تفسير سورة يوسف

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ الۤر ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ، قولهُ: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾؛ قِيْلَ: معناهُ: هذه الآياتُ الكتاب المبين، وَقِيْلَ: معناهُ: سورةُ يوسف آياتُ الكتاب على القول الذي يقولُ: إن ﴿ الۤر ﴾ اسمُ السورةِ. وقولهُ تعالى: ﴿ ٱلْمُبِينِ ﴾؛ لأنه يُبَيِّنُ الهدَى والرُّشدَ، وَقِيْلَ: البَيِّنُ حلاله وحرامهُ وحدوده وأحكامهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾؛ أي أنزَلنا القرآنَ على مجاري كلام العرب في مخاطباتِهم.
﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي لكي يُدرِكُوا معناهُ ويَفهَموا ما فيهِ، ولو نزلَ بغيرِ لغة العرب لم يعلموهُ.
قَوْلُهُ تعَالَى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾؛ أي نحن نُبَيِّنُ لكَ أحسنَ البيناتِ، والقاصُّ هو الذي يأتِي بالقصةِ على حقيقتِها. واختلفَ العلماءُ لِمَ سُميت بأحسَنِ القصصِ من بين الأقاصيص، فقيل: سماها أحسن القصص؛ لأنه ليس قصَّةٌ في القرآنِ تتضمَّنُ من العبرةِ والحِكَمِ والنكت ما يتضمَّنُ هذه القصة. وَقِيْلَ: سماعاً أحسنَ القصصِ لامتداد الأوقات في ما بين مبتدَأها إلى مُنتهاها. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَسِيرَاتِه وَإخْوَانِهِ أرْبََعُونَ سَنَةً). وَقِيْلَ: سَمَّاها أحسنَ القصصِ؛ لأنّ فيها ذِكرَ الأنبياءِ والملائكة والصالحين، والإنسِ والجنِّ والأنعام والطيرِ، والملك والمماليكِ والبحار، والعلماءِ والجهَّال، والرجال والنساءِ وحِيَلِهِنَّ ومَكرِهن، وفيها أيضاً ذكرُ التوحيدِ والفقه والسيَر، وتعبيرِ الرُّؤيا والسياسَة والمعاشَرة والتدبير والمعايش، فصارَتْ أحسنَ القصصِ لما فيها من المعانِي الجزيلةِ والفوائد الجليلةِ التي تصلُح للدنيا. وَقِيْلَ: أحسنُ القصصِ بمعنى أعجَب. وَقِيْلَ: أرادَ بأحسنِ القصص جميعَ القصصِ التي في القُرآن، فإنَّ اللهَ تعالى ذكرَ في القرآنِ أخبارَ الأُمم الماضية، وحالَ رسُلِهم عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ، وذكرَ جميعَ ما يحتاجُ العباد إليه إلى يومِ القيامة بأعذب لفظٍ في أحسنِ نَظْمٍ وترتيبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ أي أوحَينا إليك هذا القرآنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ ﴾؛ أي وقد كُنتَ من قبلِ نُزول جبريل عليكَ بالقرآنِ غَافِلاً عن قصَّة يوسُفَ وعن الحكمةِ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾؛ الآيةُ متَّصلةٌ بما قبلَها، فإنَّ معناهُ: نحن نقصُّ عليكَ أحسنَ القصص، إذ قالَ يوسفُ لأبيهِ. قرأ طلحة بن مصرف (يُوسِفُ) بكسرِ السين، ثم قرأ ابنُ عبَّاس (يَا أبَتَ) بفتح التاء في جميعِ القرآن، وأصلهُ على هذا يا أبَتَا، ثم حُذفت الألف، وأبقى فتحةً دلالةً عليها، قال رُؤبة: تَقُولُ بنْتِي قَدْ أنَى أنَاكَا   يَا أبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَاوقرأ الباقون (يَا أبَتِ) بالكسرة على الإضافةِ يقدِّرُها بعدَها، وَقِيْلَ: كُسرت؛ لأنَّها أُجريت مجرَى التأنيثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ قال المفسِّرون: رأى يوسفُ عليه السلام هَذِهِ الرُّؤيا وهو ابنُ اثنى عشرَ سنةً، قال ابنُ عبَّاس: (وذلِكَ أنَّهُ قَالَ لأَبيهِ: يَا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً نَزَلَتْ مِنْ أمَاكِنِهَا فَسَجَدَتْ لِي، وَرَأيْتُ ﴿ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾؛ نَزَلاَ مِنْ أمَاكِنِهمَا فَسَجَدَا لِي، وأرَادَ بذلِكَ سَجْدَةَ التَّحِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا يَقُومُ الْمَلاَئِكَةُ بالسُّجُودِ لآدَمَ عليه السلام). قال: (وَكَانَتِ الرُّؤْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ تَأْويلُ رُؤيَاهُ عِنْدَ يَعْقوبَ: أنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُوَ فِي حَالَتِهِ، وَأنَّ أُمَّ يُوسُفَ وَهِيَ رَاحِيلُ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ، وَأنَّ الأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً إخْوَةُ يُوسُفَ وَكَانُواْ أحَدَ عَشَرَ أخاً، وإنَّهُمْ كُلُّهُمْ سَيَخْضَعُونَ لِيُوسُفَ). وَإنَّمَا تَأَوَّلَهَا يَعْقُوبُ عَلَى ذلِكَ؛ لأنَّهُ لاَ شَيْءَ أضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَيَهْتَدِي بضَوْئِهِمَا أهْلُ الأَرْضِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ بَعْدَهُمَا أضْوَأُ مِنَ الْكَوَاكِب، فَدَلَّتْ رُؤْيَاهُ عَلَى أنَّ الَّذِي يَخْضَعُونَ لَهُ أئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ يَهْتَدِي النَّاسُ بهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾؛ ثانياً ليس بتكرارٍ؛ لأنه أرادَ بالرُّؤية الثانية رؤيةَ سُجودِهم له، وإنما حُملت الآية على الرؤيا لا على رؤيةِ العين؛ لأنا نعلمُ أن الكواكبَ لا تسجدُ حقيقةً للآدميِّين، ولهذا قال يعقوبُ: ﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ ﴾.
وعن ابنُ عبَّاس أنَّهُ قَالَ: (لَمَا قَصَّ يُوسُفُ رُؤْيَاهُ عَلَى أبيهِ نَهَرَهُ وَزَجَرَهُ لِئَلاَّ يَفْطَنَ إخْوَتُهُ، وَقَالَ لَهُ فِي السِّرِّ: إذا رَأيْتَ رُؤْيَا بَعْدَهَا لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسَدوهُ فأمرَهُ بالكتمان، وإنما كان قَصَّهَا على يعقوبَ فقط، وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية، أي لا تُخبرهُم بذلك لئَلاَّ يحمِلُهم الحسدُ إلى قصدِكَ بسوءٍ، ومن الخضوعِ له على إنزال التثريب عليه والاحتيالِ لهلاكه، والكَيْدُ: هو طلبُ الشرِّ بالإنسان على جهةِ الغَيْظِ عليه. اختُلِفَ فيما عناهُ فيه هذه اللامِ التي في قولهِ تعالى: ﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ قال بعضُهم: معناهُ: فيَكِيدُوكَ واللامُ صِلَةٌ كقولهِ تعالى:﴿ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾[الأعراف: ١٥٤]، وقال بعضُهم: هو مثلُ قولِهم: نصَحتُكَ ونَصحتُ لكَ وأشباههِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ أي إنَّ الشيطان عدوٌّ ظاهرُ العدوان لبني آدمَ، فلا تذكُرْ رؤياكَ لإخوتِكَ؛ لئلا يحملُهم الشيطان على الحسَدِ وإنزال الضُّرِّ بكَ. وهذا أصلٌ في جوازِ تركِ إظهار النِّعمة عند مَن يُخشى حسدهُ وكَيدهُ، وإنْ كان الله تعالى: قال:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[الضحى: ١١]، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" اسْتَعِينُواْ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بالْكِتْمَانِ، فَإنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾؛ أي مثلَ ما رأيتَ من سُجودِ الشمسِ والقمر والكواكب، كذلكَ يصطَفِيكَ ربُّكَ ويختارُكَ.
﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ قِيْلَ: معناهُ: من تأويلِ الرُّؤيا لأنَّ فيه أحاديثَ الناسِ عن رُؤياهم. وَقِيْلَ: معناهُ: أفْهَمَكَ عواقبَ الأمُورِ والحوادث. ويقالُ: يعلِّمُكَ الشرائعَ التي لا تُعْلَمُ إلا من قِبَلِ اللهِ تعالى. قَوْلُ تَعَالَى: ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾؛ أي يُتِمُّ نِعمَتَهُ عليك بالنبوَّة كما أتَمَّ النعمةَ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾؛ أي يُتِمَّ النعمةَ أيضاً على أولادِ يعقوبَ بكَ؛ لأن ذلك يكون سرَّ حالِهم؛ أي تكون النبوَّةُ فيهم.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، في أفعالهِ. وفي بعض التفاسيرِ: أنَّ يعقوب عليه السلام كان خطبَ إلى خالهِ ابْنَتَهُ راحيلَ على أن يخدمَهُ سبعَ سنين فأجابَهُ، فلما حلَّ الأجَلُ زوَّجَهُ ابنتَهُ الكبرى لاَيَا، فقالَ يعقوبُ لخالهِ: لَمْ يكن هذا على شَرطِي، قال: إنَّا لا نُنكِحُ الصغيرةَ قبلَ الكبيرةِ، فهَلُمَّ فَآخُذْ منِّي سبعَ سنين أُخرى وأزَوِّجُكَ راحيلَ، وكانوا يجمعون بين الأُختين، فرعَى يعقوبُ سبعَ سنين أُخرى وزوَّجه راحيل، ودفعَ لكلِّ واحدةٍ من ابنتيه أمَةً تخدمها فوهبتاهما ليعقوبَ عليه السلام فولَدت لاَيَا أربعةَ بَنين: روبيل وسَمعون ويهودَا ولاَوِي، ووَلَدت راحيل: يوسُفَ وبنيامين، وولدت الأَمَيَانِ: بنيامين وهابيل ودان ويسائيل وجادوان وآشير. فجملة بَنيهِ اثنا عشرَ ولداً سِوَى البنتينِ. فإن قالَ قائلٌ: إنْ كان يعقوبُ عَلِمَ أنَّ الله يجتبي يوسُفَ ويعَلِّمهُ مِن تأويلِ الأحاديث، فلِمَ إذاً قال:﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ ﴾[يوسف: ٥]؟ وكيفَ قالَ لَهم:﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٣] مع علمهِ أنَّ الله سيبعثهُ رَسُولاً؟والجوابُ: أنه عليه السلام كان عَالِماً من طريقِ القطعِ أنَّ الله سيُبلِغُهُ هذه المنْزِلة، ولكن كان مع ذلك يخافُ من وصُولِ الْمَضَارِّ إليه بكَيدِهم، وإنْ لم يخَفِ الهلاكَ. وأرادَ بقولهِ:﴿ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٣] الزجرَ لهم عن التَّهاوُنِ في حفظهِ، وإنْ كان يعلمُ أن الذئبَ لا يَصِلُ إليه، ولذلك لَمْ يصَدِّقهم في قولِهم:﴿ فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٧]، بل حاجَّهم بما يظهرُ به كَذِبُهم. وَقِيْلَ: أرادَ بقوله ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ التخلُّصَ من السِّجنِ، كما خَلَّصَ اللهُ إبراهيمَ عليه السلام من النار، وإسحاقَ من الذبحِِ.
قْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ﴾؛ معناهُ: لقد كان في خَبَرِ يُوسُفَ وإخوَتهِ عبرةٌ للسَّائلين عنهم. وقرأ ابنُ كثير (آيَةً) كأنَّهُ جعلَ شأنَهُ كُلَّهُ آيةً للسائلين،" وذلك أنَّ اليهودَ سألَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قصَّة يوسُفَ، فأخبَرَهم بها كما في التَّوراة، فعَجِبُوا منهُ وقالوا: مِن أين لكَ هذا يا مُحَمَّدُ؟ قالَ: " عَلَّمَنِيَهُ رَبي " "وَقِيْلَ: معناهُ: للسَّائلين أي لِمَن سألَ عن أمرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا ﴾؛ هذه لامُ القَسَمِ، تقديرهُ: واللهِ ليُوسُفُ وأخوهُ بنيامين أحَبُّ إلى أبينَا منَّا.
﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾؛ أي جماعةٌ وكانوا عشرةً، سُموا عصبةً؛ لأن بعضَهم يتعصَّبُ لبعضٍ، ويُعِينُ بعضُهم بعضاً. والعُصبَةُ: ما بين الواحدِ إلى العشرةِ، وَقِيْلَ: إلى الخمسةَ عشر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي من الْخَاطِئِين في تَرْكِ العدلِ في المحبَّة بينَنا لَفِي خطأ بَيِّنٍ من التدبيرِ باختياره الصغيرين، ولا منفعةَ له فيهما علَينا مع أنَّا نسعى في منافعه ونرعَى له غَنَمَهُ ونتعهَّدها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾؛ اختلَفُوا في قائلِ هذا القول، قال وهب: (قَائِلُهُ سَمْعُون)، وقال مقاتلُ: (قَالَهُ روبيل)، وقوله تعالى ﴿ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً ﴾ يعنون أبْعِدُوهُ على وجهٍ يقعُ به اليأسُ من اجتماعهِ مع أبيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي يَخْلُ لكم وجههُ عن يوسُفَ، ويخلصُ محبَّتَهُ لكم.
﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾؛ أي تَتُوبُوا بعدَ ذلك من هذا الذنب، ويصلحُ حالتكم مع أبيكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ ﴾؛ قال أكثر المفسِّرين: القائلُ بهذا هو يَهُودَا، وكان أعقلَهم وأشدَّهم قوةً، والمعنى أنه قالَ لهم اطرحوهُ في قعرِ البئر.
﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ ﴾؛ على الطريقِ. والغَيَابَةُ: هو الموضعُ الذي غابَ عن بصَرِكَ، والْجُبُّ: هو البئرُ التي لم يُطْوَ بالحجارةِ. قَوْلهُ تَعَالَى: ﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾؛ معناهُ: قال لَهم: إنْ كُنتم لا بدَّ فَاعِلين به أمراً فَاعْدِلُوا إلى هذا الأمرِ، وإلاَّ فاتركُوا كلَّ ذلك. والظاهرُ من قولهِ (الْجُب) أنه جُبُّ مُشار إليه معروفٌ، قال وهب: (هُوَ بأَرْضِ الأُرْدُنِّ عَلَى ثَلاَثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقوبَ). فلمَّا أبْرمُوا هذا التدبيرَ وعَزَمُوا عليهِ تلَطَّفوا بالوصُول إلى مُرادِهم، وجَاؤُا إلى أبيهم، فقالوا كما قالَ اللهُ: ﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾؛ أي مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عليه، فتُرسِلَهُ معنا وإنَّا له لناصحون في الرَّحمةِ والبرِّ. قولهُ: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾؛ أي يذهبُ ويجيء وينشطُ؛ ويقرأ كلاهما بالنُّون والياءِ. والرَّتْعُ: هو التردُّدُ يَميناً وشِمالاً للاتساعِ في الملاذِ. ومن قرأ (يَرْتَعْ) بالياء فهو من يَرْتَعُ؛ أي يرعَى ماشيتَهُ، واللَّعِبُ: هو الفعلُ الذي يطلبُ منه التَّفْرِيحُ من غيرِ عاقبةٍ محمودة، وهو على وَجهين: مباحٌ ومحظور، كما قالَ عليه السلام:" كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلاَّ ثَلاَثَةٌ: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ أهْلُهُ، وَنَبْلُهُ بقَوْسِهِ، وَتأَدِيبُهُ فَرَسَهُ "﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾؛ عن الأَسْوَاءِ؛ وعن كلِّ ما يخافُ عليه.
قَولهُ: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ﴾؛ أي يحزِنُنِي ذهابُكم به؛ لأنه يُفارقُني فلا أراهُ.
﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾؛ ذكرَ شَيئين: الحزنُ لذهابهم، والخوفُ عليه أن يجده الذِّئبُ وحدَهُ وقتَ غَفلَتِهم عنه فيأكلَهُ. وكان يعقوبُ قد رأى في منامهِ كأَنَّ ذِئْباً قد عَدَا على يُوسفَ، فكان خَائفاً عليه، فمِن ذلك قال: ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾؛ أي ونحن جماعةٌ ترَى الذِّئبَ قد قصَدَ.
﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾؛ أي لعَاجِزُونَ والْخُسْرَانُ هنا العجزُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ ﴾؛ أي فأرسَلَهُ معهم، فلَمَّا ذهبوا به اتَّفَقَتْ دَوَاعِيهم أن يجعلوهُ في الْجُب، قال السديُّ: (خَرَجُوا بهِ مِنْ عِنْدِ أبيهِمْ وَهُمْ مُكْرِمُونَ لَهُ، فَلَمَّا صَارُواْ فِي الْبَرِّيَّةِ أظْهَرُواْ لَهُ الْعَدَاوَةَ، فَجَعَلَ أخٌ لَهُ يَضْرِبُهُ، فَيَسْتَغِيثُ بالآخَرِ فَيَضْرِبُهُ، لاَ يَرَى فِيْهِمْ رَحِيماً، فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُواْ يَقْتُلُونَهُ. فَجَعَلَ يَصَيحُ وَيَقُولُ: يَا أبَتَاهُ لَوْ تَعْلَمُ مَا صُنِعَ بابْنِكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَهُودَا: ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتُمُوهُ مَوْثِقاً ألاَّ تَقْتُلُوهُ؟ فَانْطَلَقُواْ بهِ فِي الْجُب فَدَلُّوهُ فِيْهِ، فَتَعَلَّقَ بشَفِيرِ الْبئْرِ، فَرَبَطُواْ يَدَيْهِ وَنَزَعُواْ قَمِيصَهُ وَقَالَ: يا إخْوَتَاهُ رُدُّواْ عَلَيَّ قَمِيصِي أتَوَارَى بهِ، فَقَالُواْ: أُدْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً يُلْبسُوكَ وَيُؤْنِسُوكَ، فَدَلّوهُ حَتَّى إذا بَلَغَ نِصْفَ الْبِئْرِ ألْقَوْهُ وَأرَادُواْ أنْ يَمُوتَ، وَكَانَ فِي الْبئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيْهِ، وَآوَى إلَى صَخْرَةٍ فَقَامَ عَلَيْهَا وَجَعَلَ يَبْكِي، فَنَادَوا فَظَنَّ أنَّ الرَّحْمَةَ أدْرَكَتْهُمْ فَأَجَابَهُمْ، فَأَرَادُوا أنْ يَرْضُخُوهُ بالْحِجَارَةِ لِيَقْتُلُوهُ فَمَنَعَهُمْ يَهُودَا، وَكَانَ يَهُودَا يَأْتِيهِ بالطَّعَامِ). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا ﴾؛ قال المفسِّرون: أوحَى اللهُ إلى يوسفَ في البئرِ تَقْويَةً لقلبهِ: لَتَصْدُقَنَّ رُؤْيَاكَ، وَلَتُخْبرَنَّ إخْوَتَكَ بصُنْعِهِمْ هَذا بَعْدَ الْيَوْمِ.
﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ بأنَّ يوسفَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم، وكان فيما أُوحي إليه: أنِ اصبر على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالَكَ، فإنَّكَ تُخبرُهم بما فَعَلُوا بكَ. وعن ابنِ عبَّاس: قال: (كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةِ سَنَةً وَبَقِيَ فِي الْجُب ثَلاَثَةَ أيَّامٍ). وفي بعضِ الروايات: أنه لَمَّا أُلقِيَ في الْجُب جعلَ يقول: يا شاهداً غيرَ غائبٍ، ويا قريباً غيرَ بعيدٍ، ويا غالباً غيرَ مغلوبٍ: اجعَلْ لي من أمْرِي فَرَجاً ومَخرجاً، فأوحَى اللهُ إليه وهو في البئرِ: اصبرْ على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالكَ، فإنَّكَ تخبرُ إخوانَكَ في وقتٍ عن ما فعَلُوا بكَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم. ثم عَمَدوا إلى سَخْلَةٍ فذبَحوها، وجعلوا دَمَها على قميصِ يوسف.
﴿ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ﴾؛ أي يتَبَاكون.
﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ أي نتسابقُ في الرَّمي، وَقِيْلَ: نُسابَقُ في الاصطيادِ.
﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ﴾؛ ليحفظَهُ.
﴿ فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾؛ أي بمُصدِّقٍ لنا في أمرِ يوسف لفَرطِ محبَّتِكَ له وتُهمَتِكَ إيانا فيه.
﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾؛ محل الصدقِ عندكَ في غير هذا الحديثِ. ثم أرَوهُ قميصَهُ ملطَّخًا بالدمِ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾؛ أي بدَمٍ كذبٍ، فلمَّا نظرَ يعقوبَ إلى القميصِ قال: ما عهدتُ ذِئْباً حَلِيماً مثلَ هذا الذئب! فَكَيْفَ أكلَ لحمه ولم يخرِّقْ قميصَهُ؟! ولو أنَّهم كانوا مزَّقُوا قميصَهُ حين لطَّخوهُ بالدم، كان ذلك أبعدَ عن التُّهمةِ عنهم، ولكن لا بدَّ في المعاصِي أن يقترنَ بها الحزنان.
﴿ قَالَ ﴾؛ يعقوبُ: كَذبْتُمْ.
﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ﴾ أي زيَّنت لكم أنفسُكم في هلاكِ يوسف فضيَّعتموهُ، ويقالُ: إن يعقوب كما قال لَهم: لو أكلَهُ الذئبُ فشَقَّ قميصَهُ! قالوا: لو قتَلهُ اللصوصُ لَمَا ترَكُوا قميصَهُ، هل يريدون إلا الثيابَ والمتاعَ، فَسَكَتوا متحيِّرين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾؛ أي فصبرٌ جَمِيلٌ أوْلَى من الجزَعِ، والصبرُ الجميل هو الذي لا شَكوَى فيه، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾؛ أي معناهُ: أستعينُ باللهِ على الصبرِ في ما يقولون. ورُوي: (أنَّ شُرَيْحاً كَانَ جَالِساً لِلْقَضَاءِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَبْكِي وَتَشْكُو، فَقِيلَ لَهُ: يُوشِكُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ مَظْلُومَةً، فَقَالَ شُرَيْحُ: قَدْ جَاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ أبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ وَهُمْ كَذبَةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ﴾؛ أي جاءَت قافلةٌ من المسافرين بعد أن مكثَ يوسفُ عليه السلام في الْجُب ثلاثةَ أيَّام. يُروى أنَّهم جاءوا من قِبَلِ مَدْيَنَ يريدون مُعَرِّفاً خطرَ الطريقِ، فتحيَّرُوا وجعلوا يَهِيمُونَ حتى وَقَعُوا في الأرضِ التي فيها الْجُبُّ، فأَرسَلَ كلُّ قومٍ منهم وارِدَهم، والوارِدُ الذي يُقَوِّمُ القومَ لطلبِ الماء، فوافقَ الْجُبُّ مَالِكَ بْنَ ذعَرٍ وهو رجلٌ من العرب من أهل مَديَنَ.
﴿ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ﴾ في البئرِ، فتعلَّقَ بها يوسفُ، فلم يَقدِرُوا على نَزْعِهِ، فنَظَرُوا فرأوا غُلاماً قد تعلَّقَ بالدَّلْوِ، فنادَى أصحابَهُ فَـ ﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ ﴾، قال: مَا ذاكَ يا مالِكُ؟ قال: غلامٌ أحسنَ ما يكون من الغِلمَانِ. فاجتمَعُوا عليه وأخرَجوهُ. قال كعبٌ: (كَانَ يُوسُفْ حَسَنَ الْوَجْهِ جَعِدَ الشَّعْرِ ضَخْمَ الْعَيْنِ مُسْتَوِيَ الْبَطْنِ صَغِيرَ السُّرَّةِ، وَكَانَ إذا تَبَسَّمَ رَأيْتَ النُّورَ فِي ضَوَاحِكِهِ، َلاَ يَسْتَطِيعُ أحَدٌ وَصْفَهُ، وَكَانَ حُسْنَهُ كَضَوْءِ النَّارِ وَكَانَ يُشْبهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ أنْ يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ). ويقال: إنه وَرِثَ ذلك الجمالَ من جدَّتهِ سارة، وكانت قد أُعطيت سُدُسَ الْحُسْنِ. وقولهُ تعالى: ﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ ﴾ من قرأ (يَا بُشْرِي) أي بياء الإضافة، فهو خطابٌ للفرَحِ على القلب، كما قالَ: يا فَرَحِي يا طُوبَايَ ويا أسَفِي. ومن قرأ بغيرِ ياء الإضافة فمعناهُ تبشيرُ الأصحاب، كما يقالُ: يا عَجَبَا ويرادُ به يا أيُّها القومُ اعجَبُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾؛ أي أسَرَّ الذين وجَدُوا يوسُفَ من رُفَقَائِهم ومِن القافلة مخافةَ أن يَطلُبَ أحدٌ منهم الشِّركَةَ معهم في يوسف عليه السلام، قولهُ: ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ نُصِبَ على المصدرِ؛ أي قالوا في ما بينَهم: إنَّا نقولُ إن أهلَ الماءِ استَبضَعُوكَ بضاعةً، ويجوزُ أن يكون ﴿ بضَاعَةً ﴾ نَصباً على الحالِ على معنى أنَّهم كَتَمُوهُ حين أعقَدُوا التجارةَ فيه. ويقال: إن قولَهُ ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ راجعٌ إلى إخوَةِ يوسف، فإنه رُوي أنَّهم جَاؤُا بعدَ ثلاثةِ أيَّام فلم يجدُوا في البئرِ، فنظَرُوا فإذا القومُ نُزُولٌ بقُرب البئرِ، فإذا هم بيوسُفَ، فقالوا لَهم: هذا عبدٌ آبقٌ منذُ ثلاثةِ أيام، وقالوا لِيُوسُفَ: لئِنْ أنكرتَ أنَّكَ عبدٌ لنا فَلَنَقتُلَنَّكَ، وقالوا للقومِ: اشتَرُوا مِنَّا فذلك معنى قولهِ ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ بأن طلَبُوا من يوسُفَ كتمانَ نسَبهِ، إلا أنَّ القولَ الأوَّلَ أقربُ إلى ظاهرِ الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي بيوسُفَ، وهذا يجرِي مجرَى الوعيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾؛ أي بَاعوهُ أخوتهُ من مالكِ بن ذعْرٍ بعشرِينَ دِرهَماً، فأصابَ كلٌّ منهم دِرهَمين فلم يأخُذْ يهُودَا نصيبَهُ، وأخذهُ الباقون، وقال الضحَّاكُ: (بَاعُوهُ باثْنَي عَشَرَ دِرْهَماً). وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ أيْ بثَمَنٍ حَرَامٍ؛ لأنَّهُ سَمَّى الْبَخْسَ حَرَاماً، وَسَمَّى الْحَرَامَ بَخْساً؛ لأنَّهُ لاَ بَرَكَةَ فِيْهِ). وقال الكلبيُّ: (بَاعُوهُ باثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَماً). وقولهُ تعالى: ﴿ مَعْدُودَةٍ ﴾ أي قليلةٍ، وذِكْرُ العددِ عبارةٌ عن القلَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ ﴾؛ أي لم يكُن لَهم فيه رغبةٌ ولا في ردِّهِ على أبيهِ، ولم يعلَمُوا منْزِلتَهُ من اللهِ تعالى، يعني: أنَّ إخوةَ يوسُفَ كانوا في يوسف من الزَّاهدِين؛ لأنَّهم لم يعرِفُوا كرامتَهُ على اللهِ تعالى. وَقِيْلَ: كانوا في يُمْنِهِ من الزَّاهدين أن عرضهم أن يُغَيِّبُوهُ عن أبيهِ، وكتَمَ يوسفَ شأنه مخافةَ أن يقتلَهُ إخوتهُ، و ﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ أي باعوهُ، قال الشاعرُ: وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي   مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْأي بعتُ بُرْداً وهو غلامهُ. ثم انطلقَ مالك بن ذُعْر وأصحابهُ بيُوسُفَ ومعهم إخوتهُ يقولون: استَوثِقُوا منه فإنه آبقٌ سارقٌ كاذب، وقد بَرِئْنَا إليكم من عُيوبهِ. فحمله مالِكُ بن ذُعر على ناقتهِ وسارَ به نحو مِصْرَ، وكان طريقُهم على قبرِ أُمهِ، فلما بلغَ قبرَ أُمه أسقطَ نفسه من الناقةِ وهو يبكِي ويقولُ: يا أماهُ ارفَعِي رأسَكِ من الثَّرى، وانظُرِي إلى ولدكِ يوسفَ وما لَقِيَ بعدَكِ من البلايَا، يا أماهُ لو رأيتِي ضَعفِي ودُلِّي، يا أماه لو رأيتِني، نزَعُوا قميصي وشدُّونِي، وفي الْجُب ألقونِي وعلى حرِّ وجهي لطَمُونِي، وبالحجارةِ رجَمونِي. ثم فقدَهُ مالك بن ذُعر فصاحَ في القافلةِ: ألاَ إنَّ الغلامَ رجعَ إلى أهلهِ، فطلبوهُ فوجدوه، فقال له رجلٌ منهم: يا غلامُ قد أخبَرَنا مواليكَ أنكَ آبقٌ سارقٌ، فلم نصدِّقْ حتى رأيناكَ، فقال: واللهِ ما آبقْتُ، ولكنَّكم مرَرتُم على قبرِ أُمِّي، فلم أتَمالَكْ أن رميتُ نفسي عليه، فرفعَ يده فلطَمَ وجهَهُ حتى حمله على ناقتهِ. وذهَبُوا به حتى قَدِمُوا مصرَ، فأمرَهُ مالك بن ذُعر حتى اغتسلَ ولَبسَ ثَوْباً حَسَناً، وعرضَهُ على البيعِ، فاشتراهُ قطفيرُ بن رُوَيحِب لامرأته، قال وهب: (تَرَافَعَ النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ وَتَزَايَدُواْ حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُهُ وَزْنَهُ مِسْكاً وَوَرِقاً، فابتاعَهُ قطفيرُ بهذا الثمنِ وأتى به إلى منْزِله).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ ﴾؛ واسْمُها رَاعِيل: ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾؛ أي أحْسِني طولَ مُقامهِ عندَنا.
﴿ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ ﴾؛ في أمُورنا ونبيعُ فنربح في ثَمنِه.
﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾؛ نسبناه، وكان العزيزُ عَقيماً، أو حصُوراً لا يولَدُ له، إنما قالَ لِمَا رأى على يوسُفَ من الجمالِ والعقل والهداية إلى الأمُور. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي كما خلَّصناهُ من البئرِ وإخوته كذلك مكَّنَّاهُ فيها حتى بلَغَ ما بلغَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ أي لنُعلِّمَهُ من ضُروب العلومِ.
﴿ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ﴾ أي لا يقدرُ أحدٌ منكم دفعِ ما أرادَ من أمرهِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أن اللهَ غالبٌ على أمرهِ وهم المشركون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا بَلَغَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سنَةَ آتَيْنَاهُ النُّبُوَّةَ وَالْفِقْهَ، وَجَعَلْنَاهُ حَكِيماً عَلِيماً)، قال: (وَالأَشُدُّ مِنْ ثَمَانِي عَشَرَة إلَى ثَلاَثِينَ سَنَةً). ويقال: أقصاهُ اثنانِ وستُّونَ سنةً، فأما الاستواءُ فهو أربعونَ سَنةً. وقال الحسنُ: (أُعطِْيَ يُوسُفُ الرِّسَالَةَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَانَ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ مِنْ قَبْلُ). ويقال: معناه: وآتيناهُ حُكماً وعلماً بين الناسِ، فإذا الناسُ كانوا تحاكَمُوا إلى العزيز، أمرَهُ أن يحكمَ بينهم؛ لِمَا رأى من عقلهِ وأمانته وعلمه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي كما جَزَينا يوسُفَ على صبرهِ على الْمِحَنِ، كذلك نَجزِي الْمُحسِنين في أقوالِهم وأفعالهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ أي رَاوَدَتْهُ امرأةُ العزيزِ واسْمُها زُلَيْخَا، وكان يوسفُ من أحسنِ البشر، وكان كضَوءِ النَّهار ونور الشَّمسِ، وكان بحيث لا يستطيعُ آدميٌّ أن يصِفَهُ، فراودَتهُ أي طالَبَته لِمُرادِها منه.
﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾؛ عليهِ وعليها وطلَبت منه أن يُواقِعَها، قولهُ ﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾ قال المفسِّرون أغلَقَت سبعةَ أبوابٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾؛ أي هَلُمَّ إلى ما هُيِّءَ لك، قرأ ابنُ كثير (هَيْتُ لَكَ) بفتح الهاء وضمِّ التاء، وقرأ أهلُ المدينة والشام بكسرِها وبفتح التاءِ، وقرأ الباقون بفتح الهاءِ والتاء، وهي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعناهُ جميعاً، هَلُمَّ وأقبلْ، قال مجاهدُ: (تَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهَا وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أعوذ باللهِ أن أفعلَ ما لا يجوزُ لِي فِعْلهُ. وَقِيْلَ: اعتصمُ باللهِ عن فعلِ ما تدُعُنَّني إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾؛ ذهبَ أكثرُ المفسِّرين إلى أنَّ معناهُ: إنَّ زوجَكِ سيِّدي أحسنَ تَربيَتي ومنْزِلَتِي مدَّة مُقامِي عندَهُ، لا أخونهُ في أهلهِ. سَمَّاهُ رَبّاً للرقِّ الذي كان ثبتَ له في الظاهرِ عليه. وَقِيْلَ: معناهُ: إن اللهَ تعالى ربي أحسنَ إلَيَّ بتخليصِي من البئرِ وما قصدَنِي قَومِي من الهلاكِ.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ أي لا يأْمَنُ ولا ينجُو من عذاب الله الذين يظلِمُون أنفسهم، أراد بهم الزُّنَاةَ، ويجوزُ أن يكون أرادَ لو فَعَلَ ما دَعَتْهُ إليه لكان ظَالِماً لزَوجِها في أهلهِ. وفي قولهِ (هَيْتَ) خلافٌ من فتحِ التاء فلِسُكونِها وسكونِ الياء قبلَها نحوُ: كيفَ وأينَ، ومَن ضَمَّ التاءَ فعلى أنَّها مبنيَّةٌ على الضمِّ نحو حيثُ ومنذ، ومَن قرأ بفتحِ الهاء وكسرِ التاء فلأنَّ الأصلَ في التقاءِ السَّاكِنَين حركةُ الكسرِ، ويجوز أن يكون مبنيّاً على الكسرِ مثل أمسِ وجَيْرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾؛ قال الحسنُ: (أمَّا هَمُّهَا فَأَحَبُّ هَمٍّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَأمَّا هَمُّهُ فَهُوَ مَا طُبعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ شَهْوَةِ النِّسَاءِ مِنْ دُونِ عَزْمٍ عَلَى الزِّنَا). واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك، فرُوي عن ابنِ عبَّاس أنه سُئِلَ: مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ؟ قَالَ: (حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ). وعن ابنِ أبي مليكة قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ؟ قَالَ: (اسْتَلْقَتْ لَهُ عَلَى قَفَاهَا وَقَعَدَ بَيْنَ رَجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ) وهو قولُ سعيدِ بن جُبير والضحَّاك والسديُّ. ورُوي عن ابنِ عبَّاس: (أنَّه لَمَّا راوَدت يوسُفَ جعلت تذكرُ محاسنَهُ وتشوِّقه إلى نفسها، فقالت: يا يوسفُ ما أحسنَ ماء عينيكَ؟ قال: هو أوَّلُ ما سِيلَ على الأرضِ من جسَدِي، قالت: ما أحسنَ وجهَكَ؟ قال: هو للتُّراب يأكلهُ، قالت: ما أحسنَ شَعْرَك، قال: هو أوَّلُ سَتْرٍ من بدَنِي، قالت: ما أحسنَ صُورَتَكَ، قال: رَبي صوَّرَنِي، قالت، يا يوسفُ صورةُ وجهِكَ أنْحَلَتْ جسمي، قال: إن الشيطانَ يُعِينُكِ على ذلكَ، قالت: فراشُ الحريرِ قد بسطتهُ قم فاقضِ حاجَتي، قال: إذن يذهبُ نصيبي من الجنَّة، قالت: أُدخل في السترِ معي، قال ليس بشيءٍ يستُرنِي من ربي. فلم تزَلْ تدعوهُ إلى اللذة، ويوسف شابٌّ مستقبلٌ يجد من شبق الشباب ما يجدُ الرجل، وهي حسناءُ جميلة حتى لاَنَ لها لما يرى من كَلَفِها به وهمَّ بها). فهذه أقاويلُ أجِلَّةِ أهلِ التفسير، وقال جماعةٌ من المتأخِّرين: (لاَ يَلِيقُ هَذا بالأَنْبيَاءِ) وأوَّلوا الآيةَ، قال بعضُهم: هَمَّ بالفرار، وهذا لا يصحُّ لأن الفرارَ مذكَّرٌ، وَقِيْلَ: هَمَّ بضَربها ودَفعِها ومخاصمتها، وقال بعضُهم معنى قوله: ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ بمُنَاهَا أن تكون له زوجةً. وقال أهلُ الحقائقِ: الْهَمُّ هَمَّانِ: همٌّ مقيمٌ ثابت، وهو إذا كان معه عَزْمٌ وعقدٌ ونيَّة ورضًى مثل هَمِّ امرأةِ العزيزِ، فالعبدُ مأخوذٌ به، وهَمٌّ عارضٌ وارد وهو الْخَطْرَةُ والفكرةُ وحديث النَّفسِ من غيرِ اختيارٍ ولا عَزْمٍ مثل همِّ يوسف، والعبدُ غير مأخوذٌ به. وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُواْ أوْ يَفْعَلُواْ بهِ "عن ابن عبَّاس قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ قَدْ هَمَّ بخَطِيئَةٍ قَدْ عَمِلَهَا، إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا فإنَّهُ لاَ يَهِمُّ ولَمْ يَفْعَلْ ". وقال بعضُهم في قولهِ ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ قال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى ثعلب: (هَمَّتِ الْمَرْأةُ بالْمَعْصِيَةِ مُصِرَّةَ عَلَى ذلِكَ، وَهَمَّ يُوسُفُ بالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَأْتِهَا). وَقِيْلَ، هَمَّت المرأةُ عازمةً على الزنَى، ويوسفُ عارَضَهُ ما يعارضُ الشبابَ من خَطَراتِ القلب وحديث النَّفس، فلم يلزمه، وهذا الْهَمُّ ليس ذنباً إذ الرجلُ الصائم يخطرُ بقلبهِ شرابُ الماءِ البارد، فإذا لم يشرب كان غيرَ مُؤَاخَذٍ بما يحسُّ في نفسهِ فيه. وقال الزجَّاج: (وَهَمَّ بهَا وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأةِ، إلاَّ أنَّ اللهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بأَنْ أرَاهُ الْبُرْهَانَ، ألاَ تَرَاهُ قَالَ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾؛ اختلَفُوا في هذا البرهان، قال ابنُ عبَّاس والحسنُ وابن جبير ومجاهد: (رَأى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضّاً عَلَى أنَامِلِهِ)، وقال قتادةُ: (سَمِعَ صَوْتاً: يَا يُوسُفُ إنَّهُ فِعْلُ السُّفَهَاءِ، وَأْنْتَ مَكْتُوبٌ فِي دِيوَانِ الأَنْبيَاءِ). ويقالُ: خرج كَفٌّ بينَهما بلا جسدٍ مكتوبٌ فيه ثلاثةُ أسطُرٍ؛ إحداها:﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٨١] والثاني:﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾[الإسراء: ٣٢]، والثالثُ:﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴾[الانفطار: ١٠-١١].
وعن محمَّد بن كعبٍ القُرظي قال: (مَعْنَى ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾: لَوْلاَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبيحِ الزِّنَى، وَوُجُوب الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ) وَهَذا كُلُّهُ مَحْذُوفُ الْجَوَاب، وَجَوَابُهُ: لَوْلاَ ذلِكَ لَعَزَمَ عَلَى الْقُبْحِ، وَعَمِلَ عَلَى مقتضى شَهْوَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ ﴾؛ أي كما مكَّنَّا له في الأرضِ، كذلك أرَيْنَاهُ البرهانَ ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ ﴾ أي الخيانةَ (وَالْفَحْشَاءَ) يعني الزِّنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾؛ الذين أخلَصُوا دِينَهم للهِ، ومَن قرأ بفتحِ اللام فمعناهُ: مِن عِبادنا الذين أخلَصْنَاهم واصْطَفَيناهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾؛ قال السديُّ: (ذلِكَ أنَّ زُلَيخَا قالَتْ لِيُوسُفَ حِينَ أغْلَقَتِ الْبَابَ: مَا أحْسنَ شَعْرَك رضي الله عنه إلَى آخِرِ الْكَلاَمِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذلِكَ حَتَّى هَمَّ بَها، فَلَمَّا رَأى الْبُرْهَانَ قَامَ مُبَادِراً إلَى الْبَاب هَارِباً، فَاتَّبَعَتْهُ الْمَرْأةُ فَأَدْرَكَتْهُ، فَلَمَّا أحَسَّتْ بقُوَّتِهِ مَزَّقَتْ آخِرَ قَمِيصِهِ مَانِعَةً لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ. والقَدُّ قطعُ الشيءِ بأَسرهِ طُولاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ ﴾؛ صَادفا زوجَها عند الباب جَالساً، فلمَّا رأتْهُ هَابَتْهُ، و ﴿ قَالَتْ ﴾ سابقةً بإلقاءِ الذنب على يوسف: ﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا ﴾؛ يعني الزِّنَى.
﴿ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ ﴾؛ أن يُودَعَ في السجنِ، أَوْ؛ يُعَذبَ.
﴿ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ يعني الضَّربَ الوجيعَ. فلمَّا قالت المرأةُ ذلك، لَمْ يجدْ يوسُفُ بُدّاً من تبرئةِ نفسه.
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾؛ أي طالَبَتني بمُرادِها من نفسي فأبَيتُ وفرَرْتُ منها، فأدرَكَتْنِي وشقَّتْ قَمِيصِي.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ ﴾، وكان مع زوجِها بالباب.
﴿ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾، ابنُ عمٍّ لها حكيم، فقال ابنُ عمِّها: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾؛ إنْ كان شُقَّ القميصُ مِن قُدَّامِهِ.
﴿ فَصَدَقَتْ ﴾؛ فهي صادقةٌ.
﴿ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴾، وإنْ كَانَ من خَلْفِهِ فهو صادقٌ، وقال الضحَّاك: (كَانَ الشَّاهِدُ صَبيّاً فِي الْمَهْدِ فَأَنْطَقَهُ اللهُ تَعَالَى). قِيْلَ: كان ذلك الصبيُّ ابنَ خالِ المرأة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾؛ أي فلَمَّا رأى ابنُ عمِّها قُدَّ القيمصُ من خلفٍ، ويقال: فلمَّا رأى زوجُها ذلك.
﴿ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾؛ أي قولُها ﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا ﴾ من مَكْرِكُنَّ.
﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
ثم قالَ ليوسُفَ بعدَما ظهَرتْ براءتهُ: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ﴾؛ يعني أمْسِكْ ذِكرَهُ حتى لا ينتشرَ في البلدِ وفي ما بين الناس، ثم أقبلَ عليها وقال: ﴿ وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ ﴾؛ فإن الخطابَ كان منكِ ألقَيتِهِ على يوسف. وقد احتجَّ مالكُ والحسنُ بن حيٍّ في الحكمِ بالعلامة بهذه الآيةِ: أنَّ اللُّقَطَةَ إذا ادَّعَاهَا مُدَّعٍ وَوَصَفَها وَجَبَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى مَذْهَبهِمَا. ولا حجَّةَ لهما في هذه الآيةِ، إذ لا خلافَ بين الفُقهاءِ أن الأملاكَ والأيدي لا تستَحقُّ بالعلاماتِ، فإنَّ العطَّارَ والدباغَ إذا اختلفَا في عِطْرٍ في أيدِيهما لم يكن العطارُ أوْلَى به من الدَّباغِ، وكذلك الاسكافِيُّ والصَّيرَفِيُّ إذا اختلفَا في حذاءٍ في يدِ الصيرفِيِّ لم يستحقُّهُ الاسكافِيُّ؛ لأن ذلك من صِنَاعتهِ. وعن مجاهد: (أنَّ امْرَأَتَيْنِ اخْتَصَمَتَا إلَى شُرَيْحٍ فِي وَلَدٍ لَهُنَّ، فَقَالَ شُرَيْحُ: ألْقُوهَا مَعَ هَذِهِ، فَإنْ هِيَ رَدَّتْ وَفَرَّتْ وَاسْتَفَزَّتْ فِهِيَ لَهَا، وَإنْ هَرَبَتْ وَفَرَّتْ فَلَيْسَتْ لَهَا). وكان ذا القولِ من شُريح على جهةِ ما يغلبُ في الظنِّ ليميِّز المبطلَ من المدعِيَين فنحكمُ عليه بالإقرار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (هُنَّ أرْبَعُ نِسْوَةٍ: أمْرأَةُ سَاقِي الْمَلِكِ، وَامْرَأةُ خَبَّازِهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِب سِجْنِهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِب دَوَابهِ، قُلْنَ فِي امْرَأةِ الْعَزِيزِ: إنَّهَا تَدْعُو عَبْدَهَا إلَى نَفْسِهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ﴾؛ قد خَرَقَ حبُّهُ حجابَ قلبها فلا يعقلُ غيره، ويقال: قد أحبَّتهُ حتى دخلَ حُبُّهُ شِغَافَ قَلبها. والشِّغَافُ: جلدةٌ تشتملُ على القلب، يقالُ: شَغفَهُ إذا رماهُ فأصابَ ذلك الموضعِ منه كما يقالُ كَبَدَهُ إذا أصابَ كَبدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حُبّاً ﴾ نُصِبَ على التمييزِ كأنَّهُنَّ قُلنَ: أصابَ حبُّه وسطَ قلبها وسويداءَ قلبها. وقرأ أبو رجاءٍ والشعبي: بالعين المهملة، ومعناه ذهبَ بها الحبُّ كلَّ مذهبٍ، مشتقٌ من شِعَافِ الجبالِ أي رُؤوسها. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي في الخطأ البيِّن. قال ابنُ عبَّاس: (فَجَعَلْنَ يُفْشِينَ هَذا فِي الْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ ذلِكَ زُلَيْخَا) فهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾؛ أي فلما سَمعت بكلامَ هؤلاء النِّسوة وذمِّهن لها أرسَلت إليهنَّ، فدَعَتهُنَّ لوليمةٍ أعدَّتْها لهن، ويقال: إنما سُمي قولُ النسوةِ مَكْراً؛ لأنَّها كانت أطلَعَتْهُنَّ واستكتَمَتْهن فأَفْشَيْنَ سِرَّها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ﴾؛ أي أصلَحت وهيَّأَتْ لهن أمكنةً يقعُدن عليها، ووسائدَ يتَّكِينَ عليها، وفي قراءة ابنِ عباس (مُتْكاً) بالتخفيف بغير همز، قال: (وَالْمُتْكُ: الأَتْرُجّ). قال وهبُ: (دَعَتْ أرْبَعِينَ امْرأَةً، وَأعَدَّتْ لَهُنَّ أتْرُجاً وَبطِّيخاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾؛ لتقطعَ بها الفواكِهَ والأُترج على ما جَرت به العادةُ، ويقال: كانت وضَعت لَهُنَّ خُبزاً ولَحماً وهذه الفواكه.
﴿ وَقَالَتِ ﴾؛ ليوسُف: ﴿ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾؛ وذلك أنَها كانت قد أجْلَسَتهُ في مجلسٍ غير الذي كُنَّ جلسنَ فيه. قال عكرمةُ: (وَكَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى النُّجُومِ). وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي فَرَأيْتُ يُوسُفَ عليه السلام، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: يُوسُفَ " قَالَ: كَيْفَ رَأيْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ " "ورُوي أن يوسف عليه السلام كان إذا مشَى في أزِقَّة مصرَ يُرى نورُ وجههِ على الجِدَارَاتِ كما ترى نورَ الشمسِ والماء على الجدار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ فخرجَ عليهن.
﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾؛ أي عَظُمَ عندَهُن، وَ؛ بلغَ من شَغْلِ قُلوبهن برؤيته ما.
﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾؛ بالسَّكاكين. قال قتادةُ: (قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ حَتَّى ألْقَيْنَهَا وَهُنَّ لاَ يَشْعُرْنَ)، ويقالُ: معنى (أكْبَرْنَهُ) أي حِضْنَ، ويقال: معنى (أكْبَرْنَ) آمَنَّ. قِيْلَ: أنَّهن كُنَّ يقَطِّعن أيديهن وهن يحسَبن أنَّهن يُقَطِّعنَ الأتْرَجُ، ولم يجدن الألَمَ لاشتغالِ قُلوبهن برؤيةِ يوسف. قال وهب: (وَبَلَغَنِي أنَّ سَبْعاً مِنَ الأرْبَعِينَ مِمَّنْ كُنَّ فِي ذلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَدْنَ بيُوسُفَ عليه السلام). وقولهُ تعالى: ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾؛ أي قُلن معاذ اللهِ أن يكون هذا آدَمِيّاً.
﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾، بل هو.
﴿ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾؛ من السَّماء، فشبَّهنَهُ بالْمَلَكِ وهُنَّ لا يَرَينَ الْمَلَكَ، ولكنَّ الناسَ إذا وصَفُوا بالْحُسْنِ شَبَّهوا بالْمَلَكِ. ومعنى ﴿ حَاشَ للَّهِ ﴾ أي تَنْزِيهاً للهِ، وفي قراءةِ الحسن (إنْ هَذا إلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ) بكسر اللامِ، ويُقرأ (مَا هَذا بشِرِي) أي بعبدٍ مُشترى، وليست هذه القراءة بشيء. قَوْلُهُ تَعالَى: ﴿ قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾؛ أي قالت زُلَيخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيْهِ فِي حُبهِ وشغَفي به، وذا إشارةٌ إلى يوسُفَ ولكن مخاطبة لهن، ثم أقَرَّت لهن فقالت: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ ﴾ أي دَعَوتُهُ إلى مُرادِي فامتنعَ بالعفَّة.
﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ ﴾ ما أدعوهُ إليه.
﴿ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ في السِّجنِ.
﴿ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ ﴾؛ أي الأذِلاَّء فيه مع السُّرَّاق، وجعلت تقول هذا القول منها قبالته وهو جالسٌ يسمع. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا قَالَتْ زُلَيْخَا هَذا الْقَوْلَ، قَالَ هَؤُلاَءِ النِّسْوَةُ لِيُوسُفَ: أطِعْ مَوْلاَتَكَ) فَقَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ ﴾ أي قالَ يوسفُ: يارب نزولُ السجنِ أحبُّ إلَيَّ مما يَدعُونَني إليه من قبيحِ الفعل، والسِّجنُ أسهلُ عليَّ من المعصيةِ. ومَن قرأ (السَّجْنُ) بفتح السين فهو المصدرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾؛ أي وإلاَّ تَلْطُفْ بي بما يصرِفُ عنِّي كيدَهُن أمِلْ إليهنَّ بهَوَاي.
﴿ وَأَكُن مِّنَ ﴾؛ بمنْزِلَة.
﴿ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾؛ في فِعْلي. وفي هذا دليلٌ على أنَّ النسوةَ طلَبن منه مثلَ ما طلبَتِ امرأةُ العزيزِ، فإنه روي أنَّهن لَمَّا رأينَ يوسف استأذنَّ امرأةَ العزيزِ أن تَخْلُو كلُّ واحدةٍ منهن بهِ، وتدعوهُ إلى امرأة العزيزِ وإلى طاعَتِها، فلمَّا خَلَونَ به دَعَتْهُ كلُّ واحدة منهن إلى نفسِها. قَوْلُهُ تَعَاَلَى: ﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾؛ أي فأجابَهُ ربَّه في دعائهِ فصرفَ عنه كيدَهن، وعصَمَهُ من الفواحشِ.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ لدعاءِ عباده، العليمُ بضمائرِهم ونياتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ أي بَدَا للعزيزِ وأصحابه من بعدِ ما رَأوا العلاماتِ من شقِّ القميصِ وقطع الأيدِي وقضاء ابن عمِّها عليها، أن يحبسَهُ إلى مدَّة حتى تنقطعَ مقالةُ الناسِ، ويأتِي على هذا الحديثِ مدَّة، فحبَسهُ بعد ظهور عُذرهِ خمسَ سنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ ﴾؛ رُوي: أنه دخلَ على يوسُفَ بعدَ دخولهِ الخمسَ سنين عَبْدَانِ للملكِ، وهو صاحبُ شرابهِ وصاحبُ طعامهِ، غَضِبَ عليهما الملكُ، واتَّهَمَ صاحبَ الطعامِ أنه يريدُ أن يَسُمَّهُ، وصاحبَ الشَّراب بأنه مَالأَهُ على ذلك، وذلك أنَّ أعداءَ الملكِ أرادوا الْمَكْرَ بالملكِ واغتيالهِ، فطَلَبوا هذين وضَمِنُوا لهما مَالاً ليَسُمَّا طعامَ الملكِ وشرابَهُ، فأبَى السَّاقِي وقَبلَ الخبَّازُ الرِّشْوَةَ فسَمَّ الطعامَ. فَلَمَّا حضرَ وقتهُ قال السَّاقِي: أيَّها الملكُ لا تأكُلْ فإنه مسمومٌ، وقال الخبازُ: أيُّها الملكُ لا تشرب فإنه مسمومٌ. فقال الملكُ للسَّاقي: اشْرَبْ، فَشَرِبَ فلم يضُرَّهُ، وقال للخباز: كُلْ من طَعامِكَ فأَبَى، فجرَّبَهُ الملكُ على دابَّة فأكلت من الطعامِ فمَاتَتْ، فأمرَ الملكُ بحبسِهما. وكان يوسفُ قد قالَ لأهلِ السِّجن لَمَّا دخله: إنِّي أعَبرُ الأحلامَ، فقال أحدُ هَذين القيمين لصاحبهِ: هلُمَّ فلنُجَرِّبْ هذا العبدَ العَبْرَانِيَّ برُؤيا له، فسأَلاهُ من غيرِ أن يكونا رأيا شيئاً. قال ابنُ مسعود: (مَا رَأيَا شَيْئاً إنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا عَلَيْهِ لِيُجَرِّبَا عِلْمَهُ). وقال قومٌ: كانَا رأيَاها على حقيقةٍ ويقين، فقالَ السَّاقي: أيُّها العالِمُ إنِّي رأيتُ كأنِّي في بُستانٍ وإذا بكُرَةٍ عليها ثلاثةُ عناقيد فجنَيُتها، وكأنَّ كأسَ الملكِ بيدي فعصَرتُهم فيه وسقَيتُ الملكَ فشَرِبَهُ، وقال الخبَّازُ: إنِّي رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي ثلاثَ سِلاَلٍ من خُبْزٍ وألوانِ الأطعمَةِ فإذا سِبَاعُ الطيرِ تَنْهَشُه. وإنما سُمي العنبُ باسمِ الخمر لأن الشيءَ يُسمَّى بما يؤُولُ إليهِ، وقال الضحَّاك: (الْخَمْرُ هُوَ الْعِنَبُ) بَعَيْنِهِ بلُغَةِ عُمَانَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (إنِّي أرَانِي أعْصِرُ عِنَباً). قال الأصمعيُّ: (أخْبَرَنِي الْمُعْتَزُّ أنَّهُ لَقِيَ أعْرَابياً مَعَهُ عِنَبٌ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ قَالَ: خَمْرٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾؛ أي أخبرنا بتفسيرهِ وتعبيره، وما يؤولُ إليه أمرُ هذه الرُّؤيا.
﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي العالِمين الذين أحسَنُوا العلمَ. وَقِيْلَ: من الْمُحسِنين إلينا إنْ قلتَ ذلك وفسَّرتَ رُؤيانا. وعن الضحَّاك في قولهِ تعالى: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ قال: (كَانَ إحْسَانُهُ إذا مَرِضَ رَجُلٌ فِي السِّجْنِ قَامَ عَلَيْهِ، وَإذا أضَاقَ وَسَّعَ عَلَيْهِ، وَإذا احْتَاجَ سَأَلَ لَهُ). وقيل: إحسَانهُ أنه كان يُداوِي مَريضَهم، ويُعزِّي حَزينَهم. قال: (فَكَرِهَ يُوسُفُ أنْ يُعَبرَ لَهُمَا لَمَا عَلِمَ فِيْهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أحَدِهِمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ سَؤَالِهِمَا وَأخَذ فِي غَيْرِهِ) و ﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ﴾؛ أي لا يَأتِكُما طعامٌ تَطعَمَانِهِ وتأكُلانهِ إلاّ نبَّأتُكما بتفسيرهِ وَلَونهِ أيَّ طعامٍ أكلتمُوهُ، قالاَ له: هذا مِن فعلِ الكَهَنةِ، قال: ما أنَا بَكاهنٍ وإنما: ﴿ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ ﴾؛ أي شَريعَةَ آبَائي.
﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ وباقِي الآيةِ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾؛ وذلك أنَّ يوسف عليه السلام رأى أهلَ السِّجن وبين أيدِيهم أصنامٌ يعبُدونَها فدعَاهم إلى الإسلامِ وألزَمَهم الحجَّةَ، فقالَ لَهم: أربابٌ متفرِّقون شتَّى لا تضرُّ ولا تنفعُ خيرٌ أمِ اللهُ الواحد القهَّارُ الذي لا ثانِي له؟ثم بيَّن عجزَ الأصنامِ وضَعفَها فقال: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ﴾؛ آلِهة من غيرِ أن يكون لتلكَ التسميةِ حقيقةً.
﴿ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي من حجَّة وبرهان.
﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾ أي ما القضاءُ والأمر والنَّهيُ إلا للهِ.
﴿ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ﴾؛ أي الذي أدعُوكم إليه هو الدِّينُ القائمُ الذي يرضاهُ لا عِوَجَ فيه.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ﴾؛ معنى الآيةِ: أما أحدُكما وهو السَّاقي، فيَسقِي سيِّدَهُ يعني الملِك خَمراً، وأما العناقيدُ الثلاثة التي رَآها فإنَّها ثلاثةُ أيام يبقَى في السجنِ، ثم يخرِجهُ الملكُ ويعود في ما كان عليه، وأما الآخَرُ فيُصلَبُ والسِّلالُ التي رَآها فإنَّها ثلاثةُ أيَّام يبقَى في السجنِ، ثم يخرجهُ الملك في اليومِ الرابع فيَصلِبَهُ فتأكلُ الطيرُ من رأسهِ. فقال الخبَّازُ: إنِّي لَمْ أرَ شيئاً، فقال لَهما يوسفُ: ﴿ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾؛ أي فَرَغَ من الأمرِ الذي سأَلتُما عليه فهو كائنٌ، رأيتُما أو لَم تَرَيَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ﴾؛ أي قالَ يوسفُ للذي عَلِمَ أنه ناجٍ منهما، وهو صاحبُ الشَّراب: أذْكُرِنِي عندَ سيِّدِكَ الملِك أنِّي مظلومٌ، عَدَا عليَّ إخْوَتِي فبَاعُوني وأنا حرٌّ، وحُبستُ في السجنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾؛ أي أنسَى الشيطانُ السَّاقي أنْ يذكُرَ يوسف عندَ الملكِ؛ أي شَغَلَهُ عن ذلك بما كان يدعوهُ إليه من اشتغالهِ برُكوب سَوْأتِهِ وخدمتهِ للملك. وَقِيْلَ: معناهُ أنسَى الشيطانُ يوسف ذِكْرَ ربهِ حتى التمسَ من النَّاجي منهما أن يذكُرَهُ عند ربه، وكان مِن حقِّه أن يتوَكَّل على اللهِ في ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾؛ والبِضْعُ ما بين الثَّلاث إلى التسعِ. وفي الخبر: أنه يبقَى في السجنِ بعد هذا القولِ سبعَ سنين. وعن الحسنِ: عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" رَحِمَ اللهُ أخِي يُوسُفَ لَوْ أنَّهُ ذكَرَ رَبَّهُ، وَلَمْ يَسْتَغِيثْ بالْمَلِكِ لَمْ يَلْبَثْ فِي السِّجْنِ مَا لَبثَ "قال: ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ وَقَالَ: (نَحْنُ إذا نَزَلَ بنَا أمْرٌ فَزِعْنَا إلَى النَّاسِ). وقالَ مالكُ بن دينار: (لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي: أذْكُرْنِي عِنْدَ رَبكَ، قِيْلَ لَهُ: يَا يُوسُفُ أتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلاً، لأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ، فَبَكَى يُوسُفُ وَقَالَ: يَا رَب أنْسَى قَلْبي كُثْرَةُ الْبَلْوَى). ويُحكى: أنَّ جبريل عليه السلام دخلَ على يُوسف السجنَ، فلمَّا رآهُ يوسف عَرَفَهُ وقال: يا أخَا المنذِرين، ما لِي أراكَ بين الخاطِئين؟ فقالَ له جبريلُ: ربُّكَ يُقرِؤُكَ السلامَ ويقول لكَ: ما استَحيَيتَ منِّي إذِ استشفَعتَ بالآدمِيِّين! فَوَعِزَّتِي لأُلبثَنَّكَ في السجنِ بضعَ سنين، قال يوسفُ: أهو عنِّي في ذلك راضٍ؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبَالِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾؛ رُوي أن يوسفَ مَرِضَ في السجنِ، فأمرَ اللهُ جبريلَ أن يَعُودَهُ، فعاده فعرفَهُ لكثرةِ اختلافه إلى آبائهِ، فقال له جبريلُ: يا طاهرَ بن الطاهرِ، ربُّ العزَّة يقولُ لكَ: مَن حبَّبَكَ إلى أبيكَ من بين إخوتِكَ؟ قالَ: هو، قال: فمَن أنقذكَ من أيدِي إخوتِكَ؟ قالَ: هو، قال: فمَن سهَّلَ لك السَّيارةَ في الأرضِ القِفْرِ حتى أخرَجوكَ من قعر البئرِ؟ قال: هو. ثم نَشَرَ جبريلُ جناحه، وأشارَ إلى الأرضِ فانفَرَجَت، قال: يوسفُ انظر ما ترَى؟ قال: أرَى هو، ثم أشارَ إلى الأرضِ ثانية فانفَرَجت كلها حتى نظرَ يوسفُ إلى الصخرةِ التي عليها الأرضُون، فقال جبريلُ: ما ترَى؟ قال: صخرةٌ عليها دُرَّةٌ، قال: فما ترَى في فمِ الدُّرَّةِ؟ قال: أرَى طعاماً، قال ربُّ العزة يقول لكَ: أنا أذْكُرُ هذه الدرَّة في هذا الموضعِ ثم أنساكَ على وجهِ الأرض؟ أما استحيَيتَ مني حتى تقولَ لعبدِ مَلِكٍ اذكُرني عندَ ربك، ولم تقُل يا رب، فعندَ ذلك قال يوسفُ: يا رب فاسأَلُكَ بمَنَّكَ القديمِ، وفضلِكَ العميمِ إلاّ غفرتَ لي، قال: يا يوسفُ أغفِرُ لكَ وأخرِجُكَ من السجنِ، ثم كان من رُؤيا الملكِ ما كان. ومعنى الآية: أن الملِكَ واسمه زيَّان بن الوليدِ رأى في النومِ سبعَ بقَراتٍ سِمَانٍ خرجنَ من نَهرٍ من أنْهَار مصرَ، فخرجَ من بعدِهنَّ سبعُ بقَرِاتٍ عِجَافٍ، فابتلعَ العجافُ السِّمانَ فدخلن في بُطونِهِنَّ ولم يزد منهنَّ شيئاً، فعَجِبَ منُهنَّ، ورأى سبعَ سُنبلات خُضْرٍ وسبعَ سُنبلات أخَرَ يابساتٍ، الْتَوَتِ اليابساتُ على الْخُضْرِ فقَلَبن خُضرَتَهُنَّ ولم يسير عليهن شيءٌ منهن. فأرسلَ الملِكُ في هذه الرُّؤيا إلى السَّحَرةِ والكَهَنة، فجمَعَهم ثم قصَّ عليهم ذلك وقال لهم: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴾؛ أي قالتِ الكهنةُ والسَّحرة: هذه الرُّؤيا أباطيلُ الأحلامِ كاذبَةٌ، وما نحنُ بتأويلِ الأحلامِ المختلفة بعالِمين، ليس لها عندنا تأويلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾؛ قالَ صاحبُ الشَّراب الذي نَجَا من السِّجنِ والقتل وتذكَّر بعد سِنين، ويقالُ: هذا بعدَ انقراضِ أُمَّة، والأُمَّة في اللغة هي المدَّة الكثيرةُ كما أنَّها في الجماعةِ الجماعةُ الكثيرة. ومَن قرأ (بَعْدَ أُمَّةٍ) فمعناهُ: بعدَ نسيانٍ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ قولُ صاحب الشَّراب لَمَّا عجزَ الكهنةُ عن تأويلِ رُؤيا الملكِ، جاءَ ووقفَ بين يديه فخاطبَهُ بلفظِ الجماعة كما يخاطَبُ الملكُ، وقال: أنا أخبرُكم بتعبيرِ هذه الرُّؤيا، فأَرسِلُون إلى السِّجن. ثم قالَ: إنَّما كنتُ عصَيتُ فحبَستَني أنا وخبَّازُكَ، فرَأينا فيها رُؤْيا فقصَصْنَاها على رجُلٍ في السجنِ عالِمٍ صالح صادقٍ، فأخبَرَنا بها فكان كما أخبرَ، فأرسِلُون إليه. فأرسلوهُ فدخلَ السجنَ وقال: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ ﴾؛ وحذفَ كلمةَ النداءِ اختصاراً، والصِّدِّيقُ: الذي يَجرِي على عاداتهِ في الصِّدق والتصديق بالحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ﴾؛ خرَجْنَ من نَهر بيتٍ تبعَهُنَّ ﴿ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ ﴾؛ بقراتٍ.
﴿ عِجَافٌ ﴾؛ هالِكات من الهزالِ، وفي ﴿ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾؛ التَوَينَ على الْخُضْرِ وغَلَبْنَ خُضرَتَهن. قولهُ تعالى: ﴿ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي لإِنَّ أرجِعَ بتأويلِ ذلك إلى الملِك والناسُ يعلمونَهُ. فقال له يوسفُ: أما سبعُ بقراتٍ سِمَانٍ فهي سبعُ سنين خَصْبَةٍ، وأما سبعُ بقرات عِجَافٍ فهي السُّنون السَّبع الْجَدْبَةِ، وأما سبعُ سُنبلات يابساتٍ فهو القحطُ والغَلاءُ في السِّنين الجدبَة، ثم عَلَّمَهُ يوسفُ عليه السلام كيف يصنَعون، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً ﴾؛ أي على ما هو عادتُكم في الزراعةِ، وَقِيْلَ: معنى قوله ﴿ دَأَباً ﴾ بجِدٍّ واجتهادٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ﴾؛ أي فما حصَدتُم من الزَّرعِ، فاتركوهُ في سُنبُلِهِ ولا تدرسوهُ.
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾؛ مِن ذلك في كلِّ سَنة، وإنما أمَرَهم بهذا؛ لأن الحنطةَ إذا كانت في سُنبلها كانت أبقَى منها اذا دُرسَتْ، فإنَّها إذا دُرست تآكَلَت، وفَسَدت بمُضِيِّ المدَّة عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ ﴾؛ أي قَحْطَةٌ ضيِّقةٌ على الناسِ، تأكلون فيها ما ادَّخَرتُم من زُروعِ السِّنين الخصبَة.
﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴾؛ إلا شيئاً قليلاً تُحصِنُونَهُ في موضعٍ من المواضع، ونسبَ الأكلَ إلى السِّنين القحطِ على التوسُّع؛ لأن الأكلَ كان يقعُ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ هذا خبرٌ من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رُؤيا الملِك، ولكنه من علمِ الغيب الذي آتَاهُ الله إياه، كما قال قتادةُ: (زَادَهُ اللهُ عِلْماً سَنَةً لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهَا). والمعنى: أنَّ يوسف عليه السلام قالَ له: ثم يأتِي من بعدِ هذه السنين الأربعَةَ عشرةَ، سنةٌ فيها يغاثُ الناس. يجوز أن يكون هذا من الغَوْثِ؛ أي يُغِيثُ اللهَ في تلك السَّنة عبادَهُ فتزَكُوا فيها زرُوعَهم وفَواكههم وأعنَابُهم. ويجوز أن يكون من الغَيْثِ وهو المطرُ؛ أي آتَاهُم اللهُ بالأمطارِ والخصب في تلك السَّنة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ قرأ أهلُ الكوفة إلاَّ عَاصِماً بالتَّاء؛ لأن الكلامَ كلَّه خطابٌ، وقرأ الباقون بالياءِ ردَّهُ إلى الناسِ، قال أكثرُ المفسِّرين: يَعْصِرُونَ العِنَبَ خَمْراً، والزيتونَ زَيْتاً، والسمسُمَ دُهناً، وهنا أراد يعصِرون الأعنابَ والأثمارَ والحبوب من كثرةِ الغيثِ والخير. وَقِيْلَ: معناهُ: يَنْجُونَ من البلاءِ والشدَّة، والعُصْرَةُ النجاةُ والملجَأُ، وقال الشاعر: صَادِياً يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ   وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ الْمَنْجُودِومَن قرأ (يُعْصَرُونَ) بضمِّ الياء ونصب الصاد، فمعناهُ يُعْصَرُونَ من قولهِ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً ﴾[النبأ: ١٤].
فلمَّا رجعَ الرسولُ إليه وأخبرَهُ بمقالتهِ، قالَ الملِكُ: ائْتُونِي به، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ ﴾؛ قال له: إن الملِكَ يدعُوكَ.
﴿ قَالَ ﴾؛ له يوسفُ: ﴿ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾؛ سيِّدِكَ الملكِ.
﴿ فَاسْأَلْهُ ﴾؛ حتى يسألَ.
﴿ مَا بَالُ ﴾، عن شأنِ.
﴿ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾؛ أكُنَّ صادقاتٍ على يُوسُفَ أم كاذباتٍ عليه، وليعلمَ صحَّةَ بَراءَتِي، وأنِّي مظلومٌ بالحبسِ، وأبَى أن يخرُجَ مع الرسولِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾؛ وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ صَبْرِ أخِي يُوسُفَ وَكَرَمِهِ، وَلَوْ كُنْتُ أنَا الَّذِي دُعِيتُ إلَى الْخُرُوجِ لَبَادَرْتُهُمْ إلَى الْبَاب، وَلَكِنَّهُ أحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ فيه إضمارٌ، تقديرُ الكلامِ: فرجعَ الرسولُ إلى الملِك فأعلمَهُ بذلكَ، فأرسلَ الملكُ إلى النسوةِ فأحضرَهنَّ، ثم قالَ لهن: ﴿ مَا خَطْبُكُنَّ ﴾ أي ما شأنُكن إذا طلبتُنَّ يوسف عن نفسهِ.
﴿ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ ﴾؛ هذا جوابُ النسوةِ للملك بكلمة التَّنْزِيهِ، نزَّهنَ يوسفَ عن ما اتُّهِمَ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ ﴾؛ أي من قبيحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أي تَبَيَّنَ وظهرَ الحقُّ ليوسف.
﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ أي دعوتهُ إلى نفسي.
﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ في قولهِ إنه لَمْ يُراودْنِي. قال ابنُ عبَّاس: (فَرَجَعَ صَاحِبُ الشَّرَاب إلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَقَالَ يُوسُفُ: ﴿ ذٰلِكَ ﴾، الَّذِي فَعَلْتُ مِنْ رَدِّي رَسُولَ الْمَلِكِ إلَيْهِ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ) ﴿ لِيَعْلَمَ ﴾ العزيزُ.
﴿ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ ﴾ في زوجتهِ في حال غَيْبَتهِ عنِّي. قال أهلُ الوعظ: فقال جبريلُ: بل ولاَ هَمَمْتَ بها، فقال يوسفُ: ﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ ﴾؛ فإن صحَّت هذه الروايةُ كان المعنى: وما أُبَرِّئُ نفسي من الْهَمِّ؛ أي ما أُزَكِّيها، وتزكيةُ النفسِ مما يُذمُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ ﴾؛ أي بالقبيحِ، وذلك لكثرةِ ما تَشتَهيهِ وتسارعُ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ ﴾؛ أي إلا ما عَصَمني ربي بلُطفِه، و(ما) بمعنى (من)، كقولهِ﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٣]، وفي هذا دليلٌ أنَّ أحداً لا يمتنعُ من المعصيةِ إلا بعصمةِ الله، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي غفورٌ لذنوب المذنِبين، رحيمٌ بهم بعد التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾؛ إي قالَ الملكُ: ائتُونِي بيوسُفَ أجعلْهُ خَالصاً لنفسِي أرجعُ إليه في تدبيرِ مملكَتي، وأعملُ على إشارته، فلما جاءَهُ الرسولُ قال: أجِب الملكَ، قال: الآنَ. فخرجَ يوسفُ.
﴿ فَلَمَّا ﴾؛ دخلَ على الملكِ.
﴿ كَلَّمَهُ ﴾، قال: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَعُوذ بكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ، ثم سَلَّمَ عليه يوسف بالعربيَّة، فقالَ له: وما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ عَمِّي إسماعيل، ثم دعَا له بالعبرانيَّة، فقال له: وما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ آبَائِي. فأُعجِبَ الملكُ ما رأى منه. وكان يوسفُ يومئذٍِ ابنُ ثلاثين سَنة، فلما رأى الملك حَدَاثَةَ سِنِّهِ قال لِمَن عندَهُ: إنَّ هذا عَلِمَ تأويلَ رُؤيَايَ، ولَم تَعْلَمْهُ السحرةُ ولا الكهنة، ثم أجلسَهُ وقال له: إنِّي أحبُّ أن أسمعَ تأويلَ رُؤيَايَ شِفَاهاً منك. قال: أيُّها الملكُ، رأيتَ سبعَ بقراتٍ سِمَانٍ حِسَانٍ كشفَ لكَ عنهُنَّ النيلُ، خرجنَ عليكَ من شاطئهِ، فبينما أنتَ تنظرُ إليهن، ويُعجِبُكَ حُسْنُهُنَّ إذ نَضَبَ النيلُ وغَارَ ماؤهُ، فخرجَ من حَمْأَتِهِ وَوَجَلِهِ سبعُ بقراتٍ عِجَافٍ شُعْثٍ غيرِ مقلصات البُطون، ليس لهن ضُروعٌ ولهن أضراسٌ وأنياب وأكُفٌّ كَأَكُفِّ الكلاب، فاختطَفن بالسِّمانِ فافتَرسُوهنَّ افتراسَ السَّبُعِ، فأكلنَ لُحومَهن ومزَّقْنَ جُلودَهن ومَشْمَشَنَ مُخَّهُنَّ وحطَّمن عِظَامَهُنَّ. فبَينا أنتَ تتعجَّبُ إذ بسبعِ سنبلات خُضْرٍ وسبع آُخر سُود في منبتٍ واحد وأصولُهن في الماءِ، إذ هبَّت ريحٌ فجعلت اليابساتِ السودِ على الْخُضْرِ المثمِرات، فأشعَلَت فيهن النارَ فأحرقتهن، فهذا ما رأيتَ من الرُّؤيا. فقال الملكُ: واللهِ إن هذه الرؤيا وإنْ كانت عَجَباً، فإن الذي سمعتُ منك أعجَبُ، فما ترَى فيها؟ فقال تَأْويلُها كذا وكذا كما قد تقدَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾؛ أي قالَ له الملكُ: إنَّك اليومَ لدينا مُتَمَكِّنٌ من فعلِ ما تريدُ، نافذُ القولِ والأمرِ، قد ظهَرت أمَانَتُكَ، وظهرَ كَذِبُ النساءِ عليكَ، ولم تظهرْ منكَ خيانةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾؛ أي قال يوسفُ: اجعَلنِي على خزائنِ أرضِكَ، واجعَلْ تدبيرَها إلَيَّ، وأرادَ بذلك الخزائنَ التي يُجمع فيها طعامُ الأرضِ وأموالُها التي كان مصيرُها إلى الملكِ، وكانت أرضُ مصر أربعين فَرسخاً في أربعين فرسخاً. وإنما قال يوسف ذلك لصلاحِ الْخَلْقِ؛ لأن الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ بُعِثُوا لإقامةِ العدلِ ووضعِ الأشياء مواضِعَها، فعَلِمَ يوسف أنه لا أحدَ أقْوَمُ بذلك منهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ أي حافظٌ للخزائنِ، عالِمٌ بوَضعِها مواضعها، وَقِيْلَ: لجميعِ ألْسُنِ الغرباء الذين يأتونَك، فإنه كان يتكلَّمُ بالعربيِّ والعبرانِي والسريانِي والقِبْطي. وقيل عالِمٌ بساعات حاجاتِ الناس، وذلك أنْ أمَرَ الخبَّازين أن يجعلوا غداءَ الملكِ نصفَ النهارِ، فمَن ثمَّ جعلَ الملوكُ غداءَهم نصفَ النهار، فلما كانت الليلةُ التي وقعَ فيها الجوعُ أوَّل السنين الْجَدْبَةِ، أمَرَ الخبَّازين أن يجعلُوا غَدَاءَهُ مع عشَائهِ ففعلوا، فوقَعَ الجوعُ فِي نصفِ الليل، فهتفَ الملكُ: يا يوسفُ الجوعَ الجوعَ، فقرَّب إليه طعامَهُ. وفي الآية دليلٌ على أنه لا يجوزُ للإِنسان أن يمدحَ نفسه بالأفضلِ عند مَن لا يعرفهُ، وأنَّ المرادَ بقولهِ تعالى:﴿ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾[النجم: ٣٢] النهيُ من تزكيةِ النفس للفَخْرِ والسُّمعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾؛ أي كما برَّأنا سَاحَتَهُ وخلَّصانهُ من الحبسِ، كذلك مَكَّنَا له في أرضِ مصر ﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا ﴾ أي يَنْزِلُ بها حيثُ يشاء.
﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ ﴾.
ورُوي أن الملكَ تَوَّجَهُ وأعطاهُ سَيْفَهُ ووضعَ له سَريراً من ذهبٍ مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوتِ، ثم أمرَ بأن يجلسَ عليه، فجلسَ ولَزِمَ الملكُ بيته وفوَّضَ إليه كلَّ أمُورهِ، وذلَّت له سائرُ الملوكِ، فلَطَفَ يوسفُ بالناسِ وأقامَ فيهم العدلَ وأخذ يدعوهم إلى الإسلامِ، فأحبَّهُ الناسُ كلهم وآمَنَ كثيرٌ منهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ على إحسانِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي ولَثَوابُ الآخرةِ خيرٌ من ثواب الدُّنيا للذين آمَنُوا بالله وكتُبهِ.
﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾؛ الكفرَ والفواحشَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾؛ وهم عشرةٌ، جَاؤُا من بعدِ أبيهم في سِنِيِّ القحطِ لطلب الطعام كما يجيءُ غيرهم، فدخَلُوا عليه وكلَّموهُ بالعبرانية، وعليه ثيابُ حريرٍ وطَوْقُ ذهَبٍ، وهو جالسٌ على سريرِ مُلكهِ.
﴿ فَعَرَفَهُمْ ﴾؛ أنَّهم إخوَتهُ.
﴿ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾، وكانوا لا يعرفونَهُ لطُولِ العهدِ؛ لأنَّهم كانوا رَأوْهُ صَغيراً، ولم يظُنُّوا أنه يصيرُ مَلِكاً، فأَمَارَهُمْ وأحسنَ إليهم، وفاوضَهم في الحديثِ حتى حدَّثوهُ بحديث أبيهم، وقالوا: إنَّ لنا أباً شَيخاً كبيراً وكُنا اثني عشرَ، فهلكَ واحدٌ منَّا في الغنَمِ ووجدنا قميصَهُ وعليه دمٌ فأتَينا به أبَانَا، ولهُ أخٌ وهو آثرُ إلى أبينَا مِنَّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ﴾؛ لهم: ﴿ ٱئْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ﴾؛ أي لمََّا أعطاهم الْمِيرَةَ وكالَ لهم كَيلَهم، قال لَهم: ﴿ ٱئْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّيۤ أُوفِي ٱلْكَيْلَ ﴾؛ أعطِي الناسَ حُقوقَهم على التمامِ.
﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ ﴾؛ للأُمور منَازلُها.
﴿ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾؛ مرَّة أُخرى.
قولهُ: ﴿ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ﴾؛ أي قالُوا: سَنَطْلُبهُ من أبيهِ.
﴿ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾؛ أن سنَجِيء به، وخافَ يوسفُ أن لا يكون عند أبيهم من الرِّزقِ ما يرجِعُون به إليه مرَّة أُخرى. فأمَرَ أن يجعلَ درَاهِمَهم في أوعِيَتهم من غيرِ علمٍ لَهم، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ٱجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ﴾؛ أي قالَ يوسفُ لِخُدَّامِهِ مِن مماليكهِ: اجعَلُوا دَراهِمَهم ودنانِيرَهم التي جَاؤُا بها في رحالِهم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا ٱنْقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ﴾، لكي يعرِفُوا هذه الكرامةَ مِنِّي. ويقال: كي يعرِفُوا أنَّها دَرَاهِمي.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾، فيرجِعُوها فيردُّوها عَلَيَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ ﴾؛ في المستقبلِ إن لم تُرسِلْ معنا بنيامين.
﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ ﴾؛ لنَا ولَهُ. ومن قرأ (يَكْتَلْ) بالياء أي يكتل أخُونَا، يأخذ لنفسهِ حِمْلاً.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾؛ حتى نَرُدَّهُ عليكَ. ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ ﴾؛ يوسُفَ.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾؛ فضيَّعتموهُ وغيَّبتموهُ عني، ولئن أرسلتُ معكم بنيامين.
﴿ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ﴾، أي فعلَى اللهِ أتوكَّلُ، فإنَّ حِفْظَ اللهِ خيرٌ من حفظِكم. ومن قرأ (حَافِظٍ) أي خيرُ حافظٍ، وكُلاًّ نُصب على التمييزِ.
﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾.
قال كعبٌ: (لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ: واللهُ خَيْرٌ حَافِظاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَعَزَّتي لأَرُدَّنَّ عَلَيْكَ كِلاَهُمَا بَعْدَ مَا تَوَكَّلْتَ عَلَيَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي لما فتَحُوا أوعِيَتهم وجدوا دارهِمَهم رُدَّتْ إليهم.
﴿ قَالُواْ ﴾؛ لأَبيهم: ﴿ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي ﴾؛ أي ما نظلِمُ ولا نكذبُ في ما أخبَرنَاكَ به أنَّ مَلِكَ مصرَ أكرَمَنا وألطفنا، وهذا إذا كان قولهُ: ﴿ مَا نَبْغِي ﴾ من البغيِ، فأما إذا كان من الطلب، فمعناهُ الاستفهامُ دون الجحدِ، وموضع (مَا) نَصْبٌ تقديرهُ أيُّ شيءٍ نريدُ، وفي قراءةِ عائشةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَا نَبْغِي مَعْنَاهُ مَا نَطْلُبُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾؛ ابتداءُ كلامٍ معناهُ: درَاهمنا وهي ثمنُ الطعامِ الذي اشتريناهُ بمصرَ رُدَّتْ إلينا، وقولهُ تعالى: ﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾؛ أي نَمْتَارُ لأهلنا، بقولهِ مَارَ فُلانٌ لأَهْلِهِ إذا حَمَلَ إليهم قُوتَهم من غيرِ بلدةٍ. ومَن قرأ (نُمِيرُ) بضم النون، أي نجعلهم أصحابَ مِيرَةٍ.
﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا ﴾؛ مِن أن يضيعَ.
﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾؛ إذا كان هُوَ مَعنا، وسُمي الْحِمْلُ كَيْلاً؛ لأنه يُكَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾؛ أي هَيِّنٌ سريع لا حَبْسَ فيه إنْ أرسَلتَهُ معَنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ﴾؛ لهم يعقوبُ: ﴿ لَنْ أُرْسِلَهُ ﴾؛ بنيامين.
﴿ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً ﴾؛ أي تُعطونِي عَهْداً وثيقاً.
﴿ مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾؛ لتَرُدُّنَّهُ عليَّ.
﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾، يُنْزِلُ بكُم أمِينُ السَّماءِ والأرض لا تَقدِرُون على دفعِ ذلك.
﴿ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾؛ أي لما حَلَفوا.
﴿ قَالَ ﴾؛ لَهم يعقوبُ: ﴿ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾؛ أي شهيدٌ حفيظ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ قال ابنُ عبَّاس: (خَافَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ الْعَيْنَ لِجَمَالِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَكُلُّهُمْ بَنُو أبٍ وَاحِدٍ). ثم رجعَ إلى علمهِ.
﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾؛ أي ما القضاءُ إلا للهِ.
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾؛ إليهِ فوَّضتُ أمرِي وأمْرَكم مع التمسُّك بطاعتهِ والرضا بقضائهِ.
﴿ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴾.
واختلفَ العلماءُ في أمرِ العَيْنِ، فقالَ بعضُهم: هي حَقٌّ، واستدَلُّوا بما" رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَوَّذ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَرَقَّى لَهُمَا مِنَ الْعَيْنِ وَقَالَ " وَأُعِيذُكُمَا باللهِ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ " "، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" وَالْعَيْنُ حَقٌّ "وقال بعضُهم: إنه يَمْتَدُّ من عينِ الناظر أجزاء، فتتصلُ بما يَسْتَحسِنهُ فتؤثِّرُ فيه كتأثيرِ اللَّسْعِ من النارِ والسُّمِّ. وأنكرَ بعضُ العلماءِ الإصابةَ بالعينِ؛ لأنه لا شُبهةَ في أنَّ الأمراضَ والأسقامَ لا تكون إلا مِن فعلِ اللهِ؛ لأن الإنسانَ لا يقدرُ على ذلكَ. وفي قولهِ: ﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ بيانُ أنه لا ينفعُ حَذرٌ مِنْ قَدَرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم ﴾؛ أي لَمَّا دخَلُوا مصرَ من أبوابٍ متفرِّقةٍ، وكان لمصرَ أربعةُ أبوابٍ، فدخَلُوها من أبوابها كلِّها كما أمَرَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾؛ أي ما كان يُغنِي يدفعُ عنهم شَيئاً من قضاءِ الله، يعني: لو قَدَّرَ اللهُ أن تُصِيبَهم العينُ لأصَابَتهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾؛ وهي دخولُهم مصرَ من أبوابٍ متفرِّقة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾؛ أي إن يعقوبَ لَذُو يَقينٍ ومعرفةٍ بالله وبأمر الدِّين لتَعلِيمِنَا إياهُ أن لا يصيبَ أحداً شيءٌ إلا بقضاءِ الله.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾؛ أي ضَمَّ أخاهُ بنيامين إلى نفسهِ، وَقِيْلَ: أذِنَ له بالدُّخولِ عليه، وجَلَسَ إخوتهُ بالباب، فلما دخلَ عليه قالَ: ما اسْمُكَ؟ قال: بنيَامِينَ، قال: مَا اسمُ أُمِّكَ؟ قال: رَاحِيل، قال: فهَلْ لَكَ والدٌ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: هل لك إخوةٌ من أبيكَ؟ قالَ: عشرةٌ، فقال: هل لكَ أخٌ من أُمِّكَ؟ قال: كانَ لِي أخٌ من أُمِّي هَلَكَ، قال: أُحِبُّ أنْ أكونَ أخاكَ بدلَ أخِيكَ الهالِكَ؟ فقال: أيُّها الملِكُ ومَن يجدُ أخاً مثلكَ؟ لكن لَمْ يَلِدْكَ يعقوبَ ولا راحيلُ. فخَنقَتْ يوسفُ العبرةَ، فبَكَى ثم وثبَ إليه فَاعتنَقَهُ، و ﴿ قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ ﴾؛ وبكَى كلُّ واحدٍ منهما، ثم أعلَمَهُ يوسف أنه سَيحتَالُ في إحباسهِ عنده، ثم أذِنَ لإخوتهِ بعدَ ذلك في الدُّخولِ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي لا تَحْزَنْ بما كانوا يعمَلون بي وبكَ مِن حَسدِنَا، وصَرْفِ وجهِ أبينَا عنَّا. فقد جمعَ اللهُ بيني وبينكَ، وأرجُو أن يجمعَ اللهَ بيننا وبين يعقوب، ثم أوْفَى يوسفُ لإخوتهِ الكيلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾؛ أي فلمَّا كَالَ لَهم، أمَرَ أصحابَهُ المختصِّين به أن يجعَلُوا الصاعَ في رَحْلِ أخيهِ بنيامين، وسُمِّيَ الصاعُ سقايةً؛ لأنه كان قبلَ ذلك مما يَسْتَقِي به الملِكُ الخمرَ وكان من ذهبٍ. وقال ابنُ عبَّاس: (كَانَ قَدَحاً مِنْ زُبُرْجَدٍ). وَقِيْلَ: كان من فضَّةٍ مُمَّوَّهٍ بالذهَب، وكان الشُّربُ في مثلِ ذلك الإناء جَائزاً في شَريعَتِهم، فلما كان في أيَّام القحطِ أمَرَ الملِكُ أن يُكالَ به الطعامُ للناسِ. قِيْلَ: فلمَّا قال يوسفُ لبنيامين: إنِّي أنا أخُوكَ، قال لهُ: فإنِّي لا أُفارِقُكَ أبداً، قال يوسفُ: قد علمتُ اغتِمامُ وَالِدي لي، فأخافُ إنْ حبَستُكَ معي ازدادَ غَمُّهُ، ثم لا يُمكِنُني حَبْسُكَ إلاَّ بأنْ أُشَهِّرَكَ بأمرٍ فظيع، قال: لاَ أُباليِ فافعَلْ ما شئتَ. قال: فإنِّي أدُسُّ صَاعِي هذا في رَحلِكَ، ثم أُنادِي عليكَ بالسَّرقة ليَتهَيَّأَ لِي حَبسُكَ معي.
﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ﴾، أي فلما رَحَلت إخوةُ يوسفَ نادَى مُنَادٍ: ﴿ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾؛ وكان النداءُ على ظنٍّ مِن هؤلاءٍ الموَكَّلِين بالصاع أنَّهم كذلكَ. ولم يكن هذا النداءُ بأمر يُوسف ولا يعلمهُ؛ لأن الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يَأْمُرُونَ بالكذب، ومَن قالَ: إنَّ هذا النداءَ كان بأمرِ يُوسُفَ، فيحتملُ أنْ يكون معناهُ: إنَّكم لسَارِقُونَ يُوسُفَ على أبيهِ حين غيَّبتموهُ عنه. والعِيرُ اسمٌ لقافلةِ الْحَمِيرِ دُون قافلةِ الإبل، ثم كَثُرَ استعمالهُ في كلِّ قافلةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ؛ أي قالَتْ إخوةُ يوسُفَ وَأقبَلُوا على المنادِي وأصحابهِ: ماذا تَطلبُون أتَنسِبُونا إلى السَّرقَةِ.
{ قَالُواْ نَفْقِدُ ﴾
؛ أي نَطْلُبُ.
﴿ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ ﴾؛ والصُّوَاعُ والصَّاعُ واحدٌ وهو السِّقايَةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾؛ من الطَّعامِ.
﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾؛ أي كَفِيلٌ، قالَ هذا القولَ المؤَذِّنُ، وقال لَهم أيضاً: إنَّ الملِكَ قَدِ اتَّهَمَنِي، وأخافُ عقوبتَهُ وسقوطَ مَنْزلَتي عندَهُ إنْ لم أجدِ الصَّاعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي حلَفُوا باللهِ وقالوا: لقد عَلِمتُم ما جِئْنَا لنُفسِدَ في أرضِ مِصْرَ بالسَّرقة من الناسِ.
﴿ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾؛ ما تَظُنُّونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴾؛ أي ما جزاءُ مَنْ سَرَقَ إنْ كنتم كَاذِبين.
﴿ قَالُواْ جَزَآؤُهُ ﴾ السارقُ.
﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ أُخِذ عَبداً لسَرِقته.
﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ استِرقاقهُ.
﴿ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي هكَذا جزاءُ السَّارقين في أرضِنا وهي سُنَّةُ يعقوبَ عليه السلام، حَكَمُوا على أنفُسِهم بما كان يطلبُ يوسُفَ من احتباسِ أخيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ﴾، أي فبدأ يوسفُ بتفتيشِ أوعِيَتهم قبلَ وعاءِ أخيه.
﴿ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ﴾؛ فلَمَّا فتَّشَ وعاءَ أخيهِ وجدَ الصَّاعَ، فلما رأى أخوةَ يوسُفَ ذلك، تحيَّرُوا ونَكَّسُوا رُؤوسَهم، وقالوا لبنيامين: يَا ابْنَ المشؤومةِ وأخُوا المشؤومِ! ما الذِي حَمَلَكَ على أن تسرُقَ صُواعَ الملكِ فتَفضَحَنا وتُزْري بأَبيكَ يعقوبَ، فجعلَ يحلِفُ باللهِ ما سرقتهُ ولا عِلْمَ لِي بمن وضعَهُ. فلم يقبَلُوا منهُ وقالوا له: فمَن وضعَهُ في متَاعِكَ؟ قال: الذي وضعَ بضاعَتَكم في رحالِكم في المرَّة الأُولى، فقالُوا فيما بينهم: لعلَّ هذا الملكُ يريد بنَا أمراً، فبينما هُم في الخصومةِ إذ أقبلَ فتى يُوسف فأخذ برَقبَةِ بنيامينَ وذهبَ به إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ ﴾ كذلك ضَنَعنا ليوسُفَ حتى أخذ أخاهُ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ يوسُفَ كان مأْذُوناً له من جهةِ الله في هذه الحيلةِ ليُضَاعِفَ الثوابَ ليعقوبَ على فَقدِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ما كان ليأخُذ أخاهُ في قضاءِ الملك، لأن من حُكمِ الملكِ في السَّارق أن يُضْرَبَ ويَغْرَمَ ضِعْفَي ما سَرَقَ، فلم يكن يوسفُ يتمكَّنُ من حبسِ أخيه عندَهُ في حُكمِ الملكِ لولا ما كادَ اللهُ له تلطُّفاً حتى وجدَ السبيلَ في ذلك، وهو ما جرَى عليه ألسِنَةُ إخوتهِ أنَّ جزاءَ السارقِ الاسترقاقُ، فأمِرُوا به وكان ذلك مُراده، وهو معنى قولهِ ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ وكان ذلك بمشيئةِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾؛ أي في العلمِ كما رفَعنا درجةَ يوسف.
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾؛ أي فوقَ كلِّ عالِم عالِمٌ حتى ينتهِي العلمُ إلى اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ ﴾؛ لأبيهِ وأُمِّه.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي قالَ أخوةُ يوسف: إنْ يسرِقْ بنيامينُ سقايةَ الملكِ ﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ يَعْنُونَ يوسف، وذلك أنَّ عمَّةَ يوسف كانت تُحِبُّهُ وهو صغيرٌ، وكان يعقوبُ لا يتركهُ عندَها، فاحتَالَتْ وجاءَتْ بمِنْطَقَةِ أبيها إسحاقَ فشَدَّتْها على وسط يوسُفَ تحتَ القميصِ، ثم قالت: فقد سَرَقَ مِنْطَقَةَ أبي فأنا آخذهُ بذلكَ. فهي التي أرادَ إخوتهُ بإضافتِهم السرقةَ إليه. وعن مجاهدٍ: (أنَّ يُوسُفَ جَاءَهُ سَائِلٌ يَوْماً، فَسَرَقَ بَيْضَةً مِنَ الْبَيْتِ فَنَاوَلَهُ إيَّاهَا، فَعَيَّرُوهُ بذلِكَ). وَقِيْلَ: كان يُخَبىءُ الطعامَ من المائدةِ للفُقراء، وَقِيْلَ: جاءَ سائلٌ ولم يكن في المنْزِل معه أحدٌ، فأعطاهُ جَدْياً من غيرِ أمرِ أبيه فهذه سرَقتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾؛ أي أخَّرَ هذه الكلمةَ في نفسهِ، ولم يُظهِرْ لَهم جَواباً، بل ﴿ قَالَ ﴾؛ في نفسهِ: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾؛ أي صُنعاً من يوسُف بما قدَّمتُم عليه من ظُلْمِ أخيكم وعُقوقِ أبيكُم.
﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾؛ به يُوسُفَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾؛ رُوي أنَّ يَهُودَا كان أشدَّ بني يعقوبَ غَضباً، وكان إذا غَضِبَ صاحَ فلا تسمَعُ صوتهُ حَامِلٌ إلاَّ وضَعَتْ، وكان إذا غَضِبَ تقومُ كلُّ شعرةٍ من جسدهِ وتنتفخُ، فلا يسكنُ غضبهُ حتى يَمَسَّهُ واحدٌ من آلِ يعقوب. فقال يَهُودا لبعضِ أخوَتهِ: انظرُوا كَمْ سُوقاً بمصْرَ؟ فنَظَروا فإذا هي عشرةٌ، فقالَ لإخوته: اكفوني مِن هذه الأسواقِ حتى أكفِيكُمْ من الملكِ، ثم قالَ: تباعَدُوا منِّي، فأمرَ يوسفُ ابناً له صَغيراً، فقال: اذهَبْ فمُسَّ ذلك الرجلُ، فدَنَا منه فمَسَّهُ فذهبَ غضبهُ، ثم هَمَّ أن يصيحَ ثانيةً، فقامَ إليه يوسفُ فَرَكَضَهُ برجلهِ ليُرِيَهُ أنه شديدٌ، ودفعَهُ ثم أخذ بتَلاَبيبهِ فجَذبَهُ فوقعَ في الأرضِ. ثُم قال: إنَّكم تَرونَ مَعْشَر العبرانيِّين أنَّ أحداً ليس مِثلَكم في الشدَّة. فقال يَهُودَا لإخوتهِ: هل مَسَّني أحدٌ من آل يعقوبَ؟ قالوا: لاَ، وذلَّ يهودا عند ذلكَ، وقال: أيُّها العزيزُ إنَّ له أباً شَيخاً كبيراً في السنِّ، فذكَروا هذا على جهةِ الاستِرحَامِ. وَقِيْلَ: معناهُ: كبيرَ القَدْر لا يحسبن، أين مِثْلهُ؟ فخُذْ أحدَنا مكانه عَبداً. وَقِيْلَ: وفي هذه دليلٌ أنه كان يجوزُ لإنسان أن يُرِقَّ نفسه لغيرهِ، وقد نُسِخَ هذا بشريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ إلى كُلِّ مَن يأتيكَ وقد أوفَيتَ لنا الكيلَ، ورَدَدتَّ علينا بضَاعَتنا وقضَيتَ حاجَتنا، فإنْ رَدَدْتَّ معَنا أخانا كان أعظمَ مِنَّةٍ علينا مِن جميعِ ما سبقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ﴾؛ يوسفُ: ﴿ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾؛ وهذا نُصِبَ على المصدرِ؛ أي أعوذُ باللهِ.
﴿ أَن نَّأْخُذَ ﴾؛ أي أن آخُذ بالسَّرقة.
﴿ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾؛ إذا فَعَلنا ذلك كُنَّا ظَالِمين، نحبسُ مَن لم نجِدْ متَاعَنا عندَهُ. يجوزُ أن يكون أرادَ إنَّا.
﴿ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ ﴾، عندكم وفي حكمكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ﴾؛ أي لَمَّا يَئِسوا من يوسُفَ أن يَرُدَّ أخَاهم عليهم انفَرَدُوا مُتناجِينَ فيما بينهم يتشاوَرُون كيفَ يرجِعُون إلى أبيهم وماذا يقُولون له. والتَّنَجِّي مصدرٌ يُعَبرُ بهِ عن الواحدِ والجميع، وقد يُجْمَعُ النَّجِيُّ أنْجِيَةً، قال الشاعرُ: إنِّى إذا مَا الْقَوْمُ صَارُواْ أنْجِيَهْ   وَاخْتَلَفَتْ أعْنَاقَهُمْ الأَرْشِيَهْهُنَاكَ أُوْصِي وَلاَ يُوصَى بيَهْ   قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي قالَ لهم رُوبيل وهو أكبرُهم في السنِّ: ألَمْ تعلَمُوا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم عَهْداً من اللهِ لَتَرُدُّنَّهُ عليهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾؛ أي وتعلَمُون تفرِيطَكم في يوسف.
﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ ﴾ أي أرضَ مصرَ.
﴿ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ ﴾ في البَرَاحِ.
﴿ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي ﴾؛ في موتٍ، أو وصُولٍ إلى أخِي فأَرُدُّهُ إلى أبيهِ ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ ﴾؛ لا يحكمُ إلا بالحقِّ. ثُم قالَ لإخوتهِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ ﴾؛ صُوَاعَ الملكِ. وقرأ ابنُ عبَّاس (سُرِّقَ) بضمِّ السين وتشديدِ الراء.
﴿ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾؛ إخبارٌ عن ظاهر وجودِ الصَّاع في رَحْلِ بنيامين أنه هو الآخذُ له.
﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾؛ أي ما كُنَّا ندري باطنَ الأمرِ في السَّرقة أنه سَرَقَ أو كُذِبَ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾؛ أي اسأَلْ مَن شِئْتَ من أهلِ القرية التي كُنَّا فيها وهي مصرَ، فإنَّ أمرٌ شائع فيهم، يخبرْكَ به مَن سألتَهُ. وسَمَّى مصرَ قَريةً؛ لأن العربَ تُسمِّي الأمصارَ والمدائنَ قُرَى. وَقِيْلَ: أرادَ بالقريةِ قريةً من قُرَى مصرَ وهي التي ارتَحَلُوا من مصرَ إليها. قوله: ﴿ وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾؛ أي واسأَلْ أهلَ القافلةِ التي رجَعنا منهم، وكان قد صَحِبَهم قومُ كنعان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾؛ أي لصَادِقُون فيما نقولُ لكَ. فقالَ لَهم يعقوبُ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾؛ أي قالَ: إنَّ ابنيِ لا يسرقُ، وإنَّما سهَّلَت لكم أنفسُكم أمراً إذا قُلتم فيه سَرَقَ، فأمرِي صبرٌ جميل لا جَزَعَ فيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ﴾؛ أي بيوسُفَ وبنيامينَ وروبيل.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بعبادهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في تدبيرِ أمرِ خَلْقِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾؛ أي أعْرَضَ عنهم لشدَّة الحزن.
﴿ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ ﴾؛ أي أقْبلْ أيُّها الأسَفُ فقد حانَ وقتُكَ، والأسَفُ والحزنُ واحدٌ. وَقِيْلَ: الأسَفُ أشدُّ من الحزنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ ﴾، من شدَّة البُكاءِ وإلاَّ فالحزنُ لا يُبَيِّضُ العينَ، والدمعُ مما لا يمكن الاحترازُ عنه كما قالَ صلى الله عليه وسلم:" الْقَلْبُ يَحْزَنُ وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾؛ أي مُمسِكٌ للحُزنِ يتردَّدُ حزنهُ في جَوفهِ، وقال عطاءُ: (الْكَظِيمُ الْحَزِينُ)، وقال الضحَّاك: (كَمِيدٌ)، وقال ابنُ عبَّاس: (مَهْمُومٌ) قال مقاتلُ: (لَمْ يُبْصِرْ بعَيْنَيْنِ سِتَّ سِنِينَ حَتَّى كَشَفَهُ اللهُ بقَميصِ يُوسُفَ)، قِيْلَ: بلغَ من حُزنِ يعقوبَ حزن سَبعين ثكلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ ﴾؛ أي قالَ أولادُ يعقوبَ: واللهِ لا تزالُ تذكرُ يوسفَ حتى تكون دَنفاً أو تَموت، والْحَرَضُ الذائِبُ البَالِي. وعن الحسنِ: (حَتَّى تَكُونَ حُرُضاً) بضَمَّتَيْنِ، أرَادَ كَالأشْنَانِ الْمَوْقُوفِ. وقال الربيعُ: (الْحَرْضُ يَابسُ الْجِلْدِ عَلَى الْعَظْمِ). وَقِيْلَ: هو الضَّعِيفُ الذي لا حِرَاكَ بهِ. وإنما أضمرَ (لاَ) في قولهِ (تَفْتَؤُ) لأنَّ العربَ تقولُ: واللهِ تدخلُ هذا الدارُ، تريدُ بذلك نفيَ الدخولِ، فإذا أرادَتْ للإثباتِ قالت: لَتَدْخُلُنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي قالَ يعقوبُ: إنَّما أشْكُو غَمِّي وحُزْنِي إلى اللهِ. والْبَثُّ: هو تفريقُ الحزنِ الذي لا يكادُ يصبرُ عنه صاحبهُ حتى يَبُثَّهُ. ورُوي أنَّ رجُلاً قالَ ليعقوب عليه السلام: مَا الذي أذهبَ بصَرَكَ؟ قال: حُزْنِي على يوسُفَ، قال: فما الذي قَوَّسَ ظَهرَك؟ قال: حُزنِي على أخيهِ. فأوحَى اللهُ إليه: يا يعقوبُ أتَشْكُونِي؟ وعِزَّتِي لا أكشفُ ما بكَ حتى تَدعُوَنِي، فقال عند ذلك: ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾ فأوحَى اللهُ إليه: وعِزَّتِي وجَلالِي لو كانَا مَيِّتَينِ لأحيَيتُهما لكَ حتى تنظُرَ إلَيهما. وَقِيْلَ: إنَّ رجُلاً دخلَ عليه فقالَ له: يا يعقوبُ ما لِي أراكَ قد انْهَشَمْتَ وَفَنَيْتَ؟ قال: هَشَّمَنِي وَأفْنَانِي ما ابتلانِي اللهُ به من هَمِّ يوسُفَ، فأوحَى اللهُ إليه: أتَشْكُونِي إلى خَلقِي؟ فقالَ: يا رب خطيئةٌ أخطَأْتُها فَاغفِرْها لِي، فقال: قد غفَرتُها لَكَ، فكان بعدَ ذلك إذا سُئلَ قال: ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾.
قال وهبُ بن مَنبه: (أوحَى اللهُ إلى يعقوبَ: أتدري لِمَ عاقبتُكَ وحبستُ عنك يوسف ثمانين سنةَ؟ فقالَ: لاَ، قال: لأنَّكَ شويتَ وقتَّرْتَ على جارِكَ وأكلتَ ولم تُطعِمْهُ!). ويقالُ: إن سببَ ابتلاءِ يعقوب، أنه كان له بقرةٌ وكان لها عِجْلٌ، فذبحَ عِجلَها بين يديها وهي تخورُ، فلم يَرحَمْها يعقوبُ فأخذهُ الله به وابتلاهُ بفقدِ أعزِّ أولادهِ من وسيطٍ الواحد!قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي أعلمُ أن رُؤيا يوسف صادقةٌ وإنَّا سنسجدُ له. وَقِيْلَ: أعلمُ أن يوسف حيٌّ لم يَمُتْ؛ لأنه رويَ أن مَلَكَ الموتِ دخلَ على يعقوبَ، فقال له يعقوبُ: هل قبضتَ روحَ ولَدي يوسف في الأرواحِ؟ قال: لاَ وستراهُ عاجلاً. فعندَ ذلك قال يعقوبُ لأولادهِ كما قَالَ اللهُ تََعَالَى: ﴿ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾؛ أي اذهَبُوا واسْتَخْبرُوا واطلبُوا يوسف وأخاهُ، وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: فالْتَمِسُوا يُوسُفَ وَأخَاهُ).
﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لا تقنَطُوا من فَرَجِ اللهِ.
﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ وسُئل ابنُ عبَّاس عن الفرقِ بين التَّحْسِيسِ والتَّجْسِيسِ، فقالَ: (التَّحَسُّسُ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّجَسُّسُ فِي الشَّرِّ). ورُوي أن يعقوبَ كتبَ كتاباً إلى عزيزِ مصرَ: بسمِ الله الرَّحمنِ الرحيم: من يعقوبَ بن اسحاقَ بن إبراهيم إلى عزيزِ مصرَ، أمَا فإنَّا أهلُ بيتٍ موَكَّل بنا البلاءُ، ابتلَى اللهُ جَدِّي بأن طُرِحَ في النار فجعلَها اللهُ عليه بَرْداً وسَلاَماً، وابتَلَى عمِّي إسماعيلَ بالذبْحِ، ففداهُ اللهُ بكَبْشٍ عظيمٍ، وابتلَى أبي بالعمَى، وابتُلِيتُ أنا بغَيْبَةِ ابنِي يوسُفَ فذهبَ بصَرِي، وزعمتَ أنَّ ابني سَرَقَ، وما ولدتُ سَارقاً، فخَلِّ سبيلَ ابني وإلا فإن اللهَ يفعلُ ما يشاء. ثم دفعَ الكتابَ إلى أولادهِ وقال لَهم: إذا دخلتُم عليه فقولوا: يَا أيُّاَ الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأهْلَنَا الضُّرُّ، فذلكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ ﴾؛ أي فلمَّا دخَلُوا في المرَّة الثالثةِ قالوا: يا أيُّها العزيزُ مسَّنَا وأهلَنا الشدَّةُ من القحطِ.
﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ﴾؛ أي قليلةٍ كاسِدَة، والْمُزْجَاةُ: هي الشيءُ اليسير الذي يدافَعُ بهِ. روي أنَّهم جاؤُوا بمتاعِ الأعراب مثل الأقطِ والْجُبْنِ والسَّمْنِ والصوفِ، وَقِيْلَ: جاؤُا بدراهم رَديئةٍ لا تنفَقُ في الطعامِ، وقال الضحاك: (النِّعَالُ وَالأَدْمُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾؛ أي وفِّر لنا الكيل، كما كنت توفر في السنين الماضية، ولا تنظر الى قلة بضاعتنا في هذه السنة، وتصدق علينا بنقصان السعر. وقال سفيان بن عيينة: (سَأَلُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ أنْبيَاءُ، وَكَانَتْ حَلاَلاً لَهُمْ، وَإنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)، وكره مجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا، فان الصدقة إنما هي ممن يبتغي الثواب، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ ﴾؛ أي على صدقاتهم بأفضل منها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾؛ رُوي أنَّهم لما دفَعُوا الكتابَ إليه وقرأهُ أرعدَ حتى سقطَ الكتابُ من يدهِ، ثم انتحبَ انْتِحَابَةً كادَ أن يتقطَّعَ منها قلبهُ، وقال لَهم عند ذلكَ: هل علمتُم ما فعلتم بيوسُفَ وأخيهِ، وقصَّ عليهم جميعَ ما عمِلوهُ به من إلقائِهم أياهُ في الْجُب، وبَيعِهم له وقولهم: إنْ يَسرِقْ فقد سرقَ أخٌ له من قبلُ، وفعلهم بأخيهِ حتى صارَ ذليلاً فيما بينهم. وأرادَ بقولهِ ﴿ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ جهالةَ الصِّبا، وَقِيْلَ: أرادَ إذ أنتم شبابٌ أحداث لا تعرِفون أمُورَ الدينِ. فلما قصَّ عليهم ذلك.
﴿ قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ ﴾؛ بصبرِنا على الشدَّة.
﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ ﴾؛ المعاصيَ.
﴿ وَيَِصْبِرْ ﴾؛ على الشدائدِ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ﴾؛ أي ثوابَ ﴿ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا ﴾؛ أي فضَّلَكَ بما أنعمَ عليكَ.
﴿ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾؛ أي وقد كُنَّا عَاصِينَ للهِ في ما فَعَلنا، وهذا يدلُّ على أنَّهم نَدِموا على ما فعلوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ أي لا تَعْييرَ عليكم اليومَ؛ أي لا أذكرُ لكم ذنبَكم بعد هذا اليوم. وقال ابنُ عبَّاس: (لاَ لَوْمَ عَلَيْكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾؛ بعبادهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي ﴾؛ أي قالَ لَهم: اذهبوا بقمِيصي هذا فألقوهُ على وجهِ أبي يرجعُ.
﴿ يَأْتِ بَصِيراً ﴾؛ كما كانَ، قال الضحَّاك: (كَانَ ذلِكَ الْقَمِيصُ مِنْ نَسْجِ الْجَنَّةِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، رُوي أنُّهم كانوا نحو سَبعين إنساناً. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ ﴾؛ رُوي أنه لمَّا خَرجت القافلةُ من العريشِ وهي قريةٌ بين مصرَ وكنعان، بينهم وبين يعقوب ثَمانية أيَّام.
﴿ قَالَ أَبُوهُمْ ﴾؛ قال يعقوبُ لولدِ وَلَدِه، وكان أولادُه كلُّهم بمصرَ: ﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾.
رُوي أن الريحَ حَملت رائحةَ يوسف إلى أبيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾؛ تُسَفِّهُونِي في الرأيِ لقُلتُ إنه حيٌّ. وقال الخليلُ: (الْفَنْدُ إنْكَارُ الْعَقْلِ مِنْ هَرَمٍ، يُقَالُ شَيْخٌ مُفْنِدٌ، وَلاَ يُقَالُ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ؛ لأنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي شَبيبَتِهَا ذاتَ رَأيٍ فَتُفْنِدُ). وقال ابنُ عبَّاس: (تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُون)، وعن مجاهد: (لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا ذهَبَ عَقْلُكَ)، وقال الضحَّاك وابنُ جبير: (لَوْلاَ أنْ تُكَذِّبُونِ)، وَقِيْلَ: لولا أنْ تقولوا إنِّي شيخٌ خَرِفٌ، وقال أبو عُبيدة: (تُضَلِّلُونِ)، والفَنْدُ الْفَسَادُ، قال الشاعرُ: يَا صَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي   فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أمْري بمَرْدُودِوفي بعضِ الرِّوايات: أنَّ ذلك القميصَ كان من الجنَّة، وكان اللهُ ألبسَهُ إبراهيمَ حين أُلقي في النار فصارت عليه بَرْداً وسلاماً، ثم كساهُ إبراهيمُ اسحاقَ وكساهُ يعقوبَ، وكان يعقوبُ أدرَجَ ذلك القميصَ في قصبةٍ وعلَّقه على يوسف لما كان يخافُ عليه من العينِ. وأمرَهُ جبريلُ أن أرسِلْ إليه قميصكَ هذا فإن فيه ريحَ الجنَّة، لا يقعُ على مُبتَلَى أو سَقيمٍ إلا عُوفِيَ، فلذلك أصابَ يعقوب ريحه من بعد ثمانيةِ أيَّام.
﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً ﴾؛ البشيرُ هو يَهُودَا، وذلك أن يهودَا قال ليوسف: أنا ذهبتُ بالقميصِ وهو ملطَّخٌ بالدمِ إليه، فأنا أذهبُ بالقميصِ إليه فأُخبرهُ بأنَّكَ حيٌّ وأفَرِّحُهُ كما أحزنتهُ، فكان هو البشيرُ، فحملَ القميصَ وخرجَ حاسراً حافياً، وكان معه سبعةُ أرغفةٍ لم يشوَّقْ أكلَها حتى بلغَ كنعان، وكانت المسافةُ ثمانين فرسخاً، فلما أتاهُ ألقاه على وجههِ فارتدَّ بصيراً. قال الضَّحاك: (رَجَعَ بَصَرَهُ بَعْدَ العَمي، وَقُوَّتُهُ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَشَبَابُهُ بَعْدَ الْهَرَمِ، وَسُرُورُهُ بَعْدَ الْحُزْنِ)، ثم قال يعقوبُ للبشيرِ: على أيِّ دينٍ تركتَ يوسفَ؟ قال: على الإسلامِ، قال: الآنَ تَمَّتِ النعمةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي ألَمْ أقُلْ لكم إن يوسُفَ حَيٌّ وكنتم لا تعلمون ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ ﴾؛ أي ادْعُ اللهَ أن يغفرَ لنا ذنُوبنَا.
﴿ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾؛ أي مسيئين عاصِين لله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ ﴾؛ رُوي أنه قال لَهم يوسف: أدعُو لكم ربي ليلة الجمعة آخرَ السَّحَر.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ﴾؛ لعبادِه.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ لَهم، ويقال: إنَّهم التَمَسُوا منه أن يستغفرَ لهم على الدوامِ، وأن يجعلَهم في ورْدِهِ في الدُّعاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾؛ رُوي أن يوسف كان يبعثُ إلى يعقوبَ بمائتي راحلةٍ، وسألَهُ أن يأتيَهُ بأهلهِ أجمعين، فتهيَّأَ يعقوبُ للخروجِ، فلما دنَا من مصرَ، وكان يوسف قد خرجَ في أربعةِ آلاف من الجند، فلما رأى يعقوب الخيلَ قال: ما هذا؟قال هو ابْنُكَ، فلما دنَا كلُّ واحد من صاحبهِ، ابتدأ يعقوبُ بالسلامِ فقال: السلامُ عليكَ يا مُذهِبَ الأحزانِ، ثم عانقَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَهُ وبَكَيَا. فقال يوسفُ: يا أبَتِ بكيتَ عليَّ حتى ذهبَ بصَرُكَ؟ قال: نعم، قال: يا أبَتِ حزنتَ عليَّ حتى انحنيتَ؟ قال: نعم، قال: يا أبتِ أما علمتَ أن القيامةَ تجمَعُنا؟ قال: إنِّي خشيتُ أن يُسلَبَ دِينُكَ فلا نجتمعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ أي ضمَّهُما إلي نفسهِ وأنزَلَهما عندَهُ، قال عامَّةُ المفسِّرين: يعني أباهُ وخالتَهُ؛ لأن أُمَّهُ كانت قد ماتَتْ قبلَ ذلك، وكان موتُها نفاسها ببنيامين، ولأن بنيامين بلغَةِ العبرانية ابنُ الوجيعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ ﴾؛ من العدُوِّ والقحطِ والأسْوَاءِ كلِّها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾؛ أي رفَعَهُما معه على سريرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾؛ أي سجدَ له أبوهُ وخالته وإخوتهُ الأحدَ عشر سجودَ تحيَّةٍ وتشريف، وكان في ذلك الزمانِ يسجدُ الوضيعُ للشريفِ، وقد تقدَّمَ نَسْخُ هذا السجودِ في سورة البقرةِ، وعن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّهُ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْقُرَى، فَخَرَجَ إلَيْهِ رَئِيسُ أهْلِ الْقَرْيَةِ فَسَجَدَ لَهُ، فَقَالَ: مَا هَذا؟! قَالَ: شَيْءٌ نَصْنَعُهُ للأُمَرَاءِ وَالْخُلَفَاءِ، فَقَالَ: أُسْجُدْ لِرَبكَ الَّذِي خلَقَكَ). ويقالُ في معنى هذا: إنَّهم سَجَدوا شُكراً للهِ على ما أنعمَ اللهُ عليهم من اجتماعِهم على أيسَرِ الأحوالِ. ويجوزُ أن يكون معنى السجودُ الْمَيَلاَنُ والانحناءُ، عن ابنِ عبَّاس: (أنَّ مَعْنَاهُ: وَخَرُّوا للهِ سُجَّداً)، وقولهُ (لَهُ) كنايةٌ عن اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي هذا السجودُ تصديقُ رُؤيَايَ التي رأيتُها من قبلُ.
﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ ﴾ أي أحسنَ إلَيَّ.
﴿ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ ﴾؛ هذا ثناءٌ منه على اللهِ تعالى بإنعامهِ عليه؛ إذ خَلَّصَهُ وَنَجَّاهُ من العبوديَّة.
﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ ﴾؛ وجاءَ بأبيهِ وإخوته من الباديةِ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ ﴾؛ بالحسدِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ ﴾؛ أي لطيفٌ في تدبيرِ عباده وبلُطفهِ جمعَ بيننا على أحسنِ الأحوال.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بمصالحِ عبادهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ في تدبيرِهم. واختلَفُوا في المدَّة التي كانت بين رُؤيا يوسف وبين تَصدِيقها، قال سلمانُ رضي الله عنه: (أرْبَعُونَ سَنَةً)، وقال ابنُ عبَّاس: (اثْنَانِ وَعُشْرُونَ سَنَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ ﴾؛ يعني مُلْكَ مصرَ أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً.
﴿ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ أي تعبيرِ الرُّؤيا وتأويل كُتب الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ نُصِبَ على النداءِ؛ أي يا فاطرَ السماءِ والأرض مُنشِئُهما على غيرِ مثالٍ.
﴿ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي تتَولَّى حِفظِي وصيانتي.
﴿ تَوَفَّنِى مُسْلِماً ﴾؛ أي ألطُفْ بي لُطفاً أثبتُ به على الإيمانِ إلى أن يلحَقُني الموت.
﴿ وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ يعني يلحقهُ بآبائه. وأما ما كان من أمرِ زُليخا فإنه لما ماتَ العزيزُ وبَقِيت أرملةً، قالت: أنا مِن يوسف على رجاءٍ، وأمري كلَّ يوم إلى نقصٍ؛ وذلك بمَعصِيَتي لآلهِ يوسف، فكيف لا أقومُ إلى هذا الصَّنم المشؤومِ فأجعلهُ جُذاذاً، وألْحَقُ بيوسف وأُسلِمُ على يدهِ؟ لعلَّ إلَهَهُ يرحَمُني ويقضي حاجَتي، فقامت وكسرت صنَمَها وجاءت إلى طريق يوسف، فوقفت له في يومِ ركوبهِ فأقبلَ مع الأعلامِ والرايات مكتوبات عليها:﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[يوسف: ١٠٨].
فلمَّا صارَ يوسف بحذاءِ زُليخا نادت: سُبحان من يعلي العبيد ويجعلَهم مُلوكاً بطاعتهِ، ويذِلُّ الموالِي ويجعلهم عبيداً بمعصيتهِ. فسَمِعَ ذلك يوسف فقال: علَيَّ بصاحبةِ هذا الكلامِ، فأُتِيَ بها إليه فقال: مَن أنتِ؟ قالت: زُليخا أمَا تعرِفُنِي؟! قال: لا، قالت: قد أنكَرتَني؟ قال: أشدَّ الإنكار، قالت: أنا الذي راودتُكَ عن نفسك فاستعصمتَ بإلهِ السَّماء، فرفعَكَ ووضعَنِي؛ وأعزَّكَ وأذلَّني؛ وأغناكَ وأفقرَنِي، فعلمتُ أني في باطلٍ وغُرورٍ، فكسرتُ صنَمِي وجئتُكَ طائعةً مؤمنةً أقولُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لِيَرْحَمَنِي، فوقعت رحمتُها في قلبهِ، فقالَ: سَلِي حاجتَكِ، قالت: أتفعلُ؟ قال: نعم، قالت: لي ثلاثُ حوائجَ يا يوسف قد ذهبَ بصَري فادعُ اللهَ أن يرُدَّ عليَّ لأنظُرَ إلى جمالِ وجهك، فدعا اللهَ فردَّ عليها بصرَها فأقبلت تنظرُ إلى يوسف، ثم قالت: وادعُ اللهَ أن يرُدَّ علي حُسني وجَمالي، فدعَا اللهَ فردَّه عليها ذلك. فلما نظرَ يوسفُ إليها نكَّسَ رأسه وقال: أما تسأَلِي الثالثةَ يا رأسَ الفتنةِ؟ قالت: تتزوَّجُ بي حلالاً؟ قال لها: قُومِي يا رأسَ الفتنةِ هذه حاجةٌ ليس في نفسي قضاؤُها، قالت: أما أنا فلا أقنطُ من رحمةِ اللهِ، فنَزل جبريلُ على يوسف وقال: إن اللهَ يأمُركَ أن تتزوجَ بها، فجعلت تحمدُ اللهَ وتشكرهُ فتزوَّجَها، فلما دخلَ بها وجدَها عذراءَ، فولَدَت له وَلَدَين، وأقامَ يعقوبُ عند يوسف ثَماني عشرةَ سنةً، ومات قبل يوسف بسنتين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾؛ أي ذلكَ الذي ذكرتُ لكَ يا مُحَمَّد من قصَّة يوسف وإخوته من أخبار ما غابَ علمهُ عنكَ نوحيه إليك. قولهُ: ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ ﴾؛ أي وما كنتَ عندهم إذ عزَمُوا أمرَهم على إلقاءِ يوسف في الْجُب.
﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾؛ به، وكان مَكرُهم إلقاءَهم إياه في البئرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي وما أكثرُ الناسِ بمؤمنين بالقرآن والرسول ولو حرصتَ يا مُحَمَّدُ على دعائِهم إلى الإيمان وجهدتَ كلَّ الجهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾؛ أي وما تسأَلُهم يا مُحَمَّدُ على دعائِهم إلى الله من جُعْل في مالِهم فيصدُّهم ذلك عن الإيمان. قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي ما القرآن إلا موعظةٌ للعالَمين. وقوله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾؛ أي فكم من آيةٍ دالَّة على وحدانيَّة اللهِ مما في السَّماوات من الشمسِ والقمر والنجوم، وما في الأرضِ من الأشجارِ والجبال والنبات وغيرِ ذلك من الحيوانات، يرَونَها ويشاهدونَها ثم لا يستدلُّون بذلك على أنَّ لها مُدبراً حكيماً عليماً قادراً لا يشبههُ شيء من المخلوقاتِ. ويقال: أرادَ بالآياتِ التي في الأرضِ آيات عادٍ وثَمود وقومِ لوط وغيرهم، كان أهلُ مكة يَمُرُّونَ عليها في أسفارِهم ولا يتَّعظون بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾؛ أي ما يُصَدِّقُ أكثرُهم بلسانِهم إلا وهم مُشركون به غيرَهُ؛ لأنَّهم يؤمنون من وجهٍ، كما قال تعالى:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾[الزخرف: ٨٧] ويُشرِكون من وجهٍ وهو عبادتُهم الأصنامَ، وقال الحسنُ: (الْمُرَادُ بهَذِهِ الآيَةِ أهْلُ الْكِتَاب مَعَهُمْ إيْمَانٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرْكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإنَّ مَعَ الْيَهُودِ إيْمَاناً بمُوسَى وَكُفْراً بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قولهُ: ﴿ أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أفَأَمِنَ الكفارُ أن يغشاهم العذابُ من اللهِ.
﴿ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ بنُزول العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ ﴾؛ أي هذه الدَّعوةُ دِيني، وإنما قالَ: (هَذِهِ) لأن السبيلَ يذكَّر ويُؤنَّثُ.
﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ﴾؛ على معرفةٍ منِّي باللهِ تعالى، وقوله تعالى: ﴿ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾؛ معناهُ: يدعُو إلى اللهِ.
﴿ وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ أي وقُل: سبحانَ اللهِ.
﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ أي لستُ معَهم على دِينهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ أي وما أرسَلنا مِن قبلِكَ يا مُحَمَّدُ إلا رجَالاً منسُوبين إلى القُرى مثلكَ يُوحَى إليهم كما يوحَى إليكَ، قال الحسنُ: (لَمْ يُرْسِلِ اللهُ امْرَأَةً وَلاَ رَسُولاً مِنْ أهْلِ الْبَادِيَةِ؛ وَذلِكَ لأَنَّ أهْلَ الأَمْصَارِ يَكُونُونَ أثْبَتَ عُقُولاً مِنْ أهْلِ الْبَادِيَةِ، وَأشَدَّ أحْلاَماً مِنْهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ يعني أفَلَم يسير أهلُ مكة في الأرضِ.
﴿ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﴾؛ فيَرَوا آثارَ ديارِ.
﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ من الكفَّار فيخافون ما ينْزِلُ بهم من عذاب الله وما نزلَ بأولئِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾؛ يعني قولهُ (دَارُ الآخِرَةِ) الجنَّة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا) الكفرَ والفواحشَ (أفلاَ يَعْقِلُونَ) معناهُ: أفليسَ لهم ذهنُ الإنسانية أنَّ الآخرةَ الباقيةَ خيرٌ من الدنيا الفانية، وأضافَ الدارَ الآخرةِ على سبيلِ إضافة الشيء إلى نفسه كما يقالُ يومُ الجمعُة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾؛ أي حتى إذا يَئِسَ الرسلُ عن إجابة الأُمَم وأيقنوا أن القومَ.
﴿ قَدْ كُذِبُواْ ﴾؛ تَكذيباً لا يرجعون عنه.
﴿ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ ﴾؛ بإهلاكِ قومهم، ومن قرأ (كُذِبُوا) بالتخفيف فمعناهُ: وظنَّ المرسَلُ إليهم أن الرُّسُلَ قد كذبُوهم في ما أوعَدُوهم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾؛ أي لا يُرَدُّ عذابُنا عن الكافرينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾؛ أي لقد كان في قَصَصِ مَن تقدَّم من الأنبياءِ عبرةٌ لذوِي العقولِ من الناس. وَقِيْلَ: إن قصةَ يوسف وإخوته عبرةٌ لمن أرادَ أن يعتبرَ فيصبر على البلاءِ والْمِحَنِ، كما صبرَ يعقوبُ ويوسف حتى خَتَمَ اللهُ لهما بالْمُلْكِ والعُلُوِّ، والفرَجِ من الأحزان، ولا يَحْسُدُ أحداً كما حَسَدَ إخوة يوسف، فلم يُغْنِ عنهم كَيدُهم شيئاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾؛ أي ما كان القرآنُ حديثاً يختلَقُ ولكن كان تَصديقاً للكُتب التي بين يديهِ من التوارة والإنجيل وغيرهما، ومَن قرأ (تَصْدِيقُ) بالرفع فعلى إضمار هو. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ أي وبيانَ كلِّ شيءٍ يحتاجُ الناس إليه في دِينهم.
﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ ودلالةً ونجاةً من العذاب الأليم لقوم يصدِّقون بمُحَمَّدٍ والقرآنِ.
Icon