مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية.
[تفسير سورة البروج]
سُورَةُ الْبُرُوجِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ. وَهِيَ ثَنَتَانِ وَعِشْرُونَ آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (٨٥): آيَةً ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١)
قسم أقسم الله به عز وجل. وَفِي الْبُرُوجِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا- ذَاتُ النُّجُومِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. الثَّانِي- الْقُصُورُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا. قَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ. مُجَاهِدٌ: الْبُرُوجُ فيها الحرس. الثالث- ذات الخلق الحسن، قال الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو. الرَّابِعُ: ذَاتُ الْمَنَازِلِ، قَالَهُ أبو عبيدة ويحيى ابن سَلَّامٍ. وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. يَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ برج منها يومين وثلت يَوْمٍ، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ثُمَّ يَسْتَسِرُّ
«١» لَيْلَتَيْنِ، وَتَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا شَهْرًا. وَهِيَ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْبُرُوجُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقُصُورُ، قَالَ اللَّهُ تعالى، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: ٧٨]. وقد تقدم
«٢».
[سورة البروج (٨٥): الآيات ٢ الى ٣]
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)
قوله تعالى: (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أَيِ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَهُوَ قَسَمٌ آخَرُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَعَدَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِيهِ. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) اخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَهُوَ قول الحسن.
283
وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ... ) خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ [حَسَنٌ
«١»] غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، وموسى ابن عُبَيْدَةَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فَيَوْمُ الْجُمْعَةِ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، فَكُلُّ يَوْمٍ شَاهِدٌ، وَكَذَا كُلُّ لَيْلَةٍ، وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا يُنَادَى فِيهِ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا فِيمَا تَعْمَلُ عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا أَشْهَدْ لَكَ به غد، فَإِنِّي لَوْ قَدْ مَضَيْتُ لَمْ تَرَنِي أَبَدًا، وَيَقُولُ اللَّيْلُ مِثْلَ ذَلِكَ (. حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ
«٢»، وَلَا أَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْأَضْحَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الشَّاهِدُ: التَّرْوِيَةُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ. وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الشَّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: الْمَشْهُودُ يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين ابن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لقول تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
«٣» [هود: ١٠٣].
284
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الشَّاهِدِ، فَقِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بَيَانُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
«١» [النساء: ٧٩]، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ
«٢» بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الانعام: ١٩]. وَقِيلَ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا والحسين ابن عَلِيٍّ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً
«٣» [النساء: ٤١]، وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
«٤» وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: ٤٥]. قُلْتُ: وَأَقْرَأُ أَنَا وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
«٥» [النساء: ٤١]. وقيل: أدم. وقيل: عيسى بن مَرْيَمَ، لِقَوْلِهِ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ
«٦» [المائدة: ١١٧]. وَالْمَشْهُودُ: أُمَّتُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الشَّاهِدُ الْإِنْسَانُ، دَلِيلُهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الاسراء: ١٤]. مُقَاتِلٌ: أَعْضَاؤُهُ، بَيَانُهُ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
«٧» [النور: ٢٤]. الحسين بن الفضل: الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ، بَيَانُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣]. وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: الْحَفَظَةُ، وَالْمَشْهُودُ: بَنُو آدَمَ. وَقِيلَ: اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قُلْتُ: وَقَدْ يَشْهَدُ الْمَالُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْأَرْضُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ- أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذْهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: ٤] قال: (أتدرون ما أخبارها)؟ قالوا: الله ورسوله أَعْلَمُ. قَالَ: (فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى
285
كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا (. قَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَقِيلَ: الشَّاهِدُ الْخَلْقُ، شَهِدُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَالْمَشْهُودُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمْعَةَ، كَمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ... ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ مَشْهُودٌ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ، وَتَنْزِلُ فِيهِ بِالرَّحْمَةِ
«١». وَكَذَا يَوْمُ النَّحْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطَّارُ: الشَّاهِدُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، يَشْهَدُ لِمَنْ لَمَسَهُ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَيَقِينٍ. وَالْمَشْهُودُ الْحَاجُّ. وَقِيلَ: الشَّاهِدُ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَشْهُودُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيَانُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: ٨١].
[سورة البروج (٨٥): الآيات ٤ الى ٧]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي لعن. قال ابن عباس: كل شي فِي الْقُرْآنِ قُتِلَ فَهُوَ لُعِنَ. وَهَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ- فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ- وَاللَّامُ فِيهِ مُضْمَرَةٌ، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: ١] ثم قال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩]: أَيْ لَقَدْ أَفْلَحَ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ قَامَ زَيْدٌ عَلَى مَعْنَى قَامَ زَيْدٌ وَاللَّهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: جَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَهَذَا قَبِيحٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا. وَقِيلَ: جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ لَتُبْعَثُنَّ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَالْأُخْدُودُ: الشِّقُّ العظيم
286
الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ كَالْخَنْدَقِ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ. وَمِنْهُ الْخَدُّ لِمَجَارِي الدُّمُوعِ، وَالْمِخَدَّةُ، لِأَنَّ الْخَدَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا. وَيُقَالُ: تَخَدَّدَ وَجْهُ الرَّجُلِ: إِذَا صَارَتْ فِيهِ أَخَادِيدُ مِنْ جِرَاحٍ. قَالَ طَرَفَةُ:
وَوَجْهٌ كَأَنَّ الشَّمْسَ حَلَّتْ رِدَاءَهَا | عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ |
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) النَّارِ بَدَلٌ من الْأُخْدُودِ بدل الاشتمال. والْوَقُودِ بِفَتْحِ الْوَاوِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْحَطَبُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ (بِضَمِّ الْوَاوِ) عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ ذَاتُ الِاتِّقَادِ وَالِالْتِهَابِ. وَقِيلَ: ذَاتُ الْوُقُودِ بِأَبْدَانِ النَّاسِ. وَقَرَأَ أَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ (النَّارُ ذَاتُ) بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، أَيْ أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ ذَاتُ الْوَقُودِ. (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أَيِ الَّذِينَ خَدَّدُوا الْأَخَادِيدَ وَقَعَدُوا عَلَيْهَا يُلْقُونَ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا بِنَجْرَانَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرُّوَاةُ فِي حَدِيثِهِمْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ، رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ م بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيَتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ. فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ. وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ. فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا
287
يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ؟ فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ. فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ رَبِّي. قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دل على الغلام، فجئ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ! أَقَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ؟! قَالَ: أَنَا لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتى دل على الراهب، فجئ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ به حتى وقع شقاه. ثم جئ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَسَقَطُوا. وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ
«١»، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا. وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ
«٢»، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ، فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ! آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ! آمَنَّا برب
288
الْغُلَامِ! فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ، تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السكك، فحدت، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا- أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ- فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ، لَهَا الْغُلَامُ: (يَا أُمَّهُ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَفِيهِ: (وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ، الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ) قَالَ مَعْمَرٌ: أَحْسَبُ أَنَّ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُسْلِمِينَ. وَفِيهِ: (أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي حَبَسَتِ النَّاسَ كَانَتْ أَسَدًا، وَأَنَّ الْغُلَامَ دُفِنَ- قَالَ- فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَنِ عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ (. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَلِكٌ بِنَجْرَانَ، وَفِي رَعِيَّتِهِ رَجُلٌ لَهُ فَتًى، فَبَعَثَهُ إِلَى سَاحِرٍ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكَانَ طَرِيقُ الْفَتَى عَلَى رَاهِبٍ يَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ، فَكَانَ يُعْجِبُهُ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الرَّاهِبِ، فَدَخَلَ فِي دِينِ الرَّاهِبِ، فَأَقْبَلَ يَوْمًا فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ قَطَعَتْ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ، فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ باسم الله رب السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَقَتَلَهَا. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا رَمَاهُ بِالسَّهْمِ وَقَتَلَهُ قَالَ أَهْلُ مَمْلَكَةِ الْمَلِكِ: لَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهُ
«١» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَامِرٍ، وَكَانَ اسْمَ الْغُلَامِ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ فَخُدَّتْ أَخَادِيدُ، وَجُمِعَ فِيهَا حَطَبٌ وَنَارٌ، وَعَرَضَ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَجَعَ عَنِ التَّوْحِيدِ تَرَكَهُ، وَمَنْ ثَبَتَ على دينه قذفه في النار. وجئ بِامْرَأَةٍ مُرْضِعٍ فَقِيلَ لَهَا ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ وَإِلَّا قَذَفْنَاكِ وَوَلَدَكِ- قَالَ- فَأَشْفَقَتْ وَهَمَّتْ بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ لَهَا الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ: يَا أُمِّي، اثْبُتِي عَلَى مَا أَنْتِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا هِيَ غُمَيْضَةٌ، فَأَلْقَوْهَا وَابْنَهَا. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّارَ ارْتَفَعَتْ مِنَ الْأُخْدُودِ فَصَارَتْ فَوْقَ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى كَانُوا بِالْيَمَنِ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربعين سنة، أخذهم يوسف ابن شَرَاحِيلَ بْنِ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَحَفَرَ لَهُمْ أُخْدُودًا وَأَحْرَقَهُمْ فِيهِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ من بني إسرائيل، أخذوا رجالا
289
وَنِسَاءً، فَخَدُّوا لَهُمُ الْأَخَادِيدَ، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهَا النَّارَ، ثُمَّ أُقِيمَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ لَهُمْ: تَكْفُرُونَ أَوْ تُقْذَفُونَ فِي النَّارِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ دانيال وأصحابه، وقاله عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مَلِكًا سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ شَرْعًا فِي رَعِيَّتِهِ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَ بِأَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- أَحَلَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَخُدَّ لَهُمُ الْأُخْدُودَ، وَيُلْقِيَ فِيهِ كُلَّ مَنْ عَصَاهُ. فَفَعَلَ. قَالَ: وَبَقَايَاهُمْ يَنْكِحُونَ الْأَخَوَاتِ وَهُمْ الْمَجُوسُ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ كَانَ سَبَبُهُمْ أَنَّ نَبِيًّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحَبَشَةِ، فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ، فَخَدَّ لَهُمْ قَوْمُهُمْ أخدودا، فمن اتبع النبي رمي فيها، فجئ بِامْرَأَةٍ لَهَا بُنَيٌّ رَضِيعٌ فَجَزِعَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ، امْضِي وَلَا تَجْزَعِي. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قَالَ: كَانُوا مِنْ قَوْمِكَ مِنْ السِّجِسْتَانِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ نَصَارَى نَجْرَانَ، أَخَذُوا بِهَا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ، فَخَدُّوا لَهُمْ سَبْعَةَ أَخَادِيدَ، طُولُ كُلِّ أُخْدُودٍ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. ثُمَّ طُرِحَ فِيهِ النِّفْطُ»
وَالْحَطَبُ، ثُمَّ عَرَضُوهُمْ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَبَى قَذَفُوهُ فِيهَا. وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى كَانُوا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ثَلَاثَةٌ، وَاحِدٌ بِنَجْرَانَ، وَالْآخَرُ بِالشَّامِ، وَالْآخَرُ بِفَارِسَ. أَمَّا الَّذِي بِالشَّامِّ فَأَنْطَنْيَانُوسُ الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّذِي بِفَارِسَ فَبُخْتُنَصَّرُ، وَالَّذِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ يُوسُفُ بْنُ ذِي نُوَاسٍ. فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ فِي الَّذِي بِفَارِسَ وَالشَّامِ قُرْآنًا، وَأَنْزَلَ قُرْآنًا فِي الَّذِي كَانَ بِنَجْرَانَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا بِتِهَامَةَ، وَالْآخَرُ بِنَجْرَانَ، أَجَّرَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ، فَرَأَتِ ابْنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ النُّورَ فِي قِرَاءَةِ الْإِنْجِيلِ، فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا فَأَسْلَمَ. وَبَلَغُوا سَبْعَةً وَثَمَانِينَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، بَعْدَ مَا رُفِعَ عِيسَى، فَخَدَّ لَهُمْ يُوسُفُ بْنُ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيُّ أُخْدُودًا، وَأَوْقَدَ فِيهِ النَّارَ، وَعَرَضَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَمَنْ أَبَى أَنْ يَكْفُرَ قَذَفَهُ فِي النَّارِ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِ عِيسَى لَمْ يُقْذَفْ. وَإِنَّ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدُهَا صَغِيرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّاهُ، إني أرى أمامك
290
نَارًا لَا تُطْفَأُ، فَقَذَفَا جَمِيعًا أَنْفُسَهُمَا فِي النَّارِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ وَابْنَهَا فِي الْجَنَّةِ. فَقُذِفَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ إِنْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَقَايَا أَهْلِ دِينِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُقَالُ لَهُ قِيمْيُونُ
«١»، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ سَائِحًا فِي الْقُرَى، لَا يُعْرَفُ بَقَرِيَّةٍ إِلَّا مَضَى عَنْهَا، وَكَانَ بَنَّاءً يَعْمَلُ الطِّينَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهَا قِيمْيُونُ، بَنَى بِهَا خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا السَّاحِرُ، فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يَبْعَثُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الثَّامِرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ، فَكَانَ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ أَمْرِ صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ الرَّاهِبُ يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ إياه وقال: يا ابن أَخِي، إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ، أَخْشَى ضَعْفَكَ عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو الثَّامِرِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ الرَّاهِبَ قَدْ بَخِلَ عَلَيْهِ بِتَعْلِيمِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، عَمَدَ إِلَى قِدَاحٍ
«٢» فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبْقِ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كَتَبَهُ فِي قِدْحٍ، لِكُلِّ اسْمٍ قِدْحٌ، حَتَّى إِذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ، فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لم يضره شي، فَأَخَذَهُ ثُمَّ قَامَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قد عَلِمَ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي كَتَمَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ. فَقَالَ لَهُ: يا ابن أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ، فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ. فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتُوَحِّدُ اللَّهَ وَتَدْخُلُ فِي دِينِي، فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكَ فَيُعَافِيكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعوا اللَّهَ لَهُ فَيَشْفَى، حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِنَجْرَانَ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ فَاتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ، حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلى ملكهم، فدعاه فقال له:
291
أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، فَلْأُمَثِّلَنَّ بِكَ. قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ، فَيُطْرَحُ عَنْ رَأْسِهِ، فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهِ نجران، بحار لا يلقى فيها شي إِلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: وَاللَّهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ وَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ وَقَتَلْتَنِي. فَوَحَّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَتَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ شَجَّةً صَغِيرَةً لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ، فقتله، وهلك الملك مكانه، واجتمع أهب نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وكان على ما جاء به عيسى بن مَرْيَمَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ. ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ الْيَهُودِيُّ بِجُنُودِهِ مِنْ حِمْيَرَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ لَهُمُ الْأُخْدُودَ، فَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَّلَ بِالسَّيْفِ، وَمَثَّلَ بِهِمْ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ سَبْعِينَ
«١» أَلْفًا. قَالَ وَهْبٌ: ثُمَّ لَمَّا غَلَبَ أَرِيَاطُ عَلَى الْيَمَنِ خَرَجَ ذُو نُوَاسٍ هَارِبًا، فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ بِفَرَسِهِ فَغَرِقَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذُو نُوَاسٍ هَذَا اسْمُهُ زُرْعَةُ بْنُ تُبَّانَ
«٢» أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ أَيْضًا يُسَمَّى يُوسُفَ، وَكَانَ لَهُ غَدَائِرُ مِنْ شَعْرٍ تَنُوسُ، أَيْ تَضْطَرِبُ، فَسُمِّيَ ذَا نُوَاسِ، وَكَانَ فَعَلَ هَذَا بِأَهْلِ نَجْرَانَ، فَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ دَوْسٌ ذُو ثَعْلَبَانِ، فَسَاقَ الْحَبَشَةَ لِيَنْتَصِرَ بِهِمْ، فَمَلَكُوا الْيَمَنَ وَهَلَكَ ذُو نُوَاسٍ فِي الْبَحْرِ، أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهِ، وَفِيهِ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبٍ:
أَتُوعِدُنِي كَأَنَّكَ ذُو رُعَيْنٍ | بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسِ |
وَكَائِنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نَعِيمٍ | وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النَّاسِ رَاسِ |
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ | عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِ |
أَزَالَ الدَّهْرُ مُلْكَهُمُ فَأَضْحَى | يُنَقَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أناس |
292
وَذُو رُعَيْنٍ: مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ. وَرُعَيْنٌ حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير ابن سَبَأٍ. مَسْأَلَةٌ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا كَانَ يَلْقَاهُ مَنْ وَحَّدَ قَبْلَهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ، يُؤْنِسُهُمْ بِذَلِكَ. وَذَكَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ الْغُلَامِ لِيَصْبِرُوا عَلَى مَا يُلَاقُونَ مِنَ الْأَذَى وَالْآلَامِ، وَالْمَشَقَّاتِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِيَتَأَسَّوْا بِمِثْلِ هَذَا الْغُلَامِ، فِي صَبْرِهِ وَتَصَلُّبِهِ فِي الْحَقِّ وَتَمَسُّكِهِ بِهِ، وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي حَقِّ إِظْهَارِ دَعْوَتِهِ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ وَعِظَمِ صَبْرِهِ. وَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ صَبَرَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ حَتَّى نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَمَّا آمَنُوا بِاللَّهِ تَعَالَى وَرَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، صَبَرُوا عَلَى الطَّرْحِ فِي النَّارِ وَلَمْ يَرْجِعُوا فِي دِينِهِمْ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النَّحْلِ"
«١». قُلْتُ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ عِنْدَنَا، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ لِمَنْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ وَصَلُبَ دِينُهُ أَوْلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
«٢» [لقمان: ١٧]: وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ): خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَى ابْنُ سِنْجَرٍ (مُحَمَّدُ بْنُ سِنْجَرٍ) عَنْ أُمَيْمَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كُنْتُ أُوَضِّئُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، قَالَ: أَوْصِنِي فَقَالَ: (لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ بِالنَّارِ.. ) الْحَدِيثَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَقَدِ امْتُحِنَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شي مِنْ ذَلِكَ وَيَكْفِيكَ قِصَّةُ عَاصِمٍ وَخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَمَا لَقُوا مِنَ الْحُرُوبِ وَالْمِحَنِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْحَرْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى فِي" النَّحْلِ" أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ مِمَّنْ قَوِيَ فِي ذَلِكَ، فتأمله هناك
«٣».
293
[سورة البروج (٨٥): الآيات ١٢ الى ١٦]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أَيْ أَخْذَهُ الْجَبَابِرَةَ وَالظَّلَمَةَ، كَقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: ١٠٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ
«١». قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ جَوَابُ الْقَسَمِ. الْمَعْنَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: إِنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ عَمَّا ذُكِرَ صِفَتُهُ بِالشِّدَّةِ. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ- وَيُعِيدُ) يَعْنِي الْخَلْقَ- عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ- يَخْلُقُهُمُ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ: عَجِبَ الْكُفَّارُ مِنْ إِحْيَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْأَمْوَاتَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُبْدِئُ لَهُمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُعِيدُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. (وَهُوَ الْغَفُورُ) أَيِ السَّتُورُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَفْضَحُهُمْ بِهَا. (الْوَدُودُ) أَيِ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَمَا يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ بِالْبُشْرَى وَالْمَحَبَّةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْوَدُودُ أَيِ الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْوَادُّ لِأَوْلِيَائِهِ، فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّحِيمُ، وَحَكَى الْمُبَرِّدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَّ الْوَدُودَ هُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ عُرْيَانَةً | ذَلُولَ الْجَنَاحِ لَقَاحًا وَدُودَا |
أَيْ لَا وَلَدَ لَهَا تَحِنُّ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّهُ يَغْفِرُ لِعِبَادِهِ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ أَجَلِهِ، لِيَكُونَ بِالْمَغْفِرَةِ مُتَفَضِّلًا مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ. وَقِيلَ: الْوَدُودُ بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ، كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، أَيْ يَوَدُّهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ وَيُحِبُّونَهُ. (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا" الْمَجِيدِ" بِالْخَفْضِ، نَعْتًا لِلْعَرْشِ. وَقِيلَ: لِ رَبِّكَ"، أَيْ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ الْمَجِيدِ لشديد،
لَكَ، كَدَأْبِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، لِأَنَّ ثَمُودَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَقِصَّتُهُمْ عِنْدَهُمْ مَشْهُورَةٌ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَأَمْرُ فِرْعَوْنَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْهَلَاكِ، فَدَلَّ بِهِمَا على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.
[سورة البروج (٨٥): الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أَيْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِفِرْعَوْنَ. وَالْمُحَاطُ بِهِ كَالْمَحْصُورِ. وَقِيلَ: أَيْ وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ فَهُوَ يُجَازِيهِمْ. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أَيْ مُتَنَاهٍ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ وَالْبَرَكَةِ، وَهُوَ بَيَانُ مَا بِالنَّاسِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَا كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ مَجِيدٌ: أَيْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أَيْ مَكْتُوبٍ فِي لَوْحٍ. وَهُوَ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، وَمِنْهُ انْتُسِخَ الْقُرْآنُ وَالْكُتُبُ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" اللَّوْحُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، أَعْلَاهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ وَأَسْفَلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ يُقَالُ لَهُ مَاطِرْيُونَ
«١»، كِتَابُهُ نُورٌ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، لَيْسَ مِنْهَا نَظْرَةٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، يَرْفَعُ وَضِيعًا، وَيَضَعُ رَفِيعًا، وَيُغْنِي فَقِيرًا، وَيُفْقِرُ غَنِيًّا، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ". وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي فِيهِ أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والأقضية النافذة فيهم ومآل عواقب أُمُورِهِمْ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أول شي كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ" إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مُحَمَّدٌ رَسُولِي، مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي، وَشَكَرَ نَعْمَائِي، كَتَبْتُهُ صِدِّيقًا وَبَعَثْتُهُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ، ومن لم يستسلم لقضائي
298
وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَشْكُرْ نَعْمَائِي، فَلْيَتَّخِذْ إِلَهًا سِوَايَ". وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى مُحَمَّدِ ابن الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَعَّدُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ:" بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، يُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَبْتَلِي وَيُفْرِحُ، وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فَلَعَلَّ نَظْرَةً مِنْهَا تَشْغَلُكَ بِنَفْسِكَ، فَتَشْتَغِلُ بِهَا وَلَا تَتَفَرَّغُ". وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اللَّوْحُ شي يلوح للملائكة فيقرءونه. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ وَأَبُو حَيْوَةَ (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) عَلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٌ) بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْقُرْآنِ، أَيْ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ مَحْفُوظٌ فِي لوح. الباقون (بالجر) نعتا للوح. وَالْقُرَّاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ مِنْ لَوْحٍ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، فَإِنَّهُ قَرَأَ (لُوحٍ) بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ إِنَّهُ يَلُوحُ، وَهُوَ ذُو نُورٍ وَعُلُوٍّ وَشَرَفٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّوْحُ الْهَوَاءُ، يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ. وَفِي الصِّحَاحِ: لَاحَ الشَّيْءُ يَلُوحُ لَوْحًا أَيْ لَمَحَ. وَلَاحَهُ السَّفَرُ: غيره. ولاح لوحا ولواحا: عطش، والتاج مِثْلُهُ. وَاللَّوْحُ: الْكَتِفُ، وَكُلُّ عَظْمٍ عَرِيضٍ. وَاللَّوْحُ: الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ. وَاللُّوحُ (بِالضَّمِّ): الْهَوَاءُ بَيْنَ السماء والأرض. والحمد لله.
تم بعون الله تعالى الجزء التاسع عَشَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء العشرون وأوله: سورة (الطارق)
299