تفسير سورة يس

زاد المسير
تفسير سورة سورة يس من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة يس
وفيها قولان :
أحدهما : أنها مكية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إنها مكية إلا آية منها، وهي قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله ﴾ [ يس : ٤٥ ].
والثاني : أنها مدنية، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وقال : ليس بالمشهور.

سورة يس
وفيها قولان «١» : أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والجمهور.
وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إنها مكّيّة إلّا آية منها، وهي قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا «٢». والثاني: أنها مدنيّة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي، وقال: ليس بالمشهور.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
وفي قوله تعالى: يس خمسة أقوال:
(١١٩٥) أحدها: أن معناها: يا إنسان، بالحبشية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل.
والثاني: أنها قَسَم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن معناها: يا محمد، قاله ابن الحنفية، والضحاك. والرابع: أن معناها: يا رجُل، قاله الحسن. والخامس: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء: «يسن» بفتح الياء وكسر النون. وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعاً. وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السُّوَر، وبعض العرب يقول: «يسنَ والقرآن» بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين: أحدهما: أن «يس» اسم للسورة، فكأنه قال: اتْلُ يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف. والثاني: أنهُ فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود لأنه حرف هجاء. قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ هذا قسم، وقد سبق معنى
أخرجه الطبري ٢٩٠٤٨ بسند رجاله ثقات عن عكرمة عن ابن عباس، والله أعلم.
__________
(١) قال القرطبي في «تفسيره» ١٥/ ٥: هي مكية بإجماع، إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [الآية ١٢] نزلت في بني سلمة من الأنصار... قلت: وفي هذا نظر وسيأتي.
(٢) يس: ٤٥.
«الحكيم» «١»، قال الزجّاج: وجوابه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وأحسنُ ما جاء في العربيّة أن يكون «لَمِنَ المرسلين» خبر «إنّ»، ويكون قوله تعالى: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبراً ثانياً، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، إِنَّكَ على صِراطٍ مستقيم. ويجوز أن يكون «على صِراطٍ» من صلة «المُرْسَلِين»، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ الذين أُرسِلوا على طريقة مستقيمة. قوله تعالى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تنزيلُ» برفع اللام. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تنزيلَ» بنصب اللام. وعن عاصم كالقراءتين. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فعلى المصدر، على معنى: نزَّل اللهُ ذلك تنزيلاَ، ومن قرأ بالرفع، فعلى معنى: الذي أُنزلَ إليكَ تنزيلُ العزيز. وقال الفراء: من نصب، أراد: إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ تنزيلاً حَقاَ مُنزَلاً ويكون الرفع على الاستئناف، كقوله: «ذلك تنزيل العزيز».
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وأبو العالية، والحسن، والجحدري: «تنزيلِ» بكسر اللام. وقال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه، الرحيمِ بخَلْقه.
قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها نفي، وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين. والثاني: أنها بمعنى «كما»، قاله مقاتل. وقيل: هي بمعنى «الذي».
قوله تعالى: فَهُمْ غافِلُونَ أي: عن حجج التوحيد وأدلّة البعث.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧ الى ١٢]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ فيه قولان: أحدهما: وجب العذاب. والثاني: سبق القول بكفرهم.
قوله تعالى: عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني أهل مكة، وهذه إِشارة إِلى إِرادة الله تعالى السابقة لكفرهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لِمَا سبق من القَدَر بذلك. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنها مَثَلٌ، وليس هناك غُلٌّ على حقيقة، قاله أكثر المحقِّقين، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مَثَل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة. والثاني: لحبسهم عن الإِنفاق في سبيل الله بموانع كالأَغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث: لمنعهم من الإِيمان بالله، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها موانع حسّيّة منعت ما يمنع الغلّ.
(١) البقرة: ٣٢.
(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٦٩٢: يقول الله تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غلّ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحا، ولهذا قال: فَهُمْ مُقْمَحُونَ، والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها: «وأشرب فأتقمح»، أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وترويا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.
517
(١١٩٦) قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل لئن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يصليِّ لَيَدْمَغَنَّهُ، فجاءه وهو يصليِّ، فرفع حجراً فيَبِسَتْ يدُه والتصق الحجر بيده، فرجَع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلمّا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم طَمَسَ اللهُ على بصره فلم يره، فرجَع إلى أصحابه فلم يُبْصِرهم حتى نادَوْه، فنزل في أبي جهل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الآية. ونزل في الآخر: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا.
والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلاَّ أنَّه وَصْفٌ لِمَا سيُنْزِلُه اللهُ تعالى بهم في النار، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قال الفراء: «فهي» كناية عن الأيمان، ولم تُذْكَر، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في اليمين والعنق جامعاً لهما، فاكتُفيَ بذكر أحدهما عن صاحبه. وقال الزجّاج: «هي» كناية عن الأيدي، ولم يذكرها إيجازاً، لأن الغُلَّ يتضمن اليد والعنق، وأنشد:
وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضاً... أُرِيْدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِيني
وإنما قال: أَيُّهما، لأنه قد علم أن الخير والشرَّ معرَّضان للإنسان. قال الفراء: والذَّقْن: أسفل اللَّحْيَيْن، والمُقْمَحُ: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. قال أبو عبيده: كل رافعٍ رأسَه فهو مُقَامِح وقَامِح، والجمع: قِماح، فإن فُعل ذلك بإنسان فهو مُقْمَح، ومنه هذه الآية. وقال ابن قتيبة: يقال: بعيرٌ قامِحٌ، وإبلٌ قِماحٌ: إذا رَوِيَتْ من الماء فقَمَحَتْ، قال الشاعر- وذكر سفينة-:
ونحنُ على جَوانِبِها قُعُودٌ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِمَاحِ «١»
وقال الأزهري: المُراد أنَّ أيديهم لمّا غُلَّت عند أعناقهم، رَفَعَتْ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسَهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إيَّاها.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بفتح السين، والباقون: بضمها، وقد تكلّمنا على الفرق بينهما في سورة الكهف «٢». وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: منعناهم عن الإِيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر. والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالظّلمة لمّا قصدوه بالأذى.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يضع الحديث. وأخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» ١٥٦ من طريق إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس مطوّلا بنحوه، وليس فيه ذكر رجل، ولا ذكر نزول الآية، وإسناده ضعيف فيه من لم يسمّ. وأخرج أبو نعيم ١٥٢ من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه: أن رجلا من بني مخزوم قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفي يده مهز، ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلّم... ». وهذا مرسل. وليس فيه أن الآية نزلت بسبب ذلك. وأخرج الطبري ٢٩٠٦٤ عن عكرمة مرسلا «قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، ولأفعلن» فأنزلت إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا....
وانظر «صحيح البخاري» ٤٩٥٨ حديث ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة».
__________
(١) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي، كما في «تفسير القرطبي» ١٥/ ١٢ و «اللسان» - قمح-.
(٢) الكهف: ٩٤. [.....]
518
قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ قال ابن قتيبة: أغشينا عيونَهم وأعميناهم عن الهُدىَ. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ويحيى بن يعمر: «فأعشيناهم» بعين غير معجمة. ثم ذكر أن الإِنذارَ لا ينفعهم لإِضلاله إيَّاهم بالآية التي بعد هذه. ثم أخبر عمَّن ينفعُه الإِنذارُ بقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ أي: إنَّما يَنفع إِنذارُك مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وهو القرآن، فعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وقد شرحناه في الأنبياء «١»، والأجر الكريم: الحسن، وهو الجنّة. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من خير وشرٍّ في دنياهم. وقرأ النخعي، والجحدري: «ويُكْتُبُ» بياء مرفوعة وفتح التاء «وآثارُهم» برفع الراء.
وفي أثارهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خُطاهم بأرجُلهم، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة.
(١١٩٧) قال أبو سعيد الخدري: شَكَت بنو سَلِمَةَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بُعْدَ منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنّما يكتب آثارُكم»، وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز: لو كان اللهُ مُغْفِلاً شيئاً، لأغفل ما تعفِّي الرِّياحُ «٢» من أثرَ قَدَم ابن آدم.
والثاني: أنها الخُطا إلى الجمعة، قاله أنس بن مالك. والثالث: ما أثَروا من سُنَّة حسنة أو سيِّئة يُعْمَل بها بعدهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، واختاره الفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: «وكُلٌّ» برفع اللام، أي: مِنَ الأعمال أَحْصَيْناهُ أي: حَفِظْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ.
ذكر نزول الآية ضعيف، وأصل الحديث صحيح. أخرجه الترمذي ٣٢٢٦ والطبري ٢٩٠٧٣ وعبد الرزاق في «المصنف» ١٩٨٢ من طريق سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ومداره على طريف بن شهاب، وهو ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري، وأبو سفيان هو طريف السعدي. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٢٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٢٠ وفي «الوسيط» ٣/ ٥١٠- ٥١١ من طريق الثوري، عن سعد بن طريف عن أبي نضرة به، وفي الإسناد قلب، والصواب طريف بن شهاب كما تقدم. وقال ابن كثير في «التفسير» عند هذه الآية: فيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة بكاملها مكية، فالله أعلم. وورد من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس عند ابن ماجة ٧٨٥ والطبري ٢٩٠٦٩ و ٢٩٧٠ وقال البوصيري في «الزوائد» هذا موقوف، فيه سماك، وهو ابن حرب، وإن وثقه ابن معين، وأبو حاتم، فقد قال أحمد: مضطرب الحديث، وقال يعقوب بن شيبة: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وروايته عن غيره صالحة. وأشار الحافظ في «الفتح» ٢/ ١٤٠ إلى هذه الرواية وقال: وإسناده قوي. وفيه نظر، والصواب أن إسناده ضعيف لضعف سماك في عكرمة، فقد روى عنه مناكير. والسورة مكية كلها كما قال الحافظ ابن كثير، والصواب حديث أنس بن مالك في «صحيح البخاري» وغيره، وحديث جابر عند مسلم، وليس فيه نزول الآية. قال أنس رضي الله عنه: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة وقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا. أخرجه البخاري ٦٥٥- ٦٥٦- ١٨٨٧ وابن ماجة ٧٨٤ وأحمد ٣/ ١٠٦ و ١٨٢ و ٢٦٣ والبيهقي ٣/ ٦٤ والبغوي في «شرح السنة» ٤٧٠ من طرق عن حميد به. وحديث جابر، أخرجه مسلم ٦٦٥ وأحمد ٣/ ٣٣٢ و ٣٣٣ و ٣٧١ و ٣٩٠ وابن حبان ٢٠٤٢ وأبو عوانة ١/ ٣٨٧ والبيهقي ٣/ ٦٤ وأبو يعلى ٢١٥٧.
__________
(١) الأنبياء: ٤٩.
(٢) عفت الرياح الأثر: إذا طمسته ومحته.
519

[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ١٩]

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا المعنى: صف لأهل مكة مثلاً أي: شِبْهاً. وقال الزجاج:
المعنى: مَثَلَ لهم مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهو بدل من مَثَل، كأنه قال: اذكُرْ لهم أصحابَ القرية. وقال عكرمة، وقتادة: هذه القرية هي أنطاكية «١». إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ وفي اسميهما ثلاثة أقوال «٢» :
أحدها: صادق وصدوق، قاله ابن عباس، وكعب. والثاني: يوحنا وبولس، قاله وهب بن منبه.
والثالث: تومان وبولس، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَعَزَّزْنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فعَزَّزْنا» بتشديد الزاي، قال ابن قتيبة: المعنى: قوَّيْنَا وشدَّدْنَا، يقال: تعزَّز لحمُ النّاقة: إذا صَلُب. وقرأ أبو بكر، والمفضَّل عن عاصم: «فعَزَزْنا» خفيفة، قال أبو علي: أراد: فغَلَبْنا.
قال مقاتل: واسم هذا الثالث شمعون، وكان من الحواريِّين، وهو وصيُّ عيسى عليه السلام. قال وهب: وأوحى اللهُ إلى شمعون يُخبره خبر الاثنين ويأمره بنُصرتهما، فانطلق يؤمُّهما. وذكرَ الفراء أن هذا الثالث كان قد أُرسل قبلَهما قال: ونراه في التنزيل كأنه بعدهما، وإنما المعنى: فعزَّزنا بالثالث الذي قبلهما، والمفسرون على أنه إنما أُرسل لنُصرتهما، ثُمَّ إِنَّ الثالث إِنما يكون بعد ثانٍ، فأمَّا إِذا سبق الاثنين فهو أوَّل وإنِّي لأتعجب من قول الفراء.
واختلف المفسِّرون فيمن أَرسلَ هؤلاء الرُّسل على قولين «٣» : أحدهما: أنّ الله تعالى أرسلهم،
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٣/ ٦٩٥- ٦٩٨: وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سيأتي في نهاية القصة وهو أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلد آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذّبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. وإن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) هذه الأقوال لا حجة فيها جميعا لأن مصدرها كتب الأقدمين، فالله أعلم بالصواب.
(٣) قال ابن كثير في «التفسير» ٣/ ٦٩٨: إن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله- عز وجل- لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ... إلى أن قالوا: بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.
وهو ظاهر القرآن، وهو مرويّ عن ابن عباس، وكعب، ووهب. والثاني: أن عيسى أَرسلهم، وجاز أن يُضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله، قاله قتادة، وابن جريج.
قوله تعالى: قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: ما لكم علينا فضل في شيء وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: لم يُنزِل كتاباً ولم يُرسِل رسولاً. وما بعده ظاهر إلى قوله: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ وذلك أن المطر حُبس عنهم، فقالوا: إِنَّما أصابنا هذا من قِبلَكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي: تسكتُوا عنا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي لَنَقْتُلَنَّكم. قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: شؤمكم معكم بكفركم لا بنا أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ قرأ ابن كثير «أين ذُكِّرْتم» بهمزة واحدة بعدها ياء وافقه أبو عمرو إلاَّ أنه كان يَمُدُّ. قال الأخفش: معناه حيث ذُكِّرتم، أي وُعِظتم وخُوِّفتم، وهذا استفهام جوابه محذوف تقديره: أئن ذُكِّرتم تطيَّرتم بنا؟ وقيل: أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون ها هنا المشركون.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٩]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى واسمه حبيب النجّار، وكان مجذوماً، وكان قد آمن بالرُّسل لمَّا وردوا القرية، وكان منزلهُ عند أقصى باب من أبواب القرية، فلمَّا بلغه أنَّ قومه قد كذَّبوا الرُّسل وهمُّوا بقتلهم، جاء يسعى، فقال ما قصّه الله علينا إلى قوله تعالى: وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني الرُّسل، فأخذوه ورفعوه إلى الملِك، فقال له الملِك: أفأنت تَتبعهم؟ فقال: وَما لِيَ أسكن هذه الياء حمزة، وخلف، ويعقوب لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي: وأيُّ شيء لي إِذا لم أعبُد خالقي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عند البعث، فيَجزِيكم بكُفركم؟! فإن قيل: لِمَ أضاف الفِطرةَ إلى نفسه والبعثَ إليهم وهو يَعلم أنّ الله فطَرهم جميعاً كما يَبعثهم جميعاً؟ فالجواب: أن إيجاد الله تعالى نِعمة يوجب الشُّكر، والبعثُ في القيامة وعيدٌ يوجب الزَّجر، فكانت إِضافةُ النِّعمة إِلى نفسه أظهرَ في الشُّكر، وإِضافةُ البعث إِلى الكافر أبلغ في الزَّجر.
ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.
قوله تعالى: لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ يعني أنه لا شفاعة لهم فتُغْني، وَلا يُنْقِذُونِ أثبت ها هنا
الياء في الحالين يعقوب، وورش، والمعنى: لا يخلِّصوني من ذلك المكروه. إِنِّي إِذاً فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو.
قوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو. وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان: أحدهما: أنه خاطب قومه بذلك، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه خاطب الرُّسل. ومعنى فَاسْمَعُونِ: اشهَدوا لي بذلك، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: المعنى: فاسمَعوا منِّي. وأثبت ياء «فاسمَعوني» في الحالين يعقوب. قال ابن مسعود: لمَّا خاطب قومه بذلك، وطئوه بأرجُلهم. وقال السدي: رمَوْه بالحجارة، وهو يقول: اللهّم اهْدِ قَومي.
قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ لمَّا قتلوه فلقي الله عزّ وجلّ، قيل له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فلمَّا دخلها قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي، وفي «ما» قولان:
أحدهما: أنها مع «غَفَرَ» في موضع مصدر والمعنى بغُفران الله لي. والثاني: أنها بمعنى «الذي»، فالمعنى: ليتهم يَعلمون بالذي غَفَرَ لي به ربِّي فيؤمنون، فنصحهم حياً وميتاً.
فلمَّا قتلوه عجَّل اللهُ لهم العذاب، فذلك قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ يعنى قوم حبيب مِنْ بَعْدِهِ أي: مِنْ بَعْدِ قتله مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ يعني الملائكة، أي: لم ينتصر منهم بجُند من السَّماء وَما كُنَّا نُنْزِلهم على الأُمم إذا أهلكناهم. وقيل: المعنى: ما بعثْنا إليهم بعده نبيّاً، ولا أنزلنا عليهم رسالة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال المفسِّرون: أخذ جبريل عليه السلام بِعِضَادَتَي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميّتون لا يُسْمَع لهم حِسٌّ كالنَّار إِذا طُفئت، وهو قوله تعالى: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي: ساكنون كهيئة الرّماد الخامد.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٦]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قال الفرّاء: المعنى: يا لها حَسْرَة على العباد. وقال الزجاج:
الحَسْرَةُ أن يركب الإنسان من شدّة النّدم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبُه حَسِيراً. وفي المتحسِّر على العباد قولان: أحدهما: أنهم يتحسَّرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرُّسل كان حسرةً عليهم في الآخرة. وقال أبو العالية: لمَّا عايَنوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسَلين، كيف لنا بهمُ الآن حتى نؤمِن. والثاني: أنه تحسُّر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرُّسل، قاله الضحاك.
ثم خوَّف كُفَّاَر مكَّة فقال: أَلَمْ يَرَوْا أي: ألم يَعْلَموا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ فيعتبروا ويخافوا أن نعجِّل لهم الهلاك كما عجِّل لمن أُهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟!. قال الفراء: وأَلِف أَنَّهُمْ مفتوحة، لأن المعنى: ألم يَرَوا أنَّهم إِليهم لا يرجعون. وقد كسرها الحسن، كأنه لم يُوقِع
الرؤية على «كم»، فلم يوقِعها على «أنّ» وإِن استأنفتَها كسرتَها.
قوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: «لَمَّا» بالتشديد، جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي: إِن الأُمم يُحضَرون يوم القيامة، فيجازَون بأعمالهم. قال الزجاج: من قرأ «لَمَا» بالتخفيف، ف «ما» زائدة مؤكِّدة، والمعنى: وإِنْ كُلُّ لَجميعٌ، ومعناه: وما كُلُّ إِلاَّ جميع لدينا مُحضَرون. ومن قرأ «لَمَّا» بالتشديد، فهو بمعنى «إلاَّ»، تقول: «سألتُكَ لمّا فعلت» و «إلّا فعلتَ».
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وقرأ نافع: «المَيِّتَةُ» بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز و «آية» مرفوعة بالابتداء، وخبرها «لهم»، ويجوز أن يكون خبرها «الأرضُ الميتةُ» والمعنى:
وعلامةٌ تدلُّهم على التوحيد وأنَّ الله يَبْعَثُ الموتى أحياءً، الأرضُ الميتةُ.
قوله تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ يعنى ما يُقتات من الحبوب.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها وقوله تعالى وَفَجَّرْنا فِيها يعني في الأرض.
قوله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكَّر. وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «عَمِلَتْهُ» بهاءٍ. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «عَمِلَتْ» بغير هاءٍ. والهاء مُثْبَتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة. قال الزّجّاج: موضع «ما» خفض والمعنى: ليأكُلوا من ثمره وممَّا عملَتْه أيديهم ويجوز أن يكون «ما» نفياً المعنى: ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءه من أثبت الهاء، فإذا حُذفت الهاءُ، فالاختيار أن تكون «ما» في موضع خفض، وتكون بمعنى «الذي»، فَيحْسُن حذف الهاء وكذلك ذكر المفسِّرون القولين، فمن قال بالأول. قال: ليأكُلوا ممَّا عملتْ أيديهم، وهو الغُروس والحُروث التي تعبوا فيها، ومن قال بالثاني. قال: ليأكُلوا ما ليس مِنْ صُنعهم، ولكنه مِنْ فِعل الحقّ عزّ وجلّ أَفَلا يَشْكُرُونَ الله تعالى فيوحِّدوه؟!. ثم نزَّه نفسه بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني الأجناس كلّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الفواكه والحبوب وغير ذلك وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وهم الذكور والإِناث وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من دوابِّ البَرِّ والبحر وغير ذلك ممّا لم يَقِفوا على علمه.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي: وعلامة لهم تَدُلُّ على توحيدنا وقدرتنا الليلُ نَسلخ منه النهار قال الفراء: نرمي بالنهار عنه، و «منه» بمعنى «عنه». وقال أبو عبيدة: نُخْرِجُ منه النهار ونميِّزه منه فتجيء الظُّلمة، قال الماوردي: وذلك أنّ ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي: داخلون في الظَّلام. وَالشَّمْسُ أي: وآيةٌ لهم الشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وفيه أربعة أقوال:
أحدها: إلى موضع قرارها. روى أبو ذر قال:
523
(١١٩٨) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال: «مُسْتَقَرُّها تحت العَرْش».
وقال: «إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها، فتَستأذِنُ في الطُّلوع، فيؤذَنُ لها».
والثاني: أنَّ مُسْتَقَرَّها مغربها لا تجاوزُه ولا تقصر عنه، قاله مجاهد. والثالث: لِوقت واحدٍ لا تعدُوه، قاله قتاده. وقال مقاتل: لِوقت لها إِلى يوم القيامة. والرابع: تسير في منازلها حتى تنتهيَ إلى مُسْتَقَرِّها الذي لا تجاوزُه، ثم ترجِع إِلى أوَّل منازلها، قاله ابن السائب. وقال ابن قتيبة: إلى مُسْتَقَرٍ لها، ومُسْتَقَرُّها: أقصى منازلها في الغُروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدَّم إِلى أقصى مغاربها ثم ترجع. وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعليّ بن الحسين والشيزري عن الكسائي «لا مُسْتَقَرَّ لها» والمعنى أنها تجري أبداً لا تثبُت في مكان واحد. قوله تعالى: ذلِكَ الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس والقمر تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في مُلكه الْعَلِيمِ بما يقدِّر.
قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «والقَمَرُ» بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «والقمر» بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فالمعنى: وقدَّرْنا القمر قدَّرناه منازل، ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: وآيةٌ لهم القمرُ قدَّرْناه، ويجوز أن يكون على الابتداء، و «قدَّرْناه» الخبر. قال المفسِّرون: ومنازلُ القمر ثمانيةٌ وعشرون منزِلاً ينزِلها من أوَّل الشَّهر إلى آخره، وقد سمَّيناها في سورة يونس «١»، فإذا صار إلى آخر منازله، دَقَّ فعاد كالعُرجون، وهو عود العِذْق الذي تركته الشماريخ «٢»، فإذا جفَّ وقَدُمُ يشبه الهلال. قال ابن قتيبة: و «القديم» ها هنا: الذي قد أتى عليه حَوْلٌ، شُبِّه القمرُ آخِر لَيلةٍ يطلعُ به. قال الزجاج: وتقدير «عُرجون» : فُعْلون، من الانعراج. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «كالعِرْجَوْن»، بكسر العين.
قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فيه ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنهما إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يَدَي الآخر، فلا يشتركان في المنازل، قاله ابن عباس. والثاني: لا يُشْبِه ضوءُ أحدهما ضوءُ الآخر، قاله مجاهد. والثالث: لا يجتمع ضوءُ أحدهما مع الآخر، فإذا جاء سُلطان أحدهما ذهب سُلطان الآخر، قاله قتادة فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء، لم يعرف
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٠٣ و ٧٤٣٣ ومسلم ١٥٩ ح ٢٥١ وأحمد ٥/ ١٥٨ وابن حبان ٦١٥٢ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٥١٤ من طرق عن وكيع به عن أبي ذر مرفوعا.
- وأخرجه الطحاوي في «المشكل» ٢٨١ من طريق أبي معاوية عن الأعمش به.
__________
(١) يونس: ٥.
(٢) في «اللسان» : الشمروخ: غصن دقيق رخص ينبت في أعلى الغصن الغليظ في سنته رخصا.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٤٤٢: يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر فيذهب ضوءها بضوئه فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلا اه.
وقال ابن كثير رحمه الله: يعني لكل منهما سلطانا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل. وأنه لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ، لأنهما سخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا.
524
الليل. قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وعاصم الجحدري: «سابِقُ» بالتنوين «النَّهارَ» بالنصب، وفيه قولان: أحدهما: لا يَتقدَّم الليلُ قبل استكمال النهار. والثاني: لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بينهما. وباقي الآية مفسّر في سورة الأنبياء «١».
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع، وابن عامر: «ذُرْيَّاتِهِمْ» على الجمع وقرأ الباقون من السبعة: «ذُرِّيَّتَهُمْ» على التوحيد. قال المفسِّرون: أراد: في سفينة نوح، فنسب الذُّرِّيَّة إلى المخاطَبين، لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذُرِّيَّة الناس. وقال الفراء: أي: ذُرِّيَّة مَنْ هو منهم، فجعلها ذُرِّيَّةً لهم، وقد سبقتْهم. وقال غيره: هو حَمْلُ الأنبياء في أصلاب الآباء حين رَكِبوا السفينة، ومنه قول العباس:
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفينَ وقَدْ أَلْجَمَ نَسْراً وأَهْلَهُ الغَرَقُ
قال المفضّل بن سلمة: الذُّرِّيَّة: النَّسْل، لأنهم مَنْ ذرأهم اللهُ منهم، والذُّرِّيَّة أيضا: الآباء، لأن الذَّرَّ وقع منهم، فهو من الأضداد، ومنه هذه الآية، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ «٢». والمشحون: المملوء. قوله تعالى: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ فيه قولان: أحدهما: مِثْل سفينة نوح، وهي السُّفُن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن. والثاني: أنها الإِبل، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ مثل السُّفُن المركوبة في البحر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين.
قوله تعالى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي: لا مُغيثَ ولا مُجِير وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي: ينجون من الغرق، يقال: أنقَذه واستنقَذه: إذا خلَّصه من المكروه، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا المعنى: إلا أن نرحمهم ونمتِّعهم إلى آجالهم. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني الكُفَّار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ فيه أربعة أقوال:
أحدها: «ما بين أيديكم» : ما مضى من الذُّنوب، «وما خَلْفكم» : ما يأتي من الذنُّوب، قاله مجاهد.
والثاني: ما تَقدَّم من عذاب الله للأُمم، «وما خلفكم» من أمر الساعة، قاله قتادة. والثالث: «ما بين أيديكم» من الدنيا، «وما خَلْفكم» من عذاب الآخرة، قاله سفيان. والرابع: «ما بين أيديكم» من أمر الآخرة، «وما خَلْفكم» من أمر الدنيا فلا تَغْتَرُّوا بها. قاله ابن عباس والكلبي. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي:
لتكونوا على رجاء الرحمة من الله. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: إِذا قيل لهم هذا، أعرضوا ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ أي: من دلالة تدلّ على صدق الرّسول.
(١) الأنبياء: ٣٣.
(٢) آل عمران: ٣٤.

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٧ الى ٥٨]

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦)
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: في اليهود، قاله الحسن. والثاني: في الزنادقة، قاله قتادة.
(١١٩٩) والثالث: في مشركي قريش، قاله مقاتل وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام، فقالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ.
(١٢٠٠) وقال ابن السائب: كان العاص بن وائل إذا سأله المسكين، قال: اذهب إلى ربِّك فهو أولى بك مني ويقول: قد منعه الله، أُطعمه أنا؟! ومعنى الكلام أنهم قالوا: لو أراد اللهُ أن يرزقهم لرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نُطْعِمهم وهذا خطأٌ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضاً، ليبلوَ الغنيَّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقيل: إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء. وفي قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قولان: أحدهما: أنه من قول الكفار للمؤمنين، يعنون: إِنكم في خطأٍ من اتِّباع محمد. والثاني: أنه من قول الله للكفار لما ردُّوه من جواب المؤمنين.
قوله تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون القيامة والمعنى: متى إنجاز هذا الوعد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ يعنون محمدا وأصحابه. ما يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النّفخة الأولى. ويَخِصِّمُونَ بمعنى يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد، كذلك قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
«يَخَصِّمُونَ» بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وروي عن ابن عمرو اختلاس حركة الخاء. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي «يَخْصِّمُونَ» بفتح الياء وكسر الخاء. وعن عاصم كسر الياء والخاء. وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد. وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يَخْصِمُ بعضهم بعضاً.
وقرأ أُبيٌّ بن كعب: «يختصمون» بزيادة تاء والمعنى أن الساعة تأتيهم أَغفلَ ما كانوا عنها وهم يتشاغلون في متصرَّفاتهم وبيعهم وشرائهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً قال مقاتل: أعجلوا عن الوصيّة
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم.
عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.
526
فماتوا، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي: لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم فهذا وصف ما يَلْقَون في النفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النّفخة الثانية قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور، إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي: يخرُجون بسرعة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء «١».
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، والضحاك، وعاصم الجحدري:
«من بعثْنَا» بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسرون: إنما قالوا هذا، لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين. قال أُبيُّ بن كعب: ينامون نومة قبل البعث، فإذا بُعثوا قالوا هذا.
قوله تعالى: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول المؤمنين، قاله مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى. قال قتادة: أول الآية للكافرين، وآخرها للمؤمنين. والثاني: أنه قول الملائكة لهم، قاله الحسن. والثالث: أنه قول الكافرين، يقول بعضهم لبعض: هذا الذي أخبرَنا به المرسَلون أننا نُبعث ونجازى، قاله ابن زيد.
قال الزجاج: «من مرقدنا» هو وقف التمام، ويجوز أن يكون «هذا» من نعت «مرقدنا» على معنى: مَنْ بعثَنا مِنْ مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى: ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أحد إِضمارين، إما «هذا»، وإِما «حق»، فيكون المعنى: حقُّ ما وَعد الرَّحمنُ.
ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ يعني في الآخرة فِي شُغُلٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «في شُغْلٍ» بإسكان الغين. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «في شُغُلٍ» بضم الشين والغين. وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وأيوب السختياني: «في شَغَلٍ» بفتح الشين والغين. وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، والنخعي، وابن يعمر، والجحدري: «في شَغْلٍ» بفتح الشين وسكون الغين، وفيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أن شغلهم افتضاض العذارى، رواه شقيق عن ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك. والثاني: ضرب الأوتار، رواه عكرمة عن ابن عباس وعن عكرمة كالقولين، ولا يثبت هذا القول. والثالث: النِّعمة، قاله مجاهد. وقال الحسن: شغلهم:
نعيمهم عمَّا فيه أهل النار من العذاب. قوله تعالى: فاكِهُونَ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وقتادة، وأبو الجوزاء، والنخعي، وأبو جعفر: «فَكِهُون». وهل بينهما فرق؟
فيه قولان: أحدهما: أن بينهما فرقاً. فأما «فاكهون» ففيه أربعه أقوال: أحدها: فَرِحون، قاله ابن عباس. والثاني: مُعْجَبُون، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: ناعمون، قاله أبو مالك، ومقاتل. والرابع:
ذوو فاكهة، كما يقال: فلانٌ لابِنٌ تامِرٌ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأما «فَكِهون» ففيه قولان:
أحدهما: أن الفَكِه: الذي يتفكَّه، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض
(١) الأنبياء: ٩٦.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٣/ ٧٠٥: يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم، وعن ابن عباس في رواية عنه: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي: سماع الأوتار. وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
527
الناس: إن فلاناً لفَكِهٌ بكذا، ومنه يقال للمُزاح: فُكاهَة، قاله أبو عبيدة. والثاني: أن فَكِهين بمعنى فَرِحين، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أن فاكهين وفكهِين بمعنى واحد، كما يقال: حاذِرٌ وحَذِرٌ، قاله الفراء. وقال الزجاج: فاكِهون وفكهِون بمعنى فَرِحين. وقال أبو زيد: الفَكِه: الطيِّب النَّفْس الضَّحوك، يقال: رجل فاكِه وفَكِه.
قوله تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ يعنى حلائلهم فِي ظُلَلٍ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «في ظُلَلٍ». قال الفراء: الظِّلال جمع ظِلٍّ والظُّلَل جمع ظُلَّة وقد تكون الظِّلال جمع ظُلَّة أيضا، كما يقال:
خُلَّة وخُلَل فإذا كثرت فهي الخِلال والحِلال والقِلال. قال مقاتل: والظِّلال: أكنان القصور. قال أبو عبيدة: والمعنى أنهم لا يَضْحَوْنَ. فأمّا الأرائك فقد بيّنّاها في الكهف «١».
قوله تعالى: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن قتيبة: ما يَتَمَنَّوْنَ، ومنه يقول الناس: هو في خيرِ ما ادَّعى، أي: ما تَمَنَّى، والعرب تقول: ادَّع ما شئتَ، أي: تمنّ ما شئت. وقال الزّجّاج: وهو مأخوذ من الدًّعاء والمعنى: كلُّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وقوله: سَلامٌ بدل من «ما» المعنى: لهم ما يتمنَّون سلام، أي: هذا مُنى أهل الجنة أن يُسلِّم الله عليهم. وقَوْلًا منصوب على معنى: سلامٌ يقوله اللهُ قولاً. وقال أبو عبيدة: «سلامٌ» رفع على «لهم» فالمعنى: لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام.
وقال الفرّاء: معنى الكلام: لها ما يدَّعون مسلَّم خالص، ونصب القول، كأنكَ قلتَ: قاله قولاً، وإِن شئتَ جعلتَه نصباً من قوله تعالى: ولهم ما يدَّعون قولاًَ، كقولكَ: عِدَةً من الله. وقرأ ابن مسعود، وأًبيُّ بن كعب، والجحدري: «سلاما قولا» بنصبهما جميعا.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ قال ابن قتيبة: أي: انقطِعوا عن المؤمنين وتميَّزوا منهم، يقال: مِزتُ الشيءَ من الشيء: إذا عزلتَه عنه، فانماز وامتاز، وميّزتُه فتميَّز. قال المفسرون: إذا اختلط الإِنس والجن في الآخرة، قيل: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فيقال للمجرمين: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أي: ألم آمركم، ألم أوصِكم؟ و «تعبُدوا» بمعنى تُطيعوا، والشيطان هو إبليس، زيَّن لهم الشِّرك فأطاعوه، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة. وَأَنِ اعْبُدُونِي قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: «وأَنُ اعبُدوني» بضم النون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة: «وأَنِ اعبُدوني» بكسر النون والمعنى: وحِّدوني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني التوحيد. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: «جُبُلاً» بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: «جُبْلاً» بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام. وقرأ نافع، وعاصم: «جِبِّلاً» بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو عبد الرّحمن السّلمي، والزّهري،
(١) الكهف: ٣١.
والأعمش: «جُبُلًّا» بضم الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع: «جِبْلاً» بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: «جُبَلاً» برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو العالية: وابن يعمر: «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو عمران الجوني، وعمرو بن دينار: «جِبَالاً» مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف. ومعنى الكلمة كيف تصرَّفت في هذه اللغات: الخَلْق والجماعة فالمعنى: ولقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فالمعنى: قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر:
«أفلم يكونوا يعقلون» بالياء فيهما، فإذا أُدْنُوا إلى جهنم قيل لهم: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا اصْلَوْهَا أي: قاسُوا حَرَّها.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «يُخْتَمُ» بياء مضمومة وفتح التاء وَتُكَلِّمُنا قرأ ابن مسعود: «ولتكلّمنا» بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «لِتُكَلِّمَنا» بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم وقرءوا جميعا:
«ولِتَشْهَدَ أرجُلُهم» بلام مكسورة وبنصب الدال. ومعنى «نَخْتِمُ» : نَطبع عليها، وقيل: منعُها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنهم لمّا قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «١» ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهُم، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: ليَعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم على المعاصي صارت شهوداً عليهم. والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فتميّزوا منهم بذلك. والرابع: لأن إِقرار الجوارح أبلغ في الإِقرار من نُطْق اللسان، ذكرهنّ الماوردي. فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نُطق اليد كلاماً ونطقِ الرِّجْل شهادةً؟ فالجواب: أن اليد كانت مباشِرة والرِّجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل.
قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ولو نشاء لأذهبْنا أعيُنَهم حتى لا يبدوَ لها شَقٌّ ولا جَفْن. والمطموس: الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي:
فتبادروا إلى الطريق فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي: فكيف يُبْصِرون وقد أعمينا أعيُنَهم؟! وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: «فاستَبِقوا» بكسر الباء «فأنَّى تًُبْصِرونَ» بالتاء. وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين. والثاني: ولو نشاء لأضلَلْناهم وأعميناهم عن الهُدى، فأنّى يُبصِرون الحقَّ؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ولو نشاء لفقأْنا أعيُنَ ضلالَتهم وأعميناهم عن غَيِّهم وحوَّلْنا أبصارهم من الضلالة إلى الهُدى فأبصروا رشدهم، فأنّى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! حكي عن جماعة منهم مقاتل.
(١) الأنعام: ٢٣. [.....]
قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ روى أبو بكر، عن عاصم «على مكاناتهم» وقد سبق بيان هذا «١». وفي المراد بقوله: «لمَسَخْناهم» أربعة أقوال: أحدها: لأهلكْناهم، قاله ابن عباس.
والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: لجعلْناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل. والرابع: لجعلْناهم قردةً وخنازيرَ لا أرواح فيها، قاله ابن السائب. وفي قوله: فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: فما استطاعوا أن يتقدَّموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة.
والثاني: فما استطاعوا مُضِيّاً عن العذاب، ولا رجوعاً إِلى الخِلقة الأُولى بعد المسخ، قاله الضحاك.
والثالث: مُضِيّاً من الدنيا ولا رجوعاً إليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قرأ حمزة: «نُنَكِّسْه» مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد وعن عاصم كالقراءَتين.
ومعنى الكلام: من نُطِلْ عمره ننكِّس خَلْقَه، فنجعل مكان القوَّة الضَّعف، وبدل الشباب الهرم، فنردُّه إِلى أرذل العمر. أَفَلا يَعْقِلُونَ قرأ نافع، وأبو عمرو: «أفلا تعقلون» بالتاء، والباقون بالياء. والمعنى:
أفلا يعقلون أنَّ مَنْ فعل هذا قادر على البعث؟
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال المفسرون: إنّ كفّار مكّة قالوا: إنّ القرآن شِعْر وإِن محمداً شاعر، فقال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: ما يتسهَّل له ذلك. قال المفسرون:
ما كان يَتَّزن له بيتُ شِعر، (١٢٠١) حتى إنه روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه تمثَّل يوماً فقال: كَفَى بالإِسلامِ والشَّيْبِ لِلْمَرْءِ ناهِياً.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، إِنما قال الشاعر:
كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ لِلْمَرْءِ نَاهياً أَشهدُ أنَّكَ رسولَ الله، ما علَّمكَ اللهُ الشِّعر، وما ينبغي لك.
(١٢٠٢) ودعا يوماً بعباس بن مرداس فقال: «أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأَقْرَعِ وعُيَيْنَة» ؟
فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، لم يقل كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يَضُرُّكَ بأيِّهما بدأتَ»، فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر، ولا ينبغي لك الشّعر.
ضعيف جدا. أخرجه ابن سعد ١/ ٢٩٨ والبغوي في «معالم التنزيل» ١٧٨٩ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٧٠٩ من طريق علي بن زيد عن الحسن مرسلا، وإسناده ضعيف جدا وله علل ثلاث: الأولى:
ضعف علي بن زيد، والثانية: هو مرسل، والثالث: مراسيل الحسن واهية.
ضعيف. هو بعض حديث أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥/ ١٧٩- ١٨١- ١٨٢ وعلته الإرسال.
__________
(١) البقرة: ٦٥.
530
(١٢٠٣) وتمثّل يوما، فقال: «ويأتيك مَنْ لم تُزَوِّدْهُ بالأَخْبارِ» فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: «إِنِّي لستُ بشاعر، ولا ينبغي لي». وإِنما مُنِعَ من قول الشِّعر، لئلا تدخُل الشُّبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون: قوي على ذلك بما في طَبْعه من الفطنة للشِّعر.
قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ إِلا موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ فيه الفرائض والسُّنن والأحكام. قوله تعالى: لِيُنْذِرَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء، يعنون القرآن. وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلّم، أي: لِتُنْذَرَ يا محمَّدُ بما في القرآن. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو الجوزاء، وابن السّميفع: «لينذر» بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعاً. قوله تعالى: مَنْ كانَ حَيًّا وفيه أربعة أقوال: أحدها: حيّ القلب حيّ البصر، قاله قتادة. والثاني: من كان عاقلاً، قاله الضحاك. قال الزجاج: من كان يَعْقِل ما يخاطَب به، فإن الكافر كالميت في ترك النذير. والثالث: مهتدياً، قاله السدي. وقال مقاتل: من كان مهتدياً في عِلْم الله.
والرابع: من كان مؤمنا، قاله يحيى بن سلام وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «١»، ويجوز أن يريد: إِنما يَنفع إِنذارُك مَنْ كان مؤمِناً في علم الله. قوله تعالى: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ معناه: يجب. وفي المراد بالقول قولان: أحدهما: أنه العذاب.
والثاني: الحجّة.
صحيح. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٤٩٦ والطبري ٢٩٢٢٩ عن قتادة عن عائشة، ورجاله ثقات لكنه منقطع، قتادة لم يدرك عائشة. وورد موصولا من وجه آخر، أخرجه أحمد ٦/ ١٥٦ والبخاري في «الأدب المفرد» ٨٦٧ والترمذي ٢٨٥٢ والطحاوي في «المعاني» ٤/ ٢٩٧ والبغوي في «معالم التنزيل» ١٧٩٠ عن شريح بن هانئ عن عائشة، وإسناده حسن في الشواهد لأجل شريك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٢٩٢ وابن سعد ١/ ٢٩٠ من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف الوليد، وسماك مضطرب في عكرمة. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار ٢١٠٦ والطبراني ١١٧٦٣ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٣٣٤٦: رجالهما رجال الصحيح. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشاهده، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي ١٧٩٠ و «أحكام القرآن» ١٨٧٦ بتخريجنا، والله الموفق.
- وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره ٣/ ٧٠٨: يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه أنه ما علّمه الشعر، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأحاديث السابقة- قال ابن كثير رحمه الله: وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلّم ما علّم شعرا ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علّمه القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وهو ليس بشعر كما زعمه طائفة من جهلة قريش، ولا كهانة ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهّال. وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلّم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا، ثم قال ابن كثير رحمه الله: على أن الشعر فيه ما هو مشروع، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت. وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأحزابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية.
__________
(١) فاطر: ١٨.
531

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٦]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
ثم ذكَّرهم قُدرته فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً قال ابن قتيبة: يجوز أن يكون المعنى: ممّا عَمِلْناه بقوَّتنا وقدرتنا، وفي اليد القُدرةُ والقُوَّةُ على العمل، فتُستعارُ اليدُ فتُوضَع موضعها، هذا مَجازٌ للعرب يحتملُه هذا الحرف، والله أعلم بما أراد. وقال غيره: ذِكْر الأيدي ها هنا يدلُّ على انفراده بما خَلَق، والمعنى: لم يشاركْنا أحد في إِنشائنا والواحدُ مِنّا إِذا قال: عملتُ هذا بيدي، دلَّ ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدمشقي: معنى الآية: ممّا أَوجدْناه بقُدرتنا وقوَّتنا وهذا إجماع أنه لم يرد ها هنا إلا ما ذكرْنا. قوله تعالى: فَهُمْ لَها مالِكُونَ فيه قولان:
أحدهما: ضابطون، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: ومثله في الشِّعر:
أَصبحتُ لا أَحملُ السِّلاحَ ولا أملكُ رأسَ البعيرِ إِنْ نَفَرا «١»
أي: لا أَضبِط رأس البعير. والثاني: قادرون عليها بالتسخير لهم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي: سخَّرْناها، فهي ذليلة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ قال ابن قتيبة:
الرَّكُوب: ما يَرْكَبون، والحَلوب: ما يَحْلُبُون. قال الفرّاء: ولو قرأ قارئ: «فمنها رُكُوبُهم»، كان وجهاً، كما تقول: منها أكلهم وشُربهم ورُكوبهم. وقد قرأ بضم الراء الحسن، وأبو العالية، والأعمش، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة: «رَكُوبَتُهم» بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة. قال المفسرون: يركبون من الأنعام الإِبل، ويأكلون الغنم، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الأصواف والأوبار والأشعار والنَّسْل وَمَشارِبُ من ألبانها، أَفَلا يَشْكُرُونَ ربَّ هذه النِّعم فيوحِّدونه؟! ثم ذكر جهلهم فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي: لتمنَعهم من عذاب الله ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي: لا تَقْدِرُ الأصنام على منعهم من أَمْرٍ أراده اللهُ بهم وَهُمْ يعني الكفّار ولَهُمْ يعني الأصنام جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وفيه أربعة أقوال: أحدها: جُنْدٌ في الدنيا مُحْضَرونَ في النار، قاله الحسن. والثاني: مُحْضَرونَ عند الحساب، قاله مجاهد. والثالث: المشركون جُنْدٌ للأصنام، يَغضبون لها في الدنيا، وهي لا تسوق إِليهم خيراً ولا تدفع عنهم شرّاً، قاله قتادة. وقال مقاتل: الكفار يَغضبون للآلهة ويَحْضُرونها في الدنيا. وقال الزجاج: هم للأصنام ينتصرون، وهي لا تستطيع نصرهم. والرابع: هم جُنْدٌ مُحْضَرون عند الأصنام يعبدونها، قاله ابن السائب.
قوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول كفار مكة في تكذيبك إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم من تكذيبك وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من ذلك والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
(١) البيت للربيع بن منيع الفزاري، كما في «روح المعاني» ٢٣/ ٤٧، قاله بعد ما أسن، وجاوز المائة.
532
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال:
(١٢٠٤) أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، أخذ عَظْماً من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيُحْيي اللهُ هذا بعد ما أرى؟ فقال: «نعم، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنَّم»، فنزلت هذه الآيات، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(١٢٠٥) والثاني: أنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، جرى له نحو هذه القصة، رواه العوفي عن ابن عباس.
(١٢٠٦) والثالث: أنه أبو جهل بن هشام، وأن هذه القصة جرت له، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(١٢٠٧) والرابع: أنه أُميَّةُ بن خَلَف، قاله الحسن.
(١٢٠٨) والخامس: أنه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي، وهذه القصة جرت له، قاله مجاهد وقتادة والجمهور، وعليه المفسِّرون.
ومعنى الكلام: التعجُّب مِنْ جهل هذا المخاصِم في إِنكاره البعث والمعنى: ألا يَعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل: هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلاً. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا في إِنكار البعث بالعَظْم البالي حين فتَّه بيده، وتعجَّب ممن يقول: إِن الله يُحْييه وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي: نَسِيَ خَلْقَنا له، أي: تَرَكَ النَّظَر في خَلْق نفسِه إذ خلق من نطفة قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي: بالية، يقال: رَمَّ العَظْمُ، إِذا بَلِيَ، فهو رَمِيمٌ، لأنه معدول عن فاعله، وكلّ
حسن. أخرجه الحاكم ٢/ ٤٢٩ من حديث ابن عباس، وإسناده حسن، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري ٢٩٢٤٣ عن سعيد بن جبير مرسلا. وانظر «أحكام القرآن» ١٨٨٢.
باطل، أخرجه الطبري ٢٩٢٤٤ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو واه عن ابن عباس، وهذا باطل لأن السورة مكية بإجماع، وعبد الله بن أبي ابن سلول إنما كانت أخباره في العهد المدني.
ضعيف جدا. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك.
عزاه المصنف للحسن البصري، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية.
أخرجه الطبري ٢٩٢٤٠ عن مجاهد مختصرا، وهذا مرسل. وكرره ٢٩٢٤٢ عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٢١ عن أبي مالك مرسلا. والخلاصة: ورد في شأن العاص وابن خلف من وجوه متساوية، فأصل الخبر محفوظ، وإن كان اضطرب المفسّرون في تعيين أحدهما، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥١٨١ و «فتح القدير» ٢١٠٣ بتخريجنا، والله الموفق.
533
معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إِعرابه كقوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «١» فأسقط الهاء لأنها مصروفة، عن «باغية» فقاس هذا الكافر قُدرة الله تعالى بقُدرة الخَلْق، فأنكر إِحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أي: ابتدأ خَلْقها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ من الابتداء والإِعادة عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً قال ابن قتيبة: أراد الزُّنُودَ التي تُورِي بها الأَعرابُ من شجر المَرْخِ والعَفَار. فإن قيل: لم قال: «الشَّجَرِ الأَخضرِ». ولم يقل: الشَّجَرِ الخُضْر. فالجواب: أن الشجر جمع، وهو يؤنَّث ويذكَّر، قال الله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ «٢»، وقال: فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. ثم ذكر ما هو أعظم من خَلْق الإِنسان، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ
وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعاصم الجحدري: «يَقْدِرُ» بياء من غير ألف عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وهذا استفهام تقرير والمعنى: مَنْ قَدَرَ على ذلك العظيم، قَدَرَ على هذا اليسير. وقد فسرنا معنى «أن يَخْلُقَ مِثْلَهم» في بني إسرائيل «٣» ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ يخلُق خَلْقاً بَعْدَ خَلْق. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعاصم الجحدري: «وهو الخَالِقُ» الْعَلِيمُ بجميع المعلومات. والمَلَكوتُ والمُلْكُ واحد. وباقي السورة قد تقدّم شرحه «٤». والله أعلم بالصّواب.
(١) مريم: ٢٨.
(٢) الواقعة: ٥٣.
(٣) الإسراء: ٩٩.
(٤) البقرة: ٣٢- ١١٧، الأنعام: ٧٥.
534
Icon