبل عن الله، يعلم أن لله حكماً في السكر سيأتي.
كيف توصلوا إلى أن الله تعالى حكماً سيأتي في السكر.
قالوا : لأنه قال في وصف الرزق بأنه حسن، في حين لم يصف السكر بأنه حسن، فمعنى ذلك أنه ليس حسناً ؛ ذلك لأننا نأكل ثمرات النخيل ( البلح )كما هو، وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخل منا فيما خلق الله لنا.
أما أن نغير من طبيعته حتى يصير خمراً مسكراً، فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها الله لنا لتكون رزقاً حسناً.
وكأنه سبحانه ينبه عباده، أنا لا أمتن عليكم بما حرمت، فأنا لم أحرمه بعد، فاجعلوا هذا السكر كما ترونه متعة لكم، ولكن خذوا منه عبرة أني لم أصفه بالحسن ؛ لأنه إن لم يكن حسناً فهو قبيح، فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية الأمر.
ثم يقول تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقومٍ يعقلون " ٦٧ " ﴾ ( سورة النحل ) ؛ لأن العقل يقتضي أن نوازن بين الشيئين، وأن نسأل : لماذا لم يوصف السكر بأنه حسن ؟.. أليس معناه أن الله تعالى لا يحب هذا الأمر ولا يرضاه لكم ؟
إذن : كأن في الآية نية التحريم، فإذا ما أنزل الله تحريم الخمر كان هذا تمهيداً له.
والآية هي : الأمر العجيب الذي ينبئكم الله الذي خلق لكم هذه الأشياء لسلامة مبانيكم وقوالبكم المادية، قادر ومأمون على أن يشرع لكم ما يضمن سلامة معانيكم، وقلوبكم القيمية الروحية.
النحل خلق من خلق الله، وكل خلق لله أودع الله فيه وفي غرائزه ما يقيم مصالحه، يشرح ذلك قوله تعالى :﴿ الذي خلق فسوى " ٢ " والذي قدر فهدى " ٣ " ﴾( سورة الأعلى ) :
أي : خلق هذه كذا، وهذه كذا، حسب ما يتناسب مع طبيعته ؛ ولذلك تجد ما دون الإنسان يسير على منهج لا يختلف.. فالإنسان مثلاً قد يأكل فوق طاقته، وقد يصل إلى حد التخمة، ثم بعد ذلك يشتكي مرضاً ويطلب له الدواء.
أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته، وأخذ ما يكفيه فلا يزيد عليه أبداً، وإن أجبرته على الأكل ؛ ذلك لأنه محكوم بالغريزة الميكانيكية، وليس له عقل يختار به.
وضربنا مثلاً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائماً ويأخذونه مثلاً للغباء، إذا سقته ليتخطى قناة ماء مثلاً، وجدته ينظر إليها، وكأنه يقيس المسافة بدقة.. فإذا ما وجدها في مقدوره قفزها دون تردد، وإذا وجدها فوق طاقته، وأكبر من قدرته، تراجع ولم يقدم عليها، وإن ضربته وصحت به.. فلا تستطيع أبداً إجباره على شيء فوق قدرته.
ذلك لأنه محكوم بالغريزة الآلية التي جعلها الله سبحانه فيه، على خلاف الإنسان الذي يفكر في مثل هذه الأمور ليختار منها ما يناسبه، فهذه تكون كذا، وهذه تكون كذا، فنستطيع أن نشبه هذه الغريزة في الحيوان بالعقل الإلكتروني الذي لا يعطيك إلا ما غذيته به من معلومات.. أما العقل البشري الرباني فهو قادر على التفكير والاختيار والمفاضلة بين البدائل.
يقول الحق سبحانه :﴿ وأوحى ربك إلى النحل.. " ٦٨ " ﴾( سورة النحل ).
الحق تبارك وتعالى قد يمتن على بعض عباده ويعلمهم لغة الطير والحيوان، فيستطيعون التفاهم معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلام.. والله سبحانه الذي خلقها وأبدعها يوحي إليها ما يشاء.. فما هو الوحي ؟
الوحي : إعلام من معلم أعلى لمعلم أدنى بطريق خفي لا نعلمه نحن، فلو أعلمه بطريق صريح فلا يكون وحياً.
فالوحي إذن يقتضي : موحياً : وهو الأعلى، وموحى إليه : وهو الأدنى، وموحى به : وهو المعنى المراد من الوحي.
والحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في أن يوحي ما يشاء لما يشاء من خلقه.. وقد أوحى الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى :{ إذا زلزلت الأرض زلزالها " ١ " وأخرجت الأرض أثقالها " ٢ " وقال الإنسان ما لها " ٣ " يومئذ تحدث أخبارها " ٤ " بأن ربك أوحى لها " ٥ " ( سورة الزلزلة ).
أعلمها بطريق خفي خاص بقدرة الخالق في مخلوقه. وهنا أوحى الله إلى الملائكة :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.. " ١٢ " ﴾( سورة الأنفال ).
وأوحى إلى الرسل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان.. " ١٦٣ " ﴾( سورة النساء )، وأوحى إلى المقربين من عباده :﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي.. " ١١١ " ﴾( سورة المائدة ). وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تمر بقلوبهم، وأوحى سبحانه إلى أم موسى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. " ٧ " ﴾( سورة القصص ).
هذا هو وحي الله إلى ما يشاء من خلقه : إلى الملائكة، إلى الأرض، إلى الرسل، إلى عباده المقربين، إلى أم موسى، إلى النحل.. الخ.
وقد يكون الوحي من غيره سبحانه، ويسمى وحياً أيضاً، كما في قوله تعالى :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.. " ١٢١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وقوله :﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.. " ١١٢ " ﴾( سورة الأنعام ).
لكن إذا أطلقت كلمة ( الوحي ) مطلقاً بدون تقييد، انصرفت إلى الوحي من الله إلى الرسل ؛ لذلك يقول علماء الفقه : الوحي هو إعلام الله نبيه بمنهجه، ويتركون الأنواع الأخرى : وحي الغرائز، وحي التكوين، وحي الفطرة.. الخ.
وقوله :﴿ أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون " ٦٨ " ﴾ ( سورة النحل )، كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم، ومن هؤلاء باحث تتبع المراحل التاريخية للنحل، فتوصل إلى أن النحل أول ما وجد عاش في الجبال، ثم اتخذ الشجر، وجعل فيها أعشاشه، ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر، وهي ما نعرفه الآن باسم الخلية الصناعية أو المنحل، ووجه العجب هنا أن هذا الباحث لا يعرف القرآن الكريم، ومع ذلك فقد تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق.
وكذلك توصل إلى أن أقدم أنواع العسل ما وجد في كهوف الجبال، وقد توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق حرق العسل وتحويله إلى كربون، ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصل إلى عمره.. وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل، ثم عسل الشجر، ثم عسل الخلايا والمناحل.
إذن : أوحى الله تعالى إلى النحل بطريق خفي لا نعلمه نحن، وعملية الوحي تختلف باختلاف الموحي والموحى إليه، ويمكن أن نمثل هذه العملية بالخادم الفطن الذي ينظر إليه سيده مجرد نظرة، فيفهم منها كل شيء : أهو يريد الشراب ؟ أم يريد الطعام ؟ أم يريد كذا ؟
علة كون العسل فيه شفاء للناس، أن يأكل النحل من كل الثمرات ذلك ؛ لأن تنوع الثمرات يجعل العسل غنياً بالعناصر النافعة، فإذا ما تناوله الإنسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في الجسم، فيكون فيه الشفاء بإذن الله.
ولكن الآن ماذا حدث ؟ نرى بعض الناس يقول : أكلت كثيراً من العسل، ولم أشعر له بفائدة.. نقول : لأننا تدخلنا في هذه العملية، وأفسدنا الطبيعة التي خلقها الله لنا.. فالأصل أن نترك النحل يأكل من كل الثمرات.. ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلاً، بدلاً من الزهر والنوار الطبيعي، ولذلك تغير طعم العسل، ولم تعد له ميزته التي ذكرها القرآن الكريم.
لذلك ؛ فالمتتبع لأسعار عسل النحل يجد تفاوتاً واضحاً في سعره بين نوع وآخر، ذلك حسب جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم. والحق سبحانه يقول :﴿ فاسلكي سبل ربك ذللا.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل ) : أي : تنقلي حرة بين الأزهار هنا وهناك ؛ ولذلك لا نستطيع أن نبني للنحل بيوتاً يقيم فيها، لابد له من التنقل من بستان لآخر، فإذا ما جفت الزراعات يتغذى النحل من عسله، ولكن الناس الآن يأخذون العسل كله لا يتركون له شيئاً، ويضعون مكانه السكر ليتغذى منه طوال هذه الفترة.
وقوله تعالى :﴿ ذللا.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل ) : أي : مذللة ممهدة طيعة، فتخرج النحل تسعى في هذه السبل، فلا يردها شيء، ولا يمنعها مانع، تطير هنا وهناك من زهرة لأخرى، وهل رأيت شجرة مثلاً ردت نحلة ؟ !.. لا.. قد ذلل الله لها حياتها ويسرها.
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أن ذلل لنا سبل الحياة.. وذلل لنا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها.. فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير، ويتحكم فيه ينيخه، ويحمله الأثقال، ويسير به كما أراد، في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحد التحكم فيه.. وما تحكم فيه الصبي الصغير بقوته، ولكن بتذليل الله له.
أما الثعبان مثلاً فهو على صغر حجمه يمثل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون الاقتراب منه، ذلك لأن الله سبحانه لم يذلله لنا، فأفزعنا على صغر حجمه.. كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً.. كم هو صغير حقير، ومع ذلك يقض مضاجعنا، ويحرمنا لذة النوم في هدوء.. فهل يستطيع أحد أن يذلل له البرغوث ؟ !
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا : إذا ذللت لكم شيئاً، ولو كان أكبر المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به، وإن لم أذلله لكم فلا قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً.. إذن : الأمور ليست بقدرتك، ولكن خذها كما خلقها الله لك.
﴿ يخرج من بطونها.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل ) : ذلك أن النحلة تمتص الرحيق من هنا ومن هنا، ثم تتم في بطنها عملية طهي ربانية تجعل من هذا الرحيق شهداً مصفى ؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق، ثم تتقيؤه كما هو.. فلم يقل القرآن : من أفواهها، بل قال : من بطونها.. هذا المعمل الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس.
﴿ شراب مختلف ألوانه.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل ) : مادام النحل يأكل من كل الثمرات، والثمرات لها عطاءات مختلفة باختلاف مادتها، واختلاف ألوانها، واختلاف طعومها وروائحها.. إذن : لابد أن يكون شراباً مختلفاً ألوانه.
﴿ فيه شفاء للناس.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل ) ؛ لذلك وجدنا كثيراً من الأطباء، جزاهم الله خيراً يهتمون بعسل النحل، ويجرون عليه كثيراً من التجارب لمعرفة قيمته الطبية، لكن يعوق هذه الجهود أنهم لا يجدون العسل الطبيعي كما خلقه الله.
ومع ذلك ومع تدخل الإنسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة، وبقيت فيه صفة الشفاء، وأهمها امتصاص المائية من الجسم، وأي ميكروب تريد أن تقضي عليه قم بامتصاص المائية منه يموت فوراً.
فإذا ما توفر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه الله، تجلت حكمة خالقه فيه بالشفاء، ولكنه إذا تدخل الإنسان في هذه العملية أفسدها.. فالكون كله الذي لا دخل للإنسان فيه يسير سيراً مستقيماً لا يتخلف، كالشمس والقمر والكواكب.. الخ، إلا الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج الله.
فالشيء الذي لك دخل فيه، إما أن تتدخل فيه بمنهج خالقه أو تتركه ؛ لأنك إذا تدخلت فيه بمنهج خالقه يعطيك السلامة والخير، وإن تدخلت فيه بمنهجك أنت أفسدته. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " ١١ " ﴾( سورة البقرة )، إنهم لا يعرفون.. لا يفرقون بين الفساد والصلاح. وفي القرآن أمثلة للناس الذين يفسدون في الأرض ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يقول تعالى :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " ١٠٣ " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " ١٠٤ " ﴾( سورة الكهف ).
فالذي اخترع السيارة، وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتلوث البيئة التي خلقها الله.. صحيح وفر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقل، ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من عطب بسبب هذه الآلات.. انظر إلى عوادم السيارات، وآثارها على صحة الإنسان.
كان يجب على مخترع هذه الآلات أن يوازن بين ما تؤديه من منفعة وما تسببه من ضرر، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مروعة تزهق بسببها الأرواح.. وبالله هل رأيت أن تصادم جملان في يوم من الأيام.. فلابد إذن أن نقيس المنافع والأضرار قبل أن نقدم على الشيء، حتى لا نفسد الطبيعة التي خلقها الله لنا.
وقوله تعالى :﴿ فيه شفاء للناس.. " ٦٩ " ﴾( سورة النحل )، الناس : جمع مختلف الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب الداءات، فكيف يكون هذا الشراب شفاء لجميع الداءات على اختلاف أنواعها ؟.. نقول : لأن هذا الشراب الذي أعده الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفاً ألوانه.. من رحيق متعدد الأنواع والأشكال والطعوم والعناصر.. ليس مزيجاً واحداً يشربه كل الناس، بل جاء مختلفاً متنوعاً باختلاف الناس، وتنوع الداءات عندهم.. وكأن كل عنصر منه يداوي داءً من هذه الداءات.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " ٦٩ " ﴾( سورة النحل )، التفكر : أن تفكر فيما أنت بصدده لتستنبط منه شيئاً لست بصدده، وبذلك تثري المعلومات ؛ لأن المعلومات إذا لم تتلاقح، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمد، ويصاب الإنسان بالجمود الطموحي، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقف الارتقاء ؛ لأن الارتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكير وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه ينبهنا حينما نمر على ظاهرة من ظواهر الكون، ألا نمر عليها غافلين معرضين، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار.. يقول تعالى :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾( سورة يوسف )، ففي الآية حث على التفكر في ظواهر الكون، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن آيات الله، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلاً الذي اخترع الآلة البخارية.. كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد البشرية ؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القدر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان.. فسأل نفسه : لماذا يرتفع الغطاء ؟ واستعمل عقله، وأعمل تفكيره حتى توصل إلى قوة البخار المتصاعد، واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات. وكذلك أرشميدس وغيره كثيرون توصلوا بالاعتبار والتفكر في ظواهر الكون، إلى قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن، فالذي اخترع العجلة، كم كانت مشقة الإنسان في حمل الأثقال ؟ وما أقصى ما يمكن أن يحمله ؟ فبعد أن اخترعوا العجلات واستخدمت في الحمل، تمكن الإنسان من حمل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله.
الذي اخترع خزانات المياه.. كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر ؟ أو من النهر ؟ فبعد عمل الخزانات، وضخ المياه، أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فتح الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبر، وحينما يفكر في ظواهر الكون، ويستخدم المادة الخام التي خلقها الله وحثنا على التفكر فيها والاستنباط منها.. وكأن الحق سبحانه يقول لنا : لقد أعطيتكم ضروريات الحياة، فإن أردتم ترف الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبر لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لفتة أخرى.. وهي : أنه سبحانه يجعل من المحسات ما يقرب لنا المعنويات إلى منهجه سبحانه ؛ ولذلك ينقلنا هذه النقلة من المحسوس إلى المعنوي.
قوله :﴿ والله خلقكم.. " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) : هذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولم يدعها أحد لنفسه، وقد أمدكم بمقومات حياتكم في الأرض والنبات والحيوان، والأنعام التي تعطينا اللبن صافيا سائغاً للشاربين، ثم النحل الذي فيه شفاء للناس.
فالحق سبحانه أعطانا الحياة، وأعطانا مقومات الحياة، وأعطانا ما يزيل معاطب الحياة.. ومادمتم صدقتم بهذه المحسات فاسمعوا :﴿ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر.. " ٧٠ " ﴾ ( سورة النحل ) : وساعة أن نسمع ( خلقكم )، فنحن نعترف أن الله خلقنا، ولكن كيف خلقنا ؟ هذه لا نعرفها نحن ؛ لأنها ليست عملية معملية.. فالذي خلق هو الحق سبحانه وحده، وهو الذي يخبرنا كيف خلق.. أما أن يتدخل الإنسان ويقحم نفسه في مسألة لا يعرفها، فنرى من يقول إن الإنسان أصله قرد.. إلى آخر هذا الهراء الذي لا أصل له في الحقيقة. ولذلك، فالحق سبحانه يقول لنا : إذا أردتم أن تعرفوا كيف خلقتكم فاسمعوا ممن خلقكم.. إياكم أن تسمعوا من غيره ؛ ذلك لأنني :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم.. " ٥١ " ﴾ ( سورة الكهف ) : هذه عملية لم يطلع الله عليها أحداً :﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا " ٥١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ما اتخذت مساعداً يعاونني في مسألة الخلق. وما هو المضل ؟ المضل هو الذي يقول لك الكلام على أنه حقيقة، وهو يضلك. إذن : ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مقدماً : احذروا، فسوف يأتي أناس يضلونكم في موضوع الخلق، وسوف يغيرون الحقيقة، فإياكم أن تصدقوهم ؛ لأنهم ما كانوا معي وقت أن خلقتكم فيدعون العلم بهذه المسألة. ونفس هذه القضية في مسألة خلق السماوات والأرض، فالله سبحانه هو الذي خلقهما، وهو سبحانه الذي يخبرنا كيف خلق.
فحين يقول سبحانه :﴿ والله خلقكم.. " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) : فعلينا أن نقول : سمعاً وطاعة، وعلى العين والرأس.. يا رب أنت خلقتنا، وأنت تعلم كيف خلقتنا، ولا نسأل في هذا غيرك، ولا نصدق في هذا غير قولك سبحانك.
ثم يقول تعالى :﴿ ثم يتوفاكم.. " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) : أي : منه سبحانه كان المبدأ، وإليه سبحانه يعود المرجع.. ومادام المبدأ من عنده والمرجع إليه، وحياتك بين هذين القوسين ؛ فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين ؛ لأنه لا يليق بك ذلك، فأنت منه وإليه.. فلماذا التمرد ؟
ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا دليلاً على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت، فالموت ليس له قاعدة، بل قد يموت الجنين في بطن أمه، وقد يموت وهو طفل، وقد يموت شاباً أو شيخاً، وقد يرد إلى أرذل العمر، أي : يعيش عمراً طويلاً.. وماذا في أرذل العمر ؟ ! يرد الإنسان بعد القوة والشباب، بعد المهابة والمكان، بعد أن كان يأمر وينهى، ويسير على الأرض مختالاً، يرد إلى الضعف في كل شيء، حتى في أميز شيء في تكوينه، في فكره، فبعد العلم والحفظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير، لا يذكر شيئاً ولا يقدر على شيء. ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه، ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت، فهذا رحمة بنا وستر لنا من الضعف والشيخوخة، قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويعيننا على أبسط أمور الحياة، ويأمر فينا من كنا نأمره.
ومن هنا كان التوفي نعمة من نعم الله علينا، ولكي تتأكد من هذه الحقيقة، انظر إلى من أمد الله في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن : " أرذل العمر "، وما يعانونه من ضعف، وما يعانيه ذووهم في خدمتهم، حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه.
الوفاة إذن نعمة، خاصة عند المؤمن الذي قدم صالحاً يرجو جزاءه من الله، فتراه مستبشراً بالموت ؛ لأنه عمر آخرته، فهو يحب القدوم عليها، على عكس المسرف على نفسه الذي لم يعد العدة لهذا اليوم، فتراه خائفاً جزعاً لعلمه بما هو قادم عليه.
و( ثم )حرف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي.. أي : مرور وقت بين الحدثين.. فهو سبحانه خلقكم، ثم بعد وقت وتراخ يحدث الحدث الثاني :( يتوفاكم ). على خلاف حرف ( الفاء )، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب، أي : تتابع الحدثين، كما في قوله تعالى :﴿ أماته فأقبره " ٢١ " ﴾( سورة عبس ) : فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير. وقوله تعالى :﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر.. " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) : وأرذل العمر : أردؤه وأقله وأخسه ؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فقال :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. " ٧٨ " ﴾( سورة النحل ) : وهذه هي وسائل العلم في الإنسان، فإذا رد إلى أرذل العمر فقدت هذه الحواس قدرتها، وضعف عملها، وعاد الإنسان كما بدأ لا يعلم شيئاً بعد ما أصابه من الخرف والهرم، فقد توقفت آلات المعرفة، وبدأ الإنسان ينسى، وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه. وقوله :﴿ لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً.. " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) : لذلك يسمون هذه الحواس الوارث.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ إن الله عليم قدير " ٧٠ " ﴾( سورة النحل ) ؛ لأنه سبحانه بيده الخلق من بدايته، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع، وهذا يتطلب علماً، كما قال سبحانه :﴿ ألا يعلم من خلق.. " ١٤ " ﴾( سورة الملك ) : فلابد من علم ؛ لأن الذي يصنع صنعة لابد أن يعرف ما يصلحها وما يفسدها، وذلك يتطلب قدرة للإدراك، فالعلم وحده لا يكفي.
لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط، هو أننا عبيد لله.. نحن سواسية في هذه فقط، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه، تختلف ألواننا، تختلف أجسامنا.. صورنا.. مواهبنا.. أرزاقنا.
والعجيب أن هذا الاختلاف هو عين الاتفاق ؛ ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه الاتفاق، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف.
مثلاً : إذا دخلت أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة.. أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة، وصديقك يحب جزءًا آخر منها.. هذا خلاف.. فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلاف هو عين الوفاق، حيث تأخذ أنت ما تحب، وهو كذلك.. هذا خلاف أدى إلى وفاق.. فلو فرضنا أن كلانا يحب الصدر مثلاً.. هذا وفاق قد يؤدي إلى خلاف إذا ما حضر الطعام وجلسنا : أينا يأخذ الصدر ؟ !
فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً فيما بيننا.. فكيف يكون التكامل إذن ؟
هل نتصور مثلاً أن يوجد إنسان مجمعاً للمواهب، بحيث إذا أراد بناء بيت مثلاً، كان هو المهندس الذي يرسم، والبناء الذي يبني، والعامل الذي يحمل، والنجار والحداد والسباك.. الخ. هل نتصور أن يكون إنسان هكذا ؟.. لا..
ولكن الخالق سبحانه نثر هذه المواهب بين الناس نثراً ؛ لكي يظل كل منهم محتاجاً إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب، وبهذا يتم التكامل في الكون.
إذن : الخلاف بيننا هو عين الوفاق، وهو آية من آياته سبحانه، وحكمة أرادها الخالق جل وعلا، فقال :﴿ ولا يزالون مختلفين " ١١٨ " ﴾( سورة هود )، فقد خلقنا هكذا. وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة، أطباء، علماء، فمن يبني ؟ ومن يزرع ؟ ومن يصنع ؟.. الخ
إذن : من رحمة الله أن جعلنا مختلفين متكاملين. فالحق سبحانه يقول :﴿ في الرزق.. " ٧١ " ﴾( سورة النحل ) : ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، فهذا غني وهذا فقير.. والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط، بل كل شيء تنتفع به فهو رزقك.. فهذا رزقه عقله، وهذا رزقه قوته العضلية.. هذا يفكر، وهذا يعمل.
إذن : يجب ألا ننظر إلى الرزق على أنه لون واحد، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخلقه من مواهب مختلفة : صحة، قدرة، ذكاء، حلم، شجاعة.. كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس.
والحق سبحانه وتعالى حينما تعرض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مبهماً، ولم تحدد الآية من الفاضل ومن المفضول، فكلمة بعض مبهمة ؛ لنفهم منها أن كل بعض من الأبعاض فاضل في ناحية، ومفضول في ناحية أخرى.. فالقوي فاضل على الضعيف بقوته، وهو أيضاً مفضول، فربما كان الضعيف فاضلاً بما لديه من علم أو حكمة.. وهكذا.
إذن : فكل واحد من خلق الله رزقه الله موهبة، هذه الموهبة لا تتكرر في الناس حتى يتكامل الخلق ولا يتكررون.. وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الآخر، فالمصلحة تقتضي أن يرتبط الطرفان، لا ارتباط تفضل، وإنما ارتباط حاجة.. كيف ؟
القوي يعمل للضعيف الذي لا قوة له يعمل بها، فهو إذن فاضل في قوته، والضعيف فاضل بما يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقوت نفسه وعياله، فلم يشأ الحق سبحانه أن يجعل الأمر تفضلاً من أحدهما على الآخر، وإنما جعله تبادلاً مرتبطاً بالحاجة التي يستبقي بها الإنسان حياته.
وهكذا يأتي هذا الأمر ضرورة، وليس تفضيلاً من أحد ؛ لأن التفضل غير ملزم به فليس كل واحد قادراً على أن يعطي دون مقابل، أو يعمل دون أجر.. إنما الحاجة هي التي تحكم هذه القضية.
إذن : ما الذي ربط المجتمع ؟ هي الحاجة لا التفضل، ومادام العالم سيرتبط بالحاجة، فكل إنسان يرى نفسه فاضلاً في ناحية لا يغتر بفاضليته، بل ينظر إلى فاضلية الآخرين عليه ؛ وبذلك تندك سمة الكبرياء في الناس، فكل منهما يكمل الآخر.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه.. والذي قد تلجئه الظروف وتحوجه لعامل بسيط يصلح له عطلاً في مرافق بيته، وربما لم يجده أو وجده مشغولاً، فيظل هذا الباشا العظيم نكداً مؤرقاً حتى يسعفه هذا العامل البسيط، ويقضي له ما يحتاج إليه. هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إلا أن يقضي مثل هذه المهام البسيطة في المنزل.. وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء.
فالجميع إذن في الكون سواسية، ليس فينا من بينه وبين الله سبحانه نسب أو قرابة فيجامله.. كلنا عبيد لله، وقد نثر الله المواهب في الناس جميعاً ؛ ليتكاملوا فيما بينهم، وليظل كل منهم محتاجاً إلى الآخر، وبهذا يتم الترابط في المجتمع.
وقد عرضت هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً.. " ٣٢ " ﴾
( سورة الزخرف ).
البعض يفهم أن الفقير مسخر للغني، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مسخر للآخر.. فالفقير مسخر للغني حينما يعمل له العمل، والغني مسخر للفقير حينما يعطي له أجره.. ولذلك فالشاعر العربي يقول :
الناس للناس من بدوٍ وحاضرة**** بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم
ونضرب هنا مثلاً بأخس الحرف في عرف الناس وإن كانت الحرف كلها شريفة، وليس فيها خسة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال.. فالخسة في العاطل الأخرق الذي يتقن عملاً.
هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم أفضل منه، وأنه أقل منهم، ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها، لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة، وهو فاضل عليهم جميعاً حينما يشتري علبة الورنيش هذه.. لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط.
فقوله تعالى :﴿ ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الزخرف ).
من منا يسخر الآخر ؟ ! كل منا مسخر للآخر، أنت مسخر لي فيما تتقنه، وأنا مسخر لك فيما أتقنه.. هذه حكمة الله في خلقه ؛ ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع.
وربنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا.. يعني هذا لكذا وهذا لكذا.. لا.. الذي يرضى بقدر الله فيما يناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس، ثم يتقن العمل ويجتهد فيه، ويبذل فيه وسعه، يقول له الحق سبحانه : مادمت رضيت بقدري في هذا العمل لأرفعنك به رفعة يتعجب لها الخلق..
وفعلاً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه : كان شيالاً.. كان أجيراً.. نعم كان.. لكنه رضي بما قسم الله وأتقن وأجاد، فعوضه الله ورفعه وأعلى مكانته.
ولذلك يقولون : من عمل بإخلاص في أي عمل عشر سنين يسيده الله بقية عمره، ومن عمل بإخلاص عشرين سنة يسيد الله أبناءه، ومن عمل ثلاثين سنة سيد الله أحفاده.. لا شيء يضيع عند الله سبحانه.
فليس فينا أعلى وأدنى، وإياك أن تظن أنك أعلى من الناس، نحن سواسية، ولكن منا من يتقن عمله، ومنا من لا يتقن عمله ؛ ولذلك قالوا : قيمة كل امرئ ما يحسنه.
ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا، وسوف تجد أن الحق سبحانه عادل في تقسيم المواهب على الناس.
وقد ذكرنا أنك لو أجريت معادلة بين الناس لوجدت مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، بمعنى أنك لو أخذت مثلاً : الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة.. الخ لوجدت نصيب كل منا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر، فأنت تزيد عني في القوة، وأنا أزيد عنك في العلم، وهكذا.. لأننا جميعاً عبيد لله، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة.
وقوله تعالى :﴿ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم.. " ٧١ " ﴾( سورة النحل ) :
فما ملكت أيمانهم : هم العبيد المماليك.. والمعنى : أننا لم نر أحداً منكم فضله الله بالرزق، فأخذه ووزعه على عبيده ومماليكه، أبداً.. لم يحدث ذلك منكم.. والله سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف، ولا يطلب منهم أن يوزعوا رزق الله على عبيدهم، ولكن في الآية إقامة للحجة عليهم، واستدلال على سوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى.
وكأن القرآن يقول لهم : إذا كان الله قد فضل بعضكم في الرزق، فهل منكم من تطوع برزق الله له، ووزعه على عبيده ؟.. أبداً.. لم يحدث منكم هذا.. فكيف تأخذون حق الله في العبودية والألوهية وحقه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح، وتجعلونه للأصنام والأوثان ؟ ! فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون.. فكيف تسمحون لأنفسكم أن تأخذوا حق الله، وتعطوه للأصنام والأوثان ؟
ويقول تعالى في آية أخرى :﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم.. " ٢٨ " ﴾( سورة الروم )، أي : أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم، فكيف تفعلونه مع الله ؟ فهذه لقطة : أنكم تعاملون الله بغير ما تعاملون به أنفسكم :﴿ فهم فيه سواء " ٧١ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : أنكم سويتم بين الله سبحانه وبين أصنامكم، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم مع الله.
والحق سبحانه وإن رزقنا وفضلنا فقد حفظ لنا المال، وحفظ لنا الملكية، ولم يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك :﴿ من ذا الذي يقرض قرضاً حسناً فيضاعفه له.. " ٢٤٥ " ﴾ ( سورة البقرة )، مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنعم، يطلب منك أن تقرضه، وكأنه سبحانه يحترم عملك ومجهودك، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لك.. فيقول : أقرضني. لعلمه سبحانه بمكانة المال في النفوس، وحرص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض، فجعل القرض له سبحانه ؛ لتثق أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ أفبنعمة الله يجحدون " ٧١ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : بعد أن أنعم الله عليهم بالرزق، ولم يطلب منهم أن ينثروه على الغير، جحدوا هذه النعمة، وأنكروا فضل الله، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان، وأخذوا حق الله في العبودية والألوهية وأعطوه للأصنام والأوثان، وهذا عين الجحود وإنكار الجميل.
الحق سبحانه في الآية السابقة قنن لنا قضية القمة قضية العقيدة في أننا لا نعطي شيئاً جعله الله لنفسه سبحانه من العبودية والألوهية والطاعة وغيرها، لا نعطيها لغيره سبحانه.. وإذا صحت هذه القضية العقدية صحت كل قضايا الكون.
ثم بين سبحانه أنه خلقنا من واحد، ثم خلق من الواحد زوجة له، ليتم التناسل والتكاثر.. ؛ إذ إن استمرار بقائكم خاضع لأمرين :
الأمر الأول : استبقاء الحياة، وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الأرزاق، فنأكل ونشرب فنستبقي الحياة، فبعد أن تحدث عن استبقاء الحياة بالرزق في الآية السابقة ذكر : الأمر الثاني : وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع، فقال سبحانه :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، والأزواج : جمع زوج، والزوج لا يعني الرجل فقط، بل يعني الرجل والمرأة ؛ لأن كلمة ( زوج ) تطلق على واحد له نظير من مثله، فكل واحد منهما زوج.. الرجل زوج، والمرأة زوج، فتطلق إذن على مفرد، لكن له نظير من مثل. و :﴿ من أنفسكم.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : من نفس واحدة، كما قال في آية أخرى :﴿ خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها.. " ٦ " ﴾ ( سورة الزمر )، يعني : أخذ قطعة من الزوج، وخلق منها الزوجة، كما خلق سبحانه حواء من آدم عليهما السلام. أو :﴿ وخلق منها.. " ١ " ﴾( سورة النساء )، أي : من جنسها، كما قال تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة )، أي : من جنسكم. فالمسألة تحتمل المعنيين.. من اتسع ظنه إلى أن الله خلق حواء من ضلع آدم، أي : منه، من بعضه فلا مانع، ومن قال : خلق الله حواء كما خلق آدم خلقاً مستقلاً، ثم زاوج بينهما بالزواج فلا مانع.. فالأول على معنى البعضية، والثاني على معنى من جنسكم.
قلنا : إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمة آحاداً.. كما لو قال المعلم لتلاميذه : أخرجوا كتبكم، فهو يخاطب التلاميذ وهم جمع. وكتبهم جمع، فهل سيخرج كل تلميذ كتب الآخرين ؟ !.. لا.. بل كل منهم سيخرج كتابه هو فقط.. إذن : القسمة هنا تقتضي آحاداً.. وكذلك المعنى في قوله تعالى :﴿ خلق لكم من أنفسكم أزواجاً.. " ٢١ " ﴾( سورة الروم )، أي : خلق لكل منكم زوجاً.
ولكي نتأكد من هذه الحقيقة، وأن الخلق بدأ بآدم عليه السلام نرد الأشياء إلى الماضي، وسوف نجد أن كل متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي.. فمثلاً سكان العالم اليوم أكثر من العام الماضي.. وهكذا تتناقص الأعداد كلما أوغلنا في الماضي، إلى أن نصل إلى إنسان واحد هو آدم عليه السلام ومعه زوجه حواء ؛ لأن أقل التكاثر من اثنين. إذن : قوله سبحانه :﴿ خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها.. " ١ " ﴾ ( سورة النساء )، كلام صحيح يؤيده الاستقراء والإحصاء.
لذلك يمتن ربنا سبحانه علينا أن خلق لنا أزواجاً، ويمتن علينا أن جعل هذا الزوج من أنفسنا، وليس من جنس آخر ؛ لأن إلف الإنسان وأنسه لا يتم إلا بجنسه، وهذه من أعظم نعم الله علينا، ولك أن تتصور الحال إذا جعل الله لنا أزواجاً من غير جنسنا ! ! كيف يكون ؟ !
هذا الزوج اشترك معنا في أشياء، واختلف عنا في شيء واحد، اتفقنا في أشياء : فالشكل واحد، والقالب واحد، والعقل واحد، والأجزاء واحدة : عينان وأذنان.. يدان ورجلان.. الخ، وهذا الاشتراك يعين على الارتقاء والمودة والأنس والألفة. واختلفنا في شيء واحد هو النوع : فهذا ذكر، وهذه أنثى. إذن : جمعنا جنس، وفرقنا النوع ؛ ليتم بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الأرض.
وهناك احتمال أن يتحول الذكر إلى أنثى، أو الأنثى إلى ذكر، لذلك خلق الله الاحتياط لهذه الظاهرة، كأن يكون للرجل ثدي صغير، أو غيره من الأعضاء القابلة للتحويل، إذا ما دعت الحاجة لتغيير النوع.. فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية. إذن :﴿ من أنفسكم.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل ) ؛ ليزداد الإلف والمحبة والمودة بينكم ؛ ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان عليه السلام والهدهد، حينما تفقد الطير وعرف غياب الهدهد قال :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " ٢١ " ﴾( سورة النمل )، وهذا سلطان الملك الذي أعطاه الله لسليمان.. قالوا في :﴿ لأعذبنه عذابا شديداً.. " ٢١ " ﴾ ( سورة النمل )، أي : يضعه في غير جنسه.. إذن : وضعه في غير جنسه نوع من العذاب.. وتكون ( من أنفسكم ) : نعمة ورحمة من الله.
وفي الآية الأخرى يذكر سبحانه عناصر ثلاثة لاستبقاء العلاقة الزوجية، فيقول تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " ٢١ " ﴾ ( سورة الروم )، ولو تأملنا هذه المراحل الثلاثة لوجدنا السكن بين الزوجين، حيث يرتاح كل منهما إلى الآخر، ويطمئن له ويسعد به، ويجد لديه حاجته.. فإذا ما اهتزت هذه الدرجة، ونفر أحدهما من الآخر، جاء دور المودة والمحبة التي تمسك بزمام الحياة الزوجية، وتوفر لكليهما قدراً كافية من القبول. فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الآخر جاء دور الرحمة، فيرحم كل منهما صاحبه.. يرحم ضعفه.. يرحم مرضه.. وبذلك تستمر الحياة الزوجية، ولا تكون عرضة للعواصف في رحلة الحياة. فإذا ما استنفدنا هذه المراحل، فلم يعد بينهما سكن ولا مودة، ولا حتى يرحم أحدهما صاحبه فقد استحالت بينهما العشرة، وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للآخر. وهنا شرع الحق سبحانه الطلاق ؛ ليكون حلاً لمثل هذه الحالات، ومع ذلك جعله ربنا سبحانه أبغض الحلال، حتى لا نقدم عليه إلا مضطرين مجبرين.
وقوله تعالى :﴿ وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، البنون هم الحلقة الأولى لاستبقاء الحياة، والحفدة : وهم ولد الولد، هم الحلقة الثانية لاستبقاء الحياة ؛ ذلك لأن الإنسان بطبعه يحب الحياة ويكره الموت، وهو يراه كل يوم يحصد النفوس من حوله.. فإيمانه بالموت مسألة محققة، فإذا ما تيقن أن الحياة تفوته في نفسه، أراد أن يستبقيها في ولده.. ومن هنا جاء حب الكثيرين منا، للذكور الذين يمثلون امتداداً للآباء. فإذا ما رزقه الله الأبناء، وضمن له الجيل الأول، تطلع إلى أن يرى أبناء الأبناء ؛ ليستبقي الحياة له ولولده من بعده ؛ ولذلك فالشاعر الذي يخاطب ابنه يقول له :
أبني.. يا أنا بعدما أقضي
وهذه هي نظرة الناس إلى الأولاد، أنهم ذكر لهم بعد موتهم.. وكأن اسمه موصول لا ينتهي. ويقول الله تبارك وتعالى :﴿ بنين وحفدة.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، تدلنا على ضرورة الحرص على اندماج الأجيال.. زوجين، ثم أبناء وحفدة.. فما فائدة اندماج الأجيال ؟ ما فائدة المعاصرة والمخالطة بين الجد وحفيده ؟
نلاحظ أن الوليد الصغير يبدأ عنده الإدراك بمجرد أن تعمل وسائل الإدراك عنده، فيبدأ يلتقط ممن حوله ويتعلم منهم.. فإذا كان له أخوة أكبر منه تعلم منهم مثلاً بابا.. ماما.. فإذا لم يكن له أخوة نعلمه نحن هذه الكلمات. ولذلك نرى الطفل الثاني أذكى من الأول، والثالث أذكى من الثاني.. وهكذا ؛ لأنه يأخذ ممن قبله وممن حوله، فيزداد بذلك إدراكه، وتزداد خبراته ومعلوماته. ولنتصور أن هذا الابن أصبح أباً، وجاء الحفيد الذي يعاصر الجيلين ؛ جيل الأب وجيل الجد، يشب الصغير في أحضانهما، فتراه يأخذ من أبيه نشاطه في حركة الحياة وسعيه للرزق. في حين أنه يأخذ من جده القيم الدينية، حيث الجد في البيت باستمرار بعد أن تقدم به العمر، فأقبل على الطاعة والعبادة.. فيسمع منه الصغير قراءة القرآن.. متى يؤذن للظهر.. يا ولد هات المصحف.. يا ولد هات السجادة لأصلي، إلى غير هذه من الكلمات التي يأخذ منها الصغير هذه القيم. إذن : الحفيد يلتقط لوناً من النشاط والحركة في جيل أبيه، ويلتقط لوناً من القيم في جيل جده ؛ ولذلك فإن ابتعاد الأجيال يسبب نقصاً في تكوين الأطفال، والحق سبحانه يريد أن تلتحم الأجيال ؛ لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية والحركة والنشاط.
وقوله تعالى :﴿ ورزقكم من الطيبات.. " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، الطيبات في الرزق الذي جعله الله لاستبقاء الحياة، وفي الزواج الذي جعله الله لاستبقاء النوع. ثم يقول تعالى :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون " ٧٢ " ﴾( سورة النحل )، الباطل : هو الأصنام التي اتخذوها من دون الله.
وفي الآية استفهام للتعجب والإنكار.. كيف تكفرون بنعمة الله وقد خلقكم في البدء من نفس واحدة، وخلق منها زوجها.. وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً.. وجعل بينكم سكناً ومودة ورحمة، ثم جعل لكم البنين والحفدة، ورزقكم من نعم الحياة ما يستبقي حياتكم، ومن نعم الأزواج ما يستبقي نوعكم، وجعلكم في نعمة ورفاهية.. خلقكم من عدم، وأمدكم من عدم.
أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها، وبدل أن تقبلوا عليه وتلتفتوا إليه، تنصرفون إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع.. وهل عملت لكم الأصنام شيئاً من ذلك ؟ ! هل أنعمت عليكم بنعمة من هذه النعم ؟ !
هذه الأصنام محتاجة إليكم.. تأخذ منكم ولا تعطيكم.. فهذا مائل يريد من يقيمه.. وهذا كسر يحتاج لمن يصلحه.. انقل الإله.. ضع الإله في مكان كذا.. الخ.
والعبادة أن يطيع العابد معبوده، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي.. فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط ؟ نقول : لا، بل كل حركة في الحياة تعين على عبادة فهي عبادة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل : إذا أردت أن تؤدي فرض الله في الصلاة مثلاً، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوره من الطعام.. رغيف العيش.. فانظر كم يدي شاركت فيه منذ كان حبة قمح تلقى في الأرض إلى أن أصبح رغيفاً شهياً. إن هؤلاء جميعاً الذين أداروا دولاب هذه العملية يؤدون حركة إيجابية في الحياة، هي في حد ذاتها عبادة ؛ لأنها أعانتك على عبادة.
أيضاً إذا أردت أن تصلي، فواجب عليك أن تستر عورتك.. انظر إلى هذا القماش الذي لا تتم الصلاة إلا به.. كل من أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك.. جميعهم يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش.
إذن : كل شيء يعينك على عبادة الله فهو عبادة، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا فهي عبادة. والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة، قال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " ٩ " ﴾( سورة الجمعة ). لم يأخذهم من فراغ، بل من عمل، ولكن لماذا قال سبحانه :( وذروا البيع ).. لماذا البيع بالذات ؟ قالوا : لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة، فهو واسطة بين منتج ومستهلك.. ولم يقل القرآن : اتركوا المصانع أو الحقول ؛ لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في ساعتها.. فمن يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع، والصانع ينتظر إلى أن يبيع صناعته.. لكن البيع صفقة حاضرة، فهي محل الاهتمام.. وكذلك لم يقل : ذروا الشراء، قالوا : لأن البائع يحب أن يبيع، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره.. فأتى القرآن بأدق شيء يمكن أن يربطك بالزمن، وهو البيع. فإذا ما انقضت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.. " ١٠ " ﴾( سورة الجمعة ).
فقوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله.. " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يؤثرونها على الله.. وهي الأصنام.. فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً، وجعل لهم بنين وحفدة.. كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفضله.. فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه.. فعندنا عبادة للذات ؛ لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته، وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمن لم يعبده لذاته عبده لنعمته.
وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي.. فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه الأصنام التي اتخذوها ؟ ! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء، ولم تنهكم عن شيء ؟ !. وهذا أول نقد لعبادة غير الله، من شمس أو قمر أو صنم أو شجر.
وكذلك.. ماذا تعطي الأصنام أو غيرها من معبوداتكم لمن عبدها، وماذا أعدت لهم من ثواب ؟ ! وبماذا تعاقب من كفر بها ؟.. إذن : فهو إله بلا منهج.
والتدين غريزة في النفس يلجأ إليها الإنسان في وقت ضعفه وحاجته.. والله سبحانه هو الذي يحب أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات.. وله منهج يقتضي مطلوبات تدك السيادة والطغيان في النفوس، ويقتضي تكليفات شاقة على النفس.
إذن : لجأ الكفار إلى عبادة الأصنام والأوثان ؛ لأنها آلهة بلا تكليف، ومعبودات بلا مطلوبات. ما أسهل أن يتمحك إنسان في إله ويقول : أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهي عن شيء ! ما أسهل أن يرضى في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الإله.
لكن يجب ألا تنسوا أن هذا الإله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أن تطلبوا منه شيئاً، أو تلجأوا إليه في شدة.. فهذا غير معقول، فكما أنهم لا يطلبوا منكم شيئاً، كذلك لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً.
لذلك وجدنا الذين يدعون النبوة.. هؤلاء الكذابون ييسرون على الناس سبل العبادة، ويبيحون لهم ما حرمه الدين، مثل اختلاط الرجال والنساء وغيره ؛ ذلك لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الأتباع. فجاء مسيلمة الكذاب، وأراد أن يسهل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلاة، وجاء الآخر فقال بإسقاط الزكاة.. وقد جذب هذا التسهيل كثيراً من المغفلين الذين يضيقون بالتكليف، ويميلون لدين سهل يناسب هممهم الدنية.
وهكذا وجدنا لهؤلاء الكذابين أنصاراً يؤيدونهم ويناصرونهم.. ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق، ويقف هؤلاء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم. وقوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً.. " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، نلاحظ في هذه الآية نوعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى :﴿ لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون " ٢٠ " ﴾( سورة النحل )، فنفى عنهم القدرة على الخلق، بل إنهم هم المخلوقون.. يذهب الواحد منهم فيعجبه حجر، فيأخذه ويعمل فيه معوله حتى يصوره على صورة ما، ثم يتخذه إلهاً يعبده من دون الله. فلما نفى عنهم القدرة على الخلق، أراد هنا أن يترقى في الاستدلال، فنفى عنهم مجرد أن يملكوا، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه، فتقرر الآية هنا أنهم لا يملكون.. مجرد الملك.
وقوله تعالى :﴿ من السماوات والأرض شيئاً.. " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، فالرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، ومن المصدرين يأتي رزق الله، وبذلك يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مقومات الحياة وضرورياتها، من ماء السماء ونبات الأرض. فإن أردتم ترف الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مقومات الحياة ؛ لتصلوا إلى هذا الترف. فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الأرض.
ونوضح ذلك فنقول : هب أن عندك جبلاً من ذهب، أو جبلاً من فضة، وقد عضك الجوع في يوم من الأيام.. هل تستطيع أن تأكل من الذهب أو الفضة ؟
إنك الآن في حاجة لرغيف عيش، لا لجبل من ذهب أو فضة.. رغيف العيش الذي يحفظ لك حياتك في هذا الموقف أفضل من هذا كله. وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله لعباده، أما المال فهو رزق غير مباشر، لا تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه.
وكلمة ( شيئاً )، أي : أقل ما يقال له شيء، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم رزقاً مهما قل ؛ لأنه قد يقول قائل : لا يملكون رزقاً يكفيهم.. لا.. بل لا يملكون شيئاً. ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى :﴿ ولا يستطيعون " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، أي : لا يملكون لهم رزقاً في الحاضر، ولن يملكوا في المستقبل، وهذا يقطع الأمل عندهم، فهم لا يملكون اليوم، ولن يملكوا غداً ؛ ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها وقتاً.. وأشياء معلقة يمكن أن تستأنف فيما بعد، فهذه الكلمة :﴿ ولا يستطيعون " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، حكم قاطع لا استئناف له فيما بعد. ولذلك ؛ نجد هؤلاء الذين يحبون أن يجدوا في القرآن مأخذاً يجادلون في قوله تعالى :
﴿ قل يا أيها الكافرون " ١ " لا أعبد ما تعبدون " ٢ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٣ " ولا أنا عابد ما عبدتم " ٤ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٥ " ﴾( سورة الكافرون ) : فهؤلاء يرون في السورة تكراراً يتنافى وبلاغة القرآن الكريم.. نقول : ليس في السورة تكرار لو تأملتم.. ففي السورة قطع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار، فالحق سبحانه يقول :﴿ لكم دينكم ولي دين " ٦ " ﴾( سورة الكافرون )، في الحاضر، وفي المستقبل، وإلى يوم القيامة. فقوله :﴿ لا أعبد ما تعبدون " ٢ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٣ " ﴾ ( سورة الكافرون )، وهذا قطع علاقات في الوقت الحاضر.. ولكن من يدرينا لعلنا نستأنف علاقات أخرى فيما بعد.. فجاء قوله تعالى :﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم " ٤ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٥ " ﴾( سورة الكافرون )، لا للتكرار، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل، فالقضية إذن منتهية من الآن على سبيل القطع. كذلك المعنى في قوله تعالى :﴿ ولا يستطيعون " ٧٣ " ﴾( سورة النحل )، أي : لا يستطيعون الآن، ولا في المستقبل.
الأمثال : جمع مثل، وهو الند والنظير. وفي الآية نهي عن أن نشبه الله سبحانه بشيء آخر ؛ لأن الحق تبارك وتعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله.. إياك أن تقول عن ذات : إنها تشبه ذاته سبحانه، أو صفات تشبه صفاته سبحانه، فإن وجدت صفة لله تعالى يوجد مثلها في البشر فاعلم أنها على مقياس.
﴿ ليس كمثله شيء " ١١ " ﴾( سورة الشورى )، فالحق سبحانه ينهانا أن نضرب له الأمثال، إنما هو سبحانه يضرب الأمثال ؛ لأنه حكيم يضرب المثل في محله ؛ ليوضح القضية الغامضة بالقضية المشاهدة ؛ ولذلك يقول تعالى :﴿ ولله المثل الأعلى.. " ٦٠ " ﴾( سورة النحل )، أي : الصفة العليا في كل شيء، فإذا وجدت صفات مشتركة بينكم وبين الحق سبحانه، فنزه الله عن الشبيه والنظير والند والمثيل، وقل :( ليس كمثله شيء )، فأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم، ووجوده سبحانه لا يسبقه عدم ولا يلحقه العدم.
وقد ضرب الله لنا مثلاً لنفسه سبحانه ؛ ليوضح لنا تنويره سبحانه للكون، وليس مثلاً لنوره كما نظن.. بل هو مثل تنويره لا لنوره. يقول تعالى في سورة النور : ﴿ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم " ٣٥ " ﴾( سورة النور ) : نور السماوات والأرض ؛ لأنه بالنور تكون الهداية حسية أو معنوية.. فالنور الحسي : مثل نور الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء.. هذا النور الحسي هو الذي يبين لنا الأشياء، لتسير في الكون على بصيرة وهدى.. فلو حاولت السير ليلاً دون ضوء يهديك، فسوف تصطدم بالأشياء من حولك : إما أقوى منك يحطمك ويؤذيك، وإما تكون أنت أقوى منه فتحطمه أنت.. فالذي يهدي خطاك، هو : النور الحسي.
وقد يكون النور معنوياً، وهو : نور القيم والأخلاق، وهذا النور يجعلك أيضاً تسير في الحياة على بصيرة وهدى، ويحميك من التخبط في مجاهل الأفكار والنظريات، هذا هو النور القيمي الذي أنزله الله لنا في كتابه الكريم، وقال عنه :﴿ قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " ١٥ " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " ١٦ " ﴾( سورة المائدة ) :
فهو نور لكن معنوي.. بالقيم والأخلاق والفضائل.. ولا تقل في هذا المثل : إنه مثل لنور الله.. بل مثل لسلطان تنويره للكون، ولو تأملنا بقية الآية لأدركنا ذلك.
﴿ مثل نوره كمشكاةٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور )، البعض يقولون : المشكاة، هي : المصباح.. لا.. المشكاة هي الكوة أو الطاقة المسدودة في الجدار، يعرفها أهل الريف في بناياتهم القديمة، وهي تجويف غير نافذ في الجدار يوضع فيه المصباح.
﴿ المصباح في زجاجةٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور )، أي : ليس مصباحاً عادياً بل في زجاجة، وهي تحمي ضوء المصباحان يبعثره الهواء من كل ناحية، وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لاستمرار الاشتعال، وبذلك يكون الضوء ثابتاً صافياً لا يصدر عنه دخان يعكر صفو الزجاجة.
وأهل الريف يعرفون شعلة الجاز التي ليس لها زجاجة، وما يصدر عنها من دخان أسود ضار.. إذن : المصباح هنا في غاية الصفاء والقوة ؛ لأن الزجاجة أيضاً ليست زجاجة عادية، بل زجاجة كأنها كوكب دري، وكونها كالكوكب الدري، يعني : أنها تضيء بنفسها.
﴿ الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركةٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور )، هذا المصباح يوقد بزيت ليس عادياً، بل هو زيت من زيتونه.. شجرة زيتون معتدلة المناخ.
﴿ لا شرقية ولا غربية.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور )، هذا الزيت وصل من الصفاء والنقاء أنه يضيء، ولو لم تمسسه نار ؛ ولذلك أعطانا منتهى القوة :﴿ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور ).
ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح :﴿ نور على نور.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور ).
وبعد أن وقفت على أوصاف هذا المصباح، وأنه يوضع في كوة صغيرة، بالله عليك هل يمكن وجود نقطة مظلمة في هذه الكوة ؟
إذن : فهذا مثل ليس لنوره سبحانه.. فنوره لا يدرك، وإنما هو مثل لتنويره للكون، الذي هو كالكوة والطاقة في هذا المثل.. فمعنى قوله تعالى :﴿ الله نور السماوات والأرض.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور ) :
أي : منورهما، فكما أنه لا يعقل وجود نقطة مظلمة في هذه الكوة، فكذلك نوره سبحانه وتنويره للكون.. وهذا هو النور الحسي الذي أمد الله به الكون.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي ينزل على عباد الله الصالحين تجلياتٍ نورانية، وفيوضاتٍ ربانية نتلقاها في بيوت الله :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال " ٣٦ " رجال.. " ٣٧ " ﴾( سورة النور ) :
وهكذا نجمع بين النور الحسي والنور المعنوي صلى الله عليه وسلم. ولذلك، فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة، شبهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحلم والذكاء، فقال :
إقدام عمر في سماحة حاتم ****في حلم أحنف في ذكاء إياس
فاعترض على هذا التشبيه أحد حساد أبي تمام، وقال له : كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب ؟ ففي جيشه ألف واحد كعمرو، ومن خزنته ألف واحد كحاتم.. ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق، ويفلت من هذا الفخ الذي نصبه له حاسده، قال على البديهة :
لا تنكروا ضربي له من دونه**** مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره**** مثلاً من المشكاة والنبراس
والحق سبحانه وتعالى وإن نهانا نحن أن نضرب له مثلاً لقلة علمنا، فهو سبحانه القادر على ضرب الأمثال، حتى بأقل المخلوقات وأتفهها في نظرنا.. فيقول تعالى :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. " ٢٦ " ﴾( سورة البقرة ) : فلا تستقل أمر هذه البعوضة، ولا تستحقر أن يجعلها الله مثلاً ؛ لأنه سبحانه لا يستحي أن يضرب بها المثل ؛ لأن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك، وفي أضخم الحيوانات مثل الفيل والجمل ؛ ولأن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك، وقد تعجزك أنت على قوتك وحيلتك وجبروتك.
يقول تعالى :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ٧٣ " ﴾( سورة الحج ).
بالله عليك، هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أن تسترد من الذبابة ما أخذته من طعامك ؟ هل تقدر على هذه العملية ؟
إذن : حينما يضرب الله لك مثلاً يجب أن تحترم ضرب الله للمثل، وأن تبحث فيما وراء المثل من الحكمة.. وأنه سبحانه جاء بهذا المثل لهذا المخلوق الحقير في نظرك ؛ ليوضح لك قضية غامضة ينبهك إليها.
ولأهمية ضرب المثل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ؛ ليقربوا المعنى من الأفهام، فقد يقف الشاعر أمام قضية معقدة لا يدركها إلا العقلاء، ويريد الشاعر الوصول بها إلى أفهام العامة.. مثل قضية الحاسد الذي يظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه، فقد يتهم البريء بتهمة ظلماً، فتكون سبباً في رفعته بين قومه.
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى، وصاغه شعراً، وضرب له مثلاً توضيحياً، فقال :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت. لولا اشتعال النار فيما جاورت. أتاح لها لسان حسود ما كان يعرف طيب عرف العود :
فانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي، فقد يكون لديك فضيلة مكتومة مغمورة لا يعرفها أحد، حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويشوه صورتك، فإذا بالحقيقة تتكشف للجميع ويظهر ما عندك من مواهب، وما لديك من فضائل.. وما أشبه ذلك بالعود طيب الرائحة الذي لا نشم رائحته إلا إذا حرقناه.
وقد كان سبب هذا المثل الشعري : أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لآخر على أحد بيوت البلدة، وبها عجوز مقعدة في حاجة إلى مساعدة، فكان يساعدها بما يستطيع، وكان بجوارها منزل إحدى الجميلات التي قد تكون مطمعاً.. فاستغل أحد الحساد هذه الجيرة، واتهم الرجل الصالح بأنه يذهب إلى هذه الحسناء.. وفعلاً تتبعه الناس، فإذا به يذهب لبيت العجوز المقعدة.. ومن هنا عرف الناس عنه فضيلة لم يكن يعرفها أحد.
وقد رأينا على مر التاريخ من اتهموا ظلماً، وقيل في حقهم ما يندي له الجبين.. ثم أنصفهم القضاء العادل، وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم، ولولا ما تعرضوا له من اتهام ما عرفنا مزاياهم ومكارمهم.
وقوله تعالى :﴿ إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " ٧٤ " ﴾ ( سورة النحل )، وهذه علة النهي عن ضرب الأمثال ؛ لأننا لا نعلم، أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا الأمثال ؛ لأنه سبحانه يعلم، ويأتي بالمثل في محله.
وبعد أن هيأنا ربنا سبحانه لتلقي الأمثال، وأعد أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه.. أتى بهذا المثل الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً له طرفان :
الطرف الأول : عبد : أي مولى، وصفه بأنه مملوك التصرف، وأنه لا يقدر على شيء من العمل ؛ ذلك لأن العبد قد يكون عبداً ولكنه يعمل، كمن تسمح له بالعمل في التجارة مثلاً وهو عبد، وهناك العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يؤديه إليه لينال حريته، فيتركه سيده يعمل بحريته حتى يجمع المال المتفق عليه.. فهذا عبد، ومملوك، ولا يقدر على شيء من السعي والعمل.
والطرف الثاني : سيد حر، رزقه الله وأعطاه رزقاً حسناً، أي : حلالاً طيباً.. ثم وفقه الله للإنفاق منه بشتى أنواع الإنفاق : سراً وجهراً.. وهذه منزلة عالية : رزق من الله وصفه بأنه حلال طيب لا شبهة فيه، بعد ذلك وفقه الله للإنفاق منه.. كل حسب ما يناسبه، فمن الإنفاق ما يناسبه السر، ومنه ما يناسبه الجهر :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم.. " ٢٧١ " ﴾
( سورة البقرة ) : هذان هما طرفا المثل المضروب لنا.. ويترك لنا السياق القرآني الحكم بينهما.. وكأن الحق سبحانه يقول : أنا أرتضي حكمكم أنتم : هل يستوون ؟
والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وفق ما يريد.. ولا جواب يعقل لهذا السؤال إلا أن نقول : لا يستوون.. وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم.
وقد ضرب الله هذا المثل لعبدة الأصنام، الذين أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، فمثل الحق سبحانه الأصنام بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. وضرب المثل الآخر للسيد الذي رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سراً وجهراً، ألم تر إلى قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً " ٢٠ " ﴾( سورة لقمان ) ؛ ليبين لهم خطأهم في الانصراف عن عبادة الله مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة الأصنام التي لا تعطيهم شيئاً.
ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثل، وأتى به على صورة سؤال ؛ ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم ؛ ليقطع عليهم سبيل الإنكار والجدال. ولنا هنا وقفة مع قوله تعالى :﴿ هل يستوون.. " ٧٥ " ﴾( سورة النحل )، فالحديث عن مثنى، وكان القياس أن يقول : هل يستويان ؟ فلماذا عدل عن المثنى إلى الجمع ؟ نقول : لأن المثل وإن ضرب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين.. مفرد شائع في عديد مملوكين، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن، ذلك ليعمم ضرب المثل.
إذن : ليس في اختلاف الضمير هنا ما يتعارض وبلاغة القرآن الكريم، بل هي دقة أداء ؛ لأن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى. وكذلك في قوله تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما.. " ٩ " ﴾( سورة الحجرات )، بعضهم يرى في الآية مأخذاً، حيث تتحدث عن المثنى، ثم بضمير الجمع في ( اقتتلوا )، ثم تعود للمثنى في ( بينهما ). نقول لهؤلاء : لو تدبرتم المعنى لعرفتم أن ما تتخذونه مأخذاً، وتعتبرونه اختلافاً في الأسلوب، هو منتهى الدقة في التعبير القرآني.. ذلك أن الحديث عن طائفتين : مثنى.. نعم.. فلو تقاتلا، هل ستمسك كل طائفة سيفاً لتقاتل الأخرى ؟ لا.. بل سيمسك كل جندي منها سيفاً.. فالقتال هناك بالمجموع.. مجموع كل طائفة لمجموع الطائفة الأخرى، فناسب أن يقول : اقتتلوا ؛ لأن القتال حركة ذاتية من كل فرد في الطائفتين. فإذا ما جاء وقت الصلح، هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه ؟ لا.. بل الصلح شأن السادة والزعماء والقادة لكل طائفة، ففي الصلح نعود للمثنى، حيث ينوب هؤلاء عن طائفة، وهؤلاء عن طائفة، ويتم الصلح بينهما. إذن : اختلاف الضمير هنا آية من آيات الإعجاز البياني ؛ لأن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وقوله :﴿ الحمد لله.. " ٧٥ " ﴾( سورة النحل )، كأن الحق سبحانه يقول : الحمد لله أن وافق حكمكم ما أريد، فقد نطقتم أنتم وحكمتم.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون " ٧٥ " ﴾( سورة النحل )، قوله :﴿ أكثرهم لا يعلمون ﴾، يدل على أن الأقلية تعلم، وهذا ما يسمونه " صيانة الاحتمال " ؛ لأنه لما نزل القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يفكرون في الإيمان واعتناق هذا الدين، فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يصدم هؤلاء، وربما صرفهم عما يفكرون فيه من أمر الإيمان، فالقرآن يصون الاحتمال في أن أناساً منهم عندهم علم، ويرغبون في الإيمان.
وهذا مثل آخر لرجلين أحدهما أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم.. ولابد أن يسبق البكم صمم ؛ لأن الكلام وليد السمع، فإذا أخذنا طفلاً عربياً وربيناه في بيئة إنجليزية نجده يتكلم الإنجليزية، والعكس صحيح ؛ ذلك لأن الكلام ليس جنساً أو دماً أو لحماً، بل هو وليد البيئة، وما تسمعه الأذن ينطق به اللسان.. فإذا لم يسمع شيئاً فكيف يتكلم ؟
لذلك، فربنا سبحانه تعالى يقول عن الكفار :﴿ صم بكم.. " ١٨ " ﴾( سورة البقرة )، هذا الأبكم لا يقدر على شيء من العمل والنفع لك، يقول تعالى :﴿ وهو كل على مولاه.. " ٧٦ " ﴾( سورة النحل )، أي : عالة على سيده، لا ينفع حتى نفسه، ومع ذلك قد يكون عنده حكمة يقضي بها شيئاً لسيده، حتى هذه ليست عنده.
﴿ أينما يوجهه لا يأت بخيرٍ.. " ٧٦ " ﴾( سورة النحل )، إذن : لا خير فيه، ولا منفعة ألبتة، لا له ولا لغيره، هذه صفات الرجل الأول. فماذا عن مقابله ؟ ﴿ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل.. " ٧٦ " ﴾( سورة النحل )، وهذه أول صفات الرجل الآخر، أنه يأمر بالعدل، وصفة الأمر بالعدل تقتضي أنه سمع منهجاً، ووعته أذنه، وانطلق به لسانه آمراً بالعدل، وهذه الصفة تقابل : الأبكم الذي لا يقدر على شيء.
﴿ وهو على صراطٍ مستقيمٍ " ٧٦ " ﴾( سورة النحل )، أي : أنه يذهب إلى الهدف مباشرة، ومن أقصر الطرق، وهذه تقابل : أينما يوجهه لا يأت بخير. والسؤال هنا أيضاً : هل يستويان ؟ والإجابة التي يقول بها العقل : لا.
وهذا مثل آخر للأصنام.. فهي لا تسمع، ولا تتكلم، ولا تفصح، وهي لا تقدر على شيء لا لها ولا لعابديها.. بل هي عالة عليهم، فهم الذين يأتون بها من حجارة الجبال، وينحتونها وينصبونها، ويصلحون كسرها، وهكذا هم الذين يخدمونها ولا ينتفعون منها بشيء.
فإذا كنتم لا تسوون بين الرجل الأول والرجل الآخر الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فكيف تسوون بين إله له صفة الكمال المطلق، وأصنام لا تملك لكم نفعاً ولا ضراً ؟ ! أو نقول : إن هذا مثل للمؤمن والكافر ؛ بدليل أن الحق سبحانه في المثل السابق قال :﴿ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً.. " ٧٥ " ﴾( سورة النحل )،
وفي مقابله قال :﴿ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً.. " ٧٥ " ﴾( سورة النحل )، ولم يقل عبد أو رجل. إنما هنا قال :﴿ رجلين.. " ٧٦ " ﴾( سورة النحل )، فيمكن أن نفهم منه أنه مثل للرجل الكافر الذي يمثله الأبكم وللرجل المؤمن الذي يمثله من يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
أراد الحق سبحانه أن يعلمنا منه عالم الملك، ومنه عالم الملكوت.. عالم الملك : هو : العالم، منه : عالم الملك، ومنه : عالم الملكوت.. عالم الملك، هو : العالم المحس لنا، وعالم الملكوت المخفي عنا فلا نراه.
ولذلك، فربنا سبحانه وتعالى لما تكرم على سيدنا إبراهيم عليه السلام قال :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " ٧٥ " ﴾( سورة الأنعام ).
إذن : لله تعالى في كونه ظاهر وغيب.. الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس، وله أشياء غيبية لا يراها أحد، ولا يطلع عليها.. حتى في ذاتك أنت أشياء غيب لا يعلمها أحد من الناس، وكذلك عند الناس أشياء غيب لا تعرفها أنت.. وهذا الغيب نسميه : غيب الإنسان.
إذن : فأنا غائب عني أشياء، وغيري غائب عنه أشياء.. هذا الغيب الذي لا نعرفه يعده بعض الناس نقصاً فينا، وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية ؛ لأنك إن أردت أن تعلم غيب الناس فاسمح لهم أن يعلموا غيبك.
ولو خيرت في هذه القضية، لاخترت أن يحتفظ كل منكم بغيبه لا يطلع عليه أحد.. لا أعرف غيب الناس، ولا يعرفون غيبي ؛ ولذلك يقولون : " المغطى مليح ". فستر الغيب كمال في الكون ؛ لأنه يربي ويثري الفائدة فيه.. كيف ؟
هب أنك تعرف رجلاً مستقيماً كثير الحسنات، ثم اطلعت على سيئة واحدة عندما كانت مستورة، فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تزهدك في كل حسناته، وتكرهك فيه، وتدعوك إلى النفرة منه، فلا تستفيد منه بشيء، في حين لو سترت عنك هذه السيئة لاستطعت الانتفاع بحسناته.. وهكذا ينمي الغيب الفائدة في الكون.
وفي بعض الآثار الواردة يقول الحق سبحانه :" ياابن آدم سترت عنك وسترت منك، فإن شئت فضحنا لك وفضحناك، وإن شئت أسبلنا عليك سبال الستر إلى يوم القيامة ". فاجعل نفسك الآن المخاطب بهذا الحديث، فماذا تختار ؟
أعتقد أن الجميع سيختار الستر.. فمادمت تحب الستر وتكره أن يطلع الناس على غيبك، فإياك أن تتطاول لتعرف غيب الآخرين.
والغيب : هو ما غاب عن المدركات المحسة، من السمع والبصر والشم والذوق، وما غاب عن العقول من الإدراكات المعنوية.
وهناك غيب وضع الله في كونه مقدمات توصل إليه وأسباباً لئلا يكون غيباً.. كالكهرباء والجاذبية وغيرها.. كانت غيباً قبل أن تكتشف.. وهكذا كل الاكتشافات والأسرار التي يكشفها لنا العلم، كانت غيباً عنا في وقت، ثم صارت مشاهدة في وقت آخر. ذلك ؛ لأن الحق سبحانه لا ينثر لنا كل أسرار كونه مرة واحدة، بل ينزله بقدرٍ ويكشفه لنا بحساب، فيقول سبحانه :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " ٢١ " ﴾( سورة الحجر ) : فالذي كان غيباً في الماضي أصبح ظاهراً مشاهداً اليوم ؛ لأن الله سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصلنا إليه.. فهذا غيب جعل الله له مقدمات يصل إليها من يبحث في الكون، فإذا ما أذن الله به، وحان وقت ميلاده، وفق الله أحد الباحثين إلى اكتشافه، إما عن طريق البحث، أو حتى الخطأ في المحاولة، أو عن طريق المصادفة.
ولذلك إذا بحثت في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت ٩٠% منها جاءت مصادفة، لم يكونوا بصدد البحث عنها أو التوصل إليها، وهذا ما نسميه " غيب الأكوان ". ومثال هذا الغيب : إذا كلفت ولدك بحل تمرين هندسي.. ومعنى حل التمرين : أن يصل الولد إلى نقطة تريد أنت أن يصل إليها.. ماذا يفعل الولد ؟ يأخذ ما تعطيه من معطيات، ثم يستخدم ما لديه من نظريات، وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها المطلوب.
فالولد هنا لم يأت بجديد، بل استخدم المعطيات، وهكذا الأشياء الموجودة في الكون هي المعطيات من بحث فيها توصل إلى غيبيات الكون وأسراره. وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. " ٢٥٥ " ﴾
( سورة البقرة ) : فإذا أذن الله لهم تكشفت لهم الأسرار : إما بالبحث، وإما بالخطأ، أو حتى بالمصادفة.. فطالما حان وقت ميلاد هذا الغيب واكتشافه ؛ فإن صادف بحثاً من البشر التقيا، وإلا أظهره الله لنا دون بحث ودون سعي منا.
وهناك نوع آخر من الغيب، وهو الغيب المطلق، وهو غيب عن كل البشر استأثر الله به، وليس له مقدمات وأسباب توصل إليه، كما في النوع الأول.. هذا الغيب، قال تعالى في شأنه :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " ٢٦ " إلا من ارتضى من رسولٍ.. " ٢٧ " ﴾( سورة الجن ) : فإذا ما أعلمنا الرسول غيباً من الغيبيات فلا نقول : إنه يعلم الغيب.. لأنه لا يعلم إلا ما أعلمه الله من الغيب.. إذن : هذا غيب لا يدركه أحد بذاته أبداً.
ومن هذا الغيب المطلق غيب استأثر الله به، ولا يطلع عليه أحداً حتى الرسل..
<ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " >
وفي الإسراء والمعراج يحدثنا صلى الله عليه وسلم أن الله قد أعطاه ثلاثة أوعية : وعاء أمره بتبليغه، وهو : وعاء الرسالة، ووعاء خيره فيه، فلا يعطيه إلا لأهل الاستعداد السلوكي، الذين يتقبلون أسرار الله، ولا تنكرها عقولهم، ووعاء منعه، فهو : خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول راوي الحديث : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وعاءين، أما أحدهما فقد بثثته، أي : رويته وقلته للناس، وأما الآخر : فلو بحت به لقطع حلقومي هذا، فهذا من الأسرار التي يختار الرسول صلى الله عليه وسلم، لها من يحفظها.
قوله تعالى :﴿ ولله غيب السماوات والأرض.. " ٧٧ " ﴾( سورة النحل )، هذا يسمونه أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، أي : قصر غيب السماوات والأرض عليه سبحانه، فلو قلنا مثلاً : غيب السماوات والأرض لله، فيحتمل أن يقول قائل : ولغير الله، أما :﴿ ولله غيب السماوات والأرض.. " ٧٧ " ﴾( سورة النحل ) :
أي : له وحده لا شريك له. ومعنى السماوات والأرض، أي : وما بينهما وما وراءهما، ولكن المشهور من مخلوقات الله : السماء، والأرض. ثم يقول تعالى :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.. " ٧٧ " ﴾( سورة النحل ) : جاءت الآية بهذا الغيب الوحيد ؛ لأنه الغيب الذي استأثر الله به.. ولا يجليها لوقتها إلا هو.. فناسب الحديث عن الغيب أن يأتي بهذا الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله. وما هو لمح البصر ؟
عندنا أفعال متعددة تدل كلها على الرؤية العامة، وإن كان لكل منها معنى خاص بها نقول : رأى ونظر ورمق ولحظ ولمح.. فرأى مثلاً، أي : بجمع عينه، ورزق : بأعلى، ولحظ : بجانب، فكلها مرتبطة بحركة الحدقة، هذه الحركة ما نسميه باللمح.
إذن : لمح البصر هو تحرك حدقة العين إلى ناحية الشيء المرئي.. فإن أردت أن ترى ما فوقك تحركت بالحدقة إلى أعلى، وإن أردت أن ترى ما هو أسفل تحركت الحدقة إلى أسفل وهكذا. هذه الحركة هي لمح البصر، انتقال الحدقة من وضع إلى وضع.
إذن : شبه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر، ولكن اللمح حدث، والأحداث تحتاج إلى أزمان، وقد تطول الأزمان في ذاتها، ولكنها تقصر عند الرائي.
وقد قرب إلينا العلم الحديث هذه القضية، بما توصل إليه من إعادة المشاهد المصورة على البطيء ؛ ليعطيك فرصة متابعتها بدقة، فنراهم مثلاً يعيدون لك مشهداً كروياً لترى كل تفاصيله، فتجد المشهد الذي مر كلمح البصر، يعرض أمامك بطيئاً في زمن أطول، في حين أن الزمن في السرعة يتجمع تجمعاً لا تدركه أنت بأي معيار، لا بالدقيقة ولا بالثانية.
إذن : فهي جزئيات حركة في جزئيات زمان، فلمح البصر، الذي هو : تحرك حدقة العين، تحتاج لوقت ولزمن متداخل، وليس هكذا أمر الساعة، بل هذا أقرب ما يعرفه الإنسان، وأقرب تشبيه لفهم أمر الساعة بالنسبة له سبحانه.
إذا قيل لك : ما أمر فلان ؟ وما شأنه ؟. تأخذ في سرد الأحداث.. حدث كيت وكيت.. فإذا قلنا : ما أمر الساعة ؟ ما شأنها ساعة تقوم، حيث يموت الأحياء أولاً، ثم يحيا الجميع من لدن آدم عليه السلام، ثم حشر وحساب وثواب وعقاب.
أحداث كثيرة وعظيمة لخلق متعددين من الإنس والجن.. يحدث هذا كله كلمح البصر بالنسبة لنا، ولكن إياك أن تتصور أن هذا يحتاج إلى وقت بالنسبة لله سبحانه.
فالأشياء بالنسبة له سبحانه لا تعالج، وإنما هي : كن فيكون، حتى كن فيكون من حرفين : الكاف لفظ وله زمن، والنون لفظ وله زمن، إنما أمر الساعة أقرب من الكاف والنون، ولكن ليس هناك أقل من هذا في فهمنا.
والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن أهل القبور، قال :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها " ٤٦ " ﴾( سورة النازعات )، في حين أننا نرى أنهم غابوا كثيراً في قبورهم.. إذن : كيف يقاس الزمن ؟.. يقاس بتتبعك للأحداث، فحينما لا يوجد حدث لا يوجد زمن.. وهذا ما نراه في حال النائم الذي لا يستطيع تحديد الزمن الذي نامه، إلا على غالب ما يكون في البشر.
ولذلك، في قصة أهل الكهف الذين ناموا ثلاث مائة عام وتسعة أعوام قالوا :﴿ لبثنا يوماً أو بعض يومٍ.. " ١١٣ " ﴾( سورة المؤمنون ) : فهذا هو الغالب في عرف الناس ؛ ذلك لأنهم استيقظوا فلم يجدوا شيئاً حولهم يدل على زمن طويل.. الحال كما هو لم يتغير فيهم شيء.. فلو استيقظوا فوجدوا أنفسهم شيوخاً بعد أن كانوا فتية لعلموا بمرور الزمن.. إذن : الزمن بالنسبة لعدم الحدوث زمن ملغي.
أو نقول : إن أمر الساعة في أن الحق سبحانه يجعلها جامعة للناس إلا كلمح البصر، فكل ما يحدث فيها لا تقيسه بزمن ؛ لأن الذي يقاس بالزمن إنما هي الأحداث الناشئة من فاعل له قدرة وقوة تتوزع على الزمن.
فلو أردت نقل هذا الشيء من هنا إلى هنا، فسوف يحتاج منك وقتاً ومجهوداً، أما لو كلفت طفلاً بنقل هذا الشيء، فسوف يأخذ وقتاً أكثر ويحتاج مجهوداً أكثر.. إذن : فالزمن يتناسب مع قدرة الفاعل تناسباً عكسياً.
<ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدث الناس بالإسراء والمعراج، قالوا : أتدعي أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً.. هذا لأن انتقالهم يحتاج لعلاج ومزاولة، تأخذ وقتاً يتناسب وقدراتهم في الانتقال بالإبل من مكة إلى بيت المقدس.. ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقل : أسريت، بل قال : أسرى بي، الذي أسرى به هو الله سبحانه، فالزمن يقاس بالنسبة للحق سبحانه وتعالى، وكذلك إذا قيس زمن أمر الساعة بالنسبة لقدرته سبحانه فإنه يكون كلمح البصر، أو هو أقرب من ذلك.. إنما هو تشبيه لنقرب لكم الفهم. وقوله :﴿ إن الله على كل شيءٍ قدير " ٧٧ " ﴾( سورة النحل )، أي : يكون أمر الساعة كذلك ؛ لأن الله قادر على كل شيء، ومادامت الأحداث تختلف باختلاف القدرات، فقدرة الله هي القدرة العليا التي لا تحتاج لزمن لفعل الأحداث.
( من بطون أمهاتكم )، المراد : الأرحام ؛ لأنها في البطون، والمظروف في مظروف يعتبر مظروفاً، كما لو قلت : في جيبي كذا من النقود، أو في حافظتي كذا من النقود.. العبارتان معناهما واحد.
وأمهاتكم : جمع أم، والقياس يقتضي أن نقول في جمع أم : أمات، ولكنه قال :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم.. " ٧٨ " ﴾ ( سورة النحل )، بزيادة الهاء. وساعة يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية، فكل أجهزته تابعة لأمه.. فإذا شاء الله أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة.. وعند الولادة نرى أطباء التوليد يقولون : الجنين في الوضع الطبيعي، أو في غير الوضع الطبيعي.. فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولادة ؟
الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولادة إلى أسفل، هذا هو الوضع الطبيعي ؛ لأن الحق سبحانه أراد أن يخرجه خلقاً آخر :﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر.. " ١٤ " ﴾ ( سورة المؤمنون )، كأنه كان خلقاً، لكنه كان تابعاً لأمه، فيخرجه الله خلقاً آخر مستقلاً بذاته.. فتكون الرأس إلى أسفل، وهي أول ما ينزل من المولود، وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس.
ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه، وبالتنفس تكون له ذاتية، فإذا ما تعسر خروج باقي جسمه، فتكون له فرصة التنفس، وهذا من لطف الله سبحانه ؛ لأن الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه.
أما إذا حدث العكس، فكان الرأس إلى أعلى، ونزل الجنين بقدميه، فبمجرد نزول الرجلين ينفصل عن أمه، ويحتاج إلى حياة ذاتية، ويحتاج إلى تنفس، فإذا ما تعسرت الولادة حدث اختناق، ربما يؤدي إلى موت الجنين.
العلم أخذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها، وعليها دليل ؛ وقوله تعالى :﴿ لا تعلمون شيئاً.. " ٧٨ " ﴾ ( سورة النحل )، ذلك لأن وسائل العلم والإدراك لم تعمل بعد، فإذا أراد الله له أن يعلم يخلق له وسائل العلم، وهي الحواس الخمس : السمع والبصر والشم واللمس والتذوق، هذه هي الحواس الظاهرة التي بها يكتسب الإنسان العلوم والمعارف، وبها يدرك ما حوله.
وإن كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواس الأخرى، ففي علم وظائف الأعضاء يقولون : إنك إذا حملت قطعتين من الحديد مثلاً، فبأي حاسة تميز بينهما من حيث الثقل ؟
هذه لا تعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوق أو الشم.. إذن : هناك حاسة جديدة تميز الثقل هي حاسة العضل.
وكذلك توجد حاسة البين، التي تتمكن بها من معرفة سمك القماش مثلا، وأنت في محل الأقمشة، حيث تفرك القماش بين أصابعك، وتستطيع أن تميز بين الرقيق والسميك. فالطفل المولود إذن لا يعلم شيئاً، فهذا أمر طبيعي، لأن وسائل العلم والإدراك لديه لم تؤد مهمتها بعد. وقوله تعالى :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. " ٧٨ " ﴾( سورة النحل ).
وقد بين لنا علماء وظائف الأعضاء : أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب الطبيعي، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً، ثم بعد حوالي عشرة أيام يبصر.. وتستطيع تجربة ذلك، فترى الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولادته، ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه لا يطرف ؛ لأنه لم ير بعد. ومن السمع والبصر وهما السادة على جميع الحواس تتكون المعلومات التي في الأفئدة، هذا الترتيب القرآني الوجودي، وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلم الحديث. ونلاحظ في الآية إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. " ٧٨ " ﴾( سورة النحل )، فلماذا لم يأت السمع جمعاً ؟ المتحدث هنا هو الحق سبحانه ؛ لذلك تأتي الألفاظ دقيقة معجزة.. ولننظر لماذا السمع هنا مفرد ؟ فرق بين السمع وغيره من الحواس، فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع، فليس في الأذن ما يمنع السمع، وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألا نسمع، فكأن السمع واحد عند الجميع، أما المرئي فمختلف ؛ لأننا لا ننظر جميعاً إلى شيء واحد.. بل المرائي عندنا مختلف، فهذا ينظر للسقف، وهذا ينظر للأعمدة.. إلى آخره. إذن : المرائي لدينا مختلفة.. كما أن للعين قفلاً طبيعياً يمكن إسداله على العين فلا ترى، فكأن الأبصار لدينا مختلفة متعددة.
وكذلك الحال في الأفئدة، جاءت جمعاً ؛ لأنها متعددة مختلفة، فواحد يعي ويدرك، وآخر لا يعي ولا يدرك، وقد يعي واحد أكثر من الآخرين.
إذن : إفراد السمع هنا آية من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز ؛ لأن المتكلم هو رب العزة سبحانه.
ونلاحظ أيضاً تقديم السمع على باقي الحواس ؛ لأنه أول الإدراكات، ويصاحب الإنسان منذ أن يولد إلى أن يفارق الحياة، ولا يغيب عنه حتى لو كان نائماً ؛ لأن بالسمع يتم الاستدعاء من النوم.
وقد قلنا في قصة أهل الكهف : أنهم ما كان لهم أن يناموا في سبات عميق ثلاثمائة وتسع سنين، إلا إذا حجب الله عنهم هذه الحاسة، فلا تزعجهم الأصوات. فقال تعالى :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً " ١١ " ﴾ ( سورة الكهف )، أي : قلنا للأذن تعطلي هذه المدة حتى لا تزعجهم أصوات الصحراء، وتقلق مضاجعهم، والله تعالى يريد لهم السبات والنوم العميق. وفي قوله تعالى :﴿ وجعل لكم السمع.. " ٧٨ " ﴾ ( سورة النحل )، هل توجد هذه الإدراكات بعد الإخراج :( الميلاد )، أم هي موجودة قبله ؟.. يجب أن نفرق بين السمع وآلته، فقبل الإخراج تتكون للجنين آلات البصر والسمع والتذوق وغيرها.. لكنها آلات لا تعمل، فالجنين في بطن أمه تابع لها، وليست له حياة ذاتية، فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقل بحياته يجعل الله له هذه الآلات تعمل عملها.
إذن : فمعنى :﴿ وجعل لكم السمع.. " ٧٨ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : جعل لكم الاستماع، لا آلة السمع. وقوله :﴿ لعلكم تشكرون " ٧٨ " ﴾ ( سورة النحل )، توحي الآية بأن السمع والأبصار والأفئدة ستعطي لنا كثيراً من المعلومات الجديدة والإدراكات التي تنفعنا في حياتنا وفي مقومات وجودنا، وننفع بها غيرنا، وهذه النعم تستحق منا الشكر. فكلما سمعت صوتاً أو حكمة تحمد الله أن جعل لك أذناً تسمع، وكلما أبصرت منظراً بديعاً تحمد الله أن جعل لك عيناً ترى، وكلما شممت رائحة زكية تحمد الله أن جعل لك أنفاً تشم.. وهكذا تستوجب النعم شكر المنعم سبحانه.
ولكي تقف على نعم الله عليك، انظر إلى من حرموا منها، وتأمل حالك وحالهم، وما أنت فيه من نعم الحياة ولذاتها، وما هم فيه من حرمان.
فالحق سبحانه ينقلنا هنا إلى صورة أخرى من صور الكون.. بعد أن حدثنا عن الإنسان وما حوله.. فالإنسان قبل أن يخلقه الله في هذا الوجود أعد له مقومات حياته، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء والمياه والهواء، كل هذه أشياء وجدت قبل الإنسان ؛ لتهيئ له الوجود في هذا الكون.
والله سبحانه يريد منا بعد أن كفل لنا استبقاء الحياة بالرزق، واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر، يريد منا إثراء عقائدنا بالنظر في ملكوت الله وما فيه من العجائب ؛ لنستدل على أنه سبحانه هندس كونه هندسة بديعة متداخلة، وأحكمه إحكاماً لا تصادم فيه.
﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " ٤٠ " ﴾( سورة يس ) : فالنظر إلى كون الله الفسيح، كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام، كم هو ملئ بالحركة والسكون والاستدارة. ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم، ولم تحدث منه مضرة أبداً في يوم من الأيام.. الكون كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب ؛ ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة انظر إلى صنعة الإنسان، كم فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها الآلاف.
هذا مثل مشاهد للجميع، الطير في السماء.. ما الذي يمسكه أن تقع على الأرض ؟ وكأن الحق سبحانه يجب أن يلفتنا إلى قضية أكبر :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.. " ٤١ " ﴾( سورة فاطر )، فعلينا أن نصدق هذه القضية.. فنحن لا ندرك بأعيننا جرم الأرض، ولا جرم الشمس والنجوم والكواكب.. نحن لا نقدر على معرفة كل ما في الكون.. إذن : يجب علينا أن نصدق قول ربنا ولا نجادل فيه.
وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم :﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله.. " ٧٩ " ﴾( سورة النحل )، إياك أن تقول إنها رفرفة الأجنحة، فنحن نرى الطائر يثبت أجنحته في الهواء، ومع ذلك لا يقع إلى الأرض، فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع ؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى :﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن.. " ١٩ " ﴾( سورة الملك )، أي : أنها في حالة بسط الأجنحة، وفي حالة قبضها تظل معلقة لا تسقط. وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة، لكنه لا يطير : مثل الأوز وغيره من الطيور.
إذن : ليست المسألة مسألة أجنحة، بل هي آية من آيات الله تمسك هذا الطير في جو السماء.. فتراه حراً طليقاً لا يجذبه شيء إلى الأرض، ولا يجذبه شيء إلى السماء، بل هو حر يرتفع إن أراد الارتفاع، وينزل إن أراد النزول.
فهذه آية محسة لنستدل بها على قدرة الله غير المحسة إلا بإخبار الله عنها، فإذا ما قال سبحانه :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.. " ٤١ " ﴾( سورة فاطر ) : آمنا وصدقنا. وقوله تعالى :﴿ في جو السماء.. " ٧٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : في الهواء المحيط بالأرض، والمتأمل في الكون يجد أن الهواء هو العامل الأساسي في ثبات الأشياء في الكون، فالجبال والعمارات وغيرها.. ما الذي يمسكها أن تقع ؟. إياك أن تظن أنه الأسمنت والحديد وهندسة البناء.. لا.. بل يمسكها الهواء الذي يحيط بها من كل جانب، بدليل أنك لو فرغت جانباً منها من الهواء لانهارت فوراً نحو هذا الجانب ؛ لأن للهواء ضغطاً، فإذا ما فرغت جانباً منها قل فيه الضغط فانهارت. فالهواء إذن هو الضابط لهذه المسألة، وبالهواء يتوازن الطير في السماء، ويسير كما يهوى، ويتحرك كما يحب.
ثم يقول تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقومٍ يؤمنون " ٧٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات، أي : عجائب، عجائب صنعة وعجائب خلق، يجب أن تتفكروا فيها وتعتبروا بها.
ولكي نقف على هذه الآية في الطير نرى ما حدث لأول إنسان حاول الطيران.. إنه العربي عباس بن فرناس، أول من حاول الطيران في الأندلس، فعمل لنفسه جناحين، وألقى بنفسه من مكان مرتفع.. فماذا حدث لأول طائر بشري ؟.
طار مسافة قصيرة، ثم هبط على مؤخرته فكسرت ؛ لأنه نسى أن المسألة ليست مجرد الطيران، فهناك الهبوط الذي نسي الاستعداد له، وفاته أن يعمل له ( زمكي )، وهو : الذيل الذي يحفظ التوازن عند الهبوط.
وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف ؟ وكم فيها من أجهزة ومعدات قياس وانضباط ؟ وبعد ذلك تحتاج لقائد يقودها أو موجه يوجهها، وحينما أرادوا صناعة الطائرة جعلوها على شكل الطير في السماء، له جناحان ومقدمة وذيل، ومع ذلك ماذا يحدث لو تعطل محركها.. أو اختل توازنها ؟ !
إذن : الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبر ؛ لنعلم منها قدرة الخالق سبحانه. ويقول تعالى :﴿ لقومٍ يؤمنون " ٧٩ " ﴾( سورة النحل )، يؤمنون بوجود واجب الوجود، يؤمنون بحكمته ودقة صنعه، وأنها لا مثيل لها من صنعة البشر مهما بلغت من الدقة والإحكام.
قوله :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً.. " ٨٠ " ﴾( سورة النحل ).
كلمة سكن مأخوذة من السكون، والسكون ضد الحركة، فالبيت نسميه سكناً ؛ لأن الإنسان يلجأ إليه ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت، إذن : في الخارج حركة، وفي البيت سكن. والسكن قد يكون مادياً كالبيت، وهو سكن القالب، وقد يكون معنوياً، كما قال تعالى في حق الأزواج.
﴿ خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها.. " ٢١ " ﴾( سورة الروم ) فالزوجة سكن معنوي لزوجها، وهذا يسمونه سكن القلب. فإن قال قائل :﴿ من بيوتكم.. " ٨٠ " ﴾( سورة النحل ). يعني : نحن الذين صنعناها وأقمناها. فكيف جعلها الله لنا ؟. نقول : وأنت كيف صنعتها ؟ ومم بنيتها ؟ صنعتها من غاب أو خشب، أو بنيتها من طين أو طوب.. كل هذه المواد من مادة الأرض من عطاء الله لك، وكذلك العقل الذي يفكر ويرسم، والقوة التي تبني وتشيد كلها من الله.
إذن :( جعل لكم )، إما أن يكون جعلاً مباشراً، وإما أن يكون غير مباشر.. فالله سبحانه جعل لنا هذه المواد.. هذا جعل مباشر، وأعاننا وقوانا على البناء.. هذا جعل غير مباشر. لكن في أي الأماكن تبني البيوت ؟.
البيوت لا تبنى إلا في أماكن الاستقرار، التي تتوفر لها مقومات الحياة.. فقبل أن ننظم مدينة سكنية، نبحث أولاً عن مقومات الاستقرار فيها، من مأكل ومشرب ومرافق وخدمات ومياه وصرف.. إلى آخره.
فإن وجدت هذه المقومات فلا مانع من البناء هنا.. فإذا لم توجد المرافق في الصحراء ومناطق البدو، هنا لا يناسبها البيوت والبناء الدائم، بل يناسبها :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.. " ٨٠ " ﴾( سورة النحل )، فنرى أهل البدو يتخذون من الجلود بيوتاً مثل الخيمة والفسطاط.. حيث نراهم كثيري التنقل يبتغون مواطن الكلأ والعشب، ويرحلون طلباً للمرعى والماء، وهكذا حياتهم دائمة التنقل من مكان لآخر.. فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف، أو من وبر خفيف الحمل، يضعونه أينما حطوا رحالهم، ويرفعونه أينما ساروا.. والظعن، هو : التنقل من مكان لآخر.
إذن : كلمة ( سكن )، تفيد الاستقرار، وتوفر كل مقومات الحياة ؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول لآدم :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة.. " ٣٥ " ﴾( سورة البقرة ) أي : المكان الذي فيه راحتكم، وفي نعيمكم، فحدد له مكان إقامة وسكن.. ومكان الإقامة هذا قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً، مثل لو قلت : اسكن الإسكندرية.. هذا سكن عام، فلو أردت السكن الحقيقي الخاص بك لقلت : اسكن في شارع كذا، وفي عمارة رقم كذا، وفي شقة رقم كذا، وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه.
إذن : هذا سكن خاص بك.. سكنك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية، فالسكن يحتاج إلى استقرار ذاتي لا يشاركك فيه أحد ؛ ولذلك نرى بعض سكان العمارات يشكون من الإزعاج والضوضاء، ويتمنون أن يعيشوا في بيوت مستقلة تحقق لهم الراحة الكافية التي لا يضايقهم فيها أحد.
إذن : حينما ننظر إلى السكون.. إلى السكن، نحتاج المكان الضيق الذي يحقق لن الخصوصية التامة التي تصل إلى حجرة مجرد حجرة، ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص بي، وقد تصل الخصوصية أن نجعل لكل ولد من الأولاد سريراً خاصاً به في نفس الحجرة.
فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا الإنسان على العكس يطلب السعة ؛ لأن الحركة تقتضي السعة في المكان، فمن كان عنده مزرعة يطلب عزبة، ومن كان عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة وهكذا ؛ لأن حركة الحياة تحتاج مجالاً واسعاً فسيحاً.
هذا عن النوع الأول، وهو السكن المادي ؛ سكن القالب، وهو من أعظم نعم الله على عباده.. أن يكون لهم سكن يأوون إليه، ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة. ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يعذب بني إسرائيل، أشاع سكنهم في الأرض كلها، وحرمهم من نعمة السكن الحقيقي الخاص، فقال تعالى :
﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض.. " ١٠٤ " ﴾( سورة الإسراء ). فالأرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس.. فليس لهم بلد تجمعهم، بل بددهم الله في الأرض، ولم يجعل لهم وطناً، كما قال في آية أخرى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمماً.. " ١٦٨ " ﴾( سورة الأعراف ). حتى في البلاد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم لا يذوبون في غيرهم، وهكذا سكنوا الأرض ولم تحدد لهم بلد.
أما النوع الثاني من السكن، وهو السكن المعنوي أو سكن القلب، فهو سكن الزوج إلى زوجته الصالحة التي تخفف عنه عناء الحياة وهمومها، تبتسم في وجهه إن كان مسروراً وتهدئ من غضبه إن كان مغضباً، تحتويه بما لديها من حب وحنان وإخلاص.. هذا هو السكن المعنوي، سكن القلب. وقوله :﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين " ٨٠ " ﴾( سورة النحل ). الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والشعر للماعز.. فما الفرق بين هذه الثلاث في الاستعمال ؟.
يستعمل الناس كلاً من الصوف والوبر ؛ لأن الشعيرات فيها دقيقة جداً يمكن ندفها وغزلها والانتفاع بها في الفرش والأبسطة والألحفة والملابس وغيرها مما يحتاجه الناس. أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة لا يمكن ندفعها أو غزلها فلا يمكن الانتفاع به في هذه المنسوجات، وقوله تعالى :﴿ أثاثا ومتاعا إلى حين " ٨٠ " ﴾( سورة النحل ). الأثاث : هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالأبسطة والمفارش والملابس والستائر.
والمتاع : هو ما يستمتع وينتفع به.. والفرق بينهما : أن الأثاث قد يكون ثابتاً لا يتغير كثيراً، أما المتاع فقد يتغير حسب الحاجة.
فأنت مثلاً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث، ملون مثلاً، لكن قلما تغير الثلاجة أو الغسالة مثلاً. وقوله :﴿ إلى حين " ٨٠ " ﴾( سورة النحل ) ؛ لأن الإنسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته، وقد تلهيه هذه النعم عن مطلوب المنعم سبحانه، فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن المنعم الذي أنعم عليه بها.. فتأتي هذه الآية محذرة. إياك أن تغتر بالمتاع والأثاث ؛ لأنها متاع إلى حين.. متاع موقوت لا يدوم، ومهما استوفيت حظك منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين :
إما أن تفوتها بالموت، وإما أن تفوتك بالفقر والحاجة.. إذن : هي ذاهبة ذاهبة.. فتذكروا دائماً قوله تعالى :﴿ إلى حين " ٨٠ " ﴾( سورة النحل )، فمتاع النعمة موقوت، لكن متاع المنعم سبحانه خالد.
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الاستقرار، ويجدون مقومات الحياة، وتكلم عن أهل الترحال والتنقل وما يناسبهم من بيوت خفيفة يحملونها عند ترحالهم. ثم تحدث هنا عن هؤلاء الذين لا يملكون شيئاً، ولا حتى جلود الأنعام.. ماذا يفعل هؤلاء ؟
الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظلون به من وهج الشمس، وجعل لهم من الكهوف والسراديب في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه. وهكذا استوعبت الآيات جميع الحالات التي يمكن أن يكون عليها بشر، فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس، بحيث يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من نعم الله.
أما من لا يملك بيتاً يأويه، وليس عنده من الأنعام ما يتخذ من جلودها بيتاً، فقد جعل الله له الأشجار يستظل بها من حر الشمس، وجعل له كهوف الجبال تكنه وتأويه.
ونلاحظ هنا أن الآية ذكرت الظل الذي يقينا حر الشمس، ولم تذكر مثلاً البرد ؛ ذلك لأن القرآن الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلاد حارة، وحاجتها إلى الظل أكثر من حاجتها إلى الدفء. وقوله :﴿ ظلالاً.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل ) : الظلال جمع ظل، وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها، وقد يوصف الظل بأنه ظل ظليل.. أي : الظل نفسه مظلل، وهذا ما نراه في صناعة الخيام مثلاً، حيث يجعلونه لها سقفاً من طبقة واحدة تتلقى حرارة الشمس، وإن حجبت أشعة الشمس فلا تحجب الحرارة، وهنا يلجأون إلى جعل السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس.
وهنا نقول : إن الظل نفسه مظلل، وكذلك الحال في ظل الأشجار حيث يظلل الورق بعضه بعضاً، فتشعر تحت ظل الأشجار بجو لطيف بارد حيث يغطيك ظل ظليل يحجب عنك ضوء الشمس، ويسمح بمرور الهواء فلا تشعر بالضيق.
لذلك فالشاعر يقول في وصف روضة : وقانا لفحة الرمضاء وداٍ يصد الشمس أنى واجهتنا سقاه مضاعف الغيث العميم فيحجبها ويأذن للنسيم.
وقوله :﴿ أكناناً.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل )، جمع كن، وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكناً وساتراً لمن يلجأ إليها ويحتمي بها، والكن من الستر ؛ لأنها تستر الناس ونحن نقول مثلاً للولد : " انكن " يعني : اسكن وانستر.
ويقول تعالى :﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل ). السرابيل : هي ما يلبس من الثياب أو الدروع :﴿ تقيكم الحر.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل ) أي : تحميكم من الحر.. فقال هنا الحر أيضاً ؛ لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد مخرجاً لهذه الآية فقال : المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد، ففي الآية اكتفاء بالحر عن البرد ؛ لأن الشيء إذا جاء يأتي مقابله.. فليس بالضرورة ذكر الحالتين، فإحداهما تعني الأخرى.
هذا دفاع مشكور منهم، ومعنى مقبول حول هذه الآية.. لكن لو فطنا إلى باقي الآيات التي تحدثت في هذا الموضوع لوجدناها : واحدة تتكلم عن الحر، وهي هذه الآية، وأخرى تتكلم عن البرد في قوله تعالى :﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء.. " ٥ " ﴾( سورة النحل )، أي : من جلود الأنعام وأصوافها نتخذ ما يقينا البرد، وما نستدفئ به.. وهكذا تتكامل الآيات وينسجم المعنى.
والمتأمل في تدفئة الإنسان يجد أن ما يرتديه من ملبوسات لا يعطي للإنسان حرارة تدفئه، بل تحفظ للإنسان حرارة جسمه فقط، فحرارة الإنسان ذاتية من داخله، وبهذه الحرارة يحفظ الخالق سبحانه الإنسان.
والأطباء يقولون : إن الجسم السليم حرارته ٣٧ درجة لا تختلف إن عاش عند خط الاستواء أو عاش في بلاد الاسكيمو في القطب الشمالي، فهذه هي الحرارة العامة للجسم. في حين أن أجهزة الجسم المختلفة ربما اختلفت درجة حرارتها، كل حسب ما يناسبه : فالكبد مثلاً درجة حرارته ٤٠ درجة، وتختل وظيفته إذا نقصت عن هذه الدرجة، في حين أن درجة حرارة جفن العين مثلاً ٩ درجة، ولو ارتفعت درجة حرارتها تذوب حبة العين، ويفقد الإنسان البصر.. فسبحان الله الذي حفظ حرارة هذه الأعضاء في الجسم لا يطغى أحدها على الآخر.
لذلك حينما سافرنا إلى أمريكا، وفي إحدى مناطق البرودة الشديدة كانت أول نصائحهم لنا ألا نمسك آذاننا بأيدينا.. لماذا ؟ قالوا : لأن درجة حرارة اليد أقل من درجة حرارة الأذن، ووضع اليد الباردة على الأذن قد تسبب كثيراً من الأضرار.
إذن : كل ما نستخدمه من ملابس وأعطية تقينا برد الشتاء لا تعطينا حرارة، بل تحفظ علينا حرارتنا الطبيعية فلا تتسرب، وبذلك تتم التدفئة.. وتستطيع أن تضع يدك على فراشك قبل أن تنام فسوف تجده بارداً، أما في الصباح فتجده دافئاً.. فالفراش اكتسب الحرارة من حرارة جسمك، وليس العكس.
وقوله :﴿ وسرابيل تقيكم بأسكم.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل ). البأس هنا : أي : الحرب، والسرابيل التي تقي من البأس : هي الدروع التي يلبسها الجنود في الحرب لتقيهم الضربات. ولكن هذه الآية في سياق الحديث عن بعض نعم الله علينا في الاستقرار والسكن وما جعله لنا من بيوت وظلال.. حياة دعة وسلام ونعمة، فما الداعي لذكر الحرب هنا ؟
ذلك لأن الحياة لها منطق سلامة للجميع، فإن اختل منطق السلامة فعلى الناس أن يقفوا في وجه من يخل بسلامة المجتمع وأن يكون على استعداد لذلك في كل وقت، لابد في وقت السلم أن نعد العدة للحرب ؛ لذلك تحدث عن الحرب وعدتها، وهو يتحدث عن السكون والاستقرار والنعمة.
والحق سبحانه وتعالى حين ينزل الآيات البينات التي تحمل لنا منهج السماء يقول :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.. " ٢٥ " ﴾( سورة الحديد )، هذا هو المنهج الذي يعتمد على الحجة والإقناع.. فإن لم يصلح هذا المنهج لبعض الناس وتمردوا عليه أتى إذن دور القوة والقهر، يقول تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. " ٢٥ " ﴾( سورة الحديد ).
وقوله :﴿ كذلك يتم نعمته عليكم.. " ٨١ " ﴾( سورة النحل ).
كأن من تمام نعمة الله أن نحفظها ممن يفسدها علينا، ونقف له بالمرصاد ونضرب على يده ؛ لأنه لو تركنا هؤلاء المفسدين في مجتمعنا فسوف يفسدون علينا هذه النعم، وسنظل مهددين، لا نشعر بلذة الحياة ومتعها.
إذن : لا تتم النعمة إلا بحفظ السلامة العامة للمجتمع. وقوله :﴿ لعلكم تُسْلِمُونَ " ٨١ " ﴾( سورة النحل )، تسلمون : أي : تلقون زمام الاستسلام إلى الله الذي أسلمت له، وأنت لا تلقي زمامك إلا لمن تثق فيه.. والإنسان قد يلقي زمامه في أمر لا يجيده إلى إنسان مثله يجيد هذا الأمر، فإذا كنت في حاجات نفسك تلقي زمامك لمن هو مثلك، ويساويك في قلة المعلومات، ويساويك في قلة الحكمة، ومع ذلك تسلم إليه أمرك لمجرد أنه يجيد شيئاً لا تجيده أنت، أفلا تلقي زمامك وتسلم أمرك إلى ربك وخالقك، وخالق كل هذه النعم من أجلك ؟.
إذن : جاء ذكر هذه النعم، ثم الأمر بإسلام الوجه لله والتسليم له سبحانه حتى نسلم عن يقين واقتناع، فالحق تبارك وتعالى ليس له مصلحة في طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، إن أطعناه فلن نزيد في ملكه سبحانه، وإن عصيناه فلن ننقص من ملكه سبحانه.
إذن : تسليمنا الأمر والزمام لله من مصلحتنا نحن.. فالإنسان حينما يسلم زمامه إلى غيره قد يكون للغير مصلحة تلوي رأيه في المسألة، إنما ربنا سبحانه حينما يوجه إلينا حكماً فليس له مصلحة فيه فلا يلوي، لا يكون إلا لصالحك.
وبعد أن عدد هذه النعم في الذات والمحيطات وفي السكن وفي الانطباعات. قال : إياك بعد ذلك أن تسلم زمامك لغيري، وإن أجريت عليك ما يخرجك عن نفع السلامة ؛ لأنني لا أجري عليك ما يخرجك عن نفس السلامة إلا لغرض أسلم منه.
لذلك نقول : لا عبادة كالتسليم ؛ لأن التسليم لحكمة تسليم لحكيم، تسليم لغير منتفع.. ومادمت قد سلمت زمامك لربك عز وجل يجلي لك الحكمة فيما جرى لك من الأحداث لتعلم رضاك عن حكمة لحكمته، فتقول : أنا رضيت بحكمك يا رب.
ولذلك نقول في الدعاء : أحمدك على كل قضائك، وجميع قدرك حمد الرضا بحكمك لليقين بحكمتك. أي : لك حكمة يا رب فيما أجريت علي من أحداث، ولكني لا أراها.
والذي يعلم مكانة التسليم لله تعالى فيما يجري عليه من أحداث وما يقع به من بلاء لا يضجر ولا يسخط ؛ لأنه بذلك يطيل على نفسه أمد القضاء ؛ لأن الله لا يرفع قضاءه عن عبده حتى يرضى به، فالله تعالى لا مجبر له.
فإن أردت رفع القضاء فارض به أولاً، وإذا لم يرفع عنك القضاء فاعلم أن مكان الرضى من نفسك لم يكن مقبولاً، قد ترضى بلسانك ولكن قلبك لا يزال ساخطاً ضجراً.
فالذي يسلم زمامه إلى الله ويرد كل حدث وقع أو بلاء نزل به يرده إلى الله، وإلى حكمة مجريه، الله تعالى يقول له : لقد فهمت عني، ويرفع عنه البلاء.
وفي مقام التسليم لله دائماً نذكر قصة سيدنا إبراهيم حينما أمره ربه بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام.. وهل هناك بلاء أكثر من أن يبتلى الرجل بذبح ولده الذي رزقه على كبر، ويذبحه هو بيده.
إنه ابتلاء من مراتب متعددة، ومن نواح مختلفة، وليت الأمر بوحي ظاهر، ولكنه بمنام كان يستطيع أن يتأول فيه، ولكن رؤيا الأنبياء حق.
ونرى إبراهيم عليه السلام يقص على ولده المسألة حرصاً عليه أن يتحول قلبه عن أبيه ساعة يأخذه ليذبحه، وأيضاً لكي يشاركه ولده في الرضا بقدر الله، ولا يحرم ثواب هذا الابتلاء.. فقال له :
﴿ إني أرى في المنام أني أذبحك.. " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات ). فليس الغرض هنا أن يزعجه أو يخيفه، ولكن ليقول له : هذه مسألة تعبدية أمرنا بها الخالق سبحانه ليكون على بصيرة هو أيضاً، ولا يتغير قلبه على أبيه. ولذلك كان الولد حكيماً في الرد، فقال :﴿ قال يا أبت افعل ما تؤمر.. " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات )، مادام الأمر من الله فافعل، وهكذا سلم إسماعيل كما سلم إبراهيم، فقال تعالى :﴿ فلما أسلما وتله للجبين " ١٠٣ " ﴾( سورة الصافات ). أسلما : أي : الأب والابن، ورضيا بقضاء الله، جاء الفرج ورفع القضاء، فقد فهم كل منهما الأمر عن الله، فلم يرفع القضاء وفقط، بل وفديناه بذبح عظيم، ليس هذا وفقط، بل ومننا عليه بولد آخر :﴿ وبشرناه بإسحاق.. " ١١٢ " ﴾( سورة الصافات ).
إذن : لعلكم تسلمون زمامكم إلى الله، وتعلمون أنه خلق لكم الكون قبل أن يوجدكم فيه، وأمدكم بكل متطلبات الحياة ضماناً لبقاء حياتكم، وضماناً لبقاء نوعكم، ومتعكم هذه المتع. فالذي أنعم عليكم بهذا كله عن غير حاجة له عندكم، جدير أن تسلموا له زمام أمركم وتسلموا له.
أي : لا تحزن يا محمد إذا أعرض قومك، فلست مأموراً إلا بالبلاغ، ويخاطبه الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " ﴾، ( سورة الشعراء )، أي : مهلكها. وقال تعالى :﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " ٤ " ﴾، ( سورة الشعراء ).
لكن الدين لا يقوم على السيطرة على القالب، وفرق بين السيطرة على القالب والسيطرة على القلب، فيمكنك بمسدس في يدك أن ترغمني على ما تريد، لكنك لا تستطيع أبداً أن ترغم قلبي على شيء لا يؤمن به، والله يريد منا القلوب لا القوالب، ولو أراد منا القوالب لجعلها راغمة خاضعة لا يشذ منها واحد عن مراده سبحانه.
ولذلك حينما أرسل الله سليمان عليه السلام وجعله ملكاً رسولاً، لم يقدر أحد أن يقف في وجهه، أو يعارضه لما له من السلطان والقوة إلى جانب الرسالة.. أما الأمر في دعوته صلى الله عليه وسلم فقائم على البلاغ فقط دون إجبار. وقوله :﴿ البلاغ المبين " ٨٢ " ﴾، ( سورة النحل )، أي : البلاغ التام الكامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة وحركاتها، فقد جاء المنهج الإلهي شاملاً للحياة بداية بقول : لا إله إلا الله، حتى إماطة الأذى عن الطريق، فلم يترك شيئاً إلا حدثنا فيه، فهذا بلاغ مبين محيط لمصالح الناس.. فلا يأتي الآن من يتمحك ويقول : ربنا ترك كذا أو كذا.. فمنهج الله كامل، فلو لم تأخذوه ديناً لوجب عليكم أن تأخذوه نظاماً.
ونرى الآن الأمم التي تعادي الإسلام تتعرض لمشاكل في حركة الحياة لا يجدون لها حلاً في قوانينهم، فيضطرون لحلول أخرى تتوافق تماماً أو قريباً من حل القرآن ومنهج الحق سبحانه وتعالى.
وقد حكى القرآن عنهم في آيات أخرى :
﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون " ٨٧ " ﴾( سورة الزخرف ).
وقال عنهم :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.. " ١٤ " ﴾( سورة النمل )، ذلك لأنهم يعلمون تماماً أن الله خلقهم، وأنه خلق السماوات والأرض.. يعلمون كل نعم الله عليهم، ومع ذلك ينكرونها ويجحدونها.. لماذا ؟ لأن الإيمان بالله والاعتراف بنعمه مسألة شاقة عليهم، ولو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها.. ما أسهل أن يقولوا " لا إله إلا الله " لكنهم يعلمون أن : لا إله إلا الله لها مطلوبات، فمادام لا إله إلا الله، فلا يشرع إلا الله، ولا يأمر إلا الله، ولا ينهي إلا الله، ولا يحل إلا الله، ولا يحرم إلا الله.
إذن : مطلوبات لا إله إلا الله جعلتهم في قالب من حديد، منضبطين بمنهج يهدم سيادتهم، ويمنع الطغيان والجبروت، منهج يسوي بين السادة والعبيد.
إذن : الدين الحق يقيد حركتهم، وهم لا يريدون ذلك، فتراهم يعرفون الله ولا يؤمنون به ؛ لأنهم يعلمون مطلوبات لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإلا لو كانت مجرد كلمة لقالوها.
وقوله :﴿ وأكثرهم الكافرون " ٨٣ " ﴾( سورة النحل ).
بعض العلماء يقولون : أكثرهم، يعني : كلهم.. لا.. بل هذا أسلوب قرآني لصيانة الاحتمال، وللاحتياط للقلة التي تفكر في الإسلام ويراودها أمر هذا الدين الجديد من هؤلاء الكفار، لابد أن نراعي أمر هذه القلة، ونترك لهم الباب مفتوحاً، فالاحتمال هنا قائم..
فلو قال القرآني : كلهم كافرون لتعارض ذلك مع هؤلاء الذين يفكرون في أن يسلموا.. وكذلك مراعاة لهؤلاء الذين لم يبلغوا حد التكليف من أبناء الكفار. إذن : قوله :( وأكثرهم ) تعبير دقيق، فيه ما نسميه صيانة الاحتمال.
الحق تبارك وتعالى ينبهنا هنا إلى أن المسألة ليست ديناً، وتنتهي القضية آمن من آمن، وكفر من كفر.. إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب.. مرجع إلى الله تعالى ووقوف بين يديه، فإن لم تذكر الله بما أنعم عليك سابقاً فاحتط للقائك به لاحقاً.
والشهيد : هو نبي الأمة الذي يشهد عليهم بما بلغهم من منهج الله. وقال تعالى في آية أخرى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. " ١٤٣ " ﴾ ( سورة البقرة ). فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعطاها الله أمانة الشهادة على الخلق ؛ لأنها بلغتهم، فكل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب منه أن يبلغ ما بلغه الرسول ؛ ليكون شاهداً على من بلغه أنه بلغه :﴿ ثم لا يؤذن للذين كفروا.. " ٨٤ " ﴾ ( سورة النحل ).
فحينما يشهد عليهم الشهيد لا يؤذن لهم في الاعتذار، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذرون " ٣٦ " ﴾ ( سورة المرسلات )، أو حينما يقول أحدهم :
﴿ رب ارجعون " ٩٩ " لعلي أعمل صالحاً فيما تركت.. " ١٠٠ " ﴾ ( سورة المؤمنون )، فلا يجاب لذلك ؛ لأنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل، فيقول تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.. " ٢٨ " ﴾ ( سورة الأنعام ). وقوله :﴿ ولا هم يستعتبون " ٨٤ " ﴾ ( سورة النحل ).
يستعتبون : مادة استعتب من العتاب، والعتاب مأخوذ من العتب، وأصله الغضب والموجدة تجدها على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن متوقعاً منه.. فتجد في نفسك موجدة وغضباً على من أساء إليك.
فإن استقر العتب الذي هو الغضب والموجدة في النفس، فأنت إما أن تعتب على من أساء إليك وتوضح له ما أغضبك، فربما كان له عذر، أو أساء عن غير قصد منه، فإن أوضح لك المسألة وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك.. فنقول : عتب فلان على فلان فأعتبه، أي : أزال عتبه.
والإنسان لا يعاتب إلا عزيزاً عليه يحرص على علاقته به، ويضعه موضعاً لا تتأتى منه الإساءة، ومن حقه عليك أن تعاتبه ولا تدع هذه الإساءة تهدم ما بينكما.
إذن : معنى :﴿ ولا هم يستعتبون " ٨٤ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : لا يطلب أحد منهم أن يرجعوا عما أوجب العتب، وهو كفرهم.. فلم يعد هناك وقت لعتاب ؛ لأن الآخرة دار حساب، وليست دار عمل أو توبة.. لم تعد دار تكليف.
كان العذاب ينصب أمامهم، فيرونه قبل أن يباشروه، وهكذا يجمع الله عليهم ألواناً من العذاب ؛ لأن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أن تألم الأحاسيس بالعذاب ؛ لذلك قال :
﴿ فلا يخفف عنهم.. " ٨٥ " ﴾( سورة النحل )، وقوله :﴿ ولا هم ينظرون.. " ٨٥ " ﴾( سورة النحل )، أي : لا يمهلون ولا يؤجلون.
ذلك حينما يجمع الله المشركين وشركاءهم من شياطين الإنس والجن والأصنام، وكل من أشركوه مع الله وجهاً لوجه يوم القيامة، وتكون بينهما هذه الواجهة.. حينما يرى المشركون شركاءهم الذين أضلوهم وزينوا لهم المعصية، وزينوا لهم الشرك والكفر بالله.. يقولون : هؤلاء هم سبب ضلالنا وكفرنا.. كما قال تعالى عنهم في آية أخرى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب " ١٦٦ " ﴾ ( سورة البقرة )، ويقول تعالى :﴿ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين " ٣١ " ﴾ ( سورة سبأ )، وقوله :﴿ فألقوا إليهم القول.. " ٨٦ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : ردوا عليهم بالمثل، وناقشوهم بالحجة، كما قال تعالى في حق الشيطان :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. " ٢٢ " ﴾( سورة إبراهيم ).
إذن : ردوا عليهم القول : ما كان عليكم سلطان. نحن دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا قوة ترغمكم على الفعل، ولا حجة تقنعكم بالكفر ؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب :﴿ إنكم لكاذبون " ٨٦ " ﴾( سورة النحل )أي : كاذبون في هذه الدعوى.
السلم : أي الاستسلام.. فقد انتهى وقت الاختيار ومضى زمن المهلة، تعمل أو لا تعمل. إنما الآن ( لمن الملك اليوم ) ؟ الأمر والملك لله، وماداموا لم يسلموا طواعية واختياراً، فليسلموا له قهراً ورغماً عن أنوفهم.
وهنا تتضح لنا ميزة من ميزات الإيمان، فقد جعلني أستسلم لله عز وجل مختاراً، بدل أن أستسلم قهراً يوم أن تتكشف الحقيقة على أنه لا إله إلا الله، وسوف يواجهني سبحانه وتعالى في يوم لا اختيار لي فيه.
وقوله :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون " ٨٧ " ﴾ ( سورة النحل ).
كلمة : الضلال ترد بمعانٍ متعددة، منها : ضل، أي : غاب عنهم شفعاؤهم، فأخذوا يبحثون عنهم فلم يجدوهم، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلقٍ جديدٍ.. " ١٠ " ﴾ ( سورة السجدة )، أي : يغيبوا في الأرض، حيث تأكل الأرض ذراتهم، وتغيبهم في بطنها.. وكذلك نقول : الضالة، أي : الدابة التي ضلت، أي : غابت عن صاحبها. ومن معاني الضلال : النسيان، ومنه قوله تعالى :﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.. " ٢٨٢ " ﴾ ( سورة البقرة ). ومن معانيه : التردد، كما في قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالاً فهدى " ٧ " ﴾ ( سورة الضحى ). فلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه، ثم هداه الله.. بل كان صلى الله عليه وسلم متحيراً متردداً فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الراجحة من أفعال تتنافى مع العقل السليم والفطرة النيرة، فكانت حيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يراه من أفعال هؤلاء وهو لا يعرف حقيقتها.
فقوله :﴿ وضل عنهم.. " ٨٧ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : غاب عنهم :﴿ ما كانوا يفترون " ٨٧ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاء من دون الله.
هنا فرق بين الكفر والصد عن سبيل الله، فالكفر ذنب ذاتي يتعلق بالإنسان نفسه، لا يتعداه إلى غيره.. فاكفر كما شئت والعياذ بالله أنت حر ! !
أما الصد عن سبيل الله فذنب متعد، يتعدى الإنسان إلى غيره، حيث يدعو غيره إلى الكفر، ويحمله عليه ويزينه له.. فالذنب هنا مضاعف، ذنب لكفره في ذاته، وذنب لصده غيره عن الإيمان، لذلك يقول تعالى في آية أخرى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم.. " ١٣ " ﴾( سورة العنكبوت )
فإن قال قائل : كيف ؟ وقد قال تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. " ١٦٤ " ﴾( سورة الأنعام ).
نقول : لا تعارض بين الآيتين، فكل واحد سيحمل وزره، فالذي صد عن سبيل الله يحمل وزرين، أما من صده عن سبيل الله فيحمل وزر كفره هو.
وقوله :﴿ زدناهم عذابا فوق العذاب.. " ٨٨ " ﴾( سورة النحل ).
العذاب الأول على كفرهم، وزدناهم عذاباً على كفر غيرهم، ممن يصدوهم عن سبيل الله.
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "
فإياك أن تقع عليك عين المجتمع أو أذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج الله ؛ لأن هذه المخالفة ستؤثر في الآخرين، وستكون سبباً في مخالفة أخرى بل مخالفات، وسوف تحمل أنت قسطاً من هذا.. فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الآخرين.
وقوله :﴿ بما كانوا يفسدون " ٨٨ " ﴾( سورة النحل ). والإفساد : أن تعمد إلى شيء صالح أو قريب من الصلاح فتفسده، ولو تركته وشأنه لربما يهتدي إلى منهج الله.. إذن : أنت أفسدت الصالح، ومنعت القابل للصلاح أن يصلح.
قوله :﴿ من أنفسهم.. " ٨٩ " ﴾( سورة النحل ).
يعني من جنسهم. والمراد : أهل الدعوة إلى الله من الدعاة والوعاظ والأئمة الذين بلغوا الناس منهج الله، هؤلاء سوف يشهدون أمام الله سبحانه على من قصر في منهج الله. وقد يكون معنى :
﴿ من أنفسهم.. " ٨٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : جزء من أجزائهم وعضواً من أعضائهم، كما قال تعالى :
﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ٢٤ " ﴾( سورة النور )
وقوله :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا.. " ٢١ " ﴾( سورة فصلت ).
والشهيد إذا كان من ذات الإنسان وبعض من أبعاضه فلا شك أن حجته قوية وبينته واضحة. وقوله :﴿ وجئنا بك شهيداً على هؤلاء.. " ٨٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : شهيداً على أمتك، كأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على الشهداء.
﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ.. " ٨٩ " ﴾( سورة النحل )، الكتاب : القرآن الكريم.. تبياناً، أي : بياناً تاماً لكل ما يحتاجه الإنسان، وكلمة ( شيء ) تسمى جنس الأجناس، أي : كل ما يسمى " شيء " فبيانه في كتاب الله تعالى.
فإن قال قائل : إن كان الأمر كذلك، فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا ليخرجوا لنا حكماً معيناً ؟
نقول : القرآن جاء معجزة، وجاء منهجاً في الأصول، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حق التشريع، فقال تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. " ٧ " ﴾( سورة الحشر ).
إذن : فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريراً ثابتة بالكتاب، وهي شارحة له وموضحة، فصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات، فأين هذا في كتاب الله ؟ نقول في قوله تعالى :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه.. " ٧ " ﴾( سورة الحشر ).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية حينما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً لأهل اليمن، وأراد أن يستوثق من إمكانياته في القضاء. فسأله : " بم تقضي ؟ قال : بكتاب الله، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو أي : لا أقصر في الاجتهاد.
فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله. "
إذن : فالاجتهاد مأخوذ من كتاب الله، وكل ما يستجد أمامنا من قضايا لا نص فيها، لا في الكتاب ولا في السنة، فقد أبيح لنا الاجتهاد فيها.
ونذكر هنا أن الإمام محمد عبده رحمه الله حدث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين قال له : أليس في آيات القرآن :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ.. " ٣٨ " ﴾( سورة الأنعام ).
قال : بلى، قال له : فهات لي من القرآن : كم رغيفاً يوجد في أردب القمح ؟.
فقال الشيخ : نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال.. فقال المستشرق : أريد الجواب من القرآن الذي ما فرط في شيء، فقال الشيخ : هذا القرآن هو الذي علمنا فيما لا نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال :
﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٧ " ﴾( سورة الأنبياء ).
إذن : القرآن أعطاني الحجة، وأعطاني ما أستند إليه حينما لا أجد نصاً في كتاب الله، فالقرآن ذكر القواعد والأصول، وأعطاني حق الاجتهاد فيما يعن لي من الفروع، وما يستجد من قضايا، وإذا وجد في القرآن حكم عام وجب أن يؤخذ في طيه ما يؤخذ منه من أحكام صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله وكله.
فقال :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. " ٧ " ﴾( سورة الحشر ).
وكذلك الإجماع من الأمة ؛ لأن الله تعالى قال :
﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى.. " ١١٥ " ﴾( سورة النساء ).
وكل اجتهاد يرد إلى أهل الاجتهاد :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. " ٨٣ " ﴾( سورة النساء )
إذن : فكل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع وعن الأئمة المجتهدين موجود في القرآن، فهو إذن صادق.
ويجب هنا أن نفرق بين الأشياء والقضايا فهي كثيرة، فما الذي يتعرض له القرآن ؟ يتعرض القرآن للأحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بالله، وهناك أمور كونية لا يتأثر انتفاع الإنسان بها بأن يعلمها، فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها، فكون الأرض كروية الشكل، وكونها تدور حول الشمس، وغير هذه الأمور من الكونيات إن علمها فبها ونعمت، وإن جهلها لا يمنعه جهله من الانتفاع بها.
فالأمي الذي يعيش في الريف مثلاً ينتفع بالكهرباء، وهو لا يعلم شيئاً عن طبيعتها وكيفية عملها، ومع ذلك ينتفع بها، مجرد أن يضع أصبعه على زر الكهرباء تضيء له.
فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان الآيات الكونية إبانة واضحة ربما صد العرب الذين لا يعرفون شيئاً عن حركة الكون، وليس لديهم من الثقافة ما يفقهون به مقاصد القرآن حول الآيات الكونية ؛ ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، كما حكى القرآن الكريم :
﴿ يسألونك عن الأهلة.. " ١٨٩ " ﴾( سورة البقرة ).
والأهلة : جمع هلال، وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلامة الظفر، ثم يزداد تدريجياً إلى أن يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته، ثم يتناقص تدريجياً أيضاً إلى أن يعود إلى ما كان عليه، هذه عجيبة يرونها بأعينهم، ويسألون عنها.
ولكن، كيف رد عليهم القرآن ؟ لم يوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلال، وأن الأرض إذا حالت بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلال ومراحله المختلفة.
فهذا التفصيل لا تستوعبه عقولهم، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية ؛ لذلك يقول لهم : اصرفوا نظركم عن هذه، وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الأهلة :
﴿ قل هي مواقيت للناس والحج.. " ١٨٩ " ﴾( سورة البقرة ) فردهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي، فاهتم ببيان الحكمة منها، وفي نفس الوقت ترك هذه المسألة للزمن يشرحها لهم، حيث سيجدون في القرآن ما يعينهم على فهم هذا الموضوع. إذن : قوله تعالى :﴿ من شيءٍ.. " ٣٨ " ﴾( سورة الأنعام )، أي : من كل شيء تكليفي، إن فعله المؤمن أثيب، وإن لم يفعله يعاقب، أما الأمور الكونية فيعطيهم منها على قدر وعيهم لها، ويترك للزمن مهمة الإبانة بما يحدث فيه من فكر جديد.
لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه، فلو فعل ذلك لاستقبل القرون الأخرى بغير عطاء، فالعقول تتفتح على مر العصور وتتفتق عن فكر جديد، ولا يصح أن يظل العطاء الأول هو نفسه لا يتجدد، لابد أن يكون لكل قرن عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر في علومه الكونية.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى الناس يؤبرون النخل، أي : يلقحونه. وهو ما يعرف بعملية الإخصاب، حيث يأخذون من الذكر ويضعون في الأنثى، فماذا قال لهم ؟ قال : لو لم تفعلوا لأثمر، ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يثمر النخل، فلما سئل صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد بحث معملي، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح هذه الأمور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الأهواء، إنما الأحكام التكليفية التي تختلف فيها الأهواء فحسمها الحق بالحكم.
فمثلاً في العالم موجات مادية تهتم بالاكتشافات والاختراعات والاستنباطات التي تسخر أسرار الكون لخدمة الإنسان، فهل يختلف الناس حول معطيات هذه الموجة المادية ؟ هل نقول مثلاً : هذه كهرباء أمريكاني، وهذه كهرباء روسي ؟ هل نقول : هذه كيمياء إنجليزي، وهذه كيمياء ألماني ؟
فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس، في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية ويتحاربون من أجلها، فهذه اشتراكية، وهذه رأسمالية، وهذه وجودية، وتلك علمانية.. الخ، فجاء الدين ليحسم ما تختلف فيه الأهواء.
لذلك نرى كل معسكر يحاول أن يسرق ما توصل إليه المعسكر الآخر من اكتشافات واختراعات، ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصل إليه غيرهم، فهل يسرقون الأمور النظرية أيضاً ؟ لا.. بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والاحتياطات لكي لا تنتقل هذه المبادئ إلى بلادهم وإلى أفكار مواطنيهم.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثالاً ونموذجاً لتوضيح هذه المسألة، مع أنه قد يقول قائل : لا يصح في حق رسول الله أن يشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته، إنما الرسول هنا يريد أن يوصل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين : إياكم أن تقحموا أنفسكم في الأمور المادية المعملية التطبيقية، فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر.
ولذلك عندما اكتشف العلماء كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية لا دخل للدين فيها، وقد حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى، وصوروا الأرض، وجاءت صورتها كروية فعلاً ؟ فلا تفتحوا على أنفسكم باسم الدين باباً لا تستطيعون غلقه.
وقوله تعالى :﴿ وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين " ٨٩ " ﴾( سورة النحل ).
الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه ( هدىً )، فإذا كان القرآن قد نزل تبياناً فكان التوافق يقتضي أن يقول : وهادياً، لكن لم يصف القرآن بأنه هادٍ، بل هدىً، وكأنه نفس الهدى ؛ لأن هادياً ذات ثبت لها الهداية، إنما هدى : يعني هو جوهر الهدى، كما نقول : فلان عادل. وفي المبالغة نقول : فلان عدل. كأن العدل مجسم فيه، وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل. وكذلك مثل قولنا : عالم وعليم، وقد قال تعالى :﴿ وفوق كل ذي علمٍ عليم " ٧٦ " ﴾( سورة يوسف ).
فما معنى الهدى ؟ هو الدلالة على الطريق الموصل للغاية من أقرب الطرق. ( ورحمة ) مرة يوصف القرآن بأنه رحمة، ومرة بأنه :﴿ شفاء ورحمة.. " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
والشفاء : أن يوجد داء يعالجه القرآن، والرحمة : هي الوقاية التي تمنع وجود الداء، ومادام القرآن كذلك فمن عمل بمنهجه فقد بشر بالثواب العظيم من الله تعالى، الثواب الخالد في نعيم دائم.
للحق تبارك وتعالى في هذه الآية ثلاثة أوامر : العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى. وثلاثة نواه : عن الفحشاء والمنكر والبغي. ولما نزلت هذه الآية قال ابن مسعود : أجمع آيات القرآن للخير هذه الآية ؛ لأنها جمعت كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم.
ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب له أن يسلم، وكان يعرض عليه الإسلام دائماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب عرض الإسلام على أحد إلا إذا كان يرى فيه مخايل وشيماً تحسن في الإسلام.
وكأنه صلى الله عليه وسلم ضن بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم، لذلك كان حريصاً على إسلامه وكثيراً ما يعرضه عليه، إلا أن سيدنا عثمان بن مظعون تريث في الأمر، إلى أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس، فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه، فقال له ابن مظعون : ما حدث يا رسول الله ؟ فقال : إن جبريل عليه السلام قد نزل علي الساعة بقول الله تعالى :
﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ٩٠ " ﴾( سورة النحل ).
قال ابن مظعون رضي الله عنه : فاستقر حب الإيمان في قلبي بهذه الآية الجامعة لكل خصال الخير. ثم ذهب فأخبر أبا طالب، فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الآية قال : يا معشر قريش آمنوا بالذي جاء به محمد، فإنه قد جاءكم بأحسن الأخلاق.
ويروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب، وكان معه أبو بكر وعلي، قال علي : فإذا بمجلس عليه وقار ومهابة، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقام إليه مقرون بن عمرو، وكان من شيبان ابن ثعلبة فقال : إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ٩٠ " ﴾( سورة النحل ). فقال مقرون : إنك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال، أفكت قريش إن خاصمتك وظاهرت عليك.
أخذ عثمان بن مظعون هذه الآية، ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل، فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد بن المغيرة، وقال له : إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا، فأفكر الوليد بن المغيرة أي : فكر فيما سمع وقال : والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلى عليه، وما هو بقول بشر.
ومع شهادته هذه إلا أنه لم يؤمن، فقالوا : حسبه أنه شهد للقرآن وهو كافر. وهكذا دخلت هذه الآية قلوب هؤلاء القوم، واستقرت في أفئدتهم ؛ لأنها آية جامعة مانعة، دعت لكل خير، ونهت عن كل شر. قوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل.. " ٩٠ " ﴾( سورة النحل ).
ما العدل ؟ العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميل ؛ لأنه لا يكون إلا بين شيئين متناقضين، لذلك سمي الحاكم العادل منصفاً ؛ لأنه إذا مثل الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصف تكوينه، وكأنه قسم نفسه نصفين، لا يميل لأحدهما ولا قيد شعرة، هذا هو الإنصاف.
ومن أجل الإنصاف جعل الميزان، والميزان تختلف دقته حسب الموزون، فحساسية ميزان البر غير حساسية ميزان الجواهر مثلاً، وتتناهى دقة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية، حيث أقل زيادة في الميزان يمكن أن تحول الدواء إلى سم، وقد شاهدنا تطوراً كبيراً في الموازين، حتى أصبحنا نزن أقل ما يمكن تصوره.
والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة ألا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق، فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها، في الأمور العقدية التي هي عمل القلب، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة.
فكيف يكون العدل في الأمور العقدية ؟.
لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون، فأنكروا وجوده سبحانه مطلقاً، وآخرون يقولون بتعدد الآلهة، هكذا تناقضت الأقوال وتباعدت الآراء، فجاء العدل في الإسلام، فالإله واحد لا شريك له، منزه عما يشبه الحوادث، كما وقف موقف العدل في صفاته سبحانه وتعالى. فلله سمع، ولكن ليس كأسماع المحدثات، لا ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من المعطلة، ولا نشبهه سبحانه بغيره فنكون من المشبهة، بل نقول : ليس كمثله شيء، ونقف موقف العدل والوسطية.
كذلك من الأمور العقدية التي تجلي فيها عدل الإسلام قضية الجبر والاختيار، حيث اختار موقفاً وسطاً بين من يقول إن الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دخل لله سبحانه في أعمال العبد ؛ ولذلك رتب عليها ثواباً وعقاباً. ومن يقول : لا ؛ بل كل الأعمال من الله والعبد مجبر عليها.
فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول : بل الإنسان يعمل أعماله الاختيارية بالقوة التي خلقها الله فيه للاختيار.
وفي التشريع والأحكام حدث تباين كبير بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى عليه السلام في القصاص مثلاً : في شريعة موسى حيث طغت المادية على بني إسرائيل حتى قالوا لموسى عليه السلام :﴿ أرنا الله جهرةً " ١٥٣ " ﴾( سورة النساء )
فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، فكان المناسب لهم القصاص ولابد، ولو تركهم الحق سبحانه لكثر فيهم القتل، فهم لا ينتهون إلا بهذا الحكم الرادع : من قتل يقتل، والقتل أنفى للقتل. وقد تعدى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله، فكونك ترى الإله تناقض في الألوهية ؛ لأنك حين تراه عينك فقد حددته في حيز.
إذن : كونه لا يرى عين الكمال فيه سبحانه وتعالى. وكيف نطمع في رؤيته جل وعلا، ونحن لا نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته، فالروح التي بين جنبي كل منا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم، وبها نتحرك ونزاول أعمالنا، وبها نفكر وبها نعيش، أين هي ؟ !
فإذا ما فارقت الروح الجسم، وأخذ الله سره، تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب. هل رأيت هذه الروح ؟ هل سمعتها ؟ هل أدركتها بأي حاسة من حواسك ؟ !
فإذا كانت الروح وهي مخلوقة لله يعجز العقل عن إدراكها، فكيف بمن خلق هذه الروح ؟ فمن عظمته سبحانه أنه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلاً، وهو معنى من المعاني التي يدعيها كل الناس، ويطلبون العمل بها، هذا الحق ما شكله ؟ ما لونه ؟ طويل أم قصير ؟ ! فإذا كنا لا نستطيع أن نتصور الحق وهو مخلوق لله سبحانه، فكيف نتصور الله ونطمع في رؤيته ؟ !
ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا لله تعالى في التلمود جماعة من النقباء، وجعلوه سبحانه قاعداً على صخرة يدلي رجليه في قصعة من المرمر، ثم أتى حوت.. الخ.. سبحان الله ؛ ألهذا الحد وصلت بهم المادية ؟.
ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية، تكون هي أيضاً مسرفة في الروحانية ليحدث نوع من التوازن في الكون، فجاءت شريعة عيسى عليه السلام بعد مادية مفرطة وإسراف في الموسوية، فكيف يكون حكم القصاص فيها، وهي تهدف إلى أن تسمو بروحانيات الناس ؟.
جاءت شريعة عيسى عليه السلام تهدئ الموقف إذا حدث قتل، فيكفي أن قتل واحد، ولنستبقي الآخر ولا نثير ضجة، ونهيج الأحقاد والترة بين الناس، فدعت هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل.
ثم جاء الإسلام ووقف موقع العدل والوسطية في هذا الحكم، فأقر القصاص ودعا إلى العفو، فأعطى ولي المقتول حق القصاص، ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى :
﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ.. " ١٧٨ " ﴾( سورة البقرة ).
ونلاحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة ليرقق القلوب ويزيل الضغائن. وللقصاص في الإسلام حكم عالية، فليس الهدف منه أن يضخم هذه الجريمة، بل يهدف إلى حفظ حياة الناس كما قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.. " ١٧٩ " ﴾( سورة البقرة )، فمن أراد أن يحافظ على حياته فلا يهدد حياة الآخرين. وحينما يعطي ربنا تبارك وتعالى حق القصاص لولي المقتول ويمكنه منه تبرد ناره، وتهدأ ثورته، فيفكر في العفو وهو قادر على الانتقام، وهكذا ينزع هذا الحكم الغل من الصدور، ويطفئ نار الثأر بين الناس.
ولذلك نرى في بعض البلاد التي تنتشر فيها عملية الثأر، يأتي القاتل حاملاً كفنه على يده إلى ولي المقتول، ويضع نفسه بين يديه معترفاً بجريمته : ها أنا بين يديك اقتلي وهذا كفني. ما حدث ذلك أبداً إلا وعفا صاحب الحق وولي الدم، وهذا هو العدل الذي جاء به الإسلام، دين الوسطية والاعتدال.
هذا العفو من ولي الدم أداة بناء، ووسيلة محبة، فحين نعطيه حق القصاص، ثم هو يعفو، فقد أصبحت حياة القاتل هبة من ولي الدم، فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه عنه، وهذا جميل يحفظه أهل القاتل، ويقولون : هذا حقن دم ابننا.
موقف آخر لعدالة الإسلام ووسطيته نراها في حكم الحيض مثلاً، ففي شريعة موسى عليه السلام يخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض لا يجمعهما بيت واحد. وفي شريعة عيسى عليه السلام لا مانع من وجودها في البيت، ولا مانع من معاشرتها والاستمتاع بها.
فجاء الإسلام بالعدل في هذه القضية فقال : تبقى المرأة الحائض في بيتها لا تخرج منه، ولكن لا يقربها الزوج طوال مدة الحيض، فقال تعالى :
﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ٢٢٢ " ﴾( سورة البقرة ).
وكذلك لو أخذنا الناحية الاقتصادية في حياتنا، والتي هي عصب الحياة، والتي بها يتم استبقاء الحياة بالطعام والشراب والملبس وغيره، وبها يتم استبقاء النوع بالزواج، وكل هذا يحتاج إلى حركة إنتاج، وإلى حركة استهلاك، وبالإنتاج والاستهلاك تستمر الحياة، ولو توقف أحدهما لحدث في المجتمع بطالة وفساد.
وبناء عليه وزع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد، فما أعرفه أنا أخدم به الكل، وما يعرفه الكل يخدمني به، وهكذا تستمر حركة الحياة.
والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتراودك فيه آمال، فإن شاركت في حركة الحياة، واكتسبت المال الذي هو عصب الحياة، فعليك أن توازن بين متطلباتك العاجلة وآمالك في المستقبل.
فلو أنفقت جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة، فقد ضيعت على نفسك تحقيق الآمال في المستقبل، فلن تجد ما تبني به بيتاً مثلاً أو تشتري به سيارة، أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات الحياة. وهذا ما نسميه الإسراف.
وفي المقابل، كما لا يليق بك الإسراف حتى لا يبقى عندك شيء، وكذلك لا يليق بك التقتير والبخل والإمساك، فتكنز كل ما تكتسب، ولا تنفق إلا ما يمسك الرمق ؛ لأنك في هذه الحالة لن تساهم في عملية الاستهلاك، فتكون سبباً في بطالة المجتمع وفساد حاله.
وقد عالج القرآن هذه القضية علاجاً دقيقاً في قوله تعالى :
﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً " ٢٩ " ﴾( سورة الإسراء )
أي : لا تمسك يدك بخلاً وتقتيراً، فتكون ملوماً من أهلك وأولادك، ومن الدنيا من حولك، فيكرهك الجميع، وكذلك لا تبسط
الوفاء : أن تفي بما تعاهدت عليه، والعهود لا تكون في المفروض عليك، إنما تكون في المباحات، فأنت حر أن تلقاني غداً وأنا كذلك، لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على اللقاء غداً في الساعة كذا ومكان كذا فقد تحول الأمر من المباح إلى المفروض، وأصبح كل منا ملزماً بأن يفي بعهده ؛ لأن كل واحد منا عطل مصالحه ورتب أموره على هذا اللقاء، فلا يصح أن يفي أحدنا ويخلف الآخر ؛ لأن ذلك يتسبب في عدم تكافؤ الفرص، ومعلوم أن مصالح العباد في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد.
وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه ملزم به وحده، أو أنه عبء عليه دون غيره، لكنه في الحقيقة عليك وعلى غيرك، فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الآخرين، فكل تكليف لك لا تنظر إليه هذه النظرة، بل تنظر إليه على أنه لصالحك.
فمن أخذ التكليف وأحكام الله من جانبه فقط يتعب، فالحق تبارك وتعالى كما كلفك لصالح الناس فقد كلف الناس جميعاً لصالحك، فحين نهاك عن السرقة مثلاً إياك أن تظن أنه قيد حريتك أمام الآخرين ؛ لأنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك، فمن الفائز إذن ؟ أنا قيدت حريتك بالحكم، وأنت فرد واحد، ولكني قيدت جميع الخلق من أجلك.
كذلك حين أمرك الشرع بغض بصرك على محارم الناس، أمر الناس جميعاً بغض أبصارهم عن محارمك. إذن : لا تأخذ التكليف على أنه عليك، بل هو لك، وفي صالحك أنت.
كثيرون من الأغنياء يتبرمون من الإنفاق، ويضيقون بالبذل، ومنهم من يعد ذلك مغرماً ؛ لأنه لا يدري الحكمة من تكليف الأغنياء بمساعدة الفقراء، لا يدري أننا نؤمن له حياته. وها نحن نرى الدنيا دولاً وأغياراً، فكم من غني صار فقيراً، وكم من قوي صار ضعيفاً.
إذن : فحينما يأخذ منك وأنت غني نطمئنك : لا تخف إذا ضاقت بك الحال، وإذا تبدل غناك فقراً، فكما أخذنا منك في حال الغنى سنعطيك في حال الفقر، وهذا يجب أن تكون نظرتنا إلى الأمور التكليفية.
وقوله تعالى :﴿ بعهد الله.. " ٩١ " ﴾( سورة النحل ).
عهد الله : هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عهد لك مع الله تعالى هو الإيمان به، ومادمت قد آمنت بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلفك به، وإياك أن تخل بأمر من أموره ؛ لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يعد نقصاً في إيمانك ؛ لأنك حينما آمنت بالله شهدت بما شهد الله به لنفسه سبحانه في قوله تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو " ١٨ " ﴾( سورة آل عمران ).
فأول من شهد الله سبحانه لنفسه، وهذه شهادة الذات للذات ( والملائكة أي : شهادة المشاهدة، ( وأولوا العلم )، أي : بالدليل والحجة.
إذن : فأول عهد بينك وبين الله تعالى أنك آمنت به إلهاً حكيماً قادراً خالقاً مربياً، فاستمع إلى ما يطلبه منك، فإن لم تستمع وتنفذ فاعلم أن العهد الإيماني الأول قد اختل. ولذلك، فالحق تبارك وتعالى لم يكلف الكافر ؛ لأنه ليس بينه وبينه عهد، إنما يكلف من آمن، فتجد كل آية من آيات الأحكام تبدأ بهذا النداء الإيماني :﴿ يا أيها الذين آمنوا.. " ١٨٣ " ﴾( سورة البقرة ).
كما في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.. " ١٨٣ " ﴾( سورة البقرة ).
فيا من آمن بي رباً، ورضيتني إلهاً اسمع مني ؛ لأني سأعطيك قانون الصيانة لحياتك، هذا القانون الذي يسعدك بالمسبب في الآخرة بعد أن أسعدك بالأسباب في الدنيا. وقوله :﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها.. " ٩١ " ﴾( سورة النحل ).
الأيمان : جمع يمين، وهو الحلف الذي نحلفه ونؤكد عليه فنقول : والله، وعهد الله.. الخ. إذن : فلا يليق بك أن تنقض ما أكدته من الأيمان، بل يلزمك أن توفي بها ؛ لأنك إن وفيت بها وفي لك بها أيضاً، فلا تأخذ الأمر من جانبك وحدك، ولكن انظر إلى المقابل.
وكذلك العهد بين الناس بعضهم البعض مأخوذ من باطن العهد الإيماني بالله تعالى ؛ لأننا حينما نتعاهد نشهد الله على هذا العهد، فنقول : بيني وبينك عهد الله، فندخل بيننا الحق سبحانه وتعالى لنوثق ما تعاهدنا عليه، وربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا.. " ٩١ " ﴾( سورة النحل )، أي : شاهداً ورقيباً وضامناً. وقوله :
﴿ إن الله يعلم ما تفعلون " ٩١ " ﴾( سورة النحل )، أي : اعلم أن الله مطلع عليك، يعلم خفايا الضمائر وما تكنه الصدور، فاحذر حينما تعطي العهد أن تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه، إياك أن تعطي العهد خداعاً، فربك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل.
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد والأيمان، ولا يوفون بها، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريطة بنت عامر، وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر، ثم تأمرهن بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة.
أولاً : ما الغزل ؟.
الغزل : عملية كان يقوم بها النساء قديماً، فكن يحضرن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو الوبر، ومثل القطن الآن، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لآخر يسمونها التيلة، فيقولون " هذه تيلة قصيرة " وهذه طويلة ".
والغزل : هو أن نكون من هذه الشعيرات خيطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عقد فيه، لكي يصلح للنسج بعد ذلك، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل. تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم برمها بالمغزل، ليخرج في النهاية خيط طويل منساب متناسق لا عقد فيه.
والآية هنا ذكرت المرأة في هذا العمل ؛ لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال، فكانت المرأة تكن في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكون منها أثاث بيتها من فرش وملابس وغيره.
وإلى الآن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة ومعترك الاختلاط، نراها تقوم بمثل هذا العمل النسائي.
وقد تطور المغزل الآن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة، مما ييسر للنساء هذه الأعمال، ويحفظهن في بيوتهن، وينشر في البيت جواً من التعاون بين الأم وأولادها، وأمامنا مثلاً مشروع الأسر المنتجة، حيث تشارك المرأة بجزء كبير في رقي المجتمع، فلا مانع إذن من عمل المرأة إذا كان عملاً شريفاً يحفظ عليها كرامتها ويصون حرمتها.
فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية، هذا العمل الذي يحتاج إلى جهد ووقت في الغزل، ويحتاج إلى أكثر منه في نقضه وفكه، فهذه عملية شاقة جداً، وربما أمرت الجواري بفك الغزل والنسيج أيضاً ؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش. وقوله :﴿ من بعد قوةٍ.. " ٩٢ " ﴾( سورة النحل )
كلمة قوة هنا، تدلنا على المراحل التي تمر بها عملية الغزل، وكم هي شاقة، بداية من جز الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال، ثم خلط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا المزج، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط، ولو قارنا بين هذه العملية اليدوية، وبين ما توصلت إليه صناعة الغزل الآن لتبين لنا كم كانت شاقة عليهم.
فكأن القرآن الكريم شبه الذي يعطي العهد ويوثقه بالأيمان المؤكدة، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلت هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحت فنقضت ما أنجزته، وفكت ما غزلته.
وكذلك كلمة ( قوة )، تدلنا على أن كل عمل يحتاج إلى قوة، هذه القوة إما أن تحرك الساكن أو تسكن المتحرك ؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوةٍ.. " ٦٣ " ﴾( سورة البقرة ). ؛ لأن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه، ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه. وهذه يسمونها في عالم الحركة ( قانون العطالة )، المتحرك يظل متحركاً إلى أن يعرض له شيء يسكنه، والساكن يظل ساكناً إلى أن يعرض له شيء يحركه.
ومن هنا يتعجب الكثيرون من الأقمار الصناعية التي تدور أعواماً عدة في الفضاء : ما الوقود الذي يحرك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام ؟.
والواقع أنه لا يوجد وقود يحركها، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط، إلى أن يخرج من منطقة الهواء والجذب، فإذا ما استقر القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك بنفسها دون وقود، فهناك الشيء المتحرك يظل متحركاً، والساكن يظل ساكناً.
والحق تبارك وتعالى بهذا المثل المشاهد يحذرنا من إخلاف العهد ونقضه ؛ لأنه سبحانه يريد أن يصون مصالح الخلق ؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيمان التي تبرم بينهم، فمن خان العهد أو نقض الأيمان لا يوثق فيه، ولا يطمأن إلى حركته في الحياة، ويسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس. وقوله :﴿ أنكاثاً.. " ٩٢ " ﴾( سورة النحل )، جمع نكث، وهو ما نقض وحل فتله من الغزل. وقوله :﴿ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم.. " ٩٢ " ﴾( سورة النحل ).
الدخل : أن تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغش والخداع، كأن تدخل في الذهب عيار ٢٤ قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار ١٨ قيراطاً، أو كأن تدخل في اللوز مثلاً نوى المشمش على أنه منه. فكأن الأيمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش، فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به.
وقوله :﴿ أن تكون أمة هي أربى من أمةٍ.. " ٩٢ " ﴾( سورة النحل )، هذه هي العلة في أن نتخذ الأيمان دخلاً فيما بيننا، الأيمان الزائفة الخادعة ؛ ذلك لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز، فقد أربى، أي : أخذ أزيد من حقه ونقص حق الآخرين، فالعلة إذن في الخداع بالأيمان : الطمع وطلب الزيادة على حساب الآخرين.
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى، كأن تعاهد شخصاً على شيء ما، وأديت له بالعهود والأيمان والمواثيق، ثم عن لك من هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالإغراء، فنقضت العهد الأول لأن الثاني أربى منه وأزيد.
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حذره، فمن يدريك لعله يفعل بك كما فعلت، ويكال لك بنفس المكيال الذي كلت به لغيرك، فأحذر إذا تجرأت على خلق الله أن يجرئ الله عليك من يسقيك من نفس الكأس.
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة، فإياك أن تغش الناس، وتذكر أن لك عندهم مصالح، وفي أيديهم لك حرف وصناعات، فإذا تجرأت عليهم جرأهم الله عليك ؛ لأنه سبحانه يقول : أنا القيوم، أي : القائم على أمركم، فناموا أنتم فأنا لا أنام، فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيداً.
من تجرأ على الناس جرأهم الله عليه، ومن أخلص عمله وأتقنه قذف الله في قلوب الخلق أن يتقنوا له حاجته. وقوله :﴿ إنما يبلوكم الله به.. " ٩٢ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : يختبركم الله تعالى بهذا العهد، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أن عقدتم العهد، أفي نيتكم الوفاء، أم في نيتكم الغدر والخداع ؟
وهب أنك تنوي الوفاء ثم عرض لك ما حال بينك وبينه، فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور ولا يخفى عليه شيء.
إذن : الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء على الذي يفشل في الاختبار، فالعبرة هنا بالنتيجة. وقوله :﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون " ٩٢ " ﴾( سورة النحل )، فيوم القيامة تجتمع الخصوم، وتتكشف الحقائق، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا، وهب أن إنساناً عمى على قضاء الأرض في أشياء، نقول له : إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل.
لو : حرف امتناع لامتناع. أي : امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط، كما في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ٢٢ " ﴾( سورة الأنبياء ).
فقد امتنع الفساد لامتناع تعدد الآلهة. فلو شاء الله لجعل العالم كله أمة واحدة على الحق، لا على الضلال، أمة واحدة في الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمة واحدة في الانصياع لمرادات الله منها.
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفد إلى الحياة، مخلوقة بالحق خلقاً تسخيرياً، فلا يوجد جنس من الأجناس تأبى عما قصد منه، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان. كل هذه الأكوان تسير سيراً سليماً كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختل في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا يفعل. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب.. " ١٨ " ﴾( سورة الحج )
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى :
﴿ وكثير حق عليه العذاب.. " ١٨ " ﴾( سورة الحج ).
فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس ؟ لأنهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن يفعل أو لا يفعل، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله، أم أرادها الله سبحانه وتعالى ؟
قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خلق الأشياء المسخرة، بحيث لا يخرج شيء عما أريد منه، وكان من الممكن أن يأتي الإنسان على هذه الصورة من التسخير، لكنه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً، ولن يضيف جديداً في الكون، أليست الملائكة قائمة على التسخير ؟.
فالتسخير يثبت القدرة لله تعالى، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء، لكن الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى، وهذا فرق يجب أن نتدبره.
فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد، والآخر مسعود، فأخذت سعيداً وقيدته إليك في حبل، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً، وحين أمرت كلاً منهما لبى وأطاع، فأي طاعة ستكون أحب إليك : طاعة القهر والتسخير، أم الطاعة بالاختيار ؟.
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرمه بأن جعله مختاراً في أن يطيع أو أن يعصى، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادر على المعصية، فقد أثبت المحبوبية لربه سبحانه وتعالى. ولابد أن تتوافر للاختيار شروط. أولها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا يكلف المجنون، فإذا توفر العقل لابد له من النضج والبلوغ، ويتم ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مثله، وأصبحت له ذاتية مولده.
وهذه سمة اكتمال الذات ؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين، وليس أهلاً للتكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات، فلابد له أن يكون مختاراً غير مكره، فإن أكره على الشيء فلن يسأل عنه، فإن اختل شرط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار.
والحق تبارك وتعالى وإن كرم الإنسان بالاختيار، فمن رحمته به أن يجعل فيه بعض الأعضاء اضطرارية مسخرة لا دخل له فيها. ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية، وتتوقف عليها حياة الإنسان، فكان من رحمة الله بنا أن جعل هذه الأعضاء تعمل وتؤدي وظيفتها دون أن نشعر.
فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعر به، وكذلك التنفس والكلى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مسخرة، كالجماد والنبات والحيوان.
ومن لطف الله بخلقه أن جعل هذه الأعضاء مسخرة ؛ لأنه بالله لو أنت مختار في عمل هذه الأعضاء، كيف تتنفس مثلاً وأنت نائم ؟ !.
إذن : من رحمة الله أن جعلك مختاراً في الأعمال التي تعرض لك، وتحتاج فيها إلى النظر في البدائل ؛ ولذلك يقولون : الإنسان أبو البدائل. فالحيوان مثلاً وهو أقرب الأجناس إلى الإنسان ليس لديه هذه البدائل ولا يعرفها، فإذا آذيت حيواناً فإنه يؤذيك، وليس لديه بديل آخر.
ولكن إذا آذيت إنساناً، فيحتمل أن يرد عليك بالمثل، أو بأكثر مما فعلت، أو أقل، أو يعفو ويصفح، والعقل هو الذي يرجح أحد هذه البدائل. إذن : لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها، كما قال تعالى :﴿ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً " ٣١ " ﴾( سورة الرعد ). ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ ذلك، بدليل قوله :﴿ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. " ٩٣ " ﴾( سورة النحل ). وهذه الآية يقف عندها المتمحكون، والذين قصرت أنظارهم في فهم كتاب الله، فيقولون : طالما أن الله هو الذي يضل الناس، فلماذا يعذبهم ؟ ونتعجب من هذا الفهم لكتاب الله ونقول لهؤلاء : لماذا أخذتم جانب الضلال، وتركتم جانب الهدى ؟ لماذا لم تقولوا : طالما أن الله بيده الهداية، وهو الذي يهدي، فلماذا يدخلنا الجنة ؟.
إذن : هذه كلمة يقولها المسرفون ؛ لأن معنى :﴿ يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. " ٩٣ " ﴾( سورة النحل )، أي : يحكم على هذا من خلال عمله بالضلال، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية، مثل ما يحدث عندنا في لجان الامتحان، فلا نقول : اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً، فليست هذه مهمتها، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك.
وكذلك الحق تبارك وتعالى لا يجعل العبد ضالاً، بل يحكم على عمله أنه ضلال وأنه ضال ؛ فالمعنى إذن : يحكم بضلال من يشاء، ويحكم بهدى من يشاء، وليس لأحد أن ينقل الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله تعالى بعدها :﴿ ولتسألن عما كنتم تعملون " ٩٣ " ﴾( سورة النحل )، فالعبد لا يسأل إلا عما عملت يداه، والسؤال هنا، معناه : حرية الاختيار في العمل، وكيف تسأل عن شيء لا دخل لك فيه ؟ فلنفهم إذن عن الحق تبارك وتعالى مراده من الآية.
وردت كلمة الدخل في الآية قبل السابقة وقلنا : إن معناها : أن تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه، من جنسه على سبيل الغش والخداع، وإن كان المعنى واحداً في الآيتين، فإن الآية السابقة جاءت لتوضيح سبب الدخل وعلته، وهي أن تكون أمة أربى من أمة، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر. أما في هذه الآية فجاءت لتوضيح النتيجة من وجود الدخل، وهي :
﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها.. " ٩٤ " ﴾( سورة النحل )، ففي الآية نهي عن اتخاذ الأيمان للغش والخداع والتدليس ؛ لأن نتيجة هذا الفعل فساد يأتي على المجتمع من أساسه، وفقد للثقة المتبادلة بين الناس، والتي عليها يقوم التعامل، وتبنى حركة الحياة، فالذي يعطي عهداً ويخلفه، ويحلف يميناً ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مخلف للعهد ناقض للميثاق.
وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه، ولا يجرؤ أحد على الصفق معه، فيصبح مهيناً ينفض الناس أيديهم منه، بعد أن كان أميناً وأهلاً للثقة ومحلاً للتقدير. هذا معنى قوله تعالى :﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها.. " ٩٤ " ﴾( سورة النحل )، وبذلك يسقط حقه مع المجتمع، ويحيق به سوء فعله، ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع، وبانتشار هذا الخلق السييء تتعطل حركة الحياة، وتضيع الثقة والأمانة.
إذن : هذه زلة وكبوة بعد ثبات وقوة، بعد أن كان أهلاً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يقبل عليه الناس، ويحبون التعامل معه بما لديه من شرف الكلمة وصدق الوعد، فإذا به يتراجع للوراء، ويتقهقر للخلف، ويفقد هذه المكانة.
ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون : فلان اهتز مركزه في السوق، أي : زلت قدمه بما حدث منه من نقضٍ للعهود، وحنث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل الثقة في السوق، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أن يعلن إفلاسه في دنيا التعامل مع الناس.
أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأيمان، فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا تتزحزح ولا تهتز، فترى مال الناس جميعاً ماله، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل.
ولذلك، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء، هذا هو رأس مالهم، فإن دخل شريك بما لديه من رأس المال، فهذا شريك بما لديه من شرف الكلمة وشرف السلوك، ووجاهة بين الناس، وماضٍ مشرف من التعامل.
وهذه يسمونها : " شركة الوجوه والأعيان "، وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم، وبما له من سوابق فضائل ومكارم.
وكذلك، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص، بل نراها في ماركة من الماركات أو العلامات التجارية، فنراها تباع وتشتري، ولها قيمة غالية في السوق، بما نالته من احترام الناس وتقديرهم، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف الكلمة.
وقوله تعالى :﴿ وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " ٩٤ " ﴾( سورة النحل )
السوء : أي : العذاب الذي يسوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس، وكساد في الحال، بعد أن سقط من نظر المجتمع، وهدم جسر الثقة بينه وبين مجتمعه. وقوله تعالى :﴿ بما صددتم عن سبيل الله.. " ٩٤ " ﴾( سورة النحل ).
الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والأيمان ولا يوفون بها، فهل في هذا صد عن سبيل الله ؟
نقول : أولاً إن معنى سبيل الله : كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة، تدار بشرف وأمانة وصدق ونفاذ عهد.
ومن هنا، فالذي يخلف العهد، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال يضن بماله، وصاحب المعروف يتراجع، فلو أقرضت إنساناً وغدر بك، فلا أظنك مقرضاً لآخر.
إذن : لاشك أن في هذا صداً عن سبيل الله، وتزهيداً للناس في فعل الخير. وقوله تعالى :﴿ ولكم عذاب عظيم " ٩٤ " ﴾( سورة النحل ).
فبالإضافة إلى ما حاق بهم من خسارة في الدنيا، وبعد أن زلت بهم القدم، ونزل بهم من عذاب الدنيا ألوان مازال ينتظرهم عذاب عظيم، أي : في الآخرة.
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينهانا ويحذرنا : إياك أن تجعل عهد الله الذي أكدته للناس، وجعلت الله عليه كفيلاً، فبعد أن كنت حراً في أن تعاهد أو لا تعاهد، فبمجرد العهد أصبح نفاذه واجباً ومفروضاً عليك.
أو : عهد الله أي شرعه الذي تعاهدت على العمل به والحفاظ عليه، وهو العهد الإيماني الأعلى، وهو أن تؤمن بالله وبصدق الرسول في البلاغ عن الله، تلتزم بكل ما جاء به الرسول من أحكام، إياك أن تقابله بشيء آخر تجعله أغلى منه ؛ لأنك إن نقضت عهد الله لشيء آخر من متاع الدنيا الزائل فقد جعلت هذا الشيء أغلى من عهد الله ؛ لأن الثمن مهما كان سيكون قليلاً.
ثم يأتي تعليل ذلك في قوله :
﴿ إنما عند الله هو خير لكم.. " ٩٥ " ﴾( سورة النحل ).
فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كثر، بل فيما عند الله تعالى، وقد أوضح ذلك في قوله تعالى :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ " ٩٦ " ﴾( سورة النحل ).
ولنا وقفة مع قوله تعالى :﴿ هو خير لكم.. " ٩٥ " ﴾ ( سورة النحل )، فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير ( هو )، فلم يقل الحق سبحانه إنما عند الله خير لكم، فيحتمل أن ما عند غيره أيضاً خير لكم، أما في تعبير القرآن ( هو خير لكم )، أي : الخير فيما عند الله على سبيل القصر، كما في قوله تعالى :
﴿ وإذا مرضت فهو يشفين " ٨٠ " ﴾ ( سورة الشعراء ).
فجاء بالضمير " هو " ليؤكد أن الشافي هو الله لوجود مظنة أن يكون الشفاء من الطبيب، أما في الأشياء التي لا يظن فيها المشاركة فتأتي دون هذا التوكيد كما في قوله تعالى :
﴿ والذي يميتني ثم يحيين " ٨١ " ﴾ ( سورة الشعراء ).
فلم يقل : هو يميتني هو يحيين ؛ لأنه لا يميت ولا يحيي إلا الله، فلا حاجة للتوكيد هنا. ما الذي يخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد ؟.
الذي يخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد أن يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية، ولكنه لو عقل وتدبر الأمر لعلم أن ما يسعى إليه ثمن بخس، ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخر له في حالة الوفاء ؛ لأن ما أخذه حظاً من دنياه لابد له من زوال.
والعقل يقول : إن الشيء إذا كان قليلاً باقياً يفضل الكثير الذي لا يبقى، فما بالك إذا كان القليل هو الذي يفنى، والكثير هو الذي يبقى.
ومثال ذلك : لو أعطيتك فاكهة تكفيك أسبوعاً أو شهراً فأكلتها في يوم واحد، فقد تمتعت بها مرة واحدة، وفاتك منها متع وأكلات متعددة لو أكلتها في وقتها.
لذلك ؛ فالحق سبحانه وتعالى ينبهك أن ما عند الله هو الخير الحقيقي، فجعل موازينك الإيمانية دقيقة، فمن الحمق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني :﴿ إن كنتم تعلمون " ٩٥ " ﴾ ( سورة النحل ).
في الآية دقة الحساب، ودقة المقارنة، ودقة حل المعادلات الاقتصادية.
يوضح الحق تبارك وتعالى أن حظ الإنسان من دنياه عرض زائل، فإما أن تفوته بالموت، أو يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث، أما ما عند الله فهو باق لا نفاد له.
﴿ ولنجزين الذين صبروا.. " ٩٦ " ﴾ ( سورة النحل ).
كلمة ( صبروا ) تدل على أن الإنسان سيتعرض لهزات نفسية نتيجة ما يقع فيه من التردد بين الوفاء بالعهد أو نقضه، حينما يلوح له بريق المال، وتتحرك بين جنباته شهوات النفس، فيقول له الحق تبارك وتعالى : اصبر.. اصبر لا تكن عجولاً، وقارن المسائل مقارنة هادئة، وتحمل كل مشقة نفسية، وتغلب على شهوة النفس ؛ لتصل إلى النتيجة المحمودة.
فالتلميذ الذي يجتهد ويتعب ويتحمل مشقة الدرس والتحصيل يصبر على الشهوات العاجلة ؛ لما ينتظره من شهوات باقية آجلة، فوراء الدرس والتحصيل غاية أكبر وهدف أسمى. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ ولنجزين الذين صبروا.. " ٩٦ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : على مشقات الوفاء بالعهود.
﴿ أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ٩٦ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : أجراً بالزيادة في الجزاء على أحسن ما يكون ؛ فالإنسان حين يعمل مفروضاً أو مندوباً فله الجزاء، أما المباح فالمفروض ألا جزاء له، ولكن فضل الله يجزي عليه أيضاً.
الحق تبارك وتعالى يعطينا قضية عامة، هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة، فالعهود كانت عادة تقع بين الرجال، وليس للمرأة تدخل في إعطاء العهود، حتى إنها لما دخلت في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحداً من الصحابة يبايع النساء نيابة عنه.
إذن : المرأة بعيدة عن هذا المعترك نظراً لأن هذا من خصائص الرجال عادةً، أراد سبحانه أن يقول لنا : نحن لا نمنع أن يكون للأنثى عمل صالح.
ولا تظن أن المسألة منسحبة على الرجال دون النساء، فالعمل الصالح مقبول من الذكر والأنثى على حدً سواء، شريطة أن يتوفر له الإيمان، ولذلك يقول تعالى :
﴿ وهو مؤمن.. " ٩٧ " ﴾( سورة النحل )، وبذلك يكون العمل له جدوى ويكون مقبولاً عند الله ؛ ولذلك نرى كثيراً من الناس الذين يقدمون أعمالاً صالحة، ويخدمون البشرية بالاختراعات والاكتشافات، ويداوون المرضى، ويبنون المستشفيات والمدارس، ولكن لا يتوفر لهم شرط الإيمان بالله.
فنرى الحق تبارك وتعالى لا يبخس هؤلاء حقهم، ولكن يعجله لهم في الدنيا ؛ لأنه لا حظ لهم في أجر الآخرة، يقول تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ).
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " ٧ " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ٨ " ﴾( سورة الزلزلة ).
وهذا كله خاص بأمور الدنيا، فالذي يحسن شيئاً ينال ثمرته، لكن في جزاء الآخرة نقول لهؤلاء : لا حظ لكم اليوم، وخذوا أجركم ممن عملتم له فقد عملتم الخير للإنسانية للشهرة وخلود الذكر، وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خلدوا ذكراكم، ورفعوا شأنكم، وصنعوا لكم التماثيل، ولم يبخسوكم حقكم في الشهرة والتكريم.
ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى : فعلتم ليقال.. وقد قيل، فاذهبوا وخذوا ممن عملتم لهم. هؤلاء الذين قال الله في حقهم :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " ٣٩ " ﴾( سورة النور ).
يفاجأ يوم القيامة أن له إلهاً كان ينبغي أن يؤمن به، ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته. إذن : فالإيمان شرط لقبول العمل الصالح، فإذا ما توفر الإيمان فقد استوى الذكر والأنثى في الثواب والجزاء. يقول تعالى :﴿ فلنحيينه حياة طيبة.. " ٩٧ " ﴾( سورة النحل )، هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه الله والدار الآخرة، فيجمع الله له حظين من الجزاء، حظاً في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة، وحظاً في الآخرة :﴿ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ٩٧ " ﴾( سورة النحل ).
الاستعاذة : اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرت في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك.
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حول لك ولا قوة في مقاومته إلا أن تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان، وهو القادر وحده على رده عنك ؛ لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة.
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى، فقال :
﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص ).
فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء، ما عليك إلا أن ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به، فهو سبحانه القوي القادر على أن يدفع عنك ما لم تستطع أنت دفعه عن نفسك، فلا تقاومه بقوتك أنت ؛ لأنه لا طاقة لك به، ولا تدعه ينفرد بك ؛ لأنه إن انفرد بك وأبعدك عن الله، فسوف تكون له الغلبة.
ولذلك نقول دائماً : لا حول ولا قوة إلا بالله، أي : لا حول : لا تحول عن المعصية. ولا قوة. أي : على الطاعة إلا بالله.
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً، قد يتعرض لمن يعتدي عليه من أمثاله من الصبية، أما إذا كان في صحبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أن يتعرض له، فما بالك بمن يسير في صحبة ربه تبارك وتعالى، ويلقي بنفسه في حماية الله سبحانه ؟ !
وفي مقام الاستعاذة بالله، نذكر قاعدة إيمانية علمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : " من استعاذ بالله فأعيذوه "،
فيلزم المؤمن أن يعيذ من استعاذ بالله، وإن كان في أحب الأشياء إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك، حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غرن منها، وأخذن في الكيد لها وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف لهن ذلك ؟.
حاولن استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غرة، تتمتع بسلامة النية وصفاء السريرة، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لؤماً أو مكراً، وهي أيضاً ما تزال في نشوة فرحتها بأن أصبحت أماً للمؤمنين، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله، وقالت لهن إحداهن : إذا دخلت على رسول الله فقولي له : أعوذ بالله منك، فإنه يحب هذه الكلمة.
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية، ومحبة لرسول الله، وحرص على إرضائه، وقالت له : أعوذ بالله منك، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك ".
أي : مادمت استعذت بالله، فأنا قبلت هذه الاستعاذة ؛ لأنك استعذت بمعاذ، أي : بمن يجب علينا أن نتركك من أجله، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لهذه الاستعاذة.
إذن : من استعاذ بالله لابد للمؤمن أن يعيذه، ومن استجار الله لابد للمؤمن أن يكون جندياً من جنود الله، ويجيره حتى يبغ مأمنه. وفي الآية الكريمة أسلوب شرط، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى :﴿ فاستعذ.. " ٩٨ " ﴾( سورة النحل ).
فإذا رأيت الفاء، فاعلم أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، كما لو قلت : إذا قابلت محمداً، فقل له كذا.. فلا يتم القول إلا بعد المقابلة. أما في الآية الكريمة فالمراد : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ ؛ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة، كما جاء في قوله الحق تبارك وتعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.. " ٦ " ﴾( سورة المائدة ).
فالمعنى : إذا أردتم إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وكذلك إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ لأن القرآن كلام الله.
ولو آمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم، لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة :
أولها : استحضار قداسة المنزل سبحانه الذي آمنت به وأقبلت على كلامه.
ثانيها : استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزل عليه.
ثالثها : استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من الآداب والأحكام.
إذن : لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم، وكل منها عمل صالح لن يدعك الشيطان تؤديه دون أن يتعرض لك، ويوسوس لك، ويصرفك عما أنت مقبل عليه.
وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله، واستعذت منه بالله، وبذلك تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى، وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقاً، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام.
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن.
ومع ذلك لا مانع من حمل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن، فيكون المراد : إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله.. أي : بعد القراءة ؛ لأنك بعد أن قرأت كتاب الله خرجت منه بزاد إيماني وتجليات ربانية، وتعرضت لآداب وأحكام طلبت منك، فعليك إذن أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسد عليك هذا الزاد وتلك التجليات، أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام.
وقوله تعالى :﴿ من الشيطان الرجيم " ٩٨ " ﴾( سورة النحل )، أي : المعلون المطرود من رحمة الله ؛ لأن الشيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أن نجربه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام. وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال :
﴿ يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك.. " ١١٧ " ﴾( سورة طه )
وسبق أن رجم ولعن وأبعد من رحمة الله، فقد هددنا بقوله :
﴿ لأحتنكن ذريته.. " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
إذن : هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خلق الإنسان، وإلى قيام الساعة.
لحكمة أرادها الخالق سبحانه أن جعل للشيطان سلطاناً. أي : تسلطاً. وكلمة ( السلطان مأخوذة من السليط، وهو الزيت الذي كانوا يوقدون به السرج والمصابيح قبل اكتشاف الكهرباء، فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة، وعندما توقد تمتص من هذا الزيت وتضيء ؛ ولذلك سميت الحجة سلطاناً ؛ لأنها تنير لصاحبها وجه الحق.
والسلطان، إما سلطان حجة تقنعك بالفعل، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به. وإما سلطان قهر وغلبة يجبرك على الفعل، ويحملك عليه قهراً دون اقتناع به.
إذن : تنفيذ المطلوب له قوتان : قوة الحجة، التي تضيء لك وتوضح أمامك معالم الحق، وقوة القهر، التي تجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإن لم ترها.
والحقيقة أن الشيطان لا يملك أياً من هاتين القوتين، لا قوة الحجة والإقناع، ولا قوة القهر. وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة :
﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " ٢٢ " ﴾( سورة إبراهيم ).
هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهت المسألة وتكشفت الحقيقة، وجاء وقت المصارحة والمواجهة. يقول الشيطان لأوليائه متنصلاً من المسئولية : ما كان عندي من سلطان عليكم، لا سلطان حجة تقنعكم أن تفعلوا عن رضاً، ولا سلطان قهر أجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون، أنا فقط أشرت ووسوست فأتيتموني طائعين.
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. " ٢٢ " ﴾( سورة إبراهيم )، أي : نحن في الخيبة سواء، فلا أستطيع نجدتكم، ولا تستطيعون نجدتي ؛ لأن الصراخ يكون من شخص وقع في ضائقة أو شدة لا يستطيع الخلاص منها بنفسه، فيصرخ بصوت عالٍ لعله يجد من يغيثه ويخلصه، فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه. أي : أزالوا سبب صراخه.
إذن : فالمعنى : لا أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم، ولا أنتم تستطيعون إزالة سبب صراخي. وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا، وها هي المواجهة يوم القيامة :
﴿ وقفوهم إنهم مسئولون " ٢٤ " ما لكم لا تناصرون " ٢٥ " بل هم اليوم مستسلمون " ٢٦ " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ٢٧ " قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " ٢٨ " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين " ٢٩ " وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين " ٣٠ " ﴾( سورة الصافات ).
والمراد بقوله :( عن اليمين )، أن الإنسان يزاول أعماله بكلتا يديه، لكن اليد اليمنى هي العمدة في العمل، فأتيته عن اليمين، أي : من ناحية اليد الفاعلة.
﴿ وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين " ٣٠ " ﴾( سورة الصافات )، أي : في انتظار إشارة منا، مجرد إشارة، فسارعتم ووقعتم فيما وقعتم فيه. فعلى من يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر ؟.
يوضح الحق تبارك وتعالى أن تسلط الشيطان لا يقع على من آمن به رباً، ولجأ إليه واعتصم به، ومادمت آمنت بالله فأنت في معيته وحفظه، ولا يستطيع الشيطان وهو مخلوق لله تعالى أن يتسلط عليك أو يغلبك.
إذن : الحصن الذي يقينا كيد الشيطان، هو الإيمان بالله والتوكل عليه سبحانه. فعلى من إذن يتسلط الشيطان ؟ يوضح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل.
معنى يتولونه : أي : يتخذونه ولياً يطيعون أمره، ويخضعون لوسوسته، ويتبعون خطواته :﴿ الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ١٠٠ " ﴾( سورة النحل )، أي : مشركون بالله، أو يكون المعنى : وهم به، أي : بسببه أشركوا ؛ لأنه أصبح له أوامر ونواه وهم يطيعونه، وهذه هي العبادة بعينها، فكأنهم عبدوه من دون الله بما قدموه من طاعته في أمره ونهيه.
وقد سمى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وسوسة، والوسوسة في الحقيقة هي صوت الحلي حينما يتحرك في أيدي النساء، فيحدث صوتاً رقيقاً فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين، فإذا ما هاجت عليك نفسك وحدثتك بالمعصية تركك لها، فعند هذه النقطة تنتهي مهمته.
ولكن، هل النفس لا تفعل المعصية إلا بوسوسة الشيطان ؟.
قالوا : لا، فالنفس والمراد هنا : النفس الأمارة بالسوء قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشيطان، وقد يوسوس الشيطان لها، وينزغها نزغاً ويؤلبها، ويزين لها معصية ما كانت على بالها.
فكيف إذن يفرق بين هاتين المعصيتين ؟.
النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها، وإذا قاومت نفسك، وحاولت صرفها عن هذه الشهوة ألحت عليك بها، وطلبتها بعينها، فشهوة النفس إذن ثابتة ؛ لأنها تشتهي شيئاً واحداً تلح عليه.
ولكن حينما يوسوس الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته، صرف نظرك إلى أخرى ؛ لأنه يريدك عاصياً بأي شكل من الأشكال، فتراه يزين لك معصية أخرى وأخرى، إلى أن ينال منك ما يريد.
ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلاً والعياذ بالله فإن رفضت رشوة المال، زين لك رشوة الهدية، وإن رفضت رشوة الهدية، زين لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة.
وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة ضعف فيك، إذن : فهو ليس كالنفس يقف بك عند شهوة واحدة، ولكنه يريد أن يوقع بك على أي صورة من الصور.
ولكي نقف على مداخل الشيطان، ونكون منه على حذر يجب أن نعلم أن الشيطان على علم كبير وصل به إلى صفوف الملائكة، بل سموه " طاووس الملائكة "، ويمكن أن نقف على شيء من علم الشيطان في دقة قسمه، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يغوي بني آدم، فقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص ).
هكذا عرف الشيطان أن يقسم القسم المناسب، فلم يقل : بقوتي ولا بحجتي سأغوي الخلق، بل عرف لله تعالى صفة العزة، فهو سبحانه عزيز لا يغلب ؛ لذلك ترك لخلقه حرية الإيمان به، فقال :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ).
فالمعنى : فبعزتك عن خلقك : يؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر، ولكني لا أجرؤ على الاقتراب ممن اخترتهم واصطفيتهم، لن أتعرض لعبادك المخلصين، ولا دخل لي بهم، ولا سلطان لي عليهم.
كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللعين. فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلاً، فقد كفاه أهلها مشقة الوسوسة، ووفروا عليه المجهود، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه ومريحوه بما هم عليه من معصية الله، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليفسد على أهل الطاعة طاعتهم.
وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان، وكان مشهوراً بالفطنة، وعلى دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه، وكل هذا جعل له باعاً طويلاً في الإفتاء، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة :
قال : يا إمام كان لدي مال دفنته في مكان كذا، وجعلت عليه علامة، فجاء السيل وطمس هذه العلامة، فلم أهتد إليه، فماذا أفعل ؟.
فتبسم أبو حنيفة وقال : يا بني ليس في هذا علم، ففي أي باب من أبواب الفقه سيجد هذه القضية ؟ ! ولكني سأحتال لك.
وفعلاً تفتقت قريحة الإمام عن هذه الحيلة التي تدل على علمه وفقهه، قال له : إذا جئت في الليل فتوضأ، وقم بين يدي ربك متهجداً. وفي الصباح أخبرني خبرك.
وفي صلاة الفجر قابله الرجل مبتسماً. يقول : لقد وجدت المال، فقال : كيف ؟ قال الرجل : حينما وقفت بين يدي ربي في الصلاة تذكرت المكان، وذهبت فوجدت مالي، فضحك الإمام وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك.
قوله :( بدلنا )، ومنها : أبدلت واستبدلت، أي : رفعت آية وطرحتها. وجئت بأخرى بدلاً منها، وقد تدخل الباء على الشيء المتروك، كما في قوله تعالى :
﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. " ٦١ " ﴾( سورة البقرة )، أي : تتركون ما هو خير، وتستبدلون به ما هو أدنى. وما معنى الآية ؟ كلمة آية لها معانٍ متعددة منها :
الشيء العجيب الذي يلفت الأنظار، ويبهر العقول، كما نقول : هذا آية في الجمال، أو في الشجاعة، أو في الذكاء، أي : وصل فيه إلى حد يدعو إلى التعجب والانبهار.
ومنها الآيات الكونية، حينما تتأمل في كون الله من حولك تجد آيات تدل على إبداع الخالق سبحانه وعجيب صنعته، وتجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونية. يقول تعالى عن هذا النوع من الآيات :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر " ٣٧ " ﴾( سورة فصلت )
﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام " ٣٢ " ﴾ ( سورة الشورى )
ونلاحظ أن هذه الآيات الكونية ثابتة دائمة لا تتبدل، كما قال الحق تبارك وتعالى :
﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. " ٢٣ " ﴾( سورة الفتح ).
ومن معاني الآية : المعجزة، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة، وتأتي المعجزة على أيدي الأنبياء لتكون حجة لهم، ودليلاً على صدق ما جاءوا به من عند الله.
ونلاحظ في هذا النوع من الآيات أنه يتبدل ويتغير من نبي لآخر ؛ لأن المعجزة لا يكون لها أثرها إلا إذا كان في شيء نبغ فيه القوم ؛ لأن هذا هو مجال الإعجاز، فلو أتيناهم بمعجزة في مجال لا علم لهم به لقالوا : لو أن لنا علماً بهذا لأتينا بمثله ؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغوا فيه، وعلموه جيداً حتى اشتهروا به.
فلما نبغ قوم موسى عليه السلام في السحر، كانت معجزته من نوع من السحر الذي يتحدى سحرهم، فلما جاء عيسى عليه السلام ونبغ قومه في الطب والحكمة، كانت معجزته من نفس النوع، فكان عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان، وكانوا يقيمون لها الأسواق، ويعلقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها، فكان لابد أن يتحداهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم، وهكذا تتبدل المعجزات لتناسب كل منها حال القوم، وتتحداهم بما اشتهروا به، لتكون أدعى للتصديق وأثبت للحجة.
ومن معاني كلمة آية : آيات القرآن الكريم التي نسميها حاملة الأحكام، فإذا كانت الآية هي الأمر العجيب، فما وجه العجب في آيات القرآن ؟.
وجه العجب في آيات القرآن أن تجد هذه الآيات في أمة أمية، وأنزلت على نبي أمي في قوم من البدو الرحل، الذين لا يجيدون شيئاً غير صناعة القول والكلام الفصيح، ثم تجد هذه الآيات تحمل من القوانين والأحكام والآداب ما يرهب أقوى حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب، فنراهم يتطلعون للإسلام، ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم، أليس هذا عجيباً ؟
وهذا النوع الأخير من الآيات التي هي آيات الكتاب الكريم، والتي نسميها حاملة الأحكام، هل تتبدل هي الأخرى كسابقتها ؟.
نقول : آيات الكتاب لا تتبدل ؛ لأن أحكام الله المطلوبة ممن عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة ممن تقوم عليه الساعة.
وقد سبق الإسلام باليهودية والمسيحية، فعندنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة. اعترض على ذلك اليهود وقالوا : ما بال محمد لا يثبت على حال، فيأمر بالشيء اليوم، ويأمر بخلافه غداً، فإن كان البيت الصحيح هو الكعبة فصلاتكم لبيت المقدس باطلة، وإن كان بيت المقدس هو الصحيح فصلاتكم للكعبة باطلة. لذلك قال الحق تبارك وتعالى :
﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر.. " ١٠١ " ﴾( سورة النحل ).
فالمراد بقوله الحق سبحانه :﴿ آية مكان آيةٍ.. " ١٠١ " ﴾( سورة النحل ).
أي : جئنا بآية تدل على حكم يخالف ما جاء في التوراة، فقد كان استقبال الكعبة في القرآن بدل استقبال بيت المقدس في التوراة. وقوله :
﴿ والله أعلم بما ينزل.. " ١٠١ " ﴾( سورة النحل )، أي : ينزل كل آية حسب ظروفها : أمة وبيئة ومكاناً وزماناً. وقوله :﴿ قالوا إنما أنت مفترٍ.. " ١٠١ " ﴾( سورة النحل )، أي : اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب المتعمد، وأن هذا التحويل من عنده، وليس وحياً من الله تعالى ؛ لأن أحكام الله لا تتناقض. ونقول : نعم أحكام الله سبحانه وتعالى لا تتناقض في الدين الواحد، أما إذا اختلفت الأديان فلا مانع من اختلاف الأحكام.
إذن : فآيات القرآن الكريم لا تتبدل، ولكن يحدث فيها نسخ، كما قال الحق تبارك وتعالى :
﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.. " ١٠٦ " ﴾( سورة البقرة ).
وإليك أمثلة للنسخ في القرآن الكريم : حينما قال الحق سبحانه :
﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. " ١٦ " ﴾( سورة التغابن ).
جعل الاستطاعة ميزاناً للعمل، فالمشرع سبحانه حين يرى أن الاستطاعة لا تكفي يخفف عنا الحكم، حتى لا يكلفنا فوق طاقتنا، كما في صيام المريض والمسافر مثلاً، وقد قال تعالى :
﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. " ٢٨٦ " ﴾( سورة البقرة )، وقال :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " ٧ " ﴾ ( سورة الطلاق )، فليس لنا بعد ذلك أن نلوي الآيات ونقول : إن الحكم الفلاني لم تعد النفس تطيقه ولم يعد في وسعنا، فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوسع ويكلف على قدره، فإن كان قد كلف فقد علم الوسع، بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفف عنكم من تلقاء نفسه سبحانه، كما قال تعالى :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً.. " ٦٦ " ﴾( سورة الأنفال ).
ففي بداية الإسلام حيث شجاعة المسلمين وقوتهم، قال تعالى :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين.. " ٦٥ " ﴾( سورة الأنفال )، أي : نسبة واحد إلى عشرة، فحينما علم الحق سبحانه فيهم ضعفاً، قال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.. " ٦٦ " ﴾( سورة الأنفال )، أي : نسبة واحد إلى اثنين. فالله تعالى هو الذي يعلم حقيقة وسعنا، ويكلفنا بما نقدر عليه، ويخفف عنا عند الحاجة إلى التخفيف، فلا يصح أن نقحم أنفسنا في هذه القضية، ونقدر نحن الوسع بأهوائنا.
ومن أمثلة النسخ : أن العرب كانوا قديماً لا يعطون الآباء شيئاً من المال على اعتبار أن الوالد منته ذاهب، ويجعلون الحظ كله للأبناء على اعتبار أنهم المقبلون على الحياة. وحينما أراد الحق سبحانه أن يجعل نصيباً للوالدين جعلها وصية فقال :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين.. " ١٨٠ " ﴾( سورة البقرة )، فلما استقر الإيمان في النفوس جعلها ميراثاً ثابتاً، وغير الحكم من الوصية إلى خير منها وهو الميراث، فقال تعالى :﴿ ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس.. " ١١ " ﴾( سورة النساء ).
إذن : الحق تبارك وتعالى حينما يغير آية ينسخها بأفضل منها. وهذا واضح في تحريم الخمر مثلاً، حيث نرى هذا التدريج المحكم الذي يراعي طبيعة النفوس البشرية، وأن هذا الأمر من العادات التي تمكنت من النفوس، ولابد لها من هذا التدرج، فهذا ليس أمراً عقدياً يحتاج إلى حكم قاطع لا جدال فيه.
فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر : قال تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.. " ٦٧ " ﴾( سورة النحل )
أهل التذوق والفهم عن الله حينما سمعوا هذه الآية قالوا : لقد بيت الله للخمر أمراً في هذه الآية ؛ ذلك لأنه وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن السكر فلم يصفه بالحسن، فدل ذلك على أن الخمر سيأتي فيه كلام فيما بعد.
وحينما سئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر رد القرآن عليهم :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
جاء هذا على سبيل النصح والإرشاد، لا على سبيل الحكم والتشريع، فعلى كل مؤمن يثق بكلام ربه أن يرى له مخرجاً من أسر هذه العادة السيئة. ثم لوحظ أن بعض الناس يصلي وهو مخمور، حتى قال بعضهم في صلاته : أعبد ما تعبدون، فجاء الحكم :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.. " ٤٣ " ﴾( سورة النساء )ومقتضى هذا الحكم أن يصرفهم عن الخمر معظم الوقت، فلا تتأتى لهم الصلاة دون سكر إلا إذا امتنعوا عنها قبل الصلاة بوقت كافٍ، وهكذا عودهم على تركها معظم الوقت، كما يحدث الآن مع الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلاً، فينصحه بتقليل الكمية تدريجياً حتى يتمكن من التغلب على هذه العادة.
وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة ألفت فيها ترك الخمر، وبدأت تنصرف عنها، وأصبحت النفوس مهيئة لتقبل التحريم المطلق، فقال تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه.. " ٩٠ " ﴾( سورة المائدة ).
إذن : الحق سبحانه وتعالى نسخ آية وحكمها بما هو أحسن منه. والعجيب أن نرى من علمائنا من يتعصب للقرآن، فلا يقبل القول بالنسخ فيه، كيف والقرآن نفسه يقول :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.. " ١٠٦ " ﴾( سورة البقرة ).
قالوا : لأن هناك شيئاً يسمى البداء.. ففي النسخ كأن الله تعالى أعطى حكماً ثم تبين له خطؤه، فعدل عنه إلى حكم آخر.
ونقول لهؤلاء : لقد جانبكم الصواب في هذا القول، فمعنى النسخ : إعلان انتهاء الحكم السابق بحكم جديد أفضل منه، وبهذا المعنى يقع النسخ في القرآن الكريم. ومنهم من يقف عند قوه الحق تبارك وتعالى :﴿ نأت بخير منها أو مثلها.. " ١٠٦ " ﴾( سورة البقرة ).
فيقول :( نأت بخير منها )فيها علة للتبديل، وضرورة تقتضي النسخ وهي الخيرية، فما علة التبديل في قوله :( أو مثلها ) ؟.
أولاً : في قوله تعالى :( نأت بخير منها )، قد يقول قائل : ولماذا لم يأت بالخيرية من البداية ؟ نقول : لأن الحق سبحانه حينما قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته.. " ١٠٢ " ﴾( سورة آل عمران )
وهذه منزلة عالية في التقوى، لا يقوم بها إلا الخواص من عباد الله، شقت هذه الآية على الصحابة وقالوا : ومن يستطيع ذلك يا رسول الله ؟ فنزلت :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. " ١٦ " ﴾( سورة التغابن )
وجعل الله تعالى التقوى على قدر الاستطاعة، وهكذا نسخت الآية الأولى مطلوباً، ولكنها بقيت ارتقاء، فمن أراد أن يرتقي بتقواه إلى ( حق تقاته )، فبها ونعمت، وأكثر الله من أمثاله وجزاه خيراً، ومن لم يستطع أخذ بالثانية.
ولو نظرنا إلى هاتين الآيتين نظرة أخرى لوجدنا الأولى :﴿ اتقوا الله حق تقاته.. " ١٠٢ " ﴾( سورة آل عمران )، وإن كانت تدعو إلى كثير من التقوى إلا أن العاملين بها قلة، في حين أن الثانية :
﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. " ١٦ " ﴾( سورة التغابن ).
وإن جعلت التقوى على قدر الاستطاعة إلا أن العاملين بها كثير، ومن هنا كانت الثانية خيراً من الأولى، كما نقول : قليل دائم خير من كثير منقطع.
أما في قوله تعالى :( أو مثلها )، أي : أن الأولى مثل الثانية، فما وجه التغيير هنا، وما سبب التبديل ؟
نقول : سببه هنا اخت
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يرد على الكفار افتراءهم على رسول الله، واتهامهم له بالكذب المتعمد، وأنه جاء بهذه الآيات من نفسه، فقال له : يا محمد قل لهؤلاء : بل نزله روح القدس.
والقدس : أي المطهر، من إضافة الموصوف للصفة، كما نقول : حاتم الجود مثلاً. والمراد ب " روح القدس " : سفير الوحي جبريل عليه السلام، وقد قال عنه في آية أخرى :
﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " ﴾( سورة الشعراء )
وقال عنه :﴿ إنه لقول رسول كريم " ١٩ " ذي قوة عند ذي العرش مكين " ٢٠ " مطاع ثم أمينٍ " ٢١ " ﴾ ( سورة التكوير ).
وقوله الحق سبحانه :﴿ من ربك الحق.. " ١٠٢ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : أن جبريل لم يأت بهذا القرآن من عنده هو، بل من عند الله بالحق، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يأت بالقرآن من عنده، وكذلك جبريل، فالقرآن من عند الله، ليس افتراءً على الله، لا من محمد، ولا من جبريل عليهما السلام. وقوله تعالى :
﴿ ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين " ١٠٢ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : ليثبت الذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرسول من الآيات، أن الله تعالى أعلم بما ينزل من الآيات، وأن كل آية منها مناسبة لزمانها ومكانها وبيئتها، وفي هذا دليل على أن المؤمنين طائعون منصاعون لله تعالى، مصدقون للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما بلغ عن ربه تعالى.
وفي هذه الآية اتهام آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتراء جديد عليه، لا يأنف القرآن من إذاعته، فمن سمع الاتهام والافتراء يجب أن يسمع الجواب، فالقرآن يريد أن يفضح أمر هؤلاء، وأن يظهر إفلاس حججهم وما هم فيه من تخبط.
يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر.. " ١٠٣ " ﴾( سورة النحل )
وقد سبق أن قالوا عن رسول الله : " مجنون "، وبرأه الله بقوله تعالى :
﴿ وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾ ( سورة القلم )، والخلق العظيم لا يكون في مجنون ؛ لأن الخلق الفاضل لا يوضع إلا في مكانه، بدليل قوله تعالى :﴿ وما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ " ٢ " ﴾ ( سورة القلم ).
وسبق أن قالوا : ساحر، وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبطون في ضلالهم، فلو كان محمد ساحراً، فلم لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة ؟.
وسبق أن قالوا : " شاعر "، مع أنهم أدرى الناس بفنون القول شعراً ونثراً وخطابة، ولم يجربوا على محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، لكنه الباطل حينما يلج في عناده، ويتكبر عن قبول الحق.
وهنا جاءوا بشيء جديد يكذبون به رسول الله، فقالوا :
﴿ إنما يعلمه بشر.. " ١٠٣ " ﴾ ( سورة النحل )، أي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن فقالوا : إنه غلام لبني عامر بن لؤي اسمه ( يعيش )، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان يجلب الكتب من الأسواق، ويقرأ قصص السابقين، مثل عنترة وذات الهمة، وغيرها من كتب التاريخ.
وقد تضارب أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم على يديه، فقالوا : اسمه " عداس "، وقال آخرون : سلمان الفارسي. وقال آخرون : بلعام، وكان حداداً رومياً نصرانياً يعلم كثيراً عن أهل الكتاب.. الخ.
والحق تبارك وتعالى يرد على هؤلاء، ويظهر إفلاسهم الفكري، وإصرارهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " ١٠٣ " ﴾ ( سورة النحل ).
اللسان هنا : اللغة التي يتحدث بها. ويلحدون إليه : يميلون إليه، وينسبون إليه أنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أعجمي : أي : لغته خفية، لا يفصح ولا يبين الكلام، كما نرى الأجانب يتحدثون العربية مثلاً.
ونلاحظ هنا أن القرآن الكريم لم يقل ( عجمي ) ؛ لأن العجم جنس يقابل العرب، وقد يكون من العجم من يجيد العربية الفصيحة، كما رأينا سيبويه صاحب ( الكتاب )، أعظم مراجع النحو حتى الآن، وهو عجمي.
أما الأعجمي : فهو الذي لا يفصح ولا يبين، حتى وإن كان عربياً. وقد كان في قبيلة لؤي رجل اسمه زياد يقال له : " زياد الأعجمي " ؛ لأنه لا يفصح ولا يبين، مع أنه من أصل عربي.
إذن : كيف يتأتى لهؤلاء الأعاجم الذين لا يفصحون، ولا يكادون ينطقون اللغة العربية، كيف لهؤلاء أن يعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بمعجزة في الفصاحة والبلاغة والبيان ؟
كيف يتعلم من هؤلاء، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم التقى بأحد منهم إلا ( عداس )، يقال : إنه قابله مرة واحدة، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم تردد إلى معلم، لا من هؤلاء، ولا من غيرهم ؟
كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلمه إلى وقت طويل، يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلاء، وما جربتم على محمد شيئاً من هذا كله.
وهل يعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صدر واحد من هؤلاء ؟ ! لو حدث لكان له في المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة، ولأشاروا إليه بالبنان، ولذاع صيته، واشتهر أمره، وشيء من ذلك لم يحدث.
وقوله تعالى :﴿ وهذا لسان عربي مبين " ١٠٣ " ﴾( سورة النحل )، أي : لغته صلى الله عليه وسلم، ولغة القرآن عربية واضحة مبينة، لا لبس فيها ولا غموض.
الحق تبارك وتعالى في قوله :﴿ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله.. " ١٠٤ " ﴾( سورة النحل ). ينفي عن هؤلاء صفة الإيمان، فكيف يقول بعدها :﴿ لا يهديهم الله.. " ١٠٤ " ﴾( سورة النحل )، أليسوا غير مؤمنين، وغير مهتدين ؟ قلنا : إن الهداية نوعان :
هداية دلالة وإرشاد، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر، فقد دل الله الجميع، وأوضح الطريق للجميع، ومنها قوله تعالى :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. " ١٧ " ﴾( سورة فصلت )، أي : أرشدناهم ودللناهم. وهداية المعونة والتوفيق، وهذه لا تكون إلا للمؤمن، ومنها قوله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
إذن : معنى :﴿ لا يهديهم الله.. " ١٠٤ " ﴾( سورة النحل )، أي : هداية معونة وتوفيق. ويصح أن نقول أيضاً : إن الجهة هنا منفكة إلى شيء آخر، فيكون المعنى : لا يهديهم إلى طريق الجنة، بل إلى طريق النار، كما قال تعالى :﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا " ١٦٨ " إلا طريق جهنم.. " ١٦٩ " ﴾ ( سورة النساء )، بدليل قوله تعالى بعدها :﴿ ولهم عذاب أليم " ١٠٤ " ﴾( سورة النحل ) ؛ ولأنه سبحانه في المقابل عندما تحدث عن المؤمنين قال :﴿ ويدخلهم الجنة عرفها لهم " ٦ " ﴾( سورة محمد )، أي : هداهم لها وعرفهم طريقها.
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول : وإن افتريتم على رسول الله، واتهمتموه بالكذب الحقيقي أن تكذبوا بآيات الله، ولا تؤمنوا بها.
ونلاحظ في تذييل هذه الآية أن الحق سبحانه لم يقل : وأولئك هم الكافرون. بل قال : الكاذبون. ليدل على شناعة الكذب، وأنه صفة لا تليق بمؤمن.
ولذلك حينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيسرق المؤمن ؟ قال : " نعم ". لأن الله قال :﴿ والسارق والسارقة.. " ٣٨ " ﴾( سورة المائدة ).
فمادام قد شرع حكماً، وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر وارداً ومحتمل الحدوث. وسئل : أيزني المؤمن ؟ قال : " نعم " ؛ لأن الله قال :﴿ الزانية والزاني.. " ٢ " ﴾( سورة النور )، وسئل : أيكذب المؤمن ؟ قال : لا.
والحديث يوضح لنا فظاعة الكذب وشناعته، وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات، فقد جعل الله لكل منها عقوبة معلومة، في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة وأعظم.
إذن : الكذب صفة لا تليق بالمؤمن، ولا تتصور في حقه ؛ ذلك لأنه إذا اشتهر عن واحد أنه كذاب لما اعتاده الناس من كذبه، فنخشى أن يقول مرة : أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيقول قائل : إنه كذاب، وهذه كذبة من أكاذيبه.
الحق سبحانه وتعالى سبق وأن تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين، ثم تحدث عن الذين يخلفون العهد ولا يوفون به، ثم تحدث عن الذين افتروا على رسول الله، والذين كذبوا بآيات الله، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لابد أن تثار.
وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالقول وحده لا يكفي، ولابد وأن تشهد بذلك، ومعنى تشهد أن يواطئ القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة.
والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات :
الأولى : أن يواطئ القلب اللسان إيجاباً بالإيمان ؛ ولذلك نقول : إن المؤمن منطقي في إيمانه ؛ لأنه يقول ما يضمره قلبه.
الثانية : أن يواطئ القلب اللسان سلباً، أي : بالكفر، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق.
الثالثة : أن يؤمن بلسانه ويضمر الكفر في قلبه، وهذه حالة المنافق، وهو غير منطقي في إيمانه، حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان.
الرابعة : أن يؤمن بقلبه، وينطق كلمة الكفر بلسانه.
وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية. فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان، وما سبب هذا الكفر ؟ وما جزاؤه ؟.
قوله :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه.. " ١٠٦ " ﴾( سورة النحل ).
هذه جملة الشرط تأخر جوابها إلى آخر الآية الكريمة، لتقف أولاً على تفصيل هذا الكفر، فإما أن يكون عن إكراه لا دخل للإنسان فيه، فيجبر على كلمة الكفر، في حين قلبه مطمئن بالإيمان.
﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.. " ١٠٦ " ﴾( سورة النحل ).
ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلنا على أنه لا شيء عليه، ولا بأس أن يأخذ المؤمن بالتقية، وهي رخصة تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال. وفي تاريخ الإسلام نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة، ونطقت كلمة الكفر وهي مطمئنة بالإيمان. وفي الحديث الشريف : " رفع عن أمتي : الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سمية أول شهيدين في الإسلام، فكيف استشهدا ؟ كانا من المسلمين الأوائل، وتعرضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة مقابل العفو عنهما، فماذا حدث من هذين الشهيدين ؟ صدعا بالحق وأصرا على الإيمان حتى نالا الشهادة في سبيل الله، ولم يأخذا برخصة التقية.
وكان ولدهما عمار أول من أخذ بها، حينما تعرض لتعذيب المشركين.
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر، فأنكر صلى الله عليه وسلم هذا، وقال : " إن إيمان عمار من مفرق رأسه إلى قدمه، وإن الإيمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه ".
فلما جاء عمار أقبل على رسول الله وهو يبكي، ثم قص عليه ما تعرض له من أذى المشركين، وقال : والله يا رسول الله ما خلصني من أيديهم إلا أني تناولتك وذكرت آلهتهم بخير، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له : " إن عادوا إليك فقل لهم ما قلت ".
وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة، فراجعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فما بال بلال ؟ فقال : " عمار استعمل رخصة، وبلال صدع بالحق. "
ولاشك أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله، وأن الصدع بالحق والصبر على البلاء أعلى منزلة، وأسمى درجة من الأخذ بالرخصة ؛ لأن الأول آمن بقلبه ولسانه، والآخر آمن بقلبه فقط، ونطق لسانه الكفر.
لذلك، ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق نبوته، فقال لرجل : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله، قال : فما تقول في ؟ فقال الرجل في لباقة : وأنت كذلك، يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب.
فقابل آخر وسأله : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله، قال : وما تقول في ؟ فقال الرجل متهكماً : اجهر لأني أصبحت أصم الآن، وأنكر على مسيلمة ما يدعيه، فكان جزاؤه القتل. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما قال : " أحدهما استعمل الرخصة، والآخر صدع بالحق.
وقد تحدث العلماء عن الإكراه في قوله تعالى :
﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.. " ١٠٦ " ﴾( سورة النحل ).
وأوضحوا وجوه الإكراه وحكم كل منها، على النحو التالي :
إذا أكره الإنسان على أمر ذاتي فيه. كأن قيل له : اشرب الخمر وإلا قتلتك، أو عذبتك، قالوا : يجب عليه في هذه الحالة أن يشربها وينجو بنفسه ؛ لأنه أمر يتعلق به، ومن الناس من يعصون الله بشربها. فإن قيل له : اكفر بالله وإلا قتلتك أو عذبتك، قالوا : هو مخير بين أن يأخذ بالتقية هنا، ويستخدم الرخصة التي شرعها الله له، أو يصدع بالحق ويصمد.
أما إذا تعلق الإكراه بحق من حقوق الغير، كأن قيل لك : اقتل فلاناً وإلا قتلتك، ففي هذه الحالة لا يجوز لك قتله ؛ لأنك لو قتلته لقتلت قصاصاً، فما الفائدة إذن ؟.
وبعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن حكم من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يتحدث عن النوع الآخر :
﴿ ولكن من شرح بالكفر صدراً.. " ١٠٦ " ﴾( سورة النحل )، أي : نطق كلمة الكفر راضياً بها، بل سعيدة بها نفسه، منشرحاً بها صدره، وهذا النوع هو المقصود في جواب الشرط.
﴿ فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " ١٠٦ " ﴾( سورة النحل ).
فإن كانت الآيات قد سكتت عمن أكره، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره، فقد بينت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله، أي : في الدنيا. ولهم عذاب عظيم، أي : في الآخرة.
وكما رأينا في تاريخ الإسلام نماذج للنوع الأول الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، كذلك رأينا نماذج لمن شرح بالكفر صدراً، وهم المنافقون، ومنهم من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، ومنهم عبد الله ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي.
( ذلك )، أي : ما استحقوه من العذاب السابق.
﴿ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.. " ١٠٧ " ﴾( سورة النحل ).
استحب : أي : آثر وتكلف الحب ؛ لأن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها لوجدها قصيرة أحقر من أن تحب لذاتها، ولوجد الأغيار بها كثيرة تتقلب بأهلها فلا يدوم لها حال، ينظر فإذا الأحوال تتبدل من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى السقم، ومن القوة إلى الضعف، فكيف إذن تستحب الدنيا على الآخرة ؟ !.
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نعطي كلاً من الدنيا والآخر ما يستحقه من الحب، فنحب الدنيا دون مبالغة في حبها، نحبها على أنها مزرعة للآخرة، وإلا فكيف نطلب الجزاء والثواب من الله ؟ لذلك نقول : إن الدنيا أهم من أن تنسى، وأتفه من أن تكون غاية، وقد قال الحق سبحانه :﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا.. " ٧٧ " ﴾( سورة القصص ).
ففهم البعض الآية على أنها دعوة للعمل للدنيا وأخذ الحظوظ منها، ولكن المتأمل لمعنى الآية يجد أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئاً هيناً معرضاً للنسيان والإهمال، فيذكرنا بها، ويحثنا على أن نأخذ منها بنصيب، فأنا لا أقول لك : لا تنس الشيء الفلاني إلا إذا كنت أعلم أنه عرضة للنسيان، وهذا جانب من جوانب الوسطية والاعتدال في الإسلام.
ويكفينا وصف هذه الحياة بالدنيا، فليس هناك وصف أقل من هذا الوصف، والمقابل لها يقتضي أن نقول : العليا وهي الآخرة، نعم نحن لا ننكر قدر الحياة الدنيا ولا نبخسها حقها، ففيها الحياة والحس والحركة، وفيها العمل الصالح والذكرى الطيبة.. الخ.
ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء، في حين أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا يعتريها زوال، ولا يهددها موت، كما قال الحق سبحانه :
﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " ٦٤ " ﴾( سورة العنكبوت )، أي : الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها. ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. " ٢٤ " ﴾( سورة الأنفال ). وقوله :﴿ على الآخرة.. " ١٠٧ " ﴾( سورة النحل ).
لقائل أن يقول : إن الآية تتحدث عن غير المؤمنين بالآخرة، فكيف يقال عنهم :﴿ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.. " ١٠٧ " ﴾( سورة النحل ).
نقول : من غير المؤمنين بالآخرة من قال الله فيهم :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " ٣٨ " ﴾( سورة النحل ).
وأيضاً منهم من قال :
﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ).
إذن : من هؤلاء من يؤمن بالآخرة، ولكنه يفضل عليها الدنيا. قوله تعالى :
﴿ وإن الله لا يهدي القوم الكافرين " ١٠٧ " ﴾( سورة النحل )، أي : لا يهديهم هداية معونة وتوفيق. وسبق أن قلنا : إن الهداية نوعان : هداية دلالة، ويستوي فيها المؤمن والكافر، وهداية معونة خاصة بالمؤمن.
إذن : إذا نفيت الهداية، فالمراد هداية المعونة، فعدم هداية الله انصبت على الكافر لكونه كافراً، فكأن كفره سبق عدم هدايته، أو نقول : لكونه كافراً لم يهده الله.
طبع : أي : ختم عليها، وإذا تأملت الختم، وجدت المقصود منه أن الشيء الداخل يظل داخلاً لا يخرج، وأن الخارج يظل خارجاً لا يدخل.
وفرق بين ختم البشر وختم ربنا سبحانه، فقصارى ما نفعله أن نختم الأشياء المهمة كالرسائل السرية مثلاً، أو نريد إغلاق مكان ما نختم عليه بالشمع الأحمر لنتأكد من غلقه، ومع ذلك نجد من يحتال على هذا الختم ويستطيع فضه وربما أعاده كما كان.
أما إذا ختم الحق سبحانه وتعالى على شيء، فلا يستطيع أحد التحايل عليه سبحانه. فالمراد إذن بقوله تعالى :﴿ طبع الله على قلوبهم.. " ١٠٨ " ﴾( سورة النحل ). أن ما فيها من الكفر لا يخرج منها، وما هو خارجها من الإيمان لا يدخل فيها ؛ ذلك لأن القلب هو الوعاء الذي تصب فيه الحواس التي هي وسائل الإدراكات المعلومية، وأهمها السمع والبصر. فالبسمع تسمع الوحي والتبليغ عن الله، وبالبصر ترى دلائل قدرة الله في كونه، وعجيب صنعه مما يلفتك إلى قدرة الله، ويدعوك للإيمان به سبحانه، فإذا ما انحرفت هذه الحواس عما أراده الله منها، وبدل أن تمد القلب بدلائل الإيمان تعطلت وظيفتها.
فالسمع موجود كآلة تسمع ولكنها تسمع الفارغ من الكلام، فلا يوجد سمع اعتباري، وكذلك البصر موجود كآلة تبصر ما حرم الله فلا يوجد بصر اعتباري، فما الذي سيصل إلى القلب إذن من خلال هذه الحواس ؟.
فمادام القلب لا يسمع الهداية، ولا يرى دلائل قدرة الله في كونه فلن نجد فيه غير الكفر، فإذا أراد الإيمان قلنا له : لابد أن تخرج الكفر من قلبك أولاً، فلا يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب واحد ؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات يسمونه :( عدم التداخل )، يمكن أن تشاهده حينما تملأ زجاجة فارغة بالماء، فترى أن الماء لا يدخل إلا بقدر ما يخرج من الهواء. فكذلك الحال في الأوعية المعنوية.
فإن أردت الإيمان أيها الكافر فأخرج أولاً ما في قلبك من الكفر ؛ واجعله مجرداً من كل هوى، ثم ابحث بعقلك في أدلة الكفر وأدلة الإيمان، وما تصل إليه وتقتنع به أدخله في قلبك، لكن أن تبحث أدلة الإيمان وفي جوفك الكفر فهذا لا يصح، لابد من إخلاء القلب أولاً وتجعل الأمرين على السواء.
لذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه " ٤ " ﴾( سورة الأحزاب ).
وفي الأثر : " لا يجتمع حب الدنيا وحب الله في قلب واحد " ؛ لأن الإنسان قلباً واحداً لا يجتمع فيه نقيضان، هكذا شاءت قدرة الله أن يكون القلب على هذه الصورة، فلا تجعله مزدحماً بالمظروف فيه.
كما أن طبع الله على قلوب الكفار فيه إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده مراده، حتى وإن كان مراده الكفر، وكأنه سبحانه يقول لهؤلاء : إن كنتم تريدون الكفر وتحبونه وتنشرح له صدوركم فسوف أطبع عليها، فلا يخرج منها الكفر ولا يدخلها الإيمان، بل وأزيدكم منه إن أحببتم، كما قال تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً.. " ١٠ " ﴾( سورة البقرة ). فهنيئاً لكم بالكفر، واذهبوا غير مأسوف عليكم. وقوله :﴿ وأولئك هم الغافلون " ١٠٨ " ﴾( سورة النحل ).
الغافل : من كان لديه أمر يجب أن يتنبه إليه، لكنه غفل عنه، وكأنه كان في انتظار إشارة تنبه عقله ليصل إلى الحق.
فقوله تعالى :﴿ لا جرم.. " ١٠٩ " ﴾( سورة النحل )، أي : حقاً ولابد، أولاً جريمة في أن يكون هؤلاء خاسرين في الآخرة، بما اقترفوه من موجبات الخسارة، وبما أتوا به من حيثيات ترتب عليها الحكم بخسارتهم في الآخرة، فقد حق لهم وثبت لهم ذلك. والمتتبع للآيات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات، بداية من قولهم عن رسول الله :
﴿ إنما أنت مفترٍ.. " ١٠١ " ﴾( سورة النحل ).
وقولهم :﴿ إنما يعلمه بشر.. " ١٠٣ " ﴾( سورة النحل ).
وعدم إيمانهم بآيات الله، وكونهم كاذبين مفترين على الله، واطمئنانهم بالكفر، وانشراح صدورهم به، واستحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة.
هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبت لهم الخسران في الآخرة يوم تصفي الحسابات، وتنكشف الأرباح والخسائر، وكيف لا يكون عاقبته خسراناً من اقتراف كل هذه الجرائم ؟ !.
قوله تعالى :
﴿ فتنوا.. " ١١٠ " ﴾( سورة النحل ).
أي : ابتلوا وعذبوا عذاباً أليماً ؛ لأنهم أسلموا. وقوله :﴿ إن ربك من بعدها لغفور رحيم " ١١٠ " ﴾( سورة النحل ).
من رحمة الله تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم، ومن رحمته أيضاً أن يقبل توبة من يتوب ؛ لأنه لو لم يفتح الله باب التوبة للمذنب ليئس من رحمة الله، ولتحول وإن أذنب ولو ذنباً واحداً إلى مجرم يشقى به المجتمع، فلم ير أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلاح، ولا دافعاً يدفعه إلى الإقلاع.
أما إذا رأى باب ربه مفتوحاً ليل نهار يقبل توبة التائب، ويغفر ذنب المسيء، كما جاء في الحديث الشريف : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها ".
بل ويزيده ربنا سبحانه وتعالى من فضله إن أحسن التوبة وندم على ما كان منه، بأن يبدل سيئاته حسناتٍ، كما قال سبحانه :
﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " ٧٠ " ﴾( سورة الفرقان ).
لو رأى المذنب ذلك كان أدعى لإصلاحه، وأجدى في انتشاله من الوهدة التي تردى فيها. إذن : تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة، وقبولها من المذنب رحمة أخرى ؛ لذلك قال سبحانه :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا.. " ١١٨ " ﴾( سورة التوبة )، أي : شرع لهم التوبة ودلهم عليها، ليتوبوا هم. فإن اغتر مغتر برحمة الله وفضله فقال : سأعمل سيئات كثيرة حتى يبدلها الله لي حسنات. نقول له : ومن يدريك لعله لا ينطبق عليك شروط الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهل تضمن أن يمهلك الأجل إلى أن تتوب، وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة ؟.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم عن الإيمان بالله والإيمان بصدق رسوله في البلاغ عنه، واستقبال منهج الله في الكتاب والسنة، وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد لله وللرسول وللمنهج. أراد سبحانه أن يعطينا واقعاً ملموساً في الحياة لكل ذلك، فضرب لنا هذا المثل.
ومعنى المثل : أن يتشابه أمران تشابهاً تاماً في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول : هذا مثل هذا تماماً.
والهدف من ضرب الأمثال أن يوضح لك مجهولاً بمعلوم، فإذا كنت مثلاً لا تعرف شخصاً نتحدث عنه فيمكن أن نقول لك : هو مثل فلان المعلوم لك في الطول ومثل فلان في اللون.. الخ من الصور المعلومة لك، وبعد أن تجمع هذه الصور تكون صورة كاملة لهذا الشخص الذي لا تعرفه.
لذلك، فالشيء الذي لا مثيل له إياك أن تضرب له مثلاً، كما قال الحق سبحانه :
﴿ فلا تضربوا لله الأمثال " ٧٤ " ﴾( سورة النحل ) ؛ لأنه سبحانه لا مثيل له، ولا نظير له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وهو سبحانه الذي يضرب المثل لنفسه، أما نحن فلا نضرب المثل إلا للكائنات المخلوقة له سبحانه. لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا، وتوضح الأمر المعنوي بالأمر الحسي الملموس لنا.
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله، وأن الله يضاعف النفقة، ويخلف على صاحبها أضعافاً مضاعفة، فانظر كيف صور لنا القرآن هذه المسألة :
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " ٢٦١ " ﴾( سورة البقرة ).
وهكذا أوضح لنا المثل الأمر الغيبي المجهول بالأمر المحس المشاهد الذي يعلمه الجميع، حتى استقر هذا المجهول في الذهن، بل أصبح أمراً متيقناً شاخصاً أمامنا.
والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن الأمر الذي وضحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من الأمر الذي أوضح به، فإن كانت هذه الأضعاف المضاعفة هي عطاء الأرض، وهي مخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى ؟.
وكلمة ( ضرب )، مأخوذة من ضرب العملة، حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة، ولخوف الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلاً بالنحاس، فكان النقاد، أي : الخبراء في تمييز العملة يضربونها، أي : يختمون عليها فتصير معتمدة موثوقاً بها، ونافذة وصالحة للتداول. كذلك إذا ضرب الله مثلاً لشيء مجهول بشيء معلوم استقر في الذهن واعتمد.
فقال تعالى في هذا المثل :﴿ وضرب الله مثلاً قريةً.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها، ولم يشكره عليها، ولم يؤد حق الله فيها، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرضها للزوال، وعرض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة، فقيد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها، لذلك قال الشاعر :
إذا كنت في نعمة فارعها ***فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله*** فإن الإله شديد النقم
ولكن، القرية التي ضربها الله لنا مثلاً هنا، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق ؟ قد يراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة، أو غيرها من القرى، وعلى كل فتحديدها أمر لا فائدة منه، ولا يؤثر في الهدف من ضرب المثل بها.
والقرية : اسم للبلد التي يكون بها قرى لمن يمر بها، أي : بلد استقرار. وهي اسم للمكان فإذا حدث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله تعالى :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. " ٨٢ " ﴾( سورة يوسف ).
فالمراد : اسأل أهل القرية ؛ لأن القرية كمكان لا تسأل.. هكذا قال علماء التفسير، على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية. ولكن مع تقدم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً، كما قال سبحانه :﴿ سنريهم آيتانا في الآفاق وفي أنفسهم.. " ٥٣ " ﴾( سورة فصلت ).
والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين، فمثلاً يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يسجلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة.
ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة، وعلى هذا يمكن أن نقول : إن القرية يمكن أن تسأل، ويمكن أن تجيب، فلديها ذاكرة واعية تسجل وتحتفظ بما سجلته، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بدء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو، مودعة فيه على شكل موجات لم تفقد ولم تضع.
وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيت فيه بحجر، سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها ؛ لأن أهلها قد يكذبون، أما هي فلا تعرف الكذب. وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني.
وقوله تعالى :﴿ كانت آمنة مطمئنة.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
آمنة : أي : في مأمن من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نعم الله تعالى على البلاد والعباد. وقوله :﴿ مطمئنة.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : لديها مقومات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مستقرة مريحة، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغصات، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة، فالأمن والطمأنينة هما سر سعادة الحياة واستقرارها. وحينما امتن الله تعالى على قريش قال :﴿ لإيلاف قريش " ١ " إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " ٢ " فليعبدوا رب هذا البيت " ٣ " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " ٤ " ﴾( سورة قريش ).
فطالما شبعت البطن، وأمنت النفس استقرت بالإنسان الحياة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مثلى للحياة الدنيا، فيقول : " من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "
ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها :﴿ يأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق، وهذا يرجح القول بأنها مكة ؛ لأن الله تعالى قال عنها :﴿ أو لم تمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقاً من لدناً ولكن أكثرهم لا يعلمون " ٥٧ " ﴾( سورة القصص )، ومن تيسر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم، وبذلك تمت لهم النعمة واكتملت لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة، فماذا كان منهم ؟ هل استقبلوها بشكر الله ؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومرضاته ؟ لا.. بل :﴿ فكفرت بأنعم الله.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : جحدت بهذه النعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته، فكانت النتيجة :
﴿ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة النحل )، وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.
﴿ فأذاقها الله.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ). من الذوق، نقول : ذاق وتذوق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوقه. والذوق لا يتجاوز حلمات اللسان. إذن : الذوق خاص بطعم الأشياء، لكن الله سبحانه لم يقل : أذاقها طعم الجوع، بل قال :﴿ لباس الجوع والخوف.. " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباس يلبسه الإنسان، والمتأمل في الآية يطالع دقة التعبير القرآني، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف، كيف ذلك ؟.
الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن، فإذا لم يجد طعاماً عوض من المخزون في الجسم من شحوم، فإذا ما انتهت الشحوم تغذى الجسم على اللحم، ثم بدأ ينحت العظام، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً، وعلى الجلد هزالاً وذبولاً، ثم ينكمش ويجف، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد، وكأنه لباس يرتديه الجائع.
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشحوب لونه وتغير بشرته، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض :
﴿ تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً.. " ٢٧٣ " ﴾( سورة البقرة )، وكذلك الخوف وإن كان موضعه القلب، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه. وهكذا جسد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية، وجعلها محسوسة تراها العيون، ولكنه أدخلها تحت حاسة التذوق ؛ لأنها أقوى الحواس.
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يوحي بشمولهما الجسم كله، كما يلفه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط. ومن ذلك ما اشتهر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب، فنراهم يتحدثون عن القلوب، كما قال الشاعر :
خطرات ذكرك تستسيغ مودتي فأحس منها في الفؤاد دبيبا
فإذا ما زاد الحب وتسامى، وارتقت هذه المشاعر، تحول الحب من القلب، وسكن جميع الجوارح، وخالط كل الأعضاء، على حد قول الشاعر :
لا عضو لي إلا وفيه صبابة*** فكأن أعضائي خلقن قلوبا
وقوله :﴿ بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة النحل )، أي : أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله عنهم، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدود والجحود والنكران، وتعرضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيتوا لقتله، حتى دعا عليهم قائلاً : " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "، فاستجاب الحق سبحانه لنبيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه. وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضجوا، وبلغ بهم الجهد والضنك منتهاه، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله، فقال : هذا عملك برجال مكة، فما بال صبيانها ونسائها ؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب.
أما لباس الخوف فتمثل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم ؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحت لهم قوة وشوكة.
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة، وقد تمثلت هذه النعمة في كونها آمنة مطمئنة، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني، لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قيمه وأخلاقه.
وهذه هي نعمة النعم، وقد امتن الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولاً منهم، فما فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم، منحلة الأخلاق، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم ما اعوج من سلوكهم، ويصلح ما فسد من قيمهم ومبادئهم. وقوله :
﴿ منهم.. " ١١٣ " ﴾( سورة النحل )، أي : من جنسهم، وليس غريباً عنهم، وليس من مطلق العرب، بل من قريش أفضل العرب وأوسطها. يقول تعالى :
﴿ فكذبوه.. " ١١٣ " ﴾( سورة النحل )، وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال، وبما اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضاً بالنعم القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله :
﴿ فأخذهم العذاب " ١١٣ " ﴾( سورة النحل ).
من الذي أخذهم ؟.
لم تقل الآية : أخذهم الله بالعذاب، بل : أخذهم العذاب، كأن العذاب نفسه يشتاق لهم، وينقض عليهم، ويسارع لأخذهم، ففي الآية تشخيص يوحي بشدة عذابهم. كما قال تعالى في آية أخرى :
﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيدٍ " ٣٠ " ﴾( سورة ق ).
قلنا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف، كان يرسل إليهم ما يأكلونه من الحلال الطيب رحمة منه صلى الله عليه وسلم بهم فيقول :﴿ فكلوا مما رزقكم الله.. " ١١٤ " ﴾( سورة النحل )، أي : أن هذا الرزق ليس من عندي، بل من عند الله.
﴿ حلالاً طيباً.. " ١١٤ " ﴾( سورة النحل ).
ذلك لأنهم كانوا قبل ذلك لا يتورعون عن أكل ما حرم الله، ولا عن أكل الخبيث، فأراد أن ينبههم أن رزق الله لهم من الحلال الطيب الهنيء، فيبدلهم الحلال بدل الحرام، والطيب بدل الخبيث. وقوله تعالى :﴿ واشكروا نعمة الله.. " ١١٤ " ﴾( سورة النحل ). وهنا إشارة تحذير لهم أن يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل من جحود النعمة ونكرانها والكفر بها، فقد جربوا عاقبة ذلك، فنزع الله منهم الأمن، وألبسهم لباس الخوف، ونزع منهم الشبع ورغد العيش، وألبسهم لباس الجوع، فخذوا إذن عبرة مما سلف :﴿ إن كنتم إياه تعبدون " ١١٤ " ﴾( سورة النحل ).
الحق سبحانه وتعالى بعد أن قال :
﴿ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً.. " ١١٤ " ﴾( سورة النحل ).
أراد أن يكرر معنى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة فقال في البقرة :
﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " ١٧٣ " ﴾( سورة البقرة ).
وقال تعالى في سورة المائدة :
﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.. " ٣ " ﴾( سورة المائدة )
وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي محرمة عليكم، والآن مادمنا ننقذكم، ونجعل لكم معونة إيمانية من رسول الله، فكلوا هذه الأشياء حلالاً طيباً. ولكن، لماذا كرر هذا المعنى هنا ؟.
التكرار هنا لأمرين :
الأول : أنه سبحانه لا يريد أن يعطيهم صورة عامة بالحكم، بل صورة مشخصة بالحالة ؛ لأنهم كانوا جوعى يريدون ما يأكلونه، حتى وإن كانت الجيف، ولكن الإسلام يحرم الميتة، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب.
ثانياً : أن النص يختلف، ففي البقرة :
﴿ وما أهل به لغير الله.. " ١٧٣ " ﴾( سورة البقرة )
وهنا :﴿ وما أهل لغير الله به.. " ١١٥ " ﴾( سورة النحل ).
وليس هنا من قبيل التفنن في الأسلوب، بل المعنى مختلف تماماً ؛ ذلك لأن الإهلال هو رفع الصوت عند الذبح، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح، ولكن والعياذ بالله يقولون : باسم اللات، أو باسم العزى، فيهلون بأسماء الشركاء الباطلين، ولا يذكرون اسم الله الوهاب.
فمرة يهلون به لغير الله، ومرة يهلون لغير الله به. كيف ذلك ؟
قالوا : لأن الذبح كان على نوعين : مرة يذبحون للتقرب للأصنام، فيكون الأصل في الذبح أنه أهل لغير الله به. أي : للأصنام.
ومرة يذبحون ليأكلوا دون تقرب لأحد، فالأصل فيه أنه أهل به لغير الله. إذن : تكرار الآية لحكمة، وسبحان من هذا كلامه.
وقوله :﴿ فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ.. " ١١٥ " ﴾( سورة النحل ).
الاضطرار : ألا تجد ما تأكله، ولا ما يقيم حياتك.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تلجئنا الضرورة أن نأكل من هذه الأشياء المحرمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسد الجوع، فمعنى ( غير باغٍ ) : غير متجاوز للحد، فلو اضطررت وعندك ميتة وعندك طعام حلال، فلا يصح أن تأكل الميتة في وجود الحلال.
﴿ ولا عادٍ.. " ١١٥ " ﴾( سورة النحل )، أي : ولا معتد على القدر المرخص به، وهو ما يمسك الحياة ويسد جوعك فقط، دون شبع منها. ويقول تعالى :
﴿ فإن الله غفور رحيم " ١١٥ " ﴾( سورة النحل )
وفي البقرة :﴿ فلا إثم عليه.. " ١٧٣ " ﴾( سورة البقرة ).
فالمعنى واحد، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة، وهناك ذكر سببهما. وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن مغمز، فيقولون : طالما أن الله حرم هذه الأشياء، فما فائدتها في الكون ؟.
نقول : أتظنون أن كل موجود في الكون وجد ليؤكل، أليس له مهمة أخرى ؟ ومن ورائه مصلحة أخرى غير الأكل، فإن حرم الإسلام أكله فقد أباح الانتفاع به من وجه آخر. فالخنزير مثلاً حرم الله أكله، ولكن خلقه لمهمة أخرى، وجعل له دوراً في نظافة البيئة، حيث يلتهم القاذورات، فهو بذلك يؤدي مهمة في الحياة.
وكذلك الثعابين لا نأكلها، ولها مهمة في الحياة أيضاً، وهي أن تجهز لنا السم في جوفها، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
وكذلك يجب أن نعلم أن الحق سبحانه ما حرم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة، وعلى الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يقرب له المعاني القيمية الدينية، فلو نظر إلى الآلات التي تدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه لوجد لكل منها وقوداً، ربما لا يناسب غيرها، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلاً لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود، ولكن بدرجة نقاء أعلى.
إذن : لكل شيء وقود مناسب، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك، وبه تستطيع أداء حركتك في الحياة، وأنت صنعة ربك سبحانه، وهو الذي يحدد لك ما تأكله وما لا تأكله، ويعلم ما يصلحك وما يضرك.
والشيء المحرم قد يكون محرماً في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر، وقد يكون حلالاً في ذاته، ولكنه محرم بالنسبة لشخص معين، كأن يمنع المريض من تناول طعام ما ؛ لأنه يضر بصحته أو يؤخر شفاءه، وهو تحريم طارئ لحين زوال سببه.
وصورة أخرى للتحريم، وهي أن يكون الشيء حلالاً في ذاته ولا ضرر في تناوله، ومع ذلك تحرمه عقوبة، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلاً.
إذن : للتحريم أسباب كثيرة، سوف نرى أمثلة منها قريباً.
معنى ( تصف ألسنتكم الكذب ) : تظهره على أوضح وجوهه، فليس كلامهم كذباً فقط، بل يصفه، فمن لا يعرف الكذب فليعرفه من كلام هؤلاء. والمراد بالكذب هنا قولهم :﴿ هذا حلال وهذا حرام.. " ١١٦ " ﴾( سورة النحل ).
فهذا كذب وافتراء على الله سبحانه ؛ لأنه وحده صاحب التحليل والتحريم، فإياك أن تحلل شيئاً من عند نفسك، أو تحرم شيئاً حسب هواك ؛ لأن هذا افتراء على الله :
﴿ لتفتروا على الله الكذب.. " ١١٦ " ﴾( سورة النحل ).
وقوله تعالى :﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " ١١٦ " ﴾( سورة النحل ).
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس، فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة، فعما قليل سيفتضح أمرهم، وينكشف كذبهم، وتنقطع مصالحهم بين الخلق.
أي : ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على الله متاع قليل زائل، سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي الذي قال الله عنه :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ " ٩٦ " ﴾( سورة النحل )
ليس هذا فقط بل :﴿ ولهم عذاب أليم " ١١٧ " ﴾( سورة النحل ).
بعد أن تكلمت الآيات فيما أحل الله وفيما حرم، وبينت أن التحليل أو التحريم لله تعالى، جاءت لنا بصورة من التحريم، لا لأن الشيء ذاته محرم، بل هو محرم تحريم عقوبة، كالذي مثلنا له سابقاً بحرمان الطفل من الحلوى عقاباً له على سوء فعله.
والذين هادوا هم : اليهود عاقبهم الله بتحريم هذه الأشياء، مع أنها حلال في ذاتها، وهذا تحريم خاص بهم كعقوبة لهم. وقوله تعالى :
﴿ ما قصصنا عليك من قبل.. " ١١٨ " ﴾( سورة النحل ).
المراد ما ذكر في سورة الأنعام من قوله تعالى :
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون " ١٤٦ " ﴾( سورة الأنعام )
كل ذي ظفر : الحيوان ليس منفرج الأصابع، والحوايا : هي المصارين والأمعاء، ونرى أن كل هذه الأشياء المذكورة في الآية حلال في ذاتها، ومحللة لغير اليهود، ولكن الله حرمها عليهم عقوبة لهم على ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى :
﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ١٦٠ "، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل " ١٦١ " ﴾( سورة النساء )، أي : بسبب ظلمهم حرمنا عليهم هذه الطيبات.
ذلك لأن من أخذ حكماً افتراءً على الله فحرم ما أحل الله، أو حلل ما حرم الله، لابد أن يعاقب بمثله، فيحرم عليه ما أحل لغيره، وقد وقع الظلم من اليهود لأنهم اجترأوا على حدود الله وتعاليمه، وأول الظلم وقمته الشرك بالله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم " ١٣ " ﴾( سورة لقمان ).
والظلم نقل الحق من صاحبه إلى غيره.
ومن ظلمهم : ما قالوه لموسى عليه السلام بعد أن عبر بهم البحر، ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال تعالى :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " ١٣٨ " ﴾( سورة الأعراف ).
ومن ظلمهم : أنهم عبدوا العجل من دون الله. ومن ظلمهم لموسى عليه السلام : أنهم لم يؤمنوا به. كما قال تعالى :
﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم " ٨٣ " ﴾( سورة يونس )
ومن ظلمهم :
﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.. " ١٦١ " ﴾( سورة النساء )
إذن : بسبب ظلمهم وأخذهم غير حقهم حرم الله عليهم أشياء كانت حلالاً لهم، قال تعالى :
﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ١١٨ " ﴾( سورة النحل ).
ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لأنفسهم متاعاً قليلاً عاجلاً، وحرموها من المتعة الحقيقية الباقية.
الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة، ويفتح له باب التوبة والرجاء، فمن رحمته سبحانه بعباده أن شرع لهم التوبة من الذنوب، ومن رحمته أيضاً أن يقبلها منهم فيتوب عليهم. ولو أغلق باب التوبة لتحول المذنب ولو لمرة واحدة إلى مجرم يعربد في المجتمع، وبفتح باب التوبة يقي الله المجتمع من هذه العربدة.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة التوبة فيقول : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح "
وقوله تعالى في بداية الآية :( ثم ) تدل على كثرة ما تقدم من ذنوب، ومع ذلك غفرها الله لهم ليبين لك البون الشاسع بين رحمة الله وإصرار العصاة على الكفران بالله، وعلى المعصية.
وقوله تعالى :( بجالهة ) أي : بطيش وحمق وسفه، وجميعها داخلة في الجهل، بمعنى أن تعتقد شيئاً وهو غير واقع، فالجهل هنا ليس المراد منه عدم العلم، إنما الجاهل من كانت لديه قضية مخالفة للواقع وهو متمسك بها، والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره، ويترك خيراً آجلاً في نظر الشرع.
وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.. " ١٧ " ﴾( سورة النساء )
بجهالة : يعني في لحظة سفه وطيش، فالعاصي يعلم الحكم تماماً، ولكنه في غفلة عنه، وعدم تبصر بالعواقب، ولو فكر في عاقبة أمره ما تجرأ على المعصية.
لذلك نقول : إن صاحب المعصية لا يقدم عليها إلا في غيبة العقل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. "
ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته، ولكن سفهه وطيشه يغلف الجزاء ويستره عنه، ويزين له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة.
وهب أن شخصاً ألحت عليه غريزة الجنس، وهي أشرس الغرائز في الإنسان، ففكر في الفاحشة والعياذ بالله، وقبل أن يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد النار، وذكرناه بما غفل عنه من جزاء وعقوبة هذه الجريمة.
بالله عليك، ماذا تراه يفعل ؟ هل يصر على جريمته ؟ لا ؛ لأنه كان ذاهلاً غافلاً، وبمجرد أن تذكره يرجع. إذن : طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رد الفعل، وجعله ينظر إلى الأمور نظرة سطحية متعجلة.
وقوله :﴿ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا.. " ١١٩ " ﴾( سورة النحل ).
والتوبة هنا هي التوبة النصوح الصادقة، التي ينوي صاحبها الإقلاع عنها وعدم العود إليها مرة أخرى، ويعزم على ذلك حال توبته، فإذا فعل ذلك قبل الله منه وتاب عليه.
ولا يمنع ذلك أن يعود للذنب مرة أخرى إذا ضعفت نفسه عن المقاومة، فإن عاد عاد إلى التوبة من جديد، لأن الله سبحانه من أسمائه ( التواب )، أي : كثير التوبة، فلم يقل : تائب بل تواب، فلا تنقطع التوبة في حق العبد مهما أذنب، وعليه أن يحدث لكل ذنبٍ توبة.
بل وأكثر من ذلك، إذا تاب العبد وأحسن التوبة، وأتى بالأعمال الصالحة بدلاً من السيئة، من الله عليه بأن يبدل سيئاته حسنات، وهذه معاملة رب كريم غفور رحيم.
وقوله سبحانه :﴿ إن ربك من بعدها لغفور رحيم " ١١٩ " ﴾( سورة النحل ).
فيه إشارة لحرص النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وأنه يسره أن يغفر الله لنا. ( إن ربك ) يا محمد غفور رحيم، فكأنه سبحانه يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيغفر للمذنبين من أمته.
بعد أن ذكرت الآيات طرفاً من سيرة اليهود، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرضت لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسؤال : لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء ؟.
ذلك لأنه أبو الأنبياء، ولو مكانته بين الأنبياء، والجميع يتمحكون فيه، حتى المشركون يقولون : نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه : إنه نصراني. واليهود قالوا : إنه يهودي. فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتوضح مواصفاتها، وترد وتبطل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته :
﴿ إن إبراهيم كان أمةً.. " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل ).
أمة : الأمة في معناها العام : الجماعة، وسياق الحديث هو الذي يحدد عددها، فنقول مثلاً : أمة الشعراء. أي : جماعة الشعراء، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد، كما في قوله تعالى :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون.. " ٢٣ " ﴾( سورة القصص ).
فسمي جماعة من الرعاة أمة ؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد، وهو سقي دوابهم. وتطلق الأمة على جنس في مكان، كأمة الفرس، وأمة الروم، وقد تطلق على جماعة تتبع نبياً من الأنبياء، كما قال سبحانه :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " ٢٤ " ﴾( سورة فاطر ).
وحين نتوسع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم ؛ لأنه أرسل للنا كافة، وجمع الأمم في أمة واحدة، كما قال تعالى :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة " ٩٢ " ﴾( سورة الأنبياء ). ومعنى أمة واحدة. أي : جامعة لكل الأمم.
فالمعنى إذن أن إبراهيم عليه السلام يقوم مقام أمة كاملة ؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلقه في الرسل تسمى كمالات بشرية موهوبة من الله. أما ما دون الرسل فقد وزعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كل إنسان واحداً منها، فهذا أخذ الحلم، وهذا الشجاعة، وهذا الكرم، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل.
فإذا نظرت إلى إبراهيم عليه السلام وجدت فيه من المواهب ما لا يوجد إلا في أمة كاملة. كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حدد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول : الخير في وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه وفي أمتي ".
أي : أن كل واحد منهم أخذ جزءاً من هذا الكمال، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مبعثر في أمته كلها. لذلك حين تتبع تاريخ إبراهيم عليه السلام في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خصلة من خصال الخير، وصفة من صفات الكمال، فإذا جمعت هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني : أمة : أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته. وقوله :﴿ قانتا لله.. " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل )، أي : خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته.
﴿ حنيفاً " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل ). الحنف في الأصل : الميل، وقد جاء إبراهيم عليه السلام والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحاد عن هذا الفساد.
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طم الفساد، إذن : ميله عن الاعوجاج والفساد، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق، مائلاً عن الاعوجاج حائدا عن الفساد. ثم ينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ ولم يك من المشركين " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل ).
وهذه الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله، فما فائدة نفي الشرك عنه مرة أخرى في :﴿ ولم يك من المشركين " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل ).
يجب أن نفرق بين أنواع الشرك، فمنه الشرك الأكبر، وهو أن تجعل لله شركاء، وهو القمة في الشرك. ومنه الشرك الخفي، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دخل في تكون الأشياء. فالآية هنا :﴿ ولم يك من المشركين " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل )، أي : الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفت عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شرك الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفي.
ولذلك عندما ألقى عليه السلام في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإن جاءت على يد جبريل عليه السلام، فقال له حينما عرض عليه المساعدة : أما إليك فلا. فأين الشرك الخفي إذن والأسباب عنده معدومة من البداية ؟.
قوله تعالى :﴿ شاكراً لأنعمه " ١٢١ " ﴾( سورة النحل ).
فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة، فلا يليق بكم هذا الكفر والجحود، وأنتم تدعون أنكم على ملة إبراهيم عليه السلام فإبراهيم لم يكن كذلك، بل كان شاكراً لله على نعمه. وقوله :﴿ اجتباه " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل )، اصطفاه واختاره للنبوة، واجتباء إبراهيم عليه السلام كان عن اختبار، كما قال تعالى :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة )، أي : اختبره ببعض التكاليف، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه فقال له ربه :﴿ قال إني جاعلك للناس إماماً " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة )
ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال :﴿ قال ومن ذريتي " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة )، فعدل الله له هذه الرغبة، وصحح له، بأن ذريتك ستكون منها الظالم، فقال :
﴿ لا ينال عهدي الظالمين " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة ).
لذلك تعلم إبراهيم عليه السلام من هذا الموقف، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال :
﴿ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.. " ١٢٦ " ﴾( سورة البقرة ).
فصحح الله له أيضاً هذا المطلب، فالموقف هنا مختلف عن الأول، الأول كان في إمامة القيم والدين، وهذه لا يقوم بها ظالم، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فالجميع في الرزق سواء، فقال تعالى :﴿ ومن كفر.. " ١٢٦ " ﴾( سورة البقرة )، أي : سأرزق الكافر أيضاً.
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تربي الأنبياء، وتصنعهم على عينها، فكل مواقف الأنبياء تتجمع في النهاية، وتعطينا خلاصة الكمال البشري.
ويدل على دقة إبراهيم عليه السلام في أداء ما طلب منه موقفه في بناء البيت، فبعد أن دله الله على مكانه أخذ يزيح عنه آثار السيول، ويكشف عن قواعده، وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أن يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع، ولكنه أحب أن يأتي بحجر مرتفع، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم، كل ذلك وولده يساعده ؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان.
وكذلك موقفه الإيماني وتخليه عن الأسباب، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، وفي مكان خالٍ من مقومات الحياة وأسباب العيش.
إنه لا يؤمن بالأسباب، إنما يؤمن بمسببها، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يوفر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم ؛ لذلك حينما سألته هاجر : أهذا منزل أنزلكه الله أم من عندك ؟
فلما علمت أنه من الله قالت : إذن لن يضيعنا. وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته، وملأ قلبها يقيناً في الله تعالى. وقوله سبحانه :﴿ وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ " ١٢١ " ﴾( سورة النحل ).
كيف.. بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات :( وهداه )، أليست هذه كلها هداية ؟ نقول : المراد زاده هداية، كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
الحق سبحانه يبين أن جزاء إبراهيم عليه السلام عظيم في الدنيا قبل جزاء الآخرة، والمراد بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الأديان له، وكثرة الأنبياء في ذريته، والسيرة الطيبة، والذكر الحسن.
وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به. وهذا العطاء من الله لإبراهيم في الدنيا ؛ لأنه بالغ في طاعة ربه وعبادته. وقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربه هذه المكانة، فقال :﴿ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين " ٨٣ " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " ٨٤ " ﴾( سورة الشعراء ).
حكماً : أي : حكمة أضع بها الأشياء في مواضعها. ولسان صدق : هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت. وقوله تعالى :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين " ١٢٢ " ﴾( سورة النحل ). فإن كان هذا جزاءه في الدنيا، فلا شك أن جزاء الآخرة أعظم.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضاً من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين، وأنه شاكر لأنعمه، واجتباه ربه وهداه.. الخ قال :
﴿ ثم أوحينا إليك " ١٢٣ " ﴾( سورة النحل ). يا محمد :﴿ أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً " ١٢٣ " ﴾( سورة النحل )، كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته. وملة إبراهيم، أي : شريعة التوحيد. ثم يؤكد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول :﴿ وما كان من المشركين " ١٢٣ " ﴾( سورة النحل ).
بعد أن تحدث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء، وذكر جانباً من صفاته ومناقبه، تكلم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم، وكأن القرآن يقول لهم : لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهودياً، فهاهي صفات إبراهيم، فماذا عن صفاتكم أنتم ؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام ؟.
ويعطينا الحق سبحانه مثالاً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت. و( السبت )هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد، والسبت مأخوذ من سبت يسبت سبتاً. يعني : سكن واستقر، ومنه قوله تعالى :﴿ وجعلنا نومكم سباتاً " ٩ " ﴾( سورة النبأ ).
ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل، ويتفرغون فيه لعبادة الله، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى عليه السلام أن يكون يوم الجمعة، فهو اليوم الذي أتم الله فيه خلق الكون في ستة أيام، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا :
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد، وانتهى منها يوم الجمعة، وارتاح يوم السبت، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بدء الخلق. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة.
إذن : اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة، فهذا مطلبهم، وقد وافقهم ربهم سبحانه وتعالى عليه، وأمرهم أن يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم، وافقهم ليبين لجاجتهم وعنادهم، وأنهم لن يوفوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم، ووافقهم ليقطع حجتهم، فلو اختار لهم يوماً لاعترضوا عليه، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة، هي أن الآيات التي تأتي مصدقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه، وقد تكون باختيار المرسل إليهم أنفسهم، وقد كان من بني إسرائيل أن كذبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء )، أي : لكونهم يقترحون الآية ثم يكذبونها، فأمرهم تكذيب في تكذيب. وقصة السبت ذكرت في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " ١٦٣ " ﴾( سورة الأعراف ).
لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم، وأخلفوا ما التزموا به، وذهبوا للصيد في يوم السبت، فكادهم الله وأغاظهم، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع، ولا ينتفعون منها بشتى إلا الحسرة والأسف، فيقولون : لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم :﴿ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.. " ١٦٣ " ﴾( سورة الأعراف ). وقد سمى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً ؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله، قال تعالى :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " ٦٥ " ﴾( سورة البقرة )
وقوله تعالى :﴿ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه.. " ١٢٤ " ﴾( سورة النحل ).
كلمة ( اختلفوا )، توحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية، والحقيقة أن الخلاف لم يكن بين اليهود بعضهم البعض، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت، فجعل الله الخلاف عليهم.
فالمعنى : إنما جعل السبت حجة على الذين اختلفوا فيه ؛ لأنه أثبت عدوانهم على يوم العبادة، فبعد أن اقترحوه اختاروه انقلب حجة عليهم، ودليلاً لإدانتهم. ولو تأملنا قوله :﴿ على الذين.. " ١٢٤ " ﴾( سورة النحل ). نجد أن كلمة ( على )تدل على الفوقية، أي : أن لدينا شيئاً أعلى شيئاً أدنى ؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد ).
يؤولها بعضهم على معنى ( مع ظلمهم )، نقول : المعنى صحيح، ولكن المعية لا تقتضي العلو، فلو قلنا : مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية، أما قول الحق سبحانه :﴿ وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )، أي : أن المغفرة علت على الظلم، فالظلم يتطلب العقاب، ولكن رحمة الله ومغفرته علت على أن تعامل الظالم بما يستحق، فرحمة الله سبقت غضبه، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه :{ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق " ٣٩ " ( سورة إبراهيم )، فالكبر كان يقتضي عدم الإنجاب، ولكن هبة الله علت على سنة الكبر.
فبعد أن تحدثت الآيات عن النموذج الإيماني الأعلى في الإنسان في شخص أبي الأنبياء إبراهيم، وجعلت من أعظم مناقبه أن الله أمر خاتم رسله باتباعه، أخذت في بيان الملامح العامة لمنهج الدعوة إلى الله. قوله :﴿ ادع إلى سبيل ربك.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
الحق تبارك وتعالى لا يوجه هذا الأمر بالدعوة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يعلم أنه سينفذ ما أمر به، وسيقوم بأمر الدعوة، ويتحمل مسئوليتها. ( ادع ) : بمعنى دل الناس وارشدهم.
﴿ سبيل ربك.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ). السبيل هو الطريق والمنهج، والحكمة : وضع الشيء في موضعه المناسب، ولكن لماذا تحتاج الدعوة إلى الله حكمة ؟.
لأنك لا تدعو إلى منهج الله إلا من انحرف عن هذا المنهج، ومن انحرف عن منهج الله تجده ألف المعصية وتعود عليها، فلابد لك أن ترفق به لتخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح، فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره ؛ لأنك تجمع عليه شدتين :
شدة الدعوة والعنف فيها، وشدة تركه لما أحب وما ألف من أساليب الحياة، فإذا ما سلكت معه مسلك اللين والرفق، وأحسنت عرض الدعوة عليه طاوعك في أن يترك ما كان عليه من مخالفة المنهج الإلهي.
ومعلوم أن النصح في عمومه ثقيل على النفس، وخاصة في أمور الدين، فإياك أن تشعر من تنصحه أنك أعلم منه أو أفضل منه، إياك أن تواجهه بما فيه من النقص، أو تحرجه أمام الآخرين ؛ لأن كل هذه التصرفات من الداعية لا تأتي إلا بنتيجة عكسية، فهذه الطريقة تثير حفيظته، وربما دعته إلى المكابرة والعناد.
وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى :﴿ بالحكمة والموعظة الحسنة.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
ويروي في هذا المقام مقام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة قصة دارت بين الحسن والحسين رضي الله عنهما، هذه القصة تجسد صادق لما ينبغي أن يكون عليه الداعية.
فيروى أنهما رأيا رجلاً لا يحسن الوضوء، وأراد أن يعلماه الوضوء الصحيح دون أن يجرحا مشاعره، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما، كل منهما يقول للآخر : أنت لا تحسن أن تتوضأ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أن يرى كلاً منهما يتوضأ، ثم يحكم : أيهما أفضل من الآخر، وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء، بعدها جاء الحكم من الرجل يقول : كل منكما أحسن، وأنا الذي ما أحسنت.
إنه الوعظ في أعلى صورة، والقدوة في أحكم ما تكون.
مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، حينما أتاه شاب في فورة شبابه، يشتكي عدم صبره عن رغبة الجنس، وهي كما قلنا من أشرس الغرائز في الإنسان. جاء الشاب وقال : " يا رسول الله إئذن لي في الزنا ".
هكذا تجرأ الشاب ولم يخف علته، هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة، ومعرفة العلة أول خطوات الشفاء. فماذا قال رسول الله ؟.
انظر إلى منهج الدعوة، كيف يكون، وكيف استل رسول الله صلى الله عليه وسلم الداء من نفس هذا الشاب ؟ فلم يزجره، ولم ينهره، ولم يؤذه، بل أخذه وربت على كتفه في لطف ولين، ثم قال : " أتحبه لأمك ؟ قال : لا يا رسول الله، جعلت فداك. قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، قال : أتحبه لأختك ؟.
قال : لا يا رسول الله جعلت فداك، قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم ".
وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الشاب ودعا له : " اللهم نق صدره، وحصن فرجه "، فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه أن يزني، وهو يقول : فو الله ما همت نفسي بشيء من هذا، إلا ذكرت أمي وأختي وزوجتي.
فلنتأمل هذا التلطف في بيان الحكم الصحيح، فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة ولين وحسن تصرف، إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مراً يغلفونه بغلالة رقيقة حلوة المذاق ليستسيغه المريض، ويسهل عليه تناوله. وما أشبه علاج الأبدان بعلاج القلوب في هذه المسألة.
ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى الله : النصح ثقيل فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً.. والحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن شيء لا يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع الإيمان بالمدينة كان يصعد منبره الشريف، ويقول : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا "
ويكتفي بالتوجيه العام دون أن يجرح أحداً من الناس على حد قولهم في الأمثال : إياك أعني واسمعي يا جاره.
ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلاء في الريف حينما يتعرض أحد للسرقة، أو يضيع منه شيء ذو قيمة، فكانوا يعتلون عن فقد الشيء الذي ضاع أو سرق ويقول : ليلة كذا بعد غياب القمر سوف نرمي التراب.
ومعنى " نرمي التراب " أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء المفقود، وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فقد منهم، ويصلوا إلى ضالتهم دون أن يفتضح الأمر، ودون أن يحرج أحد، وربما لو واجهوا السارق لأنكر وتعقدت المسألة.
وقوله سبحانه :
﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا، وعلى كل من الطرفين أن يعرض حجته بالتي هي احسن. أي : في رفق ولين ودون تشنج أو غطرسة.
ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألا تغضب الخصم، فقد يتمحك في كلمة منك، ويأخذها ذريعة للانصراف من هذا المجلس. وقوله سبحانه :
﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
قد يتساءل البعض : ما علاقة هذا التذييل للآية بموضوع الدعوة إلى الله ؟.
يريد الحق سبحانه أن يبين لنا حساسية هذه المهمة، وأنها تبني على الإخلاص لله في توجيه النصيحة، ولا ينبغي للداعية أبداً أن يغش في دعوته، فيقصد من ورائها شيئاً آخر، وقد تقوم بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ، أو شعور أنك أفضل منه أو أعلم منه.
ومن الناس والعياذ بالله من يجمع القشور عن موضوع ما، فيظن أنه أصبح عالماً، فيضر الناس أكثر مما ينفعهم.
إذن : إن قبل الغش في شيء فإنه لا يقبل في مجال الدعوة إلى الله، فإياك أن تغش بالله في الله ؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمن ضل الناس، ويصدهم عن سبيل الله، وهو أعلم بالمهتدين.
نلاحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.. " ١٩٤ " ﴾( سورة البقرة ).
وبمقارنة الآيتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد الاعتداء :﴿ فعاقبوا بمثل.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل )و } فاعتدوا عليه بمثل.. " ١٩٤ " }( سورة البقرة ).
إذن : الحق سبحانه، وإن شرع لنا الرد على الاعتداء بالمثل، إلا أن جعله صعباً من حيث التنفيذ، فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد، بحيث يكون مثله تماماً دون اعتداء، ودون زيادة في العقوبة، وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارة إلى استحباب الانصراف عنها إلى ما هو خير منها، كما قال تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
فقد جعل الله في الصبر سعة، وجعله خيراً من رد العقوبة، ومقاساة تقدير المثلية فيها، فضلاً عما في الصبر من تأليف القلوب ونزع الأحقاد، كما قال الحق سبحانه :
﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ٣٤ " ﴾( سورة النحل ).
ففي ذلك دفع لشراسة النفس، وسد لمنافذ الانتقام، وقضاء على الضغائن والأحقاد. وقوله :﴿ لهو خير للصابرين " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
الخيرية هنا من وجوه :
أولاً : في الصبر وعدم رد العقوبة بمثلها إنهاء للخصومات وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة لا تنتهي من العداوة.
ثانياً : من ظلم من الخلق، فصبر على ظلمهم، فقد ضمن أن الله تعالى في جواره ؛ لأن الله يغار على عبده المظلوم، ويجعله في معيته وحفظه ؛ لذلك قالوا : لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم لضن عليه بالظلم.
والمتتبع لآيات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابهاً في تذييل بعض الآيات. يقول تعالى :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " ١٧ " ﴾( سورة لقمان ).
وفي آية أخرى :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " ٤٣ " ﴾( سورة الشورى ).
ولا ننسى أن المتكلم هو الله، إذن : ليس المعنى واحداً، فلكل حرف هنا معنى، والمواقف مختلفة، فانظر إلى دقة التعبير القرآني. ولما كانت المصائب التي تصيب الإنسان على نوعين :
النوع الأول : هناك مصائب تلحق الإنسان بقضاء الله وقدره، وليس له غريم فيها، كمن أصيب في صحته أو تعرض لجائحة في ماله، أو انهار بيته.. الخ. وفي هذا النوع من المصائب يشعر الإنسان بألم الفقد ولذعة الخسارة، لكن لا ضغن فيها على أحد.
إذن : الصبر على هذه الأحداث قريب ؛ لأنه ابتلاء وقضاء وقدر فلا يحتاج الأمر بالصبر هنا إلى توكيد، ويناسبه قوله تعالى :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " ١٧ " ﴾( سورة لقمان ).
أما النوع الآخر : فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل، كالقتل مثلاً، فإلى جانب الفقد يوجد غريم لك، يثير حفيظتك، ويهيج غضبك، ويدعوك إلى الانتقام كلما رأيته، فالصبر في هذه أصعب وحمل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الآية الثانية :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " ٤٣ " ﴾( سورة الشورى ).
فاستعمل هنا لام التوكيد ؛ لأن الصبر هنا شاق، والفرصة متاحة للشيطان ليؤلب القلوب، ويثير الضغائن والأحقاد. كما نلاحظ في الآية الأولى قال :( واصبر ). وفي الثانية قال :( صبر وغفر ) ؛ لأن أمامه غريماً يدعوه لأن يغفر له.
ويحكي في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رجلاً مالاً على أن يرده في أجل معلوم، واشترط عليه إن لم يف بالسداد في الوقت المحدد يقطع رطلاً من لحمه، ووافق الرجل، وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه.
فرفع اليهودي الأمر إلى القاضي وقص عليه ما بينهما من اتفاق، وكان القاضي صاحب فطنة فقال : نعم العقد شريعة المتعاقدين، وأمر له بسكين. وقال : خذ من لحمه رطلاً، ولكن في ضربة واحد، وإن زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت.
ولما رأى اليهودي مشقة ما هو مقدم عليه آثر السلامة وتصالح مع خصمه. والسؤال الآن : ما علاقة هذه الآية :﴿ وإن عاقبتم.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
بما قبلها :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
الدعوة إلى منهج يلفت الإنسان خليفة الله في أرضه أن يلتزم بمنهج الله الذي استخلفه، ووضع له هذا المنهج لينظم حركة حياته، والداعية يواجه هؤلاء الذين يفسدون في الأرض، ويحققون لأنفسهم مصالح على حساب الغير، والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره لابد أن يكون له قوة وقدرة، بها يطغى ويستعلي ويظلم.
فإذا جاء منهج الله تعالى ليعدل حركة هؤلاء ويخرجهم مما ألفوه، وينزع منهم سلطان الطغيان والظلم، ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به، فلابد أن يجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه، فقد جمع عليهم شدة النصح والإصلاح، وشدة ترك ما ألفوه.
فعلى الداعية إذن أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا ما تعدى أمرهم إلى الاعتداء على الداعية، إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع، فسوف نحتاج إلى أسلوب آخر، حيث لم يعد يجدي أسلوب الحكمة.
ولابد لنا أن نقف الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية، فضلاً عن الرجولة الإيمانية، وأن يكون لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى، دون أن يكون عندنا لدد في الخصومة، أو إسراف في العقوبة.
فجاء قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
وفي الآية تحذير أن يزيد الرد على مثله، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل يستوي أمامه الجميع، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه، ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها، بل هدأها ودعاها إلى العفو والصفح، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم.
وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم توجه إليه صلى الله عليه وسلم في تصرف خاص، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه، ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله، وصاحب منزلة عظيمة عنده، إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه.
فقد مثل به الكفار في أحد، وشقت هند بطنه، ولاكت كبده، فشق الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثر في نفسه، وواجه هذا الموقف بعاطفتين : عاطفته الإيمانية، وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره، ووقف إلى جواره، فقال في انفعاله بهذه العاطفة :" لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم ". ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هدأ من روعه، وعدل له هذه المسألة ولأمته من بعده، فقال :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنن على الخصم والرأفة به، فالمتحدث هو الله سبحانه، فكل حرف له معنى، فلا تأخذ الكلام على إجماله، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مراداً وأن له مطلوباً. لماذا قال الحق سبحانه :( وإن )ولم يستخدم ( إذا )مثلاً ؟
إن عاقبتم : كأن المعنى : كان يحب ألا تعاقبوا.
أما ( إذا )، فتفيد التحقيق والتأكيد، والحق سبحانه يريد أن يحنن القلوب، ويضع رد العقوبة بمثلها في أضيق نطاق، فهذه رحمة حتى من الأعداء، هذه الرحمة تحببهم في الإسلام، وتدعوهم إليه، وبها يتحول هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى الله.
كما أن في قوله :( عاقبتم )، دليل على أن رد العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد، كما قال تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم.. " ٦٠ " ﴾( سورة الأنفال ).
كأنه يقول : كونوا دائماً على استعداد، وفي حال قوة تمكنكم من الرد إذا اعتدى عليكم، كما أن في وجود القوة والاستعداد ما يردع العدو ويرهبه، فلا يجرؤ على الاعتداء من البداية، وبالقوة والاستعداد يحفظ التوازن في المجتمع، فالقوي لا يفكر أحد في الاعتداء عليه.
وهذا ما نراه الآن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلح بأسلحة فاتكة. وكلمة :﴿ ما عوقبتم به.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
نلاحظ أن الرد على الاعتداء يسمى عقوبة، لكن الاعتداء الأول لماذا نسميه أيضاً عقوبة ؟ قالوا : لأن هذه طريقة في التعبير تسمى " المشاكلة "، أي : جاءت الأفعال كلها على شاكلة واحدة.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئةُ مثلها " ٤٠ " ﴾( سورة الشورى ) ؛ لأن رد السيئة لا يسمى سيئة.
ولسائل في هذه القضية أن يسأل : طالما أن الإسلام يسعى في هذه المسألة إلى العفو، فلماذا لم يقرره من البداية ؟ وما فائدة الكلام عن العقوبة بالمثل ؟.
نقول : لأن المجتمع لا يكون سليم التكوين إلا إذا أمن كل إنسان فيه على نفسه وعرضه وماله.. الخ. وهذا الأمن لا يتأتى إلا بقوة تحفظه، كما أن للمجتمع توازناً، هذا التوازن في المجتمع لا يحفظ إلا بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات، وتضمن أن تكون حركة الإنسان في المجتمع دون ظلم له.
كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم، فهدف الشارع الحكيم أن يحد من الجريمة، ويمنع حدوثها، فلو علم القاتل أنه سيقتل ما تجرأ على جريمته، ففي تشريع العقوبة رحمة بالمجتمع وحفظ لسلامته وأمنه.
ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة، فيقول : كيف تقتلون من يرتد عن دينكم ؟ وأين حرية العقيدة إذن ؟.
نقول : في تشريع قتل المرتد عن الإسلام تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين، بحيث لا يدخله أحد إلا بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة، فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو لا يدخل، لا يغصبه أحد، ولكن ليعلم أنه إذا دخل، فحكم الردة معلوم.
إذن : شرع الإسلام العقوبة ليحفظ للمجتمع توازنه، وليعمل عملية ردع حتى لا تقع الجريمة من البداية، لكن إذا وقعت يلجأ إلى علاج آخر يجتث جذور الغل والأحقاد والضغائن من المجتمع.
لذلك سبق أن قلنا عن عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر : إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر لا تنتهي، وتفزع المجتمع كله، حتى الآمنين الذين لا جريرة لهم، وتنمو الأحقاد والكراهية بين العائلات في هذا الجو الشائك، حتى إذا ما تشجع واحد منهم، فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى ولي القتيل، وألقى بنفسه بين يديه قائلاً : ها أنا بين يديك وكفني معي، فاصنع بي ما شئت، وعندها تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أن يثأروا منه، فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر التي لا تنتهي.
بعد أن ذكرت الآيات فضل الصبر وما فيه من خيرية، وكأن الآية السابقة تمهد للأمر هنا ( واصبر ) ليأتمر الجميع بأمر الله، بعد أن قدم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة لا ضعفاً، كما يقولون في الحكمة : من الشجاعة أن تجبن ساعة.
فإذا ما وسوس لك الشيطان، وأغراك بالانتقام، وثارت نفسك، فالشجاعة أن تصبر ولا تطاوعهما. قوله تعالى :
﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله " ١٢٧ " ﴾( سورة النحل ).
من حكمة الله ورحمته أن جعلك تصبر على الأذى ؛ لأن في الصبر خيراً لك، والله هو الذي يعينك على الصبر، ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك، وتجرك إلى الانتقام.
والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لإنفاذ أمره، فإذا علم ذلك من نيته تولى أمره وأعانه، كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت، فالله يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية، وحين تتجه إليه يجند الله لك الخواطر الطيبة التي تعينك عليه وتيسره لك وترضيك به، فيأتي صبرك جميلاً، لا سخط فيه ولا اعتراض عليه.
ثم يقول تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم.. " ١٢٧ " ﴾( سورة النحل )
لقد امتن الله على أمة العرب التي استقبلت دعوة الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ومن أوسطهم، يعرفون حسبه ونسبه وتاريخه وأخلاقه، وقد كان صلى الله عليه وسلم محباً لقومه حريصاً على هدايتهم، كما قال تعالى :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة )، أي : تعز عليه مشقتكم، ويؤلمه عنتكم وتعبكم، حريص عليكم، يريد أن يستكمل لكل كل أنواع الخير ؛ لأن معنى الحرص : الضن بالشيء، فكأنه صلى الله عليه وسلم يضن بقومه.
وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف : " إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه "
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبرهم عن قبول الحق، وهو يريد لهم الهداية والصلاح ؛ لأنك إذا أحببت إنساناً أحببت له ما تراه من الخير، كمن ذهب إلى سوق، فوجدها رائجة رابحة، فدل عليها من يحب من أهله ومعارفه. كذلك لما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان أحب أن يشاركه قومه هذه المتعة الإيمانية.
والحق سبحانه وتعالى هنا يسلي رسوله، ويخفف عنه ما صدم في قومه، يقول له : لا تحزن عليهم ولا تحمل نفسك فوق طاقتها، فما عليك إلا البلاغ. ويخاطبه ربه في آية أخرى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " ٦ " ﴾( سورة الكهف )، أي : لا تكن مهلكاً نفسك أسفاً عليهم. وقوله :﴿ ولا تك في ضيق مما يمكرون " ١٢٧ " ﴾( سورة النحل ).
الضيق : تأتي بالفتح وبالكسر، ضِيق، ضَيق.
والضيق : أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تقدره، والضيق يقع للإنسان على درجات، فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر.
وربما ضاقت عليه الدنيا كلها، وفي هذه الحالة يمكن أن تسعه نفسه، فإذا ضاقت عليه نفسه فقد بلغ أقصى درجات الضيق، كما قال تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول الله :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.. " ١١٨ " ﴾( سورة التوبة ).
فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون في ضيق من مكر الكفار ؛ لأن الذي يضيق بأمر ما هو الذي لا يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق، إنما الذي يعرف أن له منفذاً ومخرجاً فلا يكون في ضيق.
فالمعنى : لا تك في ضيق يا محمد، فالله معك، سيجعل لك من الضيق مخرجاً، ويرد على هؤلاء مكرهم :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ٣٠ " ﴾( سورة الأنفال ).
ولذلك يقول : لا كرب وأنت رب. فساعة أن تضيق بك الدنيا والأهل والأحباب، وتضيق بك نفسك فليسعك ربك، ولتكن في معيته سبحانه.
هذه قضية معية الله لمن اتقاه، فمن اتقى الله فهو في جواره ومعيته، وإذا كنت في معية ربك فمن يجرؤ أن يكيدك، أو يمكر بك ؟.
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية الله تعالى وتتجسد لنا في الغار حينما أحاط به الكفار، والصديق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية : " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ". فما علاقة هذه الإجابة من رسول الله بما قال أبو بكر ؟.
المعنى : مادام أن الله ثالثهما إذن فهما في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، فمن كان في معيته كذلك لا تدركه الأبصار. وقوله :﴿ اتقوا.. " ١٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
التقوى في معناها العام : طاعة الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومن استعمالاتها نقول : اتقوا الله، واتقوا النار، والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة.
فمعنى " اتق الله " : اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزاً يحميك، وذلك باتباع أمره واجتناب نهيه ؛ لأن للحق سبحانه صفات رحمة، فهو : الرؤوف الرحيم الغفور، وله صفات جبروت فهو : المنتقم الجبار العزيز، فاجعل لنفسك وقاية من صفات الانتقام.
ونقول : اتقوا النار، أي : اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، والوقاية من النار لا تكون إلا بطاعة الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، إذن : المعنى واحد، ولكن جاء مرة باللازم، ومرة بلازم اللازم. وقوله :﴿ والذين هم محسنون " ١٢٨ " ﴾( سورة النحل ).
المحسن : هو الذي يلزم نفسه في عبادة الله بأكثر مما ألزمه الله، ومن جنس ما ألزمه الله به، فإن كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، فالإحساس أن تزيدها ما تيسر لك من النوافل، وإن كان الصوم شهر رمضان، فالإحسان أن تصوم من باقي الشهور كذا من الأيام، وكذلك في الزكاة، وغيرها مما فرض الله.
لذلك نجد أن الإحساس أعلى مراتب الدين، وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
والآية الكريمة توحي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعية، وأن الذين هم محسنون لهم جزاء ومعية، كل على حسب درجته ؛ لأن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخلقه على مقدار معيتهم معه سبحانه، فالذي اكتفى بما فرض عليه، لا يستوي ومن احسن وزاد، لابد أن يكون للثاني مزية وخصوصية.
وفي سورة الذاريات يقول تعالى :
﴿ إن المتقين في جنات وعيون " ١٥ " آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " ١٦ " ﴾
( سورة الذاريات ).
لم يقل " مؤمنين " ؛ لأن المؤمن يأتي بما فرض عليه فحسب، لكن ما وجه الإحسان عندهم ؟ يقول تعالى :
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ١٧ " وبالأسحار هم يستغفرون " ١٨ " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " ١٩ " ﴾( سورة الذاريات ).
وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض الله عليهم. ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالى :
﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " ١٩ " ﴾( سورة الذاريات ).
ليست الزكاة، بل هي الصدقة ؛ لأنه في الزكاة قال سبحانه :﴿ حق معلوم.. " ٢٤ " ﴾( سورة المعارج ).
Icon