تفسير سورة الزمر

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر الله عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية ٩٨ من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك. أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب «مُرِيبٍ ٥٤» لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم. هذا، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
تفسير سورة الزمر عدد ٩- ٥٩- ٣٩
نزلت بمكة بعد سورة سبأ عدا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ فإنهن نزلن بالمدينة، وهي خمس وسبعون آية والف ومئة واثنتان وسبعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وثمانية أحرف وتسمى سورة تنزيل، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ومثلها في عدد الآي الأنفال فقط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: هذا «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مقدر وبالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر أي اقرأ هذا التنزيل الذي ينزل عليك يا محمد من قبل ربك من القرآن المدون في اللوح المحفوظ الثابت في أزلنا والذي قدر قديما إنزاله عليك «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ١» الذي يجري أمره وينفذ نهيه بمقتضى الحكمة بلا مدافع ولا ممانع، واعلم يا سيد الرسل «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هذا «الْكِتابَ بِالْحَقِّ»
521
الصريح الواضح وبمقتضاه «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ٢» من شوائب الشرك والرياء، وهذا مما يراد به غيره ﷺ من أمته لأنه لا شك بإخلاصه وبعده من الإشراك ولا مانع بأن يخاطب الأمير ما يراد به من الجند لأن الملك لا يولي أميرا إلا وهو يعتقد حزمه وأمانته وقد يحذره الهرب والخيانة أمام جنده ليكون أبلغ إمضاء فيهم «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» من كل شائبة الكامل الذي لا أكمل منه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» سخفا بعقولهم يقولون «ما نَعْبُدُهُمْ» لذاتهم «إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» يتمكنون به من الشفاعة لهم مع أنهم شابوا عبادة الله بعبادتهم، فاتركهم يا حبيبي الآن ولا تتعرض لهم بأكثر من النصح والترغيب «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين معبوديهم عند ما يأمرك بقتالهم وقسرهم على الإيمان كما يفصل بينك وبينهم يوم القيامة وحذف الثاني بدلالة الأول عليه قال النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليالي قلائل
أي بين الخير وبيني وقال بعض المفسرين بينهم وبين المخلصين بالعبادة لله ويقرّب المعنى الأول قوله جل قوله «فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» لأنهم يوم القيامة يجحدون عبادتهم ويتبرأون منهم ويصير بينهم الرد والبدل في تكذيب بعضهم راجع الآية ٤١ من سورة سبأ والآية ٤٤ من سورة الصافات والآية ١٣٠ من سورة الأنعام المارات والاختلاف على القول الثاني يكون في أمر التوحيد وأمر الشرك وادعاء كل صحة ما اتصف به ونتيجة حاله في إدخال المؤمنين الجنة والمشركين النار والكل جائز. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ» بقوله إن الأصنام تشفع له أو تقربه من الله لأنه كذب محض ولذلك وصفه بقوله «كَفَّارٌ ٣» كثير الكفر وإنما دحضه بلفظ المبالغة لأنه كفر من وجوه: جحود وحدانية الله واثبات الشريك له واتخاذه ربا دونه، ومن كان هذا شأنه فالهداية لا تناله لأنه غير قابل لها والله تعالى لا يفيض القوابل إلا بحسب القابليات كما يشير إليه قوله عز قوله (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) الآية ٥٠ من سورة طه في ج ١ وقوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الآية ٨٤ من سورة الإسراء ج ١ أيضا وقولهَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية ٣٣ من سورة النحل
522
الآتية لسيىء استعداده على قبول الضلال وعدم استعداده لقبول الهدى ختم عليه بذلك لأنه خلقه كذلك. قال تعالى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الآية ٧ من الشورى الآتية وهذا من الأزل، لأنه حينما خلق الخلق قال هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)
الآية ٧ من سورة السجدة الآتية، وهو الذي لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» كما يزعمون، تعالى عن ذلك «لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به «هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ» في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد «الْقَهَّارُ ٤» لكل شيء المحتاج إليه كل شيء، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه مطلقا، وحاصل معنى الآية والله أعلم:
لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ. لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله (لَاصْطَفى) تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة. واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية
523
سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه. هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير الله الناسبين إليه الولد، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب «يُكَوِّرُ» يلف ويغيّب ويغشي «اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ» إذا طرأ عليه، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر «وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية ١٣ من سورة فاطر المارة في ج ١، ونظيرها في الآية ٢٧ من آل عمران والآية ٦ من سورة الحديد في ج ٣، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير
524
لفظا ومعنى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب كامل القدرة لا مثيل له «الْغَفَّارُ ٥» كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» حواء رضي الله عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» لما كانت الأنعام لا
تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية ٢٦ من الأعراف في ج ١، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء الله تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» تقدم بيانها في الآية ١٤٣ من سورة الأنعام المارة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه. واعلم أن مخلوقات الله تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون
525
خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين «ذلِكُمُ» أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» كله وحده «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٦» أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم. ولهذا البحث صلة في الآية ١٢ من سورة المؤمنين الآتية والآية ٤ من سورة الحج في ج ٣، واعلموا أيها الناس أنكم «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» وأنتم محتاجون إليه «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» لأنه يؤدي بهم إلى النار، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه والله تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم، راجع الآية ١٤٩ من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع) لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة، ويفهم من هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» تقدم تفسيرها في الآية ١٨ من سورة فاطر والآية ٣٨ من سورة والنجم في ج ١ والآية ١٦٤ من سورة الأنعام المارة «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٧» ومن كان عالما بخفيّات الأمور
526
وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى «دَعا رَبَّهُ مُنِيباً» راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا «إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ» أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء «نِعْمَةً مِنْهُ» تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد «لِيُضِلَّ» غيره «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق القويم، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة
بن ربيعة أو حذيفة المخزومي «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا» في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها «إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ٨» أجارنا الله منها، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك. وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» استفهام إنكاري أي لا يستوون عند الله وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ٩» بآيات الله والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون.
مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:
يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية، وأضيفت الرحمة
527
في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت (أي محتضر) فقال له:
كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي- فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب الله بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا والله تعالى يقول (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الآية ٩٩ من سورة الأعراف المارة في ج ٣، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال الله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الآية ٨٧ من سورة يوسف المارة، وافتتح الله تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق الله السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله، قال تعالى «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل بعد الإيمان والتقوى «فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره، وهذه أول آية عرّض الله بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد الله تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل الله وتوطنوا غيرها، فلا عذر لكم بأن لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ» عند الله الذين صبروا من أجله «بِغَيْرِ حِسابٍ ١٠» بشيء كثير
528
لا يعرف حسابه ولا يهتدي إليه حاسب، وذلك لأنهم صبروا على الجلاء طاعة لله تعالى وطلبا لازدياد فعل الخير ولئلا يفرطوا بأوقاتهم دون أن يقدّموا لله تعالى بها حسنات، قال علي كرم الله وجهه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابر فإنه يحثى له حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
وهذه الآية عامة مطلقة محكمة ولا تزال كذلك إلى آخر الزمان، وما جاء من الآثار بأنها نزلت في سيدنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة لأرض الحبشة لا يقيدها ولا يخصصها لما تقدم آنفا في الآية ٨ و ١٠، وعلى هذا فإنه يجب على كل من لم يتمكن من القيام بأمر دينه كما ينبغي في بلدة ما أن ينتقل إلى غيرها لإقامة شعائر دين الله كما هو مفروض عليه ولا عذر له بالتفريط لأن الله تعالى لم يضيق عليه ولم يقسر خلقه على الإقامة في بلد واحد بل وسع عليهم بالنقلة وجعلهم بالخيار، فأي قرية أراد الإقامة فيها لأمر دينه ودنياه أيضا فله ذلك وجاء في الخبر عن سيد البشر أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة.
فعلى العاقل البصير المتفكر أن لا يصغي لوساوس الشيطان من تخويفه بضيق العيش قال تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) الآية ١٠٠ من سورة النساء في ج ٣، ولهذا البحث صلة واسعة في تفسيرها وفي الآية ٥٥ من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله القائل
«قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ١١» وحده لا لغيره ولا تكرار في هذه الآية لأن الأولى خطاب من الله إلى رسوله، وهذه أمر من الله إليه بأن يفهم قومه غاية عبادته وأن يقول لهم أمرت بالإخلاص لعبادته فأخلصوا أنتم العبادة إليه «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ١٢» من هذه الأمة كما كان جدي إبراهيم عليه السلام راجع الآية ١٦٣ من سورة الأنعام المارة والآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣، فاتبعوني وأسلموا لله تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة، «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» في هذه الدنيا بعدم تبليغكم ما أمرني به «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٣» وهو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا،
529
وقدمنا في الآية ١٥ من سورة الأنعام نظير هذه الآية وانها نزلت حين قال كفار قريش لحضرة الرسول ما حملك على ما أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها ليجتمع عليك فخذك وعشيرتك ومن والاهم فأنزل الله هذه الآية وفيها مزدجر عظيم لمن ألقى السمع لمعناها وكان له قلب يعي مغزاها لأنه صلّى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته وعلو مقامه ومنصبه خائف حذر من هول ذلك اليوم ووجل مما يكون فيه فكيف بنا يا ويلنا إن لم يرحمنا الله، ثم أكد عليه ربه بقوله «قُلِ» لقومك الذين يريدونك على دينهم الباطل لا أتبع أهواءكم وإنما أعبد «الله مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ١٤» لا أرغب في عبادة شيء غيره وإن ما يعبده آبائي وقومي باطل وإنكم على ضلال باتباعهم، أخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه صلّى الله عليه وسلم يخص الله وحده بعبادته ويخلص لجلاله دينه، وفي الآية الأولى أي الثانية بالنسبة للآية التي بصدر هذه السورة أنه مأمور بالعبادة والإخلاص لله تعالى فلا تكرار أيضا لأن الكلام أولا واقع في نفس الفعل وإتيانه، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله، ولهذا رتب عليه قوله جل قوله «فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» ففيه الخسار العظيم والوبال الشديد عليكم، وهذه الجملة فيها تهديد ووعيد وليست من باب الأمر بل من باب التبليغ والزجر يدل عليه قوله عز قوله «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فهولاء الكاملون في الخسران الجامعون لوجوهه وأسبابه باختيارهم الكفر ورضاهم به وقد وصف الله تعالى خسرانهم بغاية الفظاعة بقوله سبحانه تنبيها لاجتنابه «أَلا ذلِكَ» الخسران المزدوج «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ١٥» لأن أهله استبدلوا الجنة بالنار والدرجات بالدركات في الآخرة كما استبدلوا الطاعة بالعصيان والتصديق بالجحود في الدنيا ثم بين نوعا من هذا الخسران فقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ» أطباق وأعطية «مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فراش ومهاد، وهذا من باب اطلاق اسم الضدين على الآخر لأن الظلل لا تكون من تحت بحال من الأحوال لمعلوميتها كما تقول (خرق الثوب المسمار) برفع الثوب ونصب المسمار لمعلوميته أيضا إذ لا يكون الثوب خارقا للمسمار بحال ما البتة.
530
مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن:
«ذلِكَ» العذاب الشديد «يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتخويف، فإذا سمعوا ما نعى الله من حال الكفار في الآخرة الذين رجحوا الباطل على الحق وأهلكوا أنفسهم وأهليهم الذين اتبعوهم على ما هم عليه اشتدّ وجلهم وأكثروا من إخلاصهم لربهم وبالغوا في توحيده وداوموا على طاعته وأكثروا من تمجيده، ولهذا فإنه تعالى قد شرفهم بإضافتهم لذاته المقدسة فناداهم حرصا عليهم «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ١٦» واجعلوا خشيتي نصب أعينكم ولا تتعرضوا إلى سخطي فقد حذرهم نفسه بعد أن خوفهم ناره التي وعدها لعصاته، وقال بعض المفسرين إن التخويف خاص بالكافرين طلبا للإيمان به، ولكن ما جرينا عليه أولى لئلا يختلف المراد من الجملة الثانية عن الأولى إذ لا شك أن المراد بالثانية المصدرية (يا عِبادِ) المؤمنين خاصة كالآية الأولى ونظيرها الآية ٤١ من سورة الأعراف في ج ١، وقال بعض المفسرين: المراد بالآية المؤمنون والكافرون، وهو وجيه لولا إضافة التشريف والاختصاص لجنابه المنيع، وهناك قول بأن الإضافة لا تختصّ بالمؤمنين فقط وإن كان فيها ما فيها من التشريف الذي يختص به المؤمنون غالبا لأن الكل عباده وقد استدل صاحب هذا القول بقوله تعالى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الآية ٥ من سورة الإسراء في ج ١، وهم ليسوا بمؤمنين وقد بينا المراد بها فراجعها، قال تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها» تباعدوا عن عبادتها لأن أن وما بعدها في تأويل المصدر والطاغوت مبالغة الطغيان راجع الآية ٧٤ من الأنعام المارة، فتجافوا عنها «وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» رجعوا بكليتهم إليه وتركوا تقليد آبائهم بعبادتها عن رغبة وإخلاص فهؤلاء «لَهُمُ الْبُشْرى» من قبل رسلهم بالجنة عن إيمانهم ومن قبل المؤمنين بالثناء عليهم بالأعمال الصالحة في الدنيا وتبشرهم الملائكة بثوابها عند موتهم فتقرّ أعينهم وفي قبورهم أيضا تبشرهم بالأمن من عذابها وفي الموقف عند بعثهم تتلقاهم بالبشارة بالخلاص من هوله وفزعه وبعد الحساب تبشرهم بالفوز والنجاة وعند الصراط تبشرهم بالسلامة وعند دخول الجنة تبشرهم بالدرجات العالية، اللهم اجعلنا منهم. ثم خاطب حبيبه بقوله يا سيد
531
الرسل «فَبَشِّرْ عِبادِ ١٧» ثم خصّهم بقوله «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» مطلق عام في كل قول ولا وجه لتخصيصه بالقرآن العظيم كما ذكره بعض المفسرين بلا دليل يستند إليه «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» مدحهم الله جلّ مدحه لتمييزهم بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم ما هو واجب فعله وما هو مندوب اختاروا الواجب، وإذا اعترضهم مكروه ومباح اختاروا المباح، وكذلك يختارون ما هو أكثر ثوابا، فيتركون الانتقام لأنفسهم ممن ظلمهم مع القدرة عليه ويركنون للعفو عمن تعدى عليهم مطلقا، ويختارون العفو على القصاص، ويميلون إلى التصدق بالفضل عن الصدقة المفروضة، وهكذا يميلون إلى الأحسن عند الله ولو فيه هضم حقهم. وليعلم أن ما أمر الله به ورسله كله حسن وقد يكون فيه أحسن بحسب التفاضل بالعمل به من حيث كثرة الثواب وإذلال النفس كما في العفو عن القصاص والتصدق بالفضل وتكرار الحج والإكثار من صلاة النّفل وذكر الله والأخذ بالعزيمة وترك الرخص وما أشبه ذلك راجع الآية ١٤٥ من سورة الأعراف في ج ١ تجد ما يتعلق في هذا، وما هو موافق لشرعنا من الشرائع القديمة، وما هو مخالف له، وله صلة في الآية ٤٢ من سورة الشورى الآتية وفي الآية ٥٥ من هذه السورة أيضا. هذا، وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما من أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد حينما جاءوا على أبي بكر رضي الله عنهم جميعا وأخبرهم بإيمانه وآمنوا كلهم لا يخصصها فيهم بل هي عامة في كل محتسب تائب نائب إلى ربه. واعلم أن هؤلاء السبعة والسادة عمر وعلي وعامر بن الجراح هم العشرة المبشرون بالجنة الفائزون بخير الدنيا والآخرة، وقد سألت الله أن يحشرني مع سعد بن أبي وقاص عند تفسير الآية ١٤ من سورة لقمان المارة والآن أوكد رجائي من ربي بذلك «أُولئِكَ» الموصوفون هم «الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ» إلى طريقه المستقيم فوحدوه وعبدوه ومجدوه كما ينبغي لذاته المقدسة «وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ١٨» القلوب الواعية المنتفعون بعقولهم، قال تعالى «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» بنص قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية ١٢٠ من سورة هود المارة وقوله في الحديث
القدسي:
532
(هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ممن اختاروا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى فاستحقوه، أيقدر أحد أن ينجيهم منه كلا «أَفَأَنْتَ» يا حبيبي تقدر «تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ١٩» كلا لا تستطيع ذلك البتة لدخولهم في حكمه الأزلي ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، قال ابن عباس يريد به أبا لهب ولكن الآية عامة كما ترى يدخل فيها كل من حقت عليه كلمة العذاب من جميع الكفار لأنها مسوقة في أضداد الموصوفين بالآية المتقدمة التي حكمها عام أيضا، قال تعالى «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ» هذا استدراك بين ما ليشبه النقيضين والضدّين وهم المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالمتقين هنا الموصوفون بتلك الخصال العالية والأخلاق السامية «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ» جمع غرفة وهي العلّية «مَبْنِيَّةٌ» بعضها فوق بعض «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام الزينة وكمال النظارة لا لحاجة الشرب لأن أهل الجنة لا يكلفون السقيا منها فإذا أرادوا الشرب ناولهم الخدم ما يشتهون من أنواع الأشربة، وهذا الذي ذكر من الإكرام للمتقين هو «وَعْدَ اللَّهِ» لهم بذلك على لسان رسلهم وعدا مؤكدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ٢٠» الذي وعده عباده وحاشاه من ذلك وهو الآمر عباده بإنجازه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من الغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» بحسب ما نرى راجع الآية ٤٤ من سورة هود المارة «فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ» أنهارا وعيونا وجداول وبركانا تخرج من عروق الجبال والأرض كعروق الجسد في الحيوان التي تجري فيها الدماء «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ» بالماء النازل على وجه الأرض أو بالمستقر بالبرك والعيون والجاري في الجداول والأنهار إذا سقى به الأرض بالدلاء والنواعير والآلات الحديدية والسيح وغيره «زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر وما بين ذلك من الألوان، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أخر
533
لأن أصل الألوان أربعة: أبيض وأسود وأحمر وأخضر، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضر وهكذا «ثُمَّ يَهِيجُ» يثور والمراد بالهيجان هنا والله أعلم أن يجف وييبس وهذا من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا تم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته وانه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع الله فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شيء «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» هشيما مفتتا بعد ما كان يهتزّ بالأرض الرابية به المزدهرة بنوّاره «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنزال والإدخال والإخراج والإنبات والألوان والجفاف والتفتيت «لَذِكْرى» عظيمة وعبرة كبيرة وعظة جسيمة «لِأُولِي الْأَلْبابِ ٢١» المنتفعين بعقولهم المستدلين بها على كمال قدرة الإله العظيم وفي إعادة هذا الزرع بعد يبسه وفتاته دليل على البعث بعد الموت، قال تعالى «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فاهتدى به «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وبصيرة ويقين من أمره وهذا ليس كمن طبع الله على قلبه فقسى وضل والعياذ بالله فتاه في ظلمات الجهل «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» والقسوة جمود وصلابة في القلب ومما يزيدها كثافة الغفلة عن ذكر الله تعالى ومما يصقلها وينورها دوام ذكر الله، وإذا كانت النفس خبيثة الجوهر لا يزيدها سماع ذكر الله إلا كدورة لتراكم الرّين عليها وتلبد الصدأ، وإذا كانت طيبة الجوهر فذكر الله يصقلها ويرققها ويلينها لطهارتها ونظافتها وذلك كالشمس فإن حرارتها تعقد الماء ملحا وتلين الشمع الجامد وقد تذيبه بالنظر لجوهر كل وقابليته، هكذا ذكر الله وتلاوة كتابه إذا سمعها الكافر إزداد قلبه قساوة وجحودا وإذا سمعها المؤمن ازداد قلبه لينا ورقة وفناء في الله بحسب جوهر كل وقابليته، يؤيد هذا قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية ١١٤ فما بعدها من سورة التوبة في ج ٣ فراجعها «أُولئِكَ» قساة القلوب «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٢٢» لا خفاء عليه، إذ حقت عليهم كلمة العذاب، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الفريقين فيها، وما جاء أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبيّ بن خلف الزنديق أوفي حضرة الرسول الكامل وأبي جهل العاطل
534
أو في علي وحمزة وأبي لهب وولده لا يقيدها عن إطلاقها ولا يخصصها عن عمومها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيها من شرح الله قلبه للإسلام من المشار إليهم وغيرهم وقساة القلوب المذكورون وأضرابهم دخولا أوليا وتشمل كل من على شاكلة الفريقين المرضي عنهم وعليهم والمغضوب عليهم من ساعة نزولها إلى قيام الساعة، وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية ١٢٥ من سورة الأنعام المارة ففيها ما يشفي الغليل ويكفي النبيل، قال تعالى «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» هو القرآن لأنه فاق ما تقدمه من الكتب والصحف كلها فضلا عن الأحاديث النبوية من جهة اللفظ، لأنه أفصح وأجزل وأبلغ في كل كلام، ومن جهة المعنى لأنه منزه عن التناقض والاختلاف، ومن جهة المضمون لاشتماله على كل ما أنزل الله عن الأنبياء السالفين، ومن جهة الإعجاز لأن الله تعالى تحدى بسورة منه الإنس والجن ومن جهة الأخبار بالغيب لأنه أخبر عما وقع قبل نزوله وأشار لما يقع بعد، ولفظ الحديث في الآية كناية عن أنه كلام محدّث به لا بمعنى أنه مقابل للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام اللفظي لا لكلام الله الأزلي الخالي عن الصوت والحرف، لأن كلام الله قديم كذاقه
والكلام في هذا يجر إلى الكلام بخلق القرآن وعدمه وقد عقدت له مطلبا خاصا في المقدمة فراجعه. وقد يطلق لفظ الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت. ثم وصف قوله أحسن الحديث لكونه «كِتاباً مُتَشابِهاً» في وعظه وحكمته وإعجازه وآياته ليصدق بعضه بعضا وكونه «مَثانِيَ» يثنى بالتلاوة ويكرر فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والأمثال والأحكام «تَقْشَعِرُّ» ترجف وتضطرب وتتحرك «مِنْهُ» من سماعه والنظر إليه «جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» عند سماع آيات العذاب والوعيد والتهديد، والاقشعرار هو تقبض الجلد تقبضا شديدا عند عروض خوف شديد ودهوم أمر هائل بغتة فيقال اقشعر جلده وقف شعره وقلوبهم أيضا تقشعر بدليل قوله «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» عند سماع آيات الرحمة.
535
مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر:
روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اقشعر جلد المؤمن وفي رواية العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.
وروي عن عبد الله ابن عروة بن الزبير قال لجدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن أناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أنها استنكرت ما سمعته. وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا؟ قالوا إنه قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله فسقط، قال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط، يريد انتقادهم. وقال ما كان هذا صنيع أصحاب محمد قال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن من أوله إلى آخره (أي بحضوره على تلك الصفة) فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال عبد الله بن الزبير: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت لا تقعد معهم. ثم قالت رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله نعت أولياءه بالقشعريرة والبكاء واطمئنان القلب إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وإنما هو من الشيطان.
وقال ابن جبير الصعقة من الشيطان. واعلم أن هذه الأخبار وأمثالها تنعى على السادة الصوفية صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم بالأرض وأيديهم بعضها ببعض عند سماع القرآن وبأثناء الذكر والقصائد الإلهية والمحمدية وما هو منها في ذكر بعض الأكابر من العارفين، وعذرهم في ذلك حسبما تقوله مشايخهم لضعف القلب عن تحمل الوارد من معاني الآيات والأذكار وأوصاف الكاملين وما وقع منهم أو عليهم، فإن من يقع منه ذلك ليس في الكمال والمناقب كأصحاب رسول الله والتابعين في الصدر الأول لضعف قوة تحملهم، وهو دليل نقصهم عن مراتب الكمال، لأن
536
السالك لطريقهم إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك، ويقولون ليس في هذه الآية وشبهها أكثر من اثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي اعترائهم حالة أخرى، بل في الآيات إشعار بأن المذكور فيها حال الراسخين الكاملين لقوله تعالى (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية.
وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ومن حمل الأمر على غير الكاملين أجاز وقوعه من غيرهم ومتى ما كان الأمر ضروريا فلا اعتراض على من يتصف به وإنا نرى وقوع هذا كله من بعض المريدين لا منهم كلهم ولم نر هكذا أحوالا من مشايخهم بما يدل على أن الوصول لدرجة الكمال تحول دون ذلك أما ما يقع من بعض المتصوفة رياء وسمعة باختياره وقصده فذلك هو الذي تعوذت منه أسماء رضي الله عنها وقال فيهم قتادة وابن جبير وغيره ما قالوه آنفا، وقدمنا في الآية ٤٣ من سورة المزمل ج ١ ما يتعلق بها فراجعه، وله صلة في الآية ٣١ من سورة الرعد في ج ٣ وفي مراجعة هذا وذاك تعلم أن الصعق له أصل صحيح في الشرع فسلم له وإياك أن تعترض على هؤلاء السادة فإن لحومهم مسمومة والله تعالى ينتصر لهم لأنهم أولياؤه، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وإن الله جلت عظمته لم يطلب محاربة أحد من عباده عدا صنفين هؤلاء وأكلة الربى إذ يقول جل قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) الآية ٢٨٠ من سورة البقرة في ج ٣. هذا وقد يكون من هؤلاء السادة من لا ناصر له إلا الله وقد حذر حضرة الرسول من ظلم من لا ناصر له، وروي عنه أنه قال: اشتد غضب الله على من ظلم من لا يجد ناصرا غير الله، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختار وابن أبي عاصم والخرائطي في مساوئ الأخلاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين «ذلِكَ» الحديث الحسن هو «هُدَى اللَّهِ» وقرآنه المنزل على رسوله من اللوح المحفوظ وكلامه الأزلي «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» هدايته إلى دينه القويم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» من قساة القلوب «فَما لَهُ مِنْ هادٍ ٢٣» يهديه البتة، قال تعالى «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
537
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
بالأعمال الصالحة التي قدمها في دنياه كمن هو آمن منه كلا ليس سواء لأن غير المتقي ظالم وفي ذلك اليوم يهلك الظالمون بدليل قوله عز قوله «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ» من قبل خزنة جهنم «ذُوقُوا» هذا العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٢٤» في الدنيا من الآثام، قال تعالى يا أكمل الرسل لا تحزن على ما ترى من قومك فقد «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» رسلهم كما كذبوك هؤلاء «فَأَتاهُمُ الْعَذابُ» من عندنا بعد إصرارهم على الكفر بغتة «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» ٢٥ على حين غفلة وساعة غرة من حيث لا يخطر ببالهم وقوعه وفي حالة لا يتوخون بها حدوثه «فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ» الذل والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وأشد وأعظم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ٢٦» ذلك علما يقينا لآمنوا واعتبروا من قبلهم ولما عبدوا ما لا يعقل ولا يبصر ولأخلصوا عبادتهم للإله الواحد ولما مسهم السوء. قال تعالى «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» يحتاج إليه الناظر في أمور الدنيا والدين «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧» ولم يتذكروا لأنهم لم يشغلوا حواسهم فيما خلقت لها فطمس الله عليها وحرمهم فوائدها وجعل هذا القرآن «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف وأنزله على خير رجل منهم ومن جنسهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨» الكفر والتكذيب وقدم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية لأن الإنسان إذا تذكر وعرف الشيء ووقف على فحواه اتقاه واحترز منه واجتنبه، قال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) متنازعون بخدمته يتجاذبونه بينهم لسوء أخلاقهم وقلة آدابهم (والشّكس السيء الخلق) «وَرَجُلًا» عبدا مملوكا أيضا «سَلَماً لِرَجُلٍ» خاصا له وحده «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» أي لا يستويان في الصفة والحالة، لأن الاستفهام هنا إنكاري لا يجاب إلا بالنفي «الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ٢٩» أن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة متعددة فلا يعلم أيهم يرضى منه وأيهم يسخط والمؤمن الذي يعبد الله وحده فهو على بينة من أمره. وليعلم أن إيراد المثل في
538
القرآن هو للتذكر والاتعاظ به والمراد بضربه لتطبيق حالة عجيبة بأخرى شبهها وجعلها مثلها، وعليه يكون المعنى أن الله تعالى يقول لرسوله اضرب لهم هذا المثل واسألهم أي هذين أحسن وأحمد «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ٣٠» نزلت هذه الآية في كفرة قومه صلّى الله عليه وسلم الذين كانوا يتربصون موته ليتخلصوا منه قاتلهم الله، كيف وهو إنما أرسل رحمة لهم وكان يجهد لنفسه ليخلصهم من عذاب الله؟
يقول الله تعالى له لا يتمنوا لك يا حبيبي الموت فكلهم ميت ولا شماتة في الموت لأنهم مثلك يموتون كما تموت ولا سواء لأنك تلاقي ربك في جنته وهم يلاقون العذاب بناره والميت بالتشديد والتخفيف من حل به الموت وأنشد أبو عمرو:
تسألني تفسير ميت وميّت فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
راجع الآية ٩ من سورة فاطر في ج ١ لتستوفي هذا البحث، قال تعالى
«ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس بركم وفاجركم «يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ٣١»
مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى:
لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان منا في الدنيا؟ قال نعم، فقال إن الأمر إذا لشديد. رواه عبد الله بن الزبير وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم حنين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا. وعن إبراهيم قال لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا.
وقال ابن عمر: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت بأنها فينا نزلت. وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:
من كانت عنده مظلمة لأخيه عن عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
539
قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنبت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. واعلم أن من الناس من يموت فيخلص الناس من شره، ومنهم من يموت فتبكيه الناس أجمع، فاحرص أيها العبد أن تكون الثاني. قال أبو الحسن الأسدي: مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان فلما حمل في النعش على أعناق الرجال حصل له صرير فقال رجل في الجنازة:
وليس صرير النعش ما تسمعونه ولكنه أعناق قوم تقصّف
وليس فنيق المك ما تجدونه ولكنه ذاك الثناء المخلّف
قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ» فأضاف له شريكا فجعل له بنين وبنات «وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ» الأمر الذي هو الصدق نفسه وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم الصادق المصدوق «إِذْ جاءَهُ» على لسان نبينا وأميننا من لدنا فانتبهوا يا قوم «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ٣٢» أمثال هؤلاء بلى فيها منازل كثيرة لهم أجارنا الله منهم ومنها «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» الوحي الحق من عندنا «وَصَدَّقَ بِهِ» آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن تبعه مؤمنا وهذا المراد من ضمير به كما هو المراد في قوله تعالى (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الآية ٥٤ من سورة البقرة في ج ٣ أي هو وقومه، وهذا التفسير أولى وأنسب بالمقام لأن الأوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وهو غير جائز في العربية ويستدعي أيضا إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر له وهذا بعيد أيضا في النصيح، وقال بعض المفسرين إن ضمير به يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه، وعليه يكون المعنى والذي جاء بالصدق يعني محمدا وصدق به يعني أبا بكر كما قال أبو العالية والكلبي وجماعة ويروونه عن علي عليه السلام وقال السدي وجماعة أيضا: إن ضمير به يعود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وضمير جاء إلى جبريل عليه السلام. وقال مجاهد وجماعة: إن ضمير به يعود إلى علي كرم الله وجهه وضمير
540
جاء إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إن ضمير جاء يعود إلى محمد وضمير به إلى المؤمنين. فهذه خمسة أقوال كل منها في المعنى صحيح لكن ما جرينا عليه هو الموافق لسياق الآية والله أعلم. «أُولئِكَ» محمد وأتباعه الذين اقتفوا أثره وماتوا على متابعته «هُمُ الْمُتَّقُونَ ٣٣» العريقون في التقوى، وجاءت هذه الجملة بالجمع مع أن ما قبلها مفرد باعتبار دخول الأتباع تبعا، ولا يخفى أن مراتب التقوى متفاوتة ولحضرة الرسول أعلاها وأوفاها ومن بعده أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الأرقاء يلال ثم الأمثل فالأمثل رضي الله عنهم أجمعين، أو أنّ الموصول واقع صفة لموصوف محذوف تقديره الفريق أو الفوج الذي جاء بالصدق وصدق به فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى، أو أن اللام في والذي للجنس فيشمل الرسل والمؤمنين اجمع، يؤيد هذا قراءة ابن مسعود (والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به) ولكنها قراءة شاذة، إذ لم يتابعه أحد من القراء عليها لما فيها من زيادة الواو، وما قيل إنه قد يستعاض عنها بإشباع الضمة يجوز لو كان الأصل مضموما أما والأصل جاء مفتوحا فلا، وما قيل إن النون محذوفة من الذي والأصل الذين واستشهدوا بقوله:
إن الذي جاءت يفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم مالك
قال أبو حبان ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من المثنى كان الضمير مثنى أيضا كما قال:
ابني كليب إن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
فلو فرض جواز حذف النون أيضا لا يصح كما علمت، وعليه فالأصح هو الذي جرينا عليه على ما هو في المصاحف وقراءة أبي صالح وعكرمة ابن سليمان، وصدق مخففّا أي جاء وصدق به الناس بأنه أداه إليهم كما جاءه، فالضمير والموصول فيها عائدان لحضرة الرسول كما ذكرنا أيضا، وهناك قراءة أخرى (وَصَدَّقَ) على البناء للمفعول مشدّد أي صدقه الناس به وهي أيضا تؤيد ما قلناه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا عبرة للقراءة المخالفة لما في المصاحف المدونة من لدن عثمان رضي الله عنه حتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله، فكل قراءة لا يوافق رسمها رسم ما في المصاحف
541
لا عبرة بها البتة أما ما كان موافقا بالحروف ومختلفا بالحركات مثل قراءة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية ٤٦ من سورة هود المارة و (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) الآية ١١ من سورة الحج ج ٣ على الفعلية فهما أو المصدرية في الأولى والفعلية في الثانية والحالية والصفة أيضا فلا بأس فيها «لَهُمْ» لهؤلاء الذين مر ذكرهم من الخير والكرامة «ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن العظيم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ٣٤» في أفعالهم وأقوالهم «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» في الدنيا «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ٣٥» في الآخرة ويتجاوز عن سيئاتهم. وليعلم أن إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفصيل كما تقول الأشبح أعدل بني أمية ويوسف أحسن أخوته. هذا ولما كثر تهديد المشركين لحضرة الرسول وتجاهروا له بالعداء وخاف أصحابه أن يبطشوا به، إذ لم يبق من أقاربه من يقف بأعينهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رحمها الله أنزل الله جل شأنه ما يثبت به قلوب أصحابه وينفي عنهم ذلك الرجل قوله عز قوله «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» محمدا عن الناس أجمع أعداءه وغيرهم وقادر على حفظه من أذاهم بلى وهو القادر على كل شيء، وقرىء عباده أي جميع الأنبياء كافة وذلك أن أقوامهم قصدوهم بالسوء أيضا فكفاهم الله شرهم وكافأهم بالحسنى، والقراءة هذه جائزة لما علمت أن المد والإشباع جائز، وهذا الاستفهام يجاب ببلى، لأن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على كلمة النفي أفادت الإثبات فيكون حكم الاستفهام فيها تقريريا كما هنا ولا يجاب إلا ببلى وإذا دخلت على الإثبات أفادت النفي، فيكون الاستفهام إنكاري ولا يجاب إلا بلا كما في قوله تعالى (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) الآية ١٠ من سورة إبراهيم الآتية، ومما يدل على أن الضمير في عبده يعود لحضرة الرسول خاصة دون عباده الآخرين على القراءة الأخرى قوله جل قوله «وَيُخَوِّفُونَكَ» يا سيد الرسل «بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» أي الأوثان وذلك لقول الكفرة يا محمد إن لم تكف عن شتم آلهتنا أصابك الخبل والجنون بسببها ولقد ضلوا بقولهم هذا مع ضلالهم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ٢٦» يهديه ولا ينفعه الهدى لأنه مكبوب عند الله ضال من الأزل «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ» أبدا
542
لأنه ثابت في علم الله أنه مهتد ولا مبدل لما في علمه «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع «ذِي انْتِقامٍ ٣٧» من أعدائه ينتصف منهم لأوليائه، وهذا الاستفهام مثل الاستفهام السابق أي بلى هو كذلك، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يا سيد الرسل أي هؤلاء الذين يخوفونك بأوثانهم وقلت لهم «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لظهور الأدلة على ذلك ووضوح البراهين لما تقرر عقلا وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى واجب الوجود فإذا أجابوك ولا شك أنهم مجيبون بأن الذي خلقهن هو الله وإلا فأجبهم أنت بأنه هو الذي خلقهن وما فيهن فإنهم لا يعارضونك في ذلك «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من هذه الأوثان «إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ» فيسكتون خشية الكذب لأنه معيب في كل زمان عند كل ملة حتى ان قوم يونس عليه السلام كانوا يقتلون الكذاب، راجع الآية ٩٧ من سورته المارة، ثم قل لهم أيضا «أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ» فيسكتون أيضا لعلمهم أنها لا تكشف ضراء ولا تمسك رحمة ولا تفعل شيئا أبدا «قُلْ» بعد اعترافهم هذا لعجز آلهتهم عن فعل شيء من ذلك بدليل سكوتهم الذي هو بمثابة الإقرار «حَسْبِيَ اللَّهُ» هو كافيني منهم ومن أوثانكم وبالنصر والظفر عليكم
كما وعدني به، عليه وحده توكلت و «عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ٣٨» لا على غيره فقد خاب وخسر من توكل على غيره، ثم أشار إلى تهديدهم فقال «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي تتمكنون عليها من عدواني وتكذبي والمكانة بمعنى المكان واستعيرت عن العين للمعنى كما استعير هنا وحيث للزمان مع أنها للمكان «إِنِّي عامِلٌ» على مكانتي أيضا حذف من الثاني بدلالة الأول كما يحذف أحيانا من الأول بدلالة الثاني راجع الآية ٣٣ من سورة لقمان المارة وان عمله صلّى الله عليه وسلم هو دأبه على نصحهم وإرشادهم ليس إلا «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٣٩» غدا إذا لم تؤمنوا وتصدقوا «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في الدنيا «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ٤٠» في الآخرة لا يتحول عنه أبدا أنا أم أنتم وقد ختم هذه الآية بالوعيد الشديد كما بدأها بالتهديد بما خبىء لهم من العذاب الأليم وهي قريبة في المعنى من الآيتين ٥٤/ ٥٥ من سورة سبأ المارة وفيها ما فيها فراجعها.
543
مطلب الروح والنفس ومعنى التوفي والفرق بينه وبين النوم وان لكل واحد نفسين:
قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي لا أحق منه «فَمَنِ اهْتَدى» به فانما يهتدى «لنفسه» إذ يعود فائدة هداه لها «وَمَنْ ضَلَّ» شرد عن طريق هداه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ٤١» لتجبرهم على الهدى وتحفظهم من الضلال، وإنما الفاعل لذلك هو «الله الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الأرواح راجع الآية ٨٥ من سورة الإسراء في ج ١ تجد معنى النفس والروح وماهيتها وما يتعلق فيهما وهل هما شيء واحد أم لا بصورة مفصلة تكفيك عن كل مراجعة «حِينَ مَوْتِها» عند انقضاء آجالها «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» يتوفاها «فِي مَنامِها» لأن النوم موت خفيف، إذ يقطع الله تعالى تعلقها بالأبدان أي تعلق التصرف فيها عنها ظاهرا وقطع تعلقها بالأبدان بالموت عبارة عن قطع المتعلق بها ظاهرا وباطنا وإنما سمى كل منهما توفّيا لأنه بمعنى القبض فيهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الآية ٦٠ من سورة الأنعام المارة، إذ لا تميزون ولا تتصرفون فانتم والموتى سواسية من هذه الحيثية، راجع تفسير هذه الآية أيضا لتعرف الفرق بين الموت والنوم المبين في قوله عز قوله «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ» فلا يردها إلى أجسادها حتى يوم البعث «وَيُرْسِلُ الْأُخْرى» الناثمة التي لم يحن أجلها بعد فيبقها بالحياة متمتعة «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده حتى انقضائه «إِنَّ فِي ذلِكَ» القبض والإرسال من قبل الملك الفعال «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال قدرة الإله الواحد على البعث «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٤٢» بمعناها ويعقلون مغزاها. واعلم أن لكل إنسان نفسين نفس بها الحياة تفارقه عند الموت فتزول الحياة بزوالها، ونفس بها التمييز تفارقه عند النوم ويبقى معها التنفس في الجسد فقط دون تصرف أو تمييز. فيعلم من هذا أن هناك نفسا وروحا فتخرج النفس عند النوم وتبقى الروح ويخرجان معا عند الموت، ومن قال إن الروح هي التي تخرج عند النوم والنفس هي الباقية في الجسد مع شعاع الروح وبها يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت إلى جسدها بأسرع من لحظة، استدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
544
إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وقد أوضحنا هذا البحث بصورة مسهبة في تفسير الآية ٨٥ من الإسراء في ج ١ فراجعها أي ما يتعلق بالرؤيا فعليك بمراجعة الآية ٥ من سورة يوسف المارة ففيها ما ترشدك إلى ما تريد ويكفيك عن غيره، قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ» بلا إذن منه ولا سلطان لهم به عليه «شُفَعاءَ» يشفعون لهم عندنا بزعمهم، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الجهلة أتتخذونها شفعاء بادى الرأي «أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً» من أمرها ولا من غيرها «وَلا يَعْقِلُونَ ٤٣» ماهيتها كما لا يعلمون عبادتكم لهم ولا يفقهونها أتتخذونها عبثا وجهلا «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء الضلال إن هذه الأوثان لا يصلحون للشفاعة لعدم علمهم بها وإن الشفاعة الحقيقية المرجو نفعها هي «لِلَّهِ» وحده لا يملكها أحد دونه ولا يقوم بها أحد إلا بإذنه وإلا لمن يرضاه الله فتكون «الشَّفاعَةُ» كلها «جَمِيعاً» له وحده كذلك «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده لا يشاركه فيهما أحد ولا يرزق من فيهما غيره وإن ما يملكه الناس من أجزاء الأرض فهو استعارة لأجل مسمى عنده «ثُمَّ إِلَيْهِ» أيها الناس كلكم وما تملكون «تُرْجَعُونَ ٤٤» في الآخرة ثم بين تعالى بيانه سفه لكفرة بقوله جل قوله «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ» نفرت واستكبرت وانقبضت وأنفت «قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» كأبي جهل والوليد بن المغيرة وصفوان وأبيّ وأضرابهم لأن الآية عامة واكفهرّت غمّا وغيظا فظهر على أديم وجوههم غبرة وقترة وعلى عيونهم ظلمة من عظيم انقباض أرواحهم. وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الآية ٤٦ من الإسراء في ج ١ فراجعها «وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» كاللات والعزى وغيرهما من الأوثان «إِذا هُمْ» أي أولئك المشمئزين «يَسْتَبْشِرُونَ ٤٥» فرحا لافتتانهم بها فتنبسط وجوههم وتتهلل ويعلوها البشر لكثير ما ملئت قلوبهم من السرور والابتهاج بذكرها فيا حبيبي «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وصف
545
نفسه جلت
وعلت بكمال القدرة ثم نعتها بكمال العلم فقال «عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» السر والعلانية «أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ» المؤمنين والكافرين «فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٤٦» من أمر دينك وتوحيدك. يفيد هذا الأمر الإلهي العظيم جنوح حضرة الرسول إلى الدعاء والالتجاء إليه تعالى مما قاساه من نصب قومه في دعوتهم له وما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد وبيان حالهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة، وفيه تسلية له ومعلومية جهده وجده وبذل وسعه وسعيه عند ربه وتعليم لعباده كلهم بالالتجاء إليه فيما يهمهم وما لا يهمهم، ودعاؤه بأسمائه الحسنى، لأن أسماءه تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته بغيرها راجع الآية ٨ من سورة طه في ج ١ تجد ما سمى الله به نفسه ورسوله منها. سئل الربيع بن خيثم عن قتل الحسين رضي الله عنه فتأوه وتلا هذه الآية، وعليه فإذا ذكر لك أيها القارئ شيء مما جرى بين الأصحاب رضوان الله عليهم، فاقرأ هذه الآية فإنها من الآداب التي ينبغي أن تحفظ. روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل؟ قالت:
كان إذا قام الليل افتتح صلاته قال: اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من منقول وغيره «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» وطلب منهم به فداء أنفسهم من عذاب الله «لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا من ضرب المحال حيث لا يقبل الفداء، ويستحيل أن يكون لهم شيء من الأرض باستحالة وجود مثله لأن أحدا يوم القيامة لا يملك مثقال ذرة وإنما هذا من قبيل زيادة التحسر والتأسف والندم والأسى لما يشاهدونه من الأهوال المحيطة بهم المشار إليها بقوله الفصل «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» العالم بخفايا الأمور أشياء «ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ٤٧» بها ولا يظنونها ولا تخطر ببالهم أنه نازل بهم ولا يتوقعونه لأنه فوق التخمين والحسبان وحديث النفس. ونظير هذه الآية التي أوعد بها الكافرون ما وعد الله به المؤمنين هي قوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
546
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
الآية ١٧ من سورة السجدة الآتية، ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة ثواب أهل الجنة: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذا وبعد أن أظهر الله لهم أنواع العقاب عن سيئات لم يكونوا يتصورونها أنها مستحقة للعذاب أظهر لهم عقابا أشد عن سيئات يعلمونها فقال جل قوله «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» من الشرك به وتكذيب رسله وجحد ما جاؤهم به وبان لهم خيبة ظنهم بشفاعة الأوثان فذهلوا من فظاعته «وَحاقَ» أحاط «بِهِمْ» من كل جوانبهم سوء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٤٨» في الدنيا فيفعلونه ولا يلقون له بالا إلا السخرية والاستهزاء. قال تعالى «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من مرض وفقر وشدة «دَعانا» وحدنا لإزالته «ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا» بعد إجابة دعائه وإزاحة بلائه «قالَ» هذا جواب إذا ولذلك فلا يحسن الوقف على كلمة (مِنَّا) بل على «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» من الله بأني أهل له كما قال قارون قبله راجع الآية ٧٨ من سورة القصص في ج ١ وقد ذكر الضمير هنا في أوتيته مع أنه عائد للنعمة بالنظر للمعنى، أي شيئا أو قسما من الإنعام «بَلْ هِيَ» النعمة التي أوتيها مع كفره وعصيانه «فِتْنَةٌ» نقمة لا نعمة في الحقيقة بل هي استدراج وامتحان ليختبرك أيها الإنسان أتشكرها فتكون نعم حقيقية أو تكفرها فتكون نقمة بحتة، وما قرىء بل فتنة وفاقا لضمير أوتيته ليست بشيء، لما فيها من نقص كلمة هي، ولا يجوز نقص شيء من كتاب الله «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
٤٥»
أنها فتنة وبلاء ومحنة.
وجاء العطف بالفاء لأن قوله (فَإِذا مَسَّ) إلخ مسبب عن قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ) إلخ، وقد وقع أول هذه السورة مثله إلا أن العطف كان بالواو فيكون غير مسبب عما قبله كما هنا وهذه الآية عامة. وما جاء أن المراد بالإنسان هو حذيفة بن المغيرة فعلى فرض صحة نزولها فيه لا يقيدها لأن سبب النزول لا يكون سببا للقيد في الآيات العامة، قال تعالى إن هؤلاء الكفرة لم ينفردوا في هذه المقالة وإنما «قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل قارون وأضرابه «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ٥٠» من متاع الدنيا ولم يأخذوا معهم منه شيئا للآخرة البتة
«فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ
547
ما كَسَبُوا»
أي عقابه ووباله وخسف بهم وبأموالهم راجع الآية ٧٨ من سورة هود المارة من قصة قوم لوط «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ» قومك يا محمد الذين قالوا مقالتهم تلك «سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» أيضا إذا أصروا عليها ولم يتوبوا حتى ماتوا، فيحين الأجل المقدر لإنزال العذاب بهم مثلهم «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥١» لنا ولا يستطيعون الإفلات منا، فلا يفوتهم عذابنا، لأن قدرتنا غير عاجزة عنهم، ولا مهرب هناك. وهذه الآيات المدنيات الثلاث، قال تعالى «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بلى إنهم يعلمونه ولكن لا يعرفون حكمته «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والتقتير لآيات دالات على حكمتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢» بنا ويعون مرادنا وذلك أن الله تعالى يعطي من يشاء لا لكرامته وتقواه وعلمه، ويحرم من يشاء لا لإهانته وعصيانه وجهله، وقيل في المعنى.
كم من أديب فهيم عقله... مستكمل العلم مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله... ذلك تقدير العزيز العليم
فمن علم أن هذا التقسيم جاء من الله على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة علم فساد قول ابن الراوندي المار ذكره في الآية ٣٦ من سورة سبأ المارة وبطلان قول من قال إن السعد والنحس بسبب النجم الطالع عند ولادة الإنسان السعيد أو المشئوم، لأن الساعة التي ولد فيها السلطان والمثري ولد فيها أناس كثيرون فلم لم يساعدهم الحظ بمقتضى طالعهم كما صار لذينك، وقيل في المعنى:
فلا السعد يقضي به المشتري... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء... وقاضي القضاة تعالى وجل
قال تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بتغاليهم في المعاصي وإفراطهم في اللذات وتفريطهم بأمور الآخرة وإعراضهم عن ربهم «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» التي وعدها التائبين من عباده الراجعين إليه وغيرهم، فهي واسعة لأكثر ما تتصورونه ولا تضيق عما أنتم عليه وغيركم «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» بالعفو عنها عدا الشرك لورود النص باستثنائه، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
548
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)
الآيتين ٤٨/ ١١٦ من سورة النساء في ج ٣ «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ٥٣» بعباده يغفر ما كان منهم ويكشف ما يهمهم ويستر ما يشينهم صغرت هذه الذنوب أو كبرت فهي في جنب عفو الله لا شيء.
مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل الله وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنى والشرب وهنك الحرمات كلها فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا لما عملناه كفّارة فنزلت الآيات ٦٨ فما بعدها من سورة الفرقان المارة في ج ١، وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا، ونزلت هذه الآية المفسرة أيضا- أخرجه النسائي- وعنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام رغبة بنشر دين الله وشفقة على عباده مع أنه قاتل عمه وأعز الناس عليه يومئذ لشدة حرصه على إقامة هذا الدين جزاه الله عنا خيرا ووفق أمته لاتباعه، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟
فأنزل الله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية من سورة الفرقان أيضا، فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟ فأنزل الله آيتي النساء المذكورتين آنفا، فقال وحشي أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي أم لا؟ فأنزل الله هذه الآية المفسرة، فقال وحشي نعم فجاء وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه الحادثة أولى بأن تكون سببا للنزول لأنها مدنية والحادثة مدنية فتكون أليق بسبب النزول من تلك، وإن ما بعدها يجوز أن يكون سببا للنزول لأن الآية الواحدة قد تكون لحوادث كثيرة متوافقة، وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت في عياش ابن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا (الصرف التوبة والنافلة والعدل الفدية والفريضة) قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب
549
بيده وبعث بها إلى عياش ورفقائه فأسلموا جميعا وهاجروا، فقال ابن عمر كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) الآية ٣٤ من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا، فقلنا الكبائر والفواحش، قال لكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك، فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. - أخرجه الترمذي- والعنان بفتح العين ما بدا لك من السماء، واعنانها نواصيها، والقراب بضم القاف الملء أي بملء الأرض، والله أكرم وأكبر من ذلك، وقدمنا ما يخص هذا في الآية ١٦٠ من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية ٣١ من سورة الشورى الآتية فراجعها ففيها ما يثلج الصدر من عظيم فضل الله وكذلك الآية ٢٠ من سورة يوسف المارة أيضا والآية ٧٠ من سورة الفرقان والآية ٥ من سورة والضحى والآية ٨٤ من سورة الإسراء في ج ١ «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» إسلاما كاملا وانقادوا لأوامره انقيادا تاما وتباعدوا عن نواهيه تباعدا بعيدا وأخلصوا له التوبة إخلاصا صحيحا حال كونكم خاضعين خاشعين «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ٥٤» إذا حل بكم ومن ذا الذي ينصركم من الله أيها الناس كلا لا أحد، انتهت الآيات المدنيات. واعلم أن الآية الثانية منها عدا ٥٣ صرحت برجاء الرحمة من عشرة وجوه: ١ إن المذنب عبد والعبد محتاج لرحمة سيده وإفاضة إنعامه عليه، ٢ إنه أضافه إليه ومن يضفه لذاته الكريمة يؤمنه من عذابه، ٣ إن الإسراف الذي نسبه إليه ضرر وهو أكرم من أن يجمع ضررين على عبد، ٤ إنه لم ينهه عن القنوط إلا ليؤمله بالرجاء، ٥ أضاف الرحمة لأعظم أسمائه الحسنى
550
فتكون أعظم أنواعها لذلك العبد، ٦ إنه أضاف الغفران لذلك الاسم العظيم لتأكيد المبالغة في إيفاء الوعد بها، ٧ إنه أكد ذلك الغفران ليكون عاما مطلقا يشمل هذا العبد وغيره، ٨ إنه وصف ذاته بالرحيم مرة أخرى إشارة إلى تحصيل موجبات تلك الرحمة، ٩ إن هذين الوصفين يفيدان الحصر، والحصر يفيد الكمال ولا تكون الرحمة كاملة إلا إذا عمت، ١٠ إنه وصف نفسه فيها بالغفور وهو لفظ يدل على المبالغة بالمغفرة ولا تكون إلا إذا عمت أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة؟
قال لا، فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقرّبي وإلى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له. - لفظ البخاري- ولمسلم: فدلّ على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا هل له من توبة فقال لا فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل صالح فقال إنه قتل مئة نفس فهل من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي (يعني القرية التي جاء منها والقرية التي ذهب إليها) وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه، وفي رواية لم يعمل خيرا قط، وفي رواية لم يعمل حسنة قط، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح فو الله لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قط، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا
551
هو قائم، فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب، أو قال مخافتك يا رب، فغفر له بذلك. ولعل المجوس وبعض الهنود ومن نحا نحوهم الذين يحرقون موتاهم أخذوا ذلك من هذه القصة، لأن هذا الرجل الذي ذكره حضرة الرسول لم يكن من أهل زمانه بل ممن تقدم من الأمم، وقد بقوا على عادتهم تلك ولم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم فلم يتبعوها وبقوا على ما هم عليه حتى الآن، وقد استحسنها من لا خلاق لهم من الدين بحجة أنها أقطع لجراثيم الموتى من أن تنتقل ذراتهم إلى الأحياء، ولم يعلم أن في هذه إهانة للمؤمن، وقال صلّى الله عليه وسلم: كرامة الميت دفنه، وفي القبور مانع من انتشار الذرّات لأنها تحت الأرض بقامة وبسطة يد، وكيف يركن قلب المؤمن إلى حرق ميته وهو أعز الناس عليه، وفي دفنه ذكرى له على مر الأيام بالخير إن كان من أهل الخير فيعملون بعمله، وإن كان من أهل الشر فيجتنبون عمله، فيكون خيرا نشا عن شر. وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبه فيقول له اقتصر، فوجده يوما على ذنب، فقال اقتصر فقال خلّني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال والله لا يغفر لك الله، أو قال لا يدخلك الجنة، فقبض الله روحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادر؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته- أخرجه أبو داود. وقال زيد بن أسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال انطلقوا به إلى النّار، فيقول يا رب فأين صلاتي وصيامي، فيقول الله اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي. وعنه أيضا أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة الله ثم مات فقال أي رب مالي عندك؟ قال النار، قال يا رب فأين عبادتي واجتهادي؟
فقيل له إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
وقال مقاتل: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله عز وجل. وعليه فلا ينبغي للواعظ والخطيب
552
أن يقتصر على الوعيد ويترك الوعد لأنه ربما قنط الناس فيدخل فيما ذكر، قال صلّى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا. أي يسروا على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة، لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة، وبشروا بفضل الله وعظيم ثوابه، وسعة رحمته، وشمول عفوه، وجزيل عطائه ومغفرته، ولا تعسروا في كل الأوقات ولا تنفروا عباد الله بما تشددون عليهم من الزجر والوعيد فيقنطوا أو ييأسوا، فتتسببوا في إضلالهم «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ».
أمر الله عباده باتباع الأحسن بعد أن أمرهم بالتقوى ووعدهم بالمغفرة إعلاما بأنه تعالى يريد منهم ما هو أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالأحسن في الآية ١٨ المارة من هذه السورة وبينا فيها ما يراجع بذلك ففيه كفاية.
مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض:
ولا يخفى أن الأحسن يكون في الأوامر والإرشادات إلى خير الدارين والأحكام والحدود وإصلاح ذات البين لا في القصص والأخبار والعبر والأمثال بما وقع من الأقدمين، هذا من جهة، ومن أخرى فإن أحسن ما أنزل الله من الكتب السماوية وأجمعها وأفضلها هو هذا القرآن المجيد لقوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ٢٤ المارة، وعليه فيكون المنزل ثلاثة أصناف: ذكر جل شأنه في القرآن الأحسن يؤثر على غيره ويؤخذ به، والأدون منه لئلا يرغب فيه، والقبيح ليجتنب، ولهذا يجب على الخلق كافة اتباع ما في القرآن من الأحكام الحسن منها والأحسن، لأنه ناسخ لما تقدمه مما يخالفه منها، وعليه فإن الخطاب في هذه الآية عام لكل الأمة، لأنه أنزل للأمة أجمع، وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بدعوة من على وجه الأرض كلهم، فمن أجاب فهو من أمة الإجابة، ومن أبي فهو من أمة الدعوة، فهلموا عباد الله لإجابة دعوة ربكم «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ٥٥» بأن يفاجئكم على حين غرة وأنتم غافلون فتعتذرون ولا يقبل منكم، قال صلّى الله عليه وسلم:
إياكم وما يعتذر منه، وهو «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» حين ترى أهوال القيامة
553
وفظايع العذاب «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» أي حق الله وأمره وطاعته، وهذا مما يطلق عليه الجنب، قال القائل:
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
أي الجانب المؤدي لرضائه كالتقصير في الطاعات ومخالفة الأوامر والتفريط في حقوق الغير وفي كل ما يتعلق به حق الله تعالى وحق عباده وحيواناته لأن لكل حقا، قال ﷺ اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أي من الإماء والحيوان بأن تحمل فوق طاقتها أو تضرب بدون تقصير، وجاء في الخبر: يعاقب ضارب الحيوان بوجهه لا بوجهه إلا بوجهه حيث يضرب على النفار لا على العثار، لانه يكون غالبا من إهمال الراكب. قال تعالى حكاية عن هذه النفس المفرطة «وَإِنْ كُنْتُ» في الدنيا «لَمِنَ السَّاخِرِينَ ٥٦» بمن يحذرني هول هذا اليوم وينصحني عن التفريط في ضياع عمري سدى، وهذه الجملة ترددها كل نفس فرطت في دنياها ندما وحزنا وغما على ما فاتها من عمل صالح وقول مرشد وقبول إرشاد «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» للتقوى وقبول نصح الناصحين «لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ٥٧» الشرك ودواعيه في الدنيا ولم يحل بي العذاب الآن في الآخرة «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ» عند طرحها فيه بشدة وعنف وتذوق ألمه «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً» عودة إلى الدنيا «فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٥٨» فيها إلى نفسي وإلى الناس أجمع باتباع أوامر ربي وطاعة رسله وهكذا يتمنى هذه الأماني وغيرها، ولكن في غير وقتها والتمني رأسمال المفلس، لهذا فإن الله تعالى يرد تمنياته ولا يقبل أعذاره ويخاطبه أن الأمر ليس كذلك «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» في الدنيا وأرسلت إليك رسلي فطلبوا منك الانقياد لأوامري وسلوك سبل هدايتي وبلغوك كتي فأبت نفسك الخبيثة إلا عصياني وأعرضت «فَكَذَّبْتَ بِها» وبمن جاءك بها «وَاسْتَكْبَرْتَ» وأنفت عنها وتعاليت عليها واستهزأت بها عدا التكذيب والجحود «وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ٥٩» بها وبمن جاءك بها والآن جئت تتمنى الاماني الفارغة بقبول اعتذارك وجوابها أن يقال لك اخسأ ولا تتكلم، راجع الآية ١٠٨ من سورة المؤمنين الآتية ففيها بحث نفيس «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» يا سيد الرسل «تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
554
اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»
سوادا بشعا شنيعا لا يقاس بما تراه من تراه من سواد الدنيا فهو نوع مكروه قبيح منتن والعياذ بالله، والجملة من المبتدأ والخبر حال اكتفى فيها بالضمير عن الواو وعلى أن ترى فيها بصرية لا اعتقادية أما إذا كانت عرفانية قلبية فالجملة في محل نصب مفعول ثاني لها «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ٦٠» عن آياتي والإيمان برسلي وكتبي، بلى وجاهه فيها منازل شتى الواحد منها أشر من الآخر يأوي إليها أمثال هؤلاء
«وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ» بظفرهم وفلاحهم وبلوغهم المقصد الهنيء الأسنى، لأنهم قطعوا مفازات الجهل بميثاق الطاعات، والمفازة الطريق بالجبل وهي من الأضداد لأنه الطريق الوعر فإذا قطعه فاز بمقعده وبلغ الراحة «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» هو كل ما تستاء منه النفس وأعظمه عذاب النار وهو المراد هنا والله أعلم لمناسبة المقام إذ لكل مقام مقال «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٦١» على ما فاتهم في الدنيا لأنهم رأوا خيرا منها ولا يصيبهم أذى يؤدي إلى حزنهم ولا ينال قلوبهم غم يسبب حزنهم بل يكونون فرحين مسرورين بما آتاهم «اللَّهُ» ربهم من فضله العميم الواسع كيف لا وهو «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» مما هو كائن أو سيكون في الدنيا والآخرة من خير وشر وإيمان وكفر في خلقه لا بطريق الجبر بل بمباشرة المتصف بها والمتعرض لأسبابها، وفي هذه الآية ردّ صريح على المعتزلة ومن نحا نحوهم المنزهين الله عن خلق الشرور وإرادة الكفر، راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٤٠ من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ٦٢» فهو القائم بحفظ الأشياء كلها والمتصرف بها كيف يشاء بمقتضى الحكمة وفق ما هو سابق في علمه، فأمر كل شيء موكل إليه دون منازع أو معارض أو مشارك، وتدل هذه الجملة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها لو وقعت بخلقهم لكانت موكولة إليهم فلا حجة للمعتزلة أيضا فيها وهم القائلون بخلق أفعال العبد نفسه.
واعلم أن صدر هذه الأمة لم يختلف في أفعال وأعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فبين الله تعالى في هذه الآية أنها كلها من خلقه والشيء الوارد من الآية عام يدخل فيه كل ما يتقولون عنه «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتح خزائنها بيده جل جلاله وهما وما بينهما
555
وفوقهما وتحتهما ملك لعظمته يتصرف فيهما وبما فيهما كيفما يشاء ويختار. وكلمة مقاليد قيل إنها فارسية معربة من إقليد قال الراجز:
لم يوذها الديك بصوت تغريد ولم يعالج غلقها باقليد
والصحيح أنها عربية لتكلم العرب بها قبل نزول القرآن، وقدمنا ما يتعلق بجميع هذه الكلمات الموجودة في القرآن العظيم في الآية ١٨٢ من سورة الشعراء في ج ١ فراجعها، والمراد في المقاليد هنا والله أعلم ما ذكرناه من أنه لا يملك أمرهما ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، كما أنه لا يقدر على حفظهما وما فيهما غيره. هذا، وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي قدير. وجاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس مثله بزيادة كثيرة. وهناك خبر آخر عن ابن عمر بمعناه أيضا وأخبار أخر لم نعتمد صحتها، وعليه يكون المعنى أن لله تعالى هذه الكلمات يوحّد بها سبحانه ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ذلك الخير، ووجه إطلاق المقاليد على هذه الكلمات أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلّى الله عليه وسلم شيئا من الخير لمن يقولها في حديث ابن عباس وهي عشر خصال لمن قالها في اليوم مئة مرة ١ أن يحرس من إبليس وجنوده، ٢ أن يعطى قنطارا من الأجر ٣ أن يتزوج من الحور العين، ٤ أن تغفر ذنوبه، ٥ أن يكون مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، ٦ أن يحضر موته اثنا عشر ملكا يبشرونه بالجنة، ٧ ويزفونه من قبره إلى الموقف كما تزف العروس، ٨ أن يحفظ من هول الموقف، ٩ أن يعطى كتابه بيمينه ١٠ أن بمر على الصراط ويدخل الجنة. والحديث بتمامه بالدر المنثور والله تعالى على كل شيء قدير فيعطي لمن يشاء هذا الفضل على هذه الكلمات وأقل منها وبلا شيء أيضا إذا شاء وقد ألمعنا إلى مثل هذا في الآية ٥٩ من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية ١٩٨ من سورة
556
الشورى الآتية «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ٦٣» وهذه متصلة بما قبلها أي أنه تعالى ينجي المتقين ويهلك الكافرين ويجعل صفقتهم خاسرة (وجملة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) معترضة مشار فيها إلى أنه الذي لا يخفى عليه شيء لأنه الخالق لكل شيء الفاتح كل شيء «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ٦٤» بعد أن ظهر لكم الدليل القاطع والبرهان الساطع مما تقدم بأنه لا يستحق أحد العبادة غيره، وجاءت هذه الآية بمعرض الجواب للكفرة القائلين لحضرة الرسول أن يوافقهم على دين آبائهم وعبادة أوثانهم تبكيتا لهم كيف يدعونك يا سيد الرسل إلى هذا «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» الأنبياء إخوانك بأن يبلغوا كل فرد من أممهم فيقولون له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» شيئا مع ربك بالعبادة «لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» بسبب الشرك وكما أن الإيمان يجب ما قبله فالشرك يمحق ما قبله من الأعمال الصالحة، واللامان في لئن وليحبطن موطئتان للقسم كأنه جل قوله يقول اعلم أيها الرجل وعزتي وجلالي لئن أشركت ليحبطن عملك «وَلَتَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الْخاسِرِينَ ٦٥» لخيري الدنيا والآخرة.
مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية:
وإنما صح هذا الخطاب على ظاهره لحضرة الرسول ولمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع علمه بمعصوميتهم واستحالة الشرك عليهم، لأن المراد به غيره من أممهم على طريق ضرب المثل (إياك أعني واسمعي يا جاره) وعلى فرض المقصود به الأنبياء لأن الخطاب موجه إليهم خاصة فيكون لتبهيج حضراتهم وإقناط الكفرة والإيذان بشناعة الشرك وقبح الكفر وكونهما بحيث ينهى عنهما من لا يكاد يقربهما، وإذا كان ينهى عنهما من لا يتصور مباشرتها منهم فكيف بمن عداهم وهما على غاية من الذم ونهاية من الشؤم، وعلى القول بأن المراد أمم الأنبياء فتفيد هذه الآية التنبيه الشديد والوعيد الأكيد لمن يشرك بالله وتهدده بأن مصيره والعياذ بالله إلى الخسران الذي ما بعده خسران، وما استدل به صاحب المواقف على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء ولا وجه له، وقد أوضحنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية ٤٤ من سورة يوسف المارة وفي الآية ١٢٤
557
من سورة طه في ج ١ وأشرنا فيها إلى المواضع التي تكلمنا فيها على هذا من آيات القرآن العظيم، فراجعها ففيها كفاية. هذا وما ذكرناه من أنه على سبيل الفرض والتقدير بالنظر لظاهر الآية لأن احتمال الوقوع فرضا كاف في القضية الشرطية كما هنا.
وليعلم أن القضايا قسمان: حملية وهي ما ينحلّ طرفاها إلى مفردين كزيد كاتب أو ليس بكاتب، وشرطية وهي ما لا ينحل طرفاها إلى مفردين مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. ولكل منهما أقسام يرجع في معرفتها إلى علم المنطق.
وليعلم أيضا أن القضية والخبر والمطلوب والنتيجة والمسألة في الأصل شيء واحد ولكنها تختلف من حيث التسمية فقط، فإنها من حيث اشتمالها على الحكم تسمى قضية، ومن حيث اشتمالها على الصدق والكذب تسمى خبرا، ومن حيث كونها جزءا من الدليل تسمى مقدمة، ومن حيث كونها نتيجة تسمى علما، ومن حيث كونها يسأل عنا في العلم تسمى مسألة. قال صاحب التلويح: الذات واحدة واختلاف العبادات باختلاف الاعتبار، وقيل في المعنى:
عباراتهم شتى وحسنك واحد وكل إلى ذلك الجمال يشير
عود على بدء: إلا أنه ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع في المعصية على جميع الأنبياء شرعية كما ستقف عليه من مطالعة المواقع التي أرشدناك لمراجعتها أيها القارئ المنصف الكريم، وقد استدل السادة الحنفية من عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الشرك إلى الموت بأن الردة تحبط العمل الذي قبلها مطلقا وبوجوب قضاء الحج فقط لأن ثواب حجه قبل الردة أحبط بها أيضا، أما عدم قضاء الصلاة والصيام والزكاة مثلا فلم يوجبوه باعتباره دخل في الإسلام حديثا والدخول بالإسلام يكفر ما قبله من الآثام، فلو فرض أنه لم يصلّ ولم يزكّ قط كسائر الكفرة فإنه لا يكلف بشيء من ذلك، لأن الإيمان يجب ما قبله. وقال السادة الشافعية إن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتدّ على الكفر إلى الموت، وقالوا إن ترك التقييد هنا اعتماد على التصريح به في قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية ٢١٨ من سورة البقرة في ج ٣، وقالوا إن هذه الآية من حمل المطلق على المقيد. وقال بعض الحنفية في
558
الرد عليهم: إن في الآية المستدل بها توزيعا وكيفيته أن قوله تعالى (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ناظر إلى الارتداد في الدين، وقوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلخ ناظر إلى الموت على الكفر، وعليه فلا قيد فيها للآية التي نحن بصددها ليصح الاحتجاج بها متى حمل المطلق على المقيد، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاة سيد الأنام أو قبلها إلا أنه لم يره هل يسلب عنه اسم الصحبة أم لا؟ فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا، وهو ما عليه الحنفية، ومن ذهب إلى التقييد قال نعم، وهو ما عليه الشافعية. وليعلم أن هكذا خلافات وأمثالها بين الأئمة لا علاقة لها بأصول الدين المجمع عليها إذ لم يقع اختلاف ما قط في ذلك. أما ما يتعلق في الفروع فإن ما يقع من الاختلاف فيها عبارة عن اختلاف الرأي والاجتهاد، وهذا مما لا يخلو منه البشر في كل زمان ولا يضر بل يحصل من تصادم الأفكار وتحاكك الآراء فيه فوائد جلى ومنافع عظمى، لأنك إذا لم تقدح الزناد على الحصى لم تحصل النار «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٦٦» الدائبين على شكر النعم المتوالية عليك من ربك فيزيدك بها فضلا، قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عظموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته حين دعوك قومك يا محمد إلى عبادة آلهتهم وأشركوا بالإله الواحد ما لا يستحق العبادة وجعلوا له بنين وبنات وهو منزه عن ذلك كله وكيف يكون هذا «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بما فيها من جبال وأبحار وغيرها «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» بما فيها من كواكب وخلائق وغيرها «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٧» به من الأوثان، راجع الآية ٩١ من سورة الأنعام المارة تنبئك عما يتعلق في هذه الآية العظيمة المصورة لعظمة جلال الله والموقفة على كنه هيبته. والقبضة المرة الواحدة من القبض وهي المقدار المقبوض بالكف، مع العلم بأن هذه الآية مكية، وتلك التي بالأنعام مدنية. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وفي رواية يقول
559
أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله، لفظ مسلم. وللبخاري: إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك. ورويا عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يقبض الله الأرض
ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض. قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه بيمين وليس لها عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، ويصح أن يقال عقيدة: له جل شأنه يد لا كالأيدي ووجه لا كالأوجه وهكذا إجراؤها على حالها دون تأويل أو تفسير، وتنتهي بها إلى حيث انتهى بها كتاب الله والأخبار المأثوره الصحيحة في كل آية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها قبلا في مواقع كثيرة كالآية ١٥٨ من الأنعام المارة وغيرها ففيها ما تبتغي، ولهذا البحث صلة في الآية ١٠٥ من سورة الأنبياء الآتية.
مطلب ما هو النفخ في الصور ولماذا وفي الصعق ومن هم الشهداء:
قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» القرن الذي قدمنا بحثه في الآية ٧٣ من سورة الأنعام بصورة مفصلة فراجعها، والنافخ هو سيدنا إسرافيل عليه السلام «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» أي مات خوفا وجزعا من هول الصيحة الأولى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» راجع الآية ٨٧ من سورة النمل المارة في ج ١، تعلم المستثنيين من الموت عند النفخة الأولى. قال السيد محمد الهاشمي في شرحه شطرنج العارفين للشيخ محي الدين العربي قدس الله سره: إن المستثنين سبع ١ الجنة ٢ والنار ٣ والعرش ٤ والكرسي ٥ واللوح ٦ والقلم ٧ والأرواح، والله أعلم بذلك. وإذ كان بين النفختين مدة لا يعلم حقيقتها إلا الله جاء العطف في الآخرة
560
على الأول بما يدل على التراخي، وهو قوله تعالى «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ٦٨» ماذا يأمر الله فيهم بعد قيامهم من قبورهم، وقيل إن ما بين النفختين أربعون سنة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون، قالوا أربعون يوما؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت (وهذا ورع منه رضي الله عنه لأنه لم يسمع من الرسول ما يتذكره على الضبط هل هي ساعات أم أيام أو شهور أو سنون، ولم يتذكر إلا لفظ الأربعين، ولهذا لم يتجاسر على تمييزها، هذا أبو هريرة الذي يطعن في أحاديثه من لا خلاق له من التقوى، فإذا كان لا يستطيع أن يبين ماهية الأربعين في الحديث وهو عبارة عن اخبار لا علاقه لها في الأحكام والحدود، فكيف يتصور أن يقول شيئا لم يسمعه من حضرة الرسول فيما يتعلق فيها وكيف يظن به أن يتكلم بشيء لم يتحققه، ألا فلينتبه المتقولون وليتقوا الله في أصحاب رسوله ولا يظنوا بهم إلا الخير والصدق، وليحذروا أن ينسبوا إليهم غير ذلك، وقد سمعوا من نبيهم قوله: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من شيء إلا يبلى إلا عظم واحد هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة، وقدمنا ما يتعلق بعجب الذنب في الآية ٩٩ من سورة الإسراء ج ١ فراجعه.
قال تعالى «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» حين تجلى لفصل القضاء بين خلقه «وَوُضِعَ الْكِتابُ» الذي فيه صحائف أعمال الخلق ليحاسب كلا بمقتضي عمله وجيء باللوح المحفوظ لمقابلته بكتب الأعمال التي دونها الحفظة ليظهر للمنكرين أن كل شيء وقع من خلقه ثابت عنده في علمه ومدون في كتابه قبل وقوعه «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ» ليسألهم عن تبليغ رسالتهم وعما أجابهم به قومهم ويستشهدهم عليهم وهو أعلم بذلك كله، وإنما ليطلع عباده على ذلك وليعلموا أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا غير «وَالشُّهَداءِ» يؤتى بهم أيضا ليشهدوا عليهم وهو أعلم بما اقترفوه هذا إذا كان المراد بالشهداء الشهود، أما إذا أريد بهم شهداء الحرب الذين قتلوا في سبيل الله تعالى فيكون إحضارهم لإكرامهم وسرورهم بالفوز والنعيم الدائم،
561
وإذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم وسيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا، وإذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل، وإذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر الله ونواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم وأنتم بعدهم ولم تجتمعوا معهم؟ فيقولون من كتاب أنزله الله علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم وهو حق وصدق، ومن أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى، وان قوله وحي منك يوحى إليه، وقد علمنا أنه حق وأن رسالته صدق، ومما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى:
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية ١٤٣ من البقرة في ج ٣، ومثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣ أيضا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لكل ما يستحقه بموجب عمله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٦٩» شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء، ولا ينقص من حسنات المحسن وينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء ويضاعف للمحسن أضعافا كثيرة وهو جل عطفه لا يسأل عما يفعل «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها من خير أو شر «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ٧٠» قبل محاسبتهم وقبل الإطلاع على كتبهم والاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد، ولكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم، وليعلموا أن الله ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه، وأنه قضى عليهم ولهم بما يستوجبونه، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه وأسبابه وأدلته التي أدانته به ووجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل والحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه ويلومها ويبرأ الحاكم من الحيف والجور والخصومة، ولا يوقر بقلبه غلا عليه،
562
وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لماذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم الله تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم الله وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى» إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم الله، ولهذا يقول الله تعالى حكاية عنهم «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية ١١٩ من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ ٧١» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا بالله ورسله وما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها»
لا مخرج لكم منها البتة، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ٧٢» عن طاعة الله
563
ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف، راجع الآية ٥٠ من سورة ص في ج ١. ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما ونفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ ٧٣» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَقالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة، وجعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا الله إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ ٧٤» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة ونعيمها:
564
«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ» عليهم محيطين بهم ومحدقين صفوفا «مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» إلى حيث يشاء الله تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية وسكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض، قال تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية ١٨ من سورة الحاقة الآتية، وذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، راجع الآية ٤٨ من سورة إبراهيم الآتية، لأن أرضنا هذه لا تحويه وهي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة، وقال تعالى:
(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا) الآية ٢٢ من سورة والفجر المارة في ج ١، وقال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية ٣٨ من سورة النبأ الآتية وهؤلاء الملائكة ديدنهم «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك وهذا التسبيح والتحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند وترتيلاتهم في الدنيا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» من قبل الحق ووضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي «وَقِيلَ» والقائل والله أعلم المؤمنون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ٧٥» شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية، فالحمد الأول كان على انجاز وعده وإيراثهم الأرض، وهذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار، والأول فاصل بين الطرفين بالوعد والوعيد والرضى والسخط، والثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم إن الملائكة تحمد الله تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة. ويوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه والصافات والقلم وكورت. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة المؤمن عدد ١٠- ٦٠- ٤٠
(وتسمى سورة غافر) نزلت بمكة بعد سورة الزمر عدا آيتي ٥٦/ ٥٧ فإنهما نزلنا في المدينة، وهي خمس وثمانون آية، والف ومئة وتسعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وستون حرفا، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بما بدئت به، وهي هذه والسجدة والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
565
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
نعمت جزاء المؤمنين الجنة دار الأماني والمنى والمنة